ثمن الكتابة
مذكرات طبيبة
ثمن الكتابة
مذكرات طبيبة
مذكرات طبيبة
مذكرات طبيبة
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير ، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
مذكرات طبيبة
1
بدأ الصراع بيني وبين أنوثتي مبكرا جدا، قبل أن تنبت أنوثتي وقبل أن أعرف شيئا عن نفسي وجنسي وأصلي، بل قبل أن أعرف أي تجويف كان يحتويني قبل أن ألفظ إلى هذا العالم الواسع.
كل ما كنت أعرفه في ذلك الوقت أنني بنت كما أسمع من أمي. بنت!
ولم يكن لكلمة بنت في نظري سوى معنى واحد؛ هو أنني لست ولدا، لست مثل أخي!
أخي يقص شعره ويتركه حرا لا يمشطه، وأنا شعري يطول ويطول، وتمشطه أمي في اليوم مرتين، وتقيده في ضفائر، وتحبس أطرافه بأشرطة.
أخي يصحو من نومه ويترك سريره كما هو، وأنا علي أن أرتب سريري وسريره أيضا.
أخي يخرج إلى الشارع ليلعب بلا إذن من أمي أو أبي ويعود في أي وقت، وأنا لا أخرج إلا بإذن.
أخي يأخذ قطعة من اللحم أكبر من قطعتي، ويأكل بسرعة، ويشرب الحساء بصوت مسموع، وأمي لا تقول له شيئا.
أما أنا، أنا بنت! علي أن أراقب حركاتي وسكناتي. علي أن أخفي شهيتي للأكل فآكل ببطء وأشرب الحساء بلا صوت.
أخي يلعب، يقفز، يتشقلب. وأنا إذا ما جلست وانحسر الرداء عن سنتيمتر من فخذي، فإن أمي ترشقني بنظرة مخلبية حادة فأخفي عورتي.
عورة!
كل شيء في عورة وأنا طفلة في التاسعة من عمري!
حزنت على نفسي.
أغلقت باب غرفتي علي، وجلست أبكي وحدي.
لم تكن دموعي الأولى في حياتي لأني فشلت في مدرستي، أو لأني كسرت شيئا غاليا، ولكن لأني بنت!
بكيت على أنوثتي قبل أن أعرفها.
فتحت عيني على الحياة وبيني وبين طبيعتي عداء. •••
قفزت درجات السلم ثلاثا ثلاثا لأهبط إلى الشارع قبل أن أفرغ من عد عشرة.
إن أخي ورفاقه من أولاد وبنات الجيران ينتظرونني لنلعب عساكر وحرامية، ولقد أخذت إذنا من أمي بالخروج. أحب اللعب! أحب الجري بأقصى سرعة، أشعر بسعادة طاغية وأنا أحرك رأسي وذراعي وساقي في الهواء، وأنطلق في قفزات عالية لا يحد منها إلا ثقل جسمي تشده إليها الأرض.
لماذا لم يخلقني الله طائرا أطير في الهواء مثل هذه الحمامة وخلقني بنتا؟ خيل إلي أن الله يفضل الطيور على البنات!
ولكن أخي لا يطير!
واستني هذه الحقيقة بعض الشيء، أحسست أن الولد بالرغم من حريته الواسعة فهو عاجز مثلي عن الطير. وأصبحت أفتش دائما عن مواطن العجز في الرجل لتعزيني عن ذلك العجز الذي تفرضه علي أنوثتي.
لا أدري ماذا حدث لي وأنا أقفز؛ أحسست برجفة عنيفة تسري في جسدي ودوار في رأسي، ورأيت شيئا أحمر اللون!
ما هذا؟
انخلع قلبي من الهلع وانسحبت من اللعب، وصعدت إلى البيت وأغلقت على نفسي باب الحمام لأبحث في الخفاء سر هذا الحادث الخطير.
ولم أفهم شيئا، وظننت أن في الأمر مرضا مفاجئا ألم بي، وذهبت إلى أمي أسألها في ذعر.
ورأيت أمي تضحك في سعادة! وتعجبت كيف تقابل أمي هذا المرض الفظيع بتلك الابتسامة العريضة؟!
ورأت أمي دهشتي وحيرتي، فأخذتني من يدي إلى غرفتي حيث قصت علي قصة النساء الدامية. •••
لزمت غرفتي أربعة أيام متتالية لا أملك الشجاعة على أن أواجه أخي أو أبي أو حتى الخادم الصغير.
لا بد أنهم اطلعوا جميعا على عورتي، ولا شك أن أمي فضحت سري الجديد. وأغلقت الباب علي أفسر بيني وبين نفسي هذه الظاهرة الغريبة؛ ألم تكن هناك طريقة أخرى تنضج بها البنات غير هذه الطريقة الملوثة؟ أيمكن لإنسان أن يعيش أياما تحت سيطرة عضلاته اللاإرادية الغاشمة؟ لا بد أن الله يكره البنات فوصمهن جميعا بهذا العار.
وشعرت أن الله قد تحيز للصبيان في كل شيء.
ونهضت من فراشي أجر كياني الثقيل ونظرت في المرآة. ما هذا؟ نتوءان صغيران نبتا على صدري؟
آه، ليتني أموت!
ما هذا الجسم الغريب الذي يفاجئني كل يوم بعار جديد يزيد ضعفي وانكماشي؟!
ترى أي شيء آخر سينبت في الغد على جسدي؟ أو ترى أي ظاهرة أخرى جديدة تتفجر عنها أنوثتي الغاشمة؟! •••
كرهت أنوثتي.
أحسست أنها قيود؛ قيود من دمي أنا تربطني بالسرير فلا أستطيع أن أجري وأقفز، قيود من خلايا جسمي أنا، تسلسلني بسلاسل من الخزي والعار فأنطوي على نفسي أخفي كياني الكثيف. لم أعد أجري، ولم أعد ألعب.
هذان النتوءان على صدري يكبران ويهتزان كلما مشيت.
وقفت حزينة بقامتي الطويلة الفارعة أخفي صدري بذراعي، وأنظر في حسرة إلى أخي وزملائه وهم يلعبون.
كبرت، كبرت عن أخي مع أنه أكبر مني سنا! كبرت عن أمثالي من الأطفال فانسحبت من وسطهم وجلست وحدي أفكر.
انتهت طفولتي، طفولة قصيرة سريعة لاهثة. لم أكد أحس بها حتى أدبرت وخلفت لي جسد امرأة ناضجة، يحمل في حناياه طفلة في العاشرة من عمرها. •••
رأيت عيني البواب وأسنانه تلمع وسط وجهه الأسود سواد الفحم، واقترب مني وأنا أجلس وحدي على دكته الخشبية أتابع بعيني أخي ورفاقه وهم يجرون ويقفزون.
وأحسست بطرف جلبابه الخشن يلمس ساقي وشممت رائحة ملابسه الغريبة، فابتعدت في اشمئزاز، لكنه اقترب مني مرة أخرى، وحاولت أن أخفي عنه خوفي بمراقبة أخي وزملائه وهم يلعبون، لكني أحسست أصابعه الغليظة الخشنة تتحسس ساقي وتتسلقهما من تحت ملابسي!
ووقفت مذعورة واندفعت أجري بعيدا عنه.
هذا الرجل الأسود الكريه أيضا يتطلع إلى أنوثتي؟!
وأخذت أجري حتى دخلت البيت، وسألتني أمي عن سبب انزعاجي، ولم أستطع أن أقول لها شيئا. لعلي شعرت بالخوف أو الخزي، أو كليهما، أو لعلي ظننت أنها ستعنفني وأنه لن يكون بيننا ذلك الود الذي يجعلني أحكي لها أسراري. •••
لم أعد أخرج إلى الشارع، ولم أعد أجلس على الدكة الخشبية.
هربت من تلك المخلوقات الغريبة ذات الأصوات الغليظة والشوارب التي يسمونها رجالا، وخلقت لنفسي عالما خاصا من صنع خيالي؛ جعلت من نفسي فيه إلهه، وجعلت من الرجال مخلوقات عاجزة غبية تقوم على خدمتي.
وجلست في عالمي على عرشي الرفيع أرتب العرائس فوق الكراسي، وأضع الصبيان على الأرض، وأحكي لنفسي القصص والحكايات.
ولم يكن ينغص علي حياتي في وحدتي مع خيالي وعرائسي سوى أمي، بأوامرها الكثيرة التي لا تنتهي، أعمال البيت والمطبخ؛ دنيا النساء المحدودة القبيحة التي تفوح منها رائحة الثوم والبصل.
لم أكن أهرب إلى عالمي الصغير حتى تجرجرني أمي إلى المطبخ وهي تقول: مصيرك إلى الزواج. يجب أن تتعلمي الطبخ. مصيرك إلى الزواج. الزواج! الزواج!
تلك الكلمة البغيضة التي كانت ترددها أمي كل يوم حتى كرهتها، ولم أكن أسمعها حتى أتمثل أمامي رجلا له بطن كبير في داخله مائدة طعام.
ارتبطت في ذهني رائحة المطبخ برائحة الزوج.
وكرهت اسم الزوج، وكرهت رائحة الأكل. •••
سكتت جدتي العجوز عن الثرثرة ونظرت إلى صدري، ورأيت عينيها المتآكلتين تتأملان البرعمين الجديدين البارزين وتزنهما. ثم رأيتها تهمس لأمي بشيء.
وسمعت أمي تقول لي: ارتدي الفستان اللبني لتدخلي وتسلمي على الضيف الذي مع أبيك في الصالون.
وشممت رائحة مؤامرة في الجو.
وكنت أقابل معظم أصدقاء أبي وأقدم لهم القهوة، وأحيانا أجلس معهم وأسمع أبي وهو يحدثهم عن تفوقي في المدرسة، فأشعر بالفرحة وأحس أن أبي باعترافه بذكائي ينتشلني من دنيا النساء الكئيبة التي تفوح منها رائحة البصل والزواج.
ولكن لماذا الفستان اللبني؟ ذلك الفستان الجديد الذي أكرهه. في صدره كشكشة غريبة تستقر على نهدي وتزيد من بروزهما.
ونظرت إلي أمي تتفحصني، وقالت: أين الفستان اللبني؟
ورددت في غضب: لن ألبسه! ولمحت بوادر التمرد في عيني، فنظرت إلي في أسى وقالت: ساوي حاجبيك إذن.
ولم أنظر إليها، وقبل أن أفتح باب الصالون لأدخل، عبثت بأصابعي في شعر حاجبي فنكشتهما.
وسلمت على صديق أبي وجلست، ورأيت وجها غريبا مخيفا، له نظرة مدققة فاحصة تشبه نظرة جدتي.
وقال أبي: إنها أولى فرقتها هذا العام في الابتدائية.
ولم أر في عيني الرجل أي تعبير عن إعجاب بهذا الكلام، ورأيت نظراته الفاحصة تحوم حول جسدي وتستقر في النهاية على صدري، فوقفت مذعورة وخرجت من الحجرة أجري كأنما عفريت يطاردني.
وتلقتني أمي وجدتي على الباب بلهفة وشوق، وقالتا في نفس واحد: هيه، ماذا فعلت؟
وصرخت في وجهيهما صرخة واحدة، وجريت إلى غرفتي وأغلقت الباب علي، وذهبت إلى مرآتي أنظر إلى صدري.
كرهتهما! هذان البروزان! تلكما القطعتان الصغيرتان من اللحم اللتان تحددان مستقبلي! وددت لو أجتثهما من فوق صدري بسكين حاد!
ولكني لم أستطع. استطعت فقط أن أخفيهما، أن أضغط عليهما بمشد سميك ليبطهما. •••
هذا الشعر الطويل الثقيل، الذي أحمله فوق رأسي في كل مكان، يعطلني كل صباح، ويرهقني في الحمام، ويلهب رقبتي في الصيف.
لماذا لا يكون قصيرا حرا كشعر أخي؟ لا يحمله فوق رأسه، ولا يعطله، ولا يرهقه؟
ولكن أمي تتحكم في حياتي ومستقبلي وجسدي حتى خصلات شعري.
لماذا؟
لأنها ولدتني؟ ولكن أي فضل لها في أنها ولدتني؟ كانت تمارس في حياتها الطبيعية كأي امرأة، ثم جئت أنا بغير إرادتها في لحظة من لحظاتها السعيدة. جئت دون أن تعرفني، ودون أن تختارني، ودون أن أختارها.
لقد فرضت عليها ابنة، وهي فرضت علي أما.
أيمكن لإنسان أن يحب مخلوقا فرض عليه؟ وإذا كانت أمي تحبني رغما عنها بغريزتها، فأي فضل لها في هذا الحب؟ وهل هي ترتفع كثيرا عن القطة التي تحب أولادها حينا وتأكلهم حينا آخر؟
أليست هذه القسوة التي تعاملني بها أمي أكثر إيلاما لي مما لو أنها أكلتني؟!
وإذا كانت أمي تحبني حبا حقيقيا هدفه سعادتي وليس سعادتها، فلماذا تكون كل أوامرها ورغباتها تتعارض مع راحتي وسعادتي؟!
أيمكن أن تحبني وهي تضع السلاسل كل يوم في قدمي، وفي يدي، وحول رقبتي؟! •••
خرجت لأول مرة في حياتي من البيت دون أن آخذ إذنا من أمي.
مشيت في الشارع وقد منحني التحدي نوعا من القوة، ولكن قلبي كان يخفق من الخوف.
ولمحت لافتة كتب عليها: حلاق للسيدات.
ترددت لحظة ثم دخلت.
نظرت إلى خصلات شعري وهي تتلوى بين فكي المقص الحاد، ثم تهوي إلى الأرض.
أهذه الخصلات هي التي تقول عنها أمي إنها تاج المرأة وعرشها؟ أيخر تاج المرأة هكذا صريعا في لحظة إصرار واحدة؟ وشعرت باستخفاف شديد نحو النساء؛ رأيت بعيني رأسي أنهن يؤمن بأشياء تافهة لا تساوي شيئا، ومنحني هذا الاستخفاف بهن قوة جديدة جعلتني أعود إلى البيت وأنا أسير على قدمين ثابتتين، واستطعت أن أشد قامتي، وأن أقف أمام أمي بشعري القصير.
صرخت أمي صرخة عالية وناولتني صفعة حادة على وجهي، ثم تلتها صفعات وصفعات، وأنا أقف كما أنا.
كأنما تجمدت، كأنما جعل مني التحدي قوة لا يهزها شيء، كأنما جعل مني انتصاري على أمي جسما صلبا لا يحس بالصفعات.
كانت يد أمي ترتطم بوجهي ثم ترتد عنه كأنما هي ترتطم بصخرة من الجرانيت.
كيف لم أبك؟ أنا التي كانت تبكيني «الشخطة» الواحدة أو الصفعة الخفيفة!
لكن دموعي لم تسقط. عيناي مفتوحتان تنظران في عيني أمي في جرأة وقوة.
ظلت أمي تصفعني، ثم تهاوت على الأريكة جالسة وهي تردد في ذهول: لقد جنت!
أشفقت عليها حين رأيت ملامحها ترتخي في انهزام وضعف، وشعرت برغبة قوية في أن أعانقها وأقبلها وأبكي بين ذراعيها، وأقول لها: ليس العقل هو أن أطيعك دائما.
ولكني أبعدت عيني عن عينيها حتى لا تعرف أنني شهدت هزيمتها، وجريت إلى حجرتي.
ونظرت في المرآة وابتسمت لشعري القصير، ولبريق الانتصار في عيني.
عرفت لأول مرة في حياتي كيف يكون الانتصار، الخوف لا يفعل شيئا إلا الهزيمة، والانتصار لا يكون إلا بالشجاعة.
زال مني الخوف الذي كنت أشعر به نحو أمي، سقطت عنها تلك الهالة الكبيرة التي كانت تجعلني أرهبها. أحسست أنها امرأة عادية، وصفعاتها التي هي أقوى ما فيها لم أعد أخشاها؛ لأنها لم تعد تؤلمني. •••
كرهت البيت ما عدا حجرة مكتبي، وأحببت المدرسة ما عدا حصة التدبير المنزلي، وأحببت أيام الأسبوع ما عدا يوم الجمعة.
واشتركت في كل نشاط المدرسة؛ دخلت جمعية التمثيل، وجمعية الخطابة، وجمعية الرياضة، وجمعية الموسيقى، وجمعية الرسم. ولم يكفني ذلك، بل اجتمعت ببعض زميلاتي وكونت جمعية أطلق عليها اسم جمعية الأنس. لماذا اخترت كلمة الأنس؟ لم أدر! ولكنني شعرت أن في أعماقي رغبة شديدة إلى الأنس؛ إلى أنس ضخم كبير لا يؤنسه شيء، إلى مجاميع هائلة من الناس تؤنسني وتحدثني وتستمع إلي وتنطلق معي إلى السماء.
خلت أن أي ارتفاع لن يكفيني، لن يطفئ تلك الشعلة المتأججة في نفسي. وكرهت الدروس المتكررة المتشابهة. كنت أقرأ الموضوع مرة واحدة، واحدة فقط؛ أحسست أن التكرار يخنقني، يقتلني. كنت أريد شيئا جديدا ... جديدا ... دائما. •••
لم أشعر به حين دخل إلى حجرتي ووقف إلى جواري وأنا أجلس إلى كتابي، إلا حين قال: ألا ترغبين في الترويح عن نفسك قليلا.
وكنت قد قرأت طويلا وشعرت بالتعب، فابتسمت قائلة: أريد أن أتمشى في الخلاء. - البسي معطفك وهيا بنا.
أدخلت نفسي في المعطف بسرعة وجريت إليه. كنت على وشك أن أضع يدي في يده وننطلق، نجري معا كما كنا نفعل ونحن أطفال، لكن عيني تعلقتا بعينيه فتذكرت فجأة السنين الطويلة التي لم ألعب فيها، ونسيت خلالها قدماي الجري، وتعودتا السير البطيء كالكبار، فوضعت يدي في معطفي وسرت إلى جواره في بطء.
