وهو في تلك الآونة هادئ ساكن، فلما بلغت قهوة فاشت لم أجد بها أحدا، وجعلت أجيل عيني علها تقع على مخلوق أعرفه أو آنس به فإذا كل شيء وكل إنسان مشتغل بنفسه أو واحد من معارفه بما يسلي به وقته، وأنا في هذا المكان غريب منقطع.
كم بيني وبين أهلي في هذه الساعة؟ هم هناك هناك بعيدون وقد يكونون مهمومين لأمري وأنا جالس منفرد يقطعني الهم ويتمشى اليأس إلى نفسي وما عرف إليها من قبل سبيلا.
تولاني القلق وأخذ بخناقي ضيق شديد لم أتمكن معه إلا أن أهجر مكاني وأقوم من جديد إلى الدار، وجاهدت حين وصلت أن أطلع في رواية كنت قرأت الصفحتين الأوليين منها وأنا فوق البحر، ولكني وجدتها على نفسي كدرس التلميذ الكاره لدرسه، فقمت من جديد إلى القهوة وبقيت بها رغما عن قلقي وضيقي.
ابتدأت الحياة والحركة تدخل إلى ما حولي حين فاتت الساعة الرابعة، وجاء بعد ذلك أحد إخواننا المصريين ممن قابلت بالأمس فسلم وجلس إلى جانبي وبقينا بعد التحية سكونا، ثم جاء آخر وثالث وجلسا معنا وابتدأوا جميعا حديثا طويلا في السياسة.
لست من أنصار السياسة وكثرة الكلام فيها، ولقد بقيت عنها بمعزل طول أيامي بمصر؛ ذلك لأني أرى الذين يتكلمون عنها يسرع إليهم التحمس، ويخرجهم عن حد الهدوء الذي تستطاع معه المناقشة المعقولة، كما أنهم دائما متعصبون لحزب، مكرسون أنفسهم لنصرته والطعن على غيره، مقدسون لرؤسائه والأشخاص العاملين فيه، ومهما يكن قليلا ما قرأت من كتابة هؤلاء الرؤساء والعاملين فإنه كاف ليعلمني أنهم شيء ضئيل إلى جانب الكتاب والمفكرين من أهل الأمم الغربية ومن العرب السالفين أنفسهم؛ إذن فالتعصب لهم إلى الحد الذي أراه من إخواني ظاهر البطلان عندي، ولا أستطيع مهما جاهدت أن أترك نفسي تأخذ بنصيب فيما أعتقده ظاهر البطلان؛ لأن عيشة الوحدة التي قضيت فيها كل أيامي علمتني أن شيئا واحدا يمكن أن أحترمه، ذلك هو ما ارتاحت له النفس ورضيت عنه.
لم أكن بين صحبتي الجديدة بأحسن حظا مما كنت من قبل، وبقيت في صمتي الأول حتى أنقذني منه حضور السيد خالد.
السيد خالد رجل عرفته هو الآخر بالأمس فقط، ولكني أجد فيه من المعنى ما لا أجده في غيره، كأنه قضى هو الآخر حياته في الوحدة؛ فتبين عليه آثار السكينة وتنم عيونه عن تفكير طويل، أحسبه ليس من المغرمين بالتحمس والهياج كلما سمع كلمة تقال عن مصر أو تمس السياسة.
جلس بجانبي عن اليسار، فلما وجدني صامتا سألني كيف أجد باريس ... كيف أجد باريس؟ ... أنا لم أر منها شيئا بعد أستطيع معه أن أحكم إن كانت طيبة ولماذا؟
ولقد أنست بالسيد خالد كثيرا، ولعلي أجد منه فيما بعد ما يعوضني عن إخواني الذين خلفت في مصر.
قهوة فاشت ملتقى المصريين في حي الطلبة، ولقد علمت اليوم أن هناك قهوة أخرى يلتقون بها تلك هي قهوة (دي لاپي)
Shafi da ba'a sani ba