Muhawarat Aflatun
محاورات أفلاطون: أوطيفرون – الدفاع – أقريطون – فيدون
Nau'ikan
إني لأشاطرك إحساسك هذا، حقا إني لأشاطرك إياه يا فيدون، وقد هممت وأنت تتحدث أن ألقي نفس السؤال. أي دليل يمكن أن أومن به بعد اليوم؛ فماذا عسى أن يكون أقوى في الإقناع من تدليل سقراط، وها هو ذا قد هبط إلى الجحود؟ فيا طالما فتنني فتنة عجيبة هذا المذهب القائل بأن الروح هي الانسجام، ولم يكد يرد ذكره حتى عاودني بغتة؛ لأنه عقيدتي الأولى. وجدير بي الآن أن أعود فألتمس دليلا آخر، يؤكد لي بأن الروح لا تموت مع الإنسان عند موته. فأرجو أن تنبئني كيف مضى سقراط في الحديث؟ هل بدا كأنما يشاطركم إحساسكم الكئيب الذي ذكرت؟ أم أنه استقبل الاعتراض هادئا؛ فأجاب عنه جوابا وافيا؟ أنبئنا بما وقع دقيقا ما استطعت.
فيدون :
أي أشكراتس، إني ما فتئت معجبا بسقراط، ولكني لم أعجب به قط أكثر مما فعلت وقتئذ. أما إنه استطاع الجواب فيسير، ولكن ما أدهشني أولا هو ما تناول به كلمات الشبان من وداعة وغبطة واستحسان، ثم سرعة إحساسه بما أحدثه الحوار من جرح وما واتته به لباقته من فنون العلاج. مثله في ذلك مثل القائد الذي يستجمع جيشه وقد انهزم واندحر، ويحفز جنده أن يتابعوه فيعودوا إلى ميدان الحوار.
أشكراتس :
وكيف كان ذلك؟
فيدون :
ستعلم مني؛ فقد كنت قريبا منه، جالسا إلى يمينه على مقعد وطيء، أما هو فقد استوى على سرير يرتفع كثيرا عن مقعدي، وقد أخذ يداعب شعري، ثم مسح رأسي بيديه، وصفف شعري على عنقي وقال: أي فيدون! غدا ستجذ هذه الجدائل الجميلة فيما أظن.
أجبت: نعم يا سقراط، إني أظن ذلك.- إنها لن تجذ لو أخذت بنصحي.قلت: وماذا عساي أن أفعل بها؟أجاب: إني وإياك سنقطع اليوم جدائل شعرنا، فلا نرجئها إلى غد، لو كان هذا الحوار ليموت، واستحال علينا أن نرده إلى الحياة مرة أخرى. وإني لو كنتك، ولم أستطع أن أثبت ضد سمياس وسيبيس، ولأقسمت ألا أرسل شعري قط، كما يفعل الأرجيفيون، حتى أثير المعركة من جديد وأدحرهما.قلت: نعم، ولكن لم يرو عن هرقليس نفسه أنه نازل اثنين.فقال: ادعني إذن، وسأكون لك أيولاوس حتى تغرب الشمس.قلت: سأدعوك، لا كما يدعو هرقليس أيولاوس، ولكن كما كان يدعو أيولاوس هرقليس.قال: لا فرق بين هذا وذاك، ولكن لنأخذ الحذر أولا لكي نتقي خطرا.قلت: وما ذاك؟أجاب: خطر أن تتمكن منا كراهة المنطق، فذلك من أسوأ ما قد يصيبنا من أحداث، فكما أن ثمة أعداء للإنسانية وهم من يمقتون البشر، كذلك هناك من يكرهون المنطق وهم من يمقتون المثل، وكلاهما ناشئ عن سبب بعينه، هو الجهل بالعالم، فتجيء كراهة البشر من الغلو في الركون إلى عدم الخبرة؛ فأنت تثق برجل، وتظنه مخلصا تمام الإخلاص، وخيرا وأمينا، ثم لا يلبث أن يتكشف لك زائفا خبيثا، وهكذا غيره وغيره. فإذا وقع ذلك لإنسان مرات عدة، وبخاصة من جماعة أصدقائه الذين يظنهم أشد الناس إخلاصا له، وكثر النزاع بينه وبينهم، فإنه ينتهي آخر الأمر إلى كراهة الناس جميعا، ويعتقد أن ليس بين الناس على الإطلاق صاحب خير. أحسبك بغير شك قد لاحظت هذا.