* بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد محمد واله الامجاد الذين هم خيرة العباد ، واللعن الدائم على اعدائهم ومنكري فضائلهم أولي اللجاج والعناد من الان الى يوم المعاد.
اما بعد فيقول : العبد المذنب الجاني محمد علي المشتهر بالمدرس الافغاني ابن مراد علي : ان العلوم على تشعب فنونها وتكثر شجونها أرفع المطالب وانفع المآرب ، وعلم البلاغة وتوابعها من بينها أبينها تبيانا واحسنها شأنا ، اذ به يعرف أعلى معجزات خاتم النبيين اعنى القرآن الكريم ، وبه يفهم الدقائق والأسرار المودعة في نهج البلاغة لمولانا ومولى جميع المؤمنين : علي امير المؤمنين.
ومن الكتب التى صنفت في هذا العلم الكتاب المسمى بالمطول الذى صنفه ملا سعد الهروى التفتازاني في شرح تلخيص المفتاح.
ولقد دعت جلالة هذا الكتاب دواعي اهل الفضل والكمال الى الاشتغال به والخوض في مطالبه.
وأني طالما كان يجول في خاطري ان اشرح بعض الفاظه وابين بعض نكاته بمقدار يسره الله لى بمنه وفضله ، وكان يعوقني عن ذلك امور لا يمكن لي اظهارها ، والمشتكى الى الله ... ولنعم ما قال المصنف : انى فى زمان أرى العلم قد عطلت مشاهده ومعاهده ، وسدت مصادره وموارده ، وخلت دياره ومراسمه
Shafi 3
وعفت أطلاله ومعالمه ، حتى اشفت شموس الفضل على الافول ، واستوطن الافاضل زوايا الخمول يتلهفون من اندراس اطلال العلوم والفضائل ، ويتأسفون من انعكاس احوال الاذكياء والافاضل.
ولكن تاكد ذلك العزم بتكرر التمماس الطالبين وتوفر رغبات المحصلين ، لا سيما بعض الطلاب الذين يحضرون عندي عند تدريسي هذا الكتاب. فشرعت في ذلك مستعينا بالله العلي القدير ، ومستمدا ممن انا في جواره وكان ذلك ليلة النصف من رجب المرجب من شهور سنة 1386
قال : (قال المصنف : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ، إفتتح كتابه) اي إبتدء قال في المصباح المنير : «فتحت الباب فتحا خلاف أغلقته ...»»
الى ان قال : «وافتتحته بكذا : ابتدأته به» انتهى محل الحاجة من كلامه.
(بعد التيمن) اى التبرك ، قال في المصباح : «واليمن البركة ، يقال : يمن الرجل على قومه ولقومه بالبناء للمفعول ، فهو ميمون. ويمنه الله ييمنه يمنا من باب قتل : اذا جعله مباركا : وتيمنت به مثل تبركت وزنا ومعنى.»
(بالتسمية) مصدر باب التفعيل من سمى يسمى ، مأخوذ من السمو. قال في البهجة المرضية. سم تسمية. والمراد به هنا : ذكر اسم الله تعالى ، سواء أكان بهذه الصورة ام بغيرها فتامل!
(بحمد الله سبحانه) اقتداء بالذكر الحكيم وعملا بقولي النبى الكريم على مارواهما بعض علماء الدين القويم وهما : «كل امر ذى بال لا يبدء فيه ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فهو ابتر». «وكل امر ذى بال لا يبدء فيه
Shafi 4
بالحمد لله فهو أجذم»
وقد جاء في بعض الروايات : «لا يبدء فيه بذكر الله» وعلى هذا يمكن التوفيق ، بين الحديثين السابقين ، بان يراد بكل منهما الذكر المطلق ، لا خصوص (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا خصوص (الحمد لله).
وهذا من حمل المقيد على المطلق بالغاء قيده ومحل حمل المطلق على المقيد اذا لم يكن المقيد مقيدا بقيدين متنافيين أما اذا كان كذلك كما فيما نحن فيه ، اذ أحدهما مقيد بخصوص اسم الله ، والاخر بخصوص حمده ، فحينئذ يحمل المقيد على المطلق ، لان القيدين يتعارضان فيتساقطان ويرجع الى المطلق. على ما بين في الاصول. او يوفق بين الحديثين بحمل حديث البسمله على الابتداء الحقيقى بحيث لا يسبقه شىء ، وحديث الحمد له على الابتداء الاضافي او العرفي.
