وراحت تعزف كما اعتادت أن تفعل، إنها تجيب ولا تتحدث إلا ما ندر، كان علي أن أجد صياغات مختلفة للأسئلة ذاتها حتى أعرفها جيدا، وقد فعلت.
عرفت أن اسمها هارمونيكا، وهذا ليس اسمها الحقيقي، بل هو الاسم الذي منحه لها زرياب، وهذا أيضا ليس اسمه الحقيقي .. قد أسماها هارمونيكا وأسمى نفسه زرياب .. كانا معا في كلية الفنون، هو مغن وهي عازفة .. ليس ثمة ما هو مثير في قصتها إلا أنها وعندما سألتها عن اسمها الحقيقي، أجابتني: «لا أتذكر». حينها عرفت كم من الوقت انقضى وهي تمكث ها هنا في جزيرة لا يقطن فيها إنس ولا جان.
كان علي أن أعرف المزيد ولكنها لا تجيد الاسترسال، أو هكذا بدت في البداية، لا تجيد إلا العزف .. كانت تعزف عبر ما يشبه الناي، تكرر اللحن نفسه وأحيانا تغني أثناء العزف: «أعطني الناي وغن». ولأعترف أن شيئا ما راقني فيها، ليس الصوت ولا الكلمات، ربما أثارتني الطريقة التي تردد فيها عبارة: «بعد أن يفنى الوجود» .. كانت تكررها باستمرار، وبشعور آخذ في الشرود والحزن أحيانا. كأنها بتلك الغصة في صوتها كانت تريد قول شيء ما، وهي لا تقول إلا عندما تسأل؛ لذا سألتها حول انتظارها البائس: كم مضى من الوقت وأنت هنا؟
أجابت ببرود: لا أتذكر.
من البديهي أن أظن أنها فقدت الذاكرة، لكنها تعرف أن لها عاشقا اسمه الجديد زرياب، وأنها درست الموسيقى والآن تعزف .. إنها تعرف شيئا ما عن ذاكرتها، ترددت قليلا ثم أردفت : إذن فقد انقضى وقت طويل على حياتك هنا. - هكذا يبدو. - ماذا فعلت به؟ - كنت أنتظر ..
هذه المرة لم توجز في الحديث، ربما شعرت بإلحاحي وربما كانت تحب الحديث عن الانتظار، وهذا ما دفعها للإسهاب، فراحت تحكي لي عن انتظارها الطويل لزرياب .. كل تلك السنوات تخطتها في انتظار من لن يأتي .. ذكرتني بلاهتها بمسرحية «في انتظار غودو». تذكرت أن أحدا لن يأتي مهما طال الانتظار .. ألم يأن للبشر أن يمتنعوا عن الانتظار بعد تلك الصفعة التي صق «غودو» بها وجههم؟ أما زال البشر ينتظرون؟ لقد غضبت، إني أعترف، هناك ما يثير الغضب حتى لو عزفت عن معنى الحياة؛ فالأمر مثير للحنق حقا! رفعت صوتي قليلا: وهل يعرف أين أنت؟ وهل تعرفين أنت ذلك؟ وإن كان سيأتي فلم يدعك ترحلين وحدك؟ ويتركك كل تلك السنين تنتظرين! - لا أعرف.
لقد عادت إلى الإجابات القصيرة. يبدو أنها من ذاك النوع من الناس الذين يخشون معرفة الحقيقة، الحقيقة القاسية، تلك الفجة المتجبرة بنا نحن بني البشر .. لقد أخبرتني فيما بعد أنها لا تعرف أين هي، ولا هو يعرف. وألحقتها بكلمتين باردتين: أسئلتك غريبة.
لم يكن مني إلا أن أضحك وبكل ما أوتيت من دهشة، ورفعت صوتي أكثر مع شيء من الضحك: غريبة؟ حسنا، كم تأخر عن موعده، أتعرفين؟ أم هو سؤال غريب آخر؟ - لا أعرف شيئا عن الوقت .. يبدو أنك من أولئك الذين يثيرون الشفقة.
لم أستطع التوقف عن الضحك وسألتها: وهل ثمة من صنف بشري يدعى الصنف المثير للشفقة؟
وواصلت ضحكي فيما رفعت صوتها ليطغو على ضحكتي: أولئك الذين يعلقون حياتهم بمحض رقم جامد، يمشي وتلف عقاربه .. يتصاعد ثم يعود إلى نقطة الصفر .. أربع وعشرون ساعة تسير يومنا، تمشي بنا وتعود وتعيدنا إلى حيث البداية.
Shafi da ba'a sani ba