الكتاب: مجلة البيان (٢٣٨ عددا)
المؤلف: تصدر عن المنتدى الإسلامي
[رقم الجزء، هو رقم العدد. ورقم الصفحة، هي الصفحة التي يبدأ عندها المقال في العدد المطبوع]
تنبيه: الأعداد بعد الـ ٢٠٠ محملة من شبكة الإنترنت، فترقيمها غير موافق للمطبوع، وأيضا العدد ٢٢٠ ناقص جدا
مدخل: البيان مجلة إسلامية عالمية تهتم بنشر العلم الشرعي وتأصيل منهج أهل السنة والجماعة لدى جمهور الصحوة والعاملين على الساحة الإسلامية بمختلف انتماءاتهم والباحثين عن الحقيقة من خلال ما تقدمه من زاد تربوي ودعوي، وتحليل صادق للأحداث التي تمر بالأمة برؤى شرعية راسخة. كما تسعى جاهدة لتوحيد شتات الأمة على هذا المنهج السوي، بعيدا عن التحزب والتعصب، مستعينة على ذلك أولا بالله ﷾ ثم مسترشدة بهدي النبي ﷺ وهدي السلف الصالح من خلال استكتابها لنخبة من العلماء وطلبة العلم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ومن ثم تعمل على نشر هذه المادة في شتى بقاع العالم من خلال طاقم إداري وفني على مستوى عالٍ من الكفاءة والتدريب مستفيدة بجميع وسائل التقنية الحديثة المتاحة لمحة تاريخية صدر العدد الأول من المجلة سنة ١٤٠٦ هـ، ١٩٨٦م مرت المجلة بمراحل تطويرية، من حيث: - الأسلوب الإعلامي والصياغة - الشكل والإخراج الفني - متابعة الأحداث وكانت آخر مرحلة للتطوير الفني في إخراج المجلة، التطوير الذي بدأ من العدد (١٧٣)، حيث أصبحت المجلة ملونة وكبيرة الحجم، أما تطوير التحرير فهو عملية دائمة متجددة قدر الطاقة نسأل الله العون والتوفيق. رسالة المجلة مجلة عالمية تخاطب نخبة المثقفين، وتسعى لمخاطبة العقول وإثارتها، وترشيد العمل وتوجيهه، وتحرك القلوب وترققها، وتستحث الهمم وتشحذها، وهي في ذلك كله تهدف إلى بناء المسلم: - الصحيحة عقيدته - الراسخ علمه - الواعي واقعه - المنطلق من التأصيل الشرعي في مواقفه - المهتدي بهدي السلف الصالح في منهجه أهداف المجلة - نشر عقيدة أهل السنة والجماعة. - نشر العلم الشرعي الذي يبنى على الدليل، والتأصيل العلمي. - الاهتمام بالدراسات الدعوية والتربوية التي تعين في توجيه الأمة وتصحيح مسارها. - التعريف بواقع المسلمين السياسي والاقتصادي والفكري والأدبي، والمساهمة في حل مشكلاتهم. - الدعوة إلى تجميع جهود المسلمين وطاقاتهم، والبعد عن التعصب إلى إقليم، أو حزب، أو جماعة. - تنبيه المسلمين عموما، والدعاة خصوصا، إلى المؤامرات التي تحاك ضدهم لأخذ الحيطة والحذر. المنهج مجلة البيان ... بيان يتضمن الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الدعاة المخلصون ويساعد في البحث عن الوسائل الصحيحة التي تخدم العمل الإسلامي بأسلوب يعتمد التحليل، والوضوح في العبارة والقصد. مجلة البيان ... كما أنها تجعل من نفسها مجلة لكل مسلم مهما كان لونه أو جنسه، ولا تدعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا تدعي الوصاية على الدعوة، ولا تحتكر قول الحق، ولا تزدري الأصوات الأخرى في ساحة العمل الإسلامي، التي ترى أنها تتسع لكل الجهود الجادة. مجلة البيان ... مجلة تنأى بنفسها عن الصراعات الحزبية والخلافات الشخصية التي تذهب، حلاوة الدعوة، مع حرصها على إيضاح الحقائق والأصول الشرعية. مجلة البيان ... منبر لبيان الحقيقة وإحياء الوعي، وإذا لم تستطع قول الحق في كل مسألة، فلن تقول الباطل بإذن الله. البناء العام تقدم المجلة لقرائها الكرام مادتها في شكل منظم يتميز بالحيوية والتنوع، حيث تبدأ المجلة بـ (كلمة صغيرة) ثم تليها (الافتتاحية)، وتنتهي بـ (الورقة الأخيرة)،ثم ينتقل القارئ بعدها إلى عدد من الزوايا -ثابتة ومتغيرة- ليبدأ من حيث شاء ويتخير ما يشاء من موضوعات، تتنوع موضوعات المجلة بين مقال كبير وقصير، ودراسة شرعية مسهبة، وبحث مقتضب، وتحليل مطول وأخبار متنوعة، وتولى المجلة اهتمامًا بالغًا بالجانب الفني والإخراج، حيث تقدم مادة المجلة في صورة ملائمة للمضمون، وإخراج يساعد القارئ على فهم المحتوى مكانة المجلة نرجو أن البيان بلغت بتوفيق الله - تعالى - ثم بتعاون العلماء والدعاة درجة عالية من القبول والثقة لدى أبناء الصحوة الإسلامية، ونحرص أن تكون: - مرجعًا إسلاميًا لدى كثير من رجال الصحافة والإعلام وغيرهم لما تمثله من منهج إسلامي متوازن وعميق. - مصدرًا ثريًا ونبعًا صافيًا ينهل منه الدعاة والخطباء والمحاضرون والباحثون. - مادة خصبة في بناء الوعي والتعريف بواقع الأمة. - أحد الأعمدة الراسخة في البناء الإعلامي الإسلامي. مواكبة الحدث تسعى البيان دائمًا (رغم كونها شهرية) إلى تحليل الأحداث التى تمر بالأمة الإسلامية وتمس حاضرها ومستقبلها؛ وذلك بشتى الوسائل والأساليب؛ بمثل: - نقل الأحداث من مصادر موثوقة. - استيعاب أبعاد الحدث الماضية والمستقبلية. - محاورة أهم الشخصيات المرتبطة بالحدث ونقل رؤيتهم للقراء. - عرض آراء العلماء والمفكرين والمختصين واجتهاداتهم حول الحدث. - تحذيرها من المكر الإعلامي والتزييف العلماني. - إبراز الرؤية الشرعية المؤصلة للأحداث. نصح الأمة تبذل البيان قصارى جهدها في توعية الأمة الإسلامية ونصحها حيث تخصص كثيرًا من المقالات والملفات والدراسات لـ: - تقويم الانحرافات وتصحيح الأخطاء - الدعوة إلى تنمية عوامل القوة في الأمة - بيان سبيل المفسدين وشبهاتهم والرد عليها تزكيات ١- تزكية سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-. ٢- تزكية فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك - حفظه الله-. ٣- تزكية فضيلة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط -حفظه الله-. ٤- تزكية فضيلة الدكتور ناصر عبد الكريم العقل -حفظه الله-. ٥- تزكية فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان -حفظه الله-.
ذو الحجة - ١٤٠٦هـ أغسطس - ١٩٨٦م (السنة: ١)
مدخل: البيان مجلة إسلامية عالمية تهتم بنشر العلم الشرعي وتأصيل منهج أهل السنة والجماعة لدى جمهور الصحوة والعاملين على الساحة الإسلامية بمختلف انتماءاتهم والباحثين عن الحقيقة من خلال ما تقدمه من زاد تربوي ودعوي، وتحليل صادق للأحداث التي تمر بالأمة برؤى شرعية راسخة. كما تسعى جاهدة لتوحيد شتات الأمة على هذا المنهج السوي، بعيدا عن التحزب والتعصب، مستعينة على ذلك أولا بالله ﷾ ثم مسترشدة بهدي النبي ﷺ وهدي السلف الصالح من خلال استكتابها لنخبة من العلماء وطلبة العلم في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ومن ثم تعمل على نشر هذه المادة في شتى بقاع العالم من خلال طاقم إداري وفني على مستوى عالٍ من الكفاءة والتدريب مستفيدة بجميع وسائل التقنية الحديثة المتاحة لمحة تاريخية صدر العدد الأول من المجلة سنة ١٤٠٦ هـ، ١٩٨٦م مرت المجلة بمراحل تطويرية، من حيث: - الأسلوب الإعلامي والصياغة - الشكل والإخراج الفني - متابعة الأحداث وكانت آخر مرحلة للتطوير الفني في إخراج المجلة، التطوير الذي بدأ من العدد (١٧٣)، حيث أصبحت المجلة ملونة وكبيرة الحجم، أما تطوير التحرير فهو عملية دائمة متجددة قدر الطاقة نسأل الله العون والتوفيق. رسالة المجلة مجلة عالمية تخاطب نخبة المثقفين، وتسعى لمخاطبة العقول وإثارتها، وترشيد العمل وتوجيهه، وتحرك القلوب وترققها، وتستحث الهمم وتشحذها، وهي في ذلك كله تهدف إلى بناء المسلم: - الصحيحة عقيدته - الراسخ علمه - الواعي واقعه - المنطلق من التأصيل الشرعي في مواقفه - المهتدي بهدي السلف الصالح في منهجه أهداف المجلة - نشر عقيدة أهل السنة والجماعة. - نشر العلم الشرعي الذي يبنى على الدليل، والتأصيل العلمي. - الاهتمام بالدراسات الدعوية والتربوية التي تعين في توجيه الأمة وتصحيح مسارها. - التعريف بواقع المسلمين السياسي والاقتصادي والفكري والأدبي، والمساهمة في حل مشكلاتهم. - الدعوة إلى تجميع جهود المسلمين وطاقاتهم، والبعد عن التعصب إلى إقليم، أو حزب، أو جماعة. - تنبيه المسلمين عموما، والدعاة خصوصا، إلى المؤامرات التي تحاك ضدهم لأخذ الحيطة والحذر. المنهج مجلة البيان ... بيان يتضمن الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الدعاة المخلصون ويساعد في البحث عن الوسائل الصحيحة التي تخدم العمل الإسلامي بأسلوب يعتمد التحليل، والوضوح في العبارة والقصد. مجلة البيان ... كما أنها تجعل من نفسها مجلة لكل مسلم مهما كان لونه أو جنسه، ولا تدعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا تدعي الوصاية على الدعوة، ولا تحتكر قول الحق، ولا تزدري الأصوات الأخرى في ساحة العمل الإسلامي، التي ترى أنها تتسع لكل الجهود الجادة. مجلة البيان ... مجلة تنأى بنفسها عن الصراعات الحزبية والخلافات الشخصية التي تذهب، حلاوة الدعوة، مع حرصها على إيضاح الحقائق والأصول الشرعية. مجلة البيان ... منبر لبيان الحقيقة وإحياء الوعي، وإذا لم تستطع قول الحق في كل مسألة، فلن تقول الباطل بإذن الله. البناء العام تقدم المجلة لقرائها الكرام مادتها في شكل منظم يتميز بالحيوية والتنوع، حيث تبدأ المجلة بـ (كلمة صغيرة) ثم تليها (الافتتاحية)، وتنتهي بـ (الورقة الأخيرة)،ثم