وقال ابن العلاء: كنت عند بلال بن أبي بردة، إذ قدم عليه الطرماح والكميت، ودخل رؤبة فقال له ابن العلاء: أتدري من هذان؟ قال: لا، فقال: هذا الكميت وهذا الطرماح، الساعة يسرقان شعرك، ويهدمان قوافيك. فقال: هلا أعلمتني قبل ذلك فلا أنشدهما.
ونشأ لرؤبة ولد اسمه عقبة، ونحن نذكره. وقيل لرؤبة: إن ولدك عقبة قد أحسن في الشعر، قال: بل ما لشعره قران التشابه والموافقة. ولذلك قال عمرو بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك، قال: ولم؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه.
الأخوة من الشعراء
وأما الأخوة من الشعراء، فالشماخ، واسمه معقل، ومزرد وإسمه يزيد، وجزء، وكلهم كان شاعرًا. وهم أبناء ضرار بن سنان بن أمامة. فأرادت أمهم أن تتزوج رجلًا بعد موت أبيهم، يقال له آوس، وكان أيضًا شاعرًا. فلما رآه بنو ضرار أتى أمهم يخطبها، وهم على بئر يستقون الماء منها، تناول شماخ الدلو، ثم متح، وهو يقول:
أمُّ أويسٍ أويسا
وجاء مزرد، فتناول الحبل، وهو يقول:
أعجبها حدارةً وكيسا
وجاء جزء، فتناول الحبل، وقال:
أصدق منها لجبةً وتيسا
فلما سمع آوس رجز الصبيان هرب، وترك أمهم فهذا أول شيء تفوه به بنو ضرار من الشعر.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قيل للحطيأة في اليوم مات فيه: أوص، قال: ويل للشعراء من رواية السوء. قيل: أوص، قال: أخبروا الشماخ أنه أشعر غطفان.
وكان الشماخ يجيد إذا وصف الحمر، حتى قال الوليد: إني لأظن أن أبا الشماخ كان حمارًا، لكثرة وصفه للحمير في شعره.
وروي أن ابن داب خرج من حضرة المهدي، فقيل له: أنشدنا أبياتًا من أشعر ما قالت العرب، فأنشد قول الشماخ:
وأشعثَ قد قدَّ الشفارُ قميصهُ ... وجرَّ شرابًا بالعصا غيرَ منضجِ
دعوتُ إلى ما فاتني، فأجابني ... كريمٌ من الفتيانِ غيرُ مزلجِ
فتىً يملأ الشيزى ويروي سنانهُ ... ويضربُ في رأسِ الكميِّ المدججِ
فتىً ليس بالراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوتِ الحيِّ بالمتولجِ
ومما يتمثل بشعره:
وكنتُ إذا حاولتُ أمرًا رميتهُ ... بعيني، حتى تبلغا منتهاهما
وكنتُ إذا ما شعبتا الأمرِ شكتا ... عليَّ، فلم يصدر جميعًا هواهما
عمدتُ إلى ذات المغبةِ منهما ... وخليت نفسي من طلابٍ سواهما
ويروى: سدهما، أي المهلة بينهما. قال الأصمعي: قال لي الرشيد يومًا، وقد هم بأخذ العهد لمحمد الأمين، وقد فكر فيه طويلًا: من القائل:
وكنتُ إذا حاولتُ أمرًا رميتهُ ... بعينيَّ، حتى تبلغا منتهاهما
وأنشدني باقي الأبيات، قلت: الشماخ، وأنشدت باقي القصيدة، فقال: قاتله الله، ما أرصن شعره وأحكمه: ومن شعره السائر:
رأيتُ عرابةَ الأوسيّ يسمو ... إلى الخيراتِ، منقطعَ القرينِ
أفاد سماحةً، وأفادَ مجدًا ... فليس كجامدٍ لحزٍ ضنينِ
إذا ما رايةٌ رفعتْ لمجدٍ ... تلقاها عرابةُ باليمينِ
إذا بلغتني وحللتِ رحلي ... عرابةَ، فاشرقي بدمِ الوتينِ
فنعم المعتزى ركدت إليهِ ... رحى حيزومها كرحى الطحينِ
ومن معانيه التي يختلف فيها قوله:
إذا دعتْ غوثها ضراتها فزعتْ ... أثباجُ نيٍ على الأعقابِ منضودُ
الضرة: مجتمع اللبن، والثبج: أعلى الظهر، النيئ: الشحم كأنها منضودة عقب على عقب. والمعنى قال الأصمعي وغيره: يقول: هذه إبل سمان، إذا احتاجت إلى الدر أتتها شحومها باللبن. وقوله: فزعت، أي لفاثت، والجرت والفزع: الاغاثة.
ومن معانيه المستحسنة:
بها شرقٌ من زعفرانٍ وعنبرٍ ... أطارتْ من الحسنِ الرداءَ المحبرا
أخذه ابن أبي ربيعة، فقال:
فلما توافقنا وسلمتُ، أشرقتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنٌ أن تتقنعا
أخذه الآخر فقال:
تمشي الهوينا مائلًا خمارها
أي من حسنها، أي لا تخمر بخمار.
ومن معانيه المستطرفة، وقد ادعت عليه إمرأته أنه طلقها، فألزمه عثمان ﵁ باليمين، فأعانها قومها من بني سليم، فقال:
أتتني سليمٌ، قضها وقضيضها ... تمسحُ حولي بالبقيعِ سبالها
يقولن: إحلفِ، قلتُ لستُ بحالفٍ ... أخاتلهم عنها، لكيما أنالها
1 / 30