كان لمدارس الشعب فضل كبير علي، فهي التي ألهمتني الفكرة الأولى لتأليف كتابي «حقوق الشعب»؛ فإن هذا الكتاب هو سلسلة دروس ومحاضرات لتفهيم الشعب حقوقه وواجباته، وكانت دروسي في مدرسة الشعب بالخليفة نموذجا مصغرا للأسلوب الذي انتهجته في هذا الكتاب. (4) عودتي إلى المحاماة
حدث تحول في حياتي العملية في أواخر سنة 1909، ذلك أن زميلي وصديقي المرحوم الأستاذ أحمد وجدي الذي كنت أعزه وأنزله من نفسي منزلة الأخ الشقيق، رغب إلي أن أترك الصحافة، وكان هو أيضا يعمل فيها رئيسا لتحرير جريدة الدستور التي كان شقيقه الأستاذ محمد فريد وجدي بك يتولى إصدارها، وقال لي إننا يمكننا أن نشتغل بالمحاماة مستقلين، وأن نكتب في الصحف ما نشاء من الآراء والمقالات، وإن ذلك أولى من الانقطاع للصحافة مما قد يفقدنا ميزة الاستقلال في حياتنا العملية. وقد ترددت في قبول هذه الفكرة؛ إذ كنت منصرفا عنها، وما زال يقنعني بها حتى قبلت نصيحته بعد أن أمعنت النظر فيها ورأيتها في جملتها أصوب من انقطاعي للصحافة، وأدركت مع الزمن أنه أسدى لي أعظم نصيحة، وساءلت صديقي حين تبادلنا الرأي في تحقيق فكرته: كيف نشتغل بالمحاماة مستقلين وأنا لم أتمرن عليها إلا شهرا واحدا وهو أيضا لم يقض مدة كافية في المران عليها؟ وانتهينا إلى أن الحياة يجب أن تنطوي على شيء كثير من المجازفة ، فعولت وإياه على الانقطاع عن مهنة الصحافة، وعملنا معا في المحاماة بمدينة الزقازيق منذ يناير سنة 1910، وفتحنا في تلك السنة مكتبا آخر لنا بالمنصورة كنت أتولى مباشرة قضاياه، ثم انتقلت بمفردي إلى المنصورة واستقر بي المقام فيها منذ أكتوبر سنة 1913 حين أنشئت بها المحكمة الابتدائية، وظللت بها نحو عشرين سنة، إلى أن انتقلت نهائيا إلى القاهرة في ديسمبر سنة 1932.
وقد ارتحت كثيرا إلى التحول من الصحافة إلى المحاماة لأنني رأيتني قد بدأت حياتي في المحاماة هذه المرة (سنة 1910) بداية حسنة، ولم أجد فيها الصعوبة التي كنت أتخيلها، بل شعرت كأني متمرن عليها، فألفتها وأحببتها، وأدركت أنها هي المهنة التي يجب أن أختارها لأؤدي واجبي الوطني إلى جانب واجباتي الشخصية، وأخذت أكتب المقالات من آن لآخر وأبعث بها إلى جريدة «العلم» لسان حال الحزب الوطني، وظهرت أول مقالة لي وأنا محام في عدد 13 مارس سنة 1910 تحت عنوان: «قوة الرأي العام والحكومة». وكتبت في عدد 30 مارس من تلك السنة مقالة مطولة عنوانها: «الشدائد خير مرب للأمم»، هنأني عليها فريد بك؛ إذ جاءت مطابقة للظرف الذي نشرت فيه مطابقة عجيبة؛ فقد أرسلتها إلى جريدة العلم في الوقت الذي صدر فيه قرار وزارة الداخلية بإيقافها شهرين، ولم أكن أعلم بصدور هذا القرار، فنشرها الحزب في أول عدد من جريدة «الاعتدال» التي اتخذها لسان حاله مدة إيقاف العلم، فهونت على القراء أمر الإيقاف؛ إذ دعوت فيها إلى مقابلة الاضطهاد بالصبر والثبات، وكأنها كتبت ردا على قرار وزارة الداخلية، فكان لها ضجة استحسان كبيرة، وصارت حديث الناس في مجالسهم، وبخاصة حين علموا أني كتبتها دون أن أعلم بقرار إيقاف «العلم»، واستبشروا خيرا بما أكتب، وطلب مني فريد بك المزيد من الكتابة، فكان ذلك التشجيع حافزا لي على توكيد صلتي بالصحافة، وزاد في توطيدها أن أخي «أمين» كان محررا مقيما بصحيفة الحزب الوطني ثم رئيسا لتحريرها.
وفي سبتمبر سنة 1910 انقطعت مؤقتا عن مكتبي، وتوليت رئاسة تحرير العلم في غيبة شقيقي أمين الذي سافر إلى أوروبا لحضور جلسات المؤتمر الوطني الذي انعقد ببروكسل في ذلك العام وموافاة العلم برسائل المؤتمر، وكان الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس التحرير يقضي مدة السجن المحكوم بها عليه من محكمة جنايات مصر في قضية «وطنيتي»، وكانت إدارة العلم بشارع محمد علي بالمنزل رقم 116. (5) في مؤتمر بروكسل سنة 1910
ساهمت في مؤتمر بروكسل سنة 1910، وكان موضوع خطبتي فيه «مركز الصحافة في مصر والأدوار التي تعاقبت عليها في عهد الاحتلال»
2
بالفرنسية، وقد ألقاها عني فؤاد بك حسيب بجلسة 24 سبتمبر ولم أحضر المؤتمر بنفسي؛ إذ كنت مشغولا بالإشراف على تحرير العلم وقت انعقاده. وقد نوهت مدام جولييت آدم إلى هذه الخطبة في كتابها «إنجلترا في مصر» الذي ظهر سنة 1922 في فصل «الصحافة»، وأثنت على الخطبة وصاحبها، ونقلت منها صحائف بأكملها محبذة مؤيدة لمحتوياتها.
ولما رجع المرحوم أمين من بروكسل عدت إلى عملي في المحاماة. (6) في المؤتمرات الوطنية
كان الحزب الوطني يعقد مؤتمرات سنوية تجتمع فيها الجمعية العمومية للحزب ويستعرض فيها فريد بك تطور الحركة الوطنية في العام المنصرم، وكانت هذه الاجتماعات تسمى المؤتمرات الوطنية، وأهمها مؤتمر سنة 1908 و1910 و1911.
وكنت أحضر هذه المؤتمرات كعضو في الحزب الوطني، وقد انتخبت عضوا في اللجنة الإدارية للحزب في مؤتمر سنة 1911 الذي انعقد بدار العلم بشارع الصنافيري (علي باشا ذو الفقار الآن)، وانتخب فيه فريد بك رئيسا مدى الحياة. (7) مع فريد في أوروبا
Shafi da ba'a sani ba