وأخيرا تركته آخذا القطار إلى لوزان، فوصلتها عند مقتبل الصبح ... ومن محطتها أخذت (الفنكيلير) الصاعد إلى أوشي ضاحيتها الجميلة وهناك نزلت في (أوتيل دنجلتير) التي نزل فيها (بيرن) وكتب بعد قصيدته الكبيرة (تشيلد هارلد)، وأوشي ضاحية بديعة تطل على بحيرة ليمان، وتقابلها (أفيان) على الشاطئ الثاني، ولقد كان معي في الفندق شرقيون لم أعرف أمصريون كانوا أم سوريون، وهم عائلة مركبة من أب وأم وابن وبنت، ولقد تحادثت مع الأب مرة وعرفت أنهم يقيمون بالأسكندرية، أما الأبن فيظهر أنه يدرس في فرنسا إذ سمعتهم يلومونه على تقصيره في امتحانه الأخير، والأم سيدة هرم تبلغ الخمسين أو ما فوق، والبنت فتاة ممتلئة الجسم وافية القامة ربما سرت محبي (البياض والسمنة).
وإني أضع للقارئ المذكرات التي كتبتها يومئذ كما هي؛ ليقف على حال نفسية أجدها اليوم غريبة لأنها ملأى بالخيال والشعر، وأحترمها وأحب ذكرها وأتمنى لو تعود.
ولست أدري إذا كان كل من تحويه سويسرا تكون هذه حاله، بل لأظنها حالا خاصة لأني لم أعرف حين زرت سويسرا بعد هذه الزيارة بعام.
وإذا وافق القارئ على غرابتها فأرجوه أن يحسن الظن بها ويكون حليما في الحكم عليها.
11 أغسطس
في ذلك اليوم وقد جاءت علي القدرة الخفية بما لا أعرف من الوحي، تطلعت نفسي إلى زيارة أفيان، فأخذت القارب إليها وقطعت البحيرة تنقلب أمواجها هادئة ساكنة مستسلمة، وينبسط فوقها نور الشمس يجلل مياهها الزرقاء، تميز أمام العين وتنقلب فضية عن بعد، والجبال قد قامت تحيط بنا كساها الضوء، وأخذت طريقي أرتقي المرتفعات جللتها الأشجار حينا وحينا أمتد فوقها بساط أخضر لا يتناهى حتى ينساب مع قممها العالية في فضاء الجو يهبط عليه السحاب يعانقه عناق مشتاق، وبين هاته الطبيعة الواسعة أحلام دائمة تتسرب في جوفها بين الحجر وبين العشب والشجر، تسمعها فتسوقك نفسك إلى استجلاء أمرها فإذا خرير الماء بين هاته الصخور جاءت من عليين، خرير دائم بديع يحيي ذلك الصمت الهائل جاء من المراقي هابطا حتى يضيع وقد أدى مهمته في المنحدرات إلى البحيرة.
شيء بديع لا أقدر على وصفه، وجمال لتحار أمامه النفس.
وفي السماء أخذت قاربا والشمس تطوح نحو المغيب تحجب بالسحب، ثم تقر وقد ظللت القمم البعيدة غمامات، وانطرح عليها من النور ما بقيت معه في رفعتها شفاقة تبين قلبها صافيا إلا من كلوم جاء بها الزمان العتيق، والبيوت عن الجانب القريب تصعد متسلسلة بينها العشب الناضر ... والسحب ما أحلى السحب كيف كانت؟ ذلك ما يذكره ناظري ويعجز دونه قلمي.
في تلك الساعة لم أستطيع إلا أن أشكر الله وأنا على ظهر الماء آمن مطمئن، وتجلى لي أن ليس من تجديف في العالم هو أشد من هاته الصلوات التي يعملها الناس وقلوبهم مقفلة، في حين يفتح الله أمامهم قلب الطبيعة الهائل، تجلى لي كفر مدعي الصلاح والزهد ولؤمهم.
16 أغسطس
Shafi da ba'a sani ba