30 منه
كنا، شرذمة من البكوات وأنا، في حديقة الأكليماتاسيون، فلما انتهينا من التفرج على الحيوانات المختلفة التي بها دخلنا بيوت القصار، وهم الأعجوبة التي أهدت الحديقة للنظر العام الباريسي هذه السنة.
تقع الحديقة في أحد أركان غابة بولونيا، ويقصدها الناس أولا كما يقصدون حديقة الحيوانات عندنا، وثانيا مجذوبين بما سيرونه من عجيب نادر من أمثالهم من بني آدم، والتناهي في الطول والتناهي في القصر أعجوبة؛ لذلك استدعى قصار من الناس معنى العجب.
وجدناهم في دورهم أو بالأحرى في أوكارهم إلا من خرج منهم إلى فسحة المكان، ومن بينهم ضاحك السن باش الوجه والعباس المقطب والحزين الكئيب ... والجميل المدل بجماله والقبيح يجمل نفسه فيظهر قبيحا ... على العموم وجدناهم من بني آدم وحادثنا بعضهم فإذا في رأسه الصغير من الرزانة ما لا يخفى معه كبر سنه، ومن بين هؤلاء هندي في الخامسة والعشرين لا تزيد قامته على الثمانين سنتي مترا أو متر بالأكثر وتقرأ على وجهه أثر التفكير العميق ويحييك بكل تعقل وسكينة.
بين هؤلاء القصار أشخاص ذوو صناعات مختلفة، فواحدهم حلاق وجماعة منهم شرطة، وآخرون موكلون بعربات الفسحة، ومن بينهم جماعة ذوو ألقاب، لهم ملهى يمثلون فيه، فهم يكونون مملكة صغيرة قصيرة.
ثم درنا بين الأقزام وخرجنا إلى قهوة نستريح فيها، فما هي إلا لحظة حتى خرج القوم للنزهة ومنهم من يسير الهوينا وآخرون يركبون العربات، وجماعة امتطوا دراجاتهم وقادوها كخير ما تكون القيادة، ومن بين هؤلاء مر ذلك الهندي القزم الذي تقدم ذكره.
1 أغسطس
كنت مع ل. بك على طعام العشاء، وكانت معنا مدام ت. صديقته، وهذه هي المرة الأولى التي عرفتها فيها وحادثتها ... دار الحديث بيننا باللغة الإنجليزية تلك اللغة التي كنت أعتقدها كما يعتقدها كثيرون غيري مثال التنافر، وها أنا أسمعها من فم محادثتي ترن كأنها نغمات الموسيقى، بالرغم من شعورها المبيضة ووجهها الذي تبين فيه بعض خطوط التجعد.
كان من ملاحظاتها لي أن الشرقيين ممن رأت تظهر في عيونهم آثار الحزن أكثر مما يوحي به سنهم، وعللت ذلك معها بأنه نتيجة طبيعية للطقس، حيث إنك كلما ذهبت شمالا وجدت الوجوه فرحة والناس أميل للطرب، وعندي أن للأمر سببا يرجع إلى تاريخ الشرق وحال الشرقيين الاجتماعية الحاضرة أكثر مما يتعلق بالطقس والموقع الجغرافي؛ ذلك أنهم محكومون بالاستبداد القرون الطوال، فدخلت إلى نفوسهم آثار الحزن وغادرها معنى الفرح الصحيح الخالص، فصار يطربها النغم الشجي المحزن أكثر مما تأخذ بها الرقة الضاحكة المفرحة، ويسرها الصوت الممتد الهادئ أكثر من الأصوات المرتفعة التي ترج الأعصاب والفؤاد والقلب، أدخلهم ذلك التاريخ الأليم الذي مد جناحه فوقهم إلى الاستسلام من غير رضى، وأرغمهم القسر الذي عاشوا ويعيشون فيه على وجود صاغر مستكين، دخل إلى نفوسهم حب الخفاء في كل شيء وظهر في عيونهم - والعين مرآة النفس - أثر ذلك الحزن العميق والتحرز الشديد.
بعد العشاء قام ل. بك لتجهيز معدات سفره، وودعناه على المحطة قائما بقطار الساعة العاشرة إلى مصيفه، فودعنا منه رجلا عاقلا ورأسا مفكرا وصدرا رحبا.
Shafi da ba'a sani ba