ينتقل القارئ بعدها إلى عدد من الزوايا -ثابتة ومتغيرة- ليبدأ من حيث شاء ويتخير ما يشاء من موضوعات، تتنوع موضوعات المجلة بين مقال كبير وقصير، ودراسة شرعية مسهبة، وبحث مقتضب، وتحليل مطول وأخبار متنوعة، وتولى المجلة اهتمامًا بالغًا بالجانب الفني والإخراج، حيث تقدم مادة المجلة في صورة ملائمة للمضمون، وإخراج يساعد القارئ على فهم المحتوى مكانة المجلة نرجو أن البيان بلغت بتوفيق الله - تعالى - ثم بتعاون العلماء والدعاة درجة عالية من القبول والثقة لدى أبناء الصحوة الإسلامية، ونحرص أن تكون: - مرجعًا إسلاميًا لدى كثير من رجال الصحافة والإعلام وغيرهم لما تمثله من منهج إسلامي متوازن وعميق. - مصدرًا ثريًا ونبعًا صافيًا ينهل منه الدعاة والخطباء والمحاضرون والباحثون. - مادة خصبة في بناء الوعي والتعريف بواقع الأمة. - أحد الأعمدة الراسخة في البناء الإعلامي الإسلامي. مواكبة الحدث تسعى البيان دائمًا (رغم كونها شهرية) إلى تحليل الأحداث التى تمر بالأمة الإسلامية وتمس حاضرها ومستقبلها؛ وذلك بشتى الوسائل والأساليب؛ بمثل: - نقل الأحداث من مصادر موثوقة. - استيعاب أبعاد الحدث الماضية والمستقبلية. - محاورة أهم الشخصيات المرتبطة بالحدث ونقل رؤيتهم للقراء. - عرض آراء العلماء والمفكرين والمختصين واجتهاداتهم حول الحدث. - تحذيرها من المكر الإعلامي والتزييف العلماني. - إبراز الرؤية الشرعية المؤصلة للأحداث. نصح الأمة تبذل البيان قصارى جهدها في توعية الأمة الإسلامية ونصحها حيث تخصص كثيرًا من المقالات والملفات والدراسات لـ: - تقويم الانحرافات وتصحيح الأخطاء - الدعوة إلى تنمية عوامل القوة في الأمة - بيان سبيل المفسدين وشبهاتهم والرد عليها تزكيات ١- تزكية سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-. ٢- تزكية فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك - حفظه الله-. ٣- تزكية فضيلة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط -حفظه الله-. ٤- تزكية فضيلة الدكتور ناصر عبد الكريم العقل -حفظه الله-. ٥- تزكية فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان -حفظه الله-.
ذو الحجة - ١٤٠٦هـ أغسطس - ١٩٨٦م (السنة: ١)
Shafi da ba'a sani ba
الافتتاحية
كلمة في المنهج
- التحرير -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله هي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم هي ...
مهمة أتباعهم عبر القرون، فما بعث الله نبيًا قط إلى قومه إلا بادأهم بهذه الكلمة المدوية: [اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ]، ثم ينطلق في تغيير جميع الانحرافات السياسية أو الاقتصادية أو السلوكية أو غيرها، من منطلق العقيدة.
ومنذ وجدت البشرية على الأرض، والصراع بين الحق والباطل، والخير والشر قائم لا ينقطع، والصدام بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ... دائم لايزول، فريق نصب نفسه داعية للنوازع الأرضية، والشهوات النفسية والجسمية، ورهن حياته من أجل إرساء كل ما له علاقة بتقديس الذات، ... وبعث غرائز الأثرة والتسلط والقهر لغيره ممن يستضعفهم، وفريق - وهو ... ... القلة والصفوة - نصبوا أنفسهم للوقوف في وجه تيار المفاسد المندفعة التي تحط من قيمة الإنسان- كمخلوق كرمه الله- وأنفقوا حياتهم وما يملكون من أجل أن يصعدوا بهذا الإنسان إلى القمة، وينقذوه من الضلال عن منهج الله، ومن الشهوات وعواقبها التي تتمثل بالشقاء الناتج عن فقدان الطمأنينة والأمن عندما يعجب الإنسان بعلمه ورأيه ويكتفي بذلك منقطعًا عن توجيه الله وهدايته. ...
هذا الفريق هم الأنبياء والرسل والمصلحون الذين ساروا على طريقهم ...
واتخذوهم قدوة ومثلًا أعلى لهم.
وإن جوهر دعوة الرسل وأتباعهم واحد لا يتعدد، وكل ما أمروا به من صالح
العمل وما نهوا عنه من فاسده مرتبط بهذا الجوهر ارتباط النتيجة بالسبب، وجوهر
هذه الدعوة هو إثبات وجود الله ﷿، وإفراده بالعبادة:
[ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ ومِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] . (النحل ٣٦) .
[ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] . (الأنبياء ٢٥) .
ولقد كانت الوظيفة الأساس للدعاة والمصلحين هي تبليغ الناس وإرشادهم ... إلى هذه الطريق التي سلكها أنبياء الله ورسله، وكانت هذه الوظيفة نتيجة تفاعل حي بين هذا الركب الكريم وبين المجتمعات التي عاشوا فيها، فقد برزت عناصر الدعوة متمثلة بنماذج واقعية للعمل الصالح.
