Matsalolin Birnin Zamani
معضلات المدنية الحديثة
Nau'ikan
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي
عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد فلم يفزع بيوتا كثيرة
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وشعر زهير كله تتمثل فيه نزعة الحكمة وفاضل الأخلاق. وهكذا إذا سايرت الشعر في كل عصور التاريخ لا تجده يدل على شيء دلالته على صفات الناس الذين يخرجه ذوقهم، وعلى نزعاتهم، وعلى الحالات القائمة حقا فيهم، فالشعر هو عنوان الحياة ومرآتها، وهو صورة مصغرة من نفسية الأمم تظهر متجلية في أوضاع لغتها.
عبث الحياة
1
للقرن التاسع عشر في مصر أسره العريقة في المجد، الأصيلة في العظمة، غير أن هذا العصر لم يكد يشرف على الزوال حتى زالت معه تلك الأسر التي بسم لها الدهر، وغرد لها هزار الأمل البسام أكثر من ثمانية عقود متتالية من الزمان. تلك الظاهرة الاجتماعية تحتاج إلى بحث، وتحتاج فوق ذلك إلى تعمق في النظر لاكتناه الأسباب التي قعدت بتلك الأسر بعد أن رتعت في بحبوحة الغنى وتقلبت في حجر النعمة، ثم لم تلبث أن ضربها الدهر ضرباته القاسية، فسلخ أفرادها بخناجر أعدها لمن يريدون التضحية بأنفسهم على مذبحه العظيم، فأغمدوها في قلوبهم حتى النصاب. ••• «حنفي بك» سليل أسرتين من أعرق الأسر التركية المتمصرة التي نالت حظا من الغنى والجاه، ذلك الغنى الذي ورثه رؤساء الجيش والحكومة في أوائل القرن التاسع عشر عن نظام الفظائع الذي ظل سائدا على البلاد طول عهد المماليك. وهو فتى طويل القامة، حسن الطلعة، جميل الوجه، تعلم في المنزل ثم في المدارس العمومية، فنال من العلم حظا ومن الأدب نصيبا غير وافر، ولكنه كاف لأن يضعه في مصاف المتعلمين.
ورث عن أسرتيه اللتين ينتسب إليهما أرضا واسعة في إقليمي الغربية والجيزة، وأملاكا في كثير من نواحي القاهرة مسقط رأسه ومقر أسرته الأولى. غير أنه شب كما يشب غيره من ذوي الترف مضياعا متلافا، لا يبقي على ما بين يديه إلا ريثما يجد قدرا غيره يبذله رخيصا في سوق الملاذ الموهومة والترف المبتذل. وكان له أب شيخ كبير، قعدت به السنون عن أنه يجد وسيلة يصد بها ابنه عن الاندفاع في سبيل الشهوة العمياء، وطالما أحيا الليالي الطوال تائها في مهامه التفكير غائصا في لجات من الأفكار الحزينة، فكم تواردت على ذهنه ذكرى الوقائع التي صارع فيها الأبطال، والملاحم التي طارت فيها الأرواح، وبيعت فيها النفوس رخيصة في ميدان الجهاد الدنيوي! وكم تخيل نفسه فائضة على حد سيف من تلك السيوف التي كانت تلمع من حوله في شمس بلاد العرب الصافية، أو تحت سماء بلاد الإغريق الشعرية! فتمنى لو أن حلمه وخياله أصبح يقظة وحقيقة واقعة، وكم تمنى لو أنه مات في ميدان الجهاد والعز! على أنه يرى له ولدا وحيدا دفعته يد الأقدار إلى تلك الهوة الاجتماعية العميقة التي لا فرار من التردي في حمأتها إلا بالموت الأدبي أو العوز الشديد والفقر المدقع، وكلاهما كبير على نفوس لم تعرف سوى العظمة، ولا تحط إلا بأبهة الملك والسلطان.
قدر لهذا الشيخ أن يعيش بضع سنوات قضاها في حزن وألم، ولما أدركته الوفاة كان ولده بين كئوسه وقيانه، فلما طير إليه الخبر ومثل بين يدي والده المحتضر، كان الموت قد بلغ من الشيخ مبلغا أعياه عن النطق، ولكن كان في عينيه بقية من شعاع الحياة، فنظر إلى ولده نظرة تنم عن كل أحزان قلبه، ثم أطبقهما، فسالت منهما دمعتان هما آخر ما بذل ذلك الشيخ من جهد في الحياة.
Shafi da ba'a sani ba