Muassis Misr Haditha
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Nau'ikan
16
وفي بعض الكتب الأخرى التي دفع الحقد باركر القنصل العام إلى رئيسه بالمرستون بقصد تسليته، ترى الباشا وقد صب جام غضبه على الموظفين. وإنك لترى أثرا لذلك لمناسبة الإهمال في دفع الضرائب؛ إذ يقول للموظف المختص: «من ذلك يتبين أنك غبي مهمل، وإنه لدليل جديد على أنك كالحمار في غباوته.» فإن لم تدفع الأموال فورا «فكن على يقين بأنني سأقطعك إربا إربا.»
17
وكتب مرة إلى أحد الموظفين بمناسبة التباطؤ في تقديم العدد اللازم من الأنفار للقرعة العسكرية: «وأنت أيها الحمار ماذا عساك صانع؟! ... إنني لم أضعك في هذا المركز إلا لعدم وجود من هو أقدر منك على أن يشغله، وقد جعلتك مديرا، فهل يكون ذلك أن تهمل في أداء واجبك هذا الإهمال وكل هذا الوقت؟! ... فبمجرد استلامك لأمري هذا ضع عقلك في رأسك وأرسل بقية الأنفار ... وإن تباطأت في تنفيذه جعلتك مثلا بين بقية مديري الأقاليم.»
18
وأما حاكم السودان فقد كتب إليه بلهجة مخففة عندما أرسل إليه غرارة مملوءة بآذان العصاة كدليل على نشاطه في كبحهم، قال الباشا: «على من يعتلون كراسي الحكم وأصحاب السلطة أن يدركوا أن فتح البلاد لا يكون إلا باقتناع الأهالي بالوسائل السلمية، وبتوخي العدل في تسيير الأمور بقصد اكتساب ثقة الأهالي، وعلى الحاكم أن يقتدي بالقدوة الصالحة التي ضربها الفرنسيون في مصر وأن يقلد المسلك الذي سلكه الإنجليز بعدهم.»
19
ولكن القارئ يجد في الكتاب الدوري الصادر في سنة 1843م أقرب مثال للأوامر الإدارية، قال الباشا الهرم - وقد أصبح كذلك بعد أن أثقلت عاتقه السنون - يناشد موظفيه بتقديم المساعدة له؛ لأن متاعبه أصبحت فادحة، بحيث ينوء بها عاتق شخص واحد، وقد ذكرهم بمركز مصر وخصبة تربتها، فقال: «إن من حسن الطالع أن ننعم بأرض كأرضنا لا مثيل لها بين أراضي العالم، وعندي أن التقاعد عن بذل كل ما يمكن بذله من الجهود في سبيل مضاعفة يسرها ورخائها لدليل العقوق الذي لا يمكن أن يرضاه قلبي ويستحيل أن أقره، فلا محيص لي من أن أناشدكم في كل حين بأن تسهروا على أداء واجباتكم لكي نصل إلى الغاية التي جعلناها نصب أعيننا، وحذار من التكاسل والإهمال ... إن الرجل العاقل لا يباهي بأخلاقه الحميدة، بل بما أصابه من النجاح في إدارة ما عهد إليه من الأمور، فلا يفوتنكم أنني سأواصل السهر على سعادة هذه البلاد ورخائها، ولو ضحيت في هذا السبيل بحياتي وحياة أقاربي. إن كل من حولي يعرفون جيد المعرفة أنني لا يطيب لي إيذاء شخص ما، وقد سلخت أربعين ربيعا لم تمتد فيها يدي بمعاقبة أحد عقابا شديدا، فإذا ما أرغمت يوما على الخروج عن هذه القاعدة فلن يكون الذنب ذنبي، بل ذنب غيري ... ولم يكن يدور بخلدي فيما مضى أن نصل إلى الحالة التي وصلناها الآن، والآن وقد سمت مطامعي واتجهت إلي اتجاها أرقى من اتجاهها الماضي، فلأقدمن التضحية مهما جلت وعظمت في سبيل رخاء بلادي، وهي أقصى أماني حتى ولو جلس على عرشها أحد أقاربي وأصبح ملكا لسكانها البالغ عددهم ثلاثة ملايين.»
20
ولم تنقض ثلاثة شهور على ذلك الكتاب حتى عمل كبار موظفيه على أن يقسموا أمامه على أن يخدموه بأمانة وأن يرفعوا اليد عن كل ما يقع تحت أنظارهم من الحيف أو إساءة استعمال السلطة، فليس من شك في أن هذا الكتاب الدوري يشف تماما عن مكنونات قلب الباشا الحقيقية؛ فلقد وجهه إلى الموظفين خاصة ولم يذع محتوياته بين القناصل العموميين، ولم يرم به إلى التأثير في الرأي العام الأوروبي، وإلى جانب هذا كله كان متلائما تماما مع اللهجة التي كان يستعملها محمد علي في محادثاته الخصوصية مع أصدقائه الأوروبيين، ولكنه يعلم جيد العلم أن الإكراه كالعقوبة لا مناص منهما. نعم؛ لم يكن بطبيعته ميالا إلى إيصال الأذى أو الشر إلى أحد، وفي الحق أنه امتنع على العموم عن أعمال التأديب، ولكن هذا كان بمثابة ميل عام لم تكن له حيلة في الانحراف عنه بين آن وآخر. مثال ذلك: أن محصل الضرائب في مديرية الجيزة ذكر كذبا في سنة 1822م أنه لم يستطع لا تحصيل العوايد العشورية ولا ضريبة المنازل، وقد كان الباشا على حق أن يعتبر هذه المسألة في منتهى الخطورة، وقد ترجح عنده (ويستحيل البت هنا هل كان الترجيح عادلا أم غير عادل) أن المحصل كان كاذبا في دعواه، وأنه مسوق إلى ذلك بطمعه في الحصول على رشوة؛ فأصدر أمره إلى إبراهيم باشا - وكان وقتئذ مدير الجيزة - بأن يتفاهم مع الرجل وأن يقنعه - إذا استطاع - بخطأه، فإن وفق إلى إقناعه فبها ونعمت وإلا أطاح رأسه حتى لا تتعرض مصالح الدولة للضياع بسبب مسلكه السيئ. ويظهر أن إبراهيم باشا نفذ الحكم بيده، وقد جاء بعد ذلك في كتاب إلى إبراهيم باشا أن الرجل قد لقي حتفه بسبب عناده لا بفعل الباشا وابنه، وأن مركزه لا بد أن يشغله رجل فرنسي أو شقيق القتيل.
Shafi da ba'a sani ba