ولم يعكس وان احتمل جوازه بعضهم لأن حديث البسملة اقوى بكتاب الله الوارد على هذا الترتيب كما اشرنا اليه. على ان تقديم البسملة أولى وأحسن لانها تتضمن الحمد له ، لان فيها ثناء عليه تعالى بصفة الرحمة.
هذا ولكن شبهة التعارض بين الحديثين مبنية على خمسة امور ، في كل منها منع ظاهر على ما نشير اليه :
الاول : كون المراد من البدء في كل واحد منهما حقيقيا ، بان يقال : معنى بدء الشيء بالشيء : تصديره به وجعله قبل ذلك الشيء. ولا شك ان البدء بهذا المعنى اذا حصل قبل امر ذي بال باحد من البسملة او الحمد له لا يمكن ان يحصل البدء بهذا المعنى بالاخر منهما.
Shafi 5
لكن كون المراد من البدء فيهما ما ذكر ممنوع ، لجواز ان يكون المراد به في احدهما حقيقيا وفي الاخر اضافيا او عرفيا حسبما اشرنا اليه آنفا كما عليه المشهور.
الثاني : ان يكون الابتداء بما يبدء به منهما امرا غير قابل للامتداد الى حين الابتداء بالاخر منهما ، وهذا ايضا ممنوع كالاول ، لجواز كون المبدوء به منهما اولا قابلا للامتداد الى حين الابتداء بالاخر.
الثالث : كون الباء فيها صلة للبدء ، وهذا ايضا ممنوع ، لجواز كونها فيهما للاستعانة او الملابسه.
على انه يمكن دفع التدافع وان جعلت الباء صلة للبدء بأن يحمل البدء في التسمية على مطلق التقديم المتناول للتقديم في الذكر اللساني الجناني والعمل الاركاني والتحرير البياني ، ويحمل البدء في الحمد خاصة على العمل الاركاني.
الرابع : ان يكون المراد من البسملة والحمد لله خصوص الفاظهما المذكورة في الحديثين ، وهذا ايضا ممنوع ، لجواز كون المراد منها فيهما مطلق الذكر ، بقرينة الحديث الثالث حسبما اشرنا اليه سابقا من الغاء القيد فيهما.
الخامس : ان يكون المراد بالبدء بتلك الامور المذكورة تقديمها في الذكر اللسانى الذى يعبر عنه بلفظ البسملة والحمد له. وهذا أيضا ممنوع. قال الجامى : «إعلم ان الشيخ لم يصدر رسالته هذه بحمد الله سبحانه بان يجعله جزء منها ، هضما لنفسه ، بتخيل ان كتابه هذا من حيث انه كتابه ليس ككتب السلف حتى يصدر به على سنتها ، ولا يلزم من ذلك عدم الابتداء
Shafi 6
به مطلقا حتى تكون بتركه اقطع ، لجواز اتيانه بالحمد من غير ان يجعله جزء من كتابه» انتهى.
(اداء) مفعول له لقوله : افتتح الذى عللناه بما ذكرناه. (لحق شىء) اى بعض قليل ، لأن التنكير في شىء للتقليل ، وسيأتى وجه ذلك في باب المسند اليه عند الاستشهاد بقوله :
«فيوما بخيل تطرد الروم عنهم
ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
وكذا عند وقوله : فد يجىء اى التنكير للتحقير والتقليل ايضا نحو أعطاني شيئا اي حقيرا قليلا.
(مما يجب عليه) عقلا (من شكر نعمائه) لفظة من الاولى للتبعيض ، كما ان الثانية بيانية مبينها ما الموصولة.
حاصل مرامه : ان الخطيب لا يقدر الا على اداء بعض ما يجب عليه عقلا من شكر نعمائه تعالى. (التى تاليف هذا المختصر اثر من آثارها) اي النعماء ، وانما حكم بذلك إما لما قيل : من ان التوفيق للحمد والاقتدار عليه ايضا مما يقتضى شكرا وهلم جرا ... فلا يفي بحقه قوة الحامد ، وإما لما قيل بالفارسية : هر نفسى كه فرو ميرود ممد حيات است وچون برميايد مفرح ذات.
از دست وزبان كه برايد
كز عهدء شكرش بدر آيد ،
وإما للاشارة الى كثرة نعمائه تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ). قال بعض العرفاء استغراقنا في نعمة الغير المتناهية بحيث او عمرنا الى الابد حامدين لم يفضل حمدنا على ما وصل الينا من نعمه.
(والحمد) لغة نقيض الذم ، كالمدح ، وهو الثناء الحسن ، وهو اعم من
Shafi 7
الشكر اللغوى وهو الثناء على الاحسان.