ورسالة الإسلام ليست بدعًا بين الدعوات، بل هي الرسالة المتضمنة لكل ما في الرسالات السابقة من عناصر ليست مرتبطة بزمن معين وجماعة ... محددة، فجاءت رسالة الإسلام حينما بلغت البشرية سن الرشد، لتكون شاملة ... للنشاط البشري برمته من جميع زواياه، سواء من جهة العقيدة أو السلوك أو التشريع.
وإن الذي ينبغي أن يتنبه إليه الدعاة من المسلمين هو هذه الحقيقة البسيطة
الواضحة في معناها، والكبرى في دلالتها، وهي أن الإسلام هو الحق، وأن ... ما عداه هو الباطل وقد حسم الله في كتابه هذه الحقيقة فقال:
[ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين َ] (آل عمران ٨٥) .
[وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام ١٥٣) .
وقد أناط الله كلمة إنقاذ البشرية بهذه الأمة فقال:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُون َ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...] (آل عمران١١٠) .
وإذا لم تكن هذه الأمة على مستوى المسئولية التي أنيطت بها، والأمانة التي أسندت إليها، فإن هذا نذير لها بالضعف والاضمحلال.
غير أنه من فضل الله على هذه الأمة أنه لا يخليها من طائفة قائمة بالحق تدعو إليه لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى تقوم الساعة
وهم على ذلك.
هذه الطائفة هي الدعاة إلى الله، الذين امتلأ بهم تاريخ هذه الأمة،
وحفلت بأخبارهم صفحاته المجيدة، وهم ورثة الأنبياء الذين يحملون هذه الدعوة جيلًا بعد جيل، ويبلغونها بكل أمانة، لا يعبأون بالصعاب التي تعتضهم، ولا بالشياطين والطغاة الذين ينصبون لهم شتى أنواع العداوة والكيد والإرصاد.
وإن مهمة الدعاة الأولى هي التبليغ ودعوة الناس إلى هدي الله، وهذه المهمة العظيمة لا بد أن يرافقها وعي دائم ومتجدد بحاجات الناس ... وتغير أساليب مخاطبتهم.
وفي هذا العصر نجد أن الدعوات الهدامة قد استخدمت كل الوسائل المعروفة في مخاطبة الناس والتأثير على عقولهم، بل استحدثت وسائل ... ... جديدة هدفها الهيمنة على حرية التفكير والاختيار، في الوقت الذي تدعي فيه تَبَنِّي هذه الحرية والعمل من أجلها في الوقت الذي لا تزال فيه أساليب ... الدعاة مقتصرة على الوسائل التقليدية، ولا يزال الجهد الأكبر للدعاة منصبًا ... على الخطب والمواعظ التي تستهلك الجهد، وتستنفذ الوقت بعيدًا عن التخطيط والإعداد ودراسة حاجات كل مجتمع على حدة، وعناصر تكوينه ومحاولة ... الكشف عن أنجح الوسائل التي تفيد في جعله أكثر استجابة.
ونحن لا نريد التهوين من شأن الخطب والمواعظ، ولكننا نقصد التنبيه إلى
أن الاقتصار على هاتين الوسيلتين فيه هدر للطاقة، وتضييع للجهود وتخلف عن
ركب العصر وعدم تلاؤم القضايا المطروحة - مهما كانت مهمة ومصيرية - مع
تفكير الناس وشعورهم إذا ما اقتصر عرضها على مثل هذه الوسائل.
ونظرة فاحصة إلى حصاد الدعوة الإسلامية في العصر الحديث؛ ترينا كيف
أن تخلف الدعاة في استخدام الوسائل الفعالة نتج وينتج عنه تخلف في تحقيق
الأهداف.
وبينما نجد إعلام الكفر بشتى أشكاله إعلامًا منظمًا مدروسًا؛ يؤسفنا أن نرى
الإعلام الإسلامي إعلامًا قائمًا على الفوضى، مستغلًا في بعض جوانبه من أجل
خدمة أهداف لا علاقة لها بجوهر الدعوة، وفي أحسن أحواله إعلام يصدر عن
نوايا حسنة ولكنه بعيد عن كل تخطيط أو دراسة.
في هذه الأجواء، ومن خلال هذه الظروف تصدر «البيان»:
١- لتكون صوتًا من أصوات الحق في الأرض، ولسانًا معبرًا عن الإسلام
كرسالة خاتمة تخاطب الناس - كل الناس - في الأرض - كل الأرض.
٢- ولتكون بيانًا يتضمن توضيح الأهداف والغايات التي يتطلع إليها الدعاة
والمخلصون ويساعد في البحث عن الوسائل الصحيحة التي غرق في دوامتها كثير
من الكتابات الإسلامية في عصرنا هذا.
وهي إذ تعتمد هذا السبيل فإنها تسترشد بالبيان القرآني، وأدب التعبير النبوي
الذي وازن موازنة دقيقة بين دقة الخطاب وعمقه ووضوحه وبين سمو تعبيره وأخذه
بمجامع القلوب والعقول معًا.
٣- ولتكون منبرًا للمنهج الأصولي الذي مثله جيل السلف الأول، الذي كان
امتدادًا لمنهج الأنبياء والمرسلين، وسار عليه التابعون لهم بإحسان، وتمسكوا به
حين ذر قرن الفتنة، ولم ينصرفوا عنه في ظلمة الفرقة، ولم يتيهوا عنه في ظلام
الفتن.
