فلم أجد فائدة في محادثته مرة واحدة. وسكت ساخرا، ثم أردت أن أصافحه مودعا، فأبى علي ذلك، وتمسك بي متشبثا وأقسم أن أرافقه إلى أين هو ذاهب.
فرافقته مرغما. وبعد يسير وصلنا منزل المومس، فتقدم إلى الباب وضغط على الزر ولبث ينتظر. وظللت أنظر إلى الناس وهم غادون رائحون في الشارع الرحب الفسيح. وبعد ساعة انفتح الباب، وظهرت من خلفه أخت المومس. فما كان من صاحبي إلا أن انحنى حتى كاد يلامس الأرض. ثم تناول طرف ردائها وقبله بخشوع كما يقبل الناسك المتبتل ستار المعبد المقدس. فألقت عليه نظرة ساخرة وابتسامة ماكرة، يمتزج فيها الخبث بالمكر والازدراء. ثم تقدمت إلي مرحبة. وتقدمتنا إلى الطابق الثاني ثم أدخلتنا إلى غرفة نوم المومس. ولما دخلنا إلى مخدع «آلهة الفن» كما يريد أن يقول صاحبي في خطابه، ألفيناها مضطجعة فوق سريرها بين المساند الحريرية واللحف المزركشة. فتقدم إليها صاحبي، وفي نصف ركوع مد إليها يده مصافحا. ولما أبصرتني حاولت أن تنهض لتصافحني. فابتدرها صديقي الأديب قائلا: لا تتعبي نفسك ولا تكلفيها النهوض، فإنه صديقي كنفسي. فلما لم تستطع اعتذرت إلي فأجبتها بما حضرني ...
حديث سخيف لا طائل تحته. وقف صديقي إزاء السرير ورأسه لا يكاد يتجاوز حشية السرير. وأخذ يتلو خطبة في صوت حاول أن يجعله رصينا رنانا واضح المقاطع قوي النبرات. ولما أتم خطابه قدمه إليها في شيء من الاحترام والإجلال ... ولا تسأل عن سرور صاحبنا حينما قالت له: «أحسنت» ووضعت خطابه بين نهديها كناية عن الرضاء.
لا تسأل عن فرحته فإنني ما حسبت إلا أن المقعد سيثب به أو يطير. وهكذا تمت تلك المهزلة البشرية. هاته المهزلة التي تضحك وتبكي في آن واحد، هاته المهزلة التي كان بطلها واحد من فئة تدعي لنفسها الزعامة الفكرية في هاته البلاد، واحد من طائفة أدباء البلاد التونسية ...!
إلى هنا ختم صاحبي قصته، وقال لي: ماذا ترى في هذا الأديب؟ فقلت: أرى فيه أنه لا يملك شيئا من كرامة النفس الإنسانية، ولا عزتها العريقة، هاته الكرامة والعزة التي هي ذخر الإنسانية الثمين، والتي يحتاج إليها الأديب والفنان أكثر من كل إنسان؛ لأنها هي التي تخلق في نفسه تلك العزيمة الاستقلالية المنتجة. تلك النزعة التي تجعله أكثر شعورا بنفسه واعتزازا بها مما عداه. وبذلك تكتسب شخصيته الوضوح والجلاء في آثاره، وتتخذ لها مسلكا خاصا بين المسالك، ومذهبا لها بين مذاهب الحياة.
والتماس هاته الحقيقة لا يكلفنا عناء البحث. فإن أكبر الشخصيات في عالم الأدب والفنون إنما هي تلك الرؤوس المفكرة التي تعتز بما لها من مواهب، وبما عندها من شعور، والتي تشعر أن لها كيانا مستقلا لا يمكن أن يندمج في سواه، وأن لها عزة لا ينبغي أن تهان، في حين أن أحقرها هي تلك التي يضعف شعورها بنفسها وبما لها من عزة وكرامة فتزج بنفسها في سبيل المهانة والذل والتقليد، ولا تشق لنفسها سبيلا بكرا للمجد والحياة.
فالمتنبي قد كان عزيز النفس شاعرا بعزته وكرامته رغم امتداحه الملوك، وبذلك تخطى أعناق الدهور إلى سماء الخلود. والمعري قد كان أكثر شعورا بعزته وكرامته، وبذلك ابتكر مذهبا جديدا في الفكر، ومدرسة حديثة في تفهم الحياة.
قد بقيت أحاديث أدبية كثيرة حال دون كتابتها هنا امتلاء الصحيفة.
الاثنين 6 جانفي 1930
كنا جلوسا بقاعة المطالعة بجمعية قدماء الصادقية، وكان الحديث يدور حول سي يوسف المحجوب، وإخلاله بالوعد الذي ضربه للناس في أنه سيلقي مسامرته بالنادي الأدبي. وتركه الناس ينتظرونه بدون طائل، ثم افتياته على رئيس القدماء ورئيس الخلدونية ونشره بالجرائد أن سيلقي مسامرته عن: «فرجسون أو الروح والجسد» تحت إشراف القدماء بقاعة الخلدونية. وقد كان أكثر الحاضرين لائما عليه فيما عمل، والبعض منهم ناقم ساخط، والبعض الآخر صامت لا يبدي رأيا.
Shafi da ba'a sani ba