Matsalolin Birnin Zamani
معضلات المدنية الحديثة
Nau'ikan
غير أن «كارليل» مع هذا الاعتقاد يحتم على كل الباحثين أن ينزعوا إلى البحث في «الماضي»، إذ يقول:
إن الماضي عبارة عن نبع المعرفة الفياض الذي لا نستطيع بدون أن نسترشد بضيائه، متعمدين أو مدفوعين إليه بحكم الفطرة، أن نتدبر الحاضر أو نحدث عن المستقبل.
على هذا واستنادا على فكرة «كارليل» نريد أن نثبت أن للتاريخ ناحيتين، لكل منهما كفاءة عقلية خاصة تعود إليها، فإن اعتبر التاريخ على أنه مجرد رواية للحوادث، أصبح راجعا إلى كفاءة الوصف في العقلية الإنسانية، وإن أخذ التاريخ على أنه تفسير فلسفي للحوادث، أصبح عائدا إلى كفاءة التأمل.
من هنا نستطرد إلى الكلام من كلتا الناحيتين لنفصل بينهما، ولنعرف أثر كل من الناحيتين، ناحية الوصف وناحية التأمل في التاريخ، في إرشاد الأجيال الحاضرة أو اكتناه خفايا المستقبل.
2
نبشت الأبحاث التاريخية رموس الماضي البائد، وخرجت منها بأجزاء متناثرة وبقايا من تراث الأولين، وأقامتها أمام أعيننا كهيكل حفري من هيكل الحيوانات البائدة. وقعت على ذلك الهيكل المقدس عين الحكيم فأصاب حكمة، ورأته عين العالم فأفاد علما، وتناوله خيال الشاعر فصاغ بيانا وسحرا، واستوعبه الفنان فرأب به من صدوع الفن ما تطاولت إليه الأيام ففصمت منه العرى.
لم تكشف لنا تلك الأبحاث عن صور الحوادث العظمى المنسابة في جوف الأزمان انسياب الماء الهادئ في مجراه، ولم تقتصر على الكشف عن كوارث الحياة المندفعة في سماء العصور اندفاع الشهب والنيازك خلال تتالي الأجيال لا غير، بل أبانت لنا فوق ذلك عن حقيقة الحياة السياسية والمشاعر الدينية والنزعات الاجتماعية ومؤثراتها وأسبابها ونتائجها التي أخذت بخناق الشعوب المختلفة والقبائل المتباينة. كل هذا تناولته أقلام المؤرخين فخطت به على لوح الحياة الحديثة سطورا خالدة من آيات الحياة البائدة، فامتزج كثير من الماضي بقليل من الحاضر، وترامى الشعاع الذي ولده ذلك المزيج إلى شعاب المستقبل ومفاوزه، فأزاح عن بعض نواحيها ما كان يكتنفها خلال الأجيال الأولى من ظلام.
وصلت الأبحاث التاريخية بين الماضي والحاضر بحلقات استكشفها المؤرخون، حتى أصبحت سلسلة الحوادث التاريخية محبوكة على الزمان التاريخي، محيطة بكثير من دقائقه بله تفاصيله. أبانت لنا تلك الأبحاث عن صور الماضي فأرتنا دولات الشرق تبرز عظيمة فتية، مزودة بمهيئات النشوء والارتقاء، أو تتوارى وراء حجب الغيب، وتغيب في جوف الحوادث، مكتنفة بعوامل السقوط والفساد، فتتمثل لنا هياكلها المشمخرة وقد طاولت السماك عظمة وقوة آونة، أو تلوح لنا هابطة إلى الحضيض ذلا واستكانة آونة أخرى، وهي بين هذا وذاك أشبه الأشياء بأرواح متمردة أصابها مس من الجن، أو خيالات جبابرة أخذتهم العزة بالإثم، وهم في صراع لكل منهم فيه نوبة من الغلبة والاندحار، فلن تستبين في أمرهم شيئا إلا حدسا، كما تستبين الأشباح استبانة غشاوة وكلال؛ إذ تتخايل إليك في آخر الأفق الأوسع، عند تنفس الفجر، وقد شابته ظلمة الليل ببعض أدناسها.
أرتنا تلك الأبحاث بلاد فارس وقد عقدت على تاجها ألوية الانتصار، ممتطية صهوة العزة والقوة، متبعة خطى ملوكها المستبدين بأمرها يقودونها من نصر إلى نصر، فكانت كذؤابة من الليل الحالك ناءت بكلكلها على الغرب وأرخت بسدولها على شرقي البحر الأبيض المتوسط، فشابت جزائر اليونان بشائبة من القوة فزع لها أبناء الإغريق فزعة بعثتها في نفوسهم مخاطر الغزو الأجنبي، وتمثل الذلة في الاندحار بعد العزة في شرف الحرية، فدبوا تحت قدمي جبار فارس وجنوده دبيب الماء تحت قواعد الجبال الراسية، فلا يلبث أن يردها كثيبا مهيلا.
انقلب الإغريق بفزعتهم الوطنية أمة قوية فتية موفورة الحياة، فردت مستبد الشرق عن جدران الغرب، وكأن الفزع قد نبه فيهم ما أخفته أجيال الدعة والطمأنينة من صفات القوة والتناحر على الحياة، فكان علماء اليونان وفلاسفتها وشعراؤها وكتابها وخطباؤها وساستها، وعلى الجملة مدنيتها ورجالها الذين ظلوا هداة العالم ومبعث العرفان خمسة وعشرين قرنا من الزمان، أورثوا المدنية خلالها تراثا من العلم، وثمارا من الفلسفة والشعر والسياسة والموسيقى والفن، أرضت المنطق والذوق خلال عصور التاريخ برمتها.
Shafi da ba'a sani ba