ولما سمع صوت أخته تدعوه أبطأ في الاستجابة لها؛ لأنه لم يكن يدري كيف يخلص من رفيقه، أو لم يكن يحب أن يخلص من رفيقه، ولكن صالحا قال له في صوت خافت حزين: «أجب، إنك تدعى إلى العشاء.» قال الصبي لصالح: «وأنت هل تعشيت؟» قال صالح: «سأتعشى حين أبلغ الدار.» ونهض متثاقلا، وأدبر يريد أن يخرج، ولو استطاع لأقام، ولكنه مضى. وعاد الصبي إلى أمه وفي يده تلك الزهرات، فلما رأته أنكرت نسيانه لما أمرته به، ولكنها سألته عن هذه الزهرات من حملهن إليه. قال الصبي وفي صوته اختلاجة خفيفة: «حملهن إلي صالح بن الحاج علي.» قالت أمه: «ولم تعطه شيئا؟» قال الصبي: «أعطيته ما بقي لي من قطعة السكر.» قالت أمه: «وما تراه يصنع بقطعة السكر؟ أتراه يدفع بها عن نفسه الجوع، ألم تستبقه للعشاء؟» قال الصبي مضطربا: «هممت ولكني لم أجرؤ.» قالت أمه: «فامض في إثره مسرعا حتى تعود به وحتى تتعشى معه.» وانطلق الصبي كأنه السهم، ولم يكد يجاوز باب الدار حتى رفع صوته بدعاء صاحبه، ولكنه لم يحتج إلى أن يعدو، ولا إلى أن يكرر الدعاء، فقد كان صالح قائما أمام الدار قد استند إلى الحائط، ومد بصره أمامه، وقدم إحدى رجليه وأخر الأخرى يريد أن يمضي، وتنازعه نفسه إلى البقاء. فلما سمع صوت رفيقه أجاب مستخذيا: «هأنذا، ماذا تريد؟» قال الصبي: «أريد أن تبقى لنتعشى معا.» ولم يقل صالح شيئا، وإنما تحول إلى رفيقه، وسعى في إثره هادئا مطرقا كأنه الكلب يتبع صاحبه إذا دعاه.
ولم يكد الصبي يغلق الباب من دونه حتى رأى إحدى أخواته قد وضعت في زاويته تلك كرسيا مستديرا وعليه صينية مستديرة مثله، وقد كثرت على هذه الصينية الأطباق فيها من كل أصناف الطعام التي قدمت للضيف. وأبت أخت الصبي أن تشارك الأسرة في عشائها، وآثرت أن تقوم على خدمة هذين الرفيقين، حتى إذا فرغا من طعامهما مضى صالح موفورا، وعاد الصبي إلى أمه راضيا، فقالت له وهي تمسح رأسه: «إذا زارك رفيق لك في وقت العشاء، فلا ينبغي أن تدعه ينصرف دون أن تدعوه إلى مشاركتك في الطعام.» ثم قالت له بعد صمت قصير: «وهل تعلم أن صالحا إنما حمل إليك هذه الزهرات ليتعشى؟» قال الصبي: «لا أعلم.» قالت أمه: «لقد رأى الأضياف حين أقبلوا، ورأى ما حملوا من الطرف والهدايا، وعلم أن سيكون في الدار خير كثير في هذا المساء، فأراد أن يصيب منه شيئا، واتخذ أزهاره هذه تعلة يلم بها في الدار ليقدمها إليك.» قال الصبي: «لو رأيت ثوبه وقد بدا منه صدره وظهره وكتفاه!» قالت أمه: «إذا خرجت من الكتاب غدا فاحمله على أن يصحبك، فإن عندي من ثيابك ما يكسوه.»