وسمعته يقول: لقد كبرت. - وأنت أيضا. - هل تذكرين أيام كنا نلعب معا؟ - كنت تسبقني في الجري دائما. - وكنت تكسبين دائما في «البلي».
وضحكنا طويلا، ودخل هواء كثير إلى صدري فأنعشني وجعلني أحس أنني أسترجع بعض طفولتي المدبرة.
وقال: أريد أن أسابقك في الجري.
قلت في ثقة: سأسبقك.
قال: لنر!
ورسمنا خطا على الأرض، ووقفنا متجاورين، وصاح قائلا: واحد ... اثنين ... ثلاثة. فانطلقنا نجري الشوط.
كنت على وشك أن أصل إلى النهاية قبله، لكنه أمسكني من ملابسي من الخلف، فتعثرت قدمي ووقعت على الأرض ووقع إلى جواري. ورفعت عيني إليه وأنا ألهث، فرأيته ينظر إلي نظرة غريبة جعلت الدماء تصعد إلى وجهي، ورأيت ذراعه تمتد ناحية خصري، وهمس في أذني بصوت غليظ: سأقبلك.
انتفض كياني انتفاضة عنيفة غريبة، وتمنيت في لحظة ومضت في أحاسيسي كالبرق أن تمتد ذراعه أكثر وتضمني بقوة ... بقوة، ولكن رغبتي العجيبة الخفية تحولت حين خرجت من أعماقي إلى غضب شديد.
وزاده غضبي إصرارا، فأمسكني بيد من حديد. ولم أدر من أين واتتني هذه القوة التي جعلتني أقذف بذراعه في الهواء بعيدا عني، وأرفع يدي إلى فوق، ثم أهوي بها على وجهه في صفعة عنيفة! •••
تقلبت في فراشي حائرة؛ مشاعر غريبة تجتاح كياني، وخيالات كثيرة تمر أمامي، لكن خيالا واحدا يستقر أمام عيني.
ابن عمي وهو راقد على الأرض إلى جواري، وذراعه تكاد تلتف حول خصري، ونظراته الغريبة تخترق رأسي.
وأغمضت عيني لأسبح مع خيالي الذي راح يحرك ذراعه حتى التفت حول خصري بقوة، وحرك شفتيه حتى لامستا شفتي وضغطتا عليهما بعنف.
ودسست رأسي تحت الغطاء.
أيمكن أن أصدق؟! يدي هذه التي ارتفعت وصفعته، هي نفسها يدي التي ترتجف في يده الموهومة؟!
وأحكمت الغطاء حول رأسي لأحول بينه وبين هذا الوهم الغريب، لكنه تسرب من تحت الغطاء إلي، فوضعت الوسادة على رأسي وضغطت عليه بكل قوتي لأخنق فيه ذلك الشبح العنيد، وظللت أضغط على رأسي حتى خنقني النوم. •••
فتحت عيني في الصباح حين بدد نور الشمس الظلام بكل ما يجوس فيه من أشباح.
وفتحت النافذة، ودخل الهواء المنعش إلى صدري، فقضى على الآثار العالقة بخيالي من أوهام الليل.
ابتسمت في سخرية من نفسي؛ هذه النفس الجبانة التي ترتعد خوفا مني وأنا يقظة، ثم تتسلل إلى فراشي في الظلام، فتملأ السرير في حولي خيالات وأوهاما! •••
انتهيت من دراستي الثانوية وكنت أولى فرقتي، وجلست أفكر ماذا أفعل؟
ماذا يمكن لي أن أفعل وأنا أكره أنوثتي، وأنقم على طبيعتي، وأتبرأ من جسدي؟!
لا شيء سوى الإنكار ... التحدي ... المقاومة!
سأنكر أنوثتي، سأتحدى طبيعتي، سأقاوم كل رغبات جسدي.
سأثبت لأمي وجدتي أنني لست امرأة مثلهما، أنني لن أعيش حياتي في المطبخ أقشر البصل وأفصص الثوم، أنني لن أقضي عمري من أجل زوج يأكل ويأكل.
سأثبت لأمي أنني أكثر ذكاء من أخي، ومن الرجل، ومن كل الرجال، وأنني أستطيع أن أفعل كل ما يفعله أبي، وأكثر، وأكثر.
2
كلية الطب ؟! نعم الطب.
للكلمة وقع رهيب في نفسي، يذكرني بنظارة بيضاء لامعة، من تحتها عينان نافذتان تتحركان بسرعة مذهلة، وأصابع قوية مدببة تمسك بإبرة طويلة حادة مخيفة.
أول طبيب رأيته في حياتي.
كانت أمي ترتجف من الخوف وتتطلع إليه في ضراعة وخشوع، وكان أخي ينتفض من الهلع، وكان أبي راقدا في الفراش ينظر إليه في استجداء واسترحام.
الطب شيء رهيب، رهيب جدا. تنظر إليه أمي وأخي وأبي نظرة احترام وتقديس.
سأكون طبيبة إذن، سأتعلم الطب، وسأضع على وجهي نظارة بيضاء لامعة، وسأجعل عيني من تحتها نافذتين تتحركان بسرعة مذهلة، وسأجعل أصابعي قوية مدببة أمسك بها إبرة طويلة حادة مخيفة.
سأجعل أمي ترتجف من الخوف وتتطلع إلي في ضراعة وخشوع، وسأجعل أخي ينتفض أمامي من الهلع، وسأجعل أبي ينظر إلي في استجداء واسترحام.
سأثبت للطبيعة أنها بالرغم من ذلك الجسد الضعيف الذي ألبستني إياه، وبالرغم مما في داخله وخارجه من عورات، فسوف أتغلب عليه، وسوف أضعه في زنزانة من حديد عقلي وذكائي، ولن أمنحه فرصة واحدة ليشدني إلى صفوف النساء العجماوات. •••
وقفت في فناء كلية الطب أتلفت حولي؛ مئات العيون تصوب إلي نظرات فاحصة لاذعة.
رفعت رأسي ورددت عليهم بمثل سهامهم.
لماذا ينظر إلي الطلبة فأغض طرفي؟! لماذا يرفعون رءوسهم وأطرق رأسي؟! لماذا يدبون على الأرض في كبرياء وثقة وأنا أتعثر في خطاي؟! أنا مثلهم، وسأكون مثلهم، بل سأتفوق عليهم.
فردت قامتي الطويلة عن آخرها. نسيت النهدين وتلاشى ثقلهما من فوق صدري. شعرت أنني خفيفة، وأنني أستطيع أن أتحرك بسهولة كما أشاء.
لقد رسمت لنفسي طريق حياتي، طريق العقل، ونفذت قرار الإعدام على جسدي، فلم أعد أشعر له بوجود. •••
وقفت على باب المشرحة.
رائحة نفاذة عجيبة؛ جثث آدمية عارية، فوق مناضد رخامية بيضاء. حملتني قدماي إلى الداخل في وجل، واقتربت من إحدى الجثث العارية ووقفت إلى جوارها. جثة رجل عارية تماما.
الطلبة من حولي ينظرون إلي ويبتسمون في مكر، وينظرون ماذا أفعل.
كدت أشيح بوجهي عن الجسد العاري وأجري خارجة من المشرحة . ولكن لا، لن أفعل ذلك.
ونظرت إلى جانبي ورأيت جثة امرأة عارية، وإلى جوارها بعض الطلبة وينظرون إليها في جرأة وقوة.
سلطت نظراتي على جثة الرجل في جرأة وقوة، وأمسكت المشرط في يدي. •••
كان هذا هو أول لقاء سافر لي بالرجل والرجولة؛ فيه فقد الرجل هيبته وجلاله وعظمته الموهومة، نزل الرجل من فوق عرشه وارتمى على منضدة التشريح بجوار المرأة.
لماذا كانت أمي تضع هذه الفروق الهائلة بيني وبين أخي، وتصنع من الرجل إلها، علي أن أقضي عمري كله أطبخ له طعامه؟
لماذا يحاول المجتمع دائما أن يقنعني بأن الرجولة امتياز وشرف، وأن الأنوثة مهانة وضعف؟
هل يمكن لأمي أن تصدق أنني أقف وأمامي رجل عار، وفي يدي مشرط أفتح به بطنه ورأسه؟
هل يمكن للمجتمع أن يصدق أنني أتأمل جسد الرجل وأشرحه وأمزقه دون أن أشعر أنه رجل؟
ومن هو المجتمع؟ أليس هو رجالا مثل أخي ربته أمه منذ طفولته على أنه إله؟ أليس هو نساء مثل أمي ضعيفات عاطلات؟
كيف يمكن لهؤلاء أن يصدقوا أن هناك امرأة لا تعرف عن الرجل شيئا سوى أنه عضلات وشرايين وأعصاب وعظام؟
جسد الرجل! ذلك الشيء الرهيب الذي تخيف به الأمهات البنات الصغار، فيحترقن بنار المطبخ لأجل إشباعه، ويحلمن بشبحه الليل والنهار! ها هو الرجل ملقى أمامي عاريا قبيحا ممزقا.
لم أتصور أن الحياة سوف تكذب لي أمي بهذه السرعة، أو تنتقم لي من الرجل على هذا النحو. ذلك الرجل الكئيب الذي نظر إلى نهدي يوما ولم ير من كياني شيئا سواهما.
ها أنا ذي أرد سهامه إلى صدره.
ها أنا ذي أنظر إلى جسده العاري وأشعر بالغثيان.
ها أنا ذي أهوي عليه بمشرطي فأمزقه إربا.
أهذا هو جسد الرجل؟!
يغطيه الشعر من الخارج ويمتلئ من الداخل بالعفونات؟ يعوم مخه في سائل أبيض لزج ويغرق قلبه في دم أحمر غليظ؟
ما أقبح الرجل! من خارجه ومن داخله أشد قبحا! •••
تأملت المرأة الشابة التي ترقد تحت مشرطي على المنضدة الرخامية البيضاء؛ شعرها طويل ناعم مصبوغ باللون الأحمر لكنه مغسول بالفورمالين، أسنانها بيضاء لامعة وفي وسطها سنة ذهبية حمراء لكن جذورها صفراء، أظافرها طويلة مدببة مطلية باللون الأحمر لكن منابتها بيضاء، ونهداها فوق صدرها ولكنهما ضامران متهدلان.
قطعتا اللحم اللتان عذبتاني في طفولتي، اللتان تحددان مستقبل البنات وتشغلان عقول الرجال وعيونهم ...
ها هما تستقران تحت مشرطي يابستين مجعدتين كقطعتين من جلد الأحذية!
ما أضحل مستقبل البنات! وما أتفه ما يملأ عقول الرجال وعيونهم! والشعر الطويل الناعم الذي عذبتني أمي من أجله سنين طفولتي، تاج المرأة وعرش جمالها الذي تحمله فوق رأسها وتضيع نصف عمرها في تصفيفه وتنعيمه وصباغته؛ ها هو يستقر أمام عيني في جردل المشرحة إلى جوار عفونات الجسد وفتافيت الشحم المهملة! •••
أحسست بمرارة في حلقي، فقذفت بقطعة اللحم من فمي، ووضعت قطعة الخبز تحت أسناني، وحاولت أن أمضغ، لكن أسناني كانت تتحرك بصعوبة. حاولت أن أبلع، أحسست بقطعة الخبز وهي تحتك بجدار بلعومي وتسير في خشونة إلى معدتي، أحسست بمعدتي وهي تفرز أحماضها لتهضم الخبز، وأحسست بأمعائي وهي تنتفخ لتستقبل الأكل، وشعرت بشيء يجثم على صدري، وتبينته فعرفت أنه قلبي ينقبض وينبسط طاردا الدم إلى شراييني. وأحسست بالدم وهو يزحف في عروقي، وأحسست بالنبضات الخافتة التي تصنعها الشعيرات الدموية الدقيقة في أطرافي، وأحسست بالهواء وهو يدخل إلى أنفي ويجتاز حنجرتي ليملأ رئتي وينفخهما، ينفخهما كالبالونة، حتى توقف الهواء في صدري، وأحسست أنني أختنق؛ شفتاي لا تتحركان، وذراعاي لا تمتدان، وعضلات قلبي لا تنقبض، وعروقي لا تنبض بالدم!
آه، لقد مت!
وقفزت مفزوعة.
لا! لن أموت وأصبح جثة كهذه الجثث الممدودة أمامي فوق المناضد!
وألقيت المشرط من يدي وخرجت من المشرحة أعدو، ونظرت إلى الناس في دهشة وهم يسيرون في الشارع ويحركون أذرعهم وأرجلهم بلا تفكير، ويجرون وراء الأتوبيس بسهولة، ويفتحون أفواههم، ويحركون شفاههم، ويتكلمون، ويتنفسون، ويفعلون كل شيء بسهولة شديدة.
وعادت إلي السكينة.
إن الحياة لا تزال قائمة، وأنا لا زلت أعيش. وفتحت فمي عن آخره وملأت صدري بهواء الشارع وتنفست، وحركت ذراعي ورجلي وسرت وسط أمواج البشر.
آه، ما أيسر الحياة حين يمارسها الإنسان على سجيتها! •••
شيء كروي صغير، قطعة بيضاوية من اللحم ترتج تحت مشرطي، أمسكتها بيد واحدة ووضعتها في كفة الميزان.
تحسست سطحها بأصابعي؛ سطح أملس متعرج، كملمس مخ الأرنب الذي كنت أخرجه على المائدة من جمجمته الصغيرة.
هل يمكن أن يكون هذا مخ الإنسان؟ هل يمكن أن تكون هذه القطعة الطرية من اللحم هي عقل الإنسان الجبار الذي قهر الطبيعة، فدخل إلى باطن الأرض، وصعد إلى مدارات الشمس والقمر؟!
عقل الإنسان الذي استطاع أن يفتت الصخر، وينقل الجبال، ويخرج من ذرات الهواء نارا تكفي لتدمير الأرض؟!
وأمسكت المشرط وقطعت المخ إلى أجزاء، ثم قطعت الأجزاء إلى أجزاء، ونظرت وتحسست وبحثت ولم أجد شيئا؛ مجرد قطعة من اللحم الناعم التي تذوب تحت أصبعي.
ووضعت شريحة منها تحت الميكروسكوب ونظرت، ولم أر شيئا سوى خلايا مستديرة في داخلها نويات مستديرة أيضا كحبات العنب.
كيف تشتغل هذه الخلايا فتجعل الإنسان يعي ويفهم ويحس؟
وفتحت الكتاب، ونظرت إلى الرسومات التي تشرح عمل المخ.
ما هذا؟ كأنما هي رسومات جهاز معقد كالتليفزيون أو الطائرة أو الغواصة، أو كأنما هي خريطة العالم؛ مئات من المراكز الرئيسية والفرعية، مئات من المحطات، ملايين من الخطوط والأعصاب. وعرفت أن قطعة اللحم التي في يدي هي التي تدير كل هذا؛ إنها تتلقى الرسالات من جميع أعضاء الجسم، ثم ترسل إليها الأوامر، تحملها حبال من الأعصاب. كيف هذا؟ هذه القطعة من اللحم تعطي أوامر إلى القلب والذراعين والساقين؟
تقول للقلب: تحرك. وتقول للذراع: انخفضي، أو ارتفعي. وتقول للساق: امشي أو قفي؟ كيف تدير كل الشبكة المتشابكة من الأعصاب دون أن تصطدم واحدة بالأخرى؟
ما الذي يجعلها تفهم سر الرسالة التي ترسلها إليها العين أو الأنف أو الأذن أو اللسان أو أطراف الأصابع، دون أن تخلط بين واحدة وأخرى؟
ونظرت من خلال العدسات المكبرة إلى الخلية الصغيرة المستديرة، لا شيء فيها سوى كمية ضئيلة من البروتوبلازم!
كيف تدب الحياة في هذه الكمية الميتة من البروتوبلازم فتتحرك وتدرك وتفهم؟
وفتحت كتب الكيمياء والطبيعة والفسيولوجيا لأبحث عن هذا السر. الكيمياء تقول: إنها قد تكون بعض التفاعلات الكيميائية التي تغير من جزئيات المادة فتنشط وتتحرك. والطبيعة تقول: إنها قد تكون نوعا من الكهرباء التي قد تغير من ذرات المادة فتنطلق منها الحياة. والفسيولوجيا تقول: إنها انعكاسات وإفرازات.
أخذت أقرأ وأبحث وأقلب حتى حفظت تركيب الجهاز الذي اسمه الإنسان عن ظهر قلب.
حفظت أسماء الأعصاب كلها، وحفظت خط سيرها؛ من مركز إرسالها في المخ، إلى محطة استقبالها في العضو، وبالعكس. حفظت أسماء الشرايين والأوردة، وعرفت طولها وعرضها وملمس جدرانها. عرفت تركيب العظام والنخاع والدم. عرفت كيف آكل، وكيف أرى، وكيف أسمع، وكيف أشم، وكيف أنام، وكيف أحلم.
عرفت كيف يدق القلب، ولماذا تحمر الوجنة. وعرفت كيف أشعر بلسع النار، وكيف أبعد ذراعي عنها.
عرفت لماذا أعرق خجلا، ولماذا تبرد أطرافي خوفا.
القلب كالبيت؛ له حجرات، الحجرات لها جدران اسمها عضلات، ولها أبواب اسمها صمامات.
جدران الحجرة تنقبض فينفتح بابها ويطرد الدم خارجها، ثم تنبسط العضلات فتسحب الدم داخلها وينغلق الصمام. إن دقات القلب هي ذلك الحفيف الذي يحدثه الدم في دخوله وخروجه من حجرة إلى حجرة، وهي تلك الأصوات التي تحدثها الأبواب وهي تفتح وتغلق.
