Mudhakkirat Najib al-Rihani
مذكرات نجيب الريحاني
Nau'ikan
تتوسط جمهورية أرجواي جمهوريتي البرازيل والأرجنتين، وقد نصح لنا بعض الصحب ألا نقصد إلى هاتين الجمهوريتين رأسا، بل نمر بأرجواي أولا، وهناك نعمل على الاتصال بسوري كبير يشتغل في تجارة الحرير، وله في جمهوريات أمريكا الوسطى كلمة مسموعة ونفوذ طائل، وركبنا البحر إلى (مونتيفديو) في أرجواي، وفي المحطة التي رست فيها السفينة على الميناء كنت جالسا في صالون الدرجة الأولى بها، فسمعت أشخاصا يخترقون صفوف الركاب وينادون بأعلى أصواتهم: «سنيور ريحاني سنيور ريحاني». وما كدت أسمع النداء حتى اعتقدت أن هناك مكيدة دبرت لنا، وأنهم لا شك آخذونا من الدار إلى النار.
وجاءت بديعة وقد كسا وجهها الاصفرار، وكاد يغمى عليها.
وتقدمت من هذا المنادي متصنعا الشجاعة، (قال الشجاعة قال وأنا ركبي عاملة زي الشخشيخة!) وقلت: «هاأنذا». فابتسم الرجل وقدم نفسه إلي فإذا به صحفي عرف بمجيئنا فوصل ومعه المصورون لالتقاط صور لنا، وعمل أحاديث معنا! الله يغمك يا حضرة الزميل الفاضل (باعتباري الآن صحفيا ولو خارج الهيئة)، وأنت كركبت مصارين السنيور ريحاني!
نهايته كان عدد أفراد الفرقة ثمانية أشخاص بما فيهم أنا وبديعة، ولما كان كلانا في الدرجة الأولى فإننا لم نشعر بصعوبة كبيرة في إجراء الكشف، وأما ركاب «السكندو» فقد كانت الدقة رائد الطبيب عند توقيع الكشف. وكان من سوء الحظ أن تكون عينا محمود التوني موئلا بل مخزنا لحبوب «التراخوما»، فمنع من النزول إلى البر بتاتا. وبعد جهاد ومشاوير من هنا لهنا، صرح له على شرط السفر فورا إلى الأرجنتين دون تمضية وقت طويل في أرجواي.
لغاية هنا كويس، لكن إيه اللي رايح يوصله الأرجنتين يا نضري؟ ذهبنا لقطع تذاكر السفر بحرا إلى «بونس أيرس» فطلب منا مبلغ ثمانمائة جنيه كتأمين بمعدل مائة جنيه لكل شخص، حتى إذا ظهر أن شخصا واحدا مصابا بالتراخوما ضاع علينا المبلغ جميعه.
يادي الحوسه! ما هو ظهر معنا شخص واحد عنده تراخوما توزع على أورطه بحالها!
عملية تهريب
وعقدنا مؤتمرا منا ومن التاجر السوري الكريم، الله يمسيه بالخير، وفي هذا المؤتمر تفتقت الأفكار عن حيلة لطيفة هي أن تسافر بديعة بحرا مع الخمسة السليمين وبذلك نطمئن على استرداد التأمين، وهو في هذه الحالة ستمائة جنيه. أما أنا ومحمود فلنجتز الحدود سرا ولنغامر بالهرب على أن يعاوننا ذلك الشهم السوري وأعوانه.
وأقلعت السفينة ببديعة وبقية الفرقة. أما أنا والتوني فقد صحبنا رجل من قبل تاجرنا الكبير يحمل معه خطابا إلى رجل آخر في مدينة أخرى. وامتطينا قطار السكة الحديد، ومكثنا فيه ثلاثة أيام بلياليها نجوب مجاهل أمريكا، مجاهلها والله العظيم. وبلد تشيلنا وبلد تحطنا، وفي كل منها يسلمنا شخص إلى آخر وهذا يسلمنا إلى غيره. وفي كل مرة يصحبنا خطاب من محطة التصدير، إلى محطة التوريد! وكأننا بضاعة مهربة: كوكايين، هيرويين، حشيش، إلى آخر اللستة إياها.
وفي المرحلة الأخيرة، وبعد الليالي الثلاث، وصلنا محطة صغيرة على شاطئ نهر، وفيها نزلنا وأشار دليلنا بإصبعه إلى الشاطئ الآخر من النهر قائلا: «شايفين الكشك اللي هناك ده. أهو إذا نفدتم منه بقيتم في أرض الأرجنتين. ويبقى في إمكانكم تحطوا صوابعكم في عينين الجعيص، حتى لو ظهرت التراخوما في دمائكم مش بس في عنيكم!».
Shafi da ba'a sani ba