وقد زادني يقظة وحرصا، اختبار آخر أودى بما كنت قد ادخرته منذ عام من المصروف اليومي الذي كانت تعطيه لي والدتي ووالدتي الكبيرة.
كنت ألعب بعد ظهر أحد أيام رمضان في الحديقة كعادتي عندما رأيت سيدة ملثمة تهرول نحو المنزل، ولم أكن أعرفها، وقد عجبت لمجيئها في مثل هذه الساعة على خلاف العادة في رمضان؛ حيث تجري الزيارات ليلا بعد الإفطار، فتبعتها وصعدت السلم خلفها ثم رجوتها أن تنتظر في البهو حتى أخبر والدتي لمقابلتها. ولما دخلت غرفة والدتي وجدتها مستغرقة في النوم، فقصدت إلى غرفة والدتي الكبيرة، وكانت مستيقظة، فأخبرتها بوجود زائرة، فرفضت مقابلتها وأشارت إلى الخادم بإغلاق باب غرفتها، فرجعت إلى السيدة التي بقيت متسترة في برقعها الكثيف لأعتذر لها وأنا في شدة الخجل بأن كل من في البيت نائمون الآن. وسألتها عن حاجتها، فقالت: إنها زوجة أحد الباشوات من جيراننا، توفي زوجها الثري بعد أن فقد كل أمواله في أخريات حياته وتركها هي وأولادها في حالة سيئة من الفقر والبؤس حتى إنهم كثيرا ما ينامون جياعا. وكانت قد أتت لتطلب المعونة من والدتي، فتأثرت بما سمعت وعدت إلى غرفة والدتي لأوقظها ولكني لم أجرؤ على ذلك، وتذكرت المبلغ الذي وفرته من مصروفي لشراء بعض اللعب واللوازم، وكان داخل دولاب في غرفة والدتي، فمشيت على أطراف أصابعي وفتحته برفق واحتراس كي لا أوقظها، وأخذت المبلغ كله - وكان سبعة جنيهات - وأعطيته لها في خجل نظرا لضآلته، وكدت أصعق عندما اختطفت مني النقود وتركتني مهرولة نحو السلم دون أن تشكرني، فبقيت في مكاني لا أبدي حراكا، ولكني تغلبت على ذلك ورجعت إلى حسن ظني قائلة في نفسي لا بد إنها من فرحها واستعجالها لشراء الطعام لأطفالها نسيت واجب الشكر. وبذلك عاودتني الطمأنينة، ونزلت إلى الحديقة أستأنف اللعب وقلبي تملؤه الغبطة والرضا عن نفسي.
وبعد بضعة أيام، جاءتني إحدى جاراتنا لزيارة والدتي. وسمعتها في حديثها تقص عليها نبأ لص متنكر في زي امرأة أو لصة تدخل البيوت في ساعات الراحة لتسرق ما يمكنها سرقته، أو لتستغل رحمة أصحابها بطلب المعونة بزعم إنها من بيت عريق، وعندما سمعت ذلك، أسفت كل الأسف، ليس لضياع نقودي فقط، بل لأنني كنت للمرة الثانية ألعوبة الخادعين، وكتمت الأمر عن والدتي وكل أهل المنزل.
قلت إنني كنت أمضي كل أوقات فراغي في الحديقة، وأفضل اللعب فيها بعد الغداء على النوم، فإذا حل العصر، خرج «سعيد آغا» من غرفته، وأمرني في عبوس أن أصعد لتغيير ملابسي استعدادا للخروج للنزهة مع شقيقي الذي كان يقول لي بتهكم: أما تستحين من بقائك طول الوقت في الحديقة، وأنا مع كوني ولدا أمضي أكثر أوقاتي داخل المنزل؟ فكنت أرد عليه بحسرة قائلة: غدا ستنعكس الآية، وأنا التي سأبقى في البيت وتكون أنت خارجه.
ثم كنا نخرج مع «سعيد آغا» خائفين في معظم الأحيان، ذلك أننا إذا كنا قد أذنبنا في شيء نحو مربيتنا، فقد كانت تشكو إليه ذنوبنا وهو الذي يتولى القصاص. كان يأخذنا إلى الجبلاية ومعنا الفتاتان ويصعد بنا إلى قمتها، ويأمرنا واحدا واحدا أن نأتي إليه بفرع من فروع الشجر، ثم يسرد علينا ما وصله من الشكاوى ضدنا، وبعد ذلك يتلو الحكم على المذنب منا، ويأخذ منه الفرع قائلا: افتح يدك، ثم يضربنا على كفوفنا حسب درجة الذنب ويتركنا نبكي، وبعد ذلك يخرج مناديلنا من جيوبنا ويمسح لنا دموعنا، ويقول: الآن وقد نال كل منكم جزاءه، حذار أن يعود أحدكم إلى مثل ما فعل، وإن عدتم إلى مثل ذلك فسيكون العقاب مضاعفا.
وبعد ذلك يصبح طفلا مثلنا، يلعب معنا ويجري أمامنا ونجري خلفه، فكنت أنسى سيئاته بالحسنات التي تعقبها. وذلك بخلاف شقيقي الذي كان يضمر في نفسه كل شيء، وعندما يصل إلى داخل المنزل ويشعر أنه في مأمن منه، يصرخ صراخا عاليا وهو يصعد السلم، فتسرع والدتي لاستطلاع الخبر، فيشكو لها وهو يشهق بالبكاء ما فعله الآغا قائلا: ضربني هذا العبد.
وكنت أحدق فيه ببصري ليسكت، ولكن عبثا كنت أحاول إسكاته، ولما كانت والدتي تحقق في سبب عقابنا، كان يخبرها الآغا بأننا كنا نستحق هذا العقاب، ويقص عليها الأسباب، فكانت تهدئ من ثورة أخي قائلة: هذا مربيك ولم يفعل ذلك إلا لصالحك ...
كنت أحب «لا لا سعيد آغا» لأني كنت أشعر بحبه وإخلاصه لنا رغم ما يظهره من القسوة أحيانا، ولا أنسى مدى الحياة ساعة خطر رأيته فيها يضمنا إلى صدره ناسيا نفسه، وكان ذلك ذات يوم توجهنا فيه إلى الجزيرة للنزهة في عربتنا، وكان يجرها جوادان روسيان كبيران في غاية القوة، وكانا لم يخرجا منذ بضعة أيام، وما كدنا نجتاز كوبري قصر النيل حتى جمحا على جسر الجزيرة متجهين إلى منحدر نحو النيل. فذعر «سعيد آغا» وأخذنا بين ذراعيه وصرخ بأعلى صوته: آه يا أولاد سيدي ...
وكأن الله قد أراد أن يكافئ إخلاصه هذا بنجاتنا؛ حيث شكم السائق الجوادين بقوة، فوقفا تماما، ونزلنا من العربة حتى هدأت ثورتهما، ثم استأنفنا نزهتنا.
كان «لا لا سعيد» أبيا، معتدا بنفسه، مفاخرا بانتسابه لبيتنا، وكانت والدتي تعزه كثيرا وتعطف عليه؛ لأن والدي اشتراه صغيرا وعني بتربيته، وتعليمه في المدارس، وكان يحب والدي إلى درجة العبادة، ولما كبر، وجه حبه إلينا، وكانت والدتي تقدر فيه الحب لوالدي ولنا من بعده، وقد شببت وأنا أقدره وأعرف له فضل تربيتنا، وكان تأثير ذلك علي كبيرا.
Shafi da ba'a sani ba