ولكن ما الذي يجعل عضلات القلب تفهم متى يجب أن تنقبض، ومتى يجب أن تنبسط؟ رسالة! برقية يحملها إليها عصب من الأعصاب، يتصل بمركز في الصدر يقود إلى مركز من مراكز المخ.
وكيف يصل الدم من الرئتين إلى القلب؟ وكيف يعود إلى الرئتين مرة أخرى لينقى ويصفى ويقطر مما علق به من غازات الإنسان الملوثة؟
كل هذا له نظام دقيق محكم، وكل تجويف في الجسم له غلاف خاص، وله ضغط ثابت معين حيث ينتقل الدم من وعاء إلى وعاء دون أن يتوقف لحظة واحدة. لماذا أشعر بلسع النار في أصبعي؟ لأن أعصاب الجلد الذي يغطي أصبعي أرسلت برقية، حملها عصب إلى مركز في المخ، ترجم الرسالة أنها ألم الحرق ، فأرسل برقية سريعة إلى عضلات ذراعي يأمرها أن تنقبض وتبعد أصبعي عن النار.
من منا كان يظن أن الرسائل والبرقيات تروح وتجيء بين الأصبع في نهاية الذراع أو القدم، وبين مركز المخ في قمة الرأس، في تلك اللحظة الخاطفة التي تنقضي بين إحساسنا بلسع النار وبين إبعادنا لذراعنا عنها؟
أنا لا أعرق خجلا إلا بعد أن تتم المفاوضات بين مركز المخ وبين غدة العرق، وتنتهي إلى أن يأمر المخ الغدة بأن تسكب دموعها.
إن أطرافي لا تبرد إلا بعد أن تصل برقية الخوف إلى المخ، فيصدر أمره إلى شعيرات الجلد أن تنكمش على نفسها لتهرب ما فيها من دماء استعدادا لما قد يصيبها من جراح.
عرفت كيف تنتقل الصورة من العين إلى المخ ليراها ويفهمها، ثم يبرق إلى العين يأمرها بالرؤية. عرفت كيف ينتقل الصوت من الأذن إلى المخ ليترجمه ويفهمه، ثم يأمر الأذن بالسماع. عرفت أن النبات الحي يصبح داخل نار الفرن خبزا ميتا، وأن الخبز الميت يتحول في جوف الإنسان الساخن إلى نسيج حي.
عرفت أنني حين أنام فإن جزءا من مخي يظل ساهرا يرعاني، ويرعى دقات قلبي، ويشرف على همسات أنفاسي، وينظم مناظر أحلامي. يرعاني ويحرص علي ألا أقع من فوق السرير، وأنا أمتطي صهوة الجواد صاعدة إلى السماء، أو حين أسقط من طبقات الجو وأغرق في شلالات المحيط. ويوقظني من قبل أن أبلل فراشي فزعا حين يغرز وحش الغابة أسنانه في جسدي.
وانفتح أمامي عالم واسع جديد، وشعرت بالرهبة أول الأمر، ولكني سرعان ما أوغلت فيه بنهم وقد استولى علي جنون المعرفة. كشف لي العلم سر الإنسان، وألغى تلك الفروق الهائلة التي حاولت أمي أن تضعها بيني وبين أخي.
أثبت لي العلم أن المرأة كالرجل، والرجل كالحيوان. المرأة لها قلب ومخ وأعصاب كالرجل تماما، والحيوان له قلب ومخ وأعصاب كالإنسان تماما، ليست هناك فروق جوهرية بين أحد منهم، وإنما هي فروق شكلية تتفق جميعا في الأصل والجوهر.
المرأة تحتوي في أعماقها على رجل، والرجل يخبئ في أعماقه امرأة. المرأة لها أعضاء الرجل، بعضها ظاهر وبعضها ضامر، والرجل تجري في دمائه هرمونات مؤنثة.
الإنسان يغلق قفص صدره على وحش غابة كاسر، والحيوان في داخله إنسان.
الإنسان له ذيل، ذيل قصير مبتور في فقرة صغيرة في مؤخرة عموده الفقري، والحيوان له قلب يدق وله دموع تسيل.
وفرحت بهذا العالم الجديد الذي يضع المرأة إلى جوار الرجل إلى جوار الحيوان.
فرحت بالعلم، وأحسست أنه إله قوي جبار عادل، يعرف أسرار كل شيء، فآمنت به واعتنقته. •••
لم أكن أرى منه إلا وجهه الصغير، وعينيه الكليلتين تبحثان في يأس عن ملامح تعبر عن الرحمة، وذراعيه الرفيعتين العاريتين ترتجفان من البرد، وقد اختفى جسده الصغير تحت أقراص معدنية صلبة، تخرج منها خراطيم طويلة من المطاط، تنتهي في آذان آدمية تشبه آذان الأرانب. وترفع السماعات لتكشف لحظة عن أجزاء من صدره العاري، ثم تهبط مكانها سماعات أخرى؛ تضغط على ضلوع الطفل الصغير، تهبط هي الأخرى تحت ثقل الأقراص المعدنية الصلبة، تلتف حولها أصابع آدمية؛ بعضها غليظ مفرطح، وبعضها ناعم طليت أظافره باللون الأحمر.
وسمعت صوت الأستاذ الطبيب يقول: تقدمي واسمعي دقات هذا القلب.
ودفعتني الأيادي المتزاحمة على الطفل المريض، ووقفت أنتظر والسماعة في أذني حتى تخلو مساحة صغيرة من الجسد النحيل، وارتفعت إحدى السماعات عن صدر الطفل فرأيت مكانها دائرة حمراء محفورة في الجلد المحتقن.
وترنحت السماعة في يدي لا أستطيع أن أضعها على الجسد الملتهب، وشعرت بيدي تهتز بلا وعي، ودفعتني في تلك اللحظة يد قوية، وجرفني الزحام بعيدا عن السرير، واستولى على مكاني طالب على عينيه نظارة سميكة، دس سماعته بسرعة كأنه لا يبصر الدائرة المحفورة على صدر الطفل!
آه!
انطلقت الأنة الضعيفة الواهية من بين شفتي الطفل اليابستين، ضاعت في الزحام الصاخب المتلاطم ولم يسمعها أحد.
وشعرت برغبة في الصراخ بأعلى صوتي، وأحسست بيدي تقاومان عقلي، وترغبان في الانطلاق من عقالهما، وتنهالان ضربا ولطما على هذه الأصابع القاسية الملتفة حول السماعات؛ تبعدانها عن صدر الطفل.
لكني لم أستطع، لم أفتح فمي ولم أحرك يدي. لا زال في رأسي عقل يقظ قوي يؤمن بالعلم، وإله العلم جبار لا يعرف الرحمة. •••
وقف أمامي بساقيه العاريتين المعوجتين يغطيهما الشعر الكثيف، ونظر إلي نظرة اعتراض وقال: هل أخلع السروال أيضا؟
ونظر إليه الأستاذ نظرة جامدة قاسية وقال آمرا: اخلع كل ملابسك! وتطلع المريض إلي في ذعر، وأمسك حزام سرواله في تردد وخوف. ولم يمهله الأستاذ، فاندفع نحوه وشد سرواله إلى أسفل، فأصبح الرجل أمامنا عاريا تماما.
ارتديت القفاز واقتربت منه، وتململ الرجل في خجل واستياء؛ كيف تعريه امرأة وتفحصه؟! وحاول أن يبتعد عني، لكن الأستاذ ناوله صفعة عنيفة على وجهه جعلته يستسلم لأصابعي الفاحصة كجثة ميتة.
إله العلم لا يعرف الرحمة ولا يعرف الحياء.
ما أقساه! وما أشد عذابي في محرابه!
وفقد الجسم الحي احترامه وهيبته؛ أصبح في نظري وتحت أصابعي كالميت سواء بسواء، وتفكك في عقلي إلى مجموعة من الأجهزة والأعضاء. •••
الليل بارد موحش، والظلمة ساكنة ميتة، والمستشفى الكبير بأنوار نوافذه قابع في السواد كضبع متوحش، وأنات المرضى وسعالهم الممزق يهتك ستائر الليل الداكنة. وأنا ... أنا أقف في نافذة حجرتي، وحيدة، أتأمل الزهرة البيضاء الصغيرة التي تتفتح إلى جواري في زهرية الورد، وألمسها بأصابعي، فينتفض كياني كأنني ميت يحس لأول مرة بملمس شيء حي. وأقرب أنفي منها أشم عبيرها، وأشعر كأني سجين مؤبد يضع أنفه بين أسلاك نافذته الحديدية ويشم عبير الحياة. وتحسست رقبتي، ولمست أصابعي ذراعي السماعة المعدنيتين وهما تلتفان حول رقبتي كحبل المشنقة، والبالطو الأبيض يجثم على جسدي وتفوح منه رائحة الكحول والأثير وصبغة اليود.
آه!
ماذا فعلت بنفسي؟!
ربطت حياتي بالمرض والألم والموت. أصبح عملي كل يوم هو أن أكشف أجساد الناس، وأرى عوراتها، وأتحسس أورامها، وأحلل إفرازاتها.
لم أعد أرى في الحياة إلا مرضى راقدين في الفراش، ذاهلين أو باكين أو غائبين عن الوعي، عيونهم كليلة صفراء أو حمراء، أطرافهم مشلولة أو مبتورة، أنفاسهم متقطعة، أصواتهم حشرجة أو أنين.
أيمكن أن أحتمل هذه الحياة إلى أمد طويل ... طول عمري ؟!
وشعرت بانقباض شديد يشبه الانقباض الذي يشعر به السجين المؤبد، حين تختفي بارقة الأمل في الإفراج.
وخرجت من حجرتي، وجلست في الصالة الكبيرة، وفتحت مجلة طبية وحاولت أن أقرأ، لكن أفكاري تسربت بالرغم عني إلى جناح الأطباء؛ حيث ينام زميلي الطبيب، وقد قسمنا نوبتجية الليل بيننا؛ هو ينام الست ساعات الأولى، وأنا الست ساعات الأخيرة.
فكرت من حيث لا أدري أنني أجلس وحدي في منتصف الليل مع رجل لا يفصلني عنه إلا باب حجرته المغلق.
جاءتني هذه الفكرة وأنا يقظة مفتوحة العينين كوهم من أوهام الليل؛ فشعرت بالخوف. لا، ليس الخوف، ولكن القلق. لا، ليس القلق، ولكن الرغبة. لا، ليست الرغبة، ولكنه شعور مزعج غريب أرغم عيني على اختلاس النظر إلى الباب المغلق من حين إلى حين. •••
دق جرس التليفون إلى جواري، وجاءني صوت الممرضة النوبتجية يدعوني إلى إغاثة مريضة.
انقضت لحظة خاطفة ووجدتني أقف في عنبر من عنابر المستشفى بجوار سرير أبيض ترقد عليه المريضة، وكانت عروسا شابة.
وضعت السماعة على صدرها وسمعت صوت دقات قلبها. كانت صمامات قلبها مثقلة بتلك الألياف والأنسجة التي تراكمت عليه بفعل الروماتزم، وأصبحت تحدث أصواتا نشازا لا تتفق مع ذلك النغم السابق الذي كنت أسمعه لدقات القلب السليم.
غلظت الصمامات وضاعت مرونتها، فعجزت عن أن تغلق حجرات القلب بإحكام، فأصبح الدم يتسرب منها في خرير يشبه خرير الساقية الخربة.
ونظرت إلى المرأة الشابة، ورأيت بريق الأمل في عينيها، وقالت لي في فرحة: ماذا أسميه؟ إنه أول ابن لي.
قلت لها وأنا أخفي عينيها بقناع التخدير: لا أدري، إننا لا نعرف بعد هل سيكون ولدا أم بنتا؟
ومرت لحظات، لحظات رهيبة، ورأيت شعر الطفل الأسود الناعم يطل من الظلام إلى النور، يحوطه فكا العلم المعدنيان الصلبان. ووضعت السماعة على قلب المرأة، إن قلبها يناضل ويئن، والدم يخر خريرا ضعيفا، والصمامات تصفق تصفيقا شديدا. ثم رأيت الطفل يندفع إلى الخارج بقوة ويصرخ صرخة عالية، وتهلل وجهي في فرحة ودهشة وأنا أرى الإنسان وهو يفتح عينيه الصغيرتين لأول مرة في حياته، ويرى العالم الواسع.
لكني أفقت بعد لحظة على سكون رهيب كسكون القبور؛ ضاع خرير الدم، وتوقفت الصمامات عن التصفيق، ونظرت إلى المرأة ...
كان وجهها صامتا باردا كتمثال من الجرانيت، وكان صدرها هامدا لا يعلو ولا يهبط كصندوق من الخشب!
ماذا حدث؟
لقد كانت منذ لحظات تتكلم وتتحرك وتتنفس؟
وأسرعت أستنجد بكل ما يعرفه الطب لانتشال حياة الإنسان من براثن الفناء.
حقنت في وريدها المحاليل والمنبهات، دفعت إلى أنفها الهواء والأكسجين، استعنت بالتنفس الصناعي لأحرك رئتيها، غرست في قلبها إبرة طويلة ليتحرك، فتحت صدرها وأخذت أدلك القلب لتعود إليه الحياة، نفخت في فمها ولطمتها على وجهها لتحس؛ كل شيء عاجز، عاجز عن أن يجعل هذا الجفن الصغير المغمض يرتفع عن العين مرة واحدة ... واحدة فقط.
وتأملت المولود الصغير وهو يرفس بقدميه بين يدي الممرضة ويبكي ويصرخ.
أليس هذا عجيبا؟ عجيبا جدا؟ أن تخرج هذه القطعة الإنسانية الحية من هذا الجسد الميت الجامد الراقد على هذه المنضدة المعدنية الباردة؟!
وأمسكت رأسي بيدي، وتهاويت على مقعد بجواري.
لماذا يعجز العلم؛ ذلك الإله الجبار الذي حنيت له رأسي؟ لماذا يعجز عن أن يفسر لي كيف تفسد صمامات القلب بفعل الروماتزم؟
كيف توقف قلب المرأة الشابة إلى الأبد؟ كيف ولد طفل حي من جسد امرأة تموت؟ كيف تدب تلك الشرارة الصغيرة من الحياة في المادة الميتة؟ كيف تندلع الحياة وكيف تنطفئ؟ من أي عالم يخرج الإنسان؟ وإلى أي عالم يذهب؟!
خرج الصراع الذي في أعماقي من نطاق الرجولة والأنوثة إلى الإنسانية جمعاء.
رأيت الإنسان تافها بالرغم من عضلاته وخلايا مخه وتعقيدات شرايينه وأعصابه.
ميكروب صغير لا يرى بالعين يدخل مع الهواء إلى أنفه، فيأكل خلايا رئتيه أكلا!
فيروس مجهول يصيبه من حيث لا يدري، فيجعل خلايا كبده أو طحاله، أو أي شيء آخر، تتكاثر بجنون وتلتهم كل ما حولها التهاما!
قطرة صغيرة لزجة تنتقل من إحدى لوزتيه في الحلق لتصل إلى قلبه فتشل حركته!
نقطة دم واحدة يصيبها التجلط في إحدى خلايا مخه، فيرقد في الفراش بلا حراك!
شكة إبرة رفيعة في أصغر أصبع من أصابعه تفقده السمع والبصر والكلام!
فقاعة صغيرة من الهواء تتسرب إلى دمه صدفة، فيصبح جثة هامدة كجثث الخيول والكلاب تتعفن وتتحلل!
هذا الإنسان المغرور الجبار، الذي لا يكف عن الحركة والضجيج والتفكير والابتكار، هذا الإنسان يحمله على الأرض جسد بينه وبين الفناء شعرة رفيعة جدا، إذا قطعت - ولا بد لها أن تقطع - فما من قوة في العالم تستطيع أن توصلها.
نزل العلم من فوق عرشه، ووقع أمامي صريعا عاريا عاجزا كما وقع الرجل من قبل.
وتلفت حولي حائرة قلقة.
لقد حطم العلم إيماني القديم ولم يهدني إلى إيمان جديد.
وأدركت أن طريق العقل الذي عاهدت نفسي أن أسلكه طريق ضحل قصير، في نهايته سد كبير.
وفتحت عيني. ترى ماذا أفعل؟
هل أعود أدراجي، أم أتكور إلى جوار هذا السد، وألتصق به، وأحتمي فيه؟ ولم يكن لي مجال للاختيار؛ فقد أسلمني التحدي والمقاومة إلى نوع من القوة والإرادة لم أستطع معهما أن أتكور إلى جوار شيء، أو ألتصق بشيء، أو أحتمي في شيء. فما بالك إذا كان هذا الشيء سدا كبيرا ليست له منافذ.
ووجدت قدمي تتجهان بي إلى طريق جديد.
3
حزمت متاعي القليل وركبت القطار ليحملني بعيدا عن المدينة، بعيدا عن أساتذة العلم ومعامله، بعيدا عن أمي وأهلي، بعيدا عن الرجال والنساء على السواء.
وفي إحدى القرى النائية الهادئة اتخذت لنفسي مسكنا صغيرا، جلست في شرفة بيت ريفي أنقل بصري من الحقول الخضراء الفسيحة الآمنة إلى السماء الزرقاء الصافية، وأشعة الشمس الدافئة تسقط على جسدي الممدود على الأريكة المريحة، وتمطيت وتثاءبت في تكاسل لذيذ.
لأول مرة أجلس وحيدة مع نفسي، وأحسست أنني أخلع عن نفسي كل أثوابها التي تراكمت عليها طوال السنين الماضية من حياتي. ووقفت نفسي أمامي عارية ... عارية تماما، وبدأت أتفقدها وأتحسسها، وأكشف عليها كشفا دقيقا.