قال في المصباح : «حمدته على شجاعته واحسانه حمدا : أثنيت عليه. ومن هنا كان الحمد غير الشكر لانه يستعمل لصفة في الشخص وفيه معنى التعجب ، ويكون فيه معنى التعظيم للممدوح وخضوع المادح كقول المبتلى : الحمد لله ، اذ ليس هنا شيء من نعم الدنيا ، ويكون في مقابلة احسان يصل الى الحامد. واما الشكر فلا يكون الا في مقابلة الصنيع ، فلا يقال : شكرته على شجاعته» انتهى.
وعرفا (هو الثناء باللسان) بالجميل (على الجميل) لقصد التبجيل (سواء تعلق بالفضائل) هي جمع فصيلة وهى كل خصلة ذاتية. وبعبارة اخرى : هى المزايا التى لا تتعدى الى الغير كصفاء اللؤلؤ وصباحة الخد ورشاقة القد (او بالفواضل) هى جمع فاضلة ، وهي المزايا المتعدية كالانعام اعني اعطاء النعم وسائر ما يتعدى الى الغير.
(والشكر) قد تقدم معناه لغة ، وقريب منه ما ذكره المصباح ، قال : «شكرت الله : اعترفت بنعمته وفعلت ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية ، ولهذا يكون الشكر بالقول والعمل». انتهى ، وذلك قريب من معناه العرفي اي : (فعل ينبىء عن تعظيم بسبب النعدام المنعم سواء كان) ذلك الفعل (ذكرا باللسان او اعتقادا او محبة بالجنان) اى القلب والباطن بان يعتقد اتصاف المشكور له بصفات الكمال والجلال (او عملا وخدمة بالاركان) اي الجوارح والاعضاء حاصله : ان ياتى بافعال دالة على تعظيمه ، واليه يشير قولهم : الشكر صرف العبد جميع ما انعم الله به عليه من السمع والبصر وغيرهما الى ما خلق واعطاه
Shafi 8
لأجله كصرفه النظر الى مطالعة مصنوعاته ، والسمع الى تلقي ما ينبىء عن مرضاته الاجتناب عن منهياته. وليعلم ان المتبادر العرفي العام من الشكر والحمد هو الثناء باللسان فانك اذا قلت مثلا اثنيت فلانا بكذا لم يتبادر منه عند العرف العام إلا الثناء باللسان ، ولكن الفعل اقوى دلالة ، فان دلالة اللسان وضعية وهي قد تختلف بخلاف دلالة الفعل لانها قطعية لا يتصور فيها التخلف. ومن هذا القبيل حمد الله تعالى وثناؤه على ذاته ، وذلك انه تعالى حين بسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى ووضع عليه موائد كرمه التي لا يتناهى فقد كشف بهذا الفعل عن صفات كماله واظهرها بدلالة قطعية تفصيلية غير متناهية فان كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها ولا يمكن في اللسان مثل هذه الدلالة ولذلك قال سيد البشر الذى هو أفصح اهل اللسان : لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك. (فمورد الحمد) والشكر ومتعلقهما يتعاكسان بمعنى ان مورد الحمد اى ما ينشأ ويصدر منه (هو اللسان وحده ومتعلقه) اى ما يوجب صدور الحمد من الحامد (يعم النعمة وغيرها ومورد الشكر يعم اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها) وهذا هو المراد من تعاكسهما لا ما يراد منه في المنطق او اللغة ولعمري هذا ظاهر لاسترة عليه على ان تعريفهما من قسم التصورات فلا قضية في المقام اصلا حتى يجري فيه العكس بأحد المعنيين.
(فالحمد أعم من الشكر باعتبار المتعلق) بمنى أن كلما كان متعلقا للشكر من النعماء يكون متعلقا للحمد أيضا ، بخلاف ما كان متعلقا للحمد من الفضائل فانه لا يكون متعلقا للشكر. مثلا يصح أن يقال : حمدت اللؤلؤ على صفائها ، وحمدت زيدا على عطائه ، ولا يقال : شكرت الا في الثاني فقط لانه
Shafi 9
(يعم اللسان وغيره) من الاعتقاد والمحبة بالجنان ، أو العمل والخدمة بالأركان ، (ومتعلقه يكون النعمة وحدها)
(واخص) منه (باعتبار المورد)، لأن مورده اللسان وحده ، ومورد الشكر : كل فعل ينبىء عن تعظيم المنعم بسبب الإنعام سواء كان ذكرا باللسان او غيره ، (والشكر بالعكس). فهو أخص باعتبار المتعلق وأعم باعتبار المورد ، وقد تبين وجهه مما تقدم.
