تقدير وتصدير
بين القدرة والعظمة
تمهيدات الحوادث
الدهاء
الحلم
خليقة أموية
موقف معاوية من قضية عثمان
النشأة والتكوين
الأعمال
في الميزان
تقدير وتصدير
بين القدرة والعظمة
تمهيدات الحوادث
الدهاء
الحلم
خليقة أموية
موقف معاوية من قضية عثمان
النشأة والتكوين
الأعمال
في الميزان
معاوية بن أبي سفيان
معاوية بن أبي سفيان
تأليف
عباس محمود العقاد
تقدير وتصدير
التاريخ عرض الإنسانية ...
والعرض مناط
1
الحمد والذم في الإنسان ...
وكذلك التاريخ بالقياس إلى الإنسانية في جملتها، لا يكون شيئا إن لم يكن تقديرا لما هو صادق أو كاذب، أو ما هو صواب أو خطأ، وما هو حميد أو ذميم، من الحوادث والناس.
وقد نذكر الحوادث توسعا في التعبير، فإن الحوادث لا تعنينا لذاتها إن لم يكن معناها تقويما لأعمال وقياما بأعمال، أو لم يكن معناها في صيغة أخرى تعريفا بأقدار الناس مما عملوه واستطاعوه ...
وكل شيء في الحياة الإنسانية هين إذا هان الخلل في موازين الإنسانية، وإنها لأهون من ذلك إذا جاوز الأمر الخلل إلى انعكاس الأحكام، وانقلابها من النقيض إلى النقيض.
يهون كل شيء إذا هانت موازين الإنسانية؛ لأن موازين الإنسانية جماع ما عندها من الفكر والخلق والعقيدة والذوق والخيال.
ومن هوان الموازين الإنسانية أن يختل كل هذا، فلا يوثق بمحصول الإنسانية كافة في تاريخها القديم والحديث.
وأهون من ذلك ألا تختل وكفى ... بل تختل وتنعكس، فيوضع فيها الذم موضع الحمد، والكذب موضع الصدق، والخداع موضع الإخلاص والإيمان ...
وقد هان عرض إنسان واحد يشتريه المال أو الغرض في حياته، فماذا يقال في عرض الإنسانية الذي يشترى في الحياة وبعد الممات، ويزيف فيه الواقع للعيان، ثم يلازمه الزيف بعد ذلك مدى الأجيال على صفحات التاريخ!
ذلك أفدح مصاب تصاب به الإنسانية: إنه مصاب في عرضها، في صميم أفكارها وأخلاقها وعقائدها وأذواقها وأحلامها - في موازينها وحسب، وما من شيء يعتز به الإنسان لا يدخل في هذه الموازين.
وأوجب واجب على الإنسان لضميره أن يحمي نفسه من شر هذا المصاب الفادح، وألا يتيح لأحد أن يختلس التاريخ في حاضره ومستقبله؛ فليس البلاء هنا بلاء منفعة تفوت أو مضرة تحدث، ولكنه بلاء الزيغ
2
في البصر والبصيرة، وعلينا نحن أن نصحح البصر إذا زاغ؛ لأنه نقص وعيب أو لأنه تشويه في سواء الخلقة، وإن لم يعجل منه الضرر، ولم تذهب به المنفعة ... •••
إن تاريخ الإنسانية من أوائلها إلى حواضرها لا يملك للعاملين جزاء غير حسن التقدير، وصدق القياس لما عملوه.
وكثير على أحد أن يبتذل هذا الجزاء؛ لأنه استطاع أن يحشو بعض البطون أو بعض الجيوب، فيملك - بهذه الرشوة الرخيصة - خير ما تؤتيه الإنسانية أحدا من أبنائها في الحياة وبعد الممات.
على أن الموازين الإنسانية لا تزيفها الرشوة المقصودة دون غيرها، ولا يختل بها غرض المنتفعين المتواطئين على تبديل الحقيقة، ذهابا مع الأجر العاجل والعطاء المعروف.
بل تصاب هذه الموازين من النهازين أو «الوصوليين» المطبوعين، كما تصاب من النهازين المصنوعين أو المصطنعين.
فمن الناس من يحب أن تتغلب المنفعة على الفضيلة أو على الحقيقة، وإن لم يكن هو صاحب المنفعة، ولا حاضرا لها عند انتفاع المنتفع بها.
من الناس من يحب ذلك؛ لأنه يرجع إلى طبيعته، فيشعر بحقارتها إذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة، والحقائق الصريحة.
ومنهم من يحب الناجحين بالمنافع؛ لأنه يتمنى أن ينجح على مثالهم، ولا ينكر النجاح إذا جاءه بوسيلة كوسيلتهم.
ومنهم من يبلغ بهذه الخصلة حد التعصب والغيرة العمياء؛ لأنه يكره أن يدان الناس، أو تقاس الأعمال بمقاييس المثل العليا فيلوم نفسه، ولا يقدر على التماس المعذرة لها في نقيصتها، أو في طبيعتها التي لا فكاك منها.
إذا استسلم أحدهما مع الهوى لمحاباة ولده أو ذوي قرباه لم يعذلوه أو لم يعنفوه في عذله، بل اتخذوا من ذلك شريعة يؤتم بها، وتجري الوتيرة
3
عليها ...
وماذا في هذا الصنيع عندهم مما يستغرب؟ كان على الرجل أن ينسى ابنه؛ ليفضل عليه الغرباء عنه؟ أليس هذا الصنيع صنيع كل إنسان في هذا المكان؟ ...
يعذرون هنا بل لا يلومون، ولا ينفرون ممن يلومونه إن جاملوا «الظواهر» فلاموه.
أما خصمه المثالي فمعدود عليه أن يحابي نفسه فضلا عن محاباة ولده، ومعدود عليه أن يهبط من السماوات العلا لحظة واحدة؛ ليشبه سائر الناس في نقيصة من النقائص أو أمل من الآمال.
ولا حاجة إلى إمعان في البحث للكشف عن خبيئة الطبيعة النهازة في هذه التفرقة بين الحكم على النفعيين والحكم على المثاليين.
إن الطبيعة النهازة لا تريد هنا أن تحكم، وأن تنصف بين خصمين.
إنها تريد أن تعذر نفسها لتقول: إن ذلك المثالي ناقص، وإن هذا النفعي يجري على العرف الشائع بين جميع الناس؛ ولهذا يتناول النهاز الميزان وهو يتعمد أن يزيد في ناحية من السيئات ويحط من الحسنات، ويتعمد في الناحية الأخرى أن يقلب الكفة، فيزيد على الحسنات ويحط من السيئات ...
ويكفي أن ينسب إلى العظيم المثالي عمل من الأعمال التي لا يقدر عليها النهاز، ولا يسعى إليها ليشعر النهاز بالاختلاف والجفوة
4
بينه وبين ذلك العظيم المثالي، ثم يشعر بنوع من القرابة والألفة بينه وبين خصمه، فيميل إلى سماع الأحدوثة الحسنة عن هذا، ولا يميل إلى سماعها عن ذلك، ويضطره إلى ذلك وقوفه بين طريقين: أحدهما غريب يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوف يطرقه كل يوم، أو يحب أن يطرقه غير ملوم بينه وبين دخيلته ... •••
نعم، يكفي أن ينسب إلى العظيم المثالي عمل من الأعمال التي لا يقدر عليها النهاز ولا يسعى إليها؛ لتنفرج الهوة بينهما فلا يستريح النهاز إلى العظيم المثالي كما يستريح إلى النفعيين الناجحين.
وليس أبغض إلى الإنسان من احتقاره لنفسه.
وليس أحب إليه من اعتذاره لها عن حقارتها. •••
وإنك لو بحثت جهدك عن عصبية عمياء تغطي على بصر الإنسان وتملك عليه هواه، لم تجد لها علة أقوى من هذه العلة التي ينقاد لها ولا يبتغي الشفاء منها.
إنه يتعصب في كل شعور يدفع به النقص، ويمهد به العذر، وينفي عنه الإضرار إلى الإقرار بسبق السابقين له، وارتفاع المرتفعين عليه.
وإنه ليعترف بالجهل إذا استطاع أن يدعي لنفسه تعلة يسمو بها على أهل المعرفة ...
وإنه ليعترف بالعجز إذا استطاع أن ينزل بالقادرين إلى «مستواه» بخديعة من خدائع النفوس.
وإنه ليعترف بالرذيلة إذا استطاع أن يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة.
وإنه ليتشبث بهذه التعلات كما يتشبث الغريق بأوهام النجاة؛ لأنه بغير هذه التعلات غريق في شعور ثقيل على جميع النفوس، وهو الشعور بالهوان ...
لهذا يتعصب النهازون المطبوعون على أصحاب المثل العليا؛ لأنهم بين اثنتين: إما أن يدينوا أنفسهم بالمثل العليا، ويعملوا في السر والعلانية عمل أصحابها، وذلك مطلب عسير يصطدمون بعقباته كل يوم وكل ساعة ...
وإما أن ينكروا تلك المثل العليا على أصحابها، ويتعصبوا لمن ينجح بأساليبهم أو يتمنوا النجاح بأساليبه، وذلك مطلب لا يكلفهم تغيير الطباع، وإن لم يبلغوه بفعالهم كما بلغه ذوو القدرة أمامهم من الناجحين الفعالين ... •••
وقد عرفنا من هؤلاء أناسا في التاريخ ما عرفناهم في الحياة الحاضرة.
عرفناهم فعرفنا عجبا من العصبية العمياء التي تكيل بالكيلين، وتزن بالميزانين في الحادث الواحد والحقبة الواحدة.
إذا وقفوا بين خصمين أحدهما من النفعيين، والآخر من المثاليين - رأيت العجب في المقياس الذي يلتمسون به المعاذير لهذا، وينكرونها على الآخر في اللحظة الواحدة ...
وتقول: «عمل من الأعمال لا يقدر عليه ولا يسعى إليه»؛ لأن هناك أناسا لا يقدرون على العمل المثالي، ولكنهم يسعون إليه، أو يتمنونه أو يحبون أن يؤمنوا بسعيهم إليه وتمنيه، وصبرهم على مشقة هذا السعي وهذه الأمنية ...
وليس هؤلاء بالنفعيين المطبوعين.
هؤلاء مثاليون تعوزهم القدرة، ولا يعوزهم الأمل في بلوغها ولا الغبطة بوجودها، وميولهم إلى جانب العظماء المثاليين أقرب وأغلب من ميولهم إلى جانب المنفعة الناجحة بالحيلة أو بكل وسيلة، والأمثلة من هؤلاء وهؤلاء كثيرة بين سواد الناس الذين لا يدخلون إلى ساحة التاريخ إلا شهودا أو مستمعين.
فلو كان محنة التاريخ كله من النهاز المأجور لما خفيت حقائقه هذا الخفاء، ولا طال العهد على الزيف، أو الغرض المموه بالأباطيل.
وإنما المحنة الشائعة من أولئك النهازين المتطوعين الذين يقبلون العملة الزائفة ويرفضون ما عداها، ويجاهدون من يكشف هذا الزيف ويقومه بقيمته الصحيحة ، ثم تكثر العملة الزائفة في الأيدي حتى ليوشك أن تطرد العملة الصحيحة، وتحيطها بالريبة والحذر، ولا ينفع المحك الناقد في هذه الحالة؛ لأن المحك الناقد لم يسلم قبلها من التزييف ... •••
وفي التاريخ الإسلامي مراحل كثيرة تصحح لنا موازين التاريخ التي يرتبط بها عرض الإنسانية، وربما كانت هذه المراحل أجدى على المؤرخ من غيرها في تواريخ الأمم؛ لأنها حاضرة الأخبار والروايات، حاضرة الأسباب والبواعث، ولا يخفى من شأنها غير النيات والمزاعم، وليس بالمؤرخ من تضلله النيات والمزاعم حين تشخص أمامه الأخبار والروايات، ولا تتوارى خلفها الأسباب والبواعث بحجاب كثيف ...
وأسبق هذه المراحل وأضخمها مرحلة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان ...
فقد اختلفت فيها الأحكام على الرجال والمناقب والأعمال، ولم تنقطع عنا أخبارهم وحوادثهم التي اتفقت عليها جميع الأقوال.
وإذا لم يرجح من أخبار هذه الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن «علي» على المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية؛ لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان.
فإن الذي يعلن لعن خصمه على منابر المساجد لا يكف عن كسب الحمد لنفسه في كل مكان وبكل لسان، ولو لم يرد من أخبار تلك الفترة أن معاوية كان يغدق الأموال على الأعوان، ومن يرجى منهم العون لكان لعن خصمه على المنابر كافيا للإبانة عما صنعه لكسب الثناء عليه، وإسكات القادحين فيه، ولكن أخبار الأموال المبذولة لتغيير الحقائق في هذه الفترة تفيض بها كتب المادحين والقادحين، ومن لا يمدحون ولا يقدحون، ولم يعلم أحد مبلغها من الوفرة والجسامة، ولكنها معلومة بالتقدير، وإن لم تعلم بالإحصاء وأرقام الحساب؛ لأنها استنفدت خزانة الدولة، وجرت إلى مضاعفة المكوس
5
والضرائب، ومخالفة العهود لأهل الذمة وحسبان الزكاة من حصة الخزانة التي يستولي عليها ولاة الأمور.
ويبقى عمل النهازين المطبوعين بعد عمل النهازين المأجورين، فإنهم قد تطوعوا في ذلك العصر، وفي العصور التالية؛ لترجيح كفة النجاح المنتفع على كفة المثالية العالية، ولم يخف الأمر على أبناء ذلك العصر كما نشرحه الآن بأساليب علم النفس في الزمن الأخير، فإن الأقدمين لم تفتهم «النفس» بجوهرها، وإن فاتتهم مصطلحات النفسانيين من أبناء القرن العشرين، وقد نفذوا إلى بواطنهم بالنظرة الثاقبة؛ لأنهم أصحاب نفوس تعلم ما تنطوي عليه النفوس. •••
جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام ابن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية، فقال: «اعلم أن عليا كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيادا
6
منهم له.»
وهذه دخيلة من دخائل النفس الصغيرة معهودة متكررة في كل جيل، وفي كل خصومة، فكثير من الثناء لا يصدر عن حب للمثني عليه كما يصدر عن حقد على غيره، وكثير من هذا الحقد تبعثه الفضائل ولا تبعثه العيوب ...
إن تاريخ معاوية بن أبي سفيان لا يحتاج إلى مزيد من تفصيل، وإنما يحتاج تاريخه وتواريخ النابهين جميعا إلى تصحيح الموازين، وبيان المداخل التي تؤتى من قبلها أحكام الناس على الحوادث والرجال، فتصاب بالخلل أو تنقلب رأسا على عقب، ويصاب بالخلل معها تفكير المفكر، ونظرة الناظر، وإدراك المدرك لما يحيط به من حوادث زمنه وحوادث سائر الأزمنة.
ونحن نفهم تاريخ معاوية، ونفهم معه تواريخ الكثيرين من بناة الدول إذا صححنا الموازين، وعرفنا ما يعرض لها من الانحراف عن قصد أو عن شعور غير مقصود ...
ولكننا لا نعرف تاريخ معاوية ولا تواريخ غيره إذا أخذنا بظواهر الأقوال، ولم ننقب وراءها عن بواطن الأهواء والبواعث الخفية، ولا بد منها في هذه المرحلة بذاتها: مرحلة الدولة الأموية الأولى على التخصيص.
لقد كان قيام الدولة الأموية بعد عصر الحلافة حادثا جللا بالغ الخطر في تاريخ الإسلام، وتاريخ العالم. •••
وما كان أحد ليطمع في بقاء عصر الخلافة على سنة الصديق والفاروق أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأن اطراد النسق من ولاة الأمر على هذه الطبقة العليا من الخلق والتقوى أمر تنوء به طاقة بني الإنسان.
فما كان دوام الخلافة الصديقية أو الفاروقية بمستطاع على طول الزمن، وما كان قيام الملك بعد الخلافة بالأمر الذي يؤجل إلى زمن بعيد.
ولكن الملك بعد الخلافة كان على مفترق طريقين: كان في الوسع أن يسير على مشابه الخلافة ملكا بارا نقيا مصونا من بذخ الهرقلية والكسروية، وسائر ضروب الملك في عصوره الخالية.
وكان في الوسع أن يسير على مشابه الملك في العصور الخالية بذخا ومتاعا، وزينة وخيلاء كخيلاء العواهل من القياصرة والشواهين.
كان في الوسع أن يبتدئ الملك في تاريخ العالم على النهج الصديقي أو الفاروقي، وإن لم يبلغ هذا المدى من النزاهة والصلاح، وكان هذا النهج خليقا أن يظل إماما للرعية يتوارثونه، ويقتدون به ويحميهم نكسة الأخلاق والآداب قرونا وراء قرون من بقايا الوثنية وأوشاب
7
المادية، وما شابهها من آداب تدور على النفع العاجل، وتقبل المعاذير منه في أخطر الأمور ...
كان في الوسع هذا، وكان في الوسع ذاك.
ونشأة الدولة الأموية على مفترق هذين الطريقين هي الحادث الجلل في صدر الإسلام، وهي الحادث الجلل الذي يقرر تبعتها في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ العالمي كله.
ورأس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، هو صاحب هذه التبعة التي يجب أن تتقرر بأمانتها العظمى في ميزان لا تلعب به المنافع المقصودة، أو المنافع التي هي أخطر منها على الحقيقة، وهي منافع الطبائع المستسلمة لأيسر المعاذير، يشق عليها الصعود إلى المثل الأعلى، ولو بالأمل وحسن المظنة، ويطيب لها أن تسترسل على هينة
8
مع مألوفاتها في كل يوم ... •••
والصفحات التالية تتناول النظر في سيرة معاوية من هذه الوجهة، فليست هي سردا لتاريخه ولا سجلا لأعماله ولا معرضا لحوادث عصره، ولكنها تقدير له وإنصاف للحقيقة التاريخية وللحقيقة الإنسانية كما يراها المجتهد في طلبها وتمحيصها، ونكاد نقول كما يراها من لا يجتهد في البعد عنها وإخفاء معالمها، والتوفيق بينها وبين دخيلة هواه من حيث يريد أو لا يريد، وبعض المؤرخين بعد العصر الأموي إلى زماننا هذا يفعلون ذلك حين ينظرون إلى هذه الفترة، فلا تخطئهم من أسلوبهم ولا من حرصهم على مطاوعة أهوائهم، كأنهم صنائع الدولة في إبان سلطانها وبين عطاياها المغدقة، ونكاياتها المرهوبة، ورجالها الذين تنعقد بينهم وبين معاصريهم أواصر المودة ، والنسب وأواصر المشايعة في المطالب والمعاذير.
ولولا أننا نأبى أن نضرب الأمثلة بالأسماء لذكرنا من هؤلاء المؤرخين المعاصرين من يتكلم في هذا التاريخ كلاما ينضح بالغرض، ويشف عن المحاباة بغير حجة، فمنهم من ينكر الخلاف بين هاشم وأمية في الجاهلية، ومنهم من يحسب من همة معاوية أنه تصدى للخلافة مع علي، ويحسب من المآخذ على غيره أنهم تصدوا للخلافة مع يزيد، ومنهم من يشيد بفضل أبي سفيان على العرب؛ لأنه كان تاجرا يعرف الكتابة والحساب ويعلمهما من يستخدمهم في تجارته، ومنهم من يلوم أهل المدينة؛ لأنهم نكبوا في أرواحهم وأعراضهم على أيدي المسلطين عليهم من جند يزيد، ولا تكاد تسمع منه لوما لأولئك المسلطين، بل تكاد تسمعه يعذرهم ولا يدري ما يصنعون غير ما صنعوه.
ولو أننا ذكرنا أسماء هؤلاء المؤرخين المعاصرين لكان تمام البيان عن منهجهم أن نشفعه
9
بأطراف من تراجمهم، وألوان من مسالكهم في طلب المنفعة واللياذ بالقادرين عليها، وألوان من معاذيرهم التي يرتضونها لأنفسهم، ويوجبون على الناس أن يرتضوها لهم أو يلتمسوها لهم، وإن لم يعلنوها ... •••
ولكننا ندع هذا التمثيل؛ لأننا في غنى عنه بما ثبت من الأمثلة المحفوظة عن زمانها، ونتخذ الشواهد من حوادثه وأقوال رجاله، ونتحرى في ذلك كله أن نصون التاريخ - نصون ذمة الإنسانية - أن يملكها من يملك الجاه والسلطان في زمن من الأزمان.
بين القدرة والعظمة
زبدة الصفحات التالية أن رأس الدولة الأموية كان رجلا قديرا، ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
والفرق بين القدرة والعظمة يوضحه الاصطلاح، ولا توضحه المعجمات اللغوية هذا التوضيح الذي نعنيه، فقد يقال عن العظيم: إنه قدير، ويقال عن القدير: إنه عظيم، ولا يخطئ القائل من الوجهة اللغوية في هذا الترادف المقبول ما لم يقيده الاصطلاح.
إنما الاصطلاح الذي نعنيه وننظر فيه إلى أحوال الطباع أن القدرة غير العظمة في أشياء.
فربما وصف الرجل بالقدرة؛ لأنه مقتدر على بلوغ مقاصده واحتجان
1
منافعه والإضرار بغيره، ولكنه إذا وصف بالعظمة، فإنما يوصف بها لفضل يقاس بالمقاييس الإنسانية العامة، وخير تغلب فيه نية العمل للآخرين على نية العمل للعامل وذويه. •••
ولعلنا نقترب من توضيح الاصطلاح إذا نقلنا التفرقة من القدرة والعظمة إلى التقدير والتعظيم.
فنحن نقدر الإنسان بمقداره عظيما كان أو غير عظيم، بل نقدر الأشياء بمقاديرها ولو لم يكن لها عمل، ولم تكن من وراء العمل نية، ولكننا إذا عظمنا الإنسان فإنما نوجب له التعظيم علينا؛ لأنه يعنينا ويستحق إكبارنا، ويرتفع إلى المكانة التي تلحظها الإنسانية بأسرها، وتعود عليها في منافعها وخيراتها.
فكل عظيم قدير ...
ولكن ليس كل قدير بالعظيم ...
والعظمة قدرة وزيادة ...
أما القدرة فليس من اللازم أن تكون عظمة، فضلا عن أن تكون عظمة وزيادة، ومعاوية قدير ولا ريب ...
أما أنه عظيم فذلك الذي نعرض له في الصفحات التالية؛ لنبين فيها الفارق بين القدرة والعظمة، في ترجمة رجل من أنفع الرجال النابهين لتوضيح هذا الفارق بميزان الحوادث وميزان الأخلاق.
ومن سرف القول أن يقال إن معاوية لم يكن يعمل بباعث من الغيرة الدينية، أو بباعث من أحكام المروءة والعرف المتبع في الأخلاق.
فليس في وسعه أن يتجرد من هذه البواعث لو أراد، وليس في وسع رجل أسلم على يد النبي - عليه السلام - وصاحبه، وعمل على أيدي الجلة من صحابته أن يغفل عن غيرة دينه، وأحكام فرائضه، وواجبات المروءة في عرف زمنه ... •••
إلا أننا - مع العلم بغيرته الدينية في شعوره وفعاله - نستطيع أن نعلل جميع أعماله بعلة المصلحة «الذاتية» أو مصلحة الأسرة والعشيرة.
ونستطيع أن نعمم القول بغير استثناء على كل مسعى من مساعيه، وكل حيلة من حيله وكل مأثرة من مآثره، فنقول: إن المصلحة الذاتية أو مصلحة الأسرة والعشيرة كافية لتعليلها والقيام بها، وإنه لم يعارض المصلحة الذاتية بإرادته في حين واحد، وعارض المصلحة العامة في أحيان، كان رجلا قديرا ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
ومهمة المؤرخ في سيرته أن يقدر قدرته، وأن يعرف ما اقتدر عليه بسعيه وتدبيره، وما اقتدر عليه بمساعدة الزمن وممالأة الحوادث والمصادفات ...
وهذه المهمة تتقاضانا «أولا» أن نجمل القول في جميع التمهيدات التي مكنته من الاقتدار على مقاصده، ومنها ما كان سابقا للإسلام وسابقا لمولده، ومنها ما تم قبل ملكه، وما تم في أثناء ملكه إلى ما بعد موته ...
وتتقاضانا هذه المهمة «ثانيا» أن نزن المواهب العقلية والخلقية، التي اشتهر بها وأسند إليها ما أسند من أسباب نجاحه.
فنبدأ الكلام في الفصول التالية بالتمهيدات التاريخية من قبل الإسلام إلى قيام الدولة الأموية، ثم نتلوها بتحليل الأخلاق والمواهب التي تعد من وسائل نجاحه ...
ونلاحظ في ذلك كله أن «نقدر القدرة» التي ثبتت لهذا الرجل القدير من وراء المدائح والأهاجي، ووراء الدعاية له والدعاية عليه.
ونحسب أننا وفينا بهذه الأمانة إذا انتهينا من هذه الصفحات إلى الوزن الصحيح، الذي يوزن به رأس الدولة الأموية، ويوزن به غيره من أعلام التاريخ.
تمهيدات الحوادث
بدأ التمهيد لبني أمية في الشام قبل الإسلام بجيلين متعاقبين، وكانت الشام قبل ذلك سوقا عامة لقريش، تأتيها قوافل الصيف بتجارة الحجاز في حراسة الرؤساء من بيت مناف على الأكثر، وأظهرهم في الجيل الذي سبق الدعوة النبوية هاشم بن عبد مناف.
ولم يكن رجحان هاشم بالرئاسة والثروة حائلا بين الأمويين وغشيان الشام للتجارة والإقامة بين المدن والبادية فيها، بل كان هذا الرجحان - فيما اتفقت عليه الأخبار - سببا لهجرة أمية من مكة، وإقامته بالشام عشر سنين؛ إذ تنافر هاشم وأمية وتنافسا على الرئاسة، واحتكما إلى الكهان كعادتهم على أن يكون للغالب إجلاء المغلوب عن مكة عشر سنين، فقضى المحكمون لهاشم على أمية، وخرج أمية إلى الشام فاختارها مقاما له خلال هذه السنين، وربما كان ضيقه بالزعامة المعقودة لهاشم في مكة من دواعي الهجرة قبل الحكم عليه في قضية المنافرة المشهورة، وهي قضية قد تصح بتفصيلاتها أو لا تصح إلا بجزء منها، ولكن هجرة أمية إلى الشام لم تكن مما اختلف عليه المختلفون.
ولما مات هاشم شغل أبناؤه بالرئاسة الدينية إلى جوار الكعبة، وآل اللواء إلى بني أمية، وهو عمل ينوط بصاحبه حراسة القوافل من الشام وإليها؛ إذ لم يكن من حاجة قريش في الجيل السابق للإسلام عقد اللواء لجيش يغزو القبائل أو يدفع غزوتها لمكة، وإنما كان العمل الأكبر لصاحب اللواء حراسة طريق التجارة بين مكة والشام على الأكثر، وبين مكة واليمن في قليل من الأوقات، وكان عملا يحتاج في الواقع إلى جيش صغير وقائد يحمل لواءه؛ لأن القافلة التي تخرج للتجارة تجمع أموال قريش، وتسير بها المئات من الإبل، ولا ينتظم سيرها بغير قيادة تتولى تنظيم المخافر وتوزيع المؤنة والتعرف إلى رؤساء القبائل التي تقيم على الطريق، أو تقيم على مقربة من أسواق الشام في البادية، فهي عمل متصل لا ينتهي بانتهاء رحلة القافلة، ولا تزال له روابطه وعلاقاته بين صاحب اللواء وأعوانه، وبين ذوي الشأن في مراحل الطريق وفي منازل المقام.
ومن المشهور المتواتر أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان معروف المكانة بين رؤساء الدولة البيزنطية على حدود بلاد العرب، كما كان معروف المكانة بين الوجوه من قبائل البادية، وخلعت عليه الدولة البيزنطية لقبا من ألقاب الرئاسة؛ ليسفر بينها وبين قومه ويعينها في خلافها مع العرب الغساسنة بالشام، وكانوا يجنحون أحيانا إلى جانب فارس في حربها لبيزنطة، ويرى البيزنطيون أنهم لا يستغنون عن قوة من العرب لمقاومة هذا الخطر من البادية، ولو بتهديد الغساسنة، وتشكيكهم فيمن يجاورهم أو يعاملهم من العرب الحجازيين.
وقد كان بنو أمية على شبه محالفة بينهم وبين بني كلب أقوى القبائل ببادية الشام، وأشدها خطرا على الغساسنة، ومنها من تنصر منافسة للغساسنة في حظوة الدولة مع ارتقابهم للفرص بين الدولتين وبين القبائل العربية، وقد عرفنا بعد الإسلام ثلاثة من كبار الأمويين أصهروا إلى بني كلب في عصر واحد، وهم: سعيد بن العاص والي الكوفة، والخليفة عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان. ولا تكون هذه المصاهرات أول العهد بالصلة بين الفريقين، فهي بقية لما تقدمها من الصلات.
ومن المشهور أيضا أن أبا سفيان كان على صلة بولاة الأمر من البيزنطيين، وكان يلقى هرقل وأمراء بيته في رحلاته، ويعول عليه هؤلاء فيما يعنيهم من أحوال العرب وأخبارهم، فقيل : إنهم سألوه عن النبي - عليه السلام - عند مبعثه، وإن السائل جعل يستنبئه عن صفاته - عليه السلام - على مسمع من قوم حجازيين في المجلس، ويحذره أن يكذب فيكذبه من سمع كلامه من قومه، قال أبو سفيان: وعلمت أنهم لا يكذبونني إن كذبت، ولكنني صدقت الصفة ضنا بمروءتي أن أقول ما يعلم السامعون أنه نبأ مكذوب ...
قال المقريزي: «إنه ما فتحت بالشام كورة إلا وجد فيها رجل من بني سعيد بن العاص ميتا ...»
وكان النبي - صلوات الله عليه - يتحرى في اختيار الولاة أن يندبهم للولاية حيث يتيسر لهم العمل بموافقة الرعية، فاختار عمرو بن سعيد بن العاص واليا لتيماء وخيبر وتبوك وفدك، وكلها على طريق التجارة الأموية، وسار أبو بكر على هذه السنة، فاختار يزيد بن أبي سفيان قائدا لجيش من جيوش الحملة على الشام، وولاه بعض أقاليمها بقية حياته، وكانت وفاته في عهد الفاروق، فجرى على هذه السنة وعهد بالولاية إلى أخيه معاوية حيث بقي إلى ما بعد خلافة الفاروق، وكان يعمل برئاسة أخيه قبل موته ويحمل اللواء بين يديه.
ومن بني أمية من كاد يصرح بالطمع في الملك بعد رسول الله على عهد الصديق؛ إذ كان من أبناء عمرو بن سعيد بن العاص خلف على الولاية التي ولاها إياه النبي - صلوات الله عليه، فلما بويع أبو بكر بالخلافة أنفوا أن يعملوا له، وقالوا: «نحن أبناء بني أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبدا ...»
ولا يقول هذا القول إلا من يطلب الرئاسة لنفسه، ولا يقر بالرئاسة لغير ذي نبوة أو رسالة إلهية، وينظر إلى الخلافة نظرة دنيوية لا تفاضل فيها بصفة من صفات الدين، وسابقة من سوابق الهداية.
وكان الفاروق قد ولى معاوية ولاية من الشام، فضم إليه عثمان سائر الشام وألحق به أقاليمها من الجزيرة إلى شواطئ بحر الروم، فلما قتل عثمان كان قد مضى لمعاوية في ولاية الشام عشرون سنة، لم يبق فيها من ينازعه أو يعصيه، ولم يكن من عمالها وحكامها المرءوسين له أحد من غير صنائعه وأشياعه والمستقرين في كنفه؛ لأنه حرص في ولايته على استبقاء من يواليه، وإقصاء من يشغب عليه، وجعل همه الأكبر أن يخرج أهل الفتنة من الشام، ولا يبالي بعد ذلك ما صنعوا في سائر الولايات، فتفرقوا كلهم بين الكوفة ومصر والحجاز.
كان عثمان يسمع الأقاويل عن ولاية الشام، ويتلقى الشكايات ممن يطلبون منه عزل ولاته وأولهم معاوية، فيعتذر لهؤلاء الشاكين بعذره المعهود، ويقول لهم: إنه إنما ولى على الشام من ارتضاه قبله عمر بن الخطاب ... وقال ذلك مرة لعلي بن أبي طالب، فقال له علي: «نعم، ولكن معاوية كان أطوع لعمر من غلامه يرفأ.» وصدق الإمام فيما قال.
فقد كان معاوية يصطنع الأبهة في إمارته، ويقتصد فيها جهده بعيدا عن أعين الفاروق، فإذا لامه الفاروق على شيء منها رآه بعينه اعتذر له بمقامه بين أعداء ألفوا الأبهة، واتخذوها آية من آيات القوة والمنعة، وكان يؤدي حساب ولايته لعمر كلما سأله الحساب، ويقنع منها برزقه من بيت المال ألف دينار في العام، وأنفال
1
مما يجمعه من تجارة أهله أو مما وراء الحساب.