ثم انصرفت إلى بنيها وبناتها تحدثهم عن الضيف وعن العشاء، تلوم هذه لأنها نسيت أن تحرك الأرز حين ألقته في الماء وهو يضطرب من الغليان، وأوشك هذا اللون من ألوان الطعام أن يفسد، ويصبح عجينة متماسكة لا تصلح لشيء، ومن حق الأرز ألا يلتئم ولا يتماسك، وأن تتفرق حباته وتمتاز. وتثني على تلك لأنها رفقت بالفالوذج، فلم تتركه سائلا تفيض به الملاعق كأنه الحساء، ولم تجعله جامدا تقطعه الملاعق قطعا، ولم تهمل تحريكه حتى تتخلله تلك العقد البغيضة التي لا تجعله سائغا ولا يسيرا، وإنما صنعته سواء سهلا لا يبلغ الأفواه حتى تدعوه الحلوق، وهو فيما بين ذلك خفيف حلو المذاق. وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث التي كانت تعلمهن بها فنون الطهي، والتي كان أبناؤها يسمعون لها فيغرقون في ضحك متصل، وإذا الصبي يقطع عليها حديثها، ويسألها: «ما بال صالح لم يتعش في داره؟» أجابت أمه: «ألم أقل لك إنه أحس أن سيكون عندنا خير كثير، فأراد أن يصيب منه؟» قال الصبي: «فإني أرى الأضياف يلمون بجارنا كما يلمون بنا، وأعرف أن عند جارنا خيرا كثيرا، فلا أسعى إلى أترابي من أبنائه، ولا أحاول أن أصيب ما عندهم.» قالت: «لأنك لست في حاجة إلى ذلك، فلست محروما.» قال الصبي: «فصالح محروم إذن؟» قالت أمه متضاحكة، وقد أخذ إخوته من حوله يضيقون بلجاجته وإلحاحه: «لأن أباك ميسر عليه في الرزق، وقد قتر في الرزق على أبي صالح.» قال الصبي: «ولماذا؟» قالت أمه: «إنك لمكثار.» ثم التفتت إلى كبرى بناتها وهي تقول: «خذيه إلى مضجعه، فقد تقدم الليل، وآن له أن ينام.»
وأصبح الصبي، فغدا على كتابه كما تعود أن يفعل خمسة أيام في الأسبوع. وقد يخطر للقارئ أن يسألني عن هذا الصبي: ما اسمه؟ وما موطنه؟ وما بيئته؟ وما أسرته؟ ومن عسى أن يكون؟ ولكني أجيب القارئ إن خطرت له هذه الأسئلة كما كان الكاتب الفرنسي «ديديرو» يجيب قراءه حين يخيل إليه أنهم يسألونه أو يهمون أن يسألوه عن بعض الأمر من قصصه؛ أجيب القارئ بأنه يسرف على نفسه وعلي بهذه الأسئلة التي قد يكون الرد عليها مفيدا لتكون القصة منسقة، حسنة البناء، ملتئمة الأجزاء، يأخذ بعضها برقاب بعض، كما كان النقاد القدماء يقولون. ولكني لا أحاول أن أضع قصة فأخضعها لما ينبغي أن تخضع له القصة من أصول الفن كما رسمها كبار النقاد، فقد يجب لتستقيم القصة أن يحدد الزمان والمكان وتستبين شخصية الناس الذين تحدث لهم الحوادث أو الذين يحدثون هذه الحوادث، الذين تعرض لهم الخطوب، أو الذين يبتكرون هذه الخطوب.