(ومن هذا تحقق تصادقهما فى الثناء باللسان فى مقابلة الإحسان) لأن اللسان مورد لكليهما ، والإحسان اى الانعام متعلق لهما
(و) تحقق أيضا (تفارقهما فى صدق الحمد فقط) دون الشكر (على الوصف بالعلم والشجاعة) لأنهما من الفضائل والمزايا التي لا تتعدى إلى الغير ، ولا بد في صدق الشكر على الثناء على شىء كونه من الفواضل اى المزايا المتعدية الى الغير (وصدق الشكر فقط) دون الحمد على الثناء بالجنان فى مقابلة الاحسان)، وذلك لان الجنان ليس موردا للحمد لاشتراط كونه باللسان.
هذا وقد يعجبنى ذكر كلام في المقام لبعض المحققين يكون شبه إعادة لما تقدم ، اذ المقصود توضيح المرام وان يلزم منه التكرار ، لأن الاعادة قد تكون فيها إفادة ، قال : «حمد هو لغة : نقيض الذم ، كالمدح وهو الثناء الحسن ، وهو أعم من الشكر اللغوى وهو الثناء على الاحسان ، وعرفا : الوصف بالجميل على الجميل لقصد التبجيل ، وهو أعم من الشكر العرفي وهو الفعل المنبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعما بحسب المتعلق اعني ما يقعان بازائه ، فانه يقع بازاء الفضائل والفواضل ، بخلافه حيث يختص وقوعه بازاء الفواضل وأخص بحسب المورد فانه يقع باللسان وحده ، وهو بالجنان
Shafi 10
والاراكان أيضا.
فالحمد اللغوي أعم مطلقا من الشكر اللغوي ، والحمد العرفي أعم من وجه من الشكر العرفي. والمشهور كما في شرح المطالع وحاشيته هو العموم والخصوص من وجه بين اللغويين بجعل الشكر اللغوي هو الفعل المنبىء ، والعموم مطلقا بين العرفيين لكونهما عامين للموارد كلها ، حيث لا عبرة بمجرد القول بدون مطابقة الاعتقاد والعمل ، وكون الحمد بازاء النعمة مطلقا وتخصيص الشكر بالنعمة الواصلة الى الشاكر.
والتحقيق ما ذكرنا أما الاول فلانه هو المطابق ، لما صرح أئمة اللغة. واما الثاني فلان المعتبر في الحمد هو عدم مخالفة الاعتقاد والعمل لما يصدر من اللسان ، فكل منهما شرط لكون ما من اللسان حمدا ، وليس بفرد له ولا بجزء منه. وأما في الشكر فكل منهما ، على ما ذكرنا ، فرد منه وهو الأشهر.
وقد يعرف بصرف العبد جميع ما أعطاه الله من السمع والبصر وغيرهما ، إلى ما أعطاه لاجله ، كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته ، والسمع إلى إستماع ما ينبىء عن مرضاته. والاجتناب عن صرف ذلك في منهياته. وحينئذ يكون كل منهما جزء منه. وكذا تخصيص الشكر بالنعمة الواصلة إلى الشاكر» انتهى.
(و) أما (الله) ففيه أقوال مرجعها الى قولين :
الأول : انه جامد غير مشتق من شيىء ، بل هو (اسم) لا وصف ولا كنية ولا لقب ، علم شخصي لا جنسي ، كلي منحصر في فرد ، (للذات الواجب الوجود) لذاته المعين في الخارج ، فانه أي كون وجوب الوجود لذاته المتبادر عند الاطلاق ،
Shafi 11
لأنه الفرد الأكمل من واجب الوجود ، بخلاف الممكن الواجب الوجود لغيره. وهو أخص صفاته تعالى اذ لا يصدق بحسب نفس الأمر على غيره تعالى من الممكنات ، بخلاف سائر صفاته تعالى لأنه يصدق على غيره ولو بحسب فرض العقل.
والواضع له هو مسماه كأسماء الملائكة وبعض المقربين ، فعلم غيره وحيا أو بنحو آخر.
