وكان اسم والد محمد علي إبراهيم أغا، وأما اسم والدته فإن التاريخ - بفضل العادات الشرقية التي كانت ولا تزال تأبى على المرأة أن يعرف اسمها خارج بيتها - جهله، فلم يعرفنا به، على أننا كنا نود معرفته، لنحيطه بهالة المجد التي تبدو لنا أسماء أمهات الرجال العظام محاطة بها؛ لأننا موقنون أن محمد علي مدين لتلك الأم - أكثر مما هو مدين لأبيه - بالصفات الكريمة، والأخلاق القويمة، والعقلية السامية التي نهضت به من الحضيض إلى ذروة العلاء والفخار.
فقد كانت أمه هذه امرأة حادة الشعور، حمساء الخيال، يدل على ذلك المنام الذي يقال إنها رأته وهي حامل بابنها المجيد، وفسره لها بعض العرافين، فأكد لها أنه يبشر بمستقبل عظيم لثمرة بطنها، فلما بلغ ولدها - في أول صباه - من السن ما جعله قادرا على التفهم، فإنها ما فتئت تخبره بذلك المنام، لتوجد في فؤاده الميل إلى عظائم الأمور وتنميه وتعززه.
وأما إبراهيم أغا، والده، رئيس خفر الطرق في بلده، فإن هم المعيشة كان يكده كدا لم تكن صفات نفسه - على فرض وجودها - تجد معه سبيلا إلى الانتشار؛ وذلك لأن مربوط وظيفته كان ضئيلا، لا يقوم أود عائلته، حتى لو قبضه كاملا، فكيف به وهو لم يكن يتقاضاه إلا ناقصا، أو لا يتقاضاه البتة؟! (شأن موظفي الدولة العثمانية في ذلك العهد، وحتى أواخر القرن الماضي، بل حتى أواخر حكم عبد الحميد في عصرنا هذا.) ولولا أن الموت قصف زهرة كل أولاده، وهم في صباهم الأول، لما استطاع إلى القيام بشئون تربيتهم سبيلا. ولكنه، ولم يبق له منهم سوى محمد علي، فإنه حصر كل حنانه واهتمامه فيه، وحاطه بعناية خاصة، تجلت في المظهر الذي تتجلى فيه العناية عند الوالدين الجهلاء؛ أي إنه تركه يشب وشأنه، دون أن يعلمه - على أن العلم لم يكن في ذلك العهد مرغوبا فيه إلا قليلا، لا سيما في الشرق، حيث لم يكن من علم سوى ما كان الدين أساسه، أو ما اصطبغ منه بصبغة الدين - ودون أن يفكر في تهذيب ميوله، وتوجيهها نحو غرض معلوم في الحياة، يكون للفتى في البلوغ إليه أمان من الحاجة والفقر، فأخذت الجيرة، لذلك، تتحدث في شأن الصبي، وتندب حظه، وتتداول قولا كهذا: «ماذا عسى أن يكون نصيب هذا الغلام التعس من الحياة، إذا أفقده الدهر والديه فجأة، وهو لا يملك شروى نقير، ولا علم عنده، ولا صنعة لديه؟!»
فبلغ الحديث مسامع محمد علي، وكانت أمه - على ما قلنا - مجتهدة في جعل فؤاده حادا وروحه كريمة، فأثر فيه تأثيرا عميقا، وأوقد فيه جذوة نار ما فتئت متقدة منذ ذلك الحين. وقد قال محمد علي فيما بعد: «إني، مذ سمعت ذلك القول، عزمت عزما أكيدا على تغيير ما بي، وترويض نفسي على امتلاك زمام أهوائي، فقد حدث لي، بعد ذلك، أني استمررت، أحيانا، على الجري يومين كاملين لا أتناول من الطعام إلا القليل، ولا أنام إلا اليسير؛ لأقوي عضلاتي، وأتمرن على خشونة المعيشة. ولم يعد يهدأ لي بال حتى فقت جميع أقراني في جميع التمارين الرياضية. وإني لأذكر سباقا بالمجداف قمنا به في بحر عجاج متلاطم الأمواج، كان الغرض منه البلوغ بالقوارب إلى جزيرة قريبة من الشاطئ، فإن أقراني ما لبثوا أن كلوا، وخارت عزائمهم، وأما أنا، فإني بالرغم من تسلخ جلد راحتي، وقد كان لا يزال ناعما، ما فتئت أجدف، مقاوما الموج والريح، حتى أدركت الجزيرة، وهي اليوم ملكي!» - وهي جزيرة طشيوز!
