Matsalolin Birnin Zamani
معضلات المدنية الحديثة
Nau'ikan
وليس لأحد هذه القدرة إلا السياسيين الذين يزخرفون خطبهم بالحجج والدلائل التاريخية.
من هنا نعتقد أن التاريخ فن من فنون الأدب لا يصبح علما ثابتا إلا بعد أن يكشف المؤرخون الذين ينتهجون النهج العلمي في التاريخ عن الأسباب التي ساقت الإنسان من تجانسه الفطري إلى تنافره الاجتماعي، وعن السنن والقواعد التي تحدد علاقة الفرد بالمجموع الذي يتبعه، وعلاقة ذلك المجموع بالكل الاجتماعي، ويفصحوا عن حقائق التطور الاجتماعي وضوابطه، والانفعالات وبواعثها، والمشاعر وتشعب مناحيها، حتى تصبح قواعدهم التاريخية كقواعد علوم الحيوان والنبات والتكوين العضوي مبنية على سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
2 (2) التاريخ من الوجهة الوصفية
1
هل تعرف كيف نشأت في وسط هذه البيئة الاجتماعية التي تتحكم في أفكارك ومشاعرك التحكم كله؟ وهل تفقه من سبب يجعل خضوعك لحكم البيئة التي نشأت وربيت فيها تاما كاملا، في حين أن عقلك طالما نزع بك إلى الثورة ضد النظام القائم من حولك؟ وهل تعرف من سبب طبيعي ترجع إليه إذا ما حاولت أن تحلل حقيقة ذلك العراك القائم في دخيلة نفسك بين ما يوحي إليك به عقلك، وبين ما تقرك عليه مشاعرك؟ إذا كنت في حيرة من أمرك إزاء هذا كله فارجع معي إلى جزائر البحار النائية، إلى جزائر «تاهيتي» أو «فرناندو نورونها» أو جزائر «أرض النار»، وطف بمجاهل تلك البقاع التي لم يشع فيها للمدنية شعاع، ولم يرسل إليها العلم بخيط من خيوطه المضيئة منذ أن انفصلت الأرض عن بقية النظام الشمسي لتدور حول فلكها المرسوم. هنالك وبين عشائر المتوحشين، تلمس بيدك حقيقة ما يعنى الطبيعيون ب «الوراثة الطبيعية» والتقاليد التي خرج بها الإنسان من ماضيه المشحون بما تعرف، وهو ضئيل تافه، وبما لا تعرف، وهو تيه موحش تعجز مخيلتك عن أن تدرك طرفا من أطرافه، إلا قليلا.
على أن أخص ما تقع عليه مما يحيط بك من حقائق الحياة الإنسانية في فطرتها الأولى، خضوعها خضوعا أعمى لحكم الغيب دون حكم الشهادة، تحف بك حياة شاعرة لا غير، ولن تقع على أثر من آثار الحياة العاقلة التي تسكن لحكم المنطق ولا تجاري العواطف وقواسر الطبيعة البشرية. وأبلغ ما يأخذ بروعك في تلك الحياة أنك تلفي نفسك محوطا بعالم من الأرواح فيه جمال، وفيه وحشة؛ فالصخور القائمة من حولك، والأشجار الحافة بك، والماء والسماء، والدواب والهوام، بل أنت نفسك عبارة عن أرواح تتخايل إليك في سيرك وضجعتك، في نومك وهجعتك، في غدوتك وروحتك، متحكمة في ماضيك ومستقبلك، مؤثرة في سرك وعلنك، وعلى الجملة يخيل إليك أنك روح مسيرة في وسط عالم من الأرواح، منفصل عن عالم المادة.
