عبد الله بن عبد العزيز البكريّ الأندلسي أبو عبيد عبد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد بن أيوب بن عمرو البكريّ. وهو لغوي من الطّراز الأول في الأفق الأندلسي. وقد اختلفوا في تاريخ ولادته فقال البعض أنه ولد في سنة ٤٠١ هـ وقال آخرون أنه ولد في سنة ٤٣٢ هـ. وأما عن تفاصيل حياته فلا نملك معلومات كافية. هاجر مع والده إلى قرطبة في سنة ٤٤٣ هـ وأخذ فيها يتلقى العلوم والمعارف حيث كانت آنذاك من المراكز الثقافية المهمة حتى سمي بالقرطبي أيضًا إلا أن شهرته هي الأندلسي. تتلمذ على يد أبي مروان بن حيّان، وأبي بكر المصحفي، وأبي العباس العذري، وأبي عمر يوسف بن عبد البر النّمري. تسلم منصب الوزارة لمدة في بلاط محمد بن معن الصمادحي صاحب المريّة، الذي اصطفاه وقربه، ورفع مرتبته، ووسع راتبه، ثم عاد إلى قرطبة واشتغل بالعمل الأدبي حتى توفي فيها عام ٤٨٧ أو ٤٩٦ هـ. ويبدو أن تأليفاته ونشاطاته العلمية كلها كانت في قرطبة. يعتقد البعض أنه لم يرحل إلى الشرق وحتى إلى أفريقية الشمالية أو إلى مناطق أخرى إلا أنه كتب كتابًا تحت عنوان «المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب» يصف فيه بلدان أفريقية الشمالية. آثاره للبكرىّ مؤلفات كثيرة، أشهرها هذا المعجم، وكتاب المالك والممالك.

Shafi da ba'a sani ba

[الجزء الاول] مقدمة* وصف المعجم، وبيان قيمته العلمية، وتاريخه* هذا معجم ما استعجم من أسماء المواضع والبلاد، لأبى عبيد البكرىّ. وهو معجم لغوىّ جغرافىّ، يصف جزيرة العرب، ويتقرّى ما بها من المعالم والمشاهد، والبلدان والمعاهد، والآثار والمحافد، والمناهل والموارد؛ ويتتبّع هجرة القبائل العربية من أوطانها، واضطرابها فى أعطانها، وتردّدها بين مصايفها ومرابعها، ومباديها ومحاضرها؛ ويذكر أيامها ووقائعها، وأنسابها وعشائرها. وهو أثر نفيس من صميم التّراث الأدبى والعلمىّ، ممّا خلّفه العرب إبّان نضجهم العقلىّ، وارتقائهم العلمىّ، ولا نكاد نجد له نظيرا فى معاجم البلدان، التى وصلت إلى أيدينا سليمة من أحداث الزمان، فهو يبذّها جميعا: غزارة موادّ، وكثرة تفاصيل، واكتمال عناصر، ودقة مناهج، وتمام ضبط، وجمال أسلوب، وتحرير عبارة. سبق البكرىّ إلى التأليف فى جغرافية جزيرة العرب، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود الهمدانىّ اليمنى، المعروف بابن الحائك، المتوفى بصنعاء من اليمن سنة ٣٣٤ هجرية، وكتابه «صفة جزيرة العرب»، الذي نشره المستشرق مولّر سنة ١٨٨٤ بمطبعة بريل بليدن، من أنفس كتب الجغرافيا القديمة: اعتمد فيه على مشاهداته الخاصة، وما عاينه فى أثناء رحلاته فى جزيرة العرب، لا على النقل من الكتب؛ لكنّه مع هذه المزية الظاهرة، لا يبلغ مبلغ معجم البكرىّ، لشدة إيجازه. وقلة تفاصيله، إلا فيما يخص جغرافية بلاده، وهى القسم الجنوبى من جزيرة العرب، فقد حشد له كل جهوده؛ ولأنه لم يرتّب كتابه ترتيب المعاجم، وإنما رتبه على أبواب وفصول. على أن البكرىّ قد انتفع من كتاب الهمدانىّ هذا كثيرا، فكان من مصادره المهمّة، ينقل عنه، ويستند إليه، وخاصة إذا أظلم ليل الشّبهة وغامت سماء الشكوك. وممن ألف بعد البكرى معجما عامّا فى البلدن وذكر جزيرة العرب، ياقوت بن عبد الله الرومى الحموى. (٥٧٢- ٦٢٦ هـ) صاحب معجم البلدان، وهو من أجل هذه المعاجم خطرا،

