وتفصيل ذلك أنه كان بين مماليك محمد علي المقربين إليه شاب يقال له لطيف أغا، كان محمد علي يحبه جدا، وبالغ في تقريبه إليه حتى جعله أمين خزنته الخاصة.
ولما أتت الأنباء باستيلاء الجيوش العثمانية على المدينة المنورة واستخلاصها من أيدي الوهابيين أرسله بالبشائر إلى دار السعادة؛ لعلمه بأن ذلك سينيله حظوة عند الديوان والسلطان، وفي الواقع فإن الأستانة أنعمت على لطيف أغا برتبة الميرميران، ولما رأته شابا معجبا بنفسه ومنفوخا، وقع في خلدها أن تستعمله آلة للتخلص من محمد علي، ففاتحته في الأمر، فقال لطيف إنه من السهل جدا القيام بتنفيذ رغائب الباب العالي، لا سيما وأن محمد علي عازم على التوجه بنفسه إلى البلاد الحجازية عن قريب؛ ليباشر بنفسه إدارة رحى الحرب ضد الوهابيين، فتقدم غيبته عن القطر المصري خير فرصة لقلعه عن سدته، وأنه - هو لطيف باشا - يتعهد بالقيام بهذه المأمورية إذا حسن لدى الباب العالي تقليده إمارة مصر، فما كان من الديوان إلا أنه أجابه إلى طلبه في الحال، وسلمه فرمان تعيينه واليا على مصر، وأصحبه إليها بخط شريف ينبئ بذلك فوضعهما لطيف في جيبه وعاد إلى القاهرة، وأخذ يترقب الفرص، ومع أنه لم يطلع على السر الخطير المختبئ في جيوبه إلا أقرب الناس إلى فؤاده، إلا أنه - للغرور والطيش المتغلب على طبعه - أظهر من تغير في أخلاقه، وشموخ في معاملاته، وخيلاء في حركاته وسكناته؛ ما حول قلب محمد علي عنه، وما جعل هذا الأمير - عند مغادرته عاصمته للذهاب إلى البلاد العربية لقتال الوهابيين - يوصي كتخداه بمراقبة تصرفات ذلك الشاب المغرور شديد المراقبة، فقام الكتخدا بالوصية خير قيام، لا سيما وأنه كان يكره من الأصل لطيفا، وزاد حقده عليه ما شرع يراه من غطرسة فيه وإقدام - بعد سفر محمد علي - على إنفاق النقود بسخاء ليزيد عدد مريديه.
وليأخذ عليه خط الرجعة باغته ذات يوم بدعوة إلى اجتماع يعقد في القلعة للنظر في بعض الشئون، وخيره بين أن يحضر إليه من وقته أو يغادر الديار، فأسقط لطيف في يده وارتبك أمره، وما أفاق إلى ما يجب عليه عمله إلا وبيته يحيط به العسكر، فأطلق عليهم الرصاص الذي كان عنده، ولما فرغ منه خبأ كنزه ونساءه ومملوكا له في مخبأ وانسل من طريق سري إلى بيت خازنداره وكان يجاور بيته، واختفى عنده.
أما العسكر، فبعد أن كسروا أبواب المنزل المحاصر ودخلوه قلبوه، رأسا على عقب، فعثروا بالنساء والمملوك والكنز، ولكنهم لم يجدوا لطيفا، فأقاموا متربصين، فلما كان مساء الغد ظن لطيف أن بيت صديقه قد تتجه إليه الظنون، ووقع في خلده أن يصعد إلى سطحه ويقفز منه إلى السطح المجاور ومن هذا إلى السطح الذي بعده وهكذا حتى يبعد كثيرا عن منزله، ويتمكن من الابتعاد بسلام عن العاصمة ريثما تتهيأ فرص أوفق، ففعل، ولكن بينما هو يحاول القفز من سطح صديقه، بصر به جندي كان على سطح مجاور يستنشق نسيم المساء، وأوقع الصوت في الجيرة، فرماه لطيف برصاصة من بندقية كانت معه فقتله، ولكن دوي الطلقة فعل ما لم يفعله صراخ المقتول؛ فإنه أرشد إلى القاتل مساعي الباحثين عنه، ولم تمض سويعات قليلة إلا وبات لطيف مكبلا بالحديد وسيق إلى الكتخدا لمحاكمته، فجمع الكتخدا الديوان شكلا، واستصدر منه حكما بالإعدام.
فسيق لطيف إلى عرصة تحت سلالم السراي بالقلعة، وقطع هناك رأسه يوم 8 نوفمبر سنة 1814 وهو يبكي وينتحب ويطلب العفو بتوسل، والآذان حوله والقلوب لا تسمع ولا تشفق. •••
أما قيام الدسائس البريطانية حوله وسعي إنجلترا سعيا حثيثا إلى إسقاطه فقد تجلى فيما سبق لنا ذكره عرضا فيما مضى من الكلام، ولما لم يفلح ذلك جميعه أرسلت بريطانيا العظمى حملة على مصر تحت قيادة الجنرال فريزر، وأنزلتها في العجمي يوم 17 مارس سنة 1807، فاستولت هذه الحملة على الإسكندرية، بدون قتال بعد يومين فقط من وصولها تحت أسوارها، بتأثير القنصل البريطاني السيئ على محافظها أمين أغا، وبالرغم من كل ما بذله لذلك المحافظ من نصائح وتشجيعات القنصل الفرنساوي، الذي لم ير بدا - بعد وقوع المدينة - من الفرار إلى رشيد؛ هربا من سقوطه في أيدي الإنجليز.
فأسرع الجنرال فريزر وبعث فرقة تحت قيادة الجنرال ويكب للاستيلاء على رشيد، فدخلتها في 29 مارس بلا قتال، فظنت لذلك أنها إنما أرسلت إلى نزهة عسكرية وأن المدينة خالية من حماة، فاطمأنت وانتشر جنودها هنا وهناك وانطرحوا في ظل البيوت والأشجار للراحة، وتخلى معظمهم عن أسلحتهم ليناموا.
فاغتنمها علي بك محافظ المدينة فرصة جميلة، وسار إليهم بالحامية المؤلفة من خمسمائة جندي وهاجمهم على غرة، وأخذ الأهلون يصلونهم نارا حامية من النوافذ والسطوح، فما هي إلا لحظة وقتل الجنرال ويكب ودب الرعب إلى قلوب جنوده، ولولا أن الأتراك أضاعوا الوقت في قطع رؤوس الواقعين لما نجا من الإنجليز أحد، ولكن حماة رشيد أسروا - مع ذلك - مائة وعشرين منهم، فوضعوهم في مراكب، ووضعوا فيها بجانبهم تسعين رأسا مقطوعة، وسيروا الجميع إلى العاصمة، فشكت الرؤوس هناك على حراب، وغرست الحراب في جانبي بركة الأزبكية، لتتفرج عليها العامة.
ولما بلغ نبأ هذا الفوز محمد علي استدعى العلماء، فأخبروه بأن الشعب مستعد للزحف إلى مقاتلة الكفار، فقال لهم محمد علي: «إن جنودي تتكفل بالقضاء عليهم، ولست أطلب من الشعب إلا دفع الضرائب!» ورجا السيد عمر مكرم النقيب بتحصيل تسعمائة كيس من أهل العاصمة، ثم شرع في تحصينها بسرعة وإقامة الاستحكامات والمتاريس حولها، ونصب بطاريات المدافع في الجزيرة أمام إمبابة وفي أماكن أخرى، فاشترك العلماء مع الشعب في العمل بحماسة متناهية.
ووجه محمد علي فرقة من جنده عددها أربعة آلاف مقاتل كانت عائدة من الصعيد حيث كانت تقاتل المماليك، إلى الشمال تحت قيادة كتخداه، فلما بلغت منوفا انقسمت قسمين: قسم تحت قيادة ضابط يقال له حسن باشا، سار على شاطئ النيل الأيسر، وقسم تحت قيادة الكتخدا، سار على شاطئ النيل الأيمن.
Shafi da ba'a sani ba