فلما بويع عثمان بالخلافة تركه في مكانه، وضم إليه سائر الشام كما تقدم، وطلب منه معاوية أن يرخص له في زرع الأرض التي تركها أصحابها وهاجروا إلى بلاد الروم فأجابه إلى طلبه، ووضع معاوية يديه على موارد من المال تقوم بأعباء دولة، ولم يكن يخشى عليها من الحساب ما كان يخشاه على عهد عمر بن الخطاب، وأوشكت الشام أن تقوم وحدها مملكة مستقلة يتولاها ملك مستقل، فيما عدا الأوامر التي كانت تأتيه من المدينة بتحصين الثغور، وإمداد الغزاة، وتسيير الجيوش إلى الأطراف بقيادة الأعلام من الصحابة.
وقتل عثمان فانقسمت الرقعة الإسلامية قسمين: أحدهما لا خلاف فيه وهو الشام «حصة معاوية»، والآخر لا وفاق فيه وهو حصة علي من الحجاز والعراق، وقد تدخل مصر فيها حينا، وتخرج منها أكثر الأحايين.
وتولى معاوية بلادا لا ينازعه فيها منازع، ولا يود أحد فيها أن تخرج من يديه وتئول إلى غيره.
وتولى علي بلادا كلها نزاع من أمر الخلافة إلى أصغر الأمور، فنازعه الخلافة طلحة والزبير، وأحاط به رهط من المتزمتين المتفقهين يسألونه عن الكبيرة والصغيرة، ويجتهدون اجتهادهم في كل شأن من شئون السياسة.
وهذا إلى الفارق بين وفرة المال من جانب وندرته من الجانب الآخر.
وهذا إلى فارق آخر أكبر وأعسر وأعضل على الحل والمحاولة، وهو الفارق بين الملك والخلافة، وقد افترقت طريقاهما منذ سنين، وتم افتراقهما بعد أيام عثمان.
فكانت أعباء الخلافة كلها على علي، وكانت أحوال الملك كلها على معاوية مواتية له محيطة به فيما يريد وفيما لا يريد.
كان الناس مع علي ينظرون إلى سنة النبي، وسنة الصديق، والفاروق من بعده، وكان الناس مع معاوية ينظرون إلى هرقل وكسرى، ولا يسومونه
2
أن يحكم كما حكم النبي، أو كما حكم من بعده الخليفتان الأولان ...
وكان لا بد لعلي - كما قلنا في عبقرية الإمام - من ملك أو خلافة ... ولن يكون ملكا بأدوات خليفة، ولا خليفة بأدوات ملك، ولن تبلغ به الحيلة أن يحارب رجلا يريد العصر والعصر يريده؛ لأنه عصر ملك تهيأت له دواعيه الاجتماعية، وتهيأ له الرجل بخلائقه ونياته ومعاونة أمثاله، ولم يكن معاوية زاهدا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الملك والملك يطلبه.
وهذه حالة لم تطرأ دفعة واحدة في أيام النزاع بين علي ومعاوية، بل ظهرت بوادرها في أيام الصديق، وازدادت ظهورا في أيام الفاروق، وحدث كما أجملنا ذلك في كتاب ذي النورين أن الصديق «اتخذ الحيطة للفتنة، واستبقى عنده كبار الصحابة؛ ليجمع بين معونتهم له في الرأي وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص
3
بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: ما لقيت منكم أيها المهاجرون ... رأيتم الدنيا قد أقبلت ولم تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي،
4
كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»
5
وانقضى عهد الصديق ثم انقضى عهد الفاروق «والمجتمع الإسلامي مجتمعان: أحدهما ماض ولما يمض بأجمعه، والآخر مقبل ولما يقبل بأجمعه، وأوشك عمر على قوته أن يحار في تدبيره، وقال الشعبي: إنه قضى وأوشكت قريش أن تمله لشدته ووقوفه لها، بحيث وقف حائلا بينها وبين نزعاتها ومطامحها في دنياها الجديدة.» •••
وتتابعت السنون على أيام عثمان، وهذان المجتمعان يلجان في الافتراق حتى افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية، فكان علي يكبح تيارا جارفا لا حيلة له في السير معه ولا في دفعه، وكان معاوية يركب ذلك التيار رخاء سخاء بغير مدافعة وغير حيرة، ويركبه معه من لا يدافعه ولا يحار فيه ...
وكأنما بقيت من التيسير هنا والتعسير هناك، فجاءت حصة علي حيث جاء الموالي
6
من كل جنس يطلبون الحق الذي يطلبه كل مسلم ممن لا ينكر على أحد حقا من الحقوق، وخلت الحصة الأخرى من هؤلاء الموالي، وخلصت للعرب يوم كان العرب وحدهم قوام الدولة في دمشق بين القرشيين واليمانيين.
أحاط الموالي بالإمام حتى قال له بعض أنصاره من العرب: «لقد غلبتنا هذه الحمراء عليك»، وسار الإمام في العدل بينهم وبين العرب سيرة من يعلم أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.
أما في الشام فقد كان معاوية لا يباليهم؛ لأنهم قلة هناك لا يحسب لها حساب، ومرضاة العرب أولى من مرضاة الموالي في دمشق حيث قامت الدولة الأموية، وحيث هان خطبهم بعد ذلك حتى قيل إنه هم بقتلهم والبطش بهم على غير عادته، وقال لهم غير مرة: إنكم عجم وعلوج!
وما كان من قبيل المصادفات أن الدولة الأموية قامت في دمشق، وأن الدولة التي قوضتها - وهي دولة بني العباس - قامت في بغداد، فإن دمشق ما كانت لتصلح مقاما للدولة بعد اتساعها للعرب والفرس والترك والديلم، وموالي الأمم من كل قبيل.
وقد كانت العصبية العربية قوة للدولة الأموية في نشأتها، وكان اختلاط الموالي ضعفا للدولة القائمة في الجزيرة؛ لأنهم أشتات متفرقون لم يكن منهم أحد يقبض على زمام من أزمتها ...
ونجمت ناجمة الخوارج فلم تكن لها جرثومة في الشام ينجمون منها، ولكنهم أصبحوا شعبة جديدة من شعب الشقاق بين الموالي والشيعة من العرب، وأصحاب التزمت والزهد من أدعياء الاجتهاد، وأدعياء الحق في محاسبة ولي الأمر على ما شرعه الكتاب ... •••
ثم قتل علي دون صاحبيه المقصودين بالقتل معه: معاوية وابن العاص؛ فانتفع معاوية بعمله في حياته كأنه أعفاه من جهاد منافسيه بالحجاز والعراق، وانتفع بعده بالشقاق بين الشيعة والخوارج والموالي والعرب في رقعة الجزيرة، فإذا هم يضرب بعضهم بعضا، ويغلبهم جميعا بأيديهم كلما تفرقوا وتقاتلوا، وما كان في وسعهم أن يتفقوا أو يكفوا عن القتال.
وإن القدرة التي خلصت بها الخلافة لمعاوية بين هذه الحوادث لتوزن بميزانها الصادق إذا شاء المؤرخ أن يخالف بين الكفتين ... فماذا كان معاوية صانعا لو أنه بويع بالخلافة في المدينة، ولم تكن له سابقة ولاية على الشام؟ وماذا كان صانعا لو كان على الشام يومئذ منافس يسوسها على سنة الملك، ويرتكن فيها إلى قواعد راسخة من عهد الفاروق وقواعد راسخة من قبل الإسلام؟
ثم انفرد معاوية بالخلافة، ولزمته تبعة الدفاع عن الدولة في وجه أعدائها، فوضع المؤرخون في كفته هذه المأثرة غير مقدورة ولا محدودة، ولا منظور فيها إلى التمهيدات التي من قبيل ما قدمناه أو تربى عليها.
ولا شك أن رأس الدولة الأموية قد عمل على حمايتها، ولا بد له من العمل على هذه الحماية، ولسنا نعني هنا أنه حمى الدولة ليحمي ملكه ويحمي نفسه، فهذا قد يدخل في بيان النيات ولا يدخل في بيان القدرة التي أعانته على عمله، ولكننا نعني أننا لا نزن هذه القدرة بميزانها الصحيح إلا إذا عرفنا ما اضطلعت به، وكان لها يد فيه وعرفنا ما جرى في مجراه بحكم الحوادث، وليست فيه لها يد عاملة أو تدبير مقصود.
فالفتح الإسلامي قد ضعضع دولة الروم الشرقية وفت في أعضادها، وترك فيها رجال الدين والدنيا معا يائسين من رجعة الشام إلى حوزتها، مؤمنين بتأييد الله للعرب الفاتحين عقابا للرعاة والرعية على خطاياهم وخطاياها ...
وقد سمع هرقل صيحة الوعاظ بهذا النكير بأذنيه في مؤتمر أنطاكية، وغادر سورية وهو يودعها ذلك الوداع الذي كاد الرواة أن يحفظوه بكلماته اللاتينية، كما يحفظون كلمات سليمان الحكيم عن باطل الأباطيل.
فقبل أن يفارق الأرض السورية صاح كأنه ينشج بالبكاء: «الوداع يا سورية، الوداع الأخير»
Vale Syria et ultimatum vale .
ورسخت هذه العقيدة في قلوب خلفائه، فلم تغن فيها وفرة العدة وكثرة الجند، وأسلحة البر والبحر التي كانوا يجمعونها، ولا تكاد تجتمع حتى تتفرق لأول صدمة أو تتفرق قبل اللقاء من أجل منام أو عيافة
7
أوهام، وقد روى جيبون أن حفيد هرقل خنع للتسليم؛ لأنه رأى في المنام أنه في سالونيكا، وهي كلمة تجانسها كلمة باليونانية معناها: «أعط النصر لغيرك!»
وفي تاريخ ميخائيل السوري: «إن المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء؛ ليخرجوا الأمم من ربقة الروم.»
وقد روى ابن الأثير من حوادث سنة خمس وعشرين هجرية: «إن معاوية غزا الروم فبلغ عمورية، فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرطوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة.»
ولم ييأس العواهل الضعفاء من سورية وما جاورها من آسيا الصغرى، بل يئسوا من القسطنطينية نفسها وهموا مرات بنقل العاصمة منها إلى صقلية، وتركها العاهل قنستانز فعلا (سنة 668م)؛ ليقيم له عاصمة في صقلية، فأوشك أن يقيمها لولا أنه قتل في سرقسطة!
واقترنت بهزيمة الروم في سورية هزائم شتى وشواغل متفرقة أيأستهم من الغلبة على الدولة الإسلامية، ومن هذه الشواغل حرب الشعوب السلافية ومحالفتهم للمسلمين في بعض الوقائع بآسيا الصغرى، ومنها الشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية، ومنها انقسام الأسطول بين قيادتين إحداهما للعاصمة والأخرى للولايات المتفرقة.
وربما كان اسم الدولة الإسلامية في إبان الفتح حماية لها تقوم في ترويع خصومها مقام العدد والحصون، ولا أدل على ذلك من سلامة هذه الدولة في عهد معاوية الثاني الذي اعتزل الحكومة، ولزم داره كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي «أربعين يوما، وقيل: شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر ...»
قال السيوطي: «ولم يخرج إلى الباب ولا فعل شيئا من الأمور ولا صلى بالناس.» ولما خلع نفسه قال: «أيها الناس ضعفت عن أمركم فاختاروا من أحببتم، ثم احتضر وهو في نحو العشرين فسألوه أن يستخلف أخاه خالدا، فقال: ما أصبت من حلاوتها فلم أتحمل مرارتها؟»
ولم يتفق المسلمون على خليفة بعد معاوية الثاني حتى قام عبد الملك بن مروان بالأمر سنة ثلاث وسبعين ... أي: بعد تسع سنين.
ودولة تسلم من بيزنطة تسع سنين وهي بغير خليفة متفق عليه لا يبلغ من خطر عدوها أن يحتاج الدفاع عنها إلى قدرة خارقة من ولي الأمر فيها، وقد سلمت من ذلك العدو سنين قبل ذلك بين مقتل عثمان ومقتل علي، ولم يكن بين المقتلين يوم سلام واستقرار من الحجاز إلى الجزيرة إلى الشام إلى مصر، وما يليها من إفريقية الإسلامية.
والثابت المعروف أن الدفاع عن الشام إنما استحصد،
8
وتوطد قبل استقلال معاوية بولايتها في أيام عثمان، وأن الدفاع الأكبر عنها بعد ذلك إنما كان يتولاه من قبل الشرق ولاة الجزيرة، ومن قبل الغرب ولاة مصر وإفريقية، وعندهم الجند والسفن ولهم الصلة الدائمة بالحجاز يسألون الخليفة المدد، فيأمر من يشاء من الولاة أن يمدوهم به، ومنهم معاوية في الشام.
وهذه الفترة في تاريخ الدولة الإسلامية هي التي جعلت لها تلك المهابة التي أيأست بيزنطة من جدوى الهجوم عليها، وصرفتها إلى غير هذه الوجهة من حدودها، مع إدبار القوة وانقسام الأولياء والأعوان، وضياع الثقة بالنصر، بل باستحقاق النصر من الله. •••
وبعد ...
فالمحصل من هذه الحوادث والتمهيدات أن المؤرخ الأمين مسئول أن يحضرها جميعا في حسابه، وإلا كان كلامه عن «قدرة» معاوية كلاما جزافا
9
لا يؤخذ به في تمييز أقدار الرجال وخصائص الطباع، ولا يفيدنا شيئا في التعريف بالوسائل التي مهد بها معاوية لنجاحه، والوسائل التي تمهدت له قبل مولده، وقبل الإسلام.
وتتلخص قدرة معاوية في خلائق مشهورة مترادفة، أشهرها: الدهاء والحلم وعلو الهمة أو الطموح.
وهذه الخلائق هي موضوع البحث فيما يلي من الفصول قبل الكلام على نشأته، وعمله وموجز تاريخه وصفوة الرأي فيه.
الدهاء
إذا تحدث الراوية العربي عن صفة من الصفات العامة بلغ بها حد الاستقصاء، فأثبت في روايته كل ما يقع عليه الحس من أخبار تلك الصفة، وذكر لنا الأعلام المشهورين بها، والحوادث التي دلت عليها، والأقوال التي قالوها أو قيلت عنهم بصددها، والفوارق التي يختلفون بها فيما بينهم، والألقاب التي أطلقت عليهم من جرائها، ولم يتركوا مرجعا من مراجع الدراسة التي يحتاج إليها الباحث العصري في استقصائه الحديث بعد استقصائهم القديم، إلا تحليل الصفات على حسب عواملها النفسية، فإنه باب لم يطرقوه ولم يطرقه أحد غيرهم من الأقدمين في الأمم، وعذرهم في ذلك واضح لا تلزمهم بعده حجة: عذرهم أن التحليل النفسي كله دراسة حديثة تركبت على دراسات علمية، أو فكرية أخرى لم يكن للأقدمين عهد بها إلى ما قبل بضعة قرون.
كذلك تحدث لنا الراوية العربي عن شجعان العرب، وفرسان العرب، وأجواد العرب، وصعاليك العرب، ودهاة العرب في الإسلام، ودهاة العرب في الجاهلية، وكل ذوي الشهرة في صفة من الصفات العامة التي تتعلق بها الروايات، وتتناقل بها الأخبار.
ويبدو لنا - ونحن نقرأ كلامهم عن دهاة العرب - أنهم كانوا «مولعين» بتلك الصفة خاصة، يتحدثون بها ويستطيبون حديثها ويتزيدون فيه كلما استطاعوا، كأنهم يجاوزون بالدهاء حد الإعجاب إلى حد التمني والعطف والمشاركة في الشعور، وعذرهم في هذا أيضا واضح من تاريخهم وتواريخ منازعاتهم ومصالحاتهم، فإنهم كانوا يتفقدون فيها الدهاء جميعا فيجدونه حينا ولا يجدونه حينا آخر، ولكنهم كانوا يجدون الشجاعة والفروسية في كل حين.
وسبب آخر من أسباب الولع بالحديث عن الدهاء أنه أصبح كفؤا للشجاعة، أو راجحا عليها في موازين الصفات الاجتماعية، فإذا عيب رجل من رجالهم بقلة الشجاعة؛ وجد العزاء - وفوق العزاء - بشهرة الدهاء أو دعواه إن لم يكن قد بلغ بدهائه مبلغ الشهرة الذائعة الصيت.
فالدهاء عندهم كان مزية، وضرورة، وعزاء، وغطاء للخوف والجبن، ودعوى سهلة لمن يدعيها بغير برهان ... أما الشجاعة فبرهانها حاضر لا سبيل للمغالطة فيه ...
ولهذا يتزيد الرواة كثيرا في أحاديث الدهاء، ويوشك أن يجعلوه صفة من الصفات «السلبية»، التي تقترن بنقص الشجاعة حيث نقصت في مجال الغضب، أو مجال الصولة والقتال، وكاد القارئ يفهم - بداهة - من صوف رجل بالدهاء أنه رجل لا صولة له ولا خوف من غضبه وبأسه، وإنما الخوف مما يحتال به أو يكيد.
وكثير من أحاديثهم عن الدهاء يدخل في عداد هذه المعاذير أو هذه الخلال المتشابهات، ولكنهم إذا اتفقوا على دهاء رجل في سيرة حياته بحذافيرها،
1
فالغالب أن يكون على شيء من الدهاء، وإن لم يكن دهاتهم كلهم من نوع واحد عند تحليل الأعمال والصفات، ولم يكن مصدر ذلك الدهاء ملكة واحدة في العقل أو في الطباع.
لقد كانوا يطلقون الدهاء على وسيلة «غير صريحة» يبلغ بها صاحبها مأربه، وينتهي بها إلى منفعته ... فكل حيلة «غير صريحة» فهي دهاء على سواء ...
إلا أن الواقع أن الوسائل «غير الصريحة» لا تتفق في مصادرها العقلية ...
فقد يعتمد الرجل في دهائه على قدرة عقلية فائقة يتسلط بها على الناس، فيسخرهم في مطاعمه ويقودهم كما يقاد المسخر «بالتنويم المغناطيسي» لخدمته فيما يستفيدون منه أو فيما لا فائدة لهم فيه على الإطلاق ... وقد يكون فيه الضرر لهم كل الضرر وهم لا يفقهون، ويغشاهم السحر بغشاوته فلا يستمعون لما يقال لهم غير ما يقوله ذلك الداهية، أو يوحيه إلى شعورهم بغير مقال.
هذا هو الدهاء من الطراز الأول.
ويليه الدهاء الذي لا يعتمد على قدرة عقلية فائقة، ولكنه يعتمد على قدرة «مادية» يستطيع بها صاحبها قضاء المصالح والتعامل مع غيره على أساس «التبادل» في المنفعة المعروفة، التي يفهمها المتبادلون جميعا بغير حاجة إلى تغرير أو خداع أو إقناع.
رجل يملك السلطان أو المال، وأناس يحتاجون إلى سلطانه وماله، ولا يقدرون على بلوغ تلك الحاجة من غيره ... فلا هو يخدعهم ولا هم يخدعونه؛ لأنهم كلهم يعرفون ما يطلبونه ويعرفون وسيلتهم إليه، فلا خادع فيهم ولا مخدوع، وإن لم يكونوا جميعا صرحاء فيما يتوسلون به أو يتوسلون إليه.
من أي هذين الطرازين دهاء معاوية؟
أمن طراز القدرة العقلية الفائقة التي تسخر الأعوان منقادين مستسلمين مغمضي الأبصار والبصائر، أم من طراز القدرة المادية التي تعطي وتأخذ ويأملها طلاب الحاجات؛ لأنهم يعرفون ما يحتاجون إليه ولا يعرفون طريقا إلى حاجاتهم تلك غير هذه الطريق؟
بأي الدهاءين تمكن معاوية من اجتذاب عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، وغيرهم من الدهاة الذين سارت بدهائهم الأمثلة في صدر الإسلام؟
لعلنا نستطيع أن نقول: إن هؤلاء الدهاة ومن جرى مجراهم قد خدعوه وسخروه لقضاء مأربهم، كما نستطيع أن نقول: إنه هو قد خدعهم وسخرهم لقضاء مآربه ... فإنهم جميعا قد أخذوا ناجزا مضمونا حيث يأخذ منهم العوض مقدرا غير مضمون، وأيا ما كان القول فليس دهاء معاوية هنا دهاء القدرة العقلية الفائقة التي أوقعت في روع أعوانه زعما تخفى عليهم حقيقته، وينقادون به إليه وهم لا يفقهون، وإنما أخذ منهم وأخذوا منه على حد سواء، وإنما أعطاهم المصلحة التي يريدونها ولا ينتظرون قضاءها عند غيره، ولم يتمكن من إعطائهم تلك المصلحة؛ إلا لأنه سبقهم إلى ولاية الشام عشرين سنة، ووضع أيديه على المرافق التي لم يكن في وسع واحد منهم أن يضع عليها يدا من أيديه.
إن رواة التاريخ العربي يحدثوننا كعادتهم في التوصيف والتقسيم، عن دهاتهم في صدر الإسلام، فيقولون: إنهم أربعة: عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومعاوية بن أبي سفيان، ويقولون: إن ابن العاص للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل كبيرة وصغيرة، ومعاوية للروية.
وهذا تقسيم صحيح في جملته على الإيجاز، وقد يعرض له بعض التعديل عند الإسهاب والتفصيل، ولكن الرأي الذي لا شك فيه أنهم جميعا من الدهاة على اختلاف نوع الدهاء، وأن دهاء الثلاثة الأولين هو الذي قادهم إلى معاوية، ولم يكن دهاء معاوية هو الذي قادهم إليه، فقد عرفوا مطالبهم وعرفوا أنهم يجدونها عند معاوية حيث لا يجدونها عند غيره، ولو أنهم استطاعوا أن ينازعوه الخلافة لما سلموها له طوعا، ولما قنعوا منه بالنصيب الذي ارتضوه في خلافته، ولكن الخلافة كانت مطلبا بعيدا عليهم، فلم يضيعوا فيه جهودهم، ونظروا إلى غاية المطالب دونه فبلغوها بجهد يسير.
لم تكن لأحد منهم ولاية تمتد فتشمل سائر الولايات، وتنتهي بذلك إلى الخلافة إلا زياد بن أبيه، فإنه كان واليا على أقاليم من فارس يخشى بأسه لما عنده من المال والجند، ولكنه مغمور النسب يدعونه بابن أبيه قبل أن ينسبه معاوية إلى أبي سفيان، ولن يسلس زمام الخلافة لرجل مثله إلى جانب طالب من طلابها، كمعاوية أو من دون معاوية في النسب والمكانة ...
أما ابن العاص والمغيرة بن شعبة، فقد كانا من آحاد الرعية يوم نشب النزاع على الخلافة بين عميد بني هاشم علي بن أبي طالب وعميد بني أمية معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن لأحدهما جند ولا مال ولا عصبة تنافس العصبة الهاشمية أو العصبة الأموية، فهما خليقان أن ينظرا إلى المطلب الميسور حيث تيسر، وقد نظرا إليه فلم يعرفا له طريقا أقرب من طريق معاوية، وبخاصة بعد مقتل علي رضوان الله عليه.
وقصة كل رجل من هؤلاء الدهاة الثلاثة لا تدع محلا للظن بأنهم سيقوا إلى نصرة معاوية مخدوعين، أو منقادين بحيلة من حيل الدهاء، بل هي حرية أن تنبئنا بغلبتهم على معاوية في المبادلة، وأنهم أخذوا منه فوق ما أعطوه، وأنه هو قد أعطاهم شيئا في اليد حين كان عطاؤهم كله شيئا في التقدير، إما من قبيل الأمل المنظور أو من قبيل الخوف المحذور ...
دعا عمرو بن العاص ولديه عبد الله ومحمدا، فقال لهما: إني قد رأيت رأيا ولستما باللذين ترداني عن رأيي، ولكن تشيران علي ... إني رأيت العرب صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة، ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟
قال عبد الله، وهو من أهل التقوى: إن كنت لا بد فاعلا فإلى علي ...
قال عمرو: إني إن أتيت عليا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره، وكان محمد ابنه الآخر على هذا الرأي، فقال لهما عمرو: أما أنت يا عبد الله فقد اخترت لآخرتي، وأما أنت يا محمد فقد اخترت لدنياي.
ويروى أنه لما استشارهما، قال له عبد الله: إن النبي - عليه السلام - قد توفي والشيخان بعده وهم راضون عنك، فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس، وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب، فكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت؟ فأجابهما بما تقدم وأتى معاوية، فوجدهم يطلبون دم عثمان فمضى معهم يقول: اطلبوا دم الخليفة المقتول.
والمشهور في رواية صاحب الإمامة والسياسة ابن قتيبة أن معاوية كان غافلا عن شأن عمرو وعن خطره في معونة أي الفريقين فأعرض عنه، حتى نبهه عتبة بن أبي سفيان إلى شأنه وخطره، فكتب إليه يقول: «أما بعد، فقد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط علينا مروان بن الحكم في رافضة من أهل البصرة، وقدم علي جرير بن عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك فأقدم على بركة الله.»
وتردد عمرو قليلا بين شد الرحال وحط الرحال، فقال له غلامه وردان، وهو من الموصوفين معه بالدهاء: أما إنك إن شئت بدأتك في نفسك: اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: مع علي الآخرة بلا دنيا، ومع معاوية الدنيا بلا آخرة، فأنت واقف بينهما، فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي. فما ترى يا وردان؟ فقال: أرى أن تقيم في منزلك فإن ظهر أهل الدين عشت في دينهم، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك، فقال عمرو: الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية؟
وقدم عمرو على معاوية فساومه على رضاه، فلم يقنع بما دون ولاية مصر مدى الحياة، وهذه صفقة كأنها صفقة المنتصر الذي يملي شروطه في حومة الحرب؛ لأن ابن العاص كان واليا على مصر فعزله عثمان، ولم يزل واجدا على عثمان لذلك، حتى قيل: إنه كان يحرض عليه ويخاذل بين أنصاره، فإذا جاء الرجل قوما يطلبون دم عثمان، فأخذ منهم ما أباه عثمان عليه، فإنما هو الرغم ولا مبالاة بما يقولون وبما يقال!
وشق على معاوية أنه يجيبه إلى هذا المطلب الضخم «فتلكأ معاوية - كما جاء في الإمامة والسياسة - وقال: ألم تعلم أن مصر كالشام؟ قال: بلى، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك، وإنما تكون لك إذا طلبت عليا على العراق ... فدخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية، فقال: أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر؟ إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام، فلما سمع معاوية قول عتبة بعث إلى عمرو فأعطاه مصر، وكتب في أسفل الكتاب: ولا ينقض شرط طاعة، فكتب عمرو: ولا تنقض طاعة شرطا.»
وعلى هذا خرج عمرو من الصفقة غالبا غير مغلوب، وفهم ما يبتغيه فقصد إليه، ولم يكن معاوية يفهم ما يبتغيه إلا بعد ممانعة واستعصاء ... وقد عقد معاوية لعمرو بعد ذلك أربعة ألوية: لواء له، ولواء لكل من ولديه، ولواء لغلامه وردان.
يقال في مصطلحات عصرنا عن الحيلة التي لا تخفى ولا حاجة بها إلى إخفاء: إنها «لعب على المكشوف» ... كأنها هي لعبة تلعب نفسها بنفسها، ولا محل فيها لتدبير اللاعبين لظهوره، واتباعه في اللعب منهجا لا محيد عنه، وهكذا كانت الحيلة بين عمرو ومعاوية.
قال عمرو لمعاوية: «أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ ... لا والله إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك وإلا نابذتك.»
2
وعلى هذه الخطة «المكشوفة» بدأت المعاملة بين الرجلين، وكان حظ عمرو فيها أكبر من حظ معاوية، بالقياس إلى ما بذل فيه. •••
أما المغيرة بن شعبة فقد كان يبيع سمكا في البحر، ويشتري به سمكا مطبوخا شهيا على المائدة.
عزله الفاروق عن ولاية الكوفة؛ لأن قوما شهدوا عليه أنهم وجدوه على ريبة مع امرأة غير امرأته، وقال هو: إنها امرأته، وإن الأمر التبس على الناظرين لشبه بين المرأتين، ولم تثبت التهمة عليه ثبوتا يوجب إقامة الحد، ولم تسقط عنه سقوطا يزيل الشبهة، فعزله الفاروق وأبقاه زمنا بغير عمل كأنه يؤدبه ويستتيبه، ثم بدا له أن يعيده إلى ولايته، فدعاه إليه وشدد عليه ليجتنبن الشبهات حتى الظنة، وولاه الكوفة مرة أخرى، فلما قام عثمان بالخلافة عزله، فاعتزل السياسة حتى قتل عثمان، وبويع علي بالخلافة في المدينة، فذهب إليه يمهد في العهد الجديد للزلفى
3
عند الإمام، وعند صاحب الأمر بالشام - معاوية - في وقت واحد، وأشار على الإمام بإقرار معاوية في ولايته؛ ليدين له بالولاء ثم يعزله متى شاء، فلما أبى الإمام أن يقره عاد إليه في اليوم التالي، فقال: «إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم علمت أن الصواب فيما رأيت، فاعزلهم - أي: ولاة عثمان - واستعن بمن تثق به، فإنهم أهون شوكة مما كان.»
وعاد المغيرة إلى عزلته يترقب، ثم قصد إلى معاوية بعد رجحان كفته في أمر الحكمين غير مجازف بشيء بعد استقرار أمر الشام - على الأقل - لمعاوية وحزبه، فولاه معاوية إمرة الحج بعد انفراده بالدولة، وكان المغيرة ينظر إلى ولايته الأولى على الكوفة كما نظر ابن العاص إلى ولايته الأولى على مصر، فلما أراد معاوية أن يعهد بهذه الولاية إلى عبد الله بن عمرو بن العاص ذهب إليه يبذل النصيحة الذي يأخذ منها أكثر مما يهب، وقال له: أتستعمل عبد الله على الكوفة وأباه على مصر؟ ... إنك بين نابي الأسد! فاستمع له معاوية وعزل عبد الله وولاه في مكانه، وسمع عمرو بخبر هذه المكيدة فردها بمثلها، ولم يطلب إعادة عبد الله إلى ولايته، بل قنع بحرمان المغيرة من ولاية الخراج واصطنع النصيحة للخليفة الجديد، فجاءه يقول: إنك تستعمل المغيرة على الخراج فيأخذه ولا تستطيع أن تنتزعه منه، والرأي أن تولي على الخراج رجلا يخافك، ولا تبالي أن تعزله متى شئت، وأن تستعمل المغيرة على الصلاة والإمارة، فلا يقوى عليك بغير مال، فاتبع معاوية مشورته غير كاره؛ لأنها أكسبته المال والعداوة بين الداهيتين.
ثم استقر الأمر لمعاوية فهان عليه خطب المغيرة وهم بعزله، فنمى
4
الخبر إلى المغيرة من عيونه
5
حول معاوية، وأشفق من غضاضة
6
العزل، فآثر أن يذهب إليه معتزلا ، وأن يحتال مع ذلك حيلته التي يرغم بها معاوية على استبقائه، وهو عزيز الجانب مرغوب فيه.
شخص إلى دمشق فاختلى بيزيد كأنه يلقاه عرضا، ووسوس له أن يطلب إلى أبيه تسميته لولاية العهد، وزين له الأمر قائلا: «إن أصحاب النبي وكبراء قريش قد ذهبوا، وبقي الأبناء وأنت من أفضلهم، فلا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أوترى ذلك يتم؟ قال: نعم ... فدخل يزيد على أبيه وأخبره بمقالة المغيرة، فتعجل معاوية لقاءه واستدعاه ليطمئن إلى حقيقة الخبر، وابتدره سائلا: ما هذا الذي يقوله يزيد؟ ... قال: إني يا أمير المؤمنين قد رأيت ما رأيت من سفك الدماء بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له البيعة بعدك، فإن حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة ... قال معاوية: ومن لي بهذا؟ ... قال: أكفيك أنا أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بين هذين المصرين أحد يخالف ...»، فأمره معاوية أن يرجع إلى الكوفة، وأن يتحدث مع ثقاته في ذلك، ثم يرى ما يرى.
قال المغيرة لبعض هؤلاء الثقات: لقد وضعت رجل معاوية في غرز
7
بعيد الغاية وفتقت عليهم فتقا لا يرتق
8
أبدا، ثم أجابه ناس من قبيلة إلى بيعة يزيد، فأرسل منهم عشرة إلى دمشق، ولم يرسل سائرهم ليمد في حبل المساومة، وكان من حكمة معاوية أنه استمهلهم وطلب إليهم ألا يعجلوا بإعلان رأيهم، ولم يكن إعلان هذا الرأي من أرب المغيرة؛ لأنه باق في ولايته ما احتاج الأمر إلى بقائه قبل إعلان البيعة والاتفاق عليها، وفي كل أولئك كان المغيرة كاسبا لا يفقد شيئا يقدر على استبقائه، فإن خرج مستعفيا فذلك خير من خروجه معزولا، وإن كانت المساومة على ولاية يزيد للعهد مجدية له فيما أراد؛ فقد ربح ولم يخسر، وباع السمك في البحر والشبكة من عند غيره، وإن أعرض معاوية عن المساومة ولم يقبل عقد البيعة لابنه - وهو أبعد الفروض - فقد كسب الوالي المعزول ولاء يزيد، ولم يفقد ولاء معاوية؛ لأنه مفقود قبل ذلك ... ولعله يرمي من هذا التلويح بولاية العهد إلى استثارة الأمير المحروم، وإغرائه بأبيه وانتقامه منه بالكيد له في حجاب الحرم
9
إن لم يقدر على الانتقام منه بالثورة والعصيان، ويقال بحق في جميع هذه الأحوال: إن المخدوع من الرجلين - معاوية والمغيرة - لم يكن هو المغيرة إن كان لا بد بينهما من مخدوع.