المقدمة / 1

وأعظمها قدرا، ومن أحسنها ضبطا، وأحفلها مادّة، وأعمها فائدة، إلا أنّه مع كل هذه المحاسن لا يوازن بمعجم البكرىّ فى ضبطه وتحرّيه؛ فإن البكرىّ لغوىّ دقيق الحسّ، كامل الأداة، من النحو، والصرف، واللغة؛ ريّان من علوم الرواية: الأشعار، والأخبار، والأنساب؛ إلى علوم الدين: الحديث، والتفسير، والفقه، وغيرها من أطراف الثقافة الإسلامية. كما أنه لا يفوقه استيعابا وإحاطة؛ وهو أمر يبدو غريبا، ولكنه الحقيقة سافرة: فإن معجم البكرىّ ليس من المعاجم العامّة للبلدان، وإنما هو معجم لغوىّ. خاصّ بتحقيق أسماء المواضع التى وردت فى الشعر العربىّ، وفى الأحاديث، وفى كتب السّير، والتواريخ القديمة، وأيام العرب، وما إلى ذلك؛ فهو فى هذا النوع الخاصّ، أكثر جمعا لأسماء المواضع العربيّة، من معجم البلدان لياقوت. وكم عثرت عند البكرىّ، بل عند الهمدانىّ، على أسماء بلدان وأماكن، لم أجدها عند ياقوت، لأنّ معجم ياقوت معجم عام فى الجغرافيا: يصف البلدان المشهورة، فى أرجاء المعمورة. أما غير الهمدانىّ وياقوت من أصحاب كتب الجغرافيا، فليس يعنينى أن أقف عندهم، موازنا بين البكرىّ وبينهم، فقد ظهر فضله على جميعهم، بتفوّقه على زعمائهم؛ وكفى بالهمدانىّ وياقوت عالمين، ومؤلفين رئيسين. أخصّ مزايا معجم البكرىّ كما قلت الضّبط: فإنّه لهذا الغرض ألّف، وقد أبان هو عن ذلك فى مقدمته، إذ رأى كثيرا من أسماء البلدان التى ترد فى الأحاديث والأشعار والسير والتواريخ، قد دبّ إليها التصحيف والتحريف، وضرب لذلك أمثلة كثيرة؛ وكان هذا التحريف داء قديما، لم يسلم من آفته حتى أئمة الرّواة وكبار العلماء، كالأصمعىّ من علماء اللغة، ويزيد بن هارون من المحدّثين، فراعه ذلك، وأوحى إليه بتأليف كتابه. والبكرىّ يضبط الكلمات بالعبارة لا بالحركات، وهذه إحدى مزاياه، ولولا ذلك لاختل المعجم، وضاعت قيمته، ولم يسلم من شوائب التحريف، التى ذهبت بكثير من محاسن غيره. ويعوّل المؤلف فى الضبط على الشعر العربى أولا، فيأتى بالشعر الذي ورد فيه اسم المكان، ويسنده إلى الراوى الذي نقله من العلماء، ويوازن بين الروايات، ويرجّح رواية الثقات، ويعتمد فى ذلك على النسخ الفذّة، التى كتبها العلماء نفسهم بأيديهم، أو التى

المقدمة / 2

كتبها ورّاقوهم المعروفون، أو تلاميذهم المبرّزون، وقرءوها عليهم؛ وقد اجتمع للبكرىّ من الكتب ذوات الخطوط المنسوبة، والأصول المضبوطة، شىء كثير، من كتب أبى على القالى التى دخل بها الأندلس، ومؤلفاته التى عليها خطه أو سماع تلاميذه؛ ومن كتب غيره من العلماء، كالأصمعىّ، رواية ابن أخيه عبد الرحمن، أو أبى حاتم السجستانىّ؛ ومن كتب أبى عبيد، وابن دريد، ونفطويه، وابن السّكّيت، والسّكونىّ والهمدانىّ، والأحول والأثرم، وغير هؤلاء من الأعلام الذين لا يوجد فى أيدينا من كتبهم الآن إلا النّزر اليسير. وكان يعتمد فى الحديث على روايات الكتب الصّحاح، وخاصة الموطّأ، والبخارىّ، وسنن أبى داود؛ وينقل كثيرا من الأحاديث عن ابن وهب وابن القاسم من شيوخ المالكية. وينقل عن ابن إسحاق صاحب السّيرة، وعن أبى جعفر الطّبرى. ويصحح ما وقع فى كتب أولئك وهؤلاء من تحريف فى أعلام البلدان، ويخرج من المغمعة منصورا فى أكثر الأحيان. ومعجم البكرى قليل الحشو والفضول: ذلك أنه لم يكن مما يعنيه أن يذهب مذهب ياقوت، فى قياس طول البلد وعرضه ودرجة حرارته، وذكر مياهه ونباته وحيوانه ومشاهده وآثاره وأسواقه، فإن كل هذا مما يتناوله البحث الجغرافى الخالص؛ أما البكرىّ فقد حدّد غرضه فى مقدمته بأنه لغوىّ بحت، يقوم على الضبط وتصحيح الأسماء أولا، لا على جمع الأخبار، ولذلك قلّ تعرّضه لكثير مما يتعرض له الجغرافىّ المتخصّص؛ ولم يكن كذلك مما يعنيه أن يذكر العلماء الذين خرجوا من كل بلد، مما أطال فيه ياقوت وأسهب، وهو إن لم يخل من فائدة إلى الحشو أقرب، لأن لمعرفة الرجال كتبا خاصة، وقد عابه بذلك صاحب كتاب «مراصد الاطلاع، على أسماء الأمكنة والبقاع»، الذي اختصر معجم البلدان، بعد حذف فضوله وحشوه، فى نحو ثلث صحائفه. وليس فى معجم البكرىّ ما يعاب به عند المشارقة، سوى ترتيبه بترتيب حروف الهجاء عند المعاربة على هذا النحو: اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ وى ولكن مما يعاب به عند جميع الناس أنه جعل ترتيب الكلمات فى كل باب على ترتيب الحرفين الأول والثانى الأصليين من الكلمة، دون نظر إلى ترتيب ما بعدهما من