قلت: نعم.- أليس ذلك مدعاة للخزي؟ وسببه أن الإنسان في اضطراره إلى معاملة سائر الناس، لا يكون لديه بهم علم؛ لأنه لو عرفهم لعرف الأمر على حقيقته، وذلك أن ذوي الخير قليلون وأن ذوي الشر قليلون، وأن الكثرة الغالبة هي فيما يقع بين هذين.قلت: ماذا تعني؟أجاب: أعني أنه كما قد نقول عن بالغ الكبر وبالغ الصغر بأنه ليس أندر من رجل بالغ الكبر، أو رجل بالغ الصغر؛ فهذا ينطبق بصفة عامة على النهايات، سواء أكان ذلك عن الكبير والصغير، أم السريع والبطيء، أم الكدر والصافي، أم الأسود والأبيض. وسواء ضربت أمثلة ناسا أو كلابا أو أي شيء آخر، فقليلون هم النهايات، أما الكثرة فتتوسط بين النهايات. أولم تلاحظ هذا قط؟قلت: نعم لاحظته.قال: ثم ألست ترى أنه لو كان بين الشرور تنافس، لوجد أن قليلا جدا منها هو أسبقها في الشر؟قلت: نعم، فذاك أرجح الظن.أجاب: نعم ذاك أرجح الظن، ولست أعني أن مثل الأحاديث في مثل هذا مثل الناس. وأراك ها هنا قد حملتني أن أقول أكثر مما اعتزمت أن أقول، ولكن وجه المقارنة هو أنه إذا ما آمن رجل ساذج، لا يحذق علوم الكلام بصحة دليل، وخيل إليه فيما بعد أنه باطل، سواء أكان باطلا حقا أم لم يكن، ثم تكرر هذا في غيره وغيره، فلا تبقى للرجل عقيدة واحدة، وينتهي الأمر كما تعلم بكبار المجادلين إلى الظن بأنهم قد باتوا أحكم بني الإنسان؛ لأنهم هم وحدهم الذين أدركوا ما في التدليلات كلها من تزعزع وضعف شامل، لا بل أدركوا ذلك في الأشياء جميعا، وهي تظل صاعدة هابطة في مد وجزر لا ينقطعان، كما هي الحال في تيار يور بيوس.قلت: هذا جد صحيح. أجاب: نعم يا فيدون، ولشد ما يبعث على الأسى أيضا أن يصادف إنسان تدليلا هنا أو هناك، فيبدو له أول الأمر أنه حق، ثم يتكشف له عن باطل، فبدلا من أن ينحو باللائمة على نفسه وعلى ما يعوزه من ذكاء، تراه لحنقه آخر الأمر يغتبط شديد الغبطة في إزاحة اللوم عن عاتقه ليلقيه على التدليل بصفة عامة، ويظل بعد ذلك إلى الأبد كارها لاعنا لكل تدليل، فتفلت منه حقيقة الوجود وعرفانه، لو كان ثمة ما تسمى بالحقيقة أو اليقين أو القدرة على المعرفة إطلاقا.قلت: نعم، إن ذلك ليبعث على الحزن الشديد.قال: فلنحاول إذن بادئ ذي بدء، أن نسلم في نفوسنا بالفكرة القائلة إنه لا حقيقة ولا عافية ولا قوة في أي تدليل على الإطلاق، ولنعلن قبل ذلك أن ليس فينا نحن الآن عافية وأنه يجب أن نطلق فينا العنصر الإنساني، ونسعى جهدنا في اكتساب العافية، فتكسبها أنت وسائر الناس جميعا من أجل حياتكم المقبلة كلها، وأما أنا فمن أجل الموت؛ فلست أحس الساعة أني متخلق بخلق الفيلسوف، وما أنا في الرأي إلا مشايع كأفراد السوقة، وليس يعبأ المتشيع حينما يلج في المخاصمة بأوجه الصواب من الموضوع، بل يحرص على إقناع سامعيه بأقواله وكفى، وليس بينه