وكان زياد بن أبيه آخر المبايعين من الدهاة الثلاثة، فلم يستطع معاوية أن يقنعه بترك فرصة من الفرص التي كان يترقبها، ويؤثرها على مبايعة معاوية بالخلافة، ولم يقبل على معاوية وله رجاء قط في الإعراض عنه، مع أنه كان أول المنظور إلى بيعتهم في تقدير بني أمية؛ لأنه كان - كما نقول في عرف هذه الأيام - ولدا شرعيا لأبي سفيان، وأخا لمعاوية من أبيه ...
ولاه علي بن أبي طالب فارس وكرمان، فأرسل إليه معاوية يتوعده، فقام زياد في الناس خطيبا يغلظ الجواب ويرد الوعيد بمثله، وجعل يقول في خطبته على رءوس أتباعه ومسمع من أعوان معاوية: «العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق! يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابن عم رسول الله في المهاجرين والأنصار، أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمر
10
مخشيا ضرابا بالسيف.» فكتب إليه معاوية يترضاه ويلين القول، ودعاه بزياد بن أبي سفيان، ثم قال: «كأنك لست أخي، وليس صخر بن حرب أباك وأبي، وشتان ما بيني وبينك، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء، فكنت كتاركة بيضها بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحها، وقد رأيت ألا أؤاخذك بسوء سعيك وأن أصل رحمك وأبتغي الثواب من أمرك، فاعلم - أبا المغيرة - أنك لو خضت البحر في طاعة القوم، فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا، فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة
11
إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح، فارجع - رحمك الله - إلى أصلك واتصل بقومك، ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره، فقد أصبحت ضال النسب، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج،
12
فإن أحببت جانبي ووثقت بي فإمرة بإمرة، وإن كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل ولا علي ولا لي، والسلام.»
على أن زيادا لم يستجب لدعوته حتى قتل الإمام وصالح ابنه الحسن معاوية على شروط تسلمه زمام الأمر كله في حياته، ولبث معاوية قلقا من جانبه لا يأمن مكره وجرأته، يقول لخاصته: ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل البيت، فإذا هو قد أعاد علي الحرب جذعة؟
13 ... فتقدم المغيرة يتوسط بينهما ليشد ساعده بزياد في كيده لابن العاص، واستأذن معاوية في إتيانه فأذن له أن يلقاه ويتلطف في خطابه، وجاءه المغيرة على يأس من خلافة بني هاشم، وأمل مبسوط من المواعيد وتصحيح النسب في خلافة بني أمية، واستجاب زياد للمغيرة في أمر البيعة لمعاوية، وتمنع بعد ذلك في أمر البيعة ليزيد بولاية العهد، وأنفذ رجلا من ثقاته إلى الخليفة؛ ليوصيه بالأناة «فإن دركا
14
في تأخير خير من أناة في عجلة»، ولولا أنه مات قبل البيعة بولاية العهد لما استقر الأمر على قرار.
هؤلاء هم الدهاة الثلاثة، لم يغلب أحد منهم على رأيه بدهاء من معاوية، وإنما أفادوا منه جميعا فوق ما أفادوه.
وتذكر في هذا المعرض بيعة الحسن، فلا يقول قائل من المطنبين في دهاء معاوية أو من المقتصدين في أمره إنه كان عملا من أعمال الدهاء دخلت فيه الحيلة على الحسن وصحابته، فإنما بايع الحسن بعد أن ثار به جنده، واجترأوا على نهب معسكره، حتى امتدت أيديهم إلى البساط الذي يجلس عليه وجرحوه في فخذه ... وقيل في أسباب تلك الفتنة ما قيل من مختلف الأسباب والإشاعات، فزعم بعضهم أنها نشبت في المعسكر بعد أن شاع فيه مقتل القائد الأكبر قيس بن سعد، وزعم بعضهم أنها نشبت فيه بعد إشاعة التسليم، وقبول المصالحة بين الحسن ومعاوية ... ولا أمان على كل حال لأنصار يجترئون على إمامهم بالنهب والسطو لسبب من الأسباب كائنا ما كان، بعد ما تقدم من عنت هؤلاء للإمام في حياته وشقاقهم فيما بينهم، واستبداد كل منهم بفتواه في أمر الدين، وأمر السياسة والولاية، فلو لم يكن معاوية على حظ من الدهاء - قل أو كثر - لما استعصى عليه أن يظفر من الحسن بالمصالحة على شروطه فضلا عن المصالحة على الشروط التي أمليت عليه.
وما يذكر أحد غير هؤلاء من النابهين المعدودين الذين قصدوا إلى معاوية بالبيعة، أو المؤازرة إلا كان على علم بما يقصده قبل لقاء معاوية، فلا خداع في شأن واحد من هؤلاء المعدودين ولا انخداع.
جاءه عبيد الله بن عمر ففرح به فرحا شديدا، وقال لعمرو بن العاص: ما يمنع عبد الله أن يجيئنا كما جاءنا أخوه؟ قال عمرو: إنما جاءك عبيد الله؛ لأنه يخشى قصاص ابن أبي طالب منه لقتله الهرمزان بغير قضاء، وكان عبيد الله قد قتل الهرمزان؛ لأنه شوهد مع أبي لؤلؤة قبل مقتل أبيه، وشوهد معه الخنجر الذي حمله أبو لؤلؤة، ووجد معه بعد مقتل الفاروق، فأشار الإمام بالقصاص منه، وأبى عثمان ذلك؛ لكيلا يقال: قتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم، فلما بويع الإمام بالخلافة في الحجاز خرج عبيد الله إلى معاوية ونادى مع المنادين بثأر عثمان، وقال للإمام في بعض المواقف بين الجيشين: الحمد لله الذي جعلك تطلبني بدم الهرمزان، وجعلني أطلبك بدم عثمان ... •••
وذهب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه يطلب منه مالا لسداد ديون عليه، فأنظره موعد العطاء له ولسائر أصحاب الأعطية، فتركه وذهب إلى معاوية، فقضى له جميع ديونه، وقال له بعد أيام: أنا خير لك من أخيك ... قال عقيل: صدقت! إن أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك، فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسك منك!
فكل دهاء يذكر لمعاوية فإنما يذكر إلى جانبه رفد،
15
أو عطاء وولاية يستفيد منها من ينصره، ولا ينخدع عنها في مبادلة النفع بينه وبينه، ولا جرم كان العطاء عماد هذا الدهاء، وكان نقش الخاتم الذي تختم به بعد ولايته: «لكل عمل ثواب».
ولهذا أعياه كل الإعياء أمر المخالفين الذين لا تعمل فيهم رقية
16
المال والولاية ... فامتنع عليه عبد الله بن عمر؛ لأنه لم ينخدع بالدرهم والدينار «وإنما ينخدع الرجال بهما» كما قال، وامتنع عليه قيس بن سعد ذلك البطل القوي الأمين الذي حفظ عهده لعلي بن أبي طالب قبل عزله إياه وبعد عزله، وظل حافظا لهذا العهد بعد مقتله رضوان الله عليه، ومصالحة الحسن لمعاوية، وانقضاض الولايات واحدة بعد أخرى عن أعوان بني هاشم، وقد دانت الدنيا للخليفة الجديد فأرسل إلى قيس صحيفة بيضاء موقعة بتوقيعه مختومة بخاتم الخليفة يكتب فيها ما يشاء، فلم يكتب فيها إلا عهدا بالأمان لأصحابه الذين نصروا عليا والحسن بقيادته، وجلس الخليفة بالكوفة يتلقى البيعة من مخالفيه القدماء، فقال قيس: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية! فقال له: مه
17
رحمك الله، عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، قال قيس: لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله يا بن أبي سفيان إلا ما أحب، قال معاوية: فلا يرد أمر الله! فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال: معشر الناس! لقد اعتضتم الشر من الخير، واستبدلتم الذل من العز، والكفر من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وابن عم رسول رب العالمين، وقد وليكم الطليق بن الطليق، يسومكم
18
الخسف ويسير فيكم بالعسف،
19
فكيف تجهل ذلك أنفسكم، أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون؟! ... فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده، وقال: أقسمت عليك ... ثم صفق على يده ونادى الناس: بايع قيس! فقال: كذبتم والله ما بايعت ... وضاع صوته بين الصياح والضجيج.
ولم يزل أمثال عبد الله بن عمر وقيس بن سعد بمعزل عن حزب الدولة الجديدة، إلا من آثر الجهاد في غزو الأعداء ولم يجد علما للجهاد غير علم الخليفة القائم بتجنيد الجند، وتجريد السرايا على أطراف الدولة من بلاد القياصرة والأكاسرة، وبطلت كل حيلة من حيل «الثواب» بالمال والولاية مع أمثال هؤلاء القوم الذين كانوا بحق عند المسلمين «بقية الناس».
إلا أن معاوية كان يصطنع الحيلة التي تجديه في كفاح خصومه، وإن لم تكن من قبيل الغلبة بقوة العقل وصولة «الشخصية» الطاغية على من دونها في البأس والمضاء ...
كانت له حيلته التي كررها وأتقنها، وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة العمل الدائم على التفرقة، والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم، وإثارة الإحن فيهم، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه.
كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق، وكان التنافس «الفطري» بين ذوي الأخطار مما يعينه على الإيقاع بينهم، كما كان يحدث بين المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بغير تدبير منه، أو بتدبير هين لا تخفى خبيئته على الرجلين، فكان يسمع لكل منهما في الآخر، ويطيع كليهما في دسه وإغرائه؛ ليعلما بعد ذلك بما صنعه كل منهما من الكيد لصاحبه، فلا يتفقا عليه، وما هما بمتفقين، ولا مأرب لهما في الاتفاق، بل المأرب الذي يحرصان عليه معا أن يقوم بينهما حجاز يعطيهما ما يسألان، ويكيد بكيدهما كما يحبان.
ودأبه في الوقيعة بين أهل بيته كدأبه في الوقيعة بين النظراء من أعوانه؛ فلم يكن يطيق أن يتفق بنو أمية من غير بيت أبي سفيان، ولم يكن ليهدأ ويستريح أو يوقع بين آل عمومته من بني العاص ... قال ابن الأثير في أخبار سنة أربع وخمسين: «وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل مروان، وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان، ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافية، ويقبض منه فدك - وكان وهبها له - فراجعه سعيد بن العاص في ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد، ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولى مروان، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك، أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت ... فقال: ما كنت لأفعل، قال: بلى والله ...! قال: كلا ... وقال لغلامه: ائتني بكتاب معاوية، فجاءه بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني؟ ... قال سعيد: ما كنت لآمن عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا، فقال مروان: أنت والله خير مني، وعاد ولم يهدم دار سعيد، وكتب سعيد إلى معاوية: العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا أن يضغن بعضنا على بعض ... فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم وباجتماع كلمتنا؛ لكان حقا على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك ... فكتب إليه معاوية يعتذر ويتنصل،
20
وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده، وقدم سعيد على معاوية فأثنى عليه خيرا، فقال له معاوية: ما باعد بينه وبينك؟ قال: خافني على شرفه وخفته على شرفه، قال: فماذا له عندك؟ قال: أسره
21
شاهدا وغائبا.»
ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظا كبيرا من الحيلة والروية، ولعلها تناقض الدهاء فيما ينكشف من عللها التي لا تدق على فهم أحد، فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزبا منابذا لغيره من رجال الدولة كافة؛ لفعل، ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح؛ لما وصفه بغير مفرق الجماعات، ولكن العبرة لقارئ التاريخ في زنة الأعمال والرجال أن تجد من المؤرخين من يسمى عامه حين انفرد بالدولة عام الجماعة؛ لأنه فرق الأمة شيعا شيعا فلا تعرف كيف تتفق إذا حاولت الاتفاق، وما لبث أن تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعا شيعا بين ولاة العهود!
وكانت خطة التفرقة عامة عنده لا يقصرها على الخصوم؛ ليضرب بعضهم ببعض، ويتقي شر فريق منهم بشر فريق، بل كان يتوخى هذه الخطة مقدما ومؤخرا، وبين كل فريقين وعلى كل حال، وفي كل موقف كأنها غرض مقصود لذاته أو كأنها خير «مطلق» لا شر فيه ...
وبدأ بهذه الخطة في السياسة العامة على عهد عثمان، فخص المهاجرين بدعوته قبل مرجعه إلى الشام، وقام بينهم يقول بعد أن دعاه عثمان للمقال: «أما بعد، يا معشر المهاجرين وبقية الشورى ، فإياكم أعني وإياكم أريد ...» ثم أتبع ذلك بكلام طويل في معناه، يقول فيه: «يا معشر المهاجرين وولاة هذا الأمر، ولاكم الله إياه فأنتم أهله، وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنهاه، وإنما ينظر التابعون إلى السابقين والبلدان إلى البلدين، فإن استقاموا؛ استقاموا، وايم الله الذي لا إله إلا هو ... لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى؛ لا يقوم السابقون للتابعين، ولا البلدان للبلدين، وليسلبن أمركم ولينقلن الملك من بين أظهركم، وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء في الثور الأبيض ...» •••
ويروي بعض المؤرخين أنه لما استقر له الأمر، وبويع له بالخلافة، وجاءه وفد الأنصار؛ أمر أن يدعى كل منهم باسمه إلى حضرته بمشورة عمرو بن العاص الذي كره أن يدعى الجمع كله باسم الأنصار، ولكن عمرو بن العاص لم يكن معه يوحي إليه حين خص المهاجرين بتلك الدعوة قبل أن يتفقا على شيء في أمر الدولة، ولم يكن سلطان عمرو هو الذي احتمى به الأخطل حين اجترأ على هجاء الأنصار، فقال:
ذهبت قريش بالمكارم كلها
واللؤم تحت عمائم الأنصار
فإنما اجترأ الشاعر هذه الجرأة بما علم من رضا الخليفة وأمانه أن يصيبه مكروه من جراء ذلك الهجاء.
ولم تقف خطة التفرقة عند هذه التفرقة بين مكة والمدينة؛ لأنه عمد إلى أهل مكة والطائف في بقعة واحدة، ففرق بينهما حين آثر الثقفيين - وهم أهل الطائف - بزلفاه، وسن لمن بعده سنة هذا الإيثار، فكان من رجال بين أمية المغيرة وزياد والحجاج ومحمد بن القاسم، ورهط من الأقربين والصنائع،
22
وكانت الطائف على عهد معاوية وخلفائه كالحرس على أهل مكة ممن بقي فيها غير الأمويين السفيانيين، وقد أوقع بين هؤلاء الأمويين كما تقدم؛ فقسمهم بين بني حرب وبني العاص، وقسم بني العاص بين بيت سعيد وبيت مروان.
ومن خطط التفرقة التي حسنت لديه في حينها، وساءت عقباها بعد حين، وبعد كل حين؛ ذلك النزاع المشئوم بين اليمانية والمضرية، أو بين الكلبيين والقيسيين على اختلاف النسب والعناوين، وقد خبط
23
الأكثرون من مؤرخي العصر في تعليله بمختلف العلل ، إلا العلة المقصودة التي دبرت في ذلك العصر أسوأ تدبير، ولعل المدبرين كانوا يحسبونه يومئذ أحسن تدبير ...
فالعصبية في القبائل العربية خليقة لا تهمل في حساب المنازعات والمناظرات في زمن من الأزمان، ولكنه من السخف أن يقال إن العصبية كانت علة انتصار اليمانية لبني أمية على بني هاشم، وإن اعتزاز الهاشميين بالنبوة هو الذي أحفظ عليهم صدور القبائل من غير المضريين، الذين ينتمي إليهم بيت النبوة من بني هاشم.
فقد كان بنو هاشم وبنو أمية جميعا من قريش، وكان اعتزاز بني أمية بالنسبة القرشية أظهر وأجهر من اعتزاز الهاشميين عند قيام دولتهم - دولة الأمويين - إذ كانت هذه النسبة حجتها من جانب النسب في استحقاق الخلافة، وقد كانت اليمن هي القطر الوحيد الذي رحب بوالي الإمام علي في أول بيعته، وكان الأنصار أهل المدينة من حزبه وهم - بين أوس وخزرج - ينتمون إلى اليمانية، وكانت كندة تنصره وظلت على نصرته، ونصرة أبنائه زمنا طويلا بعد قيام الدولة الأموية والدولة العباسية، وكان أشد أعوان الفاطميين بعد ذلك من اليمانية في المشرق وفي المغرب، ولما تلاقى جيش علي وجيش معاوية في وقعة صفين كانت القبيلة العربية الواحدة تقاتل في كلا الجيشين ... قال ابن الأثير: «وسأل علي عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم، فقال للأزد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ليس بالعراق منهم أحد؛ مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا القليل صرفهم إلى لخم ...»
فالنزاع بين اليمانية والمضرية لم يكن نزاعا على فخر النبوة، ولا على فخر الخلافة عند بداءة أمره، وإنما كان نزاعا بين سلاحين أو بين جيشين متنافسين في مكان واحد، عدا ما هنالك من النزاع بين الفكرين، ونحن نرى في عصرنا - وفي كل عصر - أمثال هذا التنافس بين الأسلحة كلما جنح ولاة الأمر إلى فريق منهم دون فريق، وقد رأينا هذا التنافس بين سلاح البر وسلاح البحر وسلاح الهواء في الجمهورية الفضية، وكلهم من جنس واحد أو قومية واحدة؛ لأن ولاة الأمر هناك يؤثرون سلاحا على سلاح في التنازل بينهم على السند الذي يستندون إليه.
لقد كانت عصبية النسب عنوانا من عناوين الخلاف بين قبائل اليمن، وقبائل مضر في دولة بني أمية بالشام، ولكن هذه العصبية لم تكن لازمة كل اللزوم لإثارة الخلاف حينما أريد لغرض من أغراض السياسة، وقد حدث مثله بين قبائل اليمن، وحدث مثله بين قبائل مضر على حسب الطوارئ والمناسبات، ولو كان الجند كلهم من قبيلة واحدة وأراد ولي الأمر أن يثير المنافسة بينهم؛ لما أعياه ذلك كما حدث في هذا العصر بين الشعوب الأمريكية في الجنوب على ما قدمناه. •••
ومعاوية كان يريد النزاع بين اليمانية والمضرية، ولم تكن له من خطة ثابتة فيه غير التفرقة بينهم تارة إلى هؤلاء، وتارة إلى هؤلاء، وقد كان هو نفسه من المضريين، ولكنه كان يبدو في بعض الأحايين كأنه من أبناء اليمن عدو لأبناء مضر، وطابت له هذه السياسة فاستمرأ
24
مرعاهم الوخيم حتى كانت عقباها ضياع الدولة الأموية كلها بعد جيلين.
وأبرع ما برع فيه من ألوان الدهاء إلقاء الشبهة بين خصومه في زمن كانت فيه هذه الشبهات من أيسر الأمور؛ لكثرة التقلب والتحول في الدول والممالك بين أنصار اليوم وخصوم الأمس، أو أنصار الأمس وخصوم اليوم ...
كان إذا أراد أن يستميل أحد البطارقة من دولة الروم فاستعصى عليه؛ كتب له رسالة مودة وثناء، وأنفذها مع رسول يحمل إليه الهدايا والرشا كأنها جواب على طلب منه يساوم فيه على المصالحة والغدر برؤسائه من دولة الروم، ويخرج الرسول العربي من طريق متباعد كأنه يتعمد الروغان من العيون والجواسيس، فإذا اعتقله الروم - ولا بد أن يعتقلوه لأنه يتعرض للاعتقال ويسعى إليه - وقعت الشبهة على البطريق المقصود، وتعذر الاطمئنان إليه من قومه بعد ذلك، وعزلوه وأبعدوه إن لم ينكلوا به أشد النكال ...
وقد احتال بمثل هذه الحيلة على قيس بن سعد حتى أوقع الريبة منه في نفس الإمام ، وساعدته الحوادث على خلق هذه الريبة كما أجملنا ذلك في كتابنا عن عبقرية الإمام «فشبهاته لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة؛ فإن قيس بن سعد لم يدخل مصر إلا بعد أن مر بجماعة من حزب معاوية، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة نفر لا يحمونه من بطشهم، فحسبوه حين أجازوه من العثمانيين الهاربين إلى مصر من دولة علي في الحجاز، ولما بايع المصريون عليا بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون، وقالوا لسعد: أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر، فأمهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الإسكندرية ... وأراد الإمام أن يستوثق من الخصومة بين قيس ومعاوية، فأمر قيسا أن يحارب المتخلفين عن البيعة فلم يفعل، وكتب إليه يقول: إننا متى قاتلنا ساعدوا عليك عدوك وهم الآن معتزلون، والرأي تركهم ...»
وتعاظمت بعد ذلك الظنون في زمن صدقت فيه أكثر هذه الظنون، فأما معاوية فلم يكن يكربه
25
الظن ولا الشبه بالظن؛ لأنه يعلم المنفعة التي يعطيها والمنفعة التي يريده أعوانه من أجلها، وأما الإمام فلم تكن له عصمة من الظن غير الحيطة وغير التجربة، ولم تكن للتجربة سابقة مقطوع بها، بل كانت كلها مما سينجلي عنه مستقبل مجهول.
فهذه الحيلة - حيلة الشبهة - كانت من أنجح الحيل في سياسة معاوية مع خصومه؛ لأنه زمن الشبهات وهي كثيرة فيما ابتلاه أولئك الخصوم، وقد نجحت ونجعت
26
بفضلين لا بفضل واحد: أحدهما فضل التدبير، والآخر فضل الحوادث بغير تدبير.
وحيلة أخرى لا نجزم بها، ولكننا نشير إليها في مكانها مما رواه الرواة عن الوسائل «الخفية»، التي توسل بها معاوية للغلبة على خصومه ومنافسيه، وحسبت يومئذ من ضروب دهائه، أو من ضروب كيده وهو مرادف عند عامة القوم لمعنى الدهاء.
مات الحسن ومات مالك بن الأشتر الذي ولاه الإمام مصر بعد عزل قيس، ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وعوجلوا جميعا بغير علة ظاهرة، فسبق إلى الناس ظن كاليقين أنها غيلة مدبرة، وأن صاحب الغيلة من كان له نفع عاجل بتدبيرها، وهو معاوية. •••
ونقل عن ابن العاص بعد موت الأشتر أنه قال: «إن لله جنودا من عسل ...» وكان موت الأشتر بعد شربة من العسل لم تمهله غير ساعات.
ونقل الخبر عن دس السم للحسن - رضوان الله عليه - مؤرخ من الأمويين هو أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني المشهور.
قال في كتابه مقاتل الطالبيين: «أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث: إني مزوجك بيزيد ابني على أن تسمي الحسن بن علي ... وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت وسمت الحسن فسوغها
27
المال ولم يزوجها من يزيد، فخلف عليها رجل من أهل طلحة فأولدها، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم، وقالوا: يا بني مسمة الأزواج.»
وقال ابن الكلبي عن أبيه في سبب موت الأشتر: «إنه لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز، فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له: نافع وأظهر له الود، وقال له: أنا مولى عمر بن الخطاب، فأدناه الأشتر وقربه ووثق به وولاه أمره، فلم يزل معه إلى عين شمس، فلما وصل إلى عين شمس؛ تلقاه أهل مصر بالهدايا، وأسقاه نافع المذكور العسل فمات منه ... وقال ابن سعد: إنه سم بالعريش، وقال الصوري: صوابه القلزم ...»
وجاء في أخبار سنة ثمان وثلاثين لابن الأثير: «خرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك، فعظم عليه وكان قد طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدم على أهل الخراج بالقلزم، وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت، فخرج الجايسات - وفي رواية الطبري: الجايستار - حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم وأقام به استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده، فأتاه بطعام، فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما، فسقاه إياه، فلما شربها مات ... وقام معاوية خطيبا ثم قال: «أما بعد ... فإنه كانت لعلي يمينان، فقطعت إحداهما بصفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم ؛ يعني الأشتر.» •••
واتفق ابن الأثير والطبري على رواية واحدة في الجملة عن موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: «وكان سبب موته - كما جاء في ابن الأثير - أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام، ومالوا إليه لما عندهم من آثار أبيه ولغنائه في بلاد الروم ولشدة بأسه، فخافه معاوية وخشي منه، وأمر ابن آثال النصراني أن يحتال في قتله، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس له ابن آثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له، وقدم خالد بن عبد الرحمن المدينة فجلس يوما إلى عروة بن الزبير، فقال له عروة: ما فعل ابن آثال؟ فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن آثال، فحمل إلى معاوية فحبسه أياما ثم غرمه ديته، ورجع خالد إلى المدينة فأتى عروة، فقال عروة: ما فعل ابن آثال؟ فقال: قد كفيتك ابن آثال ولكن ما فعل ابن جرموز؟ يعني قاتل الزبير: فسكت عروة!»
وسبق الطبري فقال: «ذكر جرير وغيره أن رجلا يقال له: ابن آثال - وكان رئيس الذمة - سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك من أمر معاوية له في ذلك ولا يصح، ورثاه بعضهم فقال:
أبوك الذي قاد الجيوش مغربا
إلى الروم لما أعطت الخرج فارس
وكم من فتى نبهته بعد هجعة
بقرع لجام وهو أكتع
28
ناعس
وما يستوي الصفان صف لخالد
وصف عليه من دمشق البرانس
29
وقد ذكروا أن خالد بن عبد الرحمن بن خالد قدم المدينة، فقال عروة بن الزبير: «ما فعل ابن آثال؟» فسكت: ثم رجع إلى حمص، فثار على ابن آثال فقتله، فقال: «قد كفيتك إياه، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة، ومحمد بن مسلمة في قول».» •••
وشاعت الشوائع بمثل ذلك عن آخرين من أعداء معاوية ومنافسيه، يملي للناس في تصديقها أن هؤلاء الأعداء ماتوا بغير علة موصوفة في الموعد الذي يبغيه معاوية، وتترتب عليه سياسته التي كان يرجئها إلى مواعدها ... فالحسن يموت قبل بيعة يزيد؛ كي لا يخرج معاوية على شرطه المكتوب للحسن، ومالك بن الأشتر يموت على أبواب مصر، وعبد الرحمن بن خالد يموت وهو في أوج سمعته بين قوم أعجبوا من قبله بأبيه، ويوشك أن يتجمع حوله الناقمون من أهل الشام وأهل الكوفة والحجاز ... وكله مما يذكر ولا يعجل بنفيه، ولكنه لا يقوم عليه دليل قاطع، وأضعف ما في هذه الروايات تكرار المكافأة بإسقاط الخراج، وهي مكافأة لا توافق جنايات الغدر والغيلة؛ لأنها تتجدد في كل موعد خراج، ولا يزال السؤال عن سبب إسقاطه متجددا بين العمال وأصحاب الأمر، حتى تنكشف المكيدة كلها مع الأيام، وما كان معاوية بعاجز عن المكافأة على دس السم للأعداء ببذل المال المعجل والمؤجل في الخفاء، فلا يسع المؤرخ أن يقبل هذه التهم جازما ولا أن يرفضها جازما، ولكن الشبهات والأقاويل وحدها تحدثنا بالشيء الكثير عن ظنون الناس بمعاوية، ووسائله إلى قضاء ما يبغيه. •••
ونحسب أننا في هذا الفصل قد ألممنا بأفانين الدهاء التي نسبت إلى رأس الدولة الأموية، ويتبين منها جميعا أن دهاءه من قبيل الدهاء الذي يعول على قضاء المصالح وتبادل المنافع، ويتساوى فيه دهاء الطرفين أو يكون الرجحان من قبل الطرف الآخر، فليس دهاء معاوية من قبيل ذلك الدهاء الذي يسوق الأعوان سوقا إلى خدمة مقاصده بسلطان القدرة العقلية الخارقة، وغلبة الإقناع لا برهان فيه على الحقيقة، ولكنه ضرب من «التنويم المغناطيسي» تعمل فيه المشيئتان بمشيئة واحدة ...
وإنما استطاع معاوية أن يستهوي الناس إليه بقضاء المصالح لقيامه على ولاية الشام عشرين سنة، واستئثاره بأقطارها جميعا على أيام عثمان بن عفان، واحتجازه لما شاء من أموالها وخيراتها، وولاء أعوانها بغير رقابة عليه بعد أيام الفاروق ...
فالرجل على نصيب متوسط من العقل يملي له طبع مفطور على الأناة لم تتعجله الحوادث قط، كما تعجلت منافسيه في الحجاز والعراق، وكان ذلك النصيب حسبه من العدة في ذلك النزاع الذي لا سواء فيه بين المصاعب والعقبات من الجانبين . •••
ولو أنه قورن بينه وبين زملائه في سعة الدهاء؛ لكان آخر الأربعة صفا، أو لم يكن على اليقين أول الأربعة قبل عمرو بن العاص على الخصوص؛ فإنه الفارق بينهما كالفارق بين العبقرية والدربة،
30
أو بين العقل المشبع بالقوة والحيوية، والعقل الذي قصاراه من الرأي أن يحذر ويتربص، ويتجنب حيثما كان.
كان دهاء عمرو سلاح هجوم ودفاع، وكان دهاء معاوية سلاح دفاع دائم على أحسن الأحوال، وكان هو يجهل موازين الرجحان بين الدهاءين، ويحسب أن اتقاء العواقب هو كل ما يطلبه الداهية من دهائه، كأنما الدهاء سلاح يعمل عمل الدرع، ولا يعمل عمل السيف أو السهم في وقت من الأوقات ... •••
سأل معاوية عمرو بن العاص: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه، قال معاوية: لكنني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه!
ولم يكن عمرو ليقتحم المخاطر على الرغم منه ثم يبحث عن مخارج النجاة منها، ولكنه يقتحم الخطر ويقول غير مرة: «عليكم بكل مزلقة
31
مهلكة ...» لأنه كان على ثقة بدهائه كلما ثاب إليه، وعلى وفاء لطبيعة الإقدام والاقتحام التي تقترن بالعبقرية ودوافع القوة والحيوية، وليس من عزم الأمور دهاء لا يندفع بصاحبه في المضمار، ولا يرجى من نفعه قط إلا أنه لجام.
ولا نكران - بعد - لدهاء معاوية على هذا التقدير، وإنما قصاراه من هذا التقدير أنه لم يضيع الفرصة التي سنحت له، وأنه صبر في انتظارها وأطال الصبر غير متعجل لها قبل أوانها، وقد كان ذلك حسبه فيما توخاه ...
الحلم
اشتهر معاوية بعد الدهاء بالحلم، وأجمع مؤرخوه من مادحيه على وصفه بهاتين الصفتين، وقد أفرد ابن أبي الدنيا وأبو بكر بن عاصم تصنيفا في حلمه، وقال قبيصة بن جابر: «صحبت معاوية فما رأيت رجلا أثقل حلما، ولا أبطأ جهلا، ولا أبعد أناة منه.» وردد المؤرخون كلمة قبيصة هذه وزادوا عليها كلمات بمعناه لغيره من عشرائه ورواة أخباره.
ولم يفخر معاوية بصفة كما كان يفخر بحلمه ... كان يفاخر خاصته بالدهاء بينه وبينهم، ولكنه لم يفخر قط بالدهاء علانية كما كان يفخر بالحلم والأناة، ولا غرابة في ذلك من جميع الوجوه، فما من رجل على نصيب من الدهاء يعلن دهاءه ويفخر به، وهو يستطيع أن يخفيه ويموهه بالنصيحة والصراحة، ومن صنع ذلك فهو كالصائد الذي يكشف حبالته للقنيصة، وهي خليقة ألا تقع فيها إذا انكشفت لعينها.
ووجه آخر من وجوه الجهر بالحلم، وتذكير الناس به عند معاوية أنه كان حريصا على التحبب إلى الناس؛ لأنه ينتزع سلطانه ويعلم أن الناس لا ينطوون على الحب لمن ينتزع السلطان، إن لم يكن نخوة وأنفة فحسدا وغيرة، أو إعراضا عن الغاصب إلى من هو أولى بالسلطان في رأي أصحاب هذا الرأي وإقبالا على مستحقه عندهم بغير نزاع.
