وقد كتبت في مفكرتي الخاصة يوم الجمعة 10 يوليو 1914 هذه السطور: أف، ما أطول ليلة الأمس علي، وما أثقل هذا اليوم الحزين! ... سأمضي كل مدة «الكور» - العلاج - بهذا الشكل ... محرومة من أويقات حريتي التي ألقي فيها العنان على عاتق أفكاري وتذكاراتي وأنفرد بهم عن كل شغل وشاغل بين كتبي وتخيلاتي وأحلامي وأوهامي وصلاتي وعبادتي وماضي وحاضري، وبالجملة حياتي الحقيقية ... حياتي الشخصية التي فيها أكون أنا ... معي نفسي ... فلها أو عليها كما تقتضي الظروف ... فإلى اللقاء يا أنا!
وكتبت في اليوم التالي السبت 11 يوليو: أمضيت هذا اليوم أطوف في البارك مثل التائهة وحدي؛ حيث إن الأولاد كانوا يتفرجون على «قرة جوز» وكان الباشا مشغولا بأخذ مياهه في الأوقات المعينة لها، فأين أنت يا والدتي العزيزة؟ وما حالك الآن؟ كنت قبل سنتين تلازمينني في مثل هذه الساعات، والآن ليس معي إلا تذكارك، وأي تذكار يا رباه أينما أكون، أتصورك في فراشك طريحة الآلام، فتظلم الدنيا في عيني فينعكس فيهما ما كنت أراه حسنا.
على أنني قد حاولت أن أملأ فراغ وقتي. ولما كانت بلدة «دون ريمون» وهي بلدة «جان دارك» لا تبعد كثيرا عن «فيتيك» فقد زرتها وشاهدت الغرفة الصغيرة التي كانت تسكنها، والشجرة التي كانت تؤدي صلاتها تحتها فتسمع أصوات «سانت كاترينا» و«سان ميشيل» يأمرانها أن تخلص فرنسا من احتلال الإنجليز في عهد الملك شارك السابع. وقد أعطاها الملك قوة مسلحة صغيرة هجمت بها على الإنجليز وانتصرت عليهم في «باتي» ثم خانها أحد الفرنسيين وحاكمها الإنجليز وحكموا عليها بالإعدام حرقا ... وبعد ذلك أخذ الفرنسيون يقدسونها، واتخذوا من بيتها الصغير متحفا فيه كل الآثار التاريخية القديمة الموجودة في «دون ريمون».
ولما أوشك الباشا أن يتم حماماته، سافرت إلى باريس لقضاء بعض حاجياتي على أن أعود مع حسن شعراوي، وقد نزلت في شقة كان أخي قد استأجرها بدلا من النزول في الفندق لعدم وجود أحد معي سوى خادمتي «مرجريت».
وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدت باريس خالية، وشوارعها هادئة ساكنة، ووجوه سكانها عابسة كاسفة. وكان قد صادف وجودي بها أواخر شهر يوليو عندما وقعت حادثة «مدام كايز» التي قتلت «مسيو بينيت» صاحب ومدير جريدة «الفيجارو». وكان الجميع يكيلون لها اللعنات رغم أنهم كانوا يعلمون أن هذه السيدة لم تقدم على ارتكاب جريمتها إلا بعد أن سعت بكل جهدها لكي تمنع «مسيو بينيت» من نشر الوثائق التي كانت تحت يده، والتي كان يهددها هي وزوجها بنشرها وفيها ما يلوث شرفهما، فلما فعل، لم تستطع كبح جماح نفسها فقتلته.
وفي الوقت نفسه، كنت أسمع الناس يتحدثون عن احتمال وقوع الحرب بين فرنسا وألمانيا، وما كنت أصدق ذلك لثقتي العظيمة في أن المدنية التي وصلت إليها أوروبا ستمنعها من خوض غمار الحرب، التي تعتبر أشد أنواع الوحشية. ولكن عندما زارتني صديقتي «مدموازيل كليمان»، وجدتها شاحبة وتكاد تكون مقوسة الظهر من هول الموقف فسألتها: أتظنين حقا أن الحرب قائمة، فقالت: نعم مع الأسف؛ لأن الحالة تفاقمت تفاقما شديدا، فقلت لها: وماذا سيكون موقفكم أنتم يا أنصار السلام؟ قالت: سنكون بجانب شعبنا؛ لأن صوتنا ما زال ضعيفا، وقد عجبت من ذلك، ولم أصدق أبدا أن الحرب ممكنة.
ولكن عندما توجهت في اليوم التالي لقضاء حاجياتي وأردت صرف ورقة مالية قيمتها ألف فرنك، لم أجد قيمة صرفها ذهبا، وأتت إلي الصرافة وبيدها كيس مليء بالفضة، وقالت لي: لقد جمع كل الذهب ولم يبق عندي سوى الفضة ...
وقد فضلت أن تعطيني ورقا بدلا من الفضة الثقيلة، وقد أسفت بعد ذلك لأنني كنت أجهل قيمة الدراهم الفضية.
وفي اليوم الذي أردت فيه العودة إلى «فيتيل» مع حسن شعراوي، سألني الخادم عما إذا كنت قد حجزت في القطار؛ لأنه يتعذر غالبا وجود محلات مرموقة خالية، فأجبته بالنفي، وكان أن سبقنا إلى المحطة لحجز المحلات، ولكننا عندما توجهنا إلى القطار، وجدنا كل دواوينه خالية، فلم يسافر في القطار سوانا نحن الثلاثة وأحد المراكشيين! ...
ولما وصلنا إلى «فيتيل»، وجدت الباشا والأولاد في انتظارنا بالمحطة، وقد استقبلوني في لهفة قائلين إنه لم يبق بالفندق الذي نسكنه أحد غيرنا؛ لأن الناس هجروا المدينة خوفا من الحرب لقربها من الحدود، وكان ذلك يوم 29 يوليو، وقد قررنا أن نغادر «فيتيل» بعد يومين أو ثلاثة أيام، وعلى الأكثر في اليوم الثاني من شهر أغسطس.
Shafi da ba'a sani ba