لا أضع قصة فأخضعها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أؤمن بها، ولا أذعن لها، ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فلينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعد فليرض مشكورا، ومن شاء أن يسخط عليه بعد القراءة فليسخط مشكورا أيضا. والمهم هو أن يخطر لي الكلام، وأن أمليه، وأن أذيعه، وأن يجد القارئ ما يشعره بأن له إرادة حرة تستطيع أن تغريه بالقراءة، وأن تصده عنها، وأن يشعر القارئ أيضا بأن له ذوقا صافيا يستطيع أن يعرف في الأدب وأن ينكر، وأن يقبل من الأدب أو يرفض، وليس هذا كله بالشيء القليل. وما أحب أن يظن القارئ أني أتحكم فيه أو أتجنى عليه، فأنا أبعد الناس عن التحكم، وأزهدهم في التجني، وأشدهم للقارئ حبا وإكبارا، ولكني لا أحب أن يتحكم القارئ في، ولا أن يتجنى علي، ولا أن يخضعني لذوقه، كما لا أحب أن أخضعه لذوقي. ويجب أن تكون الحرية هي الأساس الصحيح للصلة بين القارئ وبيني حين أكتب أنا ويقرأ هو. ولو أني استجبت لهذه الأسئلة فبينت موطن الصبي وبيئته، وعرفت أسرته إلى القراء لطال بي الحديث أكثر مما أحب أن يطول. وليس في الحديث صبي واحد، بل فيه صبيان، أحدهما صالح هذا الذي يتخذ زهرات الحقول وسيلة إلى عشاء يصيبه، والآخر هو هذا الصبي الذي وجد عنده صالح هذا العشاء، ولأكن منصفا، فقد يكون من حق القارئ أن أسمي له هذا الصبي الثاني ما دمت قد سميت له الصبي الأول؛ ليكون الأمر ميسرا له فلا يضطرب بين صبي يعرف اسمه واسم أبيه، وصبي آخر لا يعرف من أمره شيئا. والواقع أني حين أخذت في إملاء هذا الحديث لم أكن أعرف لهذا الصبي الثاني اسما، وما زلت أجهل اسمه إلى الآن؛ فلم يكن شخص هذا الصبي، ولم يكن شخص صالح يعنيني، وإنما كانت الأحداث التي حدثت للصبيين هي التي تعنيني، وأكبر الظن أن صالحا هذا لم يوجد قط؛ لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في القرى، ويوجد في المدن، ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرا، وهو مع ذلك يشعر الناس بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء. وأنا أزعم أن قارئ هذا الحديث مهما يكن لا يستطيع أن يقضي يوما من دهره أو ساعة من يومه دون أن يرى صالحا هذا الذي لا يجد ما ينفق، والذي يود أن تتاح له الوسيلة ليجد الغداء أو العشاء، عند رفيقه ذاك الصبي الذي لم نجد له اسما إلى الآن. فلنتفق على أن اسمه أمين، وعلى أنه كان يختلف إلى الكتاب مع قليل جدا من أمثاله الذين يعيشون في شيء من اليسر، وكثير جدا من أترابه الذين يستظلون بهذا الظل الوارف الجميل، ظل البؤس والشقاء والحرمان وابتغاء الوسيلة للظفر بما يقيم الأود عند هذا الرفيق أو ذاك.
لم يوجد صالح قط لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشيء في الوجود فهو غير موجود، سواء أرضيت الفلسفة عن هذا الكلام أم لم ترض. أما أمين فموجود من غير شك؛ لأننا نراه ولا نكاد نرى غيره؛ لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذي لا ينام جائعا إذا أقبل الليل، ولا يغدو طاويا على المدرسة أو على الكتاب، ولا يطول انتظاره للغداء إذا آن وقت الغداء، ولا ينبغي أن يطول انتظاره للعشاء إذا أقبل الليل؛ لأن من حقه أن يتناول الطعام في إبانه، وأن يأخذ قسطه من النوم حتى لا تتعرض صحته الغالية لبعض ما يؤذيها. هذا الصبي أو هذا الفتى الذي اتفقنا على أن اسمه أمين موجود من غير شك؛ لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز يمكن أن يحصى أمثاله وأترابه إحصاء دقيقا في كل قرية، وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود؛ لأن عدده محدود، ولأننا نستطيع إحصاءه واستقصاءه والدلالة عليه. وهنا يرتفع رأس القارئ وقد ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة، وبرقت عيناه بريق الانتصار والفوز، وهو يسألني في صوت فاتر ساحر: لقد أردت أن تتجنب الإطالة بالإجابة على أسئلتنا، فهل أنت إلا ممعن في الإطالة بهذا الكلام الكثير الذي لا يغني ولا يفيد! معذرة يا سيدي القارئ الكريم، بل إن هذا الكلام الكثير يغني كل الغناء، ويفيد كل الفائدة؛ فأنت تلقى في كل يوم ألف صالح وصالح دون أن تحس لواحد منهم خطرا، أو تعرف له وجودا، قد كثر لقاؤك لهم، واتصلت معاشرتك إياهم حتى أصبحت الحياة بينهم شيئا يسيرا مألوفا لا يحفل به، ولا يلتفت إليه، وحتى أصبحت معاشرة البؤس والشقاء والحرمان شيئا تطمئن إليه كما تطمئن إلى الصحة والعافية، ولا تلتفت إليه كما أنك لا تلتفت إلى الهواء الذي تتنفسه، والنور الذي تهتدي به. وترى أمينا أو أمينين أو أمناء بين حين وحين، فيملأ كل واحد منهم قلبك وعقلك، ويشغل همك وعنايتك. فأيهما خير: أن ألفتك إلى صالح هذا البائس المسكين الذي ملأ مصر نعمة وخيرا، وملأت مصر حياته شقاء وبؤسا، أم أن أحدثك عن أمين وموطنه وبيئته وأسرته لتستقيم القصة، وتستوي رائعة بارعة ملائمة لأصول الفن التي رسمها النقاد؟ أما أنا فأوثر أن أتحدث إلى قلبك، وما يضطرب فيه من عاطفة، وما يشيع فيه من شعور، على أن أتحدث إلى عقلك وذوقك، وما يثيران في نفسك من تهالك على النقد وحب للاستطلاع.
