وكانت تأتي على عربة نقل تسميها «الفيتون» ... ولما كانت تدخل منزلنا، كان يمتلئ الجو بتلك الروائح الزكية، كما كان يمتلئ فرحا.
وكانت صورتها تختلف تماما عن البائعات الجائلات اللاتي كن يحضرن أحيانا، وهن يحملن بضائعهن داخل ربطات «بقج» أو يحملنها لفتيات صغيرات يصحبنهن لهذا الغرض، ثم يفتحن هذه الربطات وسط الغرفة ويعرضن بضائعهن على أهل المنزل، وللترغيب في شرائها كن يذكرن أن حرم فلان باشا اشترت من هذا القماش، وكريمة فلان بك اختارت هذا النوع، وهكذا ... وإذا سأل أحد عن تلك السيدات، انطلقن يسردن ما رأينه في بيوتهن أو ما سمعنه عنهن مع المبالغة في سرد هذه الأخبار.
وكنت أكره هؤلاء النسوة؛ لأني كنت أعلم إنهن كثيرا ما تسببن في خراب البيوت الكبيرة ماديا وأدبيا عن طريق الربا الفاحش أو بذور الخلاف والشر ... وكانت صديقتي «مدام ريشار» هي التي حذرتني منهن، وروت لي حوادث واقعية كن بطلاتها، وقد تحققت من ذلك عندما كبرت وحاولت بعضهن استغلال الشقاق الذي كان بيني وبين زوجي في التدخل في أموري. وقد وصلت الجرأة بإحداهن أن صرحت لي يوما بأنها وزوجها يشفقان علي ويضعن نفسيهما رهن خدمي وأن زوجها بما له من الاتصال بعظماء البلد يمكنه أن يساعدني على الطلاق من زوجي، وأن في إمكانه أن يأتي لي بفتاة تخول لي حق الانفصال عنه، ولكن هذا يستدعي مصروفات كثيرة. وكانت صديقتي «مدام ريشار» قد حذرتني من هذه المرأة بالذات ... وكنت لحسن ظني بالناس أتصور أن صديقتي تغالي أحيانا في سوء ظنها بهم، ولكن في تلك الساعة ظهرت لي هذه السيدة في صورتها الحقيقية، فقلت لها وقد منعني الحياء لصغر سني من طردها أو إظهار امتعاضي منها أو سوء ظني بها، إنني لا أملك المبالغ التي يتطلبها مثل هذا العمل، فقالت لي في خبث ودهاء: إن عندك من الجواهر كثيرا، فيمكنك أن تبيعي منها، فأجبتها بأن والدتي هي التي تحفظ لي هذه الجواهر، فقالت: يمكنك أن تعطيني فردة من هذا القرط الجميل الذي ترتدينه، وأعتقد بأن ثمنها يفي بكل المصروفات ويزيد، وإذا سألتك والدتك عنه فقولي لها إنه فقد منك في زيارة أو فرح، عند ذلك تجلت لي في صورة أبشع مما صورتها لي صديقتي، فقلت لها وقد أعيتني الحيلة: إنني أبغض الكذب، ولا أريد الانفصال عن زوجي ولا أسعى إليه ...
وكانت هذه هي الحقيقة ...
ولكن هذا الموقف لم يثن من عزمها، بل أخذت تتحين الفرص للتقرب مني واستغلال سذاجتي لتصل إلى الاستفادة المادية التي تنشدها، فلما اشتريت قطعة الأرض التي بنيت عليها فيما بعد منزلي الحالي، كان الشراء بوساطة زوجي الذي كان وكيلا عنا، وقد حاولت هذه السيدة أن تدس عليه، فسألتني يوما عن ثمن المتر من هذه الأرض، فأجبتها، فقالت لي: كم يظلمونك. إن هذه الأرض لا تساوي نصف ثمنها. فأثر في ذلك وصدقته إلى حد ما، ولكن لم يمض شهر حتى عادت تقول لي إن زوجها وجد مشتريا لهذه الأرض بالقيمة التي دفعت فيها، ونصحتني بأن أنتهز هذه الفرصة فأبيعها وأشتري بثمنها قطعة أفضل منها، فرفضت.
وعادت بعد أسبوع تعطيني فيها 50٪ زيادة على ثمنها الأصلي، فأظهرت لها دهشتي من عرض هذه الزيادة وقد كانت منذ حين تبخس قيمة هذه الأرض، وظلت تتردد بين الحين والآخر تزيد في الثمن حتى بلغ ما عرضته ثلاثة أضعاف الثمن الأصلي، وكان نصيبها الرفض في كل مرة.
ولقد وصلت الجرأة بزوجها إلى أن يتسلم عربونا لبيع الأرض أثناء غيابي عن مصر، دون تفويض مني يخوله ذلك، كما أرسل إلي برقية يخبرني فيها أنه تسلم العربون ويطلب موافقتي على البيع، فكان ردي هو الرفض البات، فأثار هذا حقده، وحول مؤامراته للدس لي عند زوجي وشقيقي بخطابات مجهولة الإمضاء يحمل علي فيها، ولما ضقت به ذرعا، سردت على صديقتي حرم المغفور له حسين رشدي باشا هذه القصة، وسلمتها خطاباته لتطلع زوجها عليها، وكان لدي خطاب منه بخط الخطابات المجهولة نفسه ... وكان رشدي باشا يشغل في ذلك الوقت منصبا كبيرا في وزارة الحقانية، فما كان منه إلا أن استدعاه وهدده بالنفي من مصر في ظرف أربع وعشرين إذا لم يرتدع، وبعد ذلك لم أسمع عنه أو عن زوجته شيئا. وهكذا نجوت منهما.
ولعل هذه القصة تكون درسا للسيدات والفتيات، فيأخذن حذرهن من أمثال هؤلاء النسوة اللاتي يترددن على البيوت، ويمشين بالشر بين أهلها.
كانت هذه هي صورة تسليتنا في حياتنا العائلية على ما كان بيتنا فيه من حداد.
وكان يزيد في اغتباطنا زيارة أصدقاء المرحوم والدي لنا، وحدبهم علينا، واهتمامهم بنا، وأذكر منهم الزبير باشا والشيخ علي الليثي والأنبا كيرلس بطريرك الأقباط وقليني فهمي باشا وحسن حسني باشا وثابت باشا الذي كانت تربطنا بأبنائه أواصر صداقة منذ الصغر؛ لأنه كان جارنا وصديقا لوالدي، كما كانت والدتهم صديقة لوالدتي.
Shafi da ba'a sani ba