٤- و«البيان» منبر من منابر أهل السنة والجماعة تعبر عن منهجهم،
وتدعو إلى أصولهم، وتذكر بطريقتهم السليمة من الغلو والانحلال، وهي - مع
هذا - ليست منبرًا لحزب، ولا دعوة إلى طائفية، ولا إلى إقليمية تخاطب قطيعًا
من الناس حدد له أعداء الإسلام حدود حظيرته وقُضي عليه منهم أن لا يتجاوزها.
٥- وهي مجلة كل مسلم، مهما كان لونه أو جنسه، وأيًا كان موقعه، هي بهذا لا تدعي أنها صوت المسلمين الوحيد، ولا تزدري الأصوات ... الأخرى التي تقف معها في ساحة العمل الإسلامي، ولا تنظر بمنظار ذي جهتين، يكبر لها نفسها، ويصغر لها الآخرين، كما أنها لا تدعي - ولن ... تدعي - الوصاية على الدعوة، ولا تحتكر -ولن تحتكر - معرفة الحق، بل تضم صوتها إلى جانب كل صوت يدافع عن القضايا الإسلامية بصدق وإخلاص، وسوف تبتعد -بإذن الله- عن كل ما يجعلها تتورط في مشادات عقيمة ومهاترات رخيصة تلهيها عما نصبت صفحاتها من أجله.
وهي مجلة تعتقد أن ساحة العمل الإسلامي تتسع لكل الجهود، وهي ساحة
مشرعة لا يضيق صدرها بعمل صادق، وجهد مشكور.
وسوف تتوسل المجلة - في سبيل أداء رسالتها - بقراء التاريخ قراءة متأنية
هادفة والاستفادة من دروسه وعبره، والاستفادة من رصيد التجارب التي مرت بها
الدعوة الإسلامية عبر مسيرتها الطويلة، والتعرف على سنن الله في الأنفس
والمجتمعات والتعامل مع القواعد الشرعية المستخلصة من المنهج القرآني.
وإننا عبر هذه المجلة نرى أن الخطأ غير المقصود صفة ملازمة للإنسان ولا
يتعارض ذلك مع التقوى التي هي الصفة الأساسية للمؤمنين، ولا نقول بعصمة أحد
ما خلا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولكن الذي يخل بالتقوى ويخلخل الصف
والمسيرة هو الإصرار على الخطأ، وعدم مراجعة النفس، والاستنكاف عن التوبة.
وإن من أعظم القواعد الإسلامية التي تركنا العمل بها، فوقعنا في براثن
الاعتداد بالرأي والإعجاب بالنفس، والاستبداد الذي يدمر عناصر الإبداع على كل
صعيد بينما وجدت لها تطبيقًا عريضًا في المجتمعات الغربية فآتت أحسن النتائج
والثمار القاعدة العمرية الإسلامية: «الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
الباطل» .
لقد تركنا العمل بهذه القاعدة العظيمة - مع الأسف الشديد - ونحن أحق بها
وأهلها، فتحكم بعضنا في بعض، وأسلسنا قيادنا لمن لا يصلح لذلك، ولم نستفد من
التجارب علي تكرارها وكثرتها.
وأخيرًا فإن من أهم السمات التي نرجو أن تتسم بها هذه المجلة:
١- البعد عن الغلو فهمًا وتطبيقًا، والالتزام بالوسطية، وقوفًا عند قوله تعالى: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا ...] (البقرة ١٤٣) .
٢- الالتزام بالدليل الشرعي فيما نذهب إليه، والبعد عن انتحال أهل الباطل
وتأويلات الجهلة التي لا تستند إلى دليل صحيح.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] .
والحمد لله رب العالمين.
1 / 4
التجديد في الإسلام
- التحرير -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إن العالم الذي نعيش فيه تصطرع فيه العقائد والأفكار، وتتصادم المبادئ
والآراء، وقد اقتضت سنة الله في هذا الكون أن يكون الصراع بين الخير والشر
صراعًا مستمرًا ما استمرت الحياة، وإن الإسلام الذي هو خير كله، ولذلك اختاره
الله دينًا للبشرية، لن يترك من قبل قوى الشر، ولا تزال شياطين الإنس والجن
تواجهه بشتى الأسلحة منذ أن بُعث محمد بن عبد الله ﷺ إلى
يوم الناس هذا.