سئل: «أي الناس أحب إليك؟ قال: أشدهم تحبيبا لي إلى الناس»، وغني عن القول أن الصفح عن المسيء مع القدرة على البطش به من أقرب الوسائل إلى كسب ولائه، وكسب ولاء غيره ممن يسمع بالخبر ويحمده، ولم يكن معاوية ولا شيعته يقصرون في إذاعة كل خبر فيه مأثرة من مآثر العفو والأناة، والبر بكل مسيء من أولئك الذين كانوا يتطاولون عليه بالمساءة في أول عهده بالملك على الخصوص، ولم يكن عدد هؤلاء المسيئين بالقليل ...
كان يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة أكثر من إحساني.
وكان يقول في مجالسه: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.» وسأله بعضهم: كيف ذلك؟ فقال: «كنت إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها ...»
وخطب يوما فقال: «والله لا أحسن السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل، فقد جعلت ذلك دبر
1
أذني وتحت قدمي ...»
وحد الحلم عنده ألا يكون في العدوان والتطاول مساس بملكه وسلطانه، أغلظ له رجل فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.»
ووجه آخر غير هذه الوجوه كان من دواعي اللهج عند معاوية بفضيلة الحلم قبل غيرها من الفضائل، التي كان في وسعه أن يلهج بها كالعطاء والتدبير وعلو الهمة، وما إلى ذلك من المناقب التي يسلم له بها الأنصار، ولا يجحدها كثير من الخصوم.
كان الحلم دعاية سياسية في خصومته مع علي بن أبي طالب بما اشتهر به من فضائل الشجاعة والأمانة والتقوى.
كان الحلم صفة من أعز صفات الرئاسة عند الأمة العربية، وما نحسبها غالت قط بمحمدة من محامد الرئاسة مغالاتها بالحلم وقرينه «الحكمة» ...
وربما مدحوا الكرم والشجاعة فأكثروا فى مديحهما إكثارهم فى القول المعاد من قبيل تحصيل الحاصل ...
فأما الحلم فقد كانوا يغالون في الثناء عليه؛ لأنه محمدة يطلبونها في الرؤساء ولا تجري مجرى الصفات المبذولة لسائر المتصفين، ولما اختلف علي ومعاوية لم يكن أحد ينكر على علي شجاعته وتقواه، وسابقته إلى الإسلام وقرابته من رسول الله، فإذا شاء معاوية أن يوازيه بصفة من صفات الرئاسة؛ فتلك هي الحلم دون غيره، ودعواه فيها أنه هو صاحب الرأي والحلم والحزم، وأن عليا صاحب الشجاعة والصلاح، وقد شاعت الموازنة بينهما بهذا المعنى على ألسنة الدعاة من حزب معاوية، وكاد أن يقبلها الناقدون لعلي من حزبه لاشتداده في الحق الذي لا مثنوية فيه، وأمسك معاوية على كل لجاجة في أمر التقوى والصلاح؛ ليقول كلما نافس عليا وابنه الحسن: إن لم أكن خيركم فأنا خيركم لدنياكم.
فالحلم عند معاوية وسيلة من وسائل التحبب إلى الناس، ووسيلة من وسائل الدعاية السياسية يعزز بها حجته، ولا يستطيع أن يفخر بصفة غيرها في مقام المفاضلة بينه وبين الرجل الذي سلم له المنصف والمكابر بفضيلة الشجاعة، وفضيلة التقوى.
لا جرم كان في أخبار حلمه إفراط ومجاوزة للمألوف من أمثاله، وكان من أهله من يثور لإفراطه هذا، ويحس الهوان في عزته لما يحتمله صاحب الأمر كله في دولتهم من الجرأة عليه وعليهم، وكان يزيد - ابنه وولي عهده - أشد هؤلاء الثائرين سخطا على أبيه، يقول له كلما راجعه: «أخاف أن يعد ذلك منك ضعفا وجبنا ...» فيقول له : «أي بني! إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة، فامض لشأنك ودعني ورأيي.»
وقد يعزى غضب يزيد من ذلك الحلم «المفرط» إلى سورة
2
الشباب، وحب الاستطالة
3
بالعزة والسؤدد على عادة أترابه وأنداده، ولكن الرأي بين آل بيته «المحنكين» أنه كان يبالغ في احتمال الأذى والصبر على المساءة، وكان رجل في حنكة عبد الملك بن مروان يسمي ذلك منه دهانا، كما قال في بعض خطبه: «ما أنا بالخليفة المستضعف يعني عثمان، وما أنا بالخليفة المداهن يعني معاوية، وما أنا بالخليفة المأفون يعني يزيد.»
ومما يدل على أن الفخر بالحلم دخل في دعاية الخصومة بين معاوية وعلي خاصة؛ أننا لا نسمع به بعد تأسيس الدولة، ولا يفخر به أحد من الأمويين غير الفرع المؤسس لدولتهم في إبان النزاع الأول على الخلافة.
فالمعلوم أن بني أمية فرعان: فرع حرب، وفرع أبي العاص. وإلى حرب ينتمي أبو سفيان وابنه معاوية، وإلى أبي العاص ينتمي مروان بن الحكم ومن خلفه من ذريته، وفي مقدمتهم ابنه عبد الملك وحفيده سليمان بن عبد الملك. •••
فالمفاخرة بالحلم إنما كانت تجري على لسان معاوية، ولم تجر بعده على لسان المروانيين حين تأسست الدولة الأموية، واستغنى القائمون بها عن مقابلة فضائل علي بن أبي طالب بفضائل «سياسية» يرجحون بها أنفسهم في ميزان الخصومة.
كان معاوية يقول: إذا لم يكن الأموي حليما، فقد فارق أصله وخالف آباءه ...
وكان يقول: «يا بني أمية! فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما.»
وكان المتقربون إليه يذكرونه حلم أبي سفيان إذا أنكروا منه سورة النقمة والغضب، وقيل له بعد مقتل حجر بن عدي: أين غاب عنكم حلم أبي سفيان؟ فكان يقول: حيث غاب عني حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت، وقال للسيدة عائشة حين سألته مثل هذا السؤال: لم يكن معي رشيد ...
ولا شك أن معاوية قد أقام فخره بالحلم على سمعة قديمة في بيته بين بيوت بني أمية؛ لأن هذا الفخر لا يخلق بين يوم وليلة في البلاد العربية، التي تذكر وراثاتها وتعيدها ولا تخاطب بها من يجهلها، ومن المشهور أن حرب بن أمية أصلح بين قريش وهوازن في حرب الفجار الثانية بعد اقتتال يسير، وأن ابنه سفيان كان يتأنى، ولا يتهجم في خصومات الجاهلية وخصومات الإسلام، ولا يمتنع مع هذا كله أن يكون الفخر بالحلم من دعايته السياسية عند تأسيس الدولة، والحاجة إليه في المفاضلة بين المتنازعين بمناقب الحكم والرئاسة، وقد سكت عنه الأمويون على عهد الفرع الآخر منهم وهو فرع المروانية؛ لأنهم لم يحتاجوا إليه في منازعاتهم، بل كان منهم من يفخر بالفتك، ويسرع إلى الغضب ويرهب المخالفين له بسرعة البادرة إليه.
والوقائع بعد أصدق من إطراء المادح وغمز القادح، فإنها قد تمتزج بالكذب عمدا أو على غير عمد، ولكنها في كثير من الأحوال تنقض كلام قائلها إذا عرضت على التمحيص
4
والتحليل، فيسوقها للمدح وهي منطوية على دخيلة تبطل مديحه المقصود، أو يسوقها للقدح وما تنطوي عليه آية من آيات الثناء والمديح.
والوقائع التي رويت عن حلم معاوية متواترة متكررة، تتفق فيها الكلمات أحيانا ويختلف فيها القائلون والرواة، أو يتفق فيها هؤلاء جميعا بغير اختلاف كبير، وهكذا معظم الوقائع التي رويت عن أعلام ذلك الجيل وما بعده، فلا بد فيها من حساب للمبالغة، وحساب للترجيح والتصحيح بالمقارنة والمضاهاة.
5
وليست كل هذه الوقائع - مع ذلك - بصالحة للاستدلال بها على حلم معاوية، ولو بعد ثبوتها باختلاف أو بغير اختلاف.
فمنها ما تعرض فيه للإساءة مستدعيا لها مستعدا لها في مجال التبسط والمزاح، والعالم الإسلامي لم يتعود بعد طغيان الملك، ولم يتعود ملوكه أن يسوموا الناس الصبر على ما يكرهون، ولا يترقبوا منهم رد الكلام بمثله في كل مقام ...
قدم جارية بن قدامة السعدي عليه، فقال: من أنت؟ قال: جارية بن قدامة، قال: وما عسيت أن تكون؟ هل أنت إلا نحلة؟ قال: لا قل، فإن ما شبهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق، ووالله ما معاوية إلا كلبة تعاوي
6
الكلاب وما أمية إلا تصغير أمة!
ورويت هذه القصة على رواية أخرى، فقيل: إن معاوية بادره قائلا: «أنت الساعي مع علي بن أبي طالب والموقد النار في شعل - جمع شعلة - تجوس قرى عربية لتسفك دماءهم؟ فقال جارية: يا معاوية، دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ولا غششناه منذ صحبناه، فقال له معاوية: ويحك يا جارية! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية، لا أم لك! ... قال جارية: أم ما ولدتني، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا ... إنك لم تملكنا قسرة ولم تفتتحنا عنوة، ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق فإن وفيت لنا وفينا، وإن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا
7
وأذرعا شدادا، وأسنة حدادا، فإن بسطت إلينا فترا من غدر دلفنا إليك بباع من ختر ... قال معاوية: لا أكثر الله في الناس من أمثالك.»
وما نظن معاوية كان مخاطبا بذلك الخطاب رجلا يوصف في عصرنا هذا بأنه من «آكلي النار»، ثم لا يترقب منه جوابا كجوابه، ولعله كان يرضيه أن يسمع منه تسليما واستكانة، فيطمئن إلى غلبته ورسوخ سلطانه، ولكنه - ولا ريب - لم يغب عن ذهنه أن جارية أهل لأن يسمعه ما سمع، وأن يطرفه بتلك الطرافة اللاذعة التي لا يأباها كثير من الناس، وهي طرافة الجواب السريع المتوقع ممن يحسن رد الكلام بمثله في هذا المقام ...
ومن الجواب المستدعى - أو المستثار - قول خريم بن فاتك، وقد دخل على معاوية مشمرا مئزره، فقال له: «لو كانت هاتان الساقان لامرأة؟» وكان معاوية عظيم الأليتين يهجى، فيقال فيه: إنه الجاحظ العين العظيم الحاوية
8
فما عتم
9
خريم أن أجابه قائلا: «في مثل عجيزتك
10
يا أمير المؤمنين!» ...
وأشبه بهذا المقام حواره مع الزرقاء بنت عدي خطيبة صفين حين ذكرت في مجلسه بعد سنوات، فأرسل إليها يستدعيها، فقالت للرسول: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار لي فإني لا أذهب، فلما شدوا عليها في الذهاب دخلت المجلس ، وفيه : عتبة بن أبي سفيان، والوليد، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص. فهش لها ورحب بها، ثم سألها: أتدرين فيم بعثت إليك؟
قالت: وأنى لي بعلم ما لم أعلم ... لا يعلم الغيب إلا الله ...
فسكت هنيهة، ثم قال: ألست أنت الراكبة الجمل الأحمر في صفين تحضين الناس بين الصفين على القتال؟
قالت: نعم! ...
قال: فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال: صدقت، أتحفظين كلامك يومئذ؟
قالت: لا والله، أنسيته.
قال: لكني أحفظه، ولله أبوك حين تقولين: «أيها الناس! ارعوا وارجعوا، إنكم أصبحتم في فتنة، غشيتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء، صماء، بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكواكب لا تنير مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد.»
واسترسل في قول الرواة يعيد عليها كلامها إلى أن قال: والله يا زرقاء ... لقد شركت عليا في كل دم سفكه.
قالت: أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك، فمثلك بشر بخير وسر جليسه ...
قال: أويسرك ذلك؟
قالت: نعم ...
قال معاوية: والله لوفاؤكم بعد موته أعجب إلي من حبكم في حياته، اذكري حاجتك ...
قالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي لا أسألن أميرا أعنت عليه أبدا ...
ولكنه على هذا أجزل لها العطاء وأرضاها.
وجاءته بكارة الهلالية بالمدينة، وقد أسنت وغشي
11
بصرها، فسلمت وجلست، فرد عليها السلام، وقال: كيف أنت يا خالة؟
فقالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيرك الدهر، قالت: كذلك هو ذو غير، ومن عاش كبر، ومن مات قبر.
قال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاحتضر من دارنا
سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة
فاليوم أبرزه الزمان مصونا
وقال مروان: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة مالكا
هيهات! ... ذاك وإن أراد بعيد
منتك نفسك في الخلاء ضلالة
أغراك عمرو - للشقا - وسعيد
وقال سعيد بن العاص: هي والله القائلة:
فالله أخر مدتي فتطاولت
حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم
بين الجميع لآل أحمد عاتبا
فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين ... وأنا والله قائلة ما قالوا، لا أدفع ذلك بتكذيب، وما خفي عليك مني أكثر، فامض لشأنك، فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين ...
فضحك معاوية، وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا ...
ويتم الرواة روايتهم فيقولون: إنه قضى حوائجها وردها إلى بلدها ... •••
ولا مخالفة للمعهود في ازدلاف
12
المزدلفين لصاحب الأمر بالوقوع في خصمه بمحضر ممن يكره ذلك من خاصة أهله، فإن نجا المزدلف بزلفاه فقد رضي وأرضى، وإن أصيب كما أصاب فليست كل كلمة يزجيها
13
الملقي في مجلس الأمير مستحقة من ذلك الأمير أن يشتريها بالثمن الذي يعنته ولا تطيقه دولته في مطلعها، وقد ازدلف إليه الكثيرون فسلموا، وازدلف إليه غيرهم، فأصيبوا بحق لا يمتري
14
فيه عربيان يؤمنان بحق الجواب كما يؤمن به سائر العرب، ولا يمتري فيه مسلمان يؤمنان بالحق حيث كان، وأظهره رد العدوان في غير داعية للعدوان.
كان عنده زيد بن عمر بن الخطاب، وأمه بنت علي أم كلثوم، فنال بسر بن أرطأة من الإمام، فما أمهله زيد أن قام إليه فعلاه بالعصا وشج رأسه، فلم يزد معاوية على أن قال لزيد: عمدت إلى شيخ قريش وسيد أهل الشام فضربته؟ ثم التفت إلى بسر، فقال: تشتم عليا على رءوس الناس وهو جده وابن الفاروق، ثم تراه يصبر على ذلك؟!
وكل أولئك شبيه أن يكون: بسر بن أرطأة قاتل طفلين باليمن لعبيد الله بن عباس ينال من علي في حضرة معاوية، وزيد بن الفاروق لا يشبه أباه إن صبر على ثلب
15
جده في مكان حيث كان، ومعاوية يرضى عن سفاهة بسر أن مضت في سبيلها، ولكنه لا يبطش بزيد أن غضب لجده وأصاب السفيه بجريرة سفاهته، ولا تساوي تلك السفاهة أن يشتريها بالنكال الذي تعود عليه اللائمة فيه ولا تعود عليه منه زيادة في ملكه، وكل أولئك - كما أسلفنا - شبيه أن يكون، فلا يحسبه أحد في ذلك العصر من حلم معاوية، بل يحسبه من جبن زيد إن لم يصنع ما صنع بابن أرطأة.
وإن الأشبه بالصدق في جملة تلك الروايات أن معاوية كان يحب هذا الملق، ويحب هذه الاستثارة؛ لأنها تمتعه بذكرى الشدائد التي تخطاها بعد فوات الغاشية،
16
وتريحه إلى لقاء خصومه وهم في كنفه ينظرون إليه في مستقر نجاحه وظفره، ولا يضيرونه بقولة يقولونها لا تحول بينه وبين ملكه كما قال ...
وغير بعيد أنه كان يترك جلساءه يتحرشون بذوي اللسن من العلويين ليضحك مما ينالهم كما يفعل ذوو السلطان في كل زمن وكل أمة، فربما كانت سخريتهم بالأنصار أمتع لهم من صد الخصوم، وقد يطلقون بعضهم على بعض؛ ليسخروا منهم جميعا إن لم يكن لهم خصوم يعرضونهم للسخرية طائعين أو كارهين. •••
وقد اجتمع من سجال
17
بني هاشم وخصومهم في مجلسه ما ينعقد به سجل خاص في مأثورات الحوار في كل مقام، ويصحح وقوعه في رأينا أنه لو حدث لما أمكن حدوثه على غير ذلك النمط الذي تناقله الرواة.
أناس من ذوي السلطان المحدث يعلمون هوان أقدارهم مع بني هاشم وآل النبي وصفوة قريش، ويلذ لهم أن ينعموا بالسلطان وأن «يجتروا» تلك النعمة حيثما وسعهم اجترارها في حضرة وليهم، وعلى مسمع من السادة الأعلين الذين غلبوا على ذلك السلطان، وإن ولي الأمر نفسه ليحب ذلك ولكنه يعلم أنه مركب غير مأمون، وأن الموتورين إذا سمعوا ما يكرهون فردوه بمثله فما في وسعه أن يواجه العالم الإسلامي كل يوم بشهيد من آل البيت ... فسبيله أن يصطنع المخالفة لجلسائه، وأن يحذرهم مغبة اللهو بهذه الملهاة، ولا أمان فيها من لسن القوم وأنفتهم التي لم تخذلهم قط في مقام المناظرة والتحدي من زمن قديم، فإن أصيب جلساؤه فعليهم وزر عملهم، وليس لهم أن يطالبوه بالاقتصاص لهم من أمر قد اختاروه على خلاف رأيه، وإن سلم أولئك الجلساء فقد شفوا صدره من أولئك الموتورين.
وتكاد القصص مع بني هاشم في مجلس معاوية تجري كلها على وتيرة واحدة: رجل من آل البيت يدعى إلى المجلس، أو يأتي إليه في أمر من أموره، فيغرى به جليس من الحاشية يتحرش به ويستثيره فيجاب بما هو أهله، ويتغاضب معاوية على الجليس فيلومه إذا بلغ الجدال والمحال
18
فصل المقال، وما نرى أن الملهاة كلها كانت مدبرة؛ لكي تنتهي إلى خاتمة أخطر من هذه الخاتمة، وماذا عليهم إذا استطال الموتورون بالمقال وهم يستطيلون بالسلطان؟ •••
إلا أن حديثا واحدا من أحاديث بني هاشم يخالف هذا النمط، ولا يستقيم مع سائر هذه الأحاديث، فلم يكن البادئون به من جلساء معاوية، ولا من آل البيت، ولكن البادئ به معاوية نفسه على نحو لا يشبه طريقته المأثورة من التقية
19
والمداراة، وليس فيه نفع له في شأن من شئون الملك، أو خاصة من خواص أمره تستوجب ذلك الحديث.
قيل: إنه تحدث إلى ابن عباس، فقال له: إن في نفسي منكم لحزازات
20
يا بني هاشم، وإني لخليق أن أدرك فيكم الثأر وأنفي العار، فإن دماءنا قبلكم وظلامتنا فيكم، فقال له ابن عباس: والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسدا مخدرة وأفاعي مطرقة، لا يفثأها كثرة السلاح ولا تعضها نكاية الجراح، يضعون أسيافهم على عواتقهم، ويضربون قدما قدما من ناوأهم ...
إلى أن قال في رواية الرواة: «فلتكونن منهن بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم ... ورفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها لكنت شلوا مطروحا بالعراء ... وما أقول هذا لأصرفك عن عزيمتك، ولا لأزيلك عن معقود نيتك، ولكنها الرحم تعطف عليك، والأواصر توجب صرف النصيحة إليك.» فقال معاوية: لله درك يا بن عباس، ما تكشفت الأيام منك إلا عن سيف صقيل ورأي أصيل، والله لو لم يلد بنو هاشم غيرك لما نقص عددهم ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم. •••
وإن دواعي الشك في مثل هذا الحديث لكثيرة، لولا أن التلفيق فيه أعسر من أن يتاح لكل راوية يضع الكلام على كل لسان، ولا يبالي أين موضعه من القائل والمجيب.
فإن كان معاوية قائلا مثل ذلك المقال لأحد من بني هاشم؛ فإنما يقوله لعبد الله بن عباس دون غيره، فإنه حديث داهية يسبر
21
به غور داهية يقارنه من بيت خصومه، وإنه مع ذلك قرين تجمعه آصرة القرابة بآل علي، ولا تجمعه بهم آصرة المودة والموافقة جد الموافقة على الوجهة، وقد تخلى ابن عباس عن ولاية ابن أبي طالب، ووقعت بينهما الجفوة التي لم تصلحها حوادث الأيام بعد ذلك، ولا منافسة بين علي وأبنائه في حياته ولا بعد مماته، وإنما المنافسة بينه وبين أعمامه وبني عمومته؛ إنما المنافسة بين اثنين أحدهما ابن عم للنبي هو أبو طالب، والآخر ابن عم للنبي هو العباس ...
وأي فائدة كبرى كان يفيدها معاوية لو سمع من ابن عباس كلمة تفتح الباب للتفرقة بينه وبين سائر الهاشميين العلويين؟ أي فائدة كان يفيدها لو رأى من دهاء ابن عباس أنه يمهد لنفسه عند السلطان الجديد، ولا يزيد على التشفع لغيره من سائر أهل البيت؟
إن غرابة هذه القصة هي التي ترجحها وتضعف الشك فيها، فإنها إن وقعت لن تقع إلا على غرابتها ...
إنها غريبة من معاوية إلا أن تكون مقصودة لغير ظاهرها مع رجل له ظاهر وباطن يستطلع بهذه المفاجأة، ولا يستطلع بغيرها، وقد يبدو منه ما تنكشف به جلية الموقف بينه وبين سائر بني هاشم، وكل بني هاشم غير عبد الله بن عباس فظاهرهم وباطنهم لا يختلفان إذا سمعوا مثل ذلك النذير ...
هذا أو تكون نفثة من نفثات الكظم تنطلق منه حيث يقدر الأمان مع رجل يخفي باللسان ما لا يضمره الجنان. •••
وأمثال هذه الردود الخشنة جميعا لم تكن في ذلك العصر مما يستكثر في مناسباتها، وقد سمعها معاوية - أو سمعها جلساؤه معه - متوقعة مستثارة، ولم يتعود الناس يومئذ أبهة الملك وطاعة العبيد للسادة، ولم يتعود الأمير كذلك أن يسوم الناس سكوتا في موضع القول، وإغضاء في موضع الأنفة، وإنما كان الأمير خليفة يتشبه بالخلفاء الراشدين في حق الطاعة، ولم يعد أحد من هؤلاء الخلفاء أن يخاطب إنسانا بما يسوءه، ثم يستكثر عليه أن يجيبه بمثل خطابه، فهذه «هرقلية» لم يتعودها الرعاة ولا الرعايا، ولم يكن في طاقة معاوية أن يروض رعاياه عليها دفعة واحدة، فإذا تمهل فيها آونة بعد آونة، فإنما يكون التمهيل بمثل ذلك الصبر على كره أو على اختيار.
ومن الوقائع التي رويت عنه، وقائع يلتبس فيها الحلم وبطء الغضب وطول الروية والأناة، ومنها ما يتلقى فيه الإساءة أو الوعيد على البعد، ويتسع له الوقت قبل الإجابة عنها بما يروي فيه النظر ويرتضيه.
عدا عبيد لمعاوية على أرض ابن الزبير؛ فكتب إليه ابن الزبير: «أما بعد يا معاوية، إن لم تمنع عبيدك من دخول أرضي وإلا كان لي ولك شأن.»
وقيل: إن معاوية أطلع ابنه يزيد على كتاب ابن الزبير، وسأله: ما ترى؟ فقال له يزيد: لتنفذن إليه جيشا أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه.
فقال: بل عندي يا بني خير من ذلك، وكتب إلى ابن الزبير:
وقفت على كتابك يا ابن حواري
22
رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وساءني والله ما ساءك، والدنيا هينة عندي في جنب رضاك، وقد كتبت على نفسي رقيما
23
بالأرض والعبيد وأشهدت على ما فيه، ولتضف الأرض إلى أرضك والعبيد إلى عبيدك، والسلام.
فجاءه الجواب من ابن الزبير يقول فيه: «وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام ...»
وأطلع معاوية ابنه على الكتاب الثاني كما أطلعه على الكتاب الأول فأسفر
24
وجهه، وأبوه يقول: إذا رميت بهذا الداء فداوه بهذا الدواء.
ومن الإساءات ما لا خطر له؛ لأنه من غير ذي شأن كشأن ابن الزبير، ولكنه يغضب العربي؛ لأنه يمس الحرمات كتشبيب عبد الله بن حسان برملة بنت معاوية إذ قال:
رمل ... هل تذكرين يوم غزال
إذ قطعنا مسيرنا بالتمني
إذ تقولين: عمرك الله هل شي
ء، وإن جل، سوف يسليك عني؟
فغضب يزيد وأغرى كعب بن جعيل بهجاء الأنصار فأبى، ودله على الأخطل فنظم قصيدته التي يقول منها:
ذهبت قريش بالمكارم كلها
واللؤم تحت عمائم الأنصار
وأوشكت أن تكون فتنة؛ إذ دخل النعمان بن بشير على معاوية محنقا وحسر عن رأسه وهو يقول له: هل ترى يا معاوية لؤما؟ ... فقال: بل كرما وخيرا، فما بالك؟ ... فأعاد عليه أبيات الأخطل وتوعده بأبيات يقول منها:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف
لحى الأزد مشدودا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم
25
ضلة
وماذا الذي يجدي عليك الأراقم
فما لي ثأر دون قطع لسانه
فدونك من يرضيه عنك الدراهم
وتنم القصة بما قيل عن طلب معاوية للأخطل، وتهديده إياه بقطع لسانه لولا شفاعة يزيد الذي أغراه بالهجاء.
وفي رواية من هذه الروايات الكثيرة أن التشبيب إنما كان بأخت معاوية، وأن يزيد دخل على أبيه فذكر له قول عبد الرحمن بن حسان:
طال ليلي وبت كالمجنون
ومللت الثواء
26
في جيرون
فقال له: وما علينا يا بني من طول ليله وحزنه؟ أبعده الله ...
قال يزيد: وإنه ليقول:
فلذاك اغتربت بالشام حتى
ظن أهلي مرجمات الظنون
فقال أبوه: وما علينا من ظن أهله؟
قال يزيد: وإنه ليقول:
هي زهراء مثل لؤلؤة الغو
واص ميزت من جوهر مكنون
قال معاوية: صدق يا بني، هي كذلك.
قال يزيد: وإنه ليقول:
ثم خاصرتها إلى القبة الخض
راء تمشي في مرمر مسنون
عن يساري إذا دخلت إليها
وإذا ما تركتها عن يميني
فضحك معاوية وقال: ولا كل ذاك ... ثم حذر ابنه قائلا: ليس يجب القتل في هذا ولكننا نكفه بالصلة ...
وزعموا في بعض روايات القصتين أن معاوية أرسل في طلب الشاعر، وأبلغه أن هندا أخت رملة تعتب عليه؛ لأنه لا يسويها بأختها، وأراد بذلك أن يشبب الشاعر بهند فيعلم الناس أنه كاذب في كل ما نظم، وأنها أقاويل الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون.
والثابت من كل هذا الحديث بيت الأخطل في هجاء الأنصار، وربما ثبت مثله هجاء الأراقم قوم الأخطل من تغلب، فإذا كان قد دخل في الأمر تشبيب بأخت يزيد أو بعمته؛ فربما هون خطره غضب الأنصار وغضب المسلمين جميعا أن يهجو أنصار النبي شاعر من غير المسلمين، ولو أن المسألة خلصت من هذا الحرج؛ لما جاز قتل الشاعر من جراء لغوه كما قال معاوية، فما كان سفك الدم لمثل هذا القول بالأمر المستباح في صدر الإسلام، وقد مضى بعد هذا الجيل أجيال على سنة الملك العضوض،
27
ولم يخطر للمهدي في دولة بني العباس أن يقتل بشارا وهو القائل في أبي جعفر المنصور:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم
ولا سالم عما قليل بسالم
كأنك لم تسمع بقتل متوج
عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم
بل هو الذي أفحش في هجاء المهدي وهجاء نساء بيته، وذهب يخبط بالمهايجة والتحريض بين بني أمية وبني العباس، وما استباح المهدي عقابه إلا بتهمة الزندقة والإلحاد، وما أمر إلا بأن يضرب ضرب التلف؛ ليقال في ذلك: إنه إنما أريد به الضرب فمات.
وهذا بشار وذاك عبد الرحمن بن حسان.
ففي وزن الرجال وتمحيص الأخلاق وفهم الطبيعة الإنسانية - أي: فهم الإنسان - لا جدوى من التعويل على ألفاظ الصفات، ولا بد من الرجوع إلى الوقائع وما لها من الأثر الطبيعي في الضمير، وما ينم عليه هذا الأثر من خليقة نفسية أو ملكة عقلية.
وهذه الوقائع التي رويت عن معاوية تبدي لنا منه صفة لا شك فيها، وهي طول الأناة وبطء الغضب، وليست هي بالصفة التي ترادف الحلم كما يفهم لأول وهلة، إذ كثيرا ما يكون بطء الغضب شيئا «سلبيا» يدل على امتناع الغضب طبعا أو قلة الاستعداد له في الخلقة، ولا تكون الفضيلة أبدا «شيئا سلبيا» قوامه غياب أثر من الآثار النفسية وكفى.
فليس معنى الشجاعة - مثلا - تجرد الطبع من الشعور بالخوف؛ لأن الإنسان الذي يقدم على الخطر وهو لا يشعر به، يندفع اندفاع الجماد ولا فضل له في اندفاع لا يكلفه الغلبة على خوف يساوره في ضميره. •••
وليس معنى الكرم تجرد الطبع من الشعور بقيمة المال أو قيمة المنحة المبذولة؛ لأن من يتصرف في شيء لا قيمة له عنده، كمن يتصرف في التراب والهواء، وما إليهما من مبذول العطاء.
وليس معنى العفة تجرد الطبع من الشعور بالشهوات؛ لأن من لا يشتهي لا يطلب ولا يقاوم الإغراء، ولا تحسب له عفة.
وليس معنى الحلم تجرد الطبع من الشعور بالغضب؛ لأن التجرد من هذا الشعور قد يأتي من بلادة في الطبع وركود في حركة النفس، ومقابلة العوامل الطبيعية بما يناسبها من الانفعال.
وإنما الحلم أن يغضب الإنسان وأن يحكم غضبه بإرادته؛ إيثارا لأمر يفوق الغضب في قيم الأخلاق ...
فمن الحلم أن يأنف الإنسان من الاستسلام للغضب؛ لأنه يرتفع بكرامته أن تصيبها إساءة المسيء.
ومن الحلم أن يصفح الإنسان عن الإساءة؛ إيثارا للخير وعطفا على المسيء كما يعطف الأب الرحيم على الولد الجاهل بما يصنع في حق أبيه.
ومن الحلم أن يقمع الإنسان غضبه؛ لأنه يملك زمام نفسه، ويوازن بين العواقب فيختار أسلمها للناس عامة، وإن يكن أسلمها له في ذات شأنه وشئون ذويه ...
ولا بد من التفرقة هنا بين الحلم إيثارا للنفع القومي، وبين الحلم إيثارا للسلامة وعملا بطبيعة «الأنانية» وحب الذات.
فليس من الحلم أن يضرب الضعيف، فلا يرد الضربة بمثلها؛ لأنه يعلم أنه سيتلقى أضعافها ممن هو أقدر منه وأقوى على إيذائه، وإنما يقال عن هذا: إنه جبن أو رضا من المعتدى عليه بأهون الشرين.
ولا يكون الحلم أبدا عجزا عن مجاراة الغضب أو امتناعا للشعور به؛ لأن الفضيلة لا تقوم على عجز أو امتناع، ولكنها تقوم على إرادة تملك الاختيار بين الخطتين ... •••
وجملة القول في هذه الصفة أن الحليم هو الذي يملك الغضب ولا يملكه الغضب، وكلما اشتد الغضب واشتدت القدرة عليه؛ كان ذلك أبين عن الحلم وأدل عليه، وكلما ارتفع السبب الذي من أجله يتغلب الحليم على غضبه كان ذلك أرفع لقدره، وأرجح لوزنه في ميزان الفضيلة، فمن يحسم الغضب حرصا على منافع الناس أحلم وأكرم ممن يحسم الغضب حرصا على منافعه العاجلة أو الآجلة؛ ومن يحسم الغضب لأنه يشمل الناس بحبه وعطفه أحلم وأكرم ممن يحسم الغضب؛ لأنه يحب نفسه ويقدم حبها على كل حب لغيره.
ومن كلام حكماء العرب وبلغائهم نستشف
28
فطنتهم لحقيقة هذه الفضيلة، فهي فضيلة المريد المختار المالك لزمام الأمرين، كما قال ابن خليفة مولى قيس بن ثعلبة يمدح قوما من آل شيبان:
عليهم وقار الحلم حتى كأنما
وليدهم من أجل هيبته كهل
إن استجهلوا لم يعزب
29
الحلم عنهم
وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل
أو كما قال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر
30
تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم متى ما أورد الأمر أصدرا
ومن كلام الأحنف بن قيس - أحد مشاهيرهم بالحلم: «رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه.»