وقيل : ان الواضع له غيره تعالى ، والإستشكال عليه بأن المحقق في محله ان العلم ما وضع لشيىء مع جميع مشخصاته فوضعه علما فرع تعقل الموضوع له بالكنه وذلك غير ممكن لغيره تعالى في وضع ، الجلالة كيف وقد قال سيد البشر صلى الله عليه وآله : ما عرفناك حق معرفتك ، مردود بأنه يكفي تعقله قدر الطاقه البشرية ، إذ لا نزاع في إمكان تعقله تعالى لغيره بصفاته الحقيقية والإضافية والثبوتية والسلبية على قدر ما يتيسر له منها بالفيض الالهي ، وإلا يلزم بطلان علم الكلام إذ الموضوع له على ما عليه بعض المحققين ذات الله تعالى ، لأنه يبحث فيه انه لا يتكثر ولا يتركب ، وانه يتميز عن المحدث بصفات يجب له وامور يمتنع عليه. وبعبارة اخرى : يبحث فيه عن صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا ككيفية صدور العالم عنه بالاختيار ، وحدوث العالم ، وخلق الأعمال ، وكيفية نظام العالم بالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة كبحث المعاد وسائر السمعيات ، وللزم بطلان قول العلامة بوجوب معرفة جميع ما ذكر بالدليل وحكمه بان الجاهل بها خارج عن ربقة المسلمين ، والوجه في ذلك ظاهر.
والقول الثاني : انه مشتق من «الأله» بفتح الهمزة واللام بمعني
Shafi 12
التحير ، مصدر اله بكسر اللام اصله : «وله يوله». أو من «أله يأله إلاهة» بمعنى : عبد عبادة. قال في المصباح : أله يأله من باب تعب إلاهة بمعنى عبد عبادة ، وتأله : تعبد ، والاله : المعبود وهو ألله سبحانه وتعالى ، ثم إستعاده المشركون لما عبدوه من دون الله تعالى ، والجمع آلهة. فالاله فعال بمعنى مفعول مثل كتاب بمعنى مكتوب ، وبساط بمعنى مبسوط ، وأما «الله» فقيل غير مشتق من شيىء ، بل هو علم لزمته الألف واللام ، وقال سيبويه : مشتق واصله : «إله» فدخلت عليه الألف واللام فبقي الاله ، ثم نقلت حركة الهمزة الى اللام وسقطت فبقى اللاه ، فأسكنت اللام الأولى وادغمت وافخم تعظيما لكنه يرقق مع كسر ما قبله. قال أبو حاتم : وبعض العامة يقول : لا والله ، فيحذف الألف ولا بد من إثباتها في اللفظ ، وهذا كما كتبوا «الرحمن» بغير ألف ولا بد من إثباتها في اللفظ ، وإسم الله تعالى يجل أن ينطق به إلا على أجمل الوجوه» انتهى.
وقيل اصله : «لاها» بالسريانية فعرب بحذف الألف الاخير وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انظم. وقد ياتي في تعريف المسند اليه بالعلمية ما يفيدك في المقام ، فانتظر. والكلام في العلمية وعدمها على هذا القول أيضا كما تقدم سندا ودليلا ، فتبصر.
(المستحق لجميع المحامد) جمع المحمدة ، قال في المصباح : المحمدة بفتح الميم نقيض المذمة ، ونص إبن السراج وجماعة على الكسر ، وأما استحقاقه لجميع المحامد فلأن واجب الوجود حكم عقلا على مصداقه بكونه مستجمعا لجميع الصفات الكمالية ، على ما بين في علم الكلام عند ذكر خواص مصداق واجب الوجود. (ولذا لم يقل الحمد للخالق او الرازق او نحوهما) من صفاته
Shafi 13
الأخر (مما يوهم إختصاص إستحقاق الحمد بوصف دون وصف)، لما جبل عليه الناظر إلى ظواهر الألفاظ من الحكم بأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية ، فيحكم بالمفهوم اعني نفي الحكم عن غير محل الوصف على ما بين في الاصول مفصلا.
وللاخذ بالمفهوم سواء كان مفهوم الوصف أو غيره حكايات وقصص لعلنا نذكر بعضا منها في طي المباحث الاتيه في مقام يناسبه إنشاء الله تعالى
(بل إنما تعرض للإنعام) الذى هو من صفاته بقوله تعالى الآتي على ما أنعم. (بعد الدلالة على استحقاق الذات) بتعليق الحمد على لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات على ما بيناه مفصلا (تنبيها على تحقق الاستحقاقين) الفضائل ، المدلول عليه بتعليق الحمد على لفظ الجلالة ، والفواضل المدلول عليه بتعليقه ثانيا على الإنعام.