وإن أخطر الأخطار التي تهدد هذا الدين ما كان داخليًا نابعًا من صفوف
متبعيه، فالذي يتتبع حركة هذا الدين في التاريخ يجد مصداق ذلك، فكل أنواع
الإخفاق والانهزام التي مني بها أصحابه كانت أسبابها الرئيسية ترجع إلى تراخٍ في
التمسك بهذه العقيدة، أو عدم وضوح التصورات والأهداف يعتري الناس، أو غفلة
عن مبدئية هذا الدين في خضم تصارع القوى والأفكار حوله. وكل العلامات
المضيئة في مسيرته التاريخية ترجع إلى انتباه المسلمين إلى ما يملكون من رصيد
مادي ومعنوي حيث يعتزون بدينهم، ويشعرون بفداحة الأخطاء التي تهددهم من
خلال استهداف الأعداء دينَهم فيجتمعون على هدف موحد، ويسيرون إليه بخطًا
واثقة يستهدفون كتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ، ويستلهمون معاني
القوى والاعتزاز وكراهية الظلم بشتى أشكاله من ذلك الرصيد العظيم وقد اقتضت
حكمة الله أن يكون العلماء هم الرواد الذين يحملون النور في الظلمات الحالكة، وأن
يكون علمهم هو الهادي للمسلمين حين تطبق عليهم الخطوب وتفدحهم المصائب،
فيبثون بهذا العلم الثقة في النفوس المهزومة ويبعثون الأمل الضاحك في القلوب
المقهورة، ويشخصون الداء ويصفون الدواء بحكمة الطبيب النطاسي.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر المسيحي بدأ المسلمون بالتنبه لواقعهم الذي
آلوا إليه: تراجع في القوى، وتشتت وتفرق، وملوك وولاة أنهكوا شعوبهم بظلمهم
وعسفهم واستبدادهم، وأماتوا فيهم عوامل الوثوب والمقاومة، حتى غدوا جهلاء
فقراء إلى جانب أمم الغرب التي استعدت عليهم، وبدأت تهددهم، وأخيرًا قضت
على آخر كيان سياسي كان يتكلم باسم هذا الدين وهو الدولة العثمانية، وتمكنت من
أن تسيطر على بلدانهم وثرواتهم، وتجعلهم وبلدانهم غذاءً لمصانعها وبطونها،
وسوقًا لمنتجاتها، وقبل كل ذلك وضعت الخطط والبرامج من أجل تغيير عقائد هذه
الشعوب، وقطع صلتها بتشريعها وقيمها وأخلاقها، وإحلال عقائد ومناهج الغرب
الكافر محلها، فتقترب العقول من العقول، وتردم الهوة السحيقة التي تفصل بين قيم
وقيم، وعادات وعادات، فيسلس لها قياد هذه الشعوب، ويسهل لها تحقيق مطامعها
في بسط الهيمنة ورفع الحضارة الغربية المسيحية الوثنية، وتدمير المعاني
الإسلامية الربانية.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن قامت دعوات ونهض أفراد، يرفعون رايات
الإصلاح ويبينون مكامن الأخطر كل حسب رأيه وقدراته ومنازعه الثقافية.
وكان دعاة الإصلاح - وما زالوا - كل له رأيه في الإسلام، فكان أن جعلته
طائفة أساسًا لعملها، وطائفة تجاهلته، وطائفة اختارت منه أشياء ورفضت
واستبعدت أشياء يدفعها إلى ذلك التحكم المحض تارة، أو الانهزام أمام الأفكار
الوافدة تارة أخرى، أو الغرور مرات كثيرة.
على أن الأمر الذي آثار - ويثير - البلبلة في الأفكار، وخاصة أفكار الشباب
هو أن أغلب رواد الإصلاح كانوا يرفعون راية الدين، ويدعون أنهم على الجادة
التي ترك محمد بن عبد الله ﷺ أصحابه عليها، مع أن أغلب
أولئك الرواة قد شابت مسالكهم الشوائب، وخالطت منهاجهم أمور غريبة كانت
نتيجة تصور غير صافٍ للمنهج الإسلامي الأصيل.
وهذه الدراسة التي نقدم لها تتناول هذه القضية الخطيرة، قضية التجديد
والإصلاح، وتصب في صميم تحديد المنهج الذي يجب أن ينتهجه المسلمون، حتى
يخرجوا مما هم فيه من الضعف العقائدي، ويرتفعوا عن وهدة الذل والهوان التي
صاروا إليها.
وقد طرح هذا الموضوع الحساس على بساط البحث قديمًا وحديثًا، وتناولته
طائفتان من الكتاب:
١- طائفة يمكن أن نطلق عليها اسم (هواة الكتابة)، حيث وجدوا هذا
الموضوع مستطرفًا، فتناوله إشباعًا لهواية الكتابة عندهم لا انطلاقًا من شعور مُلِحَ، وإحساس تفاعلي بينهم وبين الواقع.
٢- وطائفة من العلماء الأعلام تعرضت له تعرضًا خفيفًا حسب ما يقتضيه ما
هم بصدده من بيان المراد بالجملة لا بالتفصيل، وشرح لمضمون حديث (المجدِّد)
حينما يعرض في دواوين السنة.
وهذه أول دراسة علمية - فيما نعلم - لموضوع التجديد والمجددين،
مستوعبةً له، مقصورة عليه، دفع إليها الإحساس بالحاجة إليه في هذا الوقت الذي توالت فيه المحن والشدائد على حَمَلَةِ هذا الدين، وقلَّ العلم وكَثُرت الدعوة،
وتعددت اللافتات المرفوعة.
وسيجد القارئ أسباب اعتبارنا هذه الدراسة واعتدادنا بها مبثوثة في ثنايا
البحث الذي سننشره على حلقات في هذه المجلة - إن شاء الله -، ومن أبرز هذه
الأسباب: الحرص على الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله، مع بيان مبلغ
حديث من الصحة عند الاستشهاد ونقل أقوال العلماء المحققين، وتقديم دراسة
تاريخية لأبرز المجددين، مع ربط هذه الأمور بواقع عصرنا.
وسيكون من خطة المجلة أن تتبنى كتبًا أو أبحاثًا مسلسلة ثم يصار إلى طبعها
في كتاب يكون موازيًا للمجلة.
1 / 8
التجديد في الإسلام
تمهيد:
الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أوجد الله ﵎ الخلق على ظهر هذه البسيطة - بحكمته البالغة -
ليبلوهم أيهم أحسن عملًا؟ واقتضت حكمته سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة
والصلاة والميل عن الشرك إلى التوحيد.
