قالت ربة الدار وقد كفكفت عبراتها: على رسلك أيتها المرأة! فإن ابنتك لم تسرق هذين الطبقين، وإنما كلفتها أن تحملهما إليكم أمس مع الليل، وفيهما شيء من الطعام، كدأبي معها دائما، وما أرى إلا أنها قد نسيتهما حين أقبلت على عملها مع الصبح. قالت محبوبة: فإنها لم تحمل إلينا أمس طعاما، كما أنها لم تحمل إلينا طعاما قط. وانجلت القصة بعد قليل، وتبين أن خديجة كانت تستحيي أن ترفض ما تكلفها سيدتها أن تحمل من الطعام إلى أهلها، وكانت تستحيي أن تحمل إلى أهلها هذا الطعام، فكانت إذا خرجت بالطبق أو الأطباق تخففت مما فيها، تهديه إلى الفقراء إن وجدت في طريقها الفقراء، وتلقيه إلى الكلاب إن لم تجد في طريقها إلا الكلاب، وتلقيه في عرض الطريق إن لم تجد في طريقها ناسا ولا كلابا، ثم تضع الأطباق في زاوية من زوايا البيت، فإذا أصبحت عادت بها إلى الدار باسمة ظاهرة الرضا، كأنها قد وسعت على أهلها بما حملت إليهم من رزق. ولكنها في ذلك اليوم قد أعجلت عن حمل الطبقين، ولم تذكرهما إلا حين رأت أمها مقبلة تحملهما وتسألها في غلظة عنهما؛ أين كانا ومن أين سرقتهما، ثم لا تمهلها ولا تنتظر منها جوابا، وإنما تجذب شعرها بإحدى يديها وتلهب جسمها بذلك الغصن اليابس في يدها الأخرى، ويأخذها الغضب فتصيح، والفتاة يأخذها الألم فتبكي، وكلما أمعنت الفتاة في النحيب أمعنت أمها في الصياح.
منذ ذلك اليوم عرفت ربة الدار أن خديجة خادم لا كالخدم، وفتاة لا كالفتيات، فآثرتها بالمودة ، واختصتها بالحب، وكادت تتخذها لنفسها صديقا، وقصت على زوجها القصة آخر النهار، فرق للفتاة وأهلها، وأوصى امرأته بها وبهم خيرا، وتلا قول الله - عز وجل:
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .
وفتيان القرية يتسامعون بقصة خديجة هذه، ويتحدثون بما تصور هذه القصة من تعفف لا يجدونه عند الأغنياء، ومن حياء نادر لا يجدونه فيما يشهدون من أمور الناس ولا فيما يقص عليهم من أحاديث الجدات. وفتيان القرية يتحدثون عن جمال خديجة الفاتن، وحسنها الذي يسحر العيون ويخلب القلوب ويملك الألباب. وفتيان القرية يسرون في أنفسهم حبا لخديجة، وإعجابا بها، وطمعا فيها، ويعلنون بألسنتهم إطراء لخديجة وثناء عليها، والأماني تلعب بعقولهم كل ملعب، وتسلك بقلوبهم كل سبيل. ثم يتقدم الخاطب ذات يوم من أسرة ليست عظيمة الحظ من الثراء ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام، لها أرض تزرع غير بعيد من القرية، ولها ماشية تخرج من الدار مع الصباح، وتعود إليها مع المساء، وتغل على الأسرة خيرا كثيرا.
والفتى قوي موفور الصحة، عظيم النشاط، جميل المنظر، منطلق اللسان، ولا سيما حين يأخذ زينته ويذهب إلى المسجد ليشهد صلاة الجمعة، ثم يعود فيأخذ مع رفاقه في ضروب من العبث وفنون من الحديث.
وأسرة خديجة تسمع أول الأمر ولا تصدق، ثم تعرف بعد إنكار، وتقبل بعد تردد فيه كثير من الأمل الذي يحيي النفوس، والخوف الذي يميت القلوب. وما يمنع هذه الأسرة البائسة أن تجد في هذه الخطبة روحا من الله، سيتيح لها رخاء بعد شدة، وسعة بعد ضيق؟ وما يمنعها أن ترى نفسها وبؤسها، فتشفق من إصهارها لأسرة ذات سعة ويسار؟ ولكن الفتى صادق محب ملح في صدقه وحبه، وأسرته لا تعدل برضاه وسعادته شيئا آخر، فهي صادقة ملحة في صدقها، تبتغي الوسائل إلى إقناع البؤس بأن يصهر إلى النعيم.
وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم في نفس خديجة، فهي تمتنع على هذا الزواج، وتلح في الامتناع، تؤثر حياتها هذه التي تحياها خادما على تلك الحياة التي تدعوها إلى الحرية والاستقلال بأمر نفسها، والقدرة على معونة أهلها. وهي تمتنع وتلح في الامتناع حتى تثير الريبة في نفس أبويها، فما ينبغي أن تصر على هذا الإباء إلا أن تكون قد قصرت في ذات نفسها، وفرطت فيما للشرف على الفتاة من حق.
ومحبوبة تفضي بسرها هذا البشع إلى سيدة خديجة في صوت يقطعه البكاء وتغمره الدموع، ولكن سيدة خديجة تردها إلى القصد وتعيد الطمأنينة إلى نفسها البائسة وقلبها القلق، وما تزال بالفتاة تلاينها حينا، وتخاشنها حينا آخر، حتى تختلس منها الرضا اختلاسا. وقد احتفلت أسرة الفتى ليوم الزفاف واختلف سيدة خديجة ليوم الزفاف أيضا، وهيئت الفتاة لهذا اليوم المشهود من حياتها كأحسن ما تهيأ الفتيات من بنات الطبقة الوسطى لمثل هذا اليوم، وأبت سيدة خديجة إلا أن يبدأ الزفاف من دارها لا من دار شعبان.
وفي ذات ليلة كانت محبوبة قد انكفأت على وجهها أمام بيتها الحقير تريد أن تبكي فلا تجد الدموع، وتريد أن تتكلم فلا تجد الألفاظ، وإنما يتردد في حلقها صوت خفي منكر، إن دل على شيء فإنما يدل على خوفها وهلعها مما ستنكشف عنه ساعة من ساعات هذا الليل حين يدخل الفتى على زوجه. وهي كذلك ملقاة على الأرض يضطرب جسمها من حين إلى حين اضطرابا عنيفا، وتجري في أطرافها رعشة تخف لحظة، وتعنف لحظة أخرى، ويتردد في حلقها هذا الصوت المنكر البغيض، والفرح من حولها يملأ قلوب الشباب بهجة وسرورا.
ثم تنطلق الزغاريد كأنها سهام من فضة تشق ظلمة الليل الحالكة، وتسمع طلقات للبنادق هنا وهناك، ويظهر جمع من النساء والصبية قد نصبوا شيئا يشبه أن يكون راية قانية، وهم يهتفون بألفاظ ينكرها السمع ويمجها الذوق، وسهام الزغاريد منطلقة يتبع بعضها بعضا، كأنما تريد أن تمزق أحشاء الليل تمزيقا، وامرأة وقاح تهز محبوبة هزا عنيفا وتزجرها زجرا مخيفا، وتقول لها في صوت يسمعه الناس: أفيقي! ثوبي إلى نفسك، ما تخافين؟ لقد بيضت خديجة وجهك ووجه شعبان.
Shafi da ba'a sani ba