وحاصله ان الله تعالى مستحق للحمد من حيث الذات ومن حيث الصفات ، فيكون الحمد شكرا أيضا. على ان حمدنا له تعالى لا يكون في الحقيقة إلا شكرا له تعالى ، إذ لا يفضل حمدنا على ما وصل إلينا من نعمة ليمكن ان يقع بازاء غيرها ، فلا يكون حمدنا إلا شكرا. وقد تقدم آنفا ما يدل على هذا فتنبه.
وانما (قدم) المصنف (الحمد) على لفظ الجلالة (لاقتضاء المقام مزيد إهتمام به) اي بالحمد اذ المقام مقام الشروع في أمر ذي بال وهو تاليف الكتاب ، وقد تقدم أن كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله فهو أجذم ، فمقتضى المقام اى الشروع في تأليف الكتاب تقديم الحمد ، فحصل
Shafi 14
للحمد اهمية عارضية تقتضى الاعتناء بشانه (وإن كان ذكر الله أهم في نفسه)
والحاصل : ان الاهمية موجودة في كليهما ، وهي في الحمد عارضية باقتضاء المقام. وفي لفظ الجلالة ذاتية ، لكن الأهمية العارضية في الحمد أولى بالمراعاة من الأهمية الذاتية في لفظ الجلالة ، لأن البلاغة في الكلام كما ياتى عن قريب عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ، والحال اي المقام اي الشروع في التاليف يقتضي تقديم الحمد لا إسم الجلالة ، وإن كان هو أهم في نفسه. وبعبارة اخرى للحمد اهمية بالنسبة لمقام الشروع في التاليف ، والأهمية النسبية تقدم في باب البلاغة على الأهمية الذاتية ، لما ياتي في تعريف البلاغة في الكلام ، وقد اشرنا اليه آنفا. وبعبارة اخرى : الحاكم بالترجح في التقديم في باب البلاغة قصد البليغ ، وهو تابع لما يناسب المقام ، وقد يزيل الذاتيات بذلك القصد.
والى بعض ما شرحنا اشار بقوله. «مزيد اهتمام به» فلا تغفل. ولعين ما ذكرنا قدم لفظ الجلالة على الحمد في قوله تعالى : ( فلله الحمد رب السماوات )، ونحوه من الآيات ، لأن المقام فيها مقام بيان إستحقاقه تعالى وإختصاصه بالحمد.
وليعلم ان قوله : «الحمد لله» إنشاء لا إخبار ، والانشائية تحصيل بثلاثة امور : الأول : دخول الأدات نحو : هل يضرب ، وليت زيدا يضرب. والثاني التغيير نحو : إضرب ، إذ أصله تضرب. والثالث : القصد والنقل كبعت وأنكحت ، والمقام من هذا القبيل.
ولنشر الى امرين مهمين ،
Shafi 15
أما الأمر الاول فهو ما ذكره الشارح في بحث تقديم المسند إليه على المسند وهذا لفظه «فان قلت : كيف يطلق التقديم على المسند إليه وقد صرح صاحب الكشاف بأنه إنما يقال مقدم ومؤخر للمزال لا للقار في مكانه؟ قلت : التقديم ضربان : تقديم على نية التأخير كتقديم الخبر على المبتدأ ، والمفعول على الفعل ، ونحو ذلك مما يبقى له مع التقديم إسمه ورسمه الذي كان قبل التقديم ، وتقديم لا على نية التأخير ، كتقديم المبتدأ على الخبر ، والفعل على الفاعل ، وذلك بأن تعمد إلى إسم فنقدمه تارة على الفعل فتجعله مبتدأ نحو زيد قام ، وتؤخره تارة فتجعله فاعل نحو : قام زيد ،
وتقدم المسند اليه من الضرب الثاني ، ومراد صاحب الكشاف ثمة هو الضرب الاول ، وكلامه أيضا مشحون باطلاق التقديم على الضرب الثاني.» انتهى
فقد ظهر من هذا ان تقديم الحمد من الضرب الثاني ، وإن احتمل بعظهم كونه من الضرب الأول بان يكون التقدير : احمد الله حمدا» فتأمل :
واما الامر بالثاني فهو ما ذكره ايضا في البحث المذكور وهذا لفظه : «ذكر الشيخ في دلائل الاعجاز إنا لم نجدهم إعتمدوا في التقديم شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام ، لكن ينبغي ان يفسر وجه العناية بشيىء ويعرف فيه معنى ، وقد ظن كثير من الناس انه يكفي أن يقال : قدم للعناية ، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية وبم كان أهم هذا كلامه لأجل هذا أشار الى تفصيل وجه كونه اهم» انتهى.
