وقفَ الجمال على محاسنهِ ... فبكلِّ جارحةٍ له قمرُ
ضمنتُ محاسنهُ لواصفه ... ألا يكذبَ وصفهُ النظرُ
وهو مأخوذ من قول أبي نواس:
يا منْ رضيتُ من الخلقِ الكثيرِ به ... أنتَ القريبُ، على بعدٍ من الدارِ
وقال آخر:
أبلغْ أخاكَ أخا الإحسانِ، بي حسنًا ... أني، وإن كنتُ لا ألقاهُ، ألقاهُ
وأنَّ طرفي معقودٌ بناظرهِ ... وإنْ تباعد عن مثوايَ مثواهُ
ووجدت هذا المعنى سبكًا حسنًا، وابلغ لابن منير الأطرابلسي قوله:
وأقربُ ما يكونُ هواكَ مني ... إذا ما غابَ شخصكُ عن عياني
كأنكَ قد ختمتَ على ضميري ... فغيركُ لا يمرُّ على لساني
وأما قوله: فبكل جارحة له قمر، فإنه مخوذ من قول الأول:
كأنما أفرغتْ من ماءِ لؤلؤةٍ ... في كلِّ جارحةٍ من خلقها قمرُ
وأول من ابدع هذا مسلم في قوله:
في كلِّ عضو فيك بدرٌ طالعٌ ... ومدامعي من كلِّ عضوٍ تذرفُ
ومن قول سعيد:
بكرتْ أوائلُ للربيعِ، فنشرت ... حللُ الرياض بجدةٍ وشبابِ
وغدا الحسابُ يكادُ يسحبُ في الثرى ... أذيالَ أسحمَ، حالك الجلبابِ
يبكي ليضحكَ نورهنَّ، فيالهُ ... ضحكًا تبسمَ عن بكاءِ سحابِ
وترى السماءَ وقد أسفَّ ربابها ... وكأنما لحقت جناحَ غرابِ
وترى الغصونَ إذا الرياحُ تناوحت ... ملتفةً، كتعانقِ الأحبابِ
وهذا بديع جدًا، فأما قوله: فياله ضحكًا تولد عن بكاء سحاب، فهذا المعنى أول من ابتدعه أبو الشيص، حيث قال:
بكتِ السماءُ بها، فقد ضحكت ... منها الرياضُ بدمعها السربِ
وذكروا أنه أخذه من قول ابن مطير، حيث قال:
كل يوم يسرنا اقحوان ... تضحك الأرض عن بكاء السماء
ثم تداولته الألسن. وقال آخر:
إذا ما بكتْ عينُ السماءِ تهللت ... مضاحكُ وجهِ الأرضِ من كلِّ جانبِ
وقال عبيد الله بن عبد الله:
شموسٌ وأقمارُ من الزهر طلعٌ ... لذوي اللهو في أكنافها متمتعُ
كأنَّ عليها من مجاجةِ زهرها ... لآلي، إلا أنها منهُ ألمعُ
نشاوى تثنيها الرياحُ فتنتشي ... فيلثمُ بعضٌ بعضها، ثمَّ يرجعُ
وأنا أحسن قول الآخر في السرو:
حفتْ بسروٍ كالقيانِ تلحفت ... خضرَ الحريرِ على قوامٍ معتدلْ
وكأنها، والريحُ تخطرُ بينها ... تنوي التعانقَ، ثمَّ يمنعها الخجلْ
ومن قول سعيد:
تمتعتُ باللهو حتى انقضى ... ولم تبقَ لذةُ ما قدْ مضى
وأغفلتُ ما كنتُ أولى به ... من العملِ الصالحِ المرتضى
أخبُّ وأرفلُ في الظاعنينَ ... قرينَ الكلالِ، قعيدَ الرضا
أرومُ وأطلبُ قربَ البعيدِ ... وهيهاتَ هيهاتَ طالَ الفضا
ولي أجلَّ حنقٌ ثائرٌ ... على مهجةٍ شاهر المنتضى
هما للضرابِ، وآياته ... فوادحُ شيبٍ، كنورٍ أضا
يحثُّ الفؤادَ على رشده ... ويأباهُ مستأثرًا معرضا
فيا لذةً أورثت حسرةً ... ويا غفلةً أورثتْ مرمضا
ديونكَ من قبلِ أن تنتضى ... ونفسكَ من قبلِ أنْ تقبضا
ومما يستحسن من غزله:
الله يعلمُ، والدنيا مفرقةٌ ... والعيشُ منتقلٌ، والدهرُ ذو دولِ
لأنتَ عندي، وإن ساءت ظنونكَ بي ... أحلى من الأمنِ عندَ الخائفِ الوجلِ
وللفراقُ، وأن هانت فجيعتهُ ... عليكَ، أخوفُ في نفسي من الأجلِ
وكيفَ أفرحُ بالدنيا وزينتها ... واليأسُ يحكمُ للأعداءِ في أملي
ومما يختار من مراثيه، قوله يرثي عبد الله بن صالح الحسيني:
بأيِّ يدٍ أسطو على الدهرِ بعدما ... أطارَ يدي عضبُ الذبابين، قاضبُ
وهاض جناحي حادثٌ جلِّ خطبهُ ... فسدت على الصبرِ الجميلِ المذاهبُ
ومن عادة الأيامِ أنَّ خطوبها ... إذا سرَّ منها جانبٌ، ساءَ جانبُ
لعمري لقد عاقَ التجلدَ أننا ... فقدناكَ فقد الغيثِ، والعامُ جادبُ
فقدنا فتىً قد كانَ للأرض زينةً ... كما زينت وجهَ السماءِ الكواكبُ
لعمري لئن كان الردى بكَ فاتني ... وكلُّ امرئٍ يومًا، إلى الله، ذاهبُ
لقد أخذتْ مني النوائبُ حكمها ... فما تركتْ حقًا عليَّ النوائبُ
1 / 47