لم أمسك المشرط في يدي، ولم أضع السماعة في أذني، ولكني تجردت من كل شيء؛ تجردت من علمي وطبي، وتجردت من السنين التي عشتها، من الناس الذين رأيتهم وعرفتهم، من الصراعات التي عاصرتني وأسلمتني إلى ذلك السد الهائل الذي وقف في طريق تفكيري.
وتجردت من تفكيري أيضا، وبدأت أحس، لأول مرة في حياتي أحس دون أن أفكر، أحس بوقع الشمس الدافئة على جسدي، أحس بتلك الخضرة الآمنة الجميلة التي تكسو الأرض، أحس بتلك الزرقة العميقة الفاتنة التي تغلف السماء.
لأول مرة في حياتي ألتقي بالطبيعة وجها بوجه، ولأول مرة أرى لها وجها جميلا ساحرا لا يفسده شيء؛ لا يفسده ضجيج المدينة الأجوف، ولا تفسده أنوثة المرأة الذليلة الأسيرة، ولا رجولة الرجل المغرورة المتغطرسة، ولا ثرثرة العلم القاصر العاجز.
أيقنت أن الطبيعة إله جبار جميل، يحاول الإنسان الضئيل المغرور أن يلبسه أثوابا رخيصة قبيحة لمجرد أن يرضي غروره، ويشعر أنه يفعل بعمره القصير شيئا ... أي شيء.
وأحسست أن قلبي يخفق، وأن خفقاته تملأ نفسي بشحنات غريبة من العواطف والمشاعر.
لأول مرة يخفق قلبي فأحس دون أن أفكر، دون أن يشتغل عقلي ويرسم عضلات القلب وشرايينه، ويزن كميات الدم التي تندفع منه.
أصبحت لخفقات قلبي لغة جديدة لا يستطيع أن يفسرها العلم أو الطب، لغة أفهمها بأحاسيسي الغضة البكر، ولا أستطيع أن أفهمها بعقلي المجرب العجوز.
أحسست أن العاطفة أكثر ذكاء من العقل، وأكثر رسوخا في قلب الإنسان، وأكثر اتصالا بتاريخه البعيد، وأكثر صدقا وتجاوبا مع طبيعته وبشريته.
وتمددت على الأريكة أكثر، فردت ساقي عن آخرها، فاستسلمت لعاطفتي الدافئة الجديدة تدغدغ جسدي.
وتنبهت ... ها هو جسدي الذي حكمت عليه يوما بالإعدام؛ جسد المرأة الأنثى الذي ذبحته ذبحا عند قدمي إله العلم والعقل. ها هو جسدي تدب فيه الحياة من جديد.
واكتشفت أنني ضيعت عمري الذي فات في صراع ليس له أرض، ضيعت طفولتي وصباي وفجر شبابي في عراك عنيف؛ ضد من؟ ضد نفسي، ضد إنسانيتي، ضد غريزتي.
من أجل ماذا؟ لا شيء. ها أنا ذي الآن أترك كل شيء وأبدأ من جديد؛ أبدأ من أول الحياة، أبدأ من الأرض البسيطة البدائية التي تنبت من تلقاء نفسها الحب والقمح، أبدأ من الطبيعة البكر التي تغلف الأرض منذ ملايين السنين، أبدأ من الإنسان الريفي الساذج الذي يأكل النباتات من الأرض، ويمارس غريزته تحت الشجر، ويأكل ويشرب، ويلد ويمرض ويموت دون أن يسأل لماذا أو كيف.
ابتسمت، ثم ضحكت، بصوت عال سمعته بأذني.
كانت الضحكة تتقلص على شفتي وتموت دون أن أسمع لها صوتا؛ فقد كانت أمي تقول لي دائما إن البنت يجب ألا تضحك بصوت عال يسمعه الناس.
وفتحت فمي عن آخره ورحت أضحك وأقهقه، ودخل الهواء إلى صدري؛ هواء نقي نظيف، ليس فيه دخان، وليس فيه كربون، وليس فيه علوم الطب، وليس فيه آداب المجتمع.
هواء لا يهمني تركيبه ولا مضمونه، ولكني أحس أنه هواء منعش يرطب جوفي الساخن.
واستسلمت لأشعة الشمس وتركتها تسقط على جسدي؛ أشعة نقية صافية، لا تشوهها تحاليل العلم إلى أشعة بنفسجية أو حمراء، حارقة أو غير حارقة.
وجاء الرجل الريفي الطيب الساذج يحمل صينية الأكل؛ فطير مشلتت، وقشدة، وزبدة، وبيض. وأكلت بشهية تشبه شهيتي وأنا طفلة قبل أن أبلغ التاسعة من عمري، نسيت تعاليم أمي عن كيف تأكل البنت، ونسيت تحذيرات الطب من القشدة والزبدة، وملأت فمي بالطعام على آخره. شربت الماء البارد من الكوز الفخاري بصوت عال، وسقط الماء من بين شفتي وبلل ملابسي.
أكلت حتى شبعت، وشربت حتى ارتويت، ثم تركت الأريكة الساخنة وتمددت على الأرض الرطبة. ووضعت وجهي على التراب، ورحت أشم باطن الأرض وأنتشي بذلك الإحساس الدفين؛ أنني من الأرض وإلى الأرض.
وهبت نسمة رقيقة رفعت الرداء عن ساقي، ولم يصبني ذلك الذعر القديم الذي كنت أحس به حينما تتعرى ساقي.
كيف استطاعت أمي أن ترسب في نفسي ذلك الإحساس البغيض بأن جسدي عورة؟ إن الإنسان يولد عاريا ويموت عاريا، وما تلك الأثواب التي يلبسها إلا زيف يحاول أن يغطي به حقيقته.
وتركت الهواء يرفع عني أرديتي، وأحسست في تلك اللحظة أنني ولدت من جديد وولدت معي عاطفتي، ولدت لتوها حقا ، ولكنها ولدت عملاقا جبارا يريد أن يعيش ويطالب بحقه في أن يعيش. •••
سمعت صوت طرق شديد على باب بيتي في منتصف الليل، ورأيت بعض الفلاحين يحملون رجلا عجوزا مريضا.
فتحت لهم بابي وارتديت معطفي الأبيض ووضعت السماعة على صدر المريض.
اختلط في أذني دقات القلب بصوت أنين، فرفعت عيني إليه، ورأيت عيني الرجل تتعلقان بعيني وتتشبثان بهما كغريق على وشك الموت يتطلع إلى طوق النجاة.
وكأنما نسيت الطب، كأنما لم أكشف على مريض قبل اليوم، كأنما أرى لأول مرة في حياتي عيني إنسان يتعذب، كأنما أسمع لأول مرة صوت الأنين.
كيف كنت أكشف على المرضى كل تلك السنوات التي مضت؟ كيف استطاع أساتذة الطب أن يوهموني أن المريض ليس إلا كبدا أو طحالا أو مجموعة من الأمعاء أو المصارين؟ كيف جعلوني أنظر في العيون فلا أرى نضارتها، وأصوب إليها كشافي الكهربي وأقلب جفونها بأصابعي؟ كيف جعلوني أفتح حلوق الناس وأنظر فيها ولا أسمع الأنين؟
وأحسست برجفة عنيفة تهز كياني.
لأول مرة في حياتي أحس أن المريض إنسان كامل، كل لا يتجزأ.
لأول مرة يجتاز صوت الأنين المسافة بين أذني وقلبي.
ووقفت أمام المريض كالمشدوهة، عيناي مشدودتان إلى عينيه، وأذناي مرهفتان تلتقطان همسات أنينه الخافت، وروحي خرساء ترقب مشهد عذاب الإنسانية العجيب، وعقلي صامت متوقف يستوعب معنى الحياة الجديد.
ووضعت يدي على قلبي، وأسندت رأسي إلى الحائط.
شيء في العينين الفاترتين اليائستين يجعل قلبي يتمزق، شيء في الأنين الخافت يجعل نفسي تخور، شيء غريب لم أعرفه من قبل، لم أحسه، لم أعانيه.
الألم؟! نعم الألم.
لأول مرة في حياتي أتألم؛ شعور أليم، ولكنه عميق ... عميق، نفذ إلى طبقات نفسي البعيدة حتى بلغ مجال اللذة.
تألمت ولكني شعرت بلذة الألم، شعرت بلذة إنسانيتي وهي تمارس إمكانياتها المعطلة وتستكشف أبعادها المجهولة.
وكأنما شرب كياني إحساسي باللذة عن آخره، وكأنما امتصت روحي إحساسي بالألم كله، فأحسست بدوار شديد وتهاويت على مقعد إلى جواري وأغمضت عيني ... و... وبكيت ... بكيت كما لم أبك أبدا، كأنما لم تعرف عيناي الدموع.
انهمرت دموعي الساخنة المكبوتة كسيل عاصف كاسح، وتركت العنان لدموعي، لم أحاول أن أقف في طريقها.
فلأبك كما تشاء عيوني، ولأغسل عقلي من ذلك الغبار الكثيف الذي تراكم عليه، ولأزح عن قلبي تلك الغشاوة المعتمة العازلة، ولأطلق سراح روحي من قلب تلك الزنزانة الحديدية القاتلة.
واستسلمت للألم.
وأفقت على صوت ... صوت ضعيف خائر، ولكنه صوت دافئ. سمعته يقول: لا تبكي يا دكتورة، أنا بخير.
وفتحت عيني ونظرت إليه، فرأيت على وجهه ابتسامة ... ابتسامة هادئة واهنة، ولكنها تحمل في ثناياها العطف والحنان.
كأنما هو الذي يحنو علي، كأنما هو الذي يريد أن يأخذ بيدي ويعطيني من عنده، كأنما هو الذي يملك العلم والصحة والقوة وأنا لا أملك شيئا، كأنما تضاءلت علة الجسد إلى جوار علة الروح، فأحس أنه الطبيب وأنا المريضة.
لم أكن أتخيل في تلك اللحظة التي فقدت فيها إيماني بالإنسان، وأيقنت أن فقاعة هواء أقوى منه ومن حياته، أنني سأعود أومن به من جديد!
لم أتخيل أنني أفقد إيماني بالإنسان وأنا وسط المدينة الباهرة بحضارتها ومبانيها وطائراتها وصواريخها، ثم أعود أومن به في كهف مظلم!
لم أتخيل أنني أفقد إيماني بالإنسان وأنا بين أساتذة الطب وأئمة العلم، ثم أعود فأومن به على يد رجل ريفي عجوز مريض، لا يملك إلا جلبابه وابتسامته!
ابتسامة صغيرة انفرجت عنها شفتان يابستان، ولكنها كانت تحمل في طياتها معنى الحياة بأسرها؛ ذلك المعنى الذي يضيع من الناس في الزحام، ذلك المعنى الذي يضل عنه العلم وسط ضجيج الآلات، ويقصر عن تفسيره العقل ... الحب.
حب الحياة بكل ما فيها من لذة وألم، من صحة ومرض، من مجهول ومعلوم، من بداية ونهاية.
الحب؟!
خفق قلبي للكلمة الجديدة، وسرت الرجفة في أوصالي، ودب الحنين في جسدي واندلع اللهيب في قلبي. •••
كيف يمكن لي أن أعيش الآن؟
أنا الطفلة المهتمة بعواطفي البكر، وأنا الطبيبة المجربة بعقلي العجوز؟
خمس وعشرون سنة مضت من عمري دون أن أشعر لحظة واحدة أنني امرأة! دون أن يخفق قلبي مرة واحدة لرجل! دون أن تمس شفتي تلك الأعجوبة التي اسمها القبلة! دون أن أعرف الفترة، تلك الفترة الملتهبة من عمر الإنسان؛ المراهقة.
ضاعت طفولتي في صراع ضد أمي وأخي ونفسي، والتهمت كتب العلم والطب مراهقتي وفجر شبابي، وها أنا ذي الآن طفلة في الخامسة والعشرين من عمرها، طفلة تريد أن تجري وتلعب وتنطلق وتحب. •••
حزمت متاعي القليل، وركبت القطار ليحملني بعيدا عن نفسي. لقد تعرفت عليها وعرفتها، ولم أعد بحاجة إلى أن ألتصق بها ذلك الالتصاق الشديد الذي يفصلني وإياه عن الحياة؛ الحياة التي التقطت جوهر معناها من تراب الأرض كما تلتقط الحمامة بمنقارها حبة القمح، الحياة التي أصبحت أحبها بكل خلية من كيان روحي وجسدي، وأحس برغبة عارمة في أن ألتصق بها التصاقا شديدا.
كيف لي بعد كل هذا أن أغلق نفسي داخل تلك العزلة الموحشة؟
كان لا بد أن أعود. وعدت، عدت إلى بيتي وأهلي وعملي وعيادتي، فتحت ذراعي للحياة وعانقت أمي، ولأول مرة أحس أنها أمي. وعانقت أبي، وفهمت معنى بنوتي. وعانقت أخي وعرفت شعور الأخوة و... وتلفت حولي أبحث عن شيء، شيء لا زال ينقصني، عن أحد لا زال غائبا عني. من هو؟
أعماقي تناديه، وروحي تهتف به. من هو؟ من؟! •••
حنين جارف عنيف يهز روحي وجسدي؛ حنين روح ظامئة للحب أطلق العقل سراحها، حنين جسد بكر انطلق لتوه من زنزانته الحديدية.
ترى ماذا يكون اللقاء بين المرأة والرجل؟!
الليل أصبح طويلا، والأوهام والخيالات تعشش كل ليلة حول سريري.
ذراع طويلة قوية تلتف حول خصري، ووجه رجل يقترب مني؛ له عينان تشبهان عيني أبي، وله شفتان تشبهان شفتي ابن عمي، ولكنه ليس أبي وليس ابن عمي.
ترى من يكون؟
أحاديث البنات في المدرسة تطفو على سطح ذاكرتي؛ التنهدات، الشهقات، أحلام المراهقات.
كأني لم أشرح جسد الرجل، كأني لم أعره، كأني لم أر قبحه وبشاعته.
هل نسيت؟ لا أدري، ولكني نسيت، وعاد إلى الجسد الحي سحره وغموضه. كيف نسيت؟! لعل أنوثتي خرجت من زنزانتها عنيفة جامحة طوحت في طريقها بكل ذكريات العقل، أو لعل حنين روحي الجارف نزع من مخيلتي صور الجسد القبيحة، أو لعل انتفاضة القلب القوية نفضت علوم الطب عن رأسي.
والصباح لم يعد يطلع، ودفء السرير أصبح لهيبا، وأوهام الليل لم يعد يبددها نور.
4
دق جرس التليفون بجوار رأسي، ففتحت نصف عيني ونظرت في الساعة، كانت الثانية صباحا. ورفعت السماعة في كسل، وجاءني صوت ملهوف يقول: أنقذي أمي من الموت يا دكتورة.
قفزت بسرعة من السرير الدافئ، وارتديت معطفي، وخطفت حقيبتي الصغيرة المعدة لحالات الإسعاف السريع، وركبت عربتي، وانطلقت إلى بيت المريضة.
وضعت السماعة على قلبها؛ فسمعت دقات ضعيفة خائرة، دقات قلب عجوز أصابه الوهن والشيخوخة، وقد أوشكت الحياة أن تفلت منه.
خلعت السماعة وتلفت حولي، وتنبهت إلى وجود رجل طويل واقف إلى جواري في عينيه نظرة قلق شديد.
وسألني: حالتها خطيرة يا دكتورة؟
وخرجت من الحجرة دون أن أرد عليه، فخرج ورائي. ووقفت في صالة البيت، فوقف أمامي وسألني مرة أخرى في لهفة شديدة: حالتها خطيرة يا دكتورة؟
وقلت له في هدوء: لا، ليست خطيرة، إنها تموت فقط.
وحملق في فزع ودهشة وقال: تموت؟ لا! لا يمكن!
وأمسك رأسه بيديه وتهاوى على مقعد إلى جواره وأخذ يبكي بصوت مكتوم.
انتظرته حتى فرغ من نشيجه ورفع عينيه إلي وقلت له: كل الناس يموتون. - ولكنها أمي يا دكتورة؟ - لقد أدركتها الشيخوخة، ومن غير الطبيعي ألا تموت.
وجفف عينيه، فمددت يدي لأصافحه وأنا أقول: دعها في حجرتها تودع حياتها في هدوء.
وغلبته دموعه مرة أخرى، ففتحت الباب وخرجت. •••
كنت أجلس في مكتبي وبين يدي كوب الينسون الدافئ الذي يصنعه التمورجي لي بمجرد أن يخرج من العيادة آخر مريض، وأصابعي المتعبة تلتف حول الكوب تلتمس من دفئه بعض الراحة والاسترخاء، ووجهي المرهق يقترب من البخار المتصاعد من الكوب لأشم الينسون الذي أحب رائحته أكثر من مذاقه؛ حين دخل التمورجي وأعلن عن وجود رجل يريد مقابلتي.
ودخل الرجل، وعرفته، فوقفت وصافحته وجلس أمامي، ولمحت الربطة السوداء حول عنقه فقلت له: البقية في حياتك.
قال وهو مطرق: أشكرك يا دكتورة.
وظل مطرقا لحظة طويلة، فأمسكت كوب الينسون وأخذت منه رشفة، ورفع عينيه ونظر إلى الكوب في استطلاع، فسألته: أتشرب كوبا من الينسون؟
ونظر إلي مندهشا وقال: ينسون؟
وضحكت لدهشته فابتسم وقال: جئت لأشكرك. - لم أفعل شيئا. - نزلت من بيتك في هذا الوقت المتأخر. - إنه واجب الطبيب. - قلت لي الحقيقة. - الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها. - إنه شيء مؤلم جدا.