فأوجد البشر - أول ما أوجدهم على الحنيفية، قال تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً] [١] .
وقال: [ومَا كَانَ النَّاسُ إلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا] [٢] .
وقال ﷺ فيما يرويه عن ربه ﷿: «كل مال نحلته [٣] عبدًا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين، اجتالتهم [٤] عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطانًا ...» [٥] الحديث.
وجعلهم -سبحانه- يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة ... ...
المستقيمة، كما قال ﷺ فيما رواه أبو هريرة - رضي الله ... عنه -:
«ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو
يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول
أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] [٦] .
قال الإمام البخاري ﵀: (والفطرة: الإسلام) [٧] .
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: «ما من مولود إلا على هذه الملة،
حتى يبين عنه لسانه» [٨] .
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقع الحياة ما علمه
عنهم بسابق علمه سبحانه؛ فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقين: الخير أو الشر، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى، وفي مقدورهم الانحراف عنها
والميل إلى طريق الضلال.
وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه- في الجملة - ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- مبشرين ومنذرين بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة.
كما ابتلاهم - سبحانه بحكمته - بالشهوات والشبهات لتكون محكًا حقيقيًا
يكشف عن توجه الإنسان ومقصده، والشياطين تزكي هذه وتلك وتؤز الإنسان للشر
والمنكر أزًا.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير، تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لها
الأدلة الكونية والعقلية، وقوة الشر، تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية - بشكل أوسع - حيث يتميز المؤمنون أتباع
الرسل، عن المجرمين أتباع الشياطين.. ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على
الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها.
ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلين - عليهم الصلاة والسلام -، الذين
كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ
إلهيةٍ جديدةٍ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله، حتى ختم الله
الرسالات برسالة محمد ﷺ، وانقطع بموته - عليه الصلاة
والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
* * *
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن، ويطرأ عليها بمرور الزمن
ما يكدر صفائها، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عوامل
الانحراف تتسرب إليهم شيئًا فشيئًا تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه ثم
تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولقد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها - في قضايا
الاعتقاد - حتى في حياة رسلهم - عليهم الصلاة والسلام -، فكيف وقد ختمت
الرسالات، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟؟ وكيف بما دون تلك القضايا
من أمور التشريع؟
وإذا كان المنافقون والضالون يجدون من يستمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم
رغم وجود الرسول ﷺ الذي يمثل القيادة السليمة والقدوة
الصالحة، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات
المضللة، وخفت صوت الحق، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين
الأصوات، ولا بين الألوان؟؟
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة
أمر دينها، وتجلي الحقائق الملتبسة، وتحيي الفرائض المعطلة، وتزيل ما علق
بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين
وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف.
حديث المجدِّد:
قال الإمام أبو داود ﵀ تعالي - (في سننه): حدثنا سليمان بن داود
المُهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا سعد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد
المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .
قال أبو داود: (رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني، لم يجز به
شراحبيل) [٩] .
وهذا الحديث أخرجه أيضًا: الحاكم في مستدركه عن طريق الربيع بن
سليمان بن كامل المرادي، عن ابن وهب به [١٠] .
ورواه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن طريق عثمان بن صالح، عن
ابن وهب [١١] .
ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بن سواد، وحرملة بن يحيى،
وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن وهب [١٢] . ومن طريقه - طريق ابن عدي - أخرجه البيهقي في (معرفة السنن والآثار) [١٣] .
وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن حرملة بن يحيى وعمرو بن سواد [١٤] .
ومن طريقه أخرجه البيهقي في (مناقب الشافعي) [١٥] . وعزاه السيوطي والسخاوي باللفظ السابق إلى الطبراني في (معجمه الأوسط) [١٦] .
كما عزاه السيوطي إلى أبي نعيم، والبزار، ولعله لا يقصد الحديث بلفظه
السابق، بل يقصد اللفظ الآخر الآتي قريبًا إن شاء الله.
كما عزاه الألباني لعمرو الداني في (الفتن) ٤٥/١، والهروي في ذم الكلام (ق/١١١/٢) وانظر اللفظ الآتي بعد قليل [١٧] .
ورواه ان عساكر في (تبيين كذب المفتري) من طريق أبي داود ثم من طريق
ابن عدي [١٨] .
وقول الراوي: (فيما أعلم) ليس شكًا في رفع الحديث، وإنما هو من قبيل
التحرز في الرواية، والتشدد في الأداء، المعروف عند السلف.
وعلى فرض وقف الحديث فهو في حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي
المجرد؛ بل بالتوقف إذ هو إظهار عن أمر مستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقال أبي داود: (ورواه عبد الرحمن بن شريح لم يجز به شراحيل)، فهو
يعني أن عبد الرحمن قد أعضل الحديث فأسقط من إسناده أبا علقمة وأبا هريرة.
وطريق سعيد بن أبي أيوب المتصلة هي الراجحة وإن كان كلاهما ثقتين لأنها
من باب زيادة الثقة، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارضها ما هو أثبت منها، وهذا
الحاصل هنا، فيتعين قبولها، والمصير إليها.
وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه.
١- وسكت عنه الحاكم ثم الذهبي كما في مطبوعه (المستدرك) ونقل غير
واحد تصحيح الحاكم له منهم: السيوطي [١٩] ثم المناوي [٢٠] .
٢- وقال ابن حجر - بعد سياق أقوال الأئمة في المجدِّد -:
(وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهورًا في ذلك العصر، ففيه تقوية للسند
المذكور، مع أنه قوي لثقة رجاله) [٢١] .
