واكتشفت أنني ضيعت عمري الذي فات في صراع ليس له أرض، ضيعت طفولتي وصباي وفجر شبابي في عراك عنيف؛ ضد من؟ ضد نفسي، ضد إنسانيتي، ضد غريزتي.
من أجل ماذا؟ لا شيء. ها أنا ذي الآن أترك كل شيء وأبدأ من جديد؛ أبدأ من أول الحياة، أبدأ من الأرض البسيطة البدائية التي تنبت من تلقاء نفسها الحب والقمح، أبدأ من الطبيعة البكر التي تغلف الأرض منذ ملايين السنين، أبدأ من الإنسان الريفي الساذج الذي يأكل النباتات من الأرض، ويمارس غريزته تحت الشجر، ويأكل ويشرب، ويلد ويمرض ويموت دون أن يسأل لماذا أو كيف.
ابتسمت، ثم ضحكت، بصوت عال سمعته بأذني.
كانت الضحكة تتقلص على شفتي وتموت دون أن أسمع لها صوتا؛ فقد كانت أمي تقول لي دائما إن البنت يجب ألا تضحك بصوت عال يسمعه الناس.
وفتحت فمي عن آخره ورحت أضحك وأقهقه، ودخل الهواء إلى صدري؛ هواء نقي نظيف، ليس فيه دخان، وليس فيه كربون، وليس فيه علوم الطب، وليس فيه آداب المجتمع.
هواء لا يهمني تركيبه ولا مضمونه، ولكني أحس أنه هواء منعش يرطب جوفي الساخن.
واستسلمت لأشعة الشمس وتركتها تسقط على جسدي؛ أشعة نقية صافية، لا تشوهها تحاليل العلم إلى أشعة بنفسجية أو حمراء، حارقة أو غير حارقة.
وجاء الرجل الريفي الطيب الساذج يحمل صينية الأكل؛ فطير مشلتت، وقشدة، وزبدة، وبيض. وأكلت بشهية تشبه شهيتي وأنا طفلة قبل أن أبلغ التاسعة من عمري، نسيت تعاليم أمي عن كيف تأكل البنت، ونسيت تحذيرات الطب من القشدة والزبدة، وملأت فمي بالطعام على آخره. شربت الماء البارد من الكوز الفخاري بصوت عال، وسقط الماء من بين شفتي وبلل ملابسي.
أكلت حتى شبعت، وشربت حتى ارتويت، ثم تركت الأريكة الساخنة وتمددت على الأرض الرطبة. ووضعت وجهي على التراب، ورحت أشم باطن الأرض وأنتشي بذلك الإحساس الدفين؛ أنني من الأرض وإلى الأرض.
وهبت نسمة رقيقة رفعت الرداء عن ساقي، ولم يصبني ذلك الذعر القديم الذي كنت أحس به حينما تتعرى ساقي.
Shafi da ba'a sani ba