على أن الموت - ولا نخطئ إذا دعوناه ملاكا أعمى؛ فإنه جدير بهذه التسمية أكثر مما كان جديرا بها إله الغرام عند قدماء اليونان والرومان - مر يوما بمنجله ببيت إبراهيم أغا، فحصد حياة أم محمد علي، والشاب في أول يفاعته. ولم يكد الغلام يجفف دموعه إلا وعاد ذلك الملاك إلى المرور بالبيت عينه، وما غادره إلا وخرج منه وراءه النعش الراقدة فيه جثة إبراهيم أغا. •••
فبات محمد علي يتيما وحيدا، يرى الدنيا حوله كأنها قفر مقفر ولا يدري ما المصير! فما كان أشبه حاله - إذ ذاك - بحال فتى آخر سبقه إلى الوجود بنحو ألف ومائتي سنة ، فتيتم من أبيه، وهو في بطن أمه، وتيتم من أمه، وهو في السادسة من عمره، فبات والله وحده كفيله ونصيره.
وكما أنه - سبحانه وتعالى - وكل بذلك اليتيم المعد له أبهى الطوالع جده أولا، ولما لبى جده داعي المنون، فعمه، فكان له مربيا وعئولا، هكذا وكل بمحمد علي، الذي كان أعده لإخراج مصر - كنانته في أرضه - من الظلمات إلى النور، عمه طوسن أغا، أولا، فلما داهم ملاك الموت ذلك العم بعد ذلك بقليل - كأنه يأبى أن يبقي من أسرة محمد علي أحدا حيا - عطف عليه قلب شوربجي قوله - أي حاكمها - وقد كان صديقا قديما لعائلته فضمه إلى بيته، وآواه تحت سقفه، ورباه مع ابنه.
فما أقام محمد علي قليلا في تلك الدار، إلا وتعرف به فرنساوي يقال له المسيو ليون، كان على رأس محل تجاري في قوله منذ سنة 1771، فاستوقف انتباهه ذكاء الغلام الفطري النادر، وحسن حكمه على الأمور في شئون قلما يدركها من كان في مثل سنه، فأحبه كثيرا، وأخذ يزوده بالنصائح والإرشادات الثمينة، ويبشره على مسمع من الشوربجي وعائلته بمستقبل سعيد، فيما لو وجد من صروف الدهر تعضيدا، فكان لحب هذا الفرنساوي الأبوي أثر عميق في قلب محمد علي، جعله منذ ذلك الحين ميالا إلى الفرنساويين أكثر منه إلى كل جنسية غربية أخرى. وحمله في سنة 1820 - لما استتبت قدماه على السدة المصرية - على البحث عن المسيو ليون، لمعرفة ما آل إليه أمره، فلما علم أنه عاد إلى مرسيليا - مسقط رأسه - كتب إليه ملحا بالمجيء لزيارته على ضفاف النيل، فأجاب المسيو ليون الدعوة، ولكن ملاك الموت الأعمى مر به في نفس اليوم الذي كان عينه لسفره، فأرداه، فلما بلغ محمد علي الخبر المؤلم بعث إلى أخت المتوفى بكتاب تعزية بليغ، وأرسل إليها - رفقته - هدية ثمينة فاخرة؛ إظهارا لاعترافه بجميل أخيها عليه.
وتعرف محمد علي، في بيت الشوربجي، بشيخ وقور جاوز السبعين من عمره، كان يتردد كثيرا على منزل ذلك الحاكم، وكانت له فيه منزلة خاصة؛ لما اشتهر عنه من درايته بتفسير الأحلام، وهي دراية كان لها في عالمنا الشرقي منزلة كبيرة جدا، كثيرا ما أدت بمن تحلى بها إلى أرفع المناصب؛ ألم يصبح يوسف بن إسرائيل - عليهما السلام - بفضلها وحدها؛ عزيز مصر على عهد أحد فراعنتها الهكسوس؟!
هذا الشيخ ما لبث أن أصبح هو أيضا شغوفا بالشاب كبير الميل إلى محادثته وملازمته، فلكثرة ما كان الكلام بينهما - وفي بيئتهما - يدور على المنامات وتفسيرها، فإن المنام الذي رأته أم محمد علي، وهو في بطنها، وقصته عليه في أوائل صبوته، أخذ يتردد كثيرا على مخيلته، ويوقظ فيها أوهاما غريبة، جعلته يحلم ذات ليلة أنه ظمئ ظمأ شديدا، فشرب كل ماء النيل ولم يرتو، فلما كان الصباح قص منامه على الشيخ، فقال هذا له: «أبشر يا بني؛ فإن منامك يعني أنك ستملك وادي النيل بأسره، ولن تكتفي به، بل ستسعى إلى امتلاك أقطار غيره!» فهزأ محمد بالتفسير، لأنه استبعد الأمر جدا، ولكنه بالرغم من ذلك رأى أن مخيلته أخذت تزداد تغذيا بما كان يساورها من أوهام. •••
Shafi da ba'a sani ba