Matsalolin Birnin Zamani
معضلات المدنية الحديثة
Nau'ikan
إن الإمبراطورية التركية القديمة كانت دولة دينية، لقد تبدلت هذه الإمبراطورية من نظام التكية السلجوقي القديم بنظام المذاهب، وأخضعت الناس قسرا إلى المنطق التحكمي الذي اتصف به كل من ندعوه «حجة الإسلام»، وهنا تتجلى لنا صورة من أوضح الصور التي امتازت بها العقلية الآسيوية (ص35).
ومع كل ذلك، فإن هذه الدروشة، وإن شئت فادعها الباطنية، كانت السبب الأقوى الذي نجى الأمتين التركية والفارسية من أن تستعربا بشكل حاسم. وفي هذا المجال وحده بدأ النضال بين الإسلام والقومية، أما القومية فقد تفوقت وانتصرت في النهاية (ص39).
بعد هذا بدأ عصر الملوك العثمانيين، وفي هذا العصر تفوقت المذاهب العربية القديمة وأساليبها كل تفوق، حتى لقد اتبعت أساليب المذاهب البغدادية في الإجمال والتفصيل. وهنا شبت ما ندعوه «الشريعة» التي استمدت كل أحكامها من الأوامر والنواهي القدسية المنزلة، فكان لزاما أن لا تعترف هذه المذاهب بأن تغير الأزمان موجب لتغير الأحكام. لقد نظرت هذه المذاهب إلى القسطنطينية كما نظرت لبغداد، ولم تفكر ساعة واحدة في أن تدرس البيئة التي تحيط بهذه العاصمة وأن تتعرف طبيعتها وأن تكيف مبادئها بما يلائم هذه البيئة. لقد مضت المذاهب تزود الناس بعقاقير استمدتها من مصادر كانت في مكة قبل بغداد، وكانت من قبل أن تكون في مكة بين أعراب البادية، فهل يمكن أن يكون مستطاعا أن تحتمي الشعوب بمثل هذه الشريعة التي لم تدل يوما على أنها ملائمة لتطور الحالة الاجتماعية التي يقتضيها نماء العقل البشري؟ إنه يتعذر أن نناقش هذه الحقيقة، ليس من الممكن أن تتطور قوة ما من القوى وتمضي مرتقية، وهي في الوقت ذاته بعيدة عن التأثر بمبادئ التطور وماهيته، إن مثل هذه القوة لا تنتج من شيء إلا التراجع والاندثار. (ص49).
إن المبادئ التي استمدت من مكة ومن رمال البادية هي التي أعاقت تركيا عن التقدم ستة قرون طوال، لقد حكمت هذه المبادئ الشعب التركي عقليا ومدنيا واجتماعيا وعلميا وسياسيا وإداريا، وعلى الجملة احتكمت في كل مظاهر حياته. ولقد استنفدت المدارس كل موارد تركيا المالية، ولكن ماذا كانت طبيعة الأشياء التي تدرس بين جدرانها؟ لم يدرس بينها حرف واحد من اللغة التركية، بل كانت العربية هي الأساس، وأكب الناس على درس مقاطع من القرآن وتفسيرات فيه قد أربت على المئات والألوف من الصفحات التي كتبها واضعوها وحكموا فيها منازعهم وشهواتهم تحكيما، وكذلك دارسو الحديث، تلك الأحاديث التي وضعها وانتحلها رجال من مختلف الأمم، وفي مختلف الأزمان (ص49).
بيد أن هذه الأساليب التعليمية لم يكن لها من صلة بالشعب التركي، ولا بلغته ولا بثقافته، بل لم يكن لها من صلة بالحياة ذاتها. وليس في تاريخنا من شيء هو أدعى إلى الخجل من أن تفرض السراي - الباب العالي - على الشعب التركي أسلوبا تعليميا عربيا في قوامه ومبناه، ومن الغريب أننا خضعنا لهذا النظام خضوع العبيد والإماء ستة قرون طوال. (ص52).
لقد وضعت المذاهب علما قدسيا بنته على تفسيرات خاصة فسرت بها الأحاديث وآيات القرآن، أما رجالها فقد أعلنوا الحرب والنضال على كل من حاول أن يخرج عن هذه الدائرة، وبهذا سد باب العلم وحظر على الناس ولوجه (ص55).
لقد مضت المذاهب حاكمة بأمرها في السراي وفي التكايا، ولم يكن على المتربع في السراي، خليفة العالم و«ظل الله فوق الأرض»، من واجب إلا أن يحمي بصولته طريقة تطبيق تلك التعصبية الدينية التي تأصلت في بغداد تطبيقا عمليا، وكان من أثر هذا أن ألغيت حرية الضمائر وقتلت طريقة النقد العقلي، وبكثير من الخطأ في التفسير والتلاعب به فصلت المرأة عن الحياة الاجتماعية، وأبيح تعدد الزوجات، فلم يصبح للمرأة في عالم الاجتماع من مكان تشغله (ص62).
كذلك فرضت المدارس على الناس أحكاما شاذة لتقوى بذلك دعامتها وتثبت مركزها، فقد قالت إنه فجور أن تكلم المرأة أحدا من غير أهلها، بل قضت بأن ظهور شعرة واحدة من شعرها ليراها أجنبي سبب كاف للطلاق، في حين أنها لم تذكر أن الخلفاء الذين ولدوا بغير عقد شرعي هم بذاتهم نبت لغرس غير مشروع (ص64). (4)
طالما خيل إلينا بأن المسألة الشرقية التي قامت في دوائر أوروبا السياسية من أكبر المخاطر التي تعرضنا إليها، ولقد جر الخوف من هذه المسألة إلى جهود كثيرة بذلت في سبيل الإصلاح، على أن ضروب هذا الإصلاح لم يكن فيها من روح الانقلاب أو التجديد شيء ما، بل كانت مجرد وسائل سياسية تذرع بها الحاكمون لإنقاذ الدولة. على أن جزءا كبيرا من هذه الإصلاحات بذاتها كانت من عمل الأوروبيين لا من عملنا (ص72).
وفي الحق أن هذه الحركات الإصلاحية لا يمكن أن تعتبر حركات تجديد، لأنها لم تصدر من الشعب مصدر كل إصلاح وتجديد (ص73). وإذا كان قدماء الكتاب والمؤلفين لم يخرجوا عن حد النقل عن منتجات الشرق، فإن كتاب عهد الإصلاح، كما يسمونه، لم يتعدوا حد النقل عن منتجات الغرب، فلم يكن في كلا العصرين نزعة إلى الجديد أو الابتكار (ص74). والدليل على ذلك أن المصلحين لم يحاول أحد منهم أن يلمس بنقد أو تقرير حقيقة الحياة العائلية في تركيا (ص80). نقل هؤلاء مبادئ الثورة الفرنسوية نقلا حرفيا بلا تحوير أو تبديل، على أن الثورة الفرنسوية لم تتناول نظام الأسرة في أوروبا بأي حدث، ذلك لأن حياة الأسرة الأوروبية كانت قد وضعت مرساتها على نظام ثابت لا يقبل التغيير (ص80).
Shafi da ba'a sani ba