Shafi 16
إذا عرفت ذلك فنقول : قد ظهر لك مما بيناه آنفا ان العناية بالحمد وصيرورته أهم إنما أتى من كون المقام مفتتح التاليف والشروع فيه نظير تقديم الفعل في ( اقرأ باسم ربك ) على ما ياتى فى باب متعلقات الفعل بأن الاهم فيه القراءة لأنها أول سورة نزلت ، فكان الأمر بالقرائة أهم فلذا قدم ، فتبصر! ،
واما لفظة (على) فقد يفسرها بعضهم في امثال المقام بلفظة «بعلاوة» ولكن التحقيق فى تفسيرها ما ذكره إبن هشام في حرف العين فى معانى (على) وهذا لفظه :
«التاسع أن تكون للإستدراك والإضراب ، كقوله : فلان لا يدخل الجنة لسوء صنيعه على انه لا يأس من رحمة الله ، وقوله :
فو الله لا أنسى قتيلا رزيته
بجانب قوسي ما بقيت على الارض
اى على ان العادة نسيان المصائب البعيدة العهد ، وقوله :
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
على ان قرب الدار خير من البعد
(ثم قال)
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذى ود
أبطل ب «على» الاولى عموم قوله : «لم يشف ما بنا» ، فقال : بلى ان فيه شفاء ما ، ثم أبطل بالثانية قوله : «على ان قرب الدار خير من البعد» وتعلق على هذه بما قبلها عند من قال به كتعلق حاشا بما قبلها عند من قال به ، لأنها أوصلت معناه إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإخراج. أو هي خبر لمبتدء
Shafi 17
محذوف أي والتحقيق على كذا وهذا الوجه إختاره إبن الحاجب ، قال : ودل على ذلك إن الجملة الاولى وقعت على غير التحقيق ، ثم جبىء بما هو التحقيق فيها» انتهى.
فما تقدم من الكلام في تقديم الحمد كله وقع من غير تحقيق ، والتحقيق : على (ان صاحب الكشاف) اى الزمخشرى (قد صرح بأن فيه) اى في تقديم الحمد في المقام (دلالة على إختصاص الحمد به) اى بالله تعالى (وانه) اى الله تعالى (به) اى بالحمد (حقيق) ويلزم من هذا التصريح إختصاص جميع أفراد الحمد بالله ، وانحصارها فيه تعالى وإن قلنا بكون اللام في الحمد للجنس ، إذا إختصاص الجنس بشيىء يستلزم إختصاص جميع الأفراد به ، فيصير مؤدى القول بكون الللام للجنس حينئذ عين مؤدى القول بكونها للإستغراق ، وكلا القولين منافيان في الظاهر لما عليه المعتزلة ومنهم صاحب الكشاف من قاعدة خلق أفعال العباد من المعاصى وعيرها وأنها مخلوقة لهم لا لله تعالى ، خلافا للعدلية والاشاعرة.
واني يعجبني ذكر أمرين مهمين وقع في ثانيهما مشاجرة عظيمه بين علماء الاسلام وإن كان ذكرهما غير مناسب للمقام ، ومن الله التوفيق وبه الاتكال والاعتصام :
الأول : قال في شرح المقاصد : «ألاحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ، ومنها ما يتعلق بالإعتقاد وتسمى أصلية وإعتقادية وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي (ص) وقرب العهد بزمانه وسماع الاخبار ومشاهدة الاثار مع قلة الوقايع والإختلافات ، وسهولة
Shafi 18
المراجعة الى الثقات ، مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا ، وتكثير المسائل فروعا واصولا ، إلى أن ظهر إختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرة الفتاوى والواقعات ، ومست الحاجة فيها إلى زيادة نظر وإلتفات ، فأخذ أرباب النظر والاستدلال في إستنباط الأحكام ، وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الاسلام ، وأقبلوا على تمهيد اصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينها وتدوين المسائل بادلتها وايراد الشبه باجوبتها ، وسموا العلم بها فقها ، وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر ، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه ، والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها ، وبعلم الكلام لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم : «الكلام في كذا وكذا» ، ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت في مسألة كلام الله تعالى انه قديم أو حادث ، ولانه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات ، ولأنه كثر فيه الكلام مع المخالفين والرد عليهم ما لم يكثر في غيره ، ولأنه بقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين : هذا هو الكلام. واعتبروا في ادلتها اليقين لانه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات ، بل في العمليات.