ولم أرد ... ونظر إلي لحظة ثم قال: ألا تتألمين لمنظر الإنسان وهو يموت؟ - هذا هو أخف ألم في حياتي. - وما هو أقسى من الموت؟ - المرض الذي ليس له دواء، العجز الذي ليس له شفاء، التشويه الذي يصيب الإنسان في جسده أو عقله. - هل رأيت كل هذا؟ - هذه حياتي وحياة كل طبيب. - اعذريني يا دكتورة ... أنا لا أتعامل مع الإنسان الذي هو معرض للمرض والموت، إني أتعامل مع الصحة. - مهندس؟ - نعم.
وسكتنا لحظة ثم قلت له: أنت لم تعرف الألم. - أول مرة في حياتي أرى إنسانا يموت، وأول مرة في حياتي أبكي.
هذا شيء فظيع! إن الحياة قاسية، أشد قسوة من الصخر! - أنت لم تعرف الحياة بعد.
نظر في عيني وهم بأن يقول شيئا ولكنه لم يقل، وخيل إلي أني رأيت في عينيه نظرة غريبة.
لعلها نظرة احتياج وضعف فيها طفولة وسذاجة جعلتني أتحمس لعمل شيء من أجله.
ووقف ومد لي يده قائلا: أشكرك مرة أخرى يا دكتورة.
واستدار وسار إلى الباب، ولكنه لم يخرج والتفت ناحيتي، ولاحظت أنه يبذل مجهودا كبيرا كي يقول شيئا، وسمعته يقول: أريد أن أتحدث معك مرة أخرى، ولكن ...
وسكت لحظة ثم قال وهو ينظر بعيدا عني: أعرف أن وقتك ضيق، ولكن ...
ولم أرد، فقال متلعثما وهو يتفادى النظر إلي: هل يمكنني أن أراك مرة أخرى؟
وتأملت عينيه.
في عينيه نظرة تشغلني، ولكن ملامحه لا تقنعني. وهو لم ير الموت إلا موت أمه، ولم يعرف الألم والمرض.
أيمكن له أن يرضي هذا العقل العجوز المجرب؟ أيمكن له أن يثير هذه الطفلة النهمة المنطلقة بلا حدود؟
ولكنه أول رجل تقع عليه عيناي.
وقلت: يمكنك أن تراني مرة أخرى. •••
جلست إلى جواره على صخرة كبيرة من صخور الهرم، وامتدت نظراتي إلى الأفق البعيد، وأخذت أراقب قرص الشمس الأحمر وهو يتسلل من وراء السحب الرمادية الكثيفة، وسمعته يقول: فيم تفكرين يا دكتورة؟ - لماذا تناديني يا دكتورة دائما؟ - ألا تحبين هذا اللقب؟ - إنه يذكرني بالأنين والمرض. - إنه لقب ساحر، أحس وأنا أناديك به بالفخر. أنت أول طبيبة أعرفها. - حقا؟! - حين طلبتك في التليفون لتنقذي أمي لم أتصور أن صوتك صوت الطبيبة، وحين رأيتك تدخلين حجرة أمي لم أصدق أنك الدكتورة. - لماذا؟ - كنت أتصور أن الطبيبة لا بد أن تكون قبيحة أو عجوزا، ترتدي على عينيها نظارة بيضاء سميكة، وظهرها محني من كثرة القراءة والإجهاد. لم أتصور أن الطبيبة يمكن أن تكون امرأة جميلة. - لماذا؟ - من الصعب أن تجمع المرأة بين العقل والجمال. - لماذا؟ - لا أدري. - لأنهم يربون البنت الصغيرة منذ طفولتها على أنها جسم فقط، فتنشغل به طول حياتها، ولا تعرف أن لها عقلا أيضا يجب أن تنميه. - لماذا يفعلون ذلك؟ - لأن الرجل الذي يمسك بمقاليد الحياة لا يريد من المرأة إلا أن تكون حيوانا غبيا جميلا يرقد بين قدميه. - لماذا؟ - الرجل لا يريد أن تكون المرأة ندا أو شريكا له، ولكنه يريدها تابعا له أو خادما. وضحك وضحكت.
ورأيته يقترب مني ويقول: أنا لست هذا الرجل، أنا أريد من المرأة أن تكون شريكتي وليست خادمتي. إني فخور بعقلك، لا يمكن لك أن تتصوري مبلغ سعادتي حين أدخل عيادتك وأشهد بعيني ذلك العدد الكبير من النساء والرجال الذين ينتظرون أن تمنحيهم الصحة والشفاء، ويتلهفون على رأيك وخبرتك. هل يمكن لامرأة لها مثل عقلك أن تحبس في البيت لتطبخ؟
هل يمكن لامرأة لها مثل علمك وذكائك أن تنفق حياتها في إرضاع الأطفال مثل النساء الجاهلات، بل مثل القطط والكلاب؟ لا، مستحيل. إن هذا ظلم لك وللإنسانية جمعاء.
نفذت كلماته إلى أعماقي الثائرة فهدأتها، ودخلت إلى قلبي الحائر فطمأنته، وأحسست أن الصراع الذي كان بيني وبين الرجل يذوب حتى آخر قطرة فيه.
وأسندت رأسي المرهق إلى صخور الهرم في راحة واسترخاء. لماذا لم تقل أمي هذا الكلام؟ لماذا لم يعترف المجتمع بهذا المعنى؟
ها هو رجل يعترف به، ها هو رجل يعترف بعقل المرأة، ها هو رجل يقول إن المرأة كالرجل لها جسم ولها عقل، ها هو رجل يقول الكلام الذي تقوله أعماقي منذ فتحت عيني على الحياة!
ونظرت إليه، أحاول أن أرى من أين تخرج هذه الكلمات الناضجة العادلة؛ من أعماقه أم من حنجرته؟ ولم أستطع أن أرى شيئا؛ المسافة بين أعماقه وحنجرته لم تكن موجودة، لعلي لم أر له أعماقا، أو لعل قرص الشمس قد سقط في تلك الهاوية السحيقة التي يسقط فيها كل ليلة، فأخفت الظلال معالم الأشياء.
وأحسست بيديه الباردتين، فنظرت في وجهه؛ ابتسامته الهادئة المستسلمة تثير أمومتي، لكن نظراته الضعيفة المستجدية تخمد أنوثتي. لماذا؟ هل لأنه ضعيف، أضعف مني؟ أم لأنه لم يعرف الألم مثلما عرفت؟ أم لأن عينيه تفتقدان تلك القوة العميقة الخفية التي أريدها في الرجل؟ أم أنه لا تزال تجري في دمائي أنوثة امرأة الغاب الفجة التي تعشق الرجل الذي ينتصر عليها؟! ولكنه يرضي شيئا في؛ لعل ضعفه يؤكد لي قوتي، لعل نظرة الاحتياج في عينيه ترضي عقلي الذي يصر على التفوق.
قال لي وهو يبتسم: ماما كانت لها نفس هذه النظرة القوية، ولكن عينيها كانتا خضراوين.
خرجت كلمة ماما من تحت شاربه الكث شاذة منفرة جعلت ملامحه تبدو كملامح طفل صغير على شفته العليا حشرة سوداء ميتة.
وسمعته يقول: لماذا تنظرين إلي هكذا؟
وقلت له: كنت تحب أمك؟
اغرورقت عيناه بالدموع لحظة ثم قال: جدا.
ولم تهزني دموعه. وقال: بعد موتها أحسست أن الدنيا فرغت.
ثم سكت لحظة وقال: ولكني وجدتك، فشعرت أن الدنيا امتلأت من جديد. - شيء غريب! - ما هو الغريب؟ - أن تفرغ الدنيا في نظرك بعد موت شخص. - كانت أمي، وكنت أحبها حبا شديدا. كانت تفعل كل شيء من أجلي. وأنت؟ أما كنت تحبين أمك؟ - كنت أحبها، ولكنها لم تملأ حياتي قط. - ربما كنت تحبين أباك أكثر؟ - كنت أحبه كما أحب أمي. - من هو إذن الذي ملأ حياتك؟ - لم يكن شخصا. - ماذا كان؟ - لا أدري، لعلها لم تمتلئ أبدا، أو لعلي كنت أسعى إلى تحقيق شيء. - ما هو هذا الشيء؟ - لا أدري، لعلي أريد أن أعمل عملا عظيما. - علاج المرضى؟ - لعله أكبر من ذلك. ••• - هل ترغبين في العيش معي إلى الأبد؟
سألني وهو ينظر إلي نظرة طفل يتيم؛ فأثار أمومتي وإنسانيتي ورغبتي العنيفة في البذل والعطاء، وأحسست أن حاجته إلي تشدني إليه وتربطني به، ونظرت إليه في حنان.
فسألني مرة أخرى: هل ترغبين في الزواج مني؟
وارتطمت كلمة الزواج برأسي فقهقرت أفكاري إلى الوراء. حينما كنت طفلة ماذا كانت كلمة الزواج تعني لي؟ رجل له بطن كبيرة في داخله مائدة طعام، وقد ارتبطت في ذهني رائحة المطبخ برائحة الزوج، وكرهت اسم الزواج، وكرهت رائحة الأكل.
وسألته دون أن أدري: هل تحب الأكل؟
ونظر إلي مندهشا وقال: الأكل؟ - نعم. - ما هذا السؤال الغريب الآن؟ - الرجل يتزوج ليأكل. - من قال لك هذا؟ - كل الناس. - هذا خطأ. - لماذا لم تفكر في الزواج وأمك تعيش معك؟ - لم تكن أمي تصنع لي الأكل فقط، ولكنها كانت تمنحني كل ما أريد. - أنت تتزوج ليمنحك أحد كل ما تريد؟
قال: لا. وكأنه يقول: نعم.
الرجل العجوز على رأسه عمامة بيضاء كبيرة ينظر إليه نظرة احترام بالغة، ويستمع إليه، ولا يراني ولا يسمعني كأن وجودي تلاشى من أمام عينيه. في يده قلم وأمامه دفتر مسطر كبير. - كم المقدم يا سيدي البك؟ وكم المؤخر؟
ما هذه الألفاظ الكئيبة التي تخرج من بين شفتيه اليابستين؟ مقدم؟ مؤخر؟! هل هو الذي سيدفع لي ليتزوجني؟ هو الذي لا يملك ما يمنحني إياه؟
ولكن الرجل المعمم لا يعرف من منا الذي يملك. إنه يراه رجلا، ويراني امرأة، والرجل في نظره هو الذي يملك.
ونظرت إلى الشيخ في استعلاء وقلت له: اكتب لا شيء.
ونظر إلي الرجل في استنكار شديد؛ كيف تتكلم امرأة في حضرة الرجل!
وقال بلهجة العلماء: العقد يصبح باطلا.
وسألته: لماذا؟
قال: الشرع أمرنا بهذا.
قلت: أنت لا تعرف الشرع.
وقفز الرجل من مقعده، وقفزت عمامته من فوق رأسه، فأمسكها بكلتا يديه صائحا: أستغفر الله! أستغفر الله! •••
بلل الشيخ المعمم أصابعه بطرف لسانه وغمس القلم في الحبر، وبسمل وحوقل واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وشمر كمه الواسع ثم كتب قسيمتي الزواج، ومد لي يده بإحداهما وقال: وقعي بإمضائك هنا.
وقلت له في عناد: دعني أقرأها كلها أولا.
ونظر إلي في غيظ وترك لي الورقة أقرؤها.
ووقعت عيناي على كلمات غريبة تشبه الكلمات التي تكتب في عقود إيجار الشقة والدكاكين وقطع الأرض الزراعية! «إنه في يوم كذا ... بحضوري وعن يدي أنا فلان ... مأذون الجهة كذا ... التابعة لمحكمة كذا ... للأحوال الشخصية. تزوج فلان ... فلانة ... على صداق قدره كذا ... الحال منه مبلغ ... والمؤجل منه مبلغ ... زواجا شرعيا على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
بإيجاب وقبول شرعيين صادرين من الزوج المذكور، وذلك بعد تعريفهما المعرفة الشرعية، والتحقق من خلو الطرفين من كل مانع شرعي ونظامي، والتحقق أيضا أن الزوجة ليس لها معاش أو مرتب بالحكومة، وليس لها مال يزيد على مائتي جنيه بشهادة كل من فلان ... وفلان ...»
أمسكت الورقة بكلتا يدي لأمزقها، لكنه أخذها مني ورأيت في عينيه نظرة الضعف والاحتياج التي تجعلني أخجل من التمرد عليه وأترفع عن عصيانه، وقال في هدوء: إنه إجراء شكلي ليس إلا.
ووقعت باسمي على العقد. •••
وكأنما وقعت على شهادة وفاتي.
اسمي الذي تفتحت أذني على سماعه، وارتبط في عقلي الواعي والباطن بوجودي وكياني، أصبح ملغيا، ووضع اسمه على غلافي.
وجلست إلى جواره، أسمع الناس وهم ينادونني باسمي الجديد، فأنظر إليهم وإلى نفسي في دهشة شديدة كأنهم لا ينادون علي أنا، كأنني مت، وتقمصت روحي امرأة أخرى تشبهني وتحمل اسما غريبا.
عالمي الخاص؛ حجرة نومي لم تعد حجرتي وحدي، وسريري الذي لم يكن يشاركني فيه أحد، أصبح هو يشاركني فيه، كلما تقلبت أو تحركت ارتطمت يدي برأسه الخشن أو بذراعه أو ساقه اللزجة، وصوت أنفاسه إلى جواري يملأ الجو من حولي بالعويل. لا شيء يربطني بهذا الرجل وهو مغمض العينين، لا شيء أراه فيه إلا جثة هامدة كتلك الجثث التي رأيتها في المشرحة.
ولكن إذا ما فتح عينيه ونظر إلي بنظرته الضعيفة المستجدية التي تثير أمومتي وتخمد أنوثتي، أشعر أنه طفل صغير ولدته من صلب كياني في مكان وفي زمان لا أدري عنهما شيئا. ••• - أنا الرجل. - ما معنى أنك الرجل؟ - أنني صاحب السلطة. - أي سلطة؟ - سلطة هذا البيت بكل ما فيه حتى أنت.
بوادر التمرد تظهر عليه، شعوره بالضعف أمامي انقلب في أعماقه إلى رغبة في السيطرة علي. - لا أريد أن تخرجي كل يوم. - أنا أخرج للعبث؟! أنا أعمل. - لا أريد أن تكشفي على أجساد الرجال وتعريهم.
نقطة الضعف التي يرتكز عليها الرجل في محاولته السيطرة على المرأة؛ حمايتها من الرجال، غيرة الذكر على أنثاه. يدعي أنه يخاف عليها وهو يخاف على نفسه.
يدعي أنه يحميها ليستحوذ عليها ويغلق عليها أربعة جدران. - لسنا بحاجة إلى إيراد العيادة. - أنا لا أعمل من أجل المال. أنا أحب عملي. - يجب أن تتفرغي لزوجك وبيتك. - ماذا تعني؟ - أغلقي العيادة.
ظن أن عملي هو الذي يمنحني القوة التي تحول بينه وبين السيطرة علي، ظن أن تلك الجنيهات القليلة أو الكثيرة التي أكسبها كل شهر هي التي تجعلني شامخة، لم يعرف أن قوتي ليست لأني أعمل، وأن شموخي ليس لأن لي إيرادا خاصا، ولكن لأني لا أشعر نحوه باحتياج نفسي كذلك الذي يشعر به نحوي، لأنني لم أشعر باحتياج لأمي أو أبي أو أي أحد، لأنني لا أنتمي إلى أحد، وهو كان ينتمي إلى أمه ثم أصبح ينتمي إلي.
ولكنه يرى نفسه رجلا، فيه ملامح الرجل؛ صوته غليظ، وشاربه كثيف، الرجال يعملون حسابه، والنساء يختلسن النظر إلى شاربه، والعيال في الشوارع والحواري لا يستطيعون التعليق عليه بالألفاظ النابية أو قذفه بالحجارة. ••• - أغلقي العيادة. - والمرضى؟ والإنسانية التي ستظلم؟ - هناك أطباء غيرك. - ومستقبلي في الطب؟ وعلمي الذي دفعت فيه نصف حياتي؟ - حياتك هي أنا. - والكلام الذي قلته لي؟ - لم أكن أعرف.
فتحت عيني ونظرت إليه؛ عيناه باهتتان ضحلتان، وكفه قاسية غليظة، أغلظ مما كنت أتصور، وأصابعه غبية قصيرة، أقصر مما كنت أتخيل. من هذا الرجل الغريب الذي إلى جواري؟
ما هذا الكتلة البشرية التي اسمها زوجي؟
واقترب مني وأمسك يدي، وهمس في أذني، وقرب وجهه من وجهي. حاولت أن أنسى نظرة عينيه المتغطرسة، حاولت أن أنسى كلماته المتناقضة، حاولت أن أكذب أذني، حاولت أن أكذب عيني، حاولت ... حاولت ... ولكن هيهات، ذاكرتي صاحية واعية تذكر كل كلمة وكل حرف، وعقلي يقظ ... يقظ ... يشدني إلى صور من واقعه الكئيب، وعيناي مفتوحتان تريان أسنانه وأذنيه، وكانت أذناه كبيرتين مفلطحتين كأذني الأرنب.
وابتعدت عنه، لكنه حوطني بذراعيه اللزجتين هامسا في أذني بصوت مبحوح كئيب، وأبعدته عني في ضيق وقلت له في غضب: لماذا كذبت علي؟ - كنت أريد أن أمتلكك. - مستحيل! أنا لست قطعة أرض! - بيدي أنا الأمر! أنا الزوج!
