وأخذنا القطار آخر النهار فلما تحرك واستقر بنا المجلس جئنا بطعامنا فتناولناه، ثم بقينا بعد ذلك سكوتا همودا.
التفت إلى يساري علي أرى من النافذة شيئا، فإذا ما حولي سواد الليل الأدهم، ونظرت إلى صاحبي أريد أن أفاتحه القول فإذا هو مسند رأسه إلى ما وراءه محدق ببصره إلى سقف الغرفة تائه بكله في تلك الأحلام المبهمة التي تجيئنا عقب الطعام حين يصيب أعضاءنا خمول يتركها خادرة، ونحس كأن فكرنا منهوك تاعب فهو لا يستطيع أن يفهم شيئا، والآخرون إلى جانبه وحالهم كحاله.
ثم أفاقوا جميعا مرة واحدة حين علت ضجة القطار داخلا النفق، وأسرع أحدهم فأقفل نافذة كانت مفتوحة خيفة أن يمتلئ المكان دخانا، وأحسسنا حين أحاطت بنا الأرض من فوقنا ومن أسفل منا كأن صدى تلك الضجة يرن في قلوبنا فلم يقطع أحدنا السكوت الذي كنا فيه حتى خرج القطار من جديد إلى الهواء الحر، حينذاك قال عبد الله بك: يالله نلعب ورق.
قضينا في لعب الورق حتى منتصف الليل.
ولما وصل القطار إلى ليون نزل منه خلق كثير تركت أنا أصحابي إلى الغرفة المجاورة آملين أن ننال بعد سهرنا هذا ساعة يرد لنا النوم فيها من الراحة ما يعوضنا عظيم تعبنا.
لكني لم أبق طويلا حتى دخلت إلى هذه الغرفة فتاة وضعت شنطتها على الرف وجلست إزائي فجعلت أدير نظري ساعة إلى جهة النافذة وأخرى ألقى به الأرض وثالثة أغمض عيني خيفة أن تقع عليها، واستولاني خجل لا أفهمه، فلما تحرك القطار انتهزت فرصة اشتغالها ببعض أمرها وانسحبت خارجا أريد أن أرجع إلى حيث كنت فوجدت أصحابي قد أقفلوا الباب وطمسوا على النور ...
وقفت في الممر حائرا أسأل نفسي أليس ممكنا أن يكون المحل الذي جلست فيه محجوزا «للستات»؟ ولكن بابه لا يدل على شيء من ذلك ... أليس ممكنا كذلك أن تكون هاته الفتاة وجدتني مفردا فمالت عندي تريد أن تغريني؟ استحوذت هاته الفكرة علي تهيج في نفسي أحيانا من السرور وأخرى من التخوف ... ثم عقدت حواجبي وهزرت رأسي قلت ... «وسألعب أنا الآخر معها دوري».
دخلت إلى مكاني من جديد فوجدتها خلعت قبعتها وتقفل في ستار النافذة المقابلة لها، لكني أحسست لأول ما رأيتها بهزة عرتني، فتناسيت واشتغلت عنها بإقفال ستار باقي النوافذ حتى إذا انتهت جلست مكاني صامتا لا أتحرك وإن استرقت إليها النظرات أحيانا، أما هي فبعد أن أتمت كل الذي عملت كأن لم أكن موجودا نظرت إلي وقالت: تسمح يا سيدي أن تحجب النور؟
فلم أتمالك نفسي حين سمعتها تتكلم أن ظهرت علي الدهشة والاستغراب: فتاة لا أعرفها تكون وحيدة معي ثم تكلمني بسكون ومن غير خجل كما يكلمني أي رجل آخر، وتطلب أن تحجب النور ليمسي المكان الذي نحن فيه مظلما ... ثم ماذا يكون بعد ذلك؟
تولاني خجل لم أقدر معه أن أجيبها بحلوة ولا بمرة، بل قمت ساكنا فأرخيت ستاري المصباح وجلست منزويا في الركن حيث كنت، فلم تمهلني بعد ذلك أن شكرتني ثم هيأت لنفسها مضجعا اتكأت فيه وقالت (ولست أدري إن كانت تكلم نفسها أو تكلمني): آمل لا يصعد إلى القطار في جرنبل من يفسد علينا نومنا. تمطيت أنا في الجهة المقابلة ولم أقل كلمة واحدة كأني منها خائف وجل، وبقيت أغمض عيني وأفتحها وكلي الحذر ولا أفكر في شيء مطلقا، بقيت كالطفل الذي أمرته أمه أن ينام وهو لا يريد، وفي الوقت عينه لا يدري ماذا يفعل.
Shafi da ba'a sani ba