فقال لبنيه، احفظوا هذه الأبيات عني:
اِنفوا الضَّغائن عنكم وعليكم ... عند المغيب وفي حضور المشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مدَّ في عمري وإن لم يمدد
ولمثل ريب الدَّهر ألِّف بينكم ... بتراحم، وتواصل، وتودُّد
حتى تلين قلوبكم وجلودكم ... لمسزَّد منكم وغير مسوَّد
إنَّ القداح إذا جمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيِّد
عزَّت فلم تكسر وإن هي بدِّدت ... فالوهن والتَّكسير للمتندِّد
فلما توفى عبد الملك سجَّاه الوليد بثوبه، ثم سعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " لم أر مثلها مصيبة، فقد الخليفة ونيل الخلافة، فإنّا لله وإنا إليه راجعون على أعظم المصيبة، والحمد لله رب العالمين على أعظم النعمة ".
ثم دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه، ولم يختلف عليه أحد.
وصية الحجاج بن يوسف وحدثونا عن أبي عبد الرحمن التميمي عن سيف عن شيخ ثقيف قال في وصية الحجاج: هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: " أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا، وإليك المصير، لا نفرِّق بين أحد من خلفاء الله، ولا نتّهم الله في قضائه فيهم، هم لي أولياء، وأنا لهم وليٌّ في الدنيا والآخرة، من اتّهم الله على قضائه فيهم أو نكث عهده أو عصاه، أو خلع عطاء الله الذي ولاّهم فأنا لذلك عدوّ في الدنيا والآخرة، على هذا أحيا، وعليه أموت، وعليه أبعث، وبه أخاصم، وإن صلاة الحجاج ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت، وأنا أوّل المسلمين ".
وصيّة رجل من أهل الشام قال أبو حاتم، وحدثونا عن أبي يعقوب عن ابن عمير - يعني عبد الملك - أن رجلا من أهل الشام أوصى ابنه عند موته، وذكر أنه بلغه أن معاذ بن جبل قال: " يا بنيّ، أظهروا اليأس مما عند الناس فإنه غني، وإياكم وطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وإياكم وما يعتذر منه من القول والفعل، وإذا صلّيت يا بنيّ فاسبغ الوضوء، وصلِّ صلاة مودّع يرى أنه لن يئُوب إلى أهله، فإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس، وغدا خيرا منك اليوم فافعل ".
وصية أبي عبيدة بن الجراح قال أبو حاتم، وحدثونا عن لوط بن يحيى عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن سعيد بن أبي سعيد قال، لما طعن أبو عبيدة بالأردن - وبها قبره - دعا من حضره من المسلمين، فقال: " إني أوصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير وبعدها تهلكوا، أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وحجُّوا، واعتمروا، وتواصلوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تبغضوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرؤا لو عمرِّ ألف حول ما كان له بدّ من أن يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون، إن الله قد كتب الموت على بني آدم، فهم ميِّتون وأكيسهم أطوعهم لربّه، وأعلمهم ليوم معاده، والسلام عليكم ".
يا معاذ بن جبل، صلِّ بالناس.
فمات أبو عبيدة، فقام معاذ في الناس، فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم من ذنوبكم توبة نصوحا، فإن عبدا يلقى الله تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له، ومن كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرا أخاه فليصافحه، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والذَّنب في ذلك عظيم.
أيها الناس، قد فجعتم برجل ما أرى أني رأيت عبدا من عباد الله قطّ أبرأ صدرا منه، ولا أبعد منه غائلة، ولا أشد حبّا للعافية، ولا أنصح للعامة منه، فترحّموا عليه، رحمة الله، واحضروا الصلاة عليه، رحمة الله عليه.
وصية معاذ بن جبل قال أبو حاتم، وحدثونا عن لوط بن يحيى قال، حدثني الصَّقعب بن زهير عن شهر بن حوشب قال: أتى آت معاذ بن جبل عند موته، فقال، أوصني بما ينفعني قبل أن تفارقني ولا أراك ولا تراني، ثم لعلّي أحتاج إلى سؤال بعدك فلا أجد فيهم مثلك.
1 / 52