وكان من حلمه أنه يصفح عن المسيء، وإن ظن به الذل ويقول: «ما أحب أن لي بنصيبي من الذل حمر النعم.»
31 ... فلما قيل له: كيف وأنت أعز العرب؟ ... قال: «إن الناس يرون الحلم ذلا ...»
وهو القائل: «لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان ...»
وسألوه: ما الحلم؟ ... فقال: «قول إن لم يكن فعل، وصمت إن ضر قول ...» •••
وروى العقد الفريد أن هشام بن عبد الملك سأل خالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟ فقال: إن شئت أخبرتك بخلة، وإن شئت بخلتين، وإن شئت بثلاث ...
قال: فما الخلة؟
قال: كان أقوى الناس على نفسه.
ثم قال عن الخلتين: إنه كان موقى الشر ملقى الخير، وعن الثلاث: إنه كان لا يجهل ولا يبغي ولا يبخل.
وأستاذ الأحنف في الحلم قيس بن عاصم المنقري كان مشهورا بالإقدام كشهرته بالحلم والإغضاء عن الذنب كبيره وصغيره، وبلغ من حلمه أنه صفح عن ابن أخيه الذي قتل ابنه، وقد أوثقه من ود أن يبطش به لساعته، فما زاد على أن قال له مؤنبا: «بئس ما فعلت، نقصت عددك، وخنت عشيرتك، وأسقطت مروءتك، وأشمت عدوك ، وأسأت قومك ... وأنت الذي كنا نرجو لعظائم الأمور.» ثم واسى زوجته أم القتيل وأجزل لها الدية من ماله، وحسم بذلك شرا مستطيرا في القبيلة لا يجعله عنده أخطر من شر الثكل إلا الحلم الراجح، والقلب الكبير، والنظر البعيد. •••
ويمر بنا مثل من الأمثلة الصالحة لتقويم الروايات، ورواتها بصدد الأخبار التي نقلها صاحب العقد الفريد عن الحلم والحلماء، ومنهم الأحنف ومعاوية ...
فابن عبد ربه ينقل لنا أن الأحنف سئل: من أحلم ... أنت أم معاوية؟ فقال: تالله ما رأيت أجهل منكم، إن معاوية يقدر فيحلم وأنا أحلم ولا أقدر، فكيف أقاس عليه أو أدانيه؟
فإذا سمع السامع المتعجل هذا فحري أن يتقرر لديه رجحان معاوية في الحلم بشهادة الرجل الذي يضرب به المثل في حلمه، وأي شهادة عسى أن تكون أصدق من هذه الشهادة؟!
وما هي إلا معاودة لحظة في السؤال والجواب حتى يتقرر على خلاف ما تقدم أن السؤال كان لا يحتمل جوابا غير ذلك الجواب، لو أنه سؤال ما كان ينبغي أن يتوجه للأحنف، ويترقب سائله أن يقول له: بل أنا أحلم من معاوية! ... وقد كان الأحنف خاصة يرى من عرف الحلم أن يستصغره، وأن يقول عن نفسه كما نقل صاحب العقد قبل ذلك بسطر واحد: لست حليما ولكنني أتحالم. •••
ولو أن الأحنف قال برأيه ذاك اعتقادا ولم يقل به تواضعا أو تحالما؛ لكان على خطأ لا يخفى عند النظرة اليسيرة في أسباب تفضيله معاوية على نفسه ... فما هي القدرة التي كانت مطلوبة من الأحنف في مقامه؟ لقد كان يكفيه أن يقدر على كلمة لا يعجز عنها أحد، وكان يكفيه أن يمسك تلك الكلمة فيكون أقوى الناس على نفسه كما وصفه خالد بن صفوان، وأما الملوك فالمطلوب منهم أعمال لا يقدرون عليها في كل وقت ولا مع كل أحد، إلا أن يكون المقصود بالقدرة طياشة جامحة تخبط ما تشاء بغير مبالاة، وليس قصارى الحليم أنه غير الطياش وغير الخابط الذي لا ينظر إلى عقباه.
ويوزن الراوي في روايته هذه، فلا نجهل موقع الهوى فيما يشاع عن حلم معاوية، ويسر انتقال الإشاعة من قائل إلى قائل ومن ناقل إلى ناقل، فما في هوى الأندلسيين لبني أمية من خفاء ودولتهم الأولى أموية في أساسها. وابن عبد ربه نفسه حفيد لسالم القرطبي مولى هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وأقل ما يقال في نقل ابن عبد ربه لكلمة الأحنف أنها تزكية لرأس الدولة الأموية رحب بها ووافقت هواه.
ونعود إلى تاريخ معاوية فيما قاله وفيما سكت عن قوله منذ نشأته الأولى، فلا نجد فيه أثرا واحدا لطبيعة الغضب التي تمتحن بها فضيلة الحلم كما امتحنت في نفس الرجل الحزين في صدمة الثكل، وهو المقتحم المغوار في الجاهلية والإسلام.
ونخال أن التاريخ لم يحفظ لنا غير حادث واحد يفتح لنا مغاليق هذه الخليقة في طوية الرجل، فإنها في الحق لغز لا يكفي لحله مجرد القول بالحلم أو الغضب المكبوت أو بطول الأناة، وإنما يحله علم النفس الحديث على النحو الوحيد الذي يعطينا منه معنى مفهوما على وجه من الوجوه ...
ذلك الحادث هو مقتل حجر بن عدي وأصحابه لغير ضرورة عاجلة، ولا مصلحة آجلة، فما كان له من خطب غير أنه واحد من أولئك الذين قال فيهم معاوية: إنه لا يحول بينهم وبين ألسنتهم؛ لأنهم لا يحولون بين بني أمية وملكهم، فإن كان لا بد من إسكاته فقد يسكته أن يحملوه إلى مكان لا يلقى فيه من يستمع إليه. •••
قال ابن الأثير بعد أقاويل شتى: «إن زيادا خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر بن عدي: الصلاة! ... فمضى في خطبته ... فقال: الصلاة! ... فمضى في خطبته ... فلما خشي حجر بن عدي فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من حصى، وقام إلى الصلاة، وقام الناس معه، فلما رأى زياد ذلك نزل فصلى بالناس، وكتب إلى معاوية وكثر عليه، فكتب إليه معاوية ليشده بالحديد ويرسل إليه، فلما أراد أخذه قام قومه ليمنعوه، فقال حجر: لا، ولكن سمعا وطاعة ، فشد في الحديد وحمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: أأمير المؤمنين أنا؟ ... والله لا أقيلك
32
ولا أستقيلك
33 ... أخرجوه فاضربوا عنقه، فقال حجر للذين يلون أمره: دعوني حتى أصلي ركعتين، فقالوا: صل، فصلى ركعتين خفف فيهما، ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أردت لأطلتهما، وقال لمن حضر من قومه: والله لا تطلقوا عني حديدا ولا تغسلوا عني دما، فإني لاق معاوية غدا على الجادة، وضربت عنقه.»
ودهش الناس لهذه المقتلة الجزاف، واهتز لها العالم الإسلامي هزة عنيفة أورثته مبغضة لدولة بني أمية من تلك المبغضات التي كمنت وطالت حتى نسيت أسبابها وبقيت نوازعها، وظل شبح الشهيد الوقور يساور معاوية إلى يوم وفاته، فجاء في رواية ابن سيرين: «إن معاوية لما حضرته الوفاة، جعل يقول: يومي منك يا حجر طويل.»
ولا يحاط بعوارض الفزع التي ألمت بالعالم الإسلامي من جراء هذه المقتلة الباغية، ولكنها قد تتمثل في عارض واحد يدل على كثير، فإن الخبر الذي ذاع عن تسيير حجر وأصحابه إلى دمشق لم يكد يصل إلى السيدة عائشة بالحجاز حتى أوفدت عبد الرحمن بن الحارث يتشفع فيه وفي صحبه، وهي لا تنسى أن أعوان معاوية قتلوا أخاها محمدا شر قتلة، ولا يخفى عليها غلو حجر وأصحابه في حب علي وشيعته، وبينها وبين العلويين من الجفوة ما هو معلوم.
وقد فات معاوية كل عذر في هذه المقتلة حتى ما كان من عذر واه كعذر ابنه يزيد في مقتلة الحسين، فإن يزيد قد أحال الذنب على عبيد الله بن زياد، وانعكست الآية في أمر معاوية وحجر، فكان زياد هو الذي نفض يديه من وزر هؤلاء الشهداء وألقاه على مولاه، وضاق مولاه بانتحال المعذرة بعد حين، فكان جوابه لسائليه مما يخجل الطفل بين الصغار فضلا عن العاهل بين الساسة وفي ذمة التاريخ ... قال له عبد الرحمن بن الحارث: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ ... فقال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي ... وحملني ابن سمية فاحتملت ... وسألته السيدة عائشة تقول: لولا أنا لم نغير شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشد منه؛ لغيرنا مقتل حجر ... أما والله إن كان لمسلما حجاجا معتمرا، وكان الحسن البصري الزاهد المعروف يقول: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة؛ لكانت موبقة،
34
ثم أحصاها وذكر منها مقتل حجر: «فيا ويلا له من حجر، يا ويلا له من حجر، يا ويلا له من أصحاب حجر.»
وفي رثاء حجر تقول هند بنت زيد الأنصارية:
تجبرت الجبابر بعد حجر
وطاب لها الخورنق
35
والسدير
فإن يهلك فكل زعيم قوم
من الدنيا إلى هلك يصير
ومعذرة معاوية هذه خليقة أن تدعونا إلى تصديق الوصية، التي أوصاه بها أبوه حين سافر إلى الشام، فقد يستكثر على معاوية أن يؤمر بمراجعة أبيه في كل كبيرة وصغيرة قبل أن يحدث بينه وبين أحد أمرا في خصومة أو قطيعة، وقد يستكثر عليه أن يصفعه صافع، فلا يقتص لنفسه حتى يسأل أباه ويترقب الجواب منه، فإذا كان الرجل يرتضي من معاذيره أن يقوده ابن سمية فينقاد؛ لأنه لم يجد حوله رجلا رشيدا، فليس بالكثير أن يؤمر بمراجعة أبيه في شتم شاتم وضرب ضارب، وهو في مقتبل الشباب قبل الولاية وقبل الخلافة.
ولسنا نفهم من ذلك أن معاوية كان في حكم القاصر في شبابه وكهولته، ولكننا نفهم أن أباه كان يعرفه، وكان يعرف أنه لا يحتكم إلى طبيعة تغضب من الأمور بمقاديرها.
حدث صاحب العقد الفريد في الجزء الأول عن أبي حاتم عن العتبي قال: «قدم معاوية من الشام وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب، فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟! هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك، قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئا أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية، فقال معاوية: إن أبي أمرني ألا أقضي أمرا دونه، فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية، فقال: لهذا بعثت إلي؟ أخوه وابن عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له.»
وصاحب العقد - على هواه الأموي - يسوق هذه القصة في سياق الثناء، ولسنا نفهم من ذلك أن أباه كان يعرف، وكان يعرف أنه لا يحتكم إلى طبيعة تغضب من الأمور بمقاديرها، وأنه إذا غضب يتغاضب بالرأي والاختيار فيخطئه التقدير.
وموقفه مع حجر وأصحابه ظاهرة نفسية معهودة في الطبائع التي تصدم، فتقبل الصدمة وتحذر من الاندفاع، ولكنها إذا تركت بلا صدمة تردها لم تعرف حدود الارتداد، ولا تأبى أن تستسلم للاندفاع.
تلك الظاهرة من مورثات طبيعة المطاردة في الإنسان وفي الحيوان أو السبع من قبله ... فقد علم المراقبون لطبائع الحيوان أن المطاردة عنده تقوم على حركات متتابعة، ولا تقوم على حركة واحدة، فإذا لمح الحيوان من خصمه أنه يجفل منه أخذ في الهجوم، وإذا عدا خصمه أمامه أخذ في العدو وراءه، وإذا أدركه ولم يجد منه مقاومة تمادى في صرعه وافتراسه، ولعله لو وقف أمامه رابط الجأش من مبدأ الأمر لم تتنبه فيه حركة الهجوم، فحركة المطاردة، فحركة اللحاق والافتراس، وعرف صادة الأسود - وهي أخطر السباع - أنها تتردد إذا واجهها الإنسان ثابت النظر، راسخ القدمين. •••
وقد دخل حجر على معاوية، ومعاوية ينتظر منه صدمة يتبعها حذر فانتباه لواجب الحلم والأناة، فلما دخل حجر محييا له بالإمارة وزال الحاجز الأول؛ زالت معه الحواجز الأخريات، ولم يعلم الرجل أين يكون الوقوف ...
ونظن أن هذه الخليقة قد أوشكت أن تبرز في طوية معاوية من وعيه الباطن إلى وعيه الظاهر، ومن ذاك قوله: «إذا شد الناس شعرة أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها.» أو قوله: «إذا طرتم وقعنا، وإذا وقعتم طرنا.» أو قوله لزياد: «كن أنت للشدة ولأكن أنا للين.»
فهو يتلقى وحي طبيعته من الصدمة التي تلقاه، فإن لم تكن صدمة فهناك الحيرة التي لا تخرجه منها طبيعة تلوذ بالغضب على قدرة، فلا تقف حيث ينبغي لها الوقوف، ولو كان للغضب عنده أثره المطبوع لانتظر الناس حلمه حيث يغضبون، وانتظروا غضبه حيث يحلمون، وكثير من أمثال هذه الخليقة تلقاه بيننا كل يوم، فيقول القائل عن الرجل من أصحابها لو أنك شددت عليه لأرضاك وحمدت أثر الشدة عليه!
ويستدعينا ختام هذا الفصل تفرقة أخرى كالتفرقة بين الحلم وامتناع الغضب، وهي التفرقة بين الطموح إلى الزعامة والصولة، والطموح إلى الشرف الاجتماعي والوجاهة السياسية.
فالطموح إلى الزعامة والصولة مزاج حيوي يدخل في تركيب البنية، ويدفع صاحبه كما تدفعه وظائف الجسد، فلا يستريح أو يقود الأمم قيادة الزعامة، ويصول بعظمة الرئاسة والعلو على الأقران والأتباع.
والطموح إلى الشرف الاجتماعي تقليد من تقاليد المجتمع يحرص عليه من توارثوه حرصهم على الحطام، وبسطة العيش ووجاهة الأسرة والبيت، ويغلب عليه أن يكون تراثا متخلفا من الآباء للأبناء يغض من الأبناء أن يتخلوا عنه، ويروا غيرهم في مكانه.
ولا يلزم من الطموح إلى الشرف الاجتماعي أن يكون صاحبه مطبوعا على الصولة والعلو، وطلب الطاعة والخضوع، وقد يلجأ صاحبه إلى المداورة واللين والخضوع لهذا والمصانعة لذاك؛ ليحتفظ بالتراث الذي صار إليه أو يرجو أن يصير إليه. •••
ونحن في قرانا نشهد المثال على كل من النموذجين في كل قرية وكل إقليم، فبينا يستميت «بيت العمدة» في استبقاء وجاهته، ويلين من أجل ذلك للحاكم وصاحب الأمر وأعوانه على المكانة الموروثة، ينهض رجل آخر مطبوع على الأنفة والصولة، فيستطيل على تلك المكانة، وينازع في تلك الوجاهة، ولا يستريح إلا إذا أمر وتحدى وملك زمام العزة بالمقال والفعال ...
وبنو أمية عامة، ومعاوية خاصة من أصحاب «المظهر الاجتماعي»، وليس فيهم غير القليل النادر من أصحاب الطموح إلى الزعامة والصولة، كما تكون في بنية المزاج وتركيب الخلق والجسد، وقد صبر معاوية على ألوان من الخضوع في طلب وجاهته السياسية لا يصبر عليها كثير من عامة الناس؛ لأنه يطلب تلك الوجاهة بتقليد وراثي، ولا يطلبها بنزعة غلابة في الطبيعة والتكوين.
واحتاج أن يقول مرة كما جاء في الطبري مسندا إلى سعيد بن سويد: «ما قاتلتكم لتصوموا، ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم.»
وهي قولة لم يقلها أحد غيره من المطبوعين على الصولة والزعامة؛ لأنهم لا يحتاجون إليها؛ ولكنه قالها لأنها جثمت على صدره لطول ما صبر على مجابهة هذا ومصانعة ذاك، وتذكير المذكرين إياه أنه لم يملكهم عنوة ولا فتحا، بل ملكهم المشارطة والاتفاق ... فنفس عن صدره بتلك الكلمة، ولم يحدث من غيره أنه شعر بالحاجة إلى تنفيس كذلك التنفيس. •••
لقد كان في الرجل مشابهة للجمل الصبور، ولم تكن فيه مشابهة للأسد الهصور
36 ...
كان يصفح لأنه لا يغضب، وكان يحمل على كاهله، وفي طوايا نفسه ما ينوء
37
غيره بحمله، وكان يصبر الصبر الطويل على بلوغ الجاه حيث لا يطاق هذا الصبر مع نزوع الطبيعة السوارة
38
إلى الزعامة والصولة.
كان حلمه امتناع غضب، وكانت همته تقليد وراثة وحلية وجاهة ... وقد قال مرة أو مرات: «إن السلطان يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد ...»
ولكنه حين غضب غضبته الآبدة في مقتل حجر وصحبه لم يغضب غضب الصبي وحسب، بل التمس العذر، مجفلا من غضبته، فلم يفتح عليه بغير عذر الصبي بين يدي الفقيه.
خليقة أموية
تميزت لبني أمية في الجاهلية وصدر الإسلام خلائق عامة يوشك أن تسمى - لعمومها بينهم - خلائق أموية، وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالخلائق الدنيوية أو النفعية، ويراد بها أن المرء يؤثر لنفسه ولذويه، ولا يؤثر عليها وعليهم في مواطن الإيثار.
وهذه الخلائق أعون لنا على التعريف بمعاوية من الخلائق التي ينسبها إليه المادحون والقادحون؛ لأن المادحين والقادحين قد يصدرون عن غرض، وقد ينوون الصدق، ولكنهم يخطئون في أمر الرجل الواحد، أما الأخلاق التي تعم قبيلا بأسره في أجيال متتابعة، فهي أصعب تلفيقا على الملفقين، وأصعب خطأ على المخطئين، فإن الإجماع على الخطأ نادر في أخبار الناس كالإجماع على الصواب.
وهذه الخلائق الأموية دنيوية نفعية كما قدمنا، تميل بالمتخلقين بها إلى مناعم الحياة، وتحبب إليهم العيش الرغد والمنزل الوثير،
1
وتغريهم بالنعم واللذات يغدقونها على أنفسهم وعلى الأقربين، فهي عندهم قسطاس البر بمن يحبون كما يحبون.
وقد عرف خيارهم، دينا وصلاحا، بهذه الخلائق الأموية كما عرف بها كثيرون منهم لم يشتهروا بدين ولا صلاح.
فما عرف من بني أمية أحد أصلح من عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وما تكلم متكلم عن هذين العلمين الرفيعين من بني أمية، فاستطاع أن يسكت عما طبعا عليه من حب النعمة، ووجاهة الدنيا على أحسن ما يروى عن الأمويين.
كان عثمان - رضي الله عنه - يقول عن نفسه، كما جاء في كتاب الرياض النضرة: «كنت رجلا مستهترا
2
بالنساء.» وكان استهتاره بهن أن يكثر من الزواج ...
وحب عثمان لاتخاذ المباني والعمائر مشهور، وحبه لاختصاص ذوي قرباه وإغداق النعمة عليهم مشهور كذلك، وكله مما أحصاه عليه الثائرون، ووجدوا فيه متسعا للتزيد والادعاء.
وعاش بعد الإسلام محبا للطعام الدسم والصحاف المنتقاة، فحدث عمرو بن أمية الضمري عنه قال: «إني كنت أتعشى مع عثمان خزيرة من طبخ من أجود ما رأيت، فيها بطون الغنم، وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟ ... فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط، فقال: يرحم الله ابن الخطاب، أكلت معه هذه الخزيرة قط؟ قلت: نعم، فكادت اللقمة تفرث من يدي حين أهوى بها إلى فمي، وليس فيها لحم، وكأن أدمها السمن ولا لبن فيها، فقال عثمان: صدقت! إن عمر - رضي الله عنه - أتعب والله من اتبع أثره، وإنه كان يطلب بثنيه - أي: منعه - عن هذه الأمور ظلفا - أي: غلظة - في المعيشة، ثم قال: أما والله ما آكله من مال المسلمين ولكني آكله من مالي، وأنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، ولم أزل آكل الطعام ما لان منه، وقد بلغت سنا، فأحب الطعام إلي ألينه.»
وقد كان عثمان أسرع قومه إلى الإسلام لأسباب بيناها في كتابنا «ذو النورين» ... وإنما حسب له الإسراع إلى الإسلام، حيث حسب الإبطاء والتقاعد عنه للأكثرين من بني أمية، على ديدنهم في كل دعوة من دعوات المثل العليا، أو دعوات الأريحية والإيثار، ولا موضع هنا للإطالة في نقل أخبار المنافرات والمفاخرات التي تلم بهذا المعنى، ولكننا نجملها جميعا في موقف القوم من حلف الفضول، وهو مشروح بتفصيلاته التي لا يشك فيها من يشكون في تلك المنافرات والمفاخرات، فقد ظلم رجل في جوار الحرم، وباع بضاعة لواه بحقها من اشتراها، فاستغاث بذوي المروءة وقام على شرف
3
من الأرض يعلن شكواه، فاجتمع بنو هاشم، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تيم على إنصافه وإنصاف كل مظلوم مثله، فلا يظلم بمكة غريب، ولا قريب، ولا حر، ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء من زمزم، فجعلوه في جفنة
4
وبعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه وشربوه، ولم يدخل في هذا الحلف أحد من أمية وبني عبد شمس، بل كان الرجل منهم يود أن يدخله فيخشى أن يحسب خارجا على قومه، وقال أحدهم (عتبة بن ربيعة): لو أن رجلا وحده خرج على قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل حلف الفضول. •••
وهذه الخلائق الأموية وضحت في الجاهلية وصدر الإسلام وضوحا لا لبس فيه قبل أن تلتبس الأنساب، ويكثر الزواج من غير العشيرة، والبناء بالجواري من الروم والفرس والترك والبربر، ولكنها ظلت أموية حيث تغلب الأموية في الدم والنشأة والقدوة والجوار.
فعمر بن عبد العزيز - أشبه الملوك في دولة بني أمية بالخلفاء الراشدين - كان كما جاء في أسانيد ابن الجوزي: «رأيته في المدينة وهو أحسن الناس لباسا، ومن أطيب الناس ريحا، ومن أخيل
5
الناس في مشيته، ثم رأيته بعد ذلك يمشي مشية الرهبان.»
واتفق الرواة، كابن عبد الحكم والأصفهاني وابن الجوزي في أطراف من أسانيده، أنه كان يتطيب في شبابه، فينتظر الناس ثيابه عند الغسال ليغسل لهم في موضعها، وأنه كان يرجل شعره ويتبختر في مشيته حتى عرفت له مشية عمرية يحكيها الفتيان والفتيات، وكان يتختم بالجواهر ويلبس الإزار بمائة دينار، ولا يرى مرتين في كساء واحد، وربما تأخر في صباه عن موعد الصلاة لاشتغاله بترجيل
6
شعره، وسأله مؤدبه صالح بن كيسان مرة عن تأخره وهو ينتظره لإقامة الصلاة، فاعتذر له بإبطاء مرجلته - أي: الجارية التي تعنى بترجيل شعره - فغضب المؤدب الصارم، ولامه أن يغفل عن موعد صلاته ليعنى بتسكين شعره.
وما برح الخليفة الصالح في نصب من أمر عاداته هذه حتى أقلع عنها بعد جهد، وآب من ترف المسرفين إلى نسك المتزمتين، وقيل: إنه ترف من بني أمية ونسك من الفاروق؛ لأنه ينتمي من ناحية أمه إليه ...
وعلى هذا الجهد بقيت معه تلك المشية تعاوده، ولا يأمن أن يسهو عن نفسه فيثوب إليها في طريقه، فجعل له قرينا يلازمه ويصفقه بيده كلما هم أن يثوب إليها ... •••
ولا ننسى أن بني أمية عشيرة عربية كبيرة قد تتميز بخلائقها الأموية، ولكنها لا تنفصل عن المجتمع العربي، ولا تشذ عن عرفه التقليدي الذي ترعاه جميع العشائر الكبرى ولو من قبيل المحافظة على المراسم والأشكال، ومن تقاليد هذا العرف أن تروض بيوت الرئاسة أبناءها على نظام كالنظام العسكري، في صباهم وبعد بلوغهم مبلغ الشباب الذي يندب للقتال أو لتصريف الأمور، وسواء اختاروا البادية لتدريب الأبناء على هذه الرياضة، أو عهدوا بها إلى المربين في المدن والدور، فلا ينشأ الناشئ منهم إلا على رياضة من هاتين الرياضتين، وكذلك فعل عبد العزيز بن مروان في تربية ابنه عمر، فاختار له المؤدب الذي يثقفه ويأخذه بفرائض دينه ودنياه، ولما بلغه من هذا المؤدب - صالح بن كيسان - أن الفتى الصغير يتأخر عن موعد الصلاة لاشتغاله بترجيل شعره أرسل إليه من قبله رسولا خاصا، فأمره ألا يكلمه حتى يقص شعره ويبلغه غضب أبيه، ولا نحسب أن أحدا من رؤساء البيت غفل عن مثل هذه الرياضة في تنشئة بنيه، ولكنها رياضة تنتهي إلى القدوة البيتية، فلا يبقى لها من أثر أو لا يبقى لها إلا الأثر الضعيف، وكان عبد العزيز يعاقب عمر ذلك العقاب، وهو ينزع في الترف منزعا لا يستطيع ابنه - وإن أسرف - أن يذهب إلى مدى أبعد من مداه، فاقتنى الدور في مصر وجملها بالأثاث الفاخر، وجعل يهديها إلى أبنائه وذويه، واشترى أرض حلوان بعشرة آلاف دينار؛ ليقيم عليها قصره المنيف الذي موه جدرانه بالذهب، وأنفق على فراشه وأثاثه عشرات الألوف، وكان له كل يوم ألف جفنة للقرى بدار الضيفان، وكانت أيامه كلها كأنها أيام أعياد كما جاء في معجم البلدان:
كل يوم كأنه عيد أضحى
عند عبد العزيز أو يوم فطر
وله ألف جفنة مترعات
كل يوم يمدها ألف قدر
وشهد هذا البذخ كله عمر وتقلب بين أعطافه، فلولا عرق من الفاروق أدركه؛ لما تحول من هذا البذخ إلى النسك الذي ضارع به أزهد الخلفاء الراشدين ...
وليس عبد العزيز - على هذا - بالمثل الذي يقال عنه: إنه «نموذج» للخليقة الأموية في الكلف بالنعمة الدنيوية، والعجب بالزينة والشارة
7
وبالقسامة
8
والوسامة، بل كانت هذه الخليقة على أتمها في سليمان بن عبد الملك أكلفهم بنعمة العيش؛ حيث كانت في طعام أو كساء أو ترف أو سرف أو خيلاء ...
كان نهما لا يشبع ولا يرجع الخوان من بين يديه وعليه بقية، وكان يلبس الوشي على أفخر حلية وزينة، ويحضر الطهاة بين يديه بالسفافيد عليها الدجاج والطير، فلا يتمهل بها حتى تنضج، بل يلف يده في كمه ويتناولها من النار ويأتي عليها قبل أن تنقل إلى الصحاف، وربما صحبه عمر في السفر وهو صائم فلا يجد على المائدة فضل طعام إذا حان موعد الإفطار، وقد مات بالتخم مع إصابته بالحمى، وهو في الأربعين وأبناؤه الصغار لا يصلحون لولاية العهد، فجعل ينظر إليهم، وينشد:
إن بني صبية صغار
أفلح من كان له كبار
وأمر وزيره رجاء بن حياة أن يعرضهم عليه في الخوذات والدروع، لعله يخدع نفسه بمنظر صبي منهم يصلح لولاية الملك، فلم يجد منهم من يروعه، أو يروقه في تلك الأزياء وأوصى بولاية العهد على كره لعمر بن عبد العزيز.
قال ابن الجوزي في سيرة عمر بإسناده: إن سليمان بن عبد الملك كان ربما نظر في المرآة، فيقول: أنا الملك الشاب ... وكان جالسا فنظر في المرآة إلى وجهه، فأعجبه ما رأى من جماله، فقال: أنا الملك الشاب، وكانت على رأسه وصيفة، فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
ويروى هذا البيت في أسانيد أخرى، ومعه البيت التالي:
ليس فيما بدا لنا منك عيب
عابه الناس غير أنك فان
ودخل عليه المفضل بن المهلب يوم جمعه، فرآه يدعو بالثياب ويلبس منها حلة بعد حلة ويتخايل بها أمام المرآة ثم يخلعها، ويأتي بغيرها حتى ارتضى حلة منها، فالتفت إلى المفضل سائلا: يا بن المهلب ... أعجبتك؟ قال المفضل: نعم؛ فحسر
9
عن ذراعيه وهو يقول: أنا الملك الفتى.
هذا هو الأموي من الأمويين، وغيره منهم يشبهه في كل خصلة من هذه الخصال على درجات، ومنهم معاوية رأس الدولة وأقربهم إلى أرومة
10
الميراث ... •••
كان في معاوية كل خصلة من خصال سليمان بن عبد الملك، ولكنه لم يسترسل فيها كما استرسل سليمان مع تطاول الزمن بعد قدوة النبوة والخلافة الأولى خلافة الراشدين.
جاء في الطبري أنه كان يأكل في اليوم سبع مرات بلحم، ويقول: «والله ما أشبع وإنما أعيا.»
ولم يروها الطبري وهو يشهر بها، بل رواها وقال بعدها: «وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.»
وسبق الطبري هذا الخبر بتعليل لهذه النهمة من دعوة رسول الله عليه في صباه ...
فمن أخبار الإمام أحمد المسندة إلى ابن عباس أنه قال: «كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء؛ فقلت: ما جاء إلا إلي، فاختبأت على باب، فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: اذهب فادع لي معاوية، وكان يكتب الوحي، فذهبت دعوته له، فقيل: إنه يأكل! فأتيت رسول الله، فقلت: إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية، فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه ... فما شبع بعدها.»
ولم يزل بعد الإمارة يفرط في مأكله من اللحوم والحلوى والفاكهة حتى ترهل
11
وعجز عن القيام طويلا، فكان يخطب على المنبر وهو جالس، وكان أول من جلس في خطبة منبرية. •••
وشغف بالأكسية كما شغف بالأطعمة، فلبس الحرير وتختم بالذهب والجوهر، وولع بالثياب المزخرفة والموشاة، وتزين بالزينة التي كرهها الإسلام لعامة الرجال فضلا عن الخلفاء والأمراء، وكان لا يملك أن يترك الزينة بالكساء في صدر الدعوة والخلافة، وفي الزمن الذي كان يتحرج فيه من إغضاب ولي الأمر، وهو عمر بن الخطاب.
قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد كما رواه الطبري: «قدم علينا معاوية وهو أبيض بض
12
وباص،
13
أبض الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عنه مثل الشراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة.» فقال معاوية: «يا أمير المؤمنين! سأحدثك، أنا بأرض الحمامات والريف والشهوات.» فقال عمر: «سأحدثك أنا ... ما بك إلا إلطافك نفسك بألطف الطعام، وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك
14
وذوو الحاجات وراء الباب؟ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، علمني أمتثل، قال راوي الخبر: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما؟ فقال معاوية: إنما لبستهما لأدخل بهما على عشيرتي وقومي، قال عمر: والله لقد بلغني أذاك هنا وفي الشام.»
وزاد راوي الخبر، فقال: «والله يعلم إني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.»
وروى عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده قال: «دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء، فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة
15
فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: الله الله في يا أمير المؤمنين، فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين، وما في قومك مثله؟ فقال: والله ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك؛ لكان مني إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ.» •••
ولم يكن زهوه بسمته، وسماته دون زهو سليمان، فكان يصفر لحيته كأنها الذهب ... وقد أصابته لوقة في آخر عمره - وهي كأثر الضربة في الجلد - فكان يستر وجهه، ويقول: «رحم الله عبدا دعا لي بالعافية فقد رميت في أحسني، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.»