ولا يسبقن إلى حدسك أنك ثمرة مباشرة لمدنية القرن العشرين، فإن ما فيك من أثر الماضي؛ من أثر آبائك في العصور الأولى، أكثر مما فيك من أثر المدنية الحديثة، فأنت ابن الذين اعتقدوا بتعدد الآلهة، بل ابن الذين عبدوا الأحجار والأصنام والحيوان والنبات، وقدسوا الوهم وأماتوا العقل، ومشوا مع الخيال، ونبذوا حكم القياس المنطقي. فيك من أثر تلك البيئة أضعاف ما فيك من أثر المنطق في الفلسفة، والتوحيد في الدين. بل جل ما بينك وبين آبائك من فرق أنك اجتزت دورا لا يزال أولئك المستوحشون في جزائرهم النائية عنوانا عليه في الزمان الحاضر، فإذا فخرت بأنك من أبناء القرن العشرين، قرن العلم والمدنية، فلا تنس ذلك الماضي لتتخذ القياس عليه نبراسا تستضيء به في ظلمات بحثك في تاريخ النوع الذي أنت تابع لإحدى سلالاته ، ولتتذكر دائما أنه من الأولى بك أن تقول «كان آبائي» بدل أن تقول «كان الأولون».
في عصر من تلك العصور التي قطعتها الإنسانية في شوطها نحو المدنية الحديثة، كان المعتقد أن الأزمات التي أحاطت بالشعوب، لا بل كل ما حف بالأفراد من مطاليب الحياة وقواسرها؛ راجع إلى فعل إرادة علوية تفعل في الجزئيات فعلها في الكليات، وأن كل لبانات النوع الإنساني خاضعة لتأثير قوة من قوى الغيب أو ما يسمونه ما وراء الطبيعة، تحتكم في كل دورة من دورات الحياة، مهما ضؤل أو عظم شأنها.
لهذا لم يشعر العقل الإنساني بحاجة ماسة تضطره لأن يستكشف سر العلاقة الكائنة بين الماضي والحاضر؛ ليربط بينهما بسلسلة منظومة من السببيات الطبيعية، بل أخلد لحكم الطبيعة والزمان، فظل العقل لغوا طوال تلك الأعصر التي نزلت فيها الإنسانية على حكم المشاعر وحدها، لهذا تجد أن التاريخ لم يعن بشيء إذ ذاك عنايته بأقوال مجموعة من الأفراد، والإشادة بذكر لفيف من الناس برزوا من بين الصفوف المتراصة، وحكمت المشاعر بأنهم ظل من ظلال السماء فوق الأرض، وأنهم المنفذون لما يريد القضاء ولما يملي القدر في تلك الجموع التي استنامت لحكم المعتقد الثابت، حتى سلبهم ذلك المعتقد صبغة الإيجاب فظلوا على السلب عاكفين، غرقى في السبات حول تلك الأسس التي شيد عليها صرح المجتمع البشري.
لما أن انقضى ذلك العصر بما فيه من بواعث التخيل، وبما كان فيه من أوجه الجمال مقرونة بموحيات القوة الشاعرة وحدها، واستكشف العقل أن لموجات الحوادث الإنسانية التي طمت على الأزمان الأولى نظاما أشبه بنظام سير الأجرام في أفلاكها، وأن الشعوب التي تطفو على وجه الحياة، والشعوب التي تبتلعها الحوادث الاجتماعية فتطمر في جوف الزمان؛ هي بذاتها مظهر من مظاهر الحياة وحقيقة من حقائقها الكثيرة. بيد أنها تمت بأصلها إلى أبعد الأزمان إيغالا في أحشاء الدهور، محوطة بآثار ما فيها من طبيعة الحركة، وفطرة التقدم، ودوافع الارتقاء. هنالك شق التاريخ لنفسه في حياة الجماعات سبيلا بكرا، وتوجه العقل سلطانا مسيطرا على ناحية من نواحي المنفعة المحققة التي ينشدها الإنسان في هذه الحياة الدنيا. وهنالك نبذ التاريخ طريقة العكوف على الكلام في دسائس الأمراء وذوي المطامع من أهل الجاه، وترك القسيس في معبده يحاول أن يفسد السياسة بالدين وأن يفسد الدين بالسياسة، وأهمل حاشيات الملوك ومنافساتها، ومماحكات قواد الجيوش ومناظراتهم، وعمد إلى تدوين أوجه الحركة والنظام الذي يفيض به نهر الحياة الإنسانية، منصبا في ذلك المنحدر الذي طالما طفت فوقه الملوك والأمراء على مدى العصور، وهم أشبه الأشياء بفضلات الهشيم المتناثرة؛ إذ تتلاعب بها أمواج يم ثائر أدركه المد في ليل اشتدت حلكته، واعتكر ظلامه.
Shafi da ba'a sani ba