وبيني في اللحظة الراهنة من فرق إلا هذا، بينا هو يحاول إقناع سامعيه بصحة ما يزعم، تراني أحاول إقناع نفسي قبل كل شيء، فإقناع سامعي أمر ثانوي بالنسبة إلي. ولتنظرن كم عسى أن أفيد بهذا، فلو كان ما أقوله صحيحا فما أجمل أن أكون مقتنعا بالحقيقة، وأما إن كان لا شيء بعد الموت، فسأوفر على أصدقائي هذا العويل فيما بقي من حياتي من أجل قصير. هذا وسترتفع عني جهالتي؛ ولهذا فلن يقع مني ضرر. أي سمياس وسيبيس، تلك هي الحالة العقلية التي أتناول بها الحوار. وإني أطلب إليكما أن تفكرا في الحقيقة لا في سقراط، فإن رأيتما أني أتكلم حقا فوافقاني، وإلا فقاوماني بكل ما وسعكما من جهد، حتى لا أخدعكما جميعا كما أخدع نفسي، وحتى لا أكون لكما كالنحلة؛ فأدع فيكما حمتي قبل موتي.قال: والآن دعنا نمضي، ولأتأكد منك قبل كل شيء أن ما في ذهني يطابق ما كنت تقوله. فإن كنت مصيبا فيما أتذكر؛ فقد كان لدى سمياس مخاوف وشكوك أن تكون الروح أسبق إلى الفناء، ما دامت عبارة عن انسجام، على الرغم من أنها أشد من الجسد ألوهية وصفاء. وقد بدا سيبيس من جهة أخرى أنه يسلم بأن الروح أطول من الجسد بقاء، ولكنه قال: إن أحدا لا يستطيع أن يعلم إن كان يمكن للروح بعد أن تكون قد أبلت أجسادا عدة، أن تفنى هي نفسها، مخلفة وراءها آخر أجسادها، وأن هذا هو الموت الذي يجلب الدمار للروح لا للجسد؛ لأن فعل التخريب لا يفتأ عاملا في الجسد أبدا. أليست هذه يا سمياس وسيبيس هي النقط التي تستوجب منا النظر؟فوافق كلاهما على أن ذلك تقرير لرأييهما.فمضى سقراط: وهل تنكران ما في الحوار السابق كله من قوة، أم تنكران ما في بعضه فقط؟فأجابا: بل ما في بعضه فقط.قال: وماذا ارتأيتما في ذلك الجزء من الحوار الذي ذكرنا فيه أن المعرفة عبارة عن تذكر فحسب، واستنتجنا منه أن الروح لا شك كانت موجودة فيما سبق، في مكان آخر، قبل أن تنحصر في الجسد؟فقال سيبيس إنه قد تأثر بذلك الجزء من الحوار تأثرا عجيبا، وأنه لبث فيه راسخ اليقين. ووافقه سمياس، وأضاف أنه عن نفسه لم يكد خياله يجيز أن يجيء يوم يرى فيه حول ذلك رأيا مخالفا لهذا.فاستأنف سقراط: ولكن يجدر بك، أي صديقي الطيبي، أن ترى رأيا مخالفا؛ لأنك إن أصررت على أن الانسجام مركب وعلى أن الروح انسجام، نشأ من أوتار ركبت في إطار الجسد، فلا ريب أنك لن تجيز لنفسك القول بأن الانسجام سابق للعناصر التي يتألف منها الانسجام.
27 - كلا يا سقراط، فذلك مستحيل.- ولكن ألست ترى أنك إنما تقرر هذا فعلا حينما تقول إن الروح كانت موجودة قبل أن تأخذ صورة الإنسان وجسده، وأنها تألفت من عناصر لم يكن لها وجود بعد؟ فليس الانسجام شيئا يشبه الروح كما تظن، وإنما القيثارة والأوتار والأصوات توجد أولا في حالة من التنافر، فيجيء الانسجام بعد هذه جميعا، ثم هو يسبقها جميعا في الفناء. فكيف يمكن أن نلائم بين هذا الرأي في الروح وبين الرأي الآخر؟
28
Shafi da ba'a sani ba