ولكن هذا لم يكفكف مما في أنفس البعض.
ولما أتم الأستاذ سرد الأسماء أخذ يحمل كل طائفة ليقدمها إلى رئيس الدائرة التي ستتعاطى العمل فيها. وكم كنت مشفقا على هذا الأستاذ الكريم من كل ذلك النصب الذي يجشم به نفسه. فمن دائرة العدلية، إلى دوائر الدريبة، ومن هذه إلى تلك، وهو يذرع منعرجات المعابر ويقطع درج الإدارة بسرعة تكاد تكون عدوا. حتى لقد صارحت رفيقا من رفقائي بإشفاقي على الأستاذ.
وبدأ الأستاذ عمل التقدمة بالطائفة التي أنا منها، ودخلنا إلى الرئيس الذي سيكون إليه مرجع نظرنا، فقدم إليه واحدا إثر واحد مكتفيا بقوله أقدم لك فلانا أو بزيادة ابن فلان. ولما وصل الدور إلي قال: «أقدم لك أبا القاسم الشابي المؤلف الشهير. ولا إخالكم إلا قد سمعتم باسمه». فأخجلني جدا، فلم أستطع أن أجيبه إلا بالتبرؤ من مثل هذا الوصف.
وفي الحقيقة فإن هذا الأستاذ الكريم قد أصبح لي من ذلك اليوم الذي أهديت له فيه كتابي نصيرا. فإنه كثيرا ما نوه باسمي في دروسه بين رفقائي، وكثيرا ما كال لي أوصاف المدح والإطراء حتى أخجلني.
ولما تمت تقدمتنا انفردت أنا وصديق لي ببيت خاص نعمل فيه وحدنا. فابتهجت كثيرا؛ إذ إن أبغض شيء إلي هو أن أبقى إلى جانب الرئيس الذي ربما لا تلائم نفسه نفسي، ولا توافق أخلاقه طباعي، ربما كان متكبرا يحب السيطرة والعنف، وأنا رجل عصبي لا أحتمل الذل، ولا أستطيع أن أخمد غضبي، فتنجلي الثورة عن شيء جميل جدا ...! الله أدرى بنتائجه ...!
ولقد أخذت اليوم أتمرن على هاته الأعمال الثقيلة، أخذت ألخص أوراق الملف، فإذا الورقة الأولى منه مكتوبة بخط من أردأ ما رأيت، ومحررة بأسلوب لا أدري ماذا أسميه، ومرسومة رسما لا أعلم أي شيطان نزل به على قلب كاتبه. ولا أريد أن أطيل، فحسبي أن أقول: إنه أراد أن يقول: «فطلب منها أداء منابها» فكتب: «فطلب منها أداء من بها» ...!
وعلى مثل هذا يستفتح المرء عمله. فماذا هو صانع؟ أتراه يسخر. أم يكفر؟
الاثنين 20 جانفي 1930
... وبعد أن أنهيت أعمالي الإدارية نحو الساعة الخامسة، ذهبت أنا والأخ المهيدي إلى مطبعة الأخ زين العابدين، فألفيناه يصفف حروف «العالم» مع المصففين، وألفينا الأخ مصطفى خريف واقفا بجواره، يطالع بعض الشيء. وبعد حديث مختلف أراني الأخ زين العابدين مقالتي «الشعر، ماذا يجب أن يفهم منه وما هو مقياسه الصحيح؟». ثم لاحظ لي أنه يخالفني في بعض ما ورد بالمقال من الآراء، وأنه كان يود لو قابلني قبل طبعه ليعرض علي رأيه، عسى أن يدخل به تعديل على المقال. ثم قال: «ولكن وجود بعض ما يخالف آرائي لا يمنعني من نشره، إذ إن مسؤولية ما فيه من الأفكار محمولة عليك وحدك.» فأجبته بالإيجاب. ثم أبنت له أن ما يلاحظه على المقال، ويود وجوده في المقال، هو موجود فيه، وأردت أن أريه إياه، فلم أتمكن من ذلك لكثرة أعماله ووفرة حركاته. ثم قال لي: إنك تريد أن تبعث المذهب الرمزي «سانبوليز» من مرقده، وهو مذهب قضى عليه الزمن، ولم يتبعه في فرنسا إلا شاعران أو ثلاثة. فقلت له: «لك أن تسمي طريقي بأي الأسماء التي تشاء. فأنا لا أعرف كيف أسمي، ولا يهمني معرفة أسمائها. وسواء علي أكانت تسميتها كما قلت أم خلافا له. وإنما الذي يهمني والذي أود أن تعرفه، هو أن أدعو إلى الطريقة التي تسكن إليها نفسي، ويرتضيها ضميري ما استطعت إلى الدعوة سبيلا.»
وبعد ذلك أطلعني على مقال للسيد التجاني بن سالم عنوانه: «التجدد الأدبي عندنا». وهو مقال قيم مفيد أعجبت به، وإن كنت لم آخذ منه إلا صورة مجملة. وبعد قليل اصطحبت الأخ المهيدي والأخ خريف بعد أن اعتذر الأخ الزين عن الذهاب معنا إلى النادي الأدبي بتراكم الأعمال عليه.
Shafi da ba'a sani ba