قال ميسرة: وما جوف العير؟ ومن يذكر من ولدان قيس وخندف مع هذا القدر؟ ولكني أقول:
وقدرٍ كجوفِ الباقري تحجهُ ... على العسرِ والإيسارِ أهلُ المواسمِ
وقال ميسرة للفرزدق:
لقد ذلُّ من يحمي الفرزدقُ عرضهُ ... كما ذلتِ الأخنافُ تحتَ المناسمِ
فلما بلغ الفرزدق ذلك غضب، وتطلب ميسرة، فسمع ميسرة فقال:
متى تلقني تلقَ امرءً غيرَ طائلٍ ... وليسَ بنجاءٍ من الغمراتِ
يرى المجدَ أنْ يلقى أصرةَ ذودهِ ... منفخةَ الأطرافِ، مستوياتِ
فرآه الفرزدق يومًا فشد عليه بالسيف، وقال له: استغث بمولاك، فصاح بمولاه، فقال مولاه للفرزدق: ليس هو عبدًا، إنما حر. قال الفرزدق: ذلك أردت. وكان غرضه يشيع أنه حر. فأدناه وأعطاه.
وميسرة الذي يقول:
لعمري لإعرابيةٌ في عباءةٍ ... لها حسبٌ زاكٍ كريمٍ، ومنصبِ
أعييتْ باسلامٍ وعتقٍ وصبغةٍ ... وإنْ يكُ سوءٌ، فهو عنها مجنبِ
أحبُّ إلينا من ضناكٍ ضفنةٍ ... عليها من الكتان والقطنِ منهبِ
لعمري وشيخٌ قاعدٌ وسطَ هجمةٍ ... تروحُ عليهِ بالشياءِ، وتغربِ
أحبُّ إلينا من صفنٍّ نرى لهُ ... عظامًا وأثوابًا تصانُ وتحجبِ
وأما ورك: فكان عبدًا لبشر النهشلي. ويقال: إن مولاه سلم إليه ناقة عسراء، وقال له: إياك أن تحمل عليها شيئًا. فحمله فأجهضت. فأنشأ عند ذاك يقول:
ألا لا أبالي أنْ يضيعَ جنينها ... إذا لم يلمني، في اللمامِ، رفيقُ
يخوفني بشرٌ، وبشرٌ محكمٌ ... وليس ببشرٍ، إنْ تشاءَ، صديقُ
وله:
لا أخمدُ النارَ أخشى أنْ يضلَّ بها ... عانٍ، يريدُ سناها، جائعٌ صردُ
لكنْ أقولُ لمن يعروا مناكبها ... ألقوا الضرامَ عليها، علها تقدُ
إما أقومُ إلى سيفي فأشحذهُ ... أو يستهلُّ عليكم محلبٌ زبدُ
إني لأحمدُ ضيفي حين ينزلُ بي ... أن لا يكلفني فوقَ الذي أجدُ
قال مؤلف الكتاب: لقد سمعت هذه الأبيات من جماعة من الفضلاء وأهل الأدب، وأسألهم عن قائلها، فيعزونها إلى غير قائلها. وكذا في هذا الكتاب أبيات كثيرة تضرب بها الأمثال، ويتداول بها، ولا يعلم لمن هي.
وأما ذكوان: فكان عبدًا لمالك الدار مولى عثمان بن عفان. فعتق ذكوان، وعظم شأنه، وولي بعض أطراف الشام في زمن معاوية. وكان شاعرًا خطيبًا، وكان أشد الناس سيرًا، لم يدرك أسير منه. سبق الحاج إلى المدينة، فدخلها في يوم وليلة، فقدم على أبي هريرة، وهو خليفة مروان على المدينة، فصلى معه العشاء، فقال له: حجك غير مقبول، قال: ولم؟ توشك أنك قد نفرت قبل الزوال. فأخرج كتبًا كانت معه، وهي من بعد الزوال، فقال في ذلك:
فأقسمُ لا تنفكُّ، ما عشتُ، سيرتي ... حديثًا لمن وافى بجمعِ المحصبِ
وذكوان الذي يقول للضحاك بن قيس الفهري:
تطاولَ لي الضحاكُ حتى رددتهُ ... إلى نسبٍ، في قومهِ، متقاصرِ
فلو شهدتني من قريشٍ عصابةُ ... قريشِ البطاحِ، لا قريش الظواهرِ
لغطوكَ حتى لا تنفسَ بينه ... كما غطَّ في الدوارِ والمتزاورِ
ولكنهم غابوا، وألفيتَ حاضرًا ... فقبحتَ من حامي ذمارٍ، وناصرِ
قال أبو عبيدة: ذكوان أول من فرق بين قريش البطاح، وبين قريش الظواهر. فقريش البطاح قبائل كعب بن لؤي، وقريش الظواهر بنو محارب والحارث ابني فهر، وبنو الأدرم بن غالب بن فهر، وعامة بني عامر.
وأما مورق: فكان عبدًا لرجل يكنى أبا الحوساء من مذحج، وكان شجاعًا. فضربه يومًا مولاه ضربة آلمته، وما كان يعرف أنه يقول الشعر، فقال:
خفتُ أبا الحوساءِ خوفًا يقلقُ
كأنهُ موجٌ محيطٌ محدقُ
فبتُّ، والقلبُ مروعٌ يخفقُ
يكادُ من بين الضلوعِ يمرقُ
فقال له مولاه: والله إنك لم ترد مدحي، وإنما أردت أن تعرفني أنك شاعر فأتقيك. فلما سمع ذلك مورق هرب. فبلغه أن مولاه يطلبه، فخافه، وخافه أيضًا مولاه، خوفًا أن يهجوه. فزاد مورق في أرجوزته يتوعد منه ويسخر أخرى:
قد علمَ الغربيُّ والمشرقُ
أنك في القومِ صميمٌ ملصقُ
عوداكَ نبعٌ وهشيمٌ بروقُ
جدٌّ لئيمٌ، وكريمٌ معرقُ
فأنتَ نارٌ وربيعٌ مغدقُ
وأنتَ ليلٌ ونهارٌ مشرقُ
1 / 55