المقدمة / 3

الحروف. وإذا كان الحرف الثانى ألفا زائدة كألف صاحب وفاضل، أهمله ولم ينظر إليه، واعتبر الحرف الثانى ما بعد الألف، وفى هذا ما فيه من العسر والتكلف. ولذلك يضطر الباحث عن كلمة فى حرف من الحروف أن يقلّب صفحات المعجم فى هذا الحرف، حتى يعثر على ضالّته بالمصادفة، لا بأن يطلبها فى موضعها الذي ينبغى أن تستقر فيه، بحسب نظام الفهرسة الدقيقة لألفاظ المعاجم. ولذلك كان من عملى فى هذا المعجم أن غيّرت وضع مادته، ورتبتها على حسب ترتيب حروف الهجاء فى المشرق، وعلى ما يقتضيه نظام الفهرسة الصحيح، وذلك بترتيب حروفها بحسب صورتها، لا بحسب جوهرها ومادتها، فليس مما يعنى الباحث أن يكون الحرف أصليا أو زائدا، وإنما يعنيه أن يكون موضع الكلمة التى فيها حرف الألف قبل موضع الكلمة التى فيها حرف الباء، وهذه قبل التى فيها حرف التاء، فى أى مكان وقع الحرف من الكلمة. كما يعنيه هذا الترتيب نفسه فى الأحرف التى بعد الحرفين الأوّلين، وبهذا تأخذ الكلمات أوضاعا طبيعية مسلسلة، تهتدى فيها العين إلى موضع البحث من المعجم بسرعة، وبالنظرة العجلى والخاطفة، دون كد الذهن فى قواعد الأصالة والزيادة، أو الاعتماد على الفهارس والملاحق وما إليها، فإن ذلك مما يصرف النفس عن الاستفادة من الكتاب إلى غيره مما هو أسهل منه وضعا. وكم رأيت من فضلاء الباحثين من يصرفه تعقيد كتاب القاموس المحيط للفيروزابادىّ، عن الاستفادة من جواهره ولآلئه. وعلى الرغم من هذا تلقى العلماء المسلمون قديما وحديثا معجم البكرىّ بالقبول ووثّفوا صاحبه، ورفعوه مكانا عليّا، فوق اللغويين وأصحاب المعاجم، واعتمدوا عليه فى تحقيق المشكلات، خصوصا علماء المغاربة والأندلسيين، من المحدّثين والأخباريّين، ومن أشهرهم القاضى عياض (٤٧٦- ٥٤٤) فى مشارق الأنوار، والسّهيلى (٥٠٨- ٥٨١ هـ) فى الرّوض الأنف، فقد نقلا عنه كثيرا فى كتابيهما. أما أصحاب المعاجم اللغوية، فمعجم البكرىّ كان عندهم أعظم أصولهم، فى تحقيق أعلام البلدان العربية وضبطها، وأكثر من انتفع به منهم الفيروزابادىّ (٧٢٩- ٨١٧ هـ) صاحب القاموس، والزّبيدى (١١٤٥- ١٢٠٥ هـ) صاحب تاج العروس، وشيخه محمد بن الطّيب الفاسى (١١١٠- ١١٧٠ هـ) صاحب الحاشية على القاموس، وكثير غير هؤلاء.

المقدمة / 4