ضاعت من عينيه نظرة الضعف والاحتياج، فانقطع الخيط الذي كان يربطني به، وبرزت من قاع عينيه الضحلتين نظرة قاسية متغطرسة، ليست هي نظرة الرجل القوي، ولكنها نظرة الرجل الضعيف حين يشعر بعقدة النقص، عقدة الرجل الذي يرى نفسه الطرف الأقوى بين الناس في الشارع، ثم يشعر أنه الطرف الأضعف بين جدران بيته. •••
وجلست في عيادتي ووضعت رأسي بين يدي واعترفت بيني وبين نفسي بالخطأ. نعم لقد أخطأت، صدقت كلام الرجل في الظلام دون أن أرى أعماقه، غرتني نظرة الضعف والاحتياج ولم أعرف أن الإنسان الضعيف يخفي تحت جلده عددا من العقد والصفات الدنيئة التي يترفع عنها الإنسان القوي. نعم لقد أخطأت، عصيت قلبي وعقلي وطاوعت الرجل ووقعت على عقد الزواج الذي يشبه عقود الشقق والدكاكين.
ألم أجعله بهذا العقد الغريب صاحب السلطة علي؟
ألم يجعله هذا العقد زوجي؟
هذه الكلمة التي لم أنطقها أبدا! زوجي! ما تعني لي كلمة زوجي؟
هذا الجسد السميك الذي يحتل نصف السرير، هذا الفم الواسع الذي يأكل ويأكل، هاتان القدمان المفلطحتان اللتان تلوثان الجوارب والملاءات، هذا الأنف الغليظ الذي يؤرقني طول الليل بالشخير والصفير.
ولكن ماذا أفعل الآن؟ هل أحمل على كاهلي وزر خطئي وأعيش معه إلى الأبد؟
ولكن كيف أعيش معه؟ كيف أتحدث إليه؟ كيف أنظر في عينيه؟ كيف أترك له شفتي؟ كيف أمتهن روحي وجسدي معه؟
لا، لا، إن الخطأ الذي وقعت فيه لا يساوي كل هذا العقاب ... لا يساويه!
كل الناس تخطئ، الحياة تشتمل على الخطأ والصواب، بل إننا لا نعرف الصواب إلا من خلال الخطأ. ليس في الخطأ ضعف أو غباء، ولكن الاستمرار في الخطأ هو الضعف، هو الغباء ... •••
الناس يفتحون أفواههم في دهشة واحتجاج: كيف تركت زوجها؟ ولماذا؟
ما أجرأهم!
هؤلاء الناس الذين يسلمون لي أجسادهم وأرواحهم فأنقذها من الهلاك والموت، كيف لهم أن يحتجوا على شيء خاص بي؟ بل كيف لهم أن يبدوا لي الرأي؟ أنا التي أشير عليهم بما يأكلون وبما يشربون، وأشرح لهم كيف يتنفسون، وكيف ينامون، وكيف يعيشون، وكيف يتكاثرون ...
هل نسوا؟ أم إنهم يظنون أنني حين أخلع سماعتي ومعطفي الأبيض أخلع معهما عقلي وذكائي وشخصيتي؟
ما أجهلهم!
لقد ضيعت أمي طفولتي، والتهم العلم صباي وفجر شبابي، ولم يبق لي من شبابي إلا سنوات تعد على الأصابع، لن أضيعها! ولن أدع أحدا يضيعها.
5
عالمي الصغير الذي كنت أبنيه من الكراسي والعرائس وأنا طفلة صغيرة أصبح حقيقة واقعة، في جيبي مفتاحه السحري العجيب، أدخل متى شئت وأخرج متى شئت بلا إذن من أحد. أنام في سرير وحدي بلا زوج، أتقلب كما أشاء من اليمين إلى الشمال، ومن الشمال إلى اليمين، وأتمرغ كما يحلو لي.
أجلس على مكتبي لأكتب أو أقرأ، أو لأتأمل وأفكر، أو لا أتأمل ولا أفكر ولا أفعل شيئا على الإطلاق.
أنا حرة، حرة تماما في عالمي هذا الصغير، أغلق علي بابي وأخلع عني حياتي المزيفة مع الناس، وأخلع معها حذائي وأتجرد من ملابسي وأتجول في بيتي كما أشاء.
أنا وحدي ... وحدي تماما ... في بيتي، لا أسمع أصواتا ولا أنفاسا، ولا أرى وجوها ولا أجسادا.
لأول مرة في حياتي ينزاح عن قلبي عبء ثقيل؛ عبء العيش في بيت يشاركني فيه أحد. •••
فتحت عيني في منتصف الليل على دقات قلبي تدب في صدري دبيب جيش مفلول، وأنفاسي تصر تحت ضلوعي صرير ساقية خربة، وعيناي مفتوحتان ولا تريان إلا سوادا، وأذناي تطنان في سكون رهيب ميت، وشعرت بالخوف، كأنما خفت أن يتوقف قلبي عن الدبيب، وتختنق أنفاسي مع الصرير، ويطفئ الظلام نور عيني، ويضيع سمعي في الطنين.
وحملقت في الظلام أمتحن بصري، وأرهفت أذني في السكون أختبر سمعي، ورأيت كتلة السواد الكبيرة تتمزق إلى كتلة صغيرة، لها رءوس ولها قرون ولها أذناب، ودبت الأصوات في السكوت الميت؛ بعضها همس، وبعضها حفيف، وبعضها عويل.
وأخفيت رأسي تحت الغطاء لأسد عيني وأذني، وتلاشت الأشباح والأصوات، وهدأ الدبيب في صدري وضاع الصرير، وسرى دفء الفراش في أطرافي وأوصالي، فتثاءبت في استرخاء ومددت ذراعي أتحسس النوم، لكن النوم لم يكن هناك. وعانقت ذراعي شيئا آخر، له عينان تشبهان عيني أبي ولكنه ليس أبي، وله شفتان تشبهان شفتي ابن عمي ولكنه ليس ابن عمي. ترى من هو؟ من؟
وبدأ الطيف الذي أرق ليالي صباي يزورني، والليل عاد طويلا، والسرير أصبح واسعا، والوحدة لم تعد ساحرة. •••
أين أجده؟
كيف أعثر عليه في هذا العالم الواسع المزدحم؟
هذا الطيف الذي تعرفه أعماقي، هذا الرجل الذي يعيش في خيالي ويتربع.
أعرف نظرة عينيه، وأعرف نبرة صوته، وأعرف شكل أصابعه، وأعرف دفء أنفاسه، وأعرف أعماق عقله وقلبه ... أعرف ... أعرف ... أعرف ... كيف أعرف؟ لا أدري! ولكني أعرف.
ترى هل له وجود في الحياة أم ليس له وجود على الإطلاق؟
ترى هل سألقاه يوما أم سأظل أنتظره إلى الأبد؟
وهذا العملاق الراقد في أعماقي؟ ماذا أفعل به؟ هل أتركه يعيش في حرمان إلى الأبد، أم أحاول أن أرضيه؟ ولكن كيف أرضيه وهو يفضل أن يعيش في حرمان كامل دائم على أن يرضى إرضاء مزيفا أو ناقصا. نعم، أريد رجلا كاملا كما في خيالي، وأريد حبا كاملا كما في أعماقي، ولن أتنازل عن شيء مما أريد مهما طال بي الحرمان. الكل أو لا شيء، هذا هو مبدئي، لن أقبل أنصاف الأشياء أبدا.
قررت أن أبحث عنه في كل مكان؛ في القصور وفي الكهوف، في الملاهي وفي الأديرة، في معامل العلم وفي معابد الفن، في الأضواء الساطعة وفي الظلام الدامس، في القمم الشاهقة وفي الحفر المنخفضة المغمورة، في المدن العامرة وفي الغابات المهجورة الموحشة ...
لماذا ينظر الناس إلي في دهشة؟ ما الذي يدهشهم هؤلاء الناس؟
ألم يكفهم ما ضاع من عمري؟ وماذا هم يريدون؟ أيريدون مني أن أضع يدي على خدي وأنتظر في عقر داري حتى يأتي أي رجل من أي شارع ويشتريني كما تشترى البقرة.
أليس من حقي الطبيعي في الحياة أن أختار رجلي؟
وكيف أختاره؟
ومن بين الناس، أم من بين صور الكتب، أم أختار الرجل الواحد الذي يختارني؟
أليس من الضروري أن أبحث عنه بين الرجال؟ وكيف أبحث عنه إذا لم أنتقل هنا وهناك أنظر في وجوه الرجال وعيونهم، وأسمع أصواتهم وأنفاسهم، وألمس أصابعهم وشواربهم، وأكشف عن أعماق قلوبهم وعقولهم؟ وهل يمكن لي أن أعرف رجلي في الظلام أو من وراء الشيش أو من على بعد كيلومتر؟
أليس من الضروري أن أراه في النور؟ وأختبره وأعرفه؟
أليس من الضروري أن تسبق التجربة المعرفة؟ أم إنهم يريدون مني أن أقع في الخطأ مرة أخرى؟
كان لا مفر لي من أن أخوض التجربة، أخطر تجربة في حياة المرأة؛ تجربة اختيار الرجل، تجربة البحث عن الحب. •••
لم أكن أرى منه إلا عينيه؛ كانت ملامح وجهه تختفي دائما تحت قناع الوقاية الأبيض، وأصابع يديه تختفي تحت القفاز الجلدي المعقم، وملامح جسمه تختفي تحت رداء العمليات الواسع، وقدماه تختفيان في حذاء كبير له رقبة طويلة، وأنفاسه تختفي في أنفاس جهاز التخدير الذي يملأ الحجرة برائحة الأثير.
رأيته ينظر إلي خلسة، ولم يكن معنا في الحجرة إلا رجل واحد فاقد الوعي من أثر المخدر، يرقد على منضدة العمليات مغمض العينين وقد ظهرت أمعاؤه من فتحة كبيرة في بطنه.
لماذا يختلس النظرات؟ ممن يخاف؟ من هذا الرجل الغائب عن الوعي، أم مني، أم من نفسه؟ أم إنه تعود على أن يخاف وعلى أن يختلس النظر؟
وسمعته يقول: لماذا أنت سارحة؟ فيم تفكرين؟ - في الرجل. - أي رجل؟ - هذا الرجل الذي فتحنا بطنه.
وضحك، ولم أر شفتيه أو أسنانه من تحت القناع الأبيض، ولكني سمعت ضحكته؛ ضحكة قصيرة تنم عن السخرية.
وسكت، وأخذ يعبث بأصابعه في بطن الرجل باحثا عن المصران الغليظ، وقال بعد لحظة وهو يمسك المصران بالملقط: لا فائدة من بتره؛ لقد أكله السرطان وانتشر في الغشاء البريتوني. ونظرت إلى وجه الرجل النائم وأحسست بسكين حاد يمزق صدري، فأطرقت إلى الأرض لأبتلع دموعي في صمت.
وسمعته يضحك ويقول: ألم تتعودي بعد على هذه الآلام؟ - أنا لا أتعود أبدا على هذه الآلام.
ونظر إلي وسكت. وبدأنا نغلق بطن المريض في صمت، وفجأة سمعته يقول: هل تعرفين فيم أفكر؟ - لا. - أفكر فيك.
ضغط على حروف الكلمات وثبت عينيه، فلم أطرق إلى الأرض ودققت النظر في عينيه. •••
نظر إلي نظرة طويلة حاول أن يودع فيها كل معاني الرغبة للمرأة.
وقال: المرأة بعد أن تتزوج تصبح أكثر حرية من الفتاة العذراء.
ونظرت إليه في غضب قائلة: إن حريتي لا أستمدها من خلايا ضعيفة من خلايا جسدي، وإن قيودي لا تنبع من خوف على عذرية واهية تمزقها خبطة عشواء وتوصلها غرز العلم. قيودي أضعها بنفسي حين أريد القيود، وحريتي أمارسها بإرادتي كما أفهم الحرية.
ونظر إلي نظرة خبيثة وقال: ولماذا إذا تخافين؟ - من أي شيء؟ - مني؟ - أنت؟!
ما الذي يريده مني؟ أو ما الذي أريده منه؟ لا أدري، ولكني أريد أن أعرف شيئا؛ عن الرجل، أو عن نفسي؛ شيئا لا زال غامضا. •••
حملتني قدمان ثابتتان إلى باب بيته، وضغطت يدي الواثقة على الجرس. وابتسم ابتسامة عريضة تنم عن الرضى والانتصار، وقال: كنت أظن أنك لن تأتي. - لماذا؟ - كنت أظن أنك لا تثقين في بعد. - أنا لا أثق فيك بعد.
وجلست. فجأة جلس إلى جواري حتى كادت ساقه تلمس ساقي، فقمت وجلست أمامه.
قال وعلى وجهه ابتسامة ماكرة: لما لا تجلسين إلى جواري؟
قلت وأنا أنظر مباشرة إلى عينيه: أفضل أن أجلس أمامك. - لماذا؟ - لأرى عينيك.
وسكت وضبطت نظراته وهي تهرب بعيدا عن عيني، وفكر لحظة ثم نهض ودخل إلى إحدى الغرف وعاد ومعه زجاجة طويلة وأفرغ كأسا.
قلت له: ما هذا؟
قال: إن عقلك حاد كالسيف!
ونظر إلى ساقي في شراهة وقال: أريد أن أتخلص من عقلك هذا!
عقلي حاد كالسيف! يريد أن يتخلص من عقلي! لماذا؟! هل هي معركة؟ ما الذي يريده هذا الرجل؟
ورأيته يبتسم ابتسامة غريبة، ودققت النظر إلى ابتسامته فشعرت أنه يستعد لمعركة يريد أن يكون هو الفائز فيها.
معركة الرجل المرأة؛ تلك المعركة المزيفة العجيبة.
تقف المرأة فيها أمام الرجل وحدها، ويقف الرجل فيها أمام المرأة ومن ورائه متاريس من التقاليد والقوانين والأديان، وسدود من التاريخ والأحقاب والأجيال، وصفوف من الرجال والنساء والأطفال، يحملون ألسنة ممدودة حادة كأسنان السيوف، ويصوبون عيونا مفتوحة كفوهات البنادق، ويفتحون أفواها واسعة كالمدافع الرشاشة.
يقف الرجل أمام المرأة مستندا بظهره إلى العالم، يقبض بيده على صولجان الحياة، يملك الماضي والحاضر والمستقبل، يملك الشرف والكرامة والأخلاق وأوسمة معاركه مع النساء، يملك الدين والدنيا، بل يملك تلك النطفة الصغيرة التي قد تنبت في أحشاء المرأة عقب العراك؛ يعترف بها أو لا يعترف، يمنحها اسمه وشرفه أو لا يمنح، يحكم عليها بالحياة أو يحكم عليها بالإعدام.
وتقف المرأة أمام الرجل وقد سلبها العالم حريتها وشرفها واسمها وكرامتها وطبيعتها وإرادتها، سلبها الدين والدنيا، بل سلبها تلك الثمرة الصغيرة التي تصنعها في أعماقها بدمائها وخلاياها وذرات عقلها وقلبها.
ورأيته يبتسم مرة أخرى.
لماذا تبتسم هكذا يا رجل؟ هل يمكن أن تسمي هذه معركة؟
واقترب مني ولفحت أنفاسه الساخنة وجهي وابتعدت، فجاء ورائي زاحفا على قدميه ويديه، فوقفت وابتعدت.
ما هذا؟ لماذا ينهار الرجل هكذا أمام رغبته؟ لماذا تتلاشى إرادته بمجرد أن يغلق عليه باب مع امرأة، فيرتد حيوانا أعجم يمشي على أربع؟ أين قوته؟ أين عضلاته؟ أين سيطرته وزعامته؟
ألا ما أضعف الرجل! لماذا كانت أمي تصنع منه إلها؟
ونظرت إليه؛ إلى عينيه، وإلى أصابع يديه وقدميه، سلطت عليه كشافي الكهربي ودققت النظر إلى أعماق عقله وقلبه، فرأيت أعماقا خاوية جائعة، ورأيت عقلا هزيلا، وقلبا مزيفا.
وعرفت لماذا أراد أن يتخلص من عقلي. أحسست أنه لص يريد أن يختلس شيئا من وراء عقلي.
ونظرت إليه في ترفع وإشفاق. أشفقت عليه فانسحبت من المعركة ترفعا مني من منازلة شخص أضعف مني.
أحسست أنني أقوى منه، بالرغم مما يجر وراءه من متاريس، وبالرغم مما يحوط نفسه به من سدود، وبالرغم مما يدعم نفسه من أسلحة. شعرت أنني لست بحاجة إلى متاريس أو سدود أو أسلحة، فإن قوتي في أعماقي، في ذاتي.
لو أغلقت علي أربعة جدران عالية مع رجل لا أريد أن أعطيه لمسة واحدة من يدي، فلن أعطيه. وإذا أردت أن أعطي الرجل نفسي، فسوف أعطيها له أمام العالم دون تلصص أو اختلاس.
إن إرادتي هي التي تحكمني، وليس المكان أو الزمان أو الناس.
ورأيته يقترب مني مرة أخرى، ووضع يده على يدي، فشعرت ببرودة الجليد تزحف على روحي.
لا شيء يجدي أيها الرجل فأبعد يدك الغريبة عني، إن قلبي يقنع عقلي، وعقلي يقنع جسدي، ولا سبيل لإقناع أحدهم إلا عن طريق إقناع الآخر.
وأمسكت حقيبتي ووقفت.
وسألني في دهشة: هل تذهبين؟
قلت: نعم.
قال في دهشة شديدة: لماذا؟
ماذا أقول له؟ لماذا لا يفهم؟ هل يمكن له أن يصدق؟
هل يمكن لرجل أن يصدق أن هناك امرأة تستطيع أن تنفذ إلى داخله وتكتشف أعماقه؟ هل يمكن له أن يصدق أن هناك امرأة تستطيع أن تخضع جسدها لقلبها وعقلها؟
أن ينظر في عينها ولا ترمش؟ أن يمسك يدها ولا تهتز؟ أن يغلق عليها معه أربعة جدران فلا تعطيه شيئا وتتركه وتمضي قائلة: لا، لست الرجل الذي أريده؟
هل يمكن لرجل أن يدرك أن هناك امرأة يمكن لها أن تفحصه وتختبره، ثم يسقط في الاختبار؟
لا، لقد تعود الرجل على أنه هو وحده الذي يفحص المرأة ويختبرها، هو وحده الذي له حق الاختبار والاختيار.
