ليكن ذلك جنونا أو فليكن هوسا. لا يهمني أي شيء، يجب أن تسمى به تلك الحالة النفسية التي سيطرت على نفسي تلك الأيام. وإنما الذي أريد أن أقول هو أنني لبثت على مثل هاته الحال سنة كاملة، لا أجسر خلالها على إزهاق أرواح الورود، بل حسبي من كل ذلك أن تسر نفسي بمرآها الأنيق، وأن أمتع نفسي بما تسبغه عليها من حياة.
فقد كنت أحس بروح علوية تجعلني أحس بوحدة الحياة في هذا الوجود، وأشعر بأننا في هذه الدنيا - سواء في ذلك الزهرة الناضرة، أو الموجة الزاخرة، أو الغادة اللعوب - لسنا سوى آلات وترية تحركها يد واحدة، فتحدث أنغاما مختلفة الرنات، ولكنها متحدة المعاني، أو بعبارة أخرى أننا وحدة عالمية تجيش بأمواج الحياة وإن اختلفت فينا قوالب هذا الوجود.
وذلك هو ما كان يجعلني أعطف على الزهرة الناضرة عطف الإنسان على الإنسان. ليكن ذلك جنونا أو هوسا كما قلت، ولكن ليت هذا القدر الأصم يصاب بمثل هذا الهوس الذي يشفق على وردة تحلم بفجر الربيع، إذا لكان العالم سعيدا بهذا الهوس والجنون، وكانت الحياة أخف احتمالا ...
كانت تضطرب في نفسي هاته الذكريات، وتعج في قلبي هاته الأفكار والصور، وأنا جالس بين تلك التلال الخرساء الناطقة في صمتها بأبلغ معاني الحياة. ولما فرغت من تأملاتي قطفت ثلاثة فروع من الزعتر ذي العطر البري الأريج، لا زالت على المنضدة أمامي تنقحني بعطر المروج، وتعيد إلى نفسي جمال تلك الحقول، وصور ذلك الماضي البعيد.
الأحد 5 جانفي 1930
أمسية جميلة هي التي قضيتها هذا النهار، جميلة بنوع خاص؛ لأنها كانت في نزهة خلوية إلى البلفيدير. جميلة بوجه أخص؛ لأنها لم تصرف في تلك الأحاديث السخيفة المبتذلة، وإنما صرفت في حوار، إن لم يكن فنيا كله، فإن فيه كثيرا من طابع الفن وميسمه.
كانت النزهة مشيا على الأقدام، صحبة رفيقين من رفقائي في السنة الثانية من مدرسة الحقوق التونسية. وفي ذلك الشارع الرحب الذي غرست على حافتيه أشجار النخيل، قد كان أحد رفيقي يحدثني حديثا هادئا رضيا عن الاحتفال المئوي باحتلال الجزائر الذي ستقيمه فرنسا قريبا هناك، والذي خصصت له نفقات ضخمة طائلة. وقد كان صاحبي وهو يحدثني عن ذلك يبدي سخطه العنيف على كل من يذهب إلى الجزائر من التونسيين في مدة الاحتفال. ويذهب إلى أن ذلك فقط يكفي في نظره لاعتبار فاعله خائنا ومن أسقط الناس. وفي شيء من المضض والازدراء حدثني رفيقي عن هاته الفرق التمثيلية التونسية التي تتسابق إلى تقديم رغباتها للمشاركة في عيد المظالم الاستعمارية. وقد ارتفعت قيمة صاحبي في نظري عما كانت عليه لما حدثني بمثل تلك اللهجة الصادقة مع أنه من طائفة المتوظفين التي لم نعرف عنها إلا أنها أشباح خشبية في موكب الاستعمار العظيم.
وفي لهجة ملؤها السخرية أخذ يحدثني صاحبي عن طائفة أخرى من الناس، وهي هاته الطائفة التي تدعي لنفسها الأدب، وتزعم أنها خلقت لقيادة الأفكار. ثم هي مع ذلك تتخذ من مواهبها بخورا تحرقه أمام العاهرات.
قال: «كنت ذاهبا يوما في بعض شوارع العاصمة لغرض نسيته، وإذا بواحد من هاته الطائفة يقبل علي مصافحا.» ثم أخذ يماشيني، وما هي إلا خطوات حتى قال لي: هل تسمع؟
قلت: ماذا؟
Shafi da ba'a sani ba