وهواه في يزيد لون من ألوان هذه الخلة الأموية، فكل الآباء يحبون الأبناء ... ولكن القوم لا يحسبون الأب بارا بابنه إلا إذا «نعمه»، أو شغل بتنعيمه فيما ينظر فيه الآباء من رغد أبنائهم، وفيما يتركونه لهم ويتغاضون عنه كأنهم يجهلونه، وقد أرسل معاوية ابنه يزيد إلى بادية بني كلب أخواله؛ ليتربى بينهم على الفروسية والبلاغة العربية، ولكنه فعل ذلك كأنما يفعله قياما بما تقتضيه مراسم السلف ولم يتبعه بما هو ألزم ليزيد من ضروب التربية والرياضة على كبح الأهواء، ولا سيما الهوى الذي ينظر إلى حرمات الناس وأعراض الرعاية، فقد علق يزيد بزوجة عبد الله بن سلام (زينب بنت إسحاق)، ومرض بحبها مرضا أدنفه، فاحتال أبوه حتى عرف سر مرضه من خصيان القصر؛ فأرسل في طلب أبي هريرة وأبي الدرداء، فقال لهما: إن لي ابنة أريد زواجها ولا أرضى لها حليلا غير ابن سلام لدينه وفضله وشرفه، فانخدع ابن سلام وذهب إلى معاوية يخطب بنته، وقيل: إن معاوية وكل الأمر إلى أبي هريرة؛ ليبلغها ويستمع جوابها، فأجابته بما اتفقت عليه مع أبيها وقالت له إنها لا تكره ما اختاروه، ولكنها تخشى الضرة وتشفق أن يسوقها إلى ما يغضب الله، فطلق ابن سلام زوجته واستنجز معاوية وعده فلواه به، ونقل إليه عن ابنته أنها لا تأمن رجلا يطلق ابنة عمه وأجمل نساء عصره! ...
وكأنما كان معاوية مهموما بشهوات ولده في زواج أو غير زواج، فقد حدث ابن عساكر من ترجمة خديج الخصي: «أن معاوية اشترى جارية بيضاء جميلة، فأدخلها الخصي عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به على جسدها، ويقول: هذا المتاع لو كان لنا متاع، اذهب بها إلى يزيد ثم قال: ادع لي ربيعة بن عمر الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد، فقال الجرشي: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له. فقال معاوية: نعم ما رأيت! ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله، وكان أسود، فقال له: بيض بها ولدك ...» •••
ونعود فنقول: إن الطبري يسند هذه الأخبار إلى أصحابها، ولا يسوقها مساق التشهير؛ لأنه اتخذ من هذا الخبر دليلا على فقه معاوية، فقال: «وهذا من فقه معاوية وتحريه؛ حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها لولده يزيد؛ لقوله تعالى:
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمر الجرشي الدمشقي ...»
وما من تربية ليزيد تصلحه للخلافة بعد هذا «التنعيم» الذي يملي له في شهواته، وهو مقدم على رئاسة قريبة عهد بابن الخطاب بل بابن عفان، فإن الخليفة الثالث - رضي الله عنه - قد أجاز لنفسه من المتعة الدنيوية ما لم يجزه الفاروق، ولكنه لم يحدث نفسه قط باقتناء الخصيان والجواري على سنة القياصرة والشواهين، ولولا تلك الخليقة الأموية التي تمادى بها اتساع الملك في أهوائها وغواياتها، لما فات رجلا - وسط الذكاء - أن هذه التربية لا تعد إنسانا لحياطة الملك المنتزع بالحيلة والحول، قبل استقرار الأمور بين مطامع الأقرباء من العشيرة فضلا عن الغرباء. •••
وكان معاوية ينازع طبعه بين الخليقة الأموية وبين آداب الدين الذي يتولى خلافته، فينزل بنفسه درجات دون منزلة الخلفاء الراشدين؛ لافتتانه بالدنيا واستسلامه لغوايتها، وله أكثر من كلمة في هذا المعنى يقول في بعضها: «إن أبا بكر سلم من الدنيا وسلمت منه، وعمر عالجها وعالجته، وعثمان نال منها ونالت منه، أما أنا فقد تضجعتها ظهرا لبطن وانقطعت إليها فانقطعت لي ...» ويقول في بعضها من خطبة بالمدينة: «إن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فنال منها ونالت منه، وأما أنا فمالت بي وملت بها، وأنا ألبنها
16
فهي أمي وأنا ابنها، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم.»
وكأنما كان يشهد على نفسه هذه الشهادة تواضعا من جهة، وتزكية لقدرته على الملك الدنيوي من جهة أخرى، فإن كان الرعية لا يرتضونه قدوة للصلاح والتقوى، فهم مرتضوه مدبرا لشئونهم وقائما على مصالح دنياهم.
ويشعر معاوية بالمنازعة بين الخليقة الأموية وآداب المروءة العربية، كما يشعر بالمنازعة بينها وبين آداب الدين، فإن طالب السيادة يكره أن ينزل في منزلة دون منازل الشرف والكرامة بين قومه، فإن لم يكره ذلك حبا للخلق المأثورة فلعله يكرهه حبا لنفسه، وغيرة على سيادته وعلوه في نظر المكبرين لآداب المروءة، سواء تحلوا بها أو تجردوا منها.
ومن نوادر معاوية في هذه المنازعة المتكررة بين خلائق عشيرته، وآداب العرب عامة أنه جلس يوما مع خاصته يسألهم فيما بقي له ولهم من لذات الحياة بعد ذهاب الشباب، فإذا هي عنده لذات لا تعدو مذاق الشراب السائغ وسروره بالنظر إلى بنيه، ثم نبهه منبه إلى إسفافه هذا، فانتبه ولم يكابر طبعه؛ لأن الأمر وراء المكابرة بإجماع العرف وإجماع الدين.
روى الواقدي أن عمرو بن العاص «دخل يوما على معاوية بعدما كبر ودق ومعه مولاه وردان، فأخذا في الحديث وليس معهما أحد غير وردان، قال عمرو: يا أمير المؤمنين! ما بقي مما تستلذه؟ فقال: أما النساء فلا أرب لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي فما أدري أيها ألين، وأما الطعام فقد أكلت من لذيذه وطيبه حتى ما أدري أيه ألذ وأطيب، وذكر مثل ذلك عن الطيب وغيره من مناعم الحياة، ثم قال: فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بني وبني بني يدورون حولي .
وعطف معاوية سائلا: فما بقي منك يا عمرو؟
قال عمرو: مال أغرسه فأصيب من ثمرته ومن غلته.
فالتفت معاوية إلى وردان، فقال: ما بقي منك يا وردان؟
قال وردان: صنيعة كريمة سنية أعلقها في أعناق قوم ذوي فضل واصطبار لا يكافئونني بها حتى ألقى الله تعالى، وتكون لعقبي في أعقابهم بعدي.
فقال معاوية: تبا لمجلسنا سائر اليوم ... إن هذا العبد غلبني وغلبك ...»
خليقة أموية عربية، مضى الرجل على سجيته فلم يخطر له أن يستبقي من متاع الدنيا الذي عجز عنه إلا شيئا يذاق، وشيئا يسره من النظر إلى ذريته، ثم نبه المنبه إلى المكرمات المأثورة فلم يجحدها ولم يعزب عنه حميد أثرها.
وإن شئت فقل: خليقة أموية وكفى ... فإن من أثرة ما يوحي إلى صاحبه ألا ينزل طواعية عن مأثرة يرتفع بها غيره، ولا يسعه أن ينكرها.
وهكذا كانت الخليقة الأموية مع المروءة العربية في كل مأثرة محمودة بين عشائر العرب الكبرى، وبين العرب خاصة وعامة، وأولها مناقب الشجاعة والكرم والنخوة، فما كان في وسع بني أمية أن يغمضوا أعينهم عن هذه المناقب، ولا أن يصغروا من حقها، ولكن التسليم للمنقبة شيء والجهد في تحصيلها شيء آخر ... ولهذا مضى تاريخ بني أمية في الجاهلية وليس بينهم واحد معدود حين يعد العرب فرسانهم المقدمين وأجوادهم المشهورين، وذوي النجدة من صفوة عشائرهم ونخبة ساداتهم، وظهر فيهم الشجعان في صدر الإسلام كيزيد بن أبي سفيان، وهو أخ غير شقيق لمعاوية، ولكنه لا يحسب عندهم ولا عند غيرهم من فرسان هاشم في جيل واحد، كعلي وحمزة.
وسئل معاوية نفسه، وسائله عمرو بن العاص: والله ما أدري يا أمير المؤمنين، أشجاع أنت أم جبان؟ فقال:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة
فإن لم تكن لي فرصة فجبان
ولم يؤثر لمعاوية موقف واحد يحسب من مواقف الشجاعة البينة، بل حسب عليه أنه كان يأوي إلى قبة يحيط بها الحراس في معارك صفين، وأنه أسرع إلى فرسه في ليلة الهرير لينجو بحياته، ثم هدأ الخطر بعض الشيء، فراجع نفسه وتراجع إلى مكانه وهو آمن من عاقبة هذه الرجعة، بعد أن خفت الهجمة على موضعه من ميدان القتال.
وليس من أخبار بني أمية في الجاهلية وصدر الإسلام خبر واحد ينفي عنهم هذه الخليقة الغالبة عليهم جميعا من الأثرة، والكلف بالمناعم الدنيوية، وتقديمها على غيرها من مناقب الإيثار والمثل العليا.
وبهذه الخليقة يفسر كل عمل من أعمال معاوية على انفراده بينهم بصفات من الحزم لم يشتهروا جميعا بمثلها، وهو مع حزمه «الدنيوي» هذا لم يصطدم بالخليقة الأموية إلا وهن منه الحزم في هذا المصطدم، فكان من الحزم ألا يتوسع في أبهة الملك أو أبهة «الهرقلية والكسروية»، كما كان المسلمون يسمونها في صدر الإسلام، ولكنه لم يكد يملك حتى صنع ما يصنع القياصرة والأكاسرة من اقتناء الخصيان والجواري، والتوسع في بذخ القصور والقدور، وكان من الحزم أن يروض يزيد على كبح الشهوات، فلم يكد يسمع أنه اشتهى امرأة في عصمة رجل حتى احتال حيلته لإمتاعه بما اشتهى، وإن النهازين من مؤرخي العصر القديم ليفسرون صلاته الجامعة في المقاصير
17
بخوفه من الغيلة بعد مؤامرة الثلاثة التي قتل فيها علي رضوان الله عليه، ولئن صح هذا لما نفي عنه تلك الخليقة الأموية التي تلوذ بالحيطة، حيث لا يلوذ بها المبرأون منها، فقد قتل عمر وعلي ولم يلجأ الحسن أو الحسين إلى المقاصير أو إلى الحرس الميسر لهما وهو غير قليل، وقد كانت أبهة المواكب من دأب معاوية، إذ كان - بعد - على ولاية الشام من قبل الفاروق، فلما رآه الفاروق في موكبه أعرض عنه، ثم عنفه وسأله عن اتخاذ المواكب مع احتجابه عن ذوي الحاجات، فاعتذر له بموقعه من بلاد العدو، ودأب على اتخاذ المواكب، وتسيير الجند بين يديه قبل أن يخشى غيلة من مغتال.
عند هذه الخليقة الأموية تفسير الكثير مما جهله المؤرخون الأقدمون أو تجاهلوه، ولا سيما المؤرخين النهازين من المنتفعين أو المتطوعين.
موقف معاوية من قضية عثمان
كل خبر من أخبار العصر لازم مطلوب لفهم تاريخه وأعمال رجاله، ولكن الأخبار المقدمة على غيرها في حوادث العالم الإسلامي التي أفضت إلى قيام الخلافة الأموية، إنما هي الأخبار التي لها مساس بموقف معاوية من عثمان قبل مقتله وبعد مقتله، والمبايعة لعلي بالخلافة في الحجاز.
فبغير هذه الأخبار التي تكشف عن موقف معاوية لا يستطيع المؤرخ أن يتثبت من حقيقة البواعث التي كمنت وراء الحوادث والحروب والخصومات، ولا يستطيع أن يعرف ما هو صحيح منها، وما هو مصطنع من تدبير السواس والدعاة.
فما هي حقيقة المسائل التي أثارت معاوية على علي، وجنحت به إلى سلوك المسلك الذي اختاره هو ومعاونوه؟ ماذا منها قد حدث فعلا، وماذا منها لم يحدث، وقيل: إنه حدث للانتفاع به في الدعاء ورد الادعاء ... وفي الاتهام ورد الاتهام؟ أو ماذا منها قد حدث فعلا وحرفه الدعاة إلى غير وجهته وأولوه بغير معناه؟ وماذا من تلك الحوادث جميعا كان خليقا أن يتغير لو تغير الموقف، وتغيرت النيات والمساعي؟
كل أولئك مرهون بالنفاذ إلى حقيقة موقف معاوية من عثمان قبل مقتله، وبعد مقتله، ومبايعة علي بالحجاز.
وكل ما وصل إلينا من أخبار ذلك الموقف يدل على شيء واحد لا محل فيه للخلاف الطويل بين الناظرين إليه من الوجهة التاريخية الخالصة، وهو عمل معاوية لنفسه في كل مطلب طلبه من عثمان، وكل نصيحة أسداها إليه، وكل مشورة أشار بها عليه، فليس في هذه المطالب والنصائح أو المشورات شيء قط تجرد من منفعة ينظر إليها معاوية في حاضره أو مصيره، وكل ما عدا ذلك فقد يكثر فيه الخلاف، ويؤول فيه التأويل.
كان معاوية في عهد الفاروق قانعا بعطائه السنوي وهو ألف دينار، وكان الولاة والرعية لا يشكون إجحافا ولا محاباة فيما يرجع على أرزاق العمال الكبار والصغار ومنهم الولاة، فلما انقضى عهد الفاروق كثرت الشكوى من تقسيم هذه الأرزاق، ومن إيثار بعض الولاة بالولايات لقرابتهم من الخليفة، وكانت هذه الشكوى إحدى الدعايات التي تذرع بها المشاغبون للثورة التي تفاقمت حتى ذهبت بحياة عثمان. •••
ولم يكن معاوية يجهل هذه النقمة الفاشية في الولايات، ولكنه على ذلك كتب إلى عثمان يطلب زيادة عطائه، ويطلب غير ذلك أن يقطعه الأرض التي قتل أصحابها من الروم أو تركوها، وهاجروا إلى بلاد غير البلاد المفتوحة من أرض الدولة البيزنطية، وتعلل له بكثرة وفود الأمصار والرسل، وأن هذه الضياع المتروكة لا يؤخذ عليها الخراج، ولا تحسب من أموال أهل الذمة كما جاء في تاريخ ابن عساكر، وكانت هذه الضياع وأمثالها تلحق ببيت المال، وينفق منها على المصالح العامة ومعونة المعوزين وذوي الحاجات، فلما أذن له عثمان بزرعها والانتفاع بثمراتها؛ حبسها على نفسه وعلى آل بيته وخدامه وأعوانه في سياسته، وعمد إلى كل معترض عليه وعلى إنفاقه لهذه الأموال في غير وجوهها، فأقصاه عن الشام وأرسله إلى حيث يشاء من البلاد الإسلامية الأخرى لا يعنيه أن يصنع الشاغبون ما يصنعون في غير ولايته، وهو يعلم أنهم سيشغبون على عثمان حيث ذهبوا، وأن عثمان يلقى من الفتنة ما هو حسبه في جواره.
وحديث أبي ذر في الشام معروف ننقل منه ما يدور حول موقف معاوية من عثمان كما جاء في ابن الأثير:
كان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفقه في سبيل الله، أو يعده لكريم، ويأخذ بظاهر القرآن
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
فكان يقوم بالشام، ويقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء ... بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم، فأرسل إليه معاوية بألف ديار في جنح
1
الليل فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: انقذ جسدي من عذاب معاوية! ... فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك، ففعل ذلك، فقال له أبو ذر: يا بني قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها، فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا للذي يقوله للفقراء، فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلا أن تثب، فلا تنكأ القرح وجهز أبا ذر إلي وابعث معه دليلا وزوده وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت.
ولما خرج الشاغبون بالفتنة من الكوفة إلى الشام بأمر عثمان كتب عثمان إلى معاوية، كما جاء في ابن الأثير: «إن نفرا قد خلقوا للفتنة؛ فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل، وإن أعيوك فارددهم علي.»
فلقيهم معاوية وزجرهم وأغلظ لهم، ثم أتاهم بعد ذلك؛ فقال لهم: «إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضره، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا إلى حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.»
وكتب إلى أمير المؤمنين يهون له من شأنهم ويقول عنهم: إنهم «ليسوا لأكثر من شغب ونكير.»
ولم يكن أمرهم ليعييه، فإنهم ذهبوا حين سرحهم يقصدون الجزيرة، فعلم بهم عبد الرحمن بن خالد فما أعياه أمرهم، ودعاهم إليه ولم يذهب إليهم كما فعل معاوية؛ فتوعدهم عبد الرحمن وعيدا لا يشكون فيه، وقال لهم: «يا آلة الشيطان! لا مرحبا بكم ولا أهلا، قد رجع الشيطان محسورا وأنتم - بعد - نشاط. خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ... يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته
2
العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصكه - أي: جعلك تمصه - لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى، فأقامهم شهرا كلما ركب مشاهم، فإذا مر به صعصعة قال: يا ابن الخطيئة! ... أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية؟ ... فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم، وسرح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانيا، فقال له عثمان: احلل حيث شئت، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد، فقال: ذلك إليك، فرجع إليه.»
وعلى اختلاف الروايات في تنقل هذه الفئة بين الكوفة والشام، وفيما قالوه وقيل لهم، لم يتغير موقف معاوية في جميع هذه الروايات، وهو موقف الرجل الذي لا يبالي بعد أمانه على ولايته أن تنجم الفتنة حيث نجمت، وأن يبتلى بها الخليفة بنجوة منه.
وقد تفاقم الخطب ونظر الخليفة المحصور حوله يطلب الرأي من ذوي الرأي بين خاصته وخاصة المسلمين، واجتمع عنده رهط منهم يوما أشاروا عليه بما بدا لهم، ثم خرجوا فأمسك عثمان بابن عباس، فقال له: يا بن عمي ويا بن خالتي، إنه لم يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك، فأعتذر ... قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية، وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك رأي من يجل سنك ويعرف قدرك وسابقتك، ووالله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئا تركاه؛ لأنه ليس لهما، علمت أنه ليس لك كما لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نيل منك، تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك.
قال عثمان: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟ ... قال ابن عباس: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعله؟ ... قال: فهب لي صمتا حتى ترى رأيي.
وخرج ابن عباس وبقي معاوية فسأله عثمان، فأجاب كما جاء في الإمامة والسياسة: «الرأي أن تأذن لي بضرب أعناق هؤلاء القوم، قال: من؟ قال: علي وطلحة والزبير ... قال عثمان : سبحان الله! ... أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه؟! قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك ... قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء.
قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال!
قال عثمان: ما هي؟
قال معاوية: أرتب لك ها هنا أربعة آلاف من خيل أهل الشام يكونون لك ردءا
3
وبين يديك يدا.
قال عثمان: أرزقهم من أين؟
قال: من بيت المال.
قال عثمان: أرزق أربعة آلاف من الجنود من بيت مال المسلمين لحرز دمي؟ لا فعلت هذا.
قال: فثانية.
قال: وما هي؟
قال: فرقهم عنك فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد، واضرب عليهم البعوث والندب حتى يكون دبر
4
بعير منهم أهم عليه من صلاته.
قال عثمان: سبحان الله! ... شيوخ المهاجرين وكبار أصحاب رسول الله وبقية الشورى، أخرجهم من ديارهم وأفرق بينهم وبين أهليهم وأبنائهم؟! لا أفعل هذا ...
قال معاوية: فثالثة!
قال: وما هي؟
قال: اجعل لي الطلب بدمك إن قتلت.
قال عثمان: نعم هذه لك، إن قتلت فلا يطل
5
دمي.»
هذه رواية الإمامة والسياسة، وفي سائر الروايات أن معاوية قال له غير ذلك: اخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه، قال: لا أبتغي بجوار رسول الله بدلا. •••
تلك جملة الآراء التي أشار بها معاوية على الخليفة، وما من رأي منها إلا والنفع فيه ثابت لمعاوية غير ثابت لعثمان، وربما كان في معظمها ما يضره ولا يجديه.
فليس قتل علي وطلحة والزبير بالأمر الهين الذي يدفع الشر عن الخليفة، وليس هو بالخطة التي يختارها معاوية لنفسه لو كان في موضع عثمان، وقد أعفى معاوية نفسه من التضييق على صعصعة ورهطه، كما ضيق عليهم عبد الرحمن بن خالد، فليس من خطته التي يختارها لنفسه، ويحمل تبعتها على عاتقه أن يقتل ثلاثة من أقطاب الصحابة كعلي وطلحة والزبير، كما أشار على عثمان، وإنما يبوء عثمان تبعتها ويترك الأمر من بعده لمعاوية بغير منافس ينافسه عليها، بعد مقتل الثلاثة الذين كانوا مرشحين لها عند أهل الحجاز وأهل الكوفة وأهل مصر، أما أهل الشام فهم في ولايته لا يعرفون أحدا غيره ينافسه باسمهم عند اختلاف المختلفين، وليس ثمة مختلفون إذا نفذ القضاء في الأقطاب المقتولين.
وأما الإشارة على عثمان بإقامة أربعة آلاف من خيل الشام يحرسونه، فهو تسليم للحجاز إلى يدي معاوية في حياة الخليفة وبعد حياته، فلا يقدر أحد على بيعة فيه غير البيعة التي يرضاها، ولا تقع هذه البيعة أصلا لمن يستجيب لها أو لا يستجيب.
والخروج من المدينة إلى الشام مع معاوية ينقل العاصمة إلى دمشق، ويجعل القول الفصل بعد موت الخليفة لصاحب القول الفصل فيها، وما من أحد قط ينتفع من العمل بهذه النصائح غير معاوية في جميع الحالات. •••
وقد نقل الرواة والمؤرخون عن كل ناصح أنه أشار على عثمان بترك خطة من خططه في السياسة العامة، ولم ينقل مثل ذلك عن معاوية في جليل من الأمر ولا يسير، ولم يقف مثل موقفه غير مروان بن الحكم الذي لا يملك أن ينهى عثمان عن شيء؛ لأنه كان سبب الشكوى وصاحب التبعات جميعا في كل مأخذ من مآخذ الثوار على العهد كله والسياسة بجملتها، فإذا كان سكوت مروان عن النصح بالتغيير مفهوما متوقعا فمثل هذا السكوت من معاوية لا يفهم إلا على وجه واحد، وهو أنه يعفي نفسه من تبعة النصيحة ليملي للخليفة فيما يرضاه، ويعلم أن التغيير النافع يصيبه في مقدمة الولاة المحسوبين على العهد كله، وقد كان يتعهد للخليفة بكفايته أمر الشام ويسأله أن يفرض على الولاة الآخرين مثل ذلك اليوم ... فإن لم يقدروا مثل قدرته كان حقا له أن يخلفهم أو ينفض يديه من العمل والمشورة.
وأثبت ما ثبت من منفعة معاوية بتلك المطالب التي عرضها على الخليفة في شدته - مطلبه أن تكون له ولاية الدم بعد مقتله، فإنه بمثابة ولاية العهد بإذن صاحب الأمر، إذ كان القصاص إنما يتولاه القائم بالشريعة حيث تقام حدود الدين، ولم يكن عثمان ليخشى عليه القتل من فرد يعتدي عليه غيلة فيكون عمل ولي الدم أن يقتاده إلى الحاكم القائم بالشريعة، ولكنه خشي عليه القتل من جماعات ثائرة لا يتولى إدانتها والقصاص منها غير صاحب سلطان أقوى من سلطانها، وسلطان من تؤيده وتطيعه على شرطها، فإذا كان معاوية قد طلب ولاية الدم بعد مقتل عثمان؛ فقد طلب ولاية العهد وفارقه وهو يعلم أنه مقتول.
وأوشك الخليفة أن يقتل، فإذا نظرنا في أرجاء العالم الإسلامي يومئذ لم نجد أحدا أقدر على نجدته من معاوية؛ لأنه الوالي المستقر في ولايته منذ عشرين سنة يقصى عنها كل من يعاديه، ويبقى فيها كل من يواليه، وغيره من الولاة في ذلك العهد بين معزول أو معتزل، أو مهدد في سلطانه، كما هدد الخليفة في عاصمته، ومن كان حول الخليفة من سروات
6
المدينة فليس في وسعه أن ينصره بقوة أقوى من الدولة وحراسها وأشياعها، فإذا جمح السفهاء جماحهم الذي يغلب الدولة على قوتها وهيبتها؛ فحري ألا يصده زاجر ولا ناصح ممن لا يملكون غير الزجر والنصيحة. •••
وأيا كان القول في السروات الآخرين، فواجب معاوية واضح لا لبس فيه، وليس مما يقيله من هذا الواجب أن الخليفة أبى عليه إقامة جيش دائم إلى جواره يرزقه من بيت المال، فإن عمل الجيش الدائم غير عمل النجدة العاجلة، ولا يلام والي الشام على نجدة عاجلة بعد أن طلب الخليفة النجدة من الولاة، ولو أنه كان يلام على ذلك، لكان اللوم أهون عليه من ترك الخليفة لقاتليه يسفكون دمه، وهو معتذر بأمر صدر إليه في حال غير هذه الحال.
لقد كان ذوو الجرأة من المعارضين لعثمان يلقون معاوية بهذا اللوم، كلما أخذهم باللوم؛ لأنهم لم ينصروه، ومن هؤلاء أبو الطفيل عامر بن وائلة الصحابي كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي:
قال له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟ قال أبو الطفيل: لا ... ولكنني ممن حضره فلم ينصره.
قال: وما منعك من نصره؟
قال: لم تنصره المهاجرون والأنصار.
فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصروه.
فقال أبو الطفيل : فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟
فقال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟
فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:
لا ألفينك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زودتني زادي
ووقعت الواقعة ومات الخليفة قتيلا، وذهب معاوية يطالب بدمه وينكر على علي بيعته؛ لأنه لا يسلمه قتلة عثمان، ممن يذكرهم إجمالا أو يسميهم بأسمائهم، وآل الأمر كله بعد حين إلى معاوية يصنع بهؤلاء ما يشاء، فلم يأخذ واحدا منهم بجريرة مشهودة ولم يحاسب أحدا على جريرة مستورة تتطلب الإشهاد، وكان يلقى الرجل منهم فلا يزيد على أن يسأله كما سأل أبا الطفيل: ألست من قتلة عثمان؟ ثم يصرفه في أمان، وقد يسكت عن سؤاله ويصرفه مزودا بالعطاء. •••
وظهر من مبدأ الخصومة أن الغيرة على عثمان لم تكن تلك الغيرة اللاعجة
7
التي تثير الثائرة وتضرم الحروب؛ فإن معاوية قد حالف عمرو بن العاص وكافأه بولاية مصر، وهي ولاية عزله منها عثمان وبكته
8
بذكرها يوم صاح به بين الجموع المتذمرة يسأله التوبة والاستغفار، وكاد الرواة يجمعون على كلمة نقلت عن لسان ابن العاص، فحواها أنه كان يلقى الأعرابي في البادية فيحرضه على عثمان، فإن لم يصح عن ابن العاص أنه قائل تلك الكلمة فموقفه من فتنة عثمان، كموقف ذوي الرأي جميعا ممن كان معاوية يحاسبهم على تركهم عثمان بغير نصير، وكان في وسعهم كما قال أن ينصروه.
ولم يخف هذا الموقف الذي لا خفاء به على أبناء عثمان وبناته، فإنهم كانوا يرون معاوية فيلقونه بالبكاء ويذكرون أباهم؛ ليذكروه بدمه المطلول ووعده بالثأر له، ثم سكوته عن الثأر بعد أن أمكنه منه ما لم يكن في إمكان أحد من المطلوبين به في رأيه.
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد، وقال غيره مع اختلاف قليل في السياق: «قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا بنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا ، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا؟ ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض
9
الناس.»
فالمطالبة بدم بعثمان إنما كانت قضية قائمة حين كانت لازمة للتحريض على علي وبث الدعوة والتمكين لمعاوية، فلما تمكن واستطاع ما لم يكن في وسع علي أن يفعله سكت عن الثأر وحديثه، إلا ما كان من قبيل الحوار العقيم في المجالس، وقبل من نفسه العذر ضعيفا هزيلا، ولم يكن يقبله قويا معززا بالواقع والبينة ممن لا لوم عليه. •••
ذلك أيسر ما يقال عن حقيقة الموقف من قضية عثمان ومطالبة معاوية بدمه، وكل ما فعله معاوية من نصرة عثمان قبل مقتله وبعده، فهو ثابت النفع لمعاوية غير ثابت النفع لعثمان، ولا نجري وراء النيات وإن كان للمؤرخ حق في النظر إليها قد يحمد منه حيث لا يحمد من القضاء، فإن المؤرخ مطالب بتقويم أقدار الرجال، وتفسير أسرار الحوادث والتعريف بالأخلاق والضمائر، ولا ضر من استقصائه لما وراء الظواهر والدعوات، بل الضرر كل الضرر أن يأخذ بالظواهر والدعوات دون استقصاء.
وقضاء التاريخ في موقف معاوية من عثمان أنه موقف يسقط كثيرا من التهم التي كان يكيلها لخصومه، ويسقط كثيرا من الأعذار التي كان ينتحلها لنفسه، ويوجب على المؤرخ أن ينفذ من وراء التهم والمعاذير إلى تفسير واحد لوقائع الثورة التي ثارها معاوية باسم عثمان، فإن أصدق البواعث لها أنها ثورة في طلب الملك أعوزتها الحجة، فالتمستها من مقتل الخليفة الشهيد.
النشأة والتكوين
ولد معاوية لأبوين عريقين قويين، أخبارهما عندنا قليلة متقطعة، ولكنها من نوع الأخبار التي تدل باللمحة العارضة، ويغني القليل منها عن الكثير في وصف الطبائع والأخلاق، فنعرف منها أي رجل وأي امرأة كان أبواه من الرجال والنساء.
من أنباء الجاهلية عن النساء أن هند بنت عتبة أم معاوية كانت من نساء الأسر التي تعودت أن تستشير بناتها في أمر زواجهن، وقد خطبها اثنان، فقال لها أبوها: «أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش؛ إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله.
وأما الآخر: فموسع عليه منظور إليه في الحسب والنسب والرأي والأريب، مدره
1
أرومته وعز عشيرته، شديد الغيرة لا ينام على ضعة، ولا يرفع عصاه عن أهله.»
فقالت: «يا أبت، الأول: سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها وتضيع تحت جناحه إذا تابعها بعلها، فأشرت
2
وخافها أهلها فأمنت؟ ساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه علي بعد، وأما الآخر: فبعل الفتاة الخريدة
3
الحرة العقيلة،
4
وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه.»
ونعلم من كلام هند هنا أنها امرأة قوية الأنوثة يرضيها أن تكون زوجة لرجل جدير بالمهابة والطاعة، ولا يرضيها أن يكون زوجها لعبة في يديها مطواعا لأمرها.
ولم يرد في أخبار هند خبر غير هذا إلا كان فيه إبانة عن جانب من جوانب هذه الأنوثة القوية، ربما بلغ في بعض أحوالها مبلغ الوحشية، ولكنه على هذا يظل وحشية أنثوية تشاهد من ضراوة الإنسان، كما تشاهد من ضراوة الحيوان.
كانت تلقب بآكلة الأكباد؛ لأنها أكلت كبد حمزة عم النبي - عليه السلام - بعد أن قتل رجالها في وقعة بدر، وحزن المرأة على رجالها شديد يشتد مع اشتداد أنوثتها، فإذا كانت في هذه المثلة
5
وحشية أنثوية؛ تشتفي بها المرأة إذا جمح بها حزنها وأذهلها عن صوابها، وليست مما يشتفي به أقوياء الرجال. •••
ولم تنس هند حزنها على رجالها في حضرة النبي عليه السلام؛ إذ جاءته مع غيرها من النساء يأخذ عليهن عهد البيعة.
قال صلوات الله عليه: تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن ... إلى أن قال: ولا تزنين.
قالت: يا رسول الله ... هل تزني الحرة؟
ثم قال: ولا تقتلن أولادكن.
فقالت: أما الأولاد فقد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا، فأنت بهم أعلم.
وإن سؤالها : «هل تزني الحرة؟» لمن تلك الأخبار التي قلنا: إنها تدل باللمحة العارضة، ويغني القليل منها عن الكثير.
إنه سؤال يدل على الأنفة من الزنى؛ لأنها كرامة جاه، ولأن الزنى خلة من خلال الإماء والسبايا، لا تعهد في الحرائر الكريمات، فالأنفة من الضعة هنا أكبر من الإعراض عن الرذيلة، وقصتها مع زوجها - إهانتها بتهمة الزنى - لا تقبل عندها الغفران ولا تقنعها البراءة منها، وإن شهد بها من تقبل شهادته في الجاهلية، ولا يطلبون على البراءة حجة أقوى عندهم من تلك الشهادة.
أخرج الخرائطي في الهواتف عن حميد بن وهب قال:
كانت هند بنت عتبة بن ربيعة عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا البيت ذات يوم، فقام الفاكه وهند فيه، ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته، وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رأى المرأة ولى هاربا، فأبصره الفاكه فانتهى إليها فضربها برجله، وقال: من هذا الذي كان عندك قالت: ما رأيت أحدا، ولا انتبهت حتى أنبهتني، فقال لها: الحقي بأهلك ... وتكلم فيها الناس، فخلا بها أبوها، فقال لها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني بذاك، فإن يكن الرجل صادقا دسست إليه من يقتله فتنقطع عنا المقالة، وإن يكن كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فحلفت له - بما كانوا يحلفون به في الجاهلية - أنه كاذب عليها، فقال عتبة للفاكه: إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، ومعهم هند ونسوة معها تأنس بهن، فلما شارفوا البلاد تنكرت حال هند وتغير وجهها، فقال لها أبوها: يا بنية، إني قد أرى ما بك من تغير الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، قالت: لا والله يا أبتاه ... ما ذاك لمكروه، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب، فلا آمنه أن يسمني بسيماء تكون علي سبة
6
في العرب، فقال لها: إني سوف أختبره لك قبل أن ينظر في أمرك؛ فصفر
7
بفرسه حتى أدلى، ثم أدخل في إحليله
8
حبة من الحنطة، وأوكأ
9
عليها بسير، وصبحوا الكاهن؛ فنحر لهم وأكرمهم، فلما تغدوا قال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، وقد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو؟ قال: برة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا، قال: حبة من بر في إحليل مهر، فقال عتبة: صدقت ... انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهن، ويضرب كتفها، يقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها، وقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية، ولتلدين ملكا يقال له: معاوية، فنظر إليها الفاكه فأخذ بيدها فنثرت يدها من يده، وقالت: إليك ... والله لأحرصن أن يكون ذلك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان فجاءت بمعاوية.
وقصة الكاهن هنا تسقط بحذافيرها، ويبقى من خبر هند مع زوجها أنه اتهمها، فأنفت أن تعود إليه بعد أن أراد هو أن يعيدها؛ لأنها تغضب لكرامتها أن تعيش مع رجل ينزلها دون منزلتها من حرائر النساء.
وينقل عنها في أسانيد متعددة أنها بشرت بسيادة معاوية على قومه، فقالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه. •••
قال الشافعي فيما رواه الطبري: «قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله ... وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف، قال: نظر أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام، فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة ... فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من أمر الشام، خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت؟ صار ابنك تابعا لابني ... فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك ...»
وربما تناثرت الأخبار في كتب الأدب والتاريخ بغير هذه الأحاديث عن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وأم معاوية، ولا حاجة إلى نقلها أو تلخيصها جميعا؛ لأنها تتفق في صفة هند بالوسامة والجسامة والاعتداد بالنفس والحسب، وإنما توافق ما نسميه اليوم «بالشخصية» الملحوظة بين ذويها وقومها، وليست من عداد الزوجات والأمهات المنسيات في الغمار، كما كان سائر النساء في بيئتها.
والقصة التي بدأنا بها هذا الفصل تبدي لنا أبا سفيان في حياته البيتية على صورة لم تذكر في قصة أخرى، فنعلم أنه سيد بيته، كما كان سيد عشيرته «وأنه شديد الغيرة لا يرفع عصاه عن أهله.»
وبقية القصة الأخرى تبدي لنا أبا سفيان في صورة من صور الحياة البيتية، يقول من شاء: إنها حياة تقدير، ويقول من شاء: إنها حياة تقتير.
فقد وصفته هند بأنه رجل «مسيك»
10
وأنها «كانت تصيب من ماله الهنة والهنة،
11
ولا تدري أكان ذلك حلالا لها أم حراما.»
وكان أبو سفيان شاهدا، فقال: أما ما أصبت منه فيما مضى فأنت منه في حل، أما كلام عتبة - في غير ما تقدم من صفات أبي سفيان - فهو من المشهور المتردد في أنباء الجاهلية والإسلام، فقد كان سيدا «موسعا عليه، منظورا إليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب، مدره أرومته وعز عشيرته ...» كما قال عتبة في تخييره لبنته بين الرجلين. •••
فمعاوية إذن ينتمي إلى أبوين قويين في عشيرة قوية، ولعله ورث من جانب أمه أكثر مما ورث من جانب أبيه؛ فهو أشبه بها في تكوين جسمه، وأشبه بها في وسامة ملامحه، وأشبه بأصولها المعروفة في خلق الأناة وبطء الغضب، وإيثار المطاولة والمراوغة على المعارك والحروب.
فأبوها عتبة كان قائد قريش في وقعة بدر، وكان رأيه الذي أصر عليه، ولم يثنه عنه غير إجماع مخالفيه أن تنصرف قريش من غير قتال، وأن يتركوا كل رجل منهم ومن المسلمين يرجع إلى عشيرته، وينظروا ما عسى أن يكون من شأنهم جميعا بعد ذلك.
وقد يرى بعض الناظرين في الوراثة أن المرأة التي اشتهرت باسم «آكلة الأكباد» لم ترث الأناة وبطء الغضب من أبيها، ولم تورث ابنها هذه الخليقة فيما أورثته من خلائقها.
وإنه لرأي فيه نظر، أو هو جدير بالنظر، فإن هذه الضراوة ليست من تلك الأناة ...
ولكننا حريون أن نذكر أن «الغيظ» غير الغضب في دخيلته وفي مدته وأجله ...
فقد يشتهر الإنسان بأنه من أهل «الغيظ» ولا يشتهر بأنه من أهل الغضب، وقد يزول الغضب لساعته، ويبقى الغيظ سنوات في طوية صاحبه.
هذا فيما ينطوي عليه الشعوران.
وغير هذا أن لوعة المرأة على رجالها تخالف لوعة الرجل على أقرانه، وأن شفاء الغل بأكل كبد القتيل جماح أنثوي لا يضارعه جماح مثله في الرجال، فلعلها في طول الأناة كأبيها أو كابنها، ولكنها في مثل هذه اللوعة لا تشبه هذا ولا ذاك، ولا يشبهها هذا ولا ذاك. •••
ويجوز مع هذا كله أن يكون معاوية وارثا بعض الخلق من جده لأمه وغير وارث هذا الخلق منها؛ لأن الوراثة قد تنقطع بين الجنسين، فتكون الخليقة الموروثة في الجدود ولا تكون في الأمهات.
أما الوراثة التي لا شك فيها، فهي وراثة تكوينه الجسدي من أمه، وهي وراثة طالما أشار إليها معاصروه وذكروا فيها اسم أمه، ولم يذكروا اسم أبيه، وقد ترهل من فرط الجسامة في كهولته، ولم يكن لأحد من السفيانيين مثل هذا الترهل في الكهولة أو الشباب.
وعلاقة هذا التكوين بأخلاقه وأعماله تتضح من سياسته كلها في أيام الخلافة وأيام الولاية من قبلها، فإذا صدق عليها وصف غالب عليها، فوصف السياسة «الجالسة» التي تدير وتدبر وتترك المساعي والزحوف للعاملين المأمورين.
كان معاوية «أبيض جميلا طويلا أجلح،
12
وقد أصابته لوقة
13
في آخر عمره فكان يستر وجهه.»
وروى الطبري بإسناده عن ابن عمرو أنه قال: «ما رأيت أحدا أسود من معاوية.» وسئل: ولا عمر؟ فقال: «كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه.»
ونقل عن العوام بن حوشب أنه كان يقول: «ما رأيت أحدا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أسود من معاوية: قيل: ولا أبو بكر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرا منه وهو أسود.»
وهذا السؤدد ليس بالغريب من سمات رجل ورث السيادة من أبويه، وناط بها حقه وحق عشيرته في الرئاسة، ودارت مساعيهم وظواهرهم وبواطنهم كلها على هذا السؤدد، وعلى الغيرة عليه جيلا بعد جيل. •••
وقدمنا أن هندا كانت تعاف الزنى أنفة ولا تعافه ورعا ونزاهة، ولا نخطئ إذا فهمنا من بعض كلام أبي سفيان أنه كان يتورع عن الكذب بين من يعلم كذبه؛ لأنه يأبى لمروءته أن يصغره أحد لكذبه، وإن لم يعلن ذلك بلسانه، وهكذا قال حين سئل في بلاد الروم عن النبي - عليه السلام - فإنه سمع سائله يحذره من الكذب، فأنف أن يكذب على مسمع من شهود سكوت!
ومدار الطموح كله في نفس معاوية على هذه الخصلة التي جعلت تراث القوم كله رهينا بمزاياهم الاجتماعية، وجعلت هذه المزايا كلها رهينة بمظاهر الرئاسة والسيادة.
ونحن نعرف ما تعلمه في صغره مما كان يعلمه في كبره؛ إذ لم تجر عادة الرواة والمؤرخين في الجاهلية بالتحدث عن الأطفال الصغار، إلا ما جاء عرضا في أثناء الكلام عن آبائهم وكبارهم، ولا استثناء في ذلك لأبناء الأسر والبيوتات، ومن ترشحهم أحسابهم لمكان الرئاسة بعد بلوغهم مبلغ الرجال، ولعله لم يكن إهمالا من الرواة والمؤرخين واستصغارا لأمر أولئك الأطفال، وإنما كان سكوتا منهم عن أمر معلوم على وجه التعميم يشترك فيه الناشئة من أبناء البيوتات جميعا، ولا ينفرد فيه أحد منهم بتعليم خاص لوظيفة خاصة.
وقد تعلم معاوية القراءة والكتابة والحساب، وتتفق الأخبار على كتابته للنبي - عليه السلام - ولا تتفق على كتابته للوحي، ولا على حفظه لآيات من القرآن تلقاها من النبي، كما كان كتاب الوحي يتلقون الآيات لساعتها، والأرجح أنه لم يكن معروفا بحفظ شيء من كتابة الوحي في أيام جمع القرآن الكريم، ولو علم عثمان - وهو من ذوي قرابته - أن عنده مرجعا من المراجع يثوب إليه؛ لرجع إليه كما رجع إلى غيره. •••
وتعليم معاوية فيما عدا ذلك من سماع أشعار العرب وأمثالهم، والإلمام بأخبار أيامهم، كتعليم غيره من علية قومه، إلا أنه كان على شغف خاص بالاستماع إلى سير الملوك، ووقائع الأمم وأطوال الدول الغابرة، وربما قرئت له هذه السير من كتب يونانية أو فارسية يقرؤها له من يعرف لغاتها، وقد سمع بعبيد بن شرية الجرهمي، وعلم أنه يعي تواريخ التبابعة والأكاسرة، فأرسل يستقدمه من صنعاء، وأمره بكتابة ما وعاه من تلك التواريخ، فألف له كتاب «الملوك وأخبار الماضين» ... وهو أول كتاب يحدث عن فحواه. •••
وبلاغة معاوية في كلامه بلاغة سوية لا تعلو، ولا تسف عن بلاغة أمثاله ونظرائه: يبين عما يقصد، ويحتفل بالقول، فينقاد له طبعه الميسر للعربي الفصيح من أبناء عصره، ومن رسائله المحفوظة رسالة إلى زياد بن أبيه يتوعده فيها، ويدعوه إلى الطاعة وأخذ البيعة ممن يليه، ويقول منها: «... إنك عبد كفرت النعمة واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر، وإن الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرع من أصلها، لا أم لك، بل لا أب لك، قد هلكت وأهلكت وظننت أنك تخرج من قبضتي ولا ينالك سلطاني، هيهات! ... ما كل ذي لب يصيب رأيه، ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته، أمس عبد واليوم أمير ... خطة ما ارتقاها مثلك يا بن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا. فخذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الإجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك بأضعف ريش، ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسما مبرورا ألا أوتى بك إلا في زمارة
14
تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام، حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا، وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه، والسلام ...»
ومن ردوده المحفوظة رده على الإمام علي حين دعاه إلى البيعة يقول فيه: «... لعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، ولعمري ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير؛ لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل العراق؛ لأن أهل العراق أطاعوك ولم يطعك أهل الشام ... وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وموضعك من قريش فلست أدفعه ...» •••
وكان يتكلم مرتجلا فيحسن الجواب في مقامه، ومنه جوابه لعدي بن حاتم حين أتاه يدعوه إلى بيعة علي، فسمع منه دعوته على ملأ من صحبه، وأجابه قائلا: «... كأنما جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات يا عدي! كلا والله، إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان،
15
وإنك والله لمن المجلبين على ابن عفان - رضي الله عنه - وإنك لمن قتلته، وأرجو أن تكون ممن يقتل الله - عز وجل - به، هيهات يا عدي بن حاتم! لقد حلبت بالساعد الأشد ...»
وكان يحتفل بتحضير الكلام، فيقول كما قال في صفين: «الحمد لله الذي دنا في علوه وعلا في دنوه، وظهر وبطن، وارتفع فوق كل ذي منظر، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، يقضي فيفصل، ويقدر فيغفر، ويفعل ما يشاء، إذا أراد أمرا أمضاه، وإذا عزم على شيء قضاه، لا يؤامر
16
أحدا فيما يملك، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا، وقد كان فيما قضاه الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر، وقد قال الله سبحانه وتعالى: «ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد» انظروا يا أهل الشام! إنكم غدا تلقون أهل العراق، فكونوا على إحدى خصال ثلاث: إما أن تكونوا طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم، فأقبلوا من بلادكم حتى نزلوا بيضتكم،
17
وإما أن تكونوا قوما تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم، وإما أن تكونوا قوما تذبون
18
عن نسائكم وأبنائكم، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل، واسألوا الله لنا ولكم النصر، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين.» •••
وهذه خطبة ربما أضيف إليها بعض العبارات المستحدثة بعد عصرها، كالمقابلة بين العلو والدنو، وبين القضاء والقدر، ولكنها فيما عدا ذلك لا تستغرب من زمانها ولا موضعها، وقد خطب معاوية لا شك في ذلك، وما بقي من خطبه غير مستغرب من زمانه وموضعه، فهو في طبقة هذه الخطبة وعلى نهجها، ومنه آخر كلامه قبل موته حيث قال:
أيها الناس، إن من زرع قد استحصد، وقد طالت عليكم إمرتي حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، وإنه لا يأتيكم بعدي إلا من هو شر مني، كما لم يأتكم قبلي إلا من كان خيرا مني، وإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ... اللهم إني أحببت لقاءك فأحبب لقائي.
وتحفظ له الكلمات من جوامع الكلم ومن التعبير المونق
19
الجميل، ولكنها غير كثير، فمنها قوله: «إن السلطان يغضب غضب الصبي، ويبطش بطش الأسد.» وقوله: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، أرخيها إذا شدوها، وأشدها إذا أرخوها.»
ودخل عليه عمرو بن العاص فرآه يرقص إحدى بناته، وكأنه لمح منه تعجبا لفعله، فنظر إليه وهو يقول: هذه تفاحة القلب.
فلم يكن من المفحمين،
20
ولا من ذوي السجية في القول، وقد سمع غير مرة يقول ما معناه: إنما شيبني حذر الخطأ في الجواب.
وندر بين معاصريه من النابهين من لم تنسب إليه أبيات من الشعر تصح أو لا تصح في النقل والرواية.
وقد نسب إلى الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه عيره أبياتا كتب بها إلى أبيه يحذره من الإسلام، وهي:
يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا
بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
خالي، وعمي، وعم الأم ثالثهم
وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
لا تركنن إلى أمر تكلفنا
والراقصات به في أمرنا الخرقا
21
فالموت أهون من قول العداة لقد
حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا
22
والحسن أحق أن يتحرى ما يحفظه وما ينسبه، وما كان معاوية على مبعدة من أبيه فيكتب إليه، ولا كان من دأب معاوية أن ينصح أباه، وقد عاش إلى آخر أيامه يشاوره ولا يبرم أمرا دونه، وهي - بعد - أبيات ليست من نفس الشعر في صدر الإسلام ، ولكنها تشبه المقطوعات التي فاضت بها الكتب الموضوعة في حرب صفين، وتكاد تلقي في روع القارئ أنهم في ذلك العهد لم يفوهوا بسطر من النثر إلا ومعه سطر منظوم.
ومن قبيل هذه الأبيات أبياته التي قيل: إنه بعث بها إلى ابن الزبير مع رسالة يدعوه فيها إلى مبايعة يزيد بولاية العهد، وهي:
رأيت كرام الناس إن كف عنهمو
بحلم رأوا فضلا لمن قد تحلما
ولا سيما إن كان عفوا بقدرة
فذلك أحرى أن يجل ويعظما
ولست بذي لؤم فتعذر بالذي
أتاه من الأخلاق ما كان ألأما
ولكن غشا لست تعرف غيره
وقد غش قبل اليوم إبليس آدما
فما غش إلا نفسه في فعاله
فأصبح ملعونا وقد كان مكرما
وإني لأخشى أن أنالك بالذي
أردت فيخزي الله من كان أظلما
فليس هذا الشعر من نسق عصره، ولا من عادات رجاله في مقام كهذا المقام، ولكن الأمر الذي يعهد فيهم مع روايتهم للشعر والمثل أنهم يستشهدون بالأبيات في موضعها، ويتأسون بها في موقعها، وكذلك قيل: إن معاوية ذكر أبيات ابن الأطنابة ساعة فراره من المعركة ليلة الهرير؛ فعاوده الثبات وجعل يترنم بها ويسمعه من حوله يعيد منها:
وقولي كلما جشأت وجاشت:
23
مكانك تحمدي أو تستريحي
وقيل: إنه تمثل شعرا وهو يجود بنفسه، فقال:
وتجلدي للشامتين أريهمو
أني لريب الدهر لا أتضعضع
ثم قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة
24
لا تنفع
وقيل غير ذلك مما لا داعي للشك فيه إذا كان محصوله كله أنه كان يحفظ الأشعار والأمثال، ويستشهد بها في مواطنها على سنة نظرائه من العرب أجمعين.
ولنا - بعد - أن نفهم أنه نشأ في الجاهلية نشأة أبناء الأسر وأصحاب الرئاسة الموروثة، وتعلم ما يتعلمونه، وتدرب على دربتهم التي ألفوها، إلا أنه كان إلى تربية التجارة والتدبير أدنى منه إلى تربية الفروسية والنضال، فلم يؤثر عنه من فعال الفروسية بعد بلوغه مبلغ الرجال فعل يميزه بدربة خاصة على فنونها المعهودة في زمنه كالمسايفة، وإصابة الهدف، والسبق على متون الخيل، والصمود للأقران في المبارزة، ولعل تربيته الفروسية لم تزد على القدر الضروري الذي يعاب الجهل به، ولا يبرز إلى مكان التنويه والتمييز.
وهذا القسط من التربية كاف لسروات الجاهلية من العاملين في مثل عمله وعمل أبيه، وهو تدبير التجارة القرشية، وحمل اللواء لحمايتها، والاستعانة بمن يصلحون لحراستها، ويذبون عنها بالسلاح إذا وجب الذب عنها.
أما بعد الإسلام فهذه التربية، أو هذه النشأة، تقترن بسؤال آخر عن نصيبه من فقه الدين والثقافة الإسلامية، ويكاد يدعو الأمر هنا إلى سؤال غير هذا السؤال في أمر الدين من أساسه، فإن أناسا من الغلاة قد شككوا في إسلامه، بل جزموا بإسلامه على دخلة ومداهنة، فهل كان لهذا الشك من مسوغ في عمله، أو كلامه بعد إسلامه مع أبيه في عام الفتح كما هو معلوم؟ •••
لقد تأخر إسلامه كما تأخر إسلام أبيه، فأسلما معا في عام الفتح وهو في نحو الثالثة والعشرين، وليس هذا التأخر بموجب للشك في عقيدته؛ لأنه يحدث في كل دين وفي كل دعوة، وينقسم الناس في جميع الدعوات الدينية والفكرية إلى مبادرين ومترددين ومتلبثين متلكئين لا يستجيبون لها إلا مع آخر مستجيب، ولا يندر بعد ذلك أن يكون المتأخر أصدق إيمانا، وأثبت عقيدة من المبادر المتقدم، وليس من الجائز أن تتخذ العادة المطردة في الاستجابة للدعوات حجة على نقيضها؛ فما كانت الدعوات قط إلا هكذا أو لا تكون.
ومعاوية بعد إسلامه لم تثبت عليه كلمة ولا فعلة تنقض تصديقه بدينه ورعايته لفروضه وشعائره: كان يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، ويقرأ القرآن ويستمع إليه، وكانت كل لفظة فاه بها وأحصيت عليه في مرض الوفاة تدل على الإيمان بلقاء الله، وعلى الإيمان بالجزاء في العالم الآخر، ومما تواتر من أحاديث الملازمين له في ساعاته الأخيرة أنه كان يحتفظ بقلامة من ظفر رسول الله، وشعرات من لحيته الشريفة، أخذها من وضوئه، وما زال محتفظا بها حتى أوصى بأن تدفن في كفنه، وكل أولئك قد يسري إليه الظن ممن تغالبه الظنون، إلا المعيشة بين الأهل والبنين حيث ينطلق المرء على سجيته، وتبدر الفلتات على الرغم من طول الحذر والمراوغة ممن لهم باطن غير ظاهرهم في العقيدة الدينية، ولا نتصور أن رجلا له باطن وظاهر في أمر العقيدة ينشأ من بيته مؤمنان تقيان، كخالد ومعاوية الثاني حفيديه؛ فإن إخفاء البواطن عشرات السنين حيث يعيش المرء على رسلته
25
أمر يفوق طاقة الإنسان.
قلنا في عقيدة صاحبه عمرو بن العاص: إنه «مسلم لا شك في إسلامه، ولا شك في طبعه، ولا شك في اختلاف الطبائع بين المعتقدين جميعا في كل دين من الأديان ورأي من الآراء، فلما فتحت له الحيطة باب التفكير في الإسلام أقبل عليه، وود لو يغنمه بريئا من عقابيل
26
الجاهلية؛ لأنه نفض يديه منها وأيقن بضلالها.» •••
قال وقد اعتزم لقاء النبي - عليه السلام - ما فحواه: «فلقيت خالدا فقلت: ما رأيك؟ قد استقام المنسم والرجل نبي، فقال خالد: وأنا أريده، قلت: وأنا معك ... وكنت أسن منهما فقدمتهما لأستدبر أمرهما، فبايعا على أن يغفر لهما ما تقدم من ذنوبهما، فأضمرت أن أبايعه على أن يغفر لي ما تقدم وما تأخر، فلما بسط يده قبضت يدي، فقال عليه السلام: ما لك يا عمرو؟! قلت: أبايعك يا رسول الله، على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، قال: إن الإسلام والهجرة يجبان ما كان قبلهما، فبايعته، ووالله ما ملأت عيني منه ولا راجعته بما أريد حتى لحق ربه؛ حياء مني.»
وقلنا قبل ذلك: «ومن سيرة عمرو بعد إسلامه نعلم أنه كان يتعبد، ويتصدق ويستغفر من ذنوب وقع فيها، ويقيم الصلاة، ويسرد الصوم، ويعيش بين ذويه مسلما، وكلهم مسلمون.»
ويقال في معاوية كل ما يقال في عمرو مع اختلاف الطبائع، وبقاء لوازمه أو ملازماته في أعمق أعماق الطوية على غير وعي من صاحبها؛ حيث يستوحيها مع العقيدة في أعماله الظاهرة وسرائره الخفية.
ومن حيل الطبع في العلاقة بينه وبين ربه أنها لا تخرج عن وحي سليقته في العلاقة بينه وبين الناس.
كان حريصا على أن يبرئ ذمته، ويلقي تبعته بما وسعه من حيلة وحول ، وهكذا كان اجتهاده في نفي التبعة عنه بين يدي الله.
انظر مثلا إلى حيلة طبعه حين أراد أن يبرأ إلى الله من أخذ البيعة بعده لابنه يزيد، قال في إحدى خطبه: «اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت في فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده، وإنه ليس لما صنعت به أهلا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك.»
وكأننا به يسائل نفسه بعد ذلك: «ماذا بقي من التبعة علي في عقابيل هذه البيعة؟ غاية ما أرعى به حق الله في أمر ولدي الذي أحبه أن أسأل له الموت إن كان غير أهل لولاية العهد بعدي، فإن كان الله قد أبقاه ولم يقبضه، فقد صنعت ما يستطيعه والد يظن بينه وبين نفسه أنه قدم حب ولده على رعاية حق الله.»
ومن حيل الطبع في خطبته الأخيرة قوله: «إن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، اللهم إني أحببت لقاءك فأحبب لقائي.»
حجة مقبولة عند الله؛ مخلوق يحب أن يلقى خالقه، فالله يحب أن يلقاه.
واختلاف طبائع الناس في الدين على غير وعي منهم لا معنى له إلا أنهم يتدينون على حسب طبائعهم، وليس معناه أنهم يناقضون الدين ولا ينطوون في بواطنهم عليه.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن معاوية يعلم من فقه دينه ما لا بد أن يعلمه رجل كتب للنبي، وحضر مجالسه، وحضر عهده كله، وعهد خليفته من بعده، ومرت به الأقضية التي فصل فيها ولاة الأمر على مسمع منه، وراجع الفقهاء من الصحابة فيما أشكل عليه بعد ذلك من أشباه تلك الأقضية، فهو على نشأته الجاهلية والإسلامية لم يقصر في معارف دينه ودنياه عن الطليعة بين نظرائه من السادة الأمويين والقرشيين.
الأعمال
منذ الفتح الإسلامي لم يعزل وال واحد من ولاة الشام لشكاية الرعية منه، ولم يتول لعراق وال واحد لم يعزل للشكايات الكثيرة، التي كانت تتقاطر على دار الخلافة من رعيته.
ويزول العجب بعض الشيء إذا نحن قسمنا القطرين قسمين آخرين: قسم هو حصة الدولة البيزنطية، وقسم هو حصة الدولة الفارسية.
فالشام التي كانت حصة الدولة البيزنطية كانت طويلة العهد بالنظم الإدارية والحكومية، وكانت فيها مدن من عواصم الدولة الكبرى، وعليها رؤساء من المميزين في الدولة بشارات السياسة والدين، وقد فتحها المسلمون على شروطهم المحدودة للذميين المعاهدين؛ لأن أهلها كانوا جميعا من أهل الكتاب، فلما استقر الأمر للدولة الإسلامية فيها بعد زوال الدولة البيزنطية، لم تكن من جانب الرعية مقاومة إجماعية، ولم يكن على شروط المعاهدة خلاف بين الحكام والمحكومين.
وكانت الشام كذلك أقرب إلى الاستقرار؛ لأن حدودها جميعا كانت في بلاد الدولة الإسلامية، إلا الجانب الذي يلي تخوم الدولة البيزنطية، ولم يكن منه خطر كبير بعد صدمة الهزيمة الكبرى التي مني بها هرقل، وودع بعدها تلك البلاد وداع الأبد، وكان كل خطر من هذا الجانب - عظم أو صغر - تتلقاه الدولة الإسلامية بجيوشها البرية وأساطيلها البحرية في جملتها، فلم تكن الشام منفردة بالدفاع إذا هجم الروم برا أو بحرا، بل كانت الولايات من إفريقية ومصر، ومن الجزيرة في بعض الأحايين تتجمع لدفع الهجمات أو لاتقائها قبل وقوعها.
وكانت سياسة عمر في تمكين الفتوح وتحصينها أنفع السياسات للشام خاصة؛ إذ كانت خطته كما جاء في فتوح البلدان للبلاذري أنهم «كلما فتحوا مدينة ظاهرة، أو عند ساحل رتبوا فيها قدر من يحتاج لها من المسلمين، فإن حدث في شيء منها حدث من قبل العدو سربوا
1
إليها الإمداد.»
فانتظمت معاقل الدفاع عن الشام على شواطئها وعند أطرافها، وأحيطت من كل جانب بالمدافعين عنها من جند الدولة الإسلامية في الشرق والشمال والجنوب. •••
ولا نحذرن شيئا كما ينبغي أن نحذر الإشاعات التي نسميها بالإشاعات التاريخية، ومن قبيلها إشاعة الضعف عن عثمان بن عفان - رضوان الله عليه - فقد جنت هذه الإشاعة على النقد التاريخي، حتى خيل إلى الناس أنه لم يعمل عملا قط اتسم بالقوة أو خلا من الضعف، وهو إسراف في الرأي كإسراف جميع الإشاعات من قبيلها؛ لأن سياسة عثمان البحرية كانت أقوى السياسات، وكان فيها قدوة لمن بعده، ولم يكن مقتديا بأحد قبله، ونحسبه عرف خطر الشواطئ والموانئ من عمله في التجارة، فأصلح ميناء جدة في الحجاز، ولم يغفل لحظة عن الشواطئ المفتوحة في إفريقية ومصر والشام، ولا يقال عن حملة واحدة من حملات البحر: أنه كان مسوقا إليها برأي غيره، فإنه - على ما هو معلوم من سبق معاوية إلى الاستئذان في فتح قبرص أيام الفاروق - لم يأت العزم الأكبر في هذه الحملة إلا من جانب عثمان؛ إذ كتب إلى معاوية يستوثق من جده في فتح هذه الجزيرة وتأمين الملاحة حولها، فأمره - كما جاء في البلاذري - بأن يركب البحر إليها ومعه امرأته «فإن ركبت البحر ومعك امرأتك، فاركبه مأذونا لك وإلا فلا.»
كانت هذه حال الشام يوم تولى معاوية إقليما منها على عهد الفاروق، ثم تولاها جميعا على عهد عثمان.
وبخلاف ذلك، كانت حالة العراق من جميع الوجوه، فلم تكن فيها معاهدات ذمية تدين الرعية، ولم تكن حدودها الشرقية والشمالية آمنة كل الأمان في زمن من الأزمان، فكانت - من البصرة، إلى أرمينية، إلى خراسان - عرضة للحملات والفتن في كل آونة، وكانت الدول الإسلامية لا تفرغ لها كل قوتها كما أفرغتها للدفاع عن الشام أمام الدولة البيزنطية؛ لأن دولة فارس ذهبت بذهاب ملكها، فلم يحسب لها المسلمون حساب القوة المتجمعة، وسلكوا فيها مسلك التأهب للمفاجآت الطارئة من هنا وهناك، وليس فيها ما يشغل بال دولة في مواجهة دولة أخرى. •••
وعلى هذا، كان العراق - أو كانت الجزيرة كلها - أطرافا مهملة في أيام الدولة الفارسية، فلم يكن لها نظام من نظم الإدارة المتناسقة يسير عليه الحكم كما سارت الحكومة الإدارية في الشام، ولم تتضح علاقات الحاكمين بالمحكومين في أنحائها، كما اتضحت مع المعاهدين الذميين.
وأعضل من ذلك كله بين مشكلاتها أن الفتح الإسلامي قد جاءها بمجتمع مختلف منقول إليها بحذافيره من سادته وقادته إلى سوقته ومواليه.
فقد انتقل إليها رهط من القادة وذوي الرئاسة ليقيموا فيها، ويزرعوا الأرض، ويتجروا بين أنحائها، وعاش إلى جانبهم ألوف من الجند المقيمين والجند العاملين ، وكلهم لهم أعطية من بيت المال، يعطاها من عمل في الفتوح الأولى ومن يعمل في الغزوات التالية، وكان تقسيم الأعطية مشكلة من مشكلات هذا المجتمع المنقول، فمن بقي عاملا في الغزوات يحسب له حقا يستكثره على سابقيه من المجاهدين المقيمين، وأعطية بيت المال تأتي كلها من المدينة، أو تصرف كلها بتقديرها، ويلام الولاة في نظر الجند؛ لأنهم لا يفرقون في الإحصاء والتقدير بين الفريقين، ويلامون لأنهم يعيشون بين أقربائهم وعشيرتهم ويتعرضون لشبهات المحاباة بالحق أو بالباطل، ولا تنقطع الشكاية من الولاية، إلا ريثما يعزل واحد منهم ويتلوه خلف له أخذ في العمل، فيأخذه القوم كرة أخرى بالتهم والشبهات.
وقد ثقلت أعباء هذه الشكايات على كاهل الفاروق وهو في هيبته وعزمه، واقتداره على فض المنازعات، فلم يكن يرى في جوانب المسجد مغموما إلا علم أصحابه أنه مشغول بشكاية من شكايات الرعية أو الجند في العراق. •••
وبدأ معاوية أعماله العامة في الشام وهي بتلك الحالة من الاستقرار بالقياس إلى جميع الولايات الإسلامية الأخرى، وجاء عمله فيها تدريجيا من معاونته لأخيه يزيد إلى قيامه على ناحية من الشام خلفا له إلى قيامه على الشام كلها في أيام عثمان، فكان كل عمل من هذه الأعمال بمثابة «فترة تمرين» للعمل الذي يليه ويزيد عليه في السعة والتكليف، وكانت الأعمال «الحربية» أو أعمال التحصين يتولاها من حوله رجال من صناديد الحرب كعبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن خالد، فلم يقم قط بقيادة حربية مستقلة وصل بها إلى نتيجة حاسمة أو ناجحة.