أؤثر أن أتحدث إلى قلبك، وأن ألفتك إلى صالح هذا الذي وجد وأسرف في الوجود، حتى اعتقدنا أو كدنا نعتقد أنه غير موجود. ومن يدري! لعلي حينما ألفتك إلى صالح إنما ألفتك إلى نفسك، وما أحب أن تغضب ولا أن تثور، فما أردت، وما ينبغي أن أريد إلى إيذائك، أو التعريض بأنك قد اتخذت في يوم من الأيام زهرات الحقول وسيلة إلى خير تصيبه كما فعل صالح، وإنما أردت أن أقول: إن في حياة كل واحد منا نحن كثرة المصريين شيئا من صالح، فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان. وما أقل المصريين الذين لا يصورون بؤسا ولا شقاء ولا حرمانا! وليس البؤس مقصورا على هذه الصفة التي تأتي من الفقر، وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزق البطون، والإعدام الذي يمزق الثياب، ويظهر من ثناياها الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتصل بأشياء أخرى ليست جوعا ولا إعداما، ولكنها قد تكون شرا من الجوع والإعدام؛ لأنها تتصل بالنفوس والقلوب. وإني لأعرف قوما كثيرين تمتلئ أيديهم بالمال، ويعظم حظهم من الثراء حتى يضيقوا به، وهم مع ذلك يجدون بؤسا أي بؤس، وشقاء أي شقاء، ويتخذون زهرات الحقول أو هذا الزهر الذي تصنفه أيدي الحسان تصنيفا في الحواضر والمدن وسيلة إلى شيء يصيبونه عند من يكونون أقل منهم غنى، وأضيق منهم ثراء.
مهما يكن من شيء فقد غدا الصبي الذي اتفقنا على أن اسمه أمين على كتابه كما تعود أن يفعل إذا كان الصباح، فلقي أترابه وشاركهم في الجد والهزل، وفي الدرس واللعب. حاول أن يحفظ حصته من القرآن فانصرف عن هذا الحفظ إلى مداعبة اللدات والأتراب، وكان قد أنسي قصة صالح، ولم يذكر إلا أنه سيعود معه آخر النهار إلى الدار، ولكنه اضطر حين تقدم النهار إلى أن يذكر صالحا في كثير جدا من القلق والخوف، ثم في كثير جدا من الجزع والهلع، ثم في كثير جدا من الألم والحزن، فقد سمع سيدنا الضرير يسأل عريفه البصير: هل تفقدت الأختام؟ قال العريف: نعم. قال سيدنا: وهل سلمت لك كلها؟ قال العريف: نعم، إلا ختم صالح بن الحاج علي؛ فإنه قد ضاع، وما أشد حاجة هذا الفتى إلى التأديب، فإنه لا يطيع أمرا ولا يسمع كلاما، ولا يخرج من الكتاب مع العصر إلا لينغمس في الماء.
