كانت في حياتنا الأسرية صداقات وطيدة، وفي مقدمة السيدات اللائي كنت أكن لهن الحب والاحترام، المغفور لها سمو الأميرة أمينة إلهامي قرينة الخديوي توفيق، فقد كنت أجد منها العطف والمجاملة، ولذلك ظلت منزلتها في نفسي كما كانت حتى الآن.
وقد عرفتها وأحببتها وأعجبت بجمالها وجلالها وأنا طفلة بعد وفاة والدي، إذ كانت والدتي تأخذنا معها إلى السراي كلما التمست المساعدة في أمورنا وأشغالنا، أو حسم النزاع بالنسبة لبعض مشاكل الميراث، وأذكر أنها كانت تنظر إلينا في حنان، وتأمر الجواري بأن يذهبن بنا إلى غرفة أولادها الأمراء والأميرات، فكنا نلعب معهم حتى تنتهي زيارة والدتي وتستأذن للانصراف.
وأذكر أن أخي الذي لم يكن قد تجاوز الرابعة من عمره، قد أعجبته ذات مرة لعبة كبيرة من لعب الأميرات، وأصر على ألا يخرج بدونها، وعندما عرفت الأميرة الوالدة أمرت بإعطائها له، فخرج مسرورا بينما كنت أتصبب عرقا من الخجل لأني بحكم السن كنت أدرك أكثر منه ما يليق وما لا يليق.
ومن بين هؤلاء أيضا سيدة فرنسية كانت زوجة أحد كبار مهندسي الري في الوجه القبلي، وكانت قد جاءت إلى مصر مع خالها وهو مهندس أيضا؛ حيث لم يكن لها من عائل سواه إذ كانت يتيمة الوالدين. وقد أحبها ريشار وتزوج منها ، ثم مات خالها وبقيت هي مع زوجها في مصر.
وكانت هذه السيدة خفيفة الروح، رقيقة الحاشية، جذابة أكثر منها جميلة، وكانت ذات عينين سوداوين فاتنتين مثل شعرها الفاحم. وكان زوجها يفوقها جمالا تزينه الرجولة والشجاعة والمروءة. وكانت زوجته مكروهة من النساء، وكان هو أيضا مكروها من الرجال؛ لأن حبهما المتبادل الوثيق لم يسمح لأحد أن يطمع في الوصول إليهما.
وفي ذلك الوقت، كان أحد الباشوات يشغل منصب مفتش عام الوجه القبلي، قبل أن يشغل والدي هذا المنصب، فكان بحكم وظيفته رئيسا للمسيو ريشار، وكثيرا ما كان يدعوه مع زوجته إلى سراياه ويحتفي بهما حفاوة بالغة. وقد فهمت مدام ريشار من مجاملته لهما وكثرة تردده عليهما أنه يقصد استمالتها إليه، فصارت تحتجب عنه وتعتذر عن قبول دعوته وإذا أتى للزيارة في غياب زوجها امتنعت عن مقابلته، وكان من نتيجة هذا الصد من جانبها أن فصل زوجها من عمله، ولما كانا فقيرين لا مورد لهما إلا الوظيفة، فقد ذاقا مرارة العيش وبؤسه مدة طويلة، تحملاها بصبر في سبيل الذود عن شرفهما وكرامتهما. ولم تشأ عدالة السماء أن يستمر عذاب هذين الزوجين البريئين طويلا، فنقل هذا الباشا إلى وظيفة أخرى، وخلفه والدي الذي كان على علم بما نالهما من جور سلفه، فأعاد ريشار إلى وظيفته وأولاه كثيرا من عطفه وتقديره، وقد جعلهما هذا الموقف يدينان بفضله. وبقيت هذه المودة إلى أن توفي المسيو «ريشار» عام 1883 أي قبل وفاة والدي بسنة واحدة، ومنذ ذلك الوقت تحول حب هذه السيدة نحونا بإخلاص شديد، وكان لي من هذا الحب أوفر نصيب؛ لأنها كانت ترى في صورة شبيهة بصورة والدي وأخلاقه، فتعلقت بي تعلقا شديدا كان له الأثر الكبير في تربيتي معنويا وأدبيا. وأعتقد أنني قدرت شعورها نحوي حق قدره، فبادلتها هذا الحب طول حياتها ... وكانت عندي المثل الأعلى للوفاء والإخلاص والأمانة، وكانت والدتي من قبل قد آنست فيها هذه الصفات، فكانت تعهد إليها بالبقاء معنا كلما تغيبت عنا أو سافرت المنيا لزيارة قبر والدي. ولم تكن تأتمن أحدا غيرها علينا.
وكانت مدام ريشار في هذه الأثناء تلازمنا ليل نهار وتراقب دروسنا وتحثنا على الدرس والتحصيل وتلعب معنا كأنها طفلة وتلقي علينا النصائح والحكم، وعندما كانت تعود والدتي، كانت تغادرنا آسفة على فراقنا، وكثيرا ما كانت تأتي لتصحبنا لمشاهدة السيرك والحفلات المختلفة، وعندما كان يسألها أحد عما إذا كنت ابنتها، كانت تطير فرحا وتقبلني قائلة: إذن هدى تشبهني.
كانت «فطنات» وصيفة والدتي تكرهني كرها شديدا ... وكانت أيضا تكره مدام ريشار من أجلي؛ لأنها كانت تدافع عني وتحميني من شرها. قد حاولت هذه الوصيفة مرارا أن تشي بمدام ريشار عند والدتي، وقد نجحت فعلا في آخر الأمر، وكان علي أن أدافع عن صديقتي وأنفي عنها ما كانت ترميها به «فطنات» من تهم.
وكانت تتمادى في الإساءة إلى من في البيت، وفي مقدمتهم فتاتان مصريتان تربيتا معي ... وقد ظلت كذلك إلى أن هربت الأولى «فردوس» من المنزل، ولجأت إلى دار الحرية، ورفضت العودة إلى البيت؛ رغم حبها الشديد لي، وبقيت أنا والفتاة الأخرى «ياسمين» نتقاسم اللعنات التي كانت تصبها علينا، وفضلا عن ذلك فقد كان علي أن أواجه محاولتها بذر الشقاق بيني وبين أخي، فقد كنت أنصحه بالمواظبة على دروسه والجد في طلب العلم، بينما كانت هي توحي إليه بأنه غني ومثله ليس في احتياج للتعليم. وما زالت وراءه تحضه على التراخي والتكاسل حتى اتسعت بيني وبينه شقة التنافر وقد أرادت أن تستغل هذا الخلاف لتقصيه عني، ولكنها فشلت في أن تؤثر في عواطفه نحوي.
وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى ناهزت الثالثة عشرة من عمري، فتقدم لطلب يدي من والدتي شاب من رجال القصر، وكان ذلك في أواخر عهد الخديوي توفيق، ولكن والدتي لم تقبل طلبه، وقد علمت بذلك مصادفة فيما بعد.
Shafi da ba'a sani ba