ثم نشبت الفتنة الوبيلة في خلافة عثمان وهو بمعزل عنها، وقتل عثمان فاتخذ من مقتله ذريعة للخروج على الإمام علي وإنكار بيعته، وأسرف كل الإسراف في التذرع بهذه الذريعة قبل استقلاله بالخلافة، فما كان له من مسوغ يتعلل به غير مقتل عثمان يردده في كل حديث، وفي كل خطاب وفي كل جواب، وينكر عليه بعض صحبه أن يمنع عليا وأصحابه الماء في وقعة صفين، فيجد المعذرة له في صنيعه أنه يمنعهم الماء؛ لأنهم منعوا عثمان الماء وهو محصور.
واستند إلى آية من القرآن الكريم فسرها برأيه؛ ليقنع أنصاره بأنه على حق وأنه منصور، وهي قوله تعالى:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .
وعلى قدر اللهج بهذه الفاجعة قبل استقلاله بالخلافة سكت عنها وأغفلها بعد ذلك، فلم يعد إليها قط إلا ليعتذر إلى قرابة الخليفة المقتول من سكوته وإغفاله.
وينبغي هنا أن نذكر أن معاوية لم يكن بحاجة إلى قدرة خارقة؛ لإثارة الشام باسم الخليفة المقتول؛ فإن عثمان كانت له مصاهرة في بني كلب أكبر قبائل البادية في الشام، وكانت زوجه نائلة بنت الفرافصة تصف مصرعه في رسائلها، وتبعث بقميصه المخضب بالدم وأصابعه المبتورة، فترفع على المنبر حيث يراها شهود المسجد في كل صلاة، وكان جند الشام بعيدين عن معمعة
2
الفتنة، لم يسمعوا صوتا من أصوات الثورة على الخليفة المقتول، ولا حجة من حجج السخط على حكمه، وكانوا بين معسكرين أقربهما إليهم وإلى عملهم معسكرهم في ولاية معاوية، ومنهم طائفة كان يستبقيها لديه ولا يأذن لأحد منها أن يبتعد من جواره برهة إلى معمعة الفتنة؛ مخافة عليه من الاستماع لحجج المخالفين، فيداخله الشك في دعوته ودعواه. •••
ولم ينته معاوية في نزاعه لعلي إلى موقف فصل، بالحرب أو بالسياسة، ففي وقعة صفين حلت الهزيمة بجيشه ليلة الهرير، وأيقن بسوء العاقبة إذا استمرت مدة القتال، فأشار عليه عمرو بن العاص بحيلة المصاحف، فرفعوها في اليوم التالي ونادوا بالتحكيم إلى كتاب الله، فاختلف جند الإمام واضطر في جنده المختلف إلى قبول التحكيم.
ومن المؤرخين من يبالغ في خطر التحكيم، ويجعل له شأنا في عواقب النزاع لم يكن له ولا كان من المعقول أن يكون له بحال.
فهذا التحكيم لم يكن ليبدل تلك العواقب على أية نتيجة من النتائج انتهى إليها، سواء اتفق الحكمان على خلع علي ومعاوية معا، أو اتفقا على خلع أحدهما دون الآخر، أو لم يتفقا على شيء.
ففي كل حالة من هذه الحالات، كانت العواقب صائرة إلى ما صارت إليه بلا اختلاف، وكان المعسكران يمضيان في طريقهما الذي مضيا فيه، فلا يسلم أحدهما لصاحبه برأي يمليه عليه الحكمان متفقين أو غير متفقين.
إنما وقعت الواقعة الحاسمة بمقتل علي - رضوان الله عليه - دون صاحبيه، ثم آلت خلافته إلى ابنه الحسن في معسكر مضطرب بين الخوارج والشيعة والموالي والأتباع الذين لا يعملون عمل الأتباع طائعين، ولا يعملون عمل الرؤساء مقتدرين مضطلعين، وورث الحسن معسكرا لم يطل عليه عهد الولاء لأحد قط؛ ليناضل به معسكرا لم يقع فيه خلاف قط منذ الفتح الأول، إلا الخلاف الذي كان يريده معاوية ويعمل له؛ حذرا من مغبة الاتفاق عليه. •••
ولما امتنع طلب البيعة لغير معاوية بويع معاوية وحده، أو بقي معارضوه متفرقين لا يلوذ فريق منهم برئيس يرشح نفسه لخلافة أو ينهض لها بحجة، فترك هؤلاء المتفرقين في العراق يضرب بعضهم بعضا، أو في الحجاز لا يعملون شيئا غير الترقب والانتظار.
ولا شك أن معاوية قد استفاد في إمارته - منذ اللحظة الأولى - من كل نظام مفيد في حكومة الشام، فأبقى ما لا غنى عنه من نظم الإدارة، وتوسع فيه وزاد عليه، وأبطل ما لا هابد أن يبطل مع الدولة المتبدلة والدين الجديد.
وقد وكل الإدارة المالية إلى القائمين بها في أيام الدولة البيزنطية، وعلى رأسهم سرجون بن منصور، ثم ابنه منصور بن سرجون، ووكل الإدارة الكتابية إلى عبد الله بن أوس الغساني من وجوه الغساسنة أصحاب الملك القديم في الشام، ونظم البريد وتوسع فيه؛ للاطلاع على أخبار الأقاليم وإبلاغ الأخبار إليها على انتظام وترتيب، وأنشأ ديوان الخاتم لمراجعة الحساب بين العاصمة والولايات، وعزز بناء الأسطول بتجديد مصانع السفن في عكا، واستجلب من فارس كل عامل نافع في مسائل الخراج والإحصاء، وعني بتسجيل المواليد والوفيات لتقسيم الأعطية والأرزاق، وجعل للجند عملا يصرفهم عن البطالة والشقاق، فداول بينهم وبين مواعيد الصوائف والشواتي وهي مواعيد الحراسة والغزو في بلاد الروم من تخوم الشام إلى أرباض
3
القسطنطينية، وكان يحرك الأساطيل من حين إلى حين لتهديد القسطنطينية، وسواحل الدولة البيزنطية؛ ليشغلها بالدفاع عن التفكير في الهجوم.
وبرزت حزامة معاوية في تدبير شئون ملكه مع ما اشتهر به ساسة العصر - في إقبال الدولة والدنيا - من الكلف بمناعم العيش والتهافت على المتع والملذات، بل مع اشتهار معاوية نفسه بمثل هذا الكلف في بيته وفيما يشهده الناس من أبهته وزينته، فكان عظيم العناية بأطايب الخوان، كثير الزهو بالثياب الفاخرة، والحلية الغالية، وكان يأكل ويشرب في آنية الذهب والصحاف المرصعة بالجواهر، ويأنس للسماع واللهو ولا يكتم طربه بين خاصة صحبه «لأن الكريم طروب». •••
إلا أنه كان على هذا كله لا يضيع عملا في سبيل لذة، ولا ينكص عن مشقة تواجهه من أجل متعة تغريه، وربما أمر بإيقاظه ساعات من الليل لمراجعة الرسائل والشكايات من أطراف الدولة القاصية، وربما جلس للمظالم نهارا فاستمع إلى الجليل والدقيق منها، ونظر في بعضها، وأحال بعضها إلى من يناط بها ويحاسبه على النظر فيها، وكانت له قدرة على ضبط هواه حين يريد، وقدرة على تصريف وقته كما يشاء.
ولما برزت منه هذه القدرة للشاهد والغائب أتيحت له حجة لطلب الخلافة أغنته عن اللجاجة بمظلمة عثمان، فكان يخطب فيقول: «إنني إن لم أكن خيركم فأنا أنفعكم لأنفسكم.» وكان يقول للحسن ولغيره: «إنه لو علم أن أحدا أضبط لشئون الملك منه وأقدر على جمع الرعية حوله؛ لما نازعه هذه الأمانة الثقيلة على عاتقه.»
وإذا كان الأمر أمر قدرة وعجز، فلا جدال في وصف معاوية بالقدرة ونفي العجز عنه؛ لأنه من الصفات التي ترد على بال عارفيه أو خصومه.
بيد أن القدرة - كما قلنا في الصفحات الأولى من هذه الرسالة - هي أحوج الصفات إلى التقدير؛ لأنها لا تعرف إلا بمقدارها، ولا تدل على شيء إن لم تكن قدرة على هذا الشيء أو ذاك.
وتقدير هذه القدرة التي امتاز بها رأس الدولة الأموية - فيما نرى - أنها كانت الحزم غاية الحزم في الشوط
4
القصير، ولكنها تخلو من الحزم، أو تنحرف إلى نقيضه في الشوط الطويل والأمد البعيد.
إن معاوية لم يضيع عملا حاضرا في سبيل متعة حاضرة، ولكنه أوشك أن يضيع الغد كله في سبيل اليوم الذي يشهده، أو في سبيل العمر الذي يحياه.
ألجأته الحاجة إلى إنفاق المال في أبهة الملك والإغداق على الأعوان والخدام إلى إرهاق الرعية بالضوابط، ومخالفة العهود مع أصحاب الجزية، فكان من الولاة من يطيعه، ومنهم من يجيبه معترضا كما فعل وردان في مصر حين أمره بذلك، فأجابه سائلا: «كيف أزيد عليهم وفي عهدهم ألا يزاد عليهم؟»
ومن الولاة الذين أنكروا أن تستصفى الأموال لبيت مال الخليفة والي خراسان، الذي كتب إليه زياد يأمره ألا يقسم في الناس ذهبا ولا فضة، فكتب الوالي إلى زياد: «بلغني ما ذكرت من كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله تعالى قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماء والأرض كانتا رتقا
5
على عبد، ثم اتقى الله جعل له مخرجا، والسلام.»
إلا أن الولاة الذين أطاعوا وبالغوا في الطاعة أكثر من الذين ذكروا بالمخالفة، وكلما اشتدت الحاجة إلى المال اشتد الطلب على الرعية، وعمد بيت المال إلى احتجاز حصة الزكاة من الأعطية لحسبانها في الهبات والهدايا، وفتح هذا الباب على مصراعيه فتوسع فيه كل خليفة بعد معاوية، حتى جعلوا يحاسبون الناس «على التخمين»، ويحصون عليهم ثمراتهم قبل أن تنبتها الأرض، فيحسبونها عليهم بثمن دون ثمنها، ويأخذون منها ما يصل إلى أيديهم بالثمن الذي اختاروه، وتمادى هذا العسف إلى عهد عمر بن عبد العزيز الذي استنكره، وكتب إلى بعض ولاته يقول: «إن عمالك يخرصون
6
الثمار عن أهلها، ثم يقومونها بسعر دون سعر الناس الذين يتبايعون به، فيأخذونها قرفا
7
على قيمتهم التي قوموها ...» ولم ينته هذا العسف حتى كانت نهايته بداية للخراب، وإفلاس الدولة في ختام عهدها، فكان إفلاسها هذا - على حين حاجتها إلى مضاعفة المورد - سببا من أسباب التعجيل بزوالها.
وكأنما كان غرام معاوية بأبهة الملك زهوا في قرارة النفس لا يبالي أن يباهي به من صادفه، ولو كان من الزهاد المنكرين للترف والسرف ، وخيلاء الثراء والفخر بالبناء والكساء، فلما بنى قصر الخضراء بلغ من إعجابه بالبناء أن سأل أبا ذر داعية الزهد والكفاف من الرزق: كيف ترى هذا؟
فسمع منه جوابا كان خليقا أن يترقبه لو لم يكن لزهوه بما ابتناه لا يصدق أن أحدا يراه بغير ما رآه، قال أبو ذر إمام «الاشتراكيين» في ذلك الزمان: «إن كنت بنيته من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيته من مالك فأنت من المسرفين ...» •••
وأشأم من هذه السياسة المالية سياسة الأمن، أو سياسة ضبط الأمور كما كان يسميها.
فليس أضل ضلالا ولا أجهل جهلا من المؤرخين الذين سموا سنة «إحدى وأربعين هجرية» بعام الجماعة؛ لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها؛ لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها.
إذ كانت خطة معاوية في الأمن والتأمين قائمة على فكرة واحدة هي التفرقة بين الجميع، وسيان بعد ذلك سكنوا عن رضا منهم بالحال، أو سكنوا عجزا منهم عن السخط والاعتراض، وكان سكونهم سكون أيام أو كان سكون الأعمار والأعوام.
ولم يقصر هذه الخطة على ضرب خصومه بعضهم ببعض، كما فعل في العراق حيث كان يضرب الشيعة بالخوارج، ويضرب الخوارج بالشيعة، ويفرق بين العشائر العربية بمداولة التقريب والإقصاء لعشيرة منهم بعد عشيرة، بل كان يفعل ذلك في صميم البيت الأموي من غير السفيانيين، فكان يأمر سعيد بن العاص بهدم بيت مروان كما تقدم، ثم يأمر مروان بهدم بيت سعيد، ويغري أبناء عثمان بالمروانيين كما يغري المروانيين بأبناء عثمان.
وفرق بين اليمانية والقيسية، أو بين جنوب الجزيرة وشمالها، فأعطى حسان بن مالك سيد القحطانيين حكمه في صدارة المجالس لليمانية، ومضاعفة الأجر لهم، أو للألفين الذين اصطفاهم من حزبه ورهطه، وجعل لكل هؤلاء الألفين حق التوريث من بعده لأقرب الناس إليه في رواتبه، وأرزاقه ووجاهته وقيادته، واشترط رؤساء اليمانية عليه ألا يعقد في أمر، أو يحله إلا بعد مشورة منهم يقدمهم فيها على ولاته ووزرائه. •••
وفرق كذلك بين العرب والموالي، وأوشك أن ينكل بالموالي؛ ليقصيهم عن مناصب الدولة وعن الإقامة في عواصمها؛ لأنه كان يعلم أن العرب يلوذون برؤسائهم، ولا رؤساء للموالي يلوذون بهم في نقمة أو مظلمة.
وانفتح للموالي بذلك باب اللياذ بأصحاب المذاهب والدعوات؛ لأنهم رءوسهم دون الرءوس، وقادتهم دون القادة، فلم يكد داعية من الدعاة يجهر بمذهب معقول أو غير معقول إلا ألفى إلى جانبه جموعا من الموالي تصغي إليه، ووافق ذلك أن الخوارج من صميم العرب كانوا يدعون إلى مذهب في الخلافة يوافق الموالي في كل أمة؛ لأنه مذهب لا يحصر الخلافة في النسب ولا في قريش، ولا يرى لها شرطا غير التقوى والصلاح، فتفرق الموالي بين الخوارج والشيعة، ونصروا هؤلاء تارة وهؤلاء تارة أخرى؛ لأنهم جميعا يحاربون بني أمية.
واتبع هذه الخطة - خطة التفرقة - بين أهل الشام الذين تمهدت له ولايتهم من قبل الإسلام، فاستخلص لنفسه فرقة منهم لا تخرج من الشام ولا تلتقي بأحد من دعاة العراق أو الحجاز أو مصر أو إفريقية، ثم نقل إلى الشام طوائف شتى من غير أهلها، فنقل إليها طوائف الزط والسيابجة من البصرة، ونقل إلى الأردن وصور طوائف من الفرس والموالي، ونقل إلى أنطاكية أساورة
8
الموانئ بالعراق، وخلط العرب بالعجم، وهؤلاء بسلالة الشاميين في كل بقعة من بقاع البلاد التي عرفت من قديم باسم البلاد السورية.
ولم يستطع أن يستخلص قبيلة بني كلب كلها؛ لأن منهم أصهار عثمان وبيت مروان، فاستخلص منهم أخوال يزيد، وأصبحوا بعد ذلك فريقين: فريق يدعو إلى خالد بن يزيد، وفريق يدعو إلى مروان. •••
وواضح من هذه التفرقة أنه كان يكف يده عن البطش والنكاية في معاملتهم جميعا على اختلاف النسب والمقام؛ لأنه كان يغري بعضهم ببعض فيستغني بالوقيعة بينهم عن الإيقاع بهم، ولكنه على هذا كان يؤيد سياسة الإيقاع مهما يكن من قسوتها وغلظتها، كما أيدها أقسى الولاة وأغلظهم في زمانه وبعد زمانه، وكان يختار لها من يعلم أنه يفرط فيها، ولا يقتصد في شرورها وموبقاتها، ولا يبالي أن يأخذ البريء بذنب الأثيم، ولا أن ينكل بالقريب قصاصا من البعيد، وكذلك فعل واليه زياد في البصرة حيث أعلن «شريعة» حكمه، فقال في خطبته التي افتتح بها حكمه: «... إني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعيد فقد هلك سعد، إياي ودلج
9
الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإياي ودعوى الجاهلية؛ فإني لا أجد أحدا ادعى بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وأحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما غرقناه، ومن حرق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيا، فكفوا أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم لساني ويدي، وإياي لا يظهر لأحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه.
وقد كانت بيني وبين أقوام إحن،
10
فجعلت ذلك دبر أذني
11
وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي؛ لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره.»
إلى أن قال واعدا بعد هذا الوعيد: «واعلموا أنني مهما قصرت عنه، فلست بمقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا رزقا ولا عطاء، ولا مجمرا
12
لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم؛ فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم.»
ثم عاد إلى النذير والوعيد فاختتم خطابه قائلا: «... إن لي فيكم لصرعى كثيرة؛ فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.» •••
وقد أمر صاحب شرطته أن يخرج بعد صلاة العشاء وانقضاء هزيع من الليل، ثم لا يرى إنسانا إلا قتله، وجيء إليه يوما بأعرابي لم يقتله صاحب الشرطة لاشتباه أمره عليه، فسأله زياد: أما سمعت النداء؟ ... قال الأعرابي: لا والله، قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل، وأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير.
قال: أظنك والله صادقا ... ولكن في قتلك صلاح الأمة، وأمر به فضربت عنقه.
ومثل هذا الحكم لا يغتفر ولو كان من معاذيره «ضبط» الأمور وتأمين الناس؛ لأنه يؤمنهم بخوف أشد عليهم من خوف العدوان، ولكنه على هذا لم يصلح للضبط والتأمين إلا فترة لم تطل - ولا يزال - سواء منها على الأمة أن تنقضي في عدوان أهل البغي، أو في نكال السلطان بمثل هذا النكال، ثم انقضت هذه الفترة، فنجمت نواجم الشر ولم تنشب في تلك الأنحاء ناشبة من الفتنة، إلا كان لها جرثومة من تلك السياسة التي تفسد الأمور في زمانها وفيما بعد زمانها.
وكان الناس من حين إلى حين يهربون من هذه الشدة، ويتحرمون بجوار العاصمة فيجيرهم معاوية، ولا يكف يد واليه عن غيرهم، وكتب إليه زياد مرة: إن هذا فساد لعملي؛ كلما طلبت رجلا لجأ إليك وتحرم بك.
فكتب إليه معاوية: «إنه لا ينبغي أن نسوس الناس بسياسة واحدة، فيكون مقامنا مقام رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس بيننا ...»
على أن زيادا تحرج أشد الحرج في قضية حجر بن عدي، وأرسله إلى معاوية فلم يتحرج معاوية من قتله، ولم يذكر الناس لزياد من جرائر قسوته في حكمه ما ذكروه من جرائر هذه السقطة لمعاوية.
وساءت العقبى من سياسة التفرقة كما ساءت العقبى من سياسة القسوة، فلم تنجم في الدولة ناجمة فتنة إلا كانت جرثومتها في هذه السياسة، وكان حزم معاوية وكانت قدرته في كل هذه الفتن حزما لا بد له من تعقيب، وكانت قدرته في أعماله جميعا قدرة لا بد لها من تقدير.
وجماع الصدق في هذا التقدير أنها كانت قدرة على الشوط القصير والأمد القريب، ولم تكن قط قدرة على الشوط الطويل والأمد البعيد، واستقر الملك لمعاوية على قلق دخيل إلى أن أدركته الوفاة سنة ستين للهجرة، وبطل نصفه قبل وفاته كأنه ضرب من الشلل، وأصابته لوقة، وسقطت أسنانه جميعا، كأنها من أدواء التخمة التي تعجل إلى الكبد والأسنان، ويبدو أثرها في مرض الجلد واللثة، وكان يخلط في وفاته أحيانا، ولكنه كان يصحو ساعة بعد ساعة حاضر الذهن صحيح اللسان، فدعا بصاحب شرطته الضحاك بن قيس الفهري، وبمسلم بن عقبة صاحب الأفاعيل المشهورة في حرب أهل المدينة، وقال لهما في أشهر الأسانيد: «بلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب عنك، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا لسانك وعيبتك،
13
فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر.»
ويقال إنه ألقى هذه الوصية إلى يزيد، فقال: «يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد قذفته العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به، فاصفح عنه؛ فإن له رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليس همه إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير.»
وشبيه أن تكون هذه الوصية في معناها آخر ما قاله ، وخلاصة ما خرج به من تجارب دنياه، فإنها سياسته التي كان يعيدها كما بدأها لو أنه عاد ليبتدئ بها من جديد في أيام يزيد ... معرفة بالرجال وقدرة على التدبير في الشوط القصير، وإحكام العقدة بآلتها في حينها، وبغير نظر إلى آلتها بعد ذلك الحين، ومن ذلك اختياره لإبلاغ الوصية أسوأ من يعين عليها مع الزمن: مسلم بن عقبة والضحاك بن قيس ... ومع ذاك مدافعته الفتن بالمجاراة والمداراة، فيوصي خليفته بعزل وال في كل يوم ولا يوصيه بالنظر فيما وراء ذلك من سخط على الحاكم، وعجز عن إرضاء المحكوم ... وصية رجل قدير، قدير غاية القدرة في الشوط القصير.
في الميزان
حق الأمانة على المؤرخ في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي أن يراجع بينه وبين ضميره طائفة من الحقائق البديهية، قبل أن يستقيم له الميزان الصادق لتقدير الرجال بأقدارهم، وتقويم المناقب والمآثر بقيمتها.
ومن هذه الحقائق البديهية أن الأموال التي بذلها معاوية للمأجورين من حوله لم تبذل لتعريف الناس بحسناته وسيئاته، كما يعرفها من لم يأجر بمال ولم يتصل معه بسبب.
ومن هذه الحقائق البديهية أن سلطان معاوية يدخل في الحساب حيث يؤوب الباحث إلى ذلك الزمن؛ ليفرق بين ما يقال عن صاحب السلطان، وما يقال عن رجل يحاربه السلطان في سمعته وذكراه.
ومن الحقائق البديهية تواطؤ الزمن على إقرار ما قيل وتكرر وطال وقوعه في الأسماع؛ حتى لتكاد تنفر من تغييره لو عرض لها فيه شيء من التغيير، وحتى لتكاد تعجز عن النفاذ إلى الحقيقة لو رغبت في ذلك التغيير لسبب من الأسباب، وقلما تعرض هذه الأسباب لمن لا يعنيهم تمحيص ما يقال في الساعة الراهنة، فضلا عما يقال ويعاد منه مئات السنين.
ومن الحقائق البديهية أن المحاباة تأتي بتوافق الطبائع، كما تأتي بالغرض والرشوة، فلا يسهل على الإنسان نقد صفة يعلم أنه متصف بمثلها، واستنكار وسيلة يعلم أنه لا يستنكرها، ولا يأبى النجاح إذا توسل بها إليه.
ومن الحقائق البديهية أن المحاباة تأتي من جهات لم تخطر للمنتفع بمحاباتها على بال، فالدولة الأموية في الأندلس أنشأت للشرق الإسلامي تاريخا لم يكتبه مؤرخوه، ولا يكتبونه على هذا النحو لو أنهم كتبوه، وجاءت تلك الدولة الأندلسية بمؤرخين من الأعلام ينصبون الميزان راجحا لكل سيرة أموية لا يقصدونها بالمحاباة، ولكنهم لا يستطيعون أن يقصدوها بالنقد والملامة؛ لأنهم مصروفون بهواهم عن هذا الطريق.
من هؤلاء أناس في طبقة ابن خلدون، يضع معاوية في ميزانه فيكاد يحسبه بقية الخلفاء الراشدين، ويتمحل المعاذير له في إسناد ولاية العهد إلى ابنه مع فسوقه وخلل سياسته، وكراهة الناس لحكمه حتى من أبناء قومه.
ولا يهولن قارئ التاريخ اسم ابن خلدون فيذكره، وينسى الحقائق البديهية التي لا تكلفه أكثر من نظرة مستقيمة إلى الواقع الميسر لكل ناظر في تواريخ الخلفاء الراشدين وتاريخ معاوية.
فما في وسع ابن خلدون أن يخرج من هذه التواريخ بمشابهة بعيدة تجمع بين معاوية والصديق والفاروق وعثمان وعلي في مسلك من مسالك الدين أو الدنيا، وفي حالة من أحوال الحكم أو المعيشة، وإنه لفي وسع كل قارئ أن يجد المشابهات الكثيرة، التي تجمع بين معاوية ومروان وعبد الملك وسليمان وهشام، فلا يفترقون فيها إلا بالدرجة والمقدار، أو بالتقديم والتأخير، وإذا كان هذا شأن ابن خلدون، فقل ما شئت في سائر المؤرخين وسائر المستمعين للتواريخ، من مشارقة شهدوا زمان الدولة ومشارقة لم يشهدوه، ومن مغاربة عاشوا في ظل تلك الدولة، وتعلقت أقدارهم بأقدارها، وأيقنوا أنهم لا ينقصون منها شيئا ثم يستطيعون تعويضه من الأندلس بما يغنيهم عنه، وما زال العهد بالمنبت عن أرومته أن يلصق بها أشد من لصوق القائمين عليها.
إذا روجعت تلك الحقائق في ميزان التاريخ فقد ذهب من الكفة كل ما زيد عليها في إبان الدولة، وكل ما علق بها من تواطؤ الزمن وتكرار العادة، وكسل السامع من مشقة المراجعة، وانتزاع الفكر مما ألفه ولم يألف سواه ... لقد تمهدت لمعاوية أسباب لم تتمهد في عصره لأحد غيره من قبل الإسلام، وفي صدر الإسلام، إلى أيام عثمان.
ولم يكن مفرطا أو عاجزا؛ فلم يضيع ما تمهد له بعجلة لا تؤمن عاقبتها، أو بتقصير عن الفرصة في أوانها، وكان له دهاء وحلم، وكان فيه طموح واعتداد بالنفس وسمة من سمات الرئاسة ...
وكان له من كل أولئك قدره الذي أعانه على مقصده كما أعين بغيره، فكان في يديه من المال والجند وسلطان الولاية ما لم يكن في يدي أحد من نظرائه ومنازعيه، ولولا ذلك لما أفاده دهاؤه مع أعوانه من الدهاة؛ لأنه لم يغلبهم بعقل غالب، ولم يصرفهم عن مقصدهم إلى مقصده، بل خدمهم وخدموه، ولو لم يكن عنده ما يطلبونه لخدموا غيره أو نازعوه على سواء، وربما نازعه بعضهم على رجحان.
وكان له حلم أوشك أن يحرمه عزة الرئاسة، ولكنه حلم من لا يغضب، وليس بحلم من يغضب ويملك عنان غضبه، فسيان أن يركب غضبه بعنان أو بغير عنان، فإنه في غنى عن قوة الساعد مع مطية لا تثور ثورة الجماح في كل حين.
وكان له طموح إلى السيادة، ولكنه طموح الألفة والعادة، ورثه مع جاه الأسرة ولم يخلق فيه بتلك الخليقة «الحيوية» التي يطبع عليها العصاميون، فكأنما هي جزء من التركيب وليست وجاهة من وجاهات البيت العريق يطلبها كما يطلب الميراث.
وإذا وزنت قدرة معاوية بميزان النجاح حصل من نجاحه في كفة الميزان حاصل قليل، يهون شأنه مع أثقال الكفة الأخرى من الجهود والشواغل والهموم.
فقد أراد الملك له ولبنيه، ولم يرده لبني أمية أجمعين؛ لأنه فرق بينهم ما اجتمع، وأغرى أناسا منهم بأناس، ولم يعمل عمله إلا ليتركه من بعده لعشيرته من بني سفيان، فلم يخلفه من ذريته غير يزيد، وذهب يزيد في عنفوانه بداء الجنب فلم يخلفه أحد من ولديه.
وتبعة معاوية في عاقبة ولي عهده الذي خرق الخوارق من أجله أعظم جدا من مسعاته في توريثه الملك، وتوريث أبنائه من بعده، فقد جنت عليه تلك الخليقة الأموية، فلم يعرف من البر بالأبناء غير الإملاء لهم في النعمة والمتاع، وما كان يزيد ليقصد في مطامعه ومناعمه، وهو ينظر إلى قدوة سبقته إلى تلك المطاعم والمناعم، وسبقته إلى تدبيرها له كلما استعصت عليه، ولو لم تكن من الشهوات التي يقضيها الآباء للأبناء.
إن ذات الجنب مرض من أمراض الكبد، وأمراض الكبد قضاء حتم على المنهوم بطعامه، والمفرط في شهواته، وقد صنع معاوية ليزيد هذا وصنع له ذاك: صنع له عدة النعمة والمتعة، ووضع له عدة الملك والسلطان، وما يحسب له من هذا دون ما يحسب من ذاك.
وخرج معاوية من الملك بالأيام التي قضاها في نعمته وثرائه، ولا نقول في صولته وعزه، فقد كان يذل لكل ذي بيعة منشودة ذلا لم يصبر من بايعوه على مثله، ولو وزن ما احتمله في سبيل بيعتهم وما احتملوه في سبيل طاعته؛ لكان ما احتمله هو أثقل الكفتين؛ أما تبعته العامة في أمر الملك فأمر جسيم لا تعدله جسامة عمل في عصره؛ لأنه نكص
1
بالملك خطوات، وكان في ميسوره أن يتقدم به خطوات تزيد عليها، مع ما بين الخطوة الناكصة والخطوة المتقدمة من بون بعيد.
لم يكن في ميسوره أن يديم على الدولة خلافة كخلافة الصديق أو الفاروق، ولكن كان في ميسوره أن يجنبها الكسروية والهرقلية، وأن يجعل للخلافة أثرا باقيا في ولاية الأمر، إن لم يصمد على سنة الراشدين لم يصمد على سنة الملك العقيم، ولو أنه أنشأ هذا الملك في الدولة الإسلامية والناس لا يعرفون غيره لخف نصيبه من اللوم، وهان حق التاريخ وحق العالم الإسلامي، والعالم الإنساني عليه.
غير أن الناس عرفوا في زمانه فارقا شاسعا بين ولي الأمر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية، وأمانة للخلق والخالق، وشريعة لمرضاة الناس بالحق والإنصاف، وبين الحكم الذي يحاط بالأبهة، ويجري على سنة المساواة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة، ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة، كان الرجل من النصحاء يدخل عليه كأنما يبكته فيسلم عليه بالملك، ولا يسلم عليه بالخلافة.
وتتابع عليه في أيامه الأولى من يقول له: السلام عليكم أيها الملك، فكان ينكر الاسم ولا ينكر السمة، إلى أن تنازعه الخيار بين ترك السمة أو التمادي فيها، فتمادى فيها وقال جهرة لمن حوله: نعم أنا أول الملوك!
وتبعته فيما شجر
2
بعده من خلاف توازن تبعته في هذا الخروج بولاية الأمر من روع الخلافة إلى أبهة الهرقلية والكسروية.
فما كان من المعقول، ولا من طبائع الأمور، أن تبذر في الأرض كل تلك البذور من جراثيم التفرقة، ثم تسلم الدولة من عقابيلها أو تظل التفرقة سندا لصاحب الأمر مئات السنين، كما كانت لمعاوية سنوات معدودات.
تبعات يحسب حسابها العسير إن كان للتاريخ جدوى يحرص عليها، وكان لشرف الذكر وزن يقام.
وليست جدوى التاريخ هنا كلمة مدح تنقص أو تزاد، وإنما جدواه أن يصان الذكر عن الابتذال، وهو أشرف ما تملكه الإنسانية من تشريف أبنائها في الحياة وبعد الممات، فلا يباح عرض الإنسانية لكل من يملك طعاما يملأ به البطون أو مالا يملأ به الجيوب، ولا يختلط الحق بالباطل ثم تذهب الحيلة فيه وتثوب العقول والضمائر إلى التسليم، ويتساوى الجوهر والطلاء في ميزان الخلود والبقاء، ومعاوية في هذا الميزان، لا يخرج منه مغبونا ولا غابنا للحقيقة من بعده، وإنما تحسب له قدرته بتقدير، ويعطى من أثر قدرته، ومن أثر نيته، ما هو به حقيق.
وقد عمل بتلك القدرة ما أفاده وأفاد قومه وأفاد الأمم التي تولاها فيما تستفيده من قرار الدولة و«ضبط» الأمور، وذلك حق القدرة الذي لا حاجة معه إلى اللجاجة في أمر النية، فلو أن أحدا أراد أن يمحو من سجله كل ما عمله لنفسه ولبنيه لما بقي في ذلك السجل عمل واحد تطول فيه اللجاجة حول النيات ... ونعود فنقول: إنها قدرة لا ترسل على إطلاقها بغير تقدير، وإن تقديرها الحق أنها غاية القدرة إلى الشوط القصير.
لقد كان قويا لا مشاحة
3
في وصفه بالقوة على مثالها، ومثالها أنك تصوغها في خيالك على صورة من الصور، فتحضرك صورة الجمل الصبور، ولا تحضرك صورة الأسد الهصور.
Shafi da ba'a sani ba