٣- وقال السيوطي: (اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح.. «ثم قال:
وأما المتقدمون فكلهم لهجوا بذكر هذا الحديث» [٢٢] .
ورمز لصحته في (الجامع الصغير) [٢٣] .
٤- وقال الزين العراقي: سنده صحيح [٢٤] .
٥- وقال السخاوي: سنده صحيح، ورجاله كلهم ثقات [٢٥] .
٦- وقال المناوي: بإسناد صحيح [٢٦] .
٧- وقال الألباني: والسند صحيح، ورجاله ثقات، رجال مسلم [٢٧] .
وبالجملة فقد اعتمده العلماء: الزهري، وسفيان بن عيينة، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، والنووي، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني،
والحافظ الذهبي، والحافظ زين الدين العراقي، والحافظ ولي الدين العراقي، وابن
الجزري، وابن كثير، وابن الأثير، والسيوطي، والسخاوي، والمناوي، ومئات
غير هؤلاء، كلهم اعتمدوا الحديث، واشتغلوا في تحديد من ينطبق عليهم الحديث.
ولم نعثر خلال البحث عمن ضعَّف الحديث أو تكلم فيه، فالحمد لله رب
العالمين.
ألفاظ أخرى للحديث:
ورد الحديث بألفاظ أخرى مختلفة قليلًا أو كثيرًا عن اللفظ المسوق من قبل.
فرواه النحاس عن سفيان بن عيينة قال: (بلغني أنه يخرج في كل مائة سنة
بعد موت رسول الله ﷺ رجلٌ يقوي الله به الدين، وإن يحيى
بن آدم عندي منهم) [٢٨] .
وبنحوه أجره البزار [٢٩] .
وروى عنه بلفظ: «إن الله يمنُّ على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل
من أهل بيتي، يبين لهم أمر دينهم» [٣٠] .
وألفاظ أخر غير هذه كثيرة تلتقي كلها عند الإمام أحمد، وهي روايات معلقة
لم توجد موصولة في موضع آخر ولم يوقف على إسناده في شيء من الكتب ولا
الأجزاء الحديثية - كما قال السيوطي [٣١]- ولذا لا يعول على المعاني التي
انفردت بها هذه الروايات مثل: كون المجدِّد فرضًا، وكونه من أهل بيت النبي -
ﷺ، وكونه على رأس المائة بعد موت النبي -صلى الله عليه
وسلم- كما هو ظاهر لفظ ابن عيينة ﵀.
٣- بعض المعاني المستخرجة من الحديث:
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- فيها أمته، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة
والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين، ويمنحه - فوق هذا -
دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظًا من أجر المجدِّدين. ... وسنقف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث:
١- فأ ول ما يستوقف المتأمل قول الرسول ﷺ: «يبعث
لهذه الأمة» إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش
«لهذه الأمة» وسواء كان المقصود أمة الدعوة -على ما رآه قوم- أو أمة الإجابة -
على ما رآه آخرون -؛ فإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر
في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة
الحياة، ومن ثم يحدث التوازن في مسيرة الحياة البشرية كلها، ويأخذ الإسلام ... دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمة الإسلامية بإيقاظها، وإعادة ثقتها بدينها، وردها إلى
المنهج الصحيح.
وهو مجرد للبشرية كلها، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة
إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير، ويرضون بالدون، فيكتفي أحدهم
بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس! ... بل قد تعظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبرًا على الفساد
والانحراف، وأقلق قلبه تسلط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون، فآلى على نفسه أن يزاحمهم ما استطاع، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا
دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفوسهم الآمال والتطلعات كثيرون، ولكنهم يتناقدون
ويتساقطون واحدًا بعد الآخر كما تقدمت بهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت
المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون؛ لأنهم صابروا العقبات
وغالبوها حتى غلبوها؛ لأن همتهم كانت أعظم من تلك العقبات: كانت تجديد الدين
لهذه الأمة، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم، مع تحقيق معنى انتمائهم
للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي، ويمارسون
دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
٢- أما «البعث» المذكور أنه يكون على رأس المائة، فإن البعث هو
الإثارة والإرسال، فيكون المعنى: (إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة
مجددًا، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام، وينتصب لنشر
الأحكام) [٣٢] .
فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام
المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن وقال: (وموته
على رأس القرن أخذ لا بعث) [٣٣] .
قال ابن الأثير: (وإنما المراد بالذكر من: انقضت المائة وهو حي، عالم
مشهور مشار إليه) [٣٤] .
وقال الكرماني والطيبي مثل ذلك [٣٥] .
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار
المجدِّدين) [٣٦]:
والشرط في ذلك أن تمضي المائة ... وهو على حياته بين الفئة يشار بالعلم إلى مقامه ... وينصر السنة في كلامه [٣٧]
وكذلك لا نعلم دليلًا في اشتراط كون وفاة المجدد في بداية القرن التالي أو بعده
بقليل، كما يلحظ في منهج كثير ممن تصدوا لتعيين المجددين؛ حيث يستبعدون
بعض الأئمة محتجين بأن وفاته تأخرت إلى العشرين مثلًا أو الثلاثين بعد المائة ... مثلًا [٣٨] .
وسواء كان بعث المجدد في نهاية القرن السابق، أو في بداية القرن اللاحق
فليس ثمة ما يدل على ضرورة اشتراط وفاته في تلك الفترة.
وهذا كله على اعتبار أن المجدد فرد واحد، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة
مفصلًا بