-لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي ﷺ أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي ﷺ وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غمدان بضم الغين فطلبوا الأذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئًا ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافى وقاموا ببابه شهرًا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الإنصراف. ثم انتبه إليهم انتباهه فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه قوال: (١) "يا عبد المطلب أني مفوض إليك من علمي أمرًا لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيت معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصونًا حتى يأذن الله بالغ أمره. أني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي أرخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرًا عظيمًا وخطرًا فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة".
قال عبد المطلب: "مثلك يا أيها الملك بر، وسر، وبشر، ما هو؟ فداك أهل الوبر زمرًا بعد زمر".
قال ابن ذي يزن: "إذا ولد مولود بتهامة. بين كتفيه شامة. كانت له الإمامة. إلى يوم القيامة". قال عبد المطلب: "أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا اجلال الملك لسألته عما ساره إلى ما أزداد به سرورًا".
قال ابن ذي يزن: "هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد. يموت أبوه وأمه. ويكفله جده وعمه وقد وجناه مرارا. والله باعثه جهارًا. وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه. ويذل به أعداءه. ويفتتح كرائم الأرض. ويضرب بهم الناس عن عرض. يخمد الأديان. وكسر الأوثان ويعبد الرحمن. قوله حكم وفصل. وأمره خزم وعدل. يأمر بالمعروف ويفعله. وينهي عن المنكر ويبطله".
فقال عبد المطلب: "طال عمرك. ودام ملكك. وعلا جدك. وعز فخرك. فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟ ".
فقال ابن ذي يزن:
"والبيت ذي الطنب. والعلامات والنصب. إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب".
فخر عبد المطلب ساجدًا. قال ابن ذي يزن:
"ارفع رأسك. ثلج صدرك. وعلا أمرك. فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟ ".
فقال عبد المطلب:
"أيها الملك. كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا. فزوجته كريمة من كرائم قومه. يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه".
قال ابن ذي يزن:
"أن الذي قلت لك كما قلت. فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فانهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا. أطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة. فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره، فإني أجد في الكتاب الناطق العلم السابق أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حدائه ستة وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك".
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال:
"إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره".
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن. فكان عبد المطلب بن هاشم يقول "يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إن نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقى." فإذا قالوا له وما ذاك قال سيظهر بعد حين اهـ.
وفي أسد الغابة أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي ﷺ وأخبره جده عبد المطلب بنبوة محمد ﷺ وصفته.
كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل وإليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة ٥٧٥ م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول الله ﷺ. فليس هناك اعترض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية. أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا.
وقد اعترض الأستاذ "فيل" Weil على صحة القصة المتقدمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ "برسيفال" M.C. de Perceval رد على إعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة ٥٧٥ م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة ٥٩٧ م. أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب (الذي كان وقتئذ حاكم مكة) تكذيبا باتا قال أن قصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالأخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها. على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الأخبار برسول الله ﷺ فإن ما أخبره به سيف لعبد المطلب قاله بحيرا لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعني بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن لعبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي ﷺ ويقول لأولاده إذا نحوا رسول الله ﷺ عن مجلسه لصغره (دعوا ابني فو الله إن له لشأنا) .
_________
(١) راجع الجزء الأول من العقد الفريد لابن عبد ربه والجزء الأول من تاريخ ابن عساكر.
1 / 31