Mudhakkarat Jughrafiyya
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Nau'ikan
وها نحن نصدر مقالاتنا بفصل إعدادي، نبحث فيه عن موقع سورية جغرافيا؛ لنستدل به على تاريخها القديم؛ ولهذا الفصل مقدمة غاية في الاعتبار، تعود إلى أصل العترة البشرية كلها؛ أعني كون سورية مهد الجنس البشري.
سورية ومهد الجنس البشري
قال إتيان لامي
2
ما تعريبه: «إن في العالم بلادا تتصافح فيها أقطار أوروبة وآسية وأفريقية، وتعيش بالألفة على السواحل نفسها، هي بلاد برية وبحرية معا، هي سوق جامعة لمرافق مائة مدينة ومرفأ، تتبادل فيه القارات الثلاث محصولاتها المتنوعة، هناك تتصلب وتتوارد الطرق التجارية التي فتحها العالم القديم، هي أقدم موطن يعاين فيه الإنسان آثار أقدامه، فيها نشأت أخص الديانات الشائعة. وخلاصة القول: لست تجد حيثما نظرت بلدا أصغر من هذا في مساحته قد اختلطت فيه وتزاحمت أمم أكثر، وديانات أعظم ، وآثار أخطر.»
نعم القول، يسرنا أن ننقله عن كاتب بليغ، فنحلي به مطلع هذه الدروس التي أفردناها لسورية وآثارها.
ولا مراء أن سورية - قبل كل بلاد القدم - بلاد الزمن السابق للتاريخ، فليت شعري، أليس لها علاقة مع أول منازل البشر؟ إن الإنسان منذ ألوف من السنين قد طبع في ذهنه ذكر فردوس أرضي ظهر فيه جنسه، فأين هي يا ترى هذه؛ جنة عدن؟ أفي العراق؟ أفي سهول ما بين النهرين؟ أفي غوطة دمشق وبقعتها الفيحاء كما ارتأى القديس أغناطيوس - منشئ الرهبانية اليسوعية - في كتاب رياضاته الروحية؟ هذه الآراء وغيرها قد كتبت فيها التآليف الواسعة، بل تجف المحابر قبل أن يستقصى فيها البحث أو يكشف سرها بالتمام. أما كون الفردوس في تخوم سورية، فهذا أحد الآراء الثمانين التي قال بها الكتبة،
3
يؤيده كون الفرات يجري في بعض جهات هذه البلاد.
في النصف الأول من القرن السابق نزل عند لحف لبنان شاعر كان أصاب الشهرة في قومه يدعى «لامرتين»، فأعجبه طيب هواء البلاد، فاتخذ بيروت له موطنا، وكان يخرج منها إلى أنحاء الشام ليزورها ويدرس آثارها، ففي بعض مسيره رقي أكمة الأشرفية فوق كنيسة مار متري، فأجال نظره مليا في المشاهد التي كانت تحدق به، فأخذت بمجامع قلبه، وكادت تسحر لبه، فكان يرى البحر حول بيروت من جهاتها الثلاث، كأنه المنطقة المزركشة بالأرجوان والذهب، وكان ينظر على شماله لبنان الناطح بقرونه السحاب، وبين هذا الجبل وموقف الشاعر كانت تنبسط السهول السندسية الغنية بمزارعها، منها غابات الزيتون عند شويفات، وغابة الصنوبر، وكان يجد في أرمال بيروت صورة ملطفة لمفاوز بلاد الصحراء. نعم، إن في العالم محاسن أجمل وأبدع، ولكن أيوجد في العالم أمكنة عديدة، جمع فيها الله كل هذه المناظر المتباينة والرؤى الفاتنة في دائرة ضيقة كهذه؟ ذلك ما شغل فكر الشاعر زمنا طويلا، فبقي غائصا في تأملاته، إلى أن عاد إلى نفسه فهتف: «حقيقة إن الله قد وضع في هذا المكان أكثر مما يمكنه الإنسان أن يتصوره، فإني كنت أتوق إلى مرأى فردوس عدن، فها هو ذا بعينه.»
Shafi da ba'a sani ba