أما المرأة فليس لها إلا تقبل الرجل الذي يختارها؛ رجل واحد أوحد، ويعيش حياته كلها يقنع نفسه أنه هو هذا الواحد الأوحد.
أليست المرأة مثل الرجل أيها الطبيب العبقري الفذ؟ هل نسيت العلم، أم إن عقلك منفصل عن جسدك؟
ولكن الغرور يصنع من الرجل مخلوقا غبيا. •••
المجتمع يرشقني بنظرات حادة كالخناجر، ويمد في وجهي ألسنة سليطة حامية مثل كرابيج الخيول.
كيف تعيش امرأة وحدها بلا رجل؟ لماذا تخرج؟ لماذا تدخل؟ لماذا تبتسم؟ لما تتنفس؟ لماذا تستنشق الهواء؟ لماذا تتأمل القمر؟ لماذا ترفع رأسها؟ لماذا تفتح عينيها؟ لماذا تدب على الأرض في تشامخ وثقة؟ ألا تخجل؟ ألا تحتمي في رجل؟
هاجمني الأهل والأقارب، وتبارى في قذفي الأصدقاء والأحباء، ووقفت في مهب الرياح أفكر.
منذ طفولتي وأنا أخوض سلسلة من المعارك لا تنتهي، وها أنا ذي الآن إزاء معركة جديدة؛ معركة مع المجتمع، المجتمع الكبير؛ ملايين الناس ومن أمامهم ومن خلفهم ملايين الملايين.
لماذا لا تسير الأمور في الحياة كما ينبغي لها أن تسير؟ لماذا لا يكون هناك إدراك وفهم للحقيقة وعدالة؟ لماذا لا تعترف الأمهات بأن البنت كالولد؟ لماذا لا يعترف الرجل بأن المرأة ند وشريك؟ لماذا لا يعترف المجتمع بحق المرأة في ممارسة الحياة الطبيعية كعقل وجسم؟
لماذا يضيعون عمري في هذه المعارك؟
وضعت رأسي بين يدي وجلست أفكر؛ هل أخوض المعركة مع المجتمع الكبير، أم أخضع له وأنساق وراءه وأحني له رأسي وأغلق على نفسي جدران بيتي وأحتمي في رجل ككل النساء؟
لا، مستحيل! لن أخضع للمجتمع، ولن أنساق وراءه، ولن أحني له رأسي، ولن أحتمي في رجل!
سأخوض المعركة وسأحتمي في نفسي، في ذاتي، في قوتي، في عملي، في نجاحي. •••
تركت كل شيء؛ تركت الأهل والأصدقاء، تركت الرجال والنساء، تركت الطعام والشراب، تركت النوم والأحلام، تركت القمر والنجوم، تركت الهواء والماء، وارتديت معطفي الأبيض وعلقت السماعة في رقبتي ووقفت في عيادتي.
قررت أن أناضل، أن أكافح، أن أعرق وأغرق في عرقي. قررت أن أقف أمام المجتمع على قدمين من حديد. •••
دخلت علي عيادتي وجسمها الصغير يرتعد من الهلع، وملامحها البريئة الطفلة تلهث وتتلفت خلفها في فزع، ونظراتها الحائرة المستغيثة تتطلع إلى عيني في استجداء واسترحام.
سألتها: ماذا بك يا طفلتي الصغيرة؟
فارتجفت كالمحمومة وأجهشت بالبكاء، واستطعت أن ألتقط من بين شفتيها المرتجفتين بضع كلمات ممزقة مبتورة.
خدعني ... ذئب ... الصعيد ... سيقتلونني ... ليس لي أحد ... أنقذيني ... يا دكتورة!
لم يكن معها منديل فأعطيتها منديلي، وانتظرتها حتى أفرغت كل ما في قلبها الصغير من دموع، وجففت عينيها وتشبثت نظراتها الفزعة بشفتي تتلهف على تلك الكلمة الصغيرة التي سأنطق بها، فأمنحها الحياة أو أحكم عليها بالموت.
ونظرت إليها؛ كانت طفلة تبلغ الرابعة أو الخامسة عشرة لا تزيد، وكانت بريئة طاهرة ضعيفة بلا معين ولا نصير، ولم يكن لي مجال للاختيار.
كيف يمكن لي أن أتخلى عنها وليس لها أحد سواي؟! كيف يمكن لي أن أحكم عليها بالإعدام وأنا أومن ببراءتها واستحقاقها الحياة؟! كيف أترك رقبتها تحت سكين أبيها وأنا أعلم أن أباها وأمها وأخاها وعمها هم أصحاب الخطيئة؟! كيف أعاقبها وحدها وأنا أعلم أن المجتمع كله مشترك في الجريمة؟! كيف أعجب لوقوعها في الخطأ وأنا أعلم أن كل الناس يخطئون؟! كيف لا أحميها وهي الضحية، والمجتمع يحمي المجرم الحقيقي؟! كيف أستنكر سقوطها في الخطأ وأنا نفسي سقطت في الخطأ؟! أنا التي عشت ضعف ما عاشت، ورأيت أضعاف ما رأت، وتعلمت أضعاف ما تعلمت. كيف لا أبرئها وقد برأت نفسي من قبل؟!
لا بد لي أن أنقذ الطفلة المسكينة! أنقذها من براثن التقاليد والقوانين، وأنتشلها من بين أنياب الوحوش والأفاعي والجرذان والصراصير.
سأنقذها، وليصلبوني إذا عن لهم أن يصلبوا، وليرجموني بالحجارة إذا شاء لهم أن يرجموا، وليسوقوني إلى المشنقة إذا لاح لهم أن يسوقوا؛ ولكني سأقبل مصيري وألقى حتفي وأنا راضية النفس مستريحة الضمير. •••
كل مآسي المجتمع دخلت عيادتي، كل نتائج التخفي والخداع استلقت أمامي على منضدة الكشف. الحقائق المرة التي ينكرها الناس جاءت وتمددت تحت يدي على منضدة العمليات.
وأشفقت على الناس.
أليس هذا الرجل الذي يذبح أخته المخطئة هو نفسه الذي يخطئ مع أخوات الرجال؟
أليس هذا الذئب الذي يخدع الطفلة البريئة هو نفسه الأب الذي يحبس ابنته ويقيدها؟
أليس هذا الرجل الذي يخون زوجته هو نفسه الزوج الذي يقتل زوجته دفاعا عن شرفه؟
أليست هذه الزوجة التي تخون زوجها هي نفسها المرأة التي تطلق الشائعات على النساء؟
أليس هذا المجتمع الذي يذيع أغاني الحب والغرام هو نفسه المجتمع الذي ينصب المشنقة لكل من وقع في الحب والغرام؟
أشفقت على الناس، كل الناس؛ فهم الضحايا وهم أيضا الجناة. •••
امتلأت عيادتي بالرجال والنساء والأطفال، وامتلأت خزينتي بالذهب والمال، وأصبح اسمي لامعا كأسماء النجوم، وأصبح رأيي ينشر على الناس كأنه دستور.
ظهر لي من الأغراب أقارب، وتحول الأعداء إلى أصدقاء وأحباء، وتكاثر حولي الرجال كالذباب، وانقلب الهجوم إلى تأييد ودفاع، وامتلأ درج مكتبي بالتوصيات والرجوات والاستعطافات.
وجلست على قمتي العالية أنظر تحت قدمي إلى المجتمع.
وابتسمت له في إشفاق. المجتمع! ذلك المارد الجبار الذي يقبض على أعناق النساء ويلقي بهن في المطابخ أو المجازر أو القبور أو الوحل! ها هو المجتمع ملقى في درج مكتبي ضعيفا منافقا مسترحما! ألا ما أصغر المجتمع الكبير!
جلست وحدي ونظرت إلى الساعة، كانت لا تزال التاسعة مساء، أول الليل، والحياة على أشدها في الطريق.
ووقفت وأخذت أتمشى في الحجرة حائرة، ووصلت إلى النافذة فلفحت وجهي نسمة الليل الدافئة الحالمة.
ونظرت إلى الشارع فرأيت الناس يسيرون متلاصقين يتكلمون ويعبسون ويضحكون، ونظرت إلى نفسي فوجدت أنني أطل عليهم من فوق؛ من مكان عال حقا، ولكن بعيد.
وأحسست ببرودة شديدة، كأنني أجلس على قمة عالية يكسوها الجليد. أنظر فوق رأسي فلا أرى إلا السحب والسماء، وأنظر تحت قدمي فأرى مسافة طويلة تبعدني عن الوديان السهلة المنبسطة، عن السهول المنخفضة الدافئة بأنفاس البشر وأجسادهم، وأرى الناس وهم يلوحون لي بأيديهم من بعيد ولكن أحدا لا يصل إلي، ويعزفون لي الألحان ولكن الصوت لا يصل إلى أذني، ويلقون لي بالورود ولكن العبير يضيع في الهواء.
ووضعت رأسي على سور النافذة.
ما أبرد الوحدة! ما أقسى السكون! ماذا أفعل؟ هل أقفز من فوق قمتي؟ ولكن عنقي سيدك في الأرض دكا.
هل أعود أدراجي؟ ولكن عمري سينقضي ولن أبلغ ما أريد.
انتهت المعارك وآن لي أن أجلس بلا حراك.
آه، ما أفظع الفراغ!
لماذا قفزت فوق سلم حياتي؟ لماذا لم أرشف كأس حياتي رشفة رشفة؟ لماذا لم أقضم عمري قضمة قضمة؟ لماذا جريت شوطي قفزا ولهثا؟ لماذا تركت مكاني في الصف وقفزت فوق الصفوف؟
إن صفوف الناس تزحف في الطريق، تزحف كالسلحفاة ولكنها ستصل يوما، وإن الحياة تسير إلى الأمام، تسير ببطء ولكنها ستبلغ حتما ما تريد. لقد انقضت ملايين السنين حتى أصبحت الهيولة هواء، وحتى أصبح الهواء ماء، وحتى أصبح الماء جمادا. وانقضت ملايين أخرى حتى أصبح الجامد أميبا تتحرك، وحتى أصبح للأميبا زوائد حية. وانقضت ملايين أخرى لتصبح الزوائد زعانف، ثم لتصبح الزعانف أجنحة، ثم لتصبح الأجنحة أذرعا وذيلا. وانقضت ملايين أخرى ليصبح للأذرع أصابع، ولينقرض الذيل ويقف القرد على قدمين اثنتين.
لماذا حزنت في طفولتي لأني لا أطير في الجو كالحمامة؟ لماذا ضقت بتلك الأيام الدامية التي تلوث النساء كل ثلاثين يوما؟ لماذا تمردت على التاريخ والقوانين والتقاليد؟
لماذا ثرت لأن العلم لم يكتشف سر البروتوبلازم الحي؟
سوف تنقضي السنون ويغير الزمن التاريخ والقوانين والتقاليد.
سوف تنقضي السنون وتكتشف الحياة طريقة نظيفة جميلة تنضج بها البنات الصغار، سوف تنقضي السنون ويخف جسم الإنسان فيطير، سوف تنقضي السنون ويهتدي العلم إلى سر البروتوبلازم الحي. إن ركب الزمن يسير، وإن الحياة تعثر كل يوم على شيء جديد. لماذا استبطأت الزمن فنهشت تروسه أوصال عمري؟
لماذا تعجلت الحياة فلفظتني عجلاتها وقذفت بي إلى فوق ... فوق ... إلى قمة عالية حقا، ولكن الوحدة تغلفها ويكسوها الجليد.
آه ...
ما أقسى الصمت! وما أرق أصوات البشر ولو كانت ضجيجا!
ما أبرد الوحدة! وما أدفأ أنفاس الناس ولو كانت مريضة!
ما أقبح السكون! وما أجمل الحركة ولو كانت معارك!
ما أفظع الفراغ! وما أحلى التفكير والانشغال حتى بالفشل! •••
حل الفراغ بأعماقي فوجد العملاق مكانا ليتحرك. تلاشى الزحام داخل نفسي ففرد العملاق ذراعيه وساقيه وبدأ يتثاءب ويتمطى.
ماذا تريد؟ تمردت على كل شيء ورفضت حياة النساء، سعيت وراء الحقيقة فقادتك الحقيقة إلى أن تغلق على نفسك جدران نفسك. والرجال ... قلبت فيهم وفتشت وبعثرت، ثم مصمصت شفتيك في ازدراء!
ماذا تريد؟ رجلا يعيش في خيالك ولا يمشي على الأرض؟
رجلا يتكلم ويتنفس ويفكر وليس له جسد الرجال؟ أيمكن لك أن تنسى؟ هذه الأجساد الملقاة على مناضد التشريح؟ هذا الشخير الكئيب القريب من وسادتك؟ هذه النظرات اليائسة العاجزة المسكينة؟ هذا الموت الذي يحصد الأطفال؟
ألا تغلق عليك باب زنزانتك وتنام مرة أخرى؟
لكن الليل أصبح طويلا، وأوهام الليل عادت تعشعش حول السرير، والسرير أصبح واسعا باردا مخيفا، والعملاق لا يريد أن ينام، والنجاح ليس له طعم، والشهرة ليس لها معنى، والمال مجرد أوراق ميتة لا تدب فيها الحياة.
6
لمحت بين الخطابات والأوراق بطاقة صغيرة، مددت لها يدي والتقطتها، ووجدت أنها دعوة لي من إحدى الهيئات لحضور حفل عشاء. نهضت بسرعة وركبت عربتي وانطلقت إلى مكان الحفل.
دخلت إلى القاعة الفسيحة، ورأيت الأنوار تتلألأ براقة، والمدعوين يرتدون ملابس مكوية منشاة، ووجوها رسمية مشدودة.
وجابت نظراتي في المكان الواسع وبين الناس الكثيرين كأنما تبحث عن شيء، ورأيت الرجال يختلسون النظر إلى النساء، والنساء يختلسن النظر إلى الرجال، ومشيت بين المدعوين أهز رأسي لاهتزازات رءوسهم كما تهز الدمية رأسها من فوق الزنبرك.
وفجأة ساد الهرج بين المدعوين ورأيتهم يندفعون ويتدافعون ويلتفون حول رجل قصير بدين، الكل يريد أن يمشي إلى جواره، الكل يريد أن يظهر في الصورة معه، الكل يريد أن يظهر على شاشة التليفزيون بالقرب منه، الكل يريد أن يذكره بوجهه وصوته ووجوده.
تركت الزحام ووقفت في ركن هادئ، والتفت إلى جانبي فرأيت رجلا واقفا؛ رجلا عاديا، يلبس ملابس عادية، ويقف وقفة عادية، ليس قصيرا وليس طويلا، ليس نحيلا وليس بدينا، ولكني أحسست أن شيئا غير عادي يحيط به؛ لعل ملامحه كانت طبيعية مريحة بخلاف تلك الملامح المشدودة المنشاة، لعله كان أنيقا بالرغم من بساطته، لعله كان مترفعا عن الالتفاف حول ذلك الرجل، لعله ... لعله ...
والتفت ناحيتي، والتقطت عيناه عيني، وشعرت بهزة غامضة في أعماقي، وابتسمت عيناه ابتسامة خفيفة غامضة.
وقال بصوت فيه الكثير من حركة عينيه: إنهم يجرون خلفه!
وسألته في بساطة: لماذا؟
قال: إنه رئيس الهيئة.
وظل يتأمل الناس لحظات وفي عينيه نفس الابتسامة الخفيفة الغامضة؛ أهي نظرة إشفاق أم سخرية؟ أهي نظرة احترام أم استخفاف؟ لم أعرف!
والتفت ناحيتي مرة أخرى، ونظر في عيني مدققا ثم قدم لي نفسه في بساطة وطبيعية، فقدمت له نفسي على نحو ما فعل.
وقال وهو يشير إلى مائدة صغيرة منفردة: لنجلس إلى هذه؛ إنها أبعد مائدة عن رئيس الهيئة.
وضحك وضحكت، وسرنا معا إلى المائدة وجلسنا متقابلين، ونظر إلى أطباق الطعام ثم نظر إلي وقال باسما: أنا لا أجيد تقاليد الحفلات. هل أساعدك؟
ماذا في عيني هذا الرجل؟
وقلت له: لا، أشكرك، أنا لا أحب تقاليد الحفلات. وبدأنا نأكل في صمت، وقال بعد لحظات: هل تجدين وقتا لسماع الموسيقى؟
فقلت: قليلا ... لم أسمع لحنك الأخير، ولكني قرأت عن نجاحه وإعجاب الناس به.
وتاهت نظراته بعيدا عني ثم نظر إلي وقال: لست راضيا عنه.
قلت: ولكن الجمهور راض.
قال: الفنان لا يستريح إلا إذا رضي هو.
قلت: لماذا تذيع لحنا لست راضيا عنه كل الرضا؟
قال: هذا ما يعذبني. إن ما يرضيني أنا لا يفهمه الجمهور.
قلت: ولماذا لا تؤلف الألحان التي ترضيك بصرف النظر عن الجمهور؟
قال: هذا ما أفعله أحيانا.
وأطرق إلى الأرض لحظة كأنما يفكر، ثم رفع إلي عينيه العميقتين وقال: تكلمنا عن الموسيقى كثيرا وأنت لم لا تتكلمين عن الطب؟
قلت: إن الحديث عن الطب لا يناسب جو الحفلات.
قال في دهشة: لماذا؟
قلت: إنه حديث عن الألم والمرض، عن وجه الحياة الحزين.
قال: لا، إن آلامه عظيمة حقا، ولكن سعادته أعظم. إني أتصور سعادتك حين تنقذين إنسانا من الموت؛ إنها أسعد لحظة في حياة الطبيب.