وقال في شرح العقائد النسفية : والمعتزلة اول فرقة أسسوا قواعد الخلاف لما ورد به ظاهر السنة وجرى عليه جماعة من الصحابة في باب العقائد ، وذلك لأن رئيسهم واصل ابن عطا إعتزل عن مجلس الحسن البصري يقرر ان مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، ويثبت المنزلة بين المنزلتين. فقال الحسن : قد إعتزل عنا ، فسموا المعتزلة ، وهم سموا أنفسهم أصحاب للعدل والتوحيد لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله تعالى ونفي
Shafi 19
الصفات القديمة عنه تعالى.
ثم انهم توغلوا في علم الكلام ، وتشبثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الاصول ، وشاع مذهبهم فيما بين الناس وقال بعض المحققين : ولا يزال الأمر كذلك إلى أن خالف الشيخ ابو الحسن الأشعري مع استاده أبي علي الجبائي في مسألة ذكرها شارح العقائد ، فترك الأشعري مذهبه واشتغل هو ومن تابعه بابطال رأي المعتزلة وإثبات ماوردت به السنة وجرى عليه الجماعة. وهذا صريح في ان مخالفة المعتزلة مع أهل السنة المسمين بالأشاعرة إنما هي في ظواهر السنة» انتهى باختصار.
وقال في شرح المواقف : «انه دخل على حسن البصري رجل فقال : يا امام الدين ظهر في زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة والخوارج ، وجماعة اخرى يرجئون صاحب الكبائر ويقولون : لا يضر مع الايمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فكيف تحكم لنا ان نعتقد في ذلك؟
فتفكر الحسن ، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطا : وأنا لا أقول ان صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق ، ثم قام إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد ، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين قائلا : ان المؤمن إسم مدح ، والفاسق لا يستحق المدح ، فلا يكون مؤمنا ، وليس بكافر أيضا لاقراره بالشهادتين ، ولوجود سائر أعمال الخير فيه ، فاذا مات بلا توبة خلد في النار ، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير ، لكن يخفف عليه فيكون دركته في النار فوق دركات الكفار. فقال الحسن : قد إعتزل عنا من هو داخل فينا ، فلذلك سمي هو واصحابه معتزلة.
Shafi 20
الامر الثاني : إعلم أن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة ليس منحصرا فيما تقدم في وجه التسمية. بل المسائل الخلافية بينهم كثيرة ، منها مسألة خلط الأفعال فقالت المعتزلة : إنا فاعلون بمعنى أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار ، والأشاعرة أنكروا ذلك فقالوا إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى أوجدها ، وليس لقدرتهم تاثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا.
ونحن نذكر نبذا مما للطرفين من الأدلة ، من دون ما في كل واحد منهما من ترجيح وإنتقاد ، لأن الغرض في المقام تنوير الأذهان والاطلاع على ما لهم من الأدلة لفهم ما أشير إليه في كلام السعد والا فإن المسئلة ذات شجون :
قال في دلائل الصدق شرح نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلى : «(قال المصنف) المطلب العاشر في أنا فاعلون. إتفقت الامامية والمعتزلة على انا فاعلون ، وادعوا الضرورة في ذلك ، فان كل عاقل لا يشك في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وان هذا الحكم مركوز في عقل كل عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين فان الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فانه يذم الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذم الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم ، قال أبو الهذيل : (حمار بشر أعقل من بشر ، لأن حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن اتيت به إلى جدول صغير جازه ، لأنه فرق بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرق بينهما ،
Shafi 21
فحماره أعقل منه).
وخالفت الاشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنه لا مؤثر إلا الله تعالى فلزمهم من ذلك محالات.
وقال الفضل بن روزبهان :
مذهب الأشاعرة : إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله أوجدها ، وليس لقدرتهم تاثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بان يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فاذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد. والمراد بكسبه إياه : مقارنته لقدرته ، من غير أن هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلا له. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد ، فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع ، وهذا حقيقة مذهبهم.
ولا يذهب على المتعلم انهم مانفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتى يكون الخلاف في أنه فاعل أولا ، كما صدر الفصل بقوله : «إنا فاعلون» واعترض الاعتراضات عليه ، فنحن أيضا نقول : إنا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذى إتصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه الله فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا؟ وهذا شيىء لا يستبعده العقل ، فان الأسود هو الموصوف بالسواد والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز ان يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله تعالى؟
ودليل الأشاعرة : إن فعل العبد ممكن في نفسه وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لشمول قدرته كما ثبت في محله ، ولا شيىء مما هو مقدور لله بواقع
Shafi 22