لحضرة الفاضلة المحسنة الكبيرة هدى هانم شعراوي همة عالية، فهي لا تخطو خطوة ولا تأتي بحركة أو سكون، إلا لتنهض بعمل مفيد يعود على الأمة بالنفع، ناهيك بالمصنع العظيم الذي وهبت له الأموال الطائلة وأنشأته لعمل الخزف وجميع أنواع الصيني وجعلته خاصا لتعليم المئات من أبناء الفقراء والأيتام، وفوق ذلك فها هي المجلة الكبرى «المصرية» التي أنشأتها في مصر باللغة الفرنسية للدفاع عن كرامة السيدات المصريات تبرهن على سمو أفكارها، وكم لحضرتها رحلات في عواصم أوروبا وفي أمريكا ولأعظم مؤتمرات السيدات في الغرب، كانت فيها خير مثال لتشريف اسم السيدة المصرية.
الفصل التاسع والثلاثون
كانت مسز بانكهرست من أعظم الشخصيات النسائية التي برزت في بداية القرن العشرين، وكانت ابنة رجل من أعيان مدينة مانشستر، وقد تزوجت من الدكتور ريتشارد بانكهرست، وهو من كبار المحامين الإنجليز، وأنجبت منه ثلاث بنات وابنا واحدا، وكانت قد تلقت دراستها في مانشستر وباريس، وكان زوجها يعنى بكثير من الإصلاحات الاجتماعية، فكانت تساعده في ذلك وتؤيده، وبخاصة في كل ما له علاقة بإصلاح حال المرأة وتحريرها، وفي أوائل هذا القرن انتخبت عضوا في مجلس التعليم بمانشستر، ولكنها استقالت في عام 1906 وتفرغت للدفاع عن حقوق المرأة وإصلاح حالة الفقراء.
وكان زوجها قد مات قبل وفاتها في منتصف يونيو 1928 بثلاثين عاما، فانصرفت كلية طوال هذه الفترة لقضايا الوطن والمرأة، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، وقفت نفسها لخدمة الوطن، وتغاضت عن حقوق المرأة مؤقتا، وأخذت تعمل بين الشبان وتبث الدعوة للتطوع للحرب دفاعا عن الوطن ... وكانت لها خطب حماسية مشهورة يرددها الجنود في طريقهم إلى الميدان لترفع معنوياتهم وتزيدهم حماسة وصلابة.
وقد اهتمت الصحافة المصرية بنبأ وفاة مسز بانكهرست، باعتبارها زعيمة نسائية مرموقة على المستوى العالمي، وكتبت جريدة السياسة تقول:
في منتصف الشهر الحالي ... نعت الأسلاك البرقية مسز بانكهرست زعيمة المطالبات بحقوق المرأة في بلاد الإنجليز، وصاحبة الفضل الأكبر في تمتع النساء الإنجليزيات بما يتمتعن به من حقوق الانتخاب وما يتصل به من المزايا السياسية المختلفة، ولسنا نغالي إذا قلنا إن الثورة التي حملت مسز بانكهرست لواءها في إنجلترا ردحا من الزمن، هي سبب ما تتمتع به النساء اليوم في جميع أنحاء العالم من الحقوق السياسية والاجتماعية، فقد سرى لهيب تلك الثورة إلى جميع الأنحاء، وأيقظ في نفس المرأة الرغبة في التحرر من أصفاد الرق التي كانت ترسف بها منذ العصور المظلمة .
واستطردت الصحيفة تتحدث عن جوانب شخصية مسز بانكهرست، فقالت:
ولم تكن زعامة النهضة النسوية السياسية لتلهي مسز بانكهرست عن السعي لرفع مستوى تعليم المرأة والعناية بالعمال والعاملات وإصلاح شئونهم، وقد وقفت على ذلك قواها العقلية والجسدية ... ولحسن حظها كان زوجها يؤيدها في جميع مساعيها ... فكانت تزور المراكز التي تكثر فيها النساء العاملات فتدرس أحوالهن وتقف على جميع مطالبهن، ولم تكن حالة المرأة الإنجليزية يومئذ أحسن بكثير من حالة المرأة في العصور المتوسطة، ومع أن مسز بانكهرست رفعت صوتها بالشكوى من تلك الحالة مرارا ... إلا أن عظماء السياسة من الرجال وجميع الذين كان بيدهم مقاليد الأمور كانوا يسخرون بمطالبها ويصمون أذانهم عن سماع صوتها ضاحكين هازئين، ولم يكن عنادهم يزيدها إلا عنادا، فأخذت من سنة 1906 تجمع الأموال اللازمة لها لبث دعوتها ... وقد نجحت في هذا نجاحا غير منتظر، حتى قيل إنه ما من نهضة في إنجلترا جمعت لها الأموال التي جمعتها مسز بانكهرست لنشر دعوتها وإصلاح حالة المرأة الإنجليزية.
وما كادت الحرب تنشب في سنة 1914 حتى تناست مسز بانكهرست وجميع نساء إنجلترا قضيتهن، فسكتن عن المطالبة بحقوقهن مؤقتا وأخذن يوجهن كل جهودهن لخدمة الوطن وبث الدعوة بين الرجال لكي يتطوعوا للحرب، وفي مدة الحرب كلها لم يسمع أحد في إنجلترا بقضية حقوق المرأة، ولكن لما وضعت الحرب أوزارها وعاد الرجال إلى أعمالهم، عادت مسز بانكهرست وأترابها إلى النضال والكفاح، وكانت نفسيات الرجال في إنجلترا قد تغيرت إذ ذاك، فأصبح القوم أكثر عطفا على مطالب المرأة لما أدته لهم من الخدمات الجليلة في الحرب، وفي الواقع أن تلك الخدمات عادت على قضية المرأة الإنجليزية بأحسن النتائج؛ فقد شعرت الحكومة الإنجليزية بعد الحرب بأن الجنود العائدين من ميادين القتال، قد أصبحوا من أكبر مؤيدي المرأة العاطفين على مطالبها، فلم يكن من حسن السياسة الاستخفاف بعواطف الجنود وبدعوة مسز بانكهرست التي تكهربهم كلما وقفت للخطابة فيهم، ولا شك في أن مسز بانكهرست كان في إمكانها أن تسقط أية وزارة وأن توقد في إنجلترا نار حرب أهلية في ختام سنة 1918 لو أصرت الحكومة الإنجليزية على مناصبتها العداء، ولذلك رأت الحكومة أن تصغي إلى صوت العقل والحكمة، فهدمت جميع الحواجز التي كانت تحول دون وصول المرأة إلى حقوقها السياسية وإجابتها إلى جميع مطالبها ... فلم يكن من حسن ذلك كله لمسز بانكهرست التي كانت أعظم زعيمة نسوية عرفتها إنجلترا، بل أعظم زعيمة ظهرت في التاريخ.
كتاب مفتوح
Shafi da ba'a sani ba