قلت: وما هي أسعد لحظة في حياة الفنان، حياتك؟
قال: حين أخلق لحنا يرضيني، أو حين أسمع لحنا رائعا. ونظر إلي نظرة عميقة وقال باسما: أو حين أعثر على صديق جديد.
حاولت أن أتفادى عينيه.
لكنه لم يدعني أهرب منهما، ورأيت نظراته تحوطني وتحاصرني في قوة وثقة؛ فأحسست بقلبي يخفق خفقة واحدة هائلة. •••
تقلبت في فراشي مؤرقة، أصبح السرير خشنا مليئا بالحصى والمسامير.
تركت الفراش وأخذت أمشي في الحجرة. أحسست أن الحجرة ضيقة كالزنزانة، والجو خانق كحبل المشنقة.
خرجت إلى الشرفة ووقفت، لكني لم أطق الوقوف. جلست، لكن لم أطق الجلوس. فوقفت ومشيت إلى حجرة الطعام، حاولت أن آكل شيئا، لكن مذاق الطعام كان متغيرا غريبا، كأنه مصنوع من المطاط!
أصبحت لا أحتمل أي شيء؛ لا الجلوس، ولا الوقوف، ولا المشي، ولا النوم. أصبحت لا أجد طعما لأي شيء؛ لا الطعام، ولا الماء، ولا الهواء.
والأشياء التي كانت تملأ وقتي أصبحت تافهة فارغة، واهتماماتي التي كانت تبتلع نهاري ابتلعها شعوري الجديد.
سؤال واحد يجوب آفاق عقلي وروحي.
هل أطلبه؟ هل أكلمه؟ هل أبدأ أنا الحديث؟
ونظرت إلى الآلة الصغيرة؛ تلك الكتلة المربعة السوداء التي كنت أنقلها بيد واحدة من مكان إلى مكان، وأخرسها بأصبع واحد حين أريد. تلك الكتلة أصبحت الآن شيئا رهيبا، جهازا سحريا خطيرا، أنظر إليها من بعيد في حذر، وأقترب منها في وجل، وألمسها بأصبعي فتمس عقلي كهربة عنيفة كأنما مست يدي سلكا كهربيا عاريا.
أتتغير الأشياء إلى هذا الحد حين تتغير نظرتنا إليها؟
وجلست إلى جوار التليفون أفكر، وتذكرت كلمات حين كتب لي رقمه، قال: اطلبيني حين تريدين.
إنه يحترم إرادتي، لماذا لا أحترم إرادتي إذن؟
لقد كنت أحترم إرادتي دائما؛ أليست إرادتي هي التي تحكمني وليست إرادة الغير؟ ألم يحاول رجل أن يمتلك حياتي فلم أملكه شيئا لأني لم أكن أريد؟ ألم يحاول رجل أن يعطيني حياته فلم آخذ شيئا لأني لم أكن أريد؟ أليست إرادتي هي التي تحدد عطائي وأخذي؟
وأنا أريد أن أراه الآن، نعم أريد.
ودارت أصابعي الثانية في ثقوب القرص ست دورات، وجاءني رنين عال متواصل، وفجأة انقطع الرنين فانقطع الدم من قلبي، وسمعت صوته العميق يقول: ألو.
لم أفكر في أساليب الدلال، لم ألجأ إلى ما تلجأ إليه النساء من لف ودوران، لم أتظاهر بأنني أسأل عليه لمجرد السؤال، لم أضع البرقع على وجهي وأغمز له من وراء الباب، لم أصطنع السذاجة والغباء.
قلت له في صراحة وصدق: أريد أن أراك. - متى؟ - الآن. - أين؟ - أي مكان ... لا أهمية للمكان. - أين أنت الآن؟ - في بيتي. - سأكون عندك بعد قليل.
تهاويت على المقعد كأنما انسحبت مني الحياة، وتلفت حولي أنظر إلى أثاث بيتي وجدرانه كأنما أنظر إليها لأول مرة.
ودب النشاط والحماس في كياني فجأة.
باقة من الورد، ولبست الفوطة ووقفت في المطبخ، وصنعت كعكة بالبيض واللبن وضعتها في الفرن، وصنعت قالبا من الجيلي وضعته في الثلاجة.
أخذت أجري كالطفلة الصغيرة من الفرن إلى الثلاجة، ومن الثلاجة إلى زهرية الورد، ومن زهرية الورد إلى صورة الحائط، ومن صورة الحائط إلى الفرن.
تصبب العرق من وجهي وسال إلى فمي، لكني وجدت له طعما جديدا لذيذا. ارتفع صدري وانخفض في أنفاس لاهثة متقطعة كجواد سباق لكني نسيت أن لي رئتين. وضعت يدي داخل الفرن ولم أشعر بلسع النار كأنما نسيت خلايا مخي ألم الحرق.
التوى ظهري من الانحناء تحت الموائد والانثناء فوق الرفوف، كأنما تلاشت عظام عمودي الفقري. ثم دق جرس الباب دقة واحدة رنت في قلبي رنينا غريبا رهيبا كأني أسمع صوت الجرس لأول مرة في حياتي. •••
جلس في حجرة الاستقبال وعيناه العميقتان الباسمتان أبدا تتجولان بين صور الحائط، وملامحه الجادة الرصينة تتلفت حوله في استطلاع واهتمام، وأنا أجلس على غير بعد منه أحاول أن أخفي ذلك الشعور العجيب الذي يهز أعماقي، وأحاول أن أكتم الفرحة الغريبة التي تملأ قلبي، وأحاول أن أتجاهل تلك الرجفة العنيفة التي أصابت روحي.
ولكن هيهات؛ عيناي تفضحانني بنظراتهما المتعثرة، وشفتاي تخونانني برعشتهما المضطربة، وصوتي يكشفني بنبرته الوجلة، ورأيته يبتسم في رقة ويقول: بيتك جميل ... بيت فنانة.
قلت: أنا أحب الفن، ولكن الطب يستولي على كل وقتي.
قال: إن الطب فن في حد ذاته.
ونظر إلي.
ماذا في عيني هذا الرجل؟ بحر عميق ليس له قرار؟
وقلت له: أتشرب فنجانا من الشاي؟ فهز رأسه في إيماءة خفيفة وهو يبتسم، فتركته وذهبت أعد الشاي، ونظر إلي الخادم في دهشة وريبة وهو يراني لأول مرة منذ دخل بيتي وأنا أقف في المطبخ أعمل شيئا.
وفتحت الفرن وأخرجت الكعكة وقطعت منها قطعة وضعتها في طبق إلى جوار الشاي وعدت إليه، ونظر إلى الكعكة الطرية وقد ظهر أنها لم تنضج بعد، وابتسم. لكني لم أستطع أن أقاوم الضحك فضحكت وضحك معي، وأخذنا نضحك طويلا كأننا نريد أن نضحك إلى الأبد. ومزقت الضحكات الطبيعية الطلقة ذلك الستار الرقيق من الحرج الذي كان يفصل بيننا، ورأيته ينظر في عيني نظرة عميقة رصينة وقال: لم أر امرأة مثلك أبدا.
قلت: لماذا؟ قال: النساء دائما يخفين مشاعرهن أو ملامحهن بستائر كثيفة مصنوعة، أما أنت فلا تخفين شيئا، حتى وجهك لم تضعي عليه المساحيق!
قلت: أنا أحب حقيقتي، أثق فيها ولا أستطيع إخفاءها.
قال: أنا أحب المرأة الصريحة الصادقة.
قلت: كثير من الرجال يعتقدون أن الصراحة تفسد أنوثة المرأة ...
إنهم يحبون المرأة المتخفية المراوغة فيمارسون معها غريزة المطاردة والصيد.
قال: إنهم لا يفهمون من المرأة شيئا سوى أنها متعة حسية.
قلت: قليل من الرجال من يفهم أنوثة المرأة الذكية ذات الشخصية القوية.
قال: أعتقد أن المرأة مهما بلغ جمال جسمها فإنها تفتقد الأنوثة إذا كانت غبية أو ضعيفة الشخصية أو متصنعة أو كاذبة.
قلت: وماذا عن الرجولة؟
قال: معظم النساء لا يعرفن عن الرجولة شيئا سوى أنها كفاءة الرجل الجنسية.
قلت: الرجل في رأيي يفتقد الرجولة مهما بلغت كفاءته الجنسية إذا كان غبيا أو ضعيف الشخصية أو متصنعا أو كاذبا.
ونظر إلي طويلا وقال: أين كنت كل هذه السنين؟ - كنت مشغولة بالبحث. - عن أي شيء؟ - عن كل شيء. - ألم تنالي ما تريدين؟ - الذي أريده لم أنله أبدا. - نحن لا نحصل على كل شيء في الحياة. - عشت في حرمان دائم. - الحرمان يجعل أوتار أعصابنا مشدودة نستطيع عليها العزف، أما الإشباع فيجعلها ترتخي فلا تخرج لحنا.
كان يكلمني، وكان ينظر في عيني دائما، لم أره مرة ينظر إلى ساقي، لم أره مرة يختلس النظر إلى صدري، وكنا وحدنا، والأربعة جدران مغلقة علينا، لكني لم أشعر أنه يرى الجدران أو يحس بها؛ كان يحلق في سماء عالية، وكنت أجلس إلى جواره بلحمي ودمي، لكني لم أحس أنه يخاطب جسدي، كان يخاطب عقلي وقلبي.
وأغمضت عيني في راحة واطمئنان. •••
جلست إلى جواره أنظر إلى أصابعه الطويلة الذكية وهي تمسك بريشة الكمان في ثقة وبراعة، والأنغام تترامى إلى أذني عالية هابطة، فرحة حزينة، صاخبة هامسة، ضاحكة باكية، وقلبي معها دقة بدقة، يعلو ويهبط، ويرقص ويبكي، ويئن ويضحك. وتوقفت أصابعه عن العزف، وسألني: ما رأيك؟ - رائع. - وضعته الآن فقط. - فيه بكاء وفيه فرح. - هذه حياتنا. - ما أجمل الفن! ... ليتني تعلمت الموسيقى لأخلق هذه الألحان. - ليتني تعلمت الطب لأشفي كل الناس. - الطب يشفي فقط ولكن الفن يشفي ويخلق. - يمكنك أن تخلقي في الطب جديدا؛ هناك أمراض ليس لها علاج حتى الآن.
ونظرت إليه ... - أين كنت كل هذه السنين؟ - كنت أبحث عنك. - كانت لك تجارب؟ - بالطبع. - وأنت؟ - بالطبع. - بالتجربة وحدها نتعلم.
وسمعت صوته العميق يناديني، وسألني: ماذا في عينيك؟
ووقف فوقفت، وقفنا متواجهين تفصلنا خطوة واحدة، وسمعته يقول بصوته الدافئ: أحبك. فشعرت بكل شيء في كياني يغوص إلى أعمق بعد من نفسي، ثم يرتفع فجأة إلى أعلى قمة منها، وابتسم، وقطع الخطوة التي بيننا في لحظة وأخذني بين ذراعيه، ووضعت رأسي على صدره. - لم هذه الدموع؟ - أحبك؟
وضمني إليه، ضمني حتى ضاع كياني في كيانه، وتلاشى وجوده في وجودي. •••
دق جرس التليفون، هبط بي رنينه العالي من السماء إلى الأرض؛ فوقفت على قدمي وسرت إليه ورفعت المسماع: ألو.
وجاءني صوت ملهوف يقول: أنقذيه من الموت يا دكتورة، إنه يموت ...
أمسكت المسماع في يدي ونظرت إليه، وقال على الفور: مريض؟ - نعم. - ستذهبين؟ - فورا. - هل آتي معك؟ - إذا شئت.
ركبت إلى جواره في عربته وانطلق بسرعة مذهلة. وصلنا بيت المريض، ولم يكن بيتا، وإنما كان حجرة ضيقة رطبة في بدروم مظلم أسفل إحدى العمارات الكبيرة، ورأيت شابا نحيلا يرقد على مرتبة قذرة على البلاط وإلى جواره بركة صغيرة من الدماء. وضعت السماعة على صدره وعرفت أنه مريض بالدرن الرئوي، وأن حياته تتوقف على زجاجة دم. وتلفت حولي ورأيته إلى جواري وقال على الفور: هل تريدين شيئا؟ - زجاجة دم الآن من مركز الإسعاف.
وجرى إلى الباب وهو يقول: سأذهب بالعربة وأحضرها حالا.
وجلست على صندوق خشبي إلى جوار المريض وحقنته ببعض الدواء، وأعددت أدوات نقل الدم، وكشفت عن فصيلة دمه.
ثم رأيته يدخل مندفعا وفي يده زجاجة دم، ونهضت مسرعة، وأمسك ذراع المريض، وظل إلى جواري يساعدني حتى أدخلت الإبرة في الوريد وثبتها.
ونظرت إليه؛ رأيت العرق يتصبب من وجهه، ورأيت رأسه قريبا من رأس المريض.
وهمست في أذنه: ابتعد أرجوك. - لماذا؟ - قد تنتقل العدوى إليك. - وأنت؟ - هذا واجبي، علي أن أقوم به تحت أسوأ الظروف.
ونظر إلي في صمت، ولم يتحرك من مكانه حتى انتهيت من تركيب جهاز نقل الدم.
جلسنا متجاورين على الصندوق الخشبي نرقب قطرات الدم وهي تتساقط في لهفة وسرعة من الزجاجة إلى الخرطوم الطويل إلى وريد المريض، وكأنما دبت الحياة في تلك القطرات الحمراء القانية، فشاركتنا لهفتنا على إنقاذ المريض.
ونظرت إليه وابتسمت، فابتسم في رقة وهو صامت.
وقلت: لو لم تكن معي لما استطعت أن أفعل كل هذا وحدي.
قال: بل كنت تستطيعين.
وأشار إلى زجاجة الدم وقال: لم يبق بها إلا القليل.
ونظرت إلى عيني المريض فرأيت نظراته أقل ذهولا وأكثر تركيزا، وأنفاسه أقل سرعة وأكثر انتظاما.
ونزعت الإبرة من الوريد، وفتح المريض شفتيه اليابستين وقال بصوت ضعيف وهو ينظر إلينا: أشكركم.
ودس يده في إعياء تحت الوسادة القذرة ومد لي ذراعه النحيل وقد قبضت على جنيه.
لا أدري ماذا حدث لي في تلك اللحظة؛ فقد دارت الدنيا بي حتى كدت أفقد الوعي، ولم أشعر إلا بيد حانية تسندني، وقال لي في حنان: هل تشعرين بتعب؟
ونظرت إليه، ولم أدر ماذا أقول له؛ فلم أكن أشعر بتعب، ولكني كنت أشعر بخجل شديد وعار.
هل استنكرت ذلك الموقف المزري العجيب؟ لا أدري! ولكني شعرت في تلك اللحظة أنه ليس من الشرف ولا العدل ولا المنطق أن يتلقى الطبيب أجرا من المريض.
كيف كنت أمد يدي كل تلك السنين الماضية وآخذ من المرضى مالا؟ أي مال؟ كيف كنت أبيع في عيادتي الصحة الناس؟
كيف ملأت خزينتي من عرق المرضى ودمائهم؟
آه ...
وأحسست بيده الحانية تسندني وتجلسني في العربة، وانطلق بي إلى البيت.
وقال باسما بعد أن وضعني في السرير: هل أستدعي طبيبا؟
وأحسست بدموعي ساخنة على وجهي، وأمسك يدي في رقة وقال: لم هذه الدموع؟ - لم أكن أفهم شيئا. - لماذا؟ - كنت عمياء. - لماذا؟ - لم أكن أرى إلا نفسي. - لماذا؟ - كانت المعارك تحجب عني الحقيقة. - أية معارك؟ - معارك الناس جميعا ابتداء من أمي. - ألم تحققي شيئا؟ - لا.
لا، لم أحقق شيئا؛ فليس الطب هو أن أشخص الداء وأصف الدواء وأقبض الثمن، وليس النجاح هو أن تمتلئ عيادتي بالناس وخزينتي بالذهب ويلمع اسمي كالنجوم.
ليس الطب سلعة، وليس النجاح مالا وشهرة.
الطب هو أن أمنح الصحة لكل من يحتاج الصحة بلا قيود ولا شروط، والنجاح هو أن أمنح من عندي للآخرين.
ثلاثون عاما مضت من عمري دون أن أعرف الحقيقة، دون أن أفهم الحياة، دون أن أحقق ذاتي. وكيف كنت أحققها وأنا لا أفكر إلا في أن آخذ وآخذ، وتحقيق الذات لا يكون إلا بأن أعطي وأعطي؟! ولكن كيف كان يمكنني أن أعطي شيئا ليس له عندي وجود؟
ونظر إلي في حنان وقال: حاولي أن تنامي. - لا أستطيع. - إنه سيشفى بعد زجاجة الدم. - لن يشفى أبدا. - إنك لم تأخذي منه الجنيه. - آه ... لا تذكرني.
ولكن هل يمكن أن أنسى؟
تلك الحجرة الضيقة في البدروم؟ تلك المرتبة القذرة على البلاط؟ تلك البركة الصغيرة من الدماء؟ ذلك الوجه الشاب النحيل؟ تلكما العينان الغائرتان اليابستان؟ وتلك الذراع النحيلة الطويلة ممدودة في وجهي، قابضة على مدية حادة تشطر عقلي وقلبي شطرين؟
آه ...
وأخفيت رأسي في صدره، أحتمي فيه، وألتصق به. أحسست أنني تجردت من عمري الذي فات وعدت طفلة تحبو وتتعلم المشي!
أصبحت في حاجة إلى يد حانية تسندني. لأول مرة في حياتي أشعر بالحاجة لأحد، حتى أمي لم أكن أشعر بالحاجة إليها.
ودفنت رأسي في صدره وبكيت، بكيت في راحة وهدوء.
Shafi da ba'a sani ba