قال: نعم، رأيته رجلا قصيرا أعمى، يقال إن في وجهه لشرَّا أو شؤمًا.
قال: أفرأيت محمدًا ﵇؟ قال: ومن محمد؟ قال: رسول الله ﷺ.
قال: ويحك، أفلا فخَّمت كما فخَّمه الله تعالى؟ فقلت رسول الله.
قال: فأخبرني، ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلا تاجرا.
قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيبا، ولا أردّ ربحا.
قال معاوية: سلني.
قال: أسالك أن تدخلني الجنة.
قال، ليس ذاك بيدي، ولا أقدر عليه.
قال: لا أرى بيدك شيئا من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة، فردَّني من حيث جئت بي.
قال: أما هذه فنعم.
قال: ثم أقبل معاوية على أصحابه فقال: لقد أصبح هذا زاهدًا فيما أنتم فيه راغبون.
قالوا: وعاش القلمَّس، وهو أمية بن عوف، دهرا طويلا، وهو من حكماء العرب، وكان جده الحارث بن كندة، وهو الذي يقوم بفناء البيت ويخطب العرب، وكانت العرب لا تصدر حتى يخطبها ويوصيها، فقال: " يا معشر العرب، أطيعوني ترشدوا ".
قالوا: وما ذاك؟ قال: " إنكم قوم تفرَّدتم بآلهة شّتى، وإني لأعلم ما الله بكل هذا براض، وإن كان ربَّ هذه الآلهة، إنه ليحبّ أن يعبد وحده ".
فنفرت العرب عنه ذلك العام، ولم يسمعوا له موعظة.
فلما حجّ من قابل اجتمعوا إليه، وهم مزورُّون عنه، فقال: " مالكم أيها الناس كأنكم تخشون مثل مقالتي عاما أول، إني والله لو كان الله تعالى أمرني بما قلت لكم ما أعتبتكم ولا استعتبت، ولكنه رأى مني، فإذا أبيتم فأنتم أبصر، أوصيكم بخصلتين، الدّين والحسب، فأما الدين فلَّله، ومن أعطيتموه عهدا ففوا له، ومن أعطاكم عهدا فارعوا عهده حتى تردّوه إليه؛ فأما الحسب فبذل النَّوال ".
فلما حضرته الوفاة حضره أشراف قومه من كنانة، ومات بمكة، فقالوا: قل نسمع، ومرنا نطِع، وأوصنا نقبل، وزوِّدنا منك زادًا نذكرك.
فقال: " أوصيكم بأحسابكم فإنها مقدم وافدكم، وشرفكم في محافلكم، وكفاف وجوهكم، وعنى معدمكم؛ وأوصيكم بالسائل إن كان منكم أن يسأل غيركم؛ وإن كان من سواكم وتيمّمكم فلا تخطُّنَّه ما رجا فيكم، واستوصوا بذوي أسنانكم خيرا، أجملوا مخاطبتهم، وقدّموهم أمامكم، وزيِّنوا بهم مجالسكم، وأوصيكم ببيوت الشرف فيكم، أقيموا لهم شرفهم، ولا تنزعوا الرئاسة منهم حتى لا تجدوا لها منهم أهلا، وأوصيكم بالحرب، إن ظفرتم بقوم فابقوا فيهم، فإنه حسب لكم، ويد عند عدوِّكم، فإنّ من ظفرتم به فهو ظافر بكم لا بدّ، وهو عامل فيكم بما عملتم به فيه، فلا تقتلن أسيرا فإنه ذحل عندكم ومصيبة فيكم، وإنما هو مال من مالكم، وإن الأسراء تجارة من تجارات العرب فلا تسألنّ أسيركم فوق ما عنده فيموت في أيديكم، فلا يستأسر بعده أحدٌ بكم، وأكثروا العتاقة في أسراء العرب، ودعوا العرب ترجوكم وتستبقيكم.
وأوصيكم بالضيف، فإنّ كًّلا إذا قال لم يسمع منه حتى يقول الضيف، فلا يخرجنَّ من عندكم وهو يستطيع أن يقول فيكم، وأوصيكم بالجيران فأكرموهم، فلا تغشوا منازلهم، وليصحبهم ذوو أسنانكم، وامنعوا فتيانكم صحابتهم، وأوصيكم بالخفراء خيرا فلا تغرِّموهم في غرمكم، وأغرموا في غرمهم فإنّهم عدّة لكم، يعينونكم ما داموا فيكم، وينقصونكم إذا فارقوكم ويعينون عليكم إذا خرجوا من عندكم، وأوصيكم بأياماكم خيرا، شدّوا حجبهن، وانكحوهن أكفاءهن، وأيسروا الصداق فيما بينكم، تنفق أياماكم ويكثر نسلكم، فإن نكحتم في العرب فاختاروا لكم ذوات العفاف والحسان أخلاقا، فإنكم لما يكون منهم أحمد من غيركم، وإنهم راءُون فيمن بقي من نسائكم مثل ما رأوا فيمن جاءهم منهنّ، وإذا نكحتم الغريبة " يعني المرأة من غيركم " فأعلوا صداقها، وتزوّجوا في أشراف القوام، ثم أكرموا مثوى صاحبتهم ما كانت فيكم، ولا تحرموها إذا انصرفت إلى قومها مالها، واصرفوها على أحسن حالاتها، لا تنقصوها من شيء يكون لها، فإن كريمة القوم إذا رجعت إليهم قليلا متاعها ظاهرة حاجتها غير راجعة فيكم غيرها.
وأوصيكم بالصِّلة، فإنها تديم الألفة وتسرّ الأسرة، وأحذِّركم القطيعة فإنها تورث الضغينة، وتفرِّق الجماعة، وإياكم والعجلة فإنها رأس السَّفه ".
قالوا: وعاش عمرو بن قمئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة تسعين سنة، وقال:
يا لهف نفسي على الشَّباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما
1 / 35