وكان كبير الإعجاب بالإسكندر الأكبر والبطالسة، كأن مواطنته لهم أوجدت بينهم وبينه أواصر قرابة؛ فيوما إذ سمع بعضهم يذكر للإسكندر عملا مجيدا آخذا بمجامع القلوب، ومثيرا للإعجاب، هتف بخيلاء: «وأنا أيضا من فيليبي!» وكان لا يميل إلى سماع شيء ميله إلى سماع تاريخ المكدوني العظيم وتاريخ ناپوليون، كأنه يشعر بأن التاريخ سيضعه يوما ما بجانبهما في إعجاب البشر.
وكان شديد الحب لأرض مصر هائما بها، حتى إنه قال يوما لزائر من الغربيين: «إني أحب مصر حب المغرم الولهان بمالكة فؤاده، ولو كان لي عشرة آلاف عمر لأعطيتها كلها في سبيل الحصول عليها.»
لذلك كان كبير الحرص على هذه الأرض العزيزة، متيقظا تيقظا غريبا لسد كل باب قد ينشأ عنه تداخل أية دولة أوربية كانت في شئون البلد الداخلية.
فرفض لذلك الموافقة على مشروع إنشاء ترعة السويس كما رسمه طالابو - أحد السانسيمونيين الذين سبقوا دي لسبس إلى درس مسألة الوصل بين البحرين - لأن ذلك المشروع كان يقضي بأن تنشأ الترعة من الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى السويس فتجتاز مراكب الدول داخلية البلاد، رافعة علم دولها فيحدث من الطوارئ ما يبرر تداخل إحدى تلك الدول في الشئون المصرية!
وقد روى لي ثقة أن الملكة فكتوريا أرسلت إلى محمد علي كتابا مخطوطا بيدها تطلب منه فيه بيع قطعة أرض في السويس لشركة البنينسيولر أند أورينتل، ليبني عليها مهندسون ترسلهم من قبلها فندقا ينزل فيه القادمون من الهند والذاهبون إليها، عن طريق السويس، وأن قنصل بريطانيا العظمى سلم ذلك الكتاب إلى محمد علي يدا بيد.
فقبله محمد علي ووضعه على رأسه إجلالا للملكة وتعظيما للمرأة الكريمة، ولكنه قال للقنصل: «إن أرض مصر ليست ملكا لي، بل هي ملك الأمة، وما أنا عليها إلا أمين، فلا أستطيع إعطاء شيء منها لغريب، ولكن رضا الملكة يهمني جدا، وعليه فإني أرجوها أن تتفضل وتأمر الشركة بأن تبعث إلي بتصميم الفندق الذي تبغي إقامته في السويس وأنا أكفيها مئونة إرسال المهندسين وأبنيه بمهندسين من عندي، ثم أؤجره لها!»
وهكذا كان، فإن محمد علي شيد ذلك الفندق على نفقته، وأجره لتلك الشركة بإيجار موافق استمرت الحكومة المصرية تقبضه حتى عهد قريب. •••
ذلك كان الرجل، وقد رأينا ما كان عمله، بعد أن استتب له الملك، فهل قصد منه سعادة مصر ومجدها، أم ابتغى مجرد الشهرة، وما سعى إلا وراء جني منافع شخصية؟ لقد اختلف المؤرخون في ذلك؛ فمنهم من قدح، ومنهم من مدح، وكل برر قدحه أو مدحه بوقائع محددة اتخذها حججا وبراهين.
على أنه مهما يكن من ذلك، فما من أحد يقدر أن ينكر أن محمد علي بلغ ما بلغ من الرفعة والشهرة والمقام المحمود بفضل قوة إدراك عظيمة وثبات نادر، وروح سلوك وزنت كل حركاته وسكناته وزنا عاقلا حكيما، وحسن ملمس دقيق دقة متناهية، وعزم دون فله خرط القتاد، وحزم متفنن قضى على كل حزم سواه.
ولا يسع المؤرخ المنصف - مع التسليم بأن الله وحده المطلع على النيات - إلا الاعتراف بأن أعمال محمد علي، إن أفادته قبل الجميع وفوق الجميع؛ فقد أفادت البلاد فائدة لا يمكن أن نجد لها مثيلا إلا إذا صعدنا مجاري التاريخ وعدنا إلى أيام الفراعنة الكبار.
Shafi da ba'a sani ba