وهنا يسأل القارئ - وما أكثر ما يسألني القراء كما كانوا يسألون الكاتب الفرنسي الذي ذكرته آنفا - هنا يسأل القارئ عن هذه الأختام ما هي؟ وماذا يمكن أن تكون؟ ولا بد من أن أجيبهم، فأكثرهم من أبناء هذا الجيل الذين لم يذهبوا إلى الكتاب، ولم يعرفوا قصة الأختام والماء، وقليل منهم قد بعد عهده بالكتاب، وما كان يحدث فيه من خطوب. كانت قصة الأختام هذه تمثل في الكتاب كل عام حين يقدم الصيف، ويشتد القيظ، ويحب الصبية والفتيان أن يبتردوا بماء النهر أو بماء القناة إذا خرجوا من الكتاب مع العصر، أو إذا ذهبوا إلى دورهم للغداء، وكانوا يسرعون إلى نسيان القيظ والتبرد متى انغمسوا في الماء، وينصرفون إلى العبث والسباحة والاستباق في العوم. وكانت الأسر تشفق عليهم من ماء النهر، ومن ماء القناة، وتطلب إلى سيدنا أن يتخذ ما يرى من وسائل التأديب والتقويم ليصدهم عن هذه الرياضة الخطرة. وسيدنا قد اتخذ قطعة مستديرة من الخشب، واحتفر فيها شيئا لا أدري ما هو، فإذا كان الضحى يرتفع أقبل العريف بهذه القطعة من الخشب التي كانت تسمى الختم، وغمسها في مادة حمراء، وختم بها أفخاذ الصبية والفتيان الذين كان يظن بهم حب الرياضة في ماء النهر أو ماء القناة، وكان زوال الآية التي يتركها الخاتم في فخذ الصبي أو الفتى دليلا على أنه قد خالف الأمر، وقارب هذا الإثم العظيم؛ فلم يكن بد إذن من تفقد هذه الأختام في كل يوم، وتجديدها إذا محاها طول الوقت، وعقاب الصبي أو الفتى إذا محيت آية الختم عن فخذه قبل الأوان. ولست أدري أيعرف القارئ أو لا يعرف أن العريف في الكتاب قد كان رمز الرشوة والفساد، كما أن سيدنا قد كان رمز السذاجة والقسوة، ولكن المحقق أن الصبية والفتيان كانوا يقترفون إثمهم هذا العظيم في غير اكتراث، ولا يكادون يخرجون من الكتاب حتى يسرعوا إلى الماء، ويلقوا أنفسهم فيه، وكانوا يشترون كذب العريف ورضاه بما يقدمون إليه من هذه الطرف اليسيرة التي يحملونها من بيوتهم، يسرقونها للعريف أحيانا، ويصرفونها عن أنفسهم إليه دائما. ولم يكن صالح يحمل طرفا يسيرة ولا خطيرة لنفسه أو للعريف، وقد طال على العريف إبطاء صالح عليه بالرشوة، ولم يسأل نفسه أكان هذا الإبطاء عن عجز أم كان عن عمد ومكر، فأراد أن يؤدبه فأفشى أمره لسيدنا، ولو آثر الصدق لما خص صالحا بهذه الوشاية.
وكان أمين يعلم هذا حق العلم كما كان يعرفه غيره من أترابه، ولأمر ما امتلأ قلبه فجاءة حبا لصالح، وعطفا عليه، ورحمة له، فلم يكد يسمع العريف البصير يغري به سيدنا الضرير حتى صاح بأعلى صوته: إن العريف لم يقل لك الحق كله، فليس صالح وحده هو الذي فقد ختمه، وإنما فقده الأتراب جميعا؛ لأنهم يذهبون جميعا إلى النهر أو إلى القناة، ولكنهم يرشون العريف بما يحملون إليه من طرف، فأما صالح فلا يحمل إليه شيئا. وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الشجاعة أن أديرت الفلقة على ساقي صالح، وعمل السوط في رجليه حتى دميتا، ثم أديرت الفلقة على ساق أمين، ومس السوط رجليه مسا خفيفا لم يدمهما، ولكنه علم أمينا أن الشجاعة والصراحة وقول الحق خصال لا تحسن في جميع المواطن. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهانت المحنة وسهل احتمالها، ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين، واتخذوهما عدوا، وجعلوا يكيدون لهما ويمكرون بهما، ويذيقونهما من العنت فنونا وألوانا. وقد عاد صالح مع أمين إلى داره لا يكاد يحسن المشي على رجليه، ولكنه وجد عند رفيقه تسلية وتعزية.
Shafi da ba'a sani ba