Mughalatat Lughawiyya
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
Nau'ikan
لا نحن نحيي الفصحى بالاستعمال والتعريب، ولا نحن نترك العامية تنمو وتكتمل وتنحيها.
إن حالنا في الثنائية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية
Romance languages (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا) في نهاية العصور الوسطى وفي عصر النهضة وبداية العصر الحديث، فقد كان هؤلاء ثنائيين: لغة كتابتهم لاتينية ولغة حياتهم عاميات تنمو على ظهر اللاتينية، وكانت عاميتهم مختلفة عن اللاتينية اختلافا جوهريا في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها وقواعدها، «حتى إن الفرنسي مثلا الذي لم يكن قد تعلم اللاتينية ما كان يستطيع أن يفهم شيئا يعتد به من اللغة التي كان يكتب بها الناس في بلده وهي اللاتينية. وقد ظلت اللاتينية القديمة لغة كتابة حتى نضجت لهجات محادثاتهم وكمل نموها؛ فاستطاعت أن تنحي اللاتينية عن وظيفتها وتحتل مكانها، فأصبحت الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا، التي كانت لهجات عامية تستخدم في المحادثة العادية فحسب، أصبحت لغات كتابة وآداب، وقد تم ذلك حوالي القرن السابع عشر الميلادي.»
11
ثم بدأت لغة الكتابة هذه تتباعد رويدا رويدا عن لهجات الحديث، ولكنا نرى أنها لا تختلف حتى الآن اختلافا نوعيا عن اللهجات، ولا نحسبها تختلف في المستقبل المنظور نظرا لارتفاع نسبة التعليم ومستواه في هذه البلاد، وبالنظر إلى ثورة الاتصالات التي تحول دون انعزال اللهجات وتحولها.
غير أن د. وافي سار بتقديراته في طريق آخر، ولا ننسى أنه كتب هذا الكتاب عام 1945، فهو يرى أن الهوة بين عاميتهم وفصحاهم ستزداد اتساعا «حتى تصل هذه الأمم إلى حالة شبيهة بالحالة التي كانت عليها وقت أن كانت لغة الكتابة فيها هي اللاتينية. فاختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرا شاذا حتى نتلمس علاجا له، بل هو السنة الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسنة الله تبديلا.» ولعل من الواضح الآن أن حديث الدكتور وافي، في أحسن تقدير، لم يكن متسقا مع ذاته، فهو من جهة يقول إن الانشعاب وانفصال العاميات إلى لغات كتابة هو مآل محتوم تفرضه سنة التطور، ومن جهة أخرى يحذر من كوارث الكتابة بالعامية، وينعى عليها اضطرابها وفقرها: «فاللغة العامية التي يرى هؤلاء استخدامها في الشئون التي تستخدم فيها الآن العربية الفصحى لغة فقيرة كل الفقر في مفرداتها، ولا يشتمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وهي إلى ذلك مضطربة كل الاضطراب في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها وتحديد وظائف الكلمات في جملها وربط الألفاظ والجمل بعضها ببعض، وأداة هذا شأنها لا تقوى مطلقا على التعبير عن المعاني الدقيقة، ولا عن حقائق العلوم والآداب والإنتاج الفكري المنظم.»
12
وإننا لنضطر اضطرارا في أحاديثنا العادية إلى اتخاذ الفصحى كلما احتجنا إلى التعبير عن حقائق منظمة وأفكار مسلسلة لا تسعفنا فيها مفردات العامية ولا قواعدها، «فإذا لم نجد أمامنا لا قدر الله إلا اللغة العامية نستخدمها في جميع شئون تفكيرنا وتعبيرنا لتقطعت بنا أسباب الثقافة ونكصنا إلى الوراء قرونا عديدة، وقضي على نشاطنا الفكري قضاء مبرما؛ لأن الفكر إذا لم تسعفه أداة مواتية في التعبير خمدت جذوته، وضعف شأنه، وضاق نطاقه، واقتصر نشاطه على توافه البحوث وسفساف التأملات، فاللغة هي القالب الذي يصب فيه التفكير: فكلما ضاق هذا القالب واضطربت أوضاعه ضاق نطاق الفكر واختل إنتاجه.»
13
ويمضي د. وافي في رصد الكوارث التي يمكن أن تلحقها الكتابة بالعامية، فيذكر منها انعزال الأجيال القادمة عن تراث أمتها وعجزها عن فهمه والانتفاع به، والضرر القومي البليغ المتمثل في تشرذم الأمة إلى جماعات لكل منها لغته الخاصة التي لا تفهمها الجماعات الأخرى، كما أن العامية نفسها في كل بلد غير ثابتة على حال واحدة بل عرضة للتطور السريع في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها وقواعدها، وسرعان ما نجد أنفسنا أمام المشكلة نفسها التي التجأنا في حلها إلى اتخاذ العامية لغة كتابة، «وذلك أن لغة الحديث سوف تتطور وسوف ينالها كثير من التغير في أصواتها ودلالاتها وقواعدها وأساليبها، ولن تزال كذلك حتى تبعد بعدا كبيرا عن لغة الكتابة؛ فنصبح وإذا بنا نكتب بلغة ونتخاطب بلغة أخرى ، فإذا صبرنا على هذا الازدواج ذهب كل ما عملناه في هذا السبيل أدراج الرياح، وإذا أخذنا على أنفسنا العمل على القضاء عليه كلما ظهر باستخدام الوسيلة نفسها التي استخدمناها في المرة الأولى، كان معنى ذلك أننا نضطر على رأس كل خمسين سنة أو كل قرن على أكثر تقدير إلى تغيير لغة الكتابة بلغة أخرى: وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه الفوضى في شعب إنساني.»
Shafi da ba'a sani ba