ولقد حسبت حين دخولي أنني متأخر لأن الساعة كانت تجاوزت التاسعة ولأني وجدت الستار مرفوعا، ولكني انتظرت بعد ذلك كثيرا من غير أن أرى شيئا، فعلمت إن القاعدة أن يبقى الستار مرفوعا إلا عند الضرورة.
جاء الخادم وسألني عما أريد، وطلبت قهوة وسألته أن يجيئني معها بورقة أردت أن أكتب فيها ما أرى علي أضيع بذلك الوقت الباقي ومنتظرا أن أجد شيئا لذيذا أكتب عنه، وغاب الخادم ورجع بالقهوة من غير ورقة ثم وقف إلى جانبي يحدثني، وأخيرا تركني ولم يعد حتى تركت أنا المكان بعد منتصف الليل.
الساعة العاشرة وربع ابتدأ (الآلاتية) يأخذون مقاعدهم، ولقد جلس على يمين المرسح أحدهم رجل ذو عمامة وجلابية سوداء والباقون بين لابس طربوش وجاكيته ولابس جلابية بيضاء وعمامة على طاقية ولابس بلطو، وبين الأسمر والقمحي ومنهم عبد أسود، ثم ابتدأوا يدندنون بغير انتظام مدة حتى خرجت راقصة، امرأة وافية الجسم غليظة البطن عريضة الأكتاف غير جميلة الوجه وغير قبيحته كذلك، وهي تلبس ثيابا كثيرة ورفيعة ينم بعضها عن بطنها وقد تدلت إلى جوانبها كثير من الزينة البراقة ما بين لامع أصفر وذهبي وفضي، وابتدأت رقصتها بحركات مدهشة غاية في الخفة والسرعة يهتز معها كل جسمها: بطنها وثدياها وأصابعها اهتزازا سريعا، وتجيء بحركات غريبة شهوانية أكثر الأحيان يهيج معها الحضور ويصيحون صيحات المتشنج الأعصاب غير المالك زمام نفسه، ويقوم من وقت لآخر واحد منهم صارخا من أم رأسه كأنه الثور الراتع أهاجته أوليات الربيع.
وتبع الراقصة مغنية وجاء وراء هذه وأخرى قمر الليلة تغني سائرة على المرسح بخطوات بطيئة مرتبة جميلة تتهادى ويهتز ببطء قوامها الدقيق، وأغنياتها تطير في جو المكان فتبعث للدخان الذي ملأه أشباحا من ملائكة السرور، وجاء بعدها غيرها فلم أطق دون القيام راجعا إلى مرقدي.
بعد ذلك رجعت إلى الريف ثانية فقضيت أياما طوالا بين أهلي أبتدأ يفارقها الملال لأني ابتدأت أعتادها، وكلما اعتدتها رجعت إلى ذهني خيالات الماضي فجعلتني أحتمل بصبر هذا العيش المتشابه الفارغ، وبقيت حتى الأيام الأولى من سبتمبر.
في سبتمبر رجعت إلى القاهرة وابتدأت أشتغل بالمحاماة واتخذت لذلك مكتب الأستاذ أحمد بك مصطفى، وكل همي من ذلك أن أتعدى المحاكم الجزئية لما بعدها.
رأيت في المحاماة ما يبغضها إلى نفسي، هذه الغرف التي يسمونها «أود» الجلسات يقعد في الصف الأول منها على مقاعد خشبية خشنة قذرة أحيانا جماعة المحامين عشرات مكدسة يزحم بعضهم بعضا ويتبادلون أحاديث ساقطة الوقت بعد الوقت، ويضحكون بصوت عال مرتفع كلما غاب عنهم القاضي حافظ نظام الجلسة، ويجلس وراءهم الناس أكداسا أكداسا ينظرون إلى العدل كما ينظر المتفرج إلى الممثل، وتفوح من أبدانهم وثيابهم روائح كريهة، ويدخل القاضي فيصيح الحاجب: محكمة. ويتلو ذلك هرج ومرج وضجة يعقبها الصمت، وعن يمين القاضي عضو النيابة جالس منتفخ الأوداج مغمض العين تائه الخيال مسرور بكرسيه الخضم وشريطه الوظيفي، وعن شماله الكاتب تائه بنظرة وسط أوراقه، والكاتب يصيح بصوت فظيع يكرره وراءه الحاجب بصوت أفظع وأشد إزعاجا ينادي أسماء أرباب القضايا، والمحامون يقوم كل واحد بدوره فيمثل فصله ثم ينسحب من المرسح بعد أن يسمع غالبا كلمات لا تسر من جانب الرئيس.
قضيت في المحاماة أشهرا رأيت فيها كثيرا، رأيت قضاة غاية في الذكاء ويستعملون ذكاءهم في التنكيت طوال الجلسة، ورأيت آخرين يبلغ بهم الإخلاص لكرسيهم فيعدون أنفسهم فوق بني آدم، وقلال غير هؤلاء وأولئك يفهمون القضاء والتقاضي.
وها ما رأيته ذات يوم بين قاض ومحام وأنا بالجلسة.
خلق كثير ومحامون كذلك والقاضي جالس بعظمة في كرسيه كأنه ملك على عرشه، والقضايا تتابع مسرعة لكل دقيقة أو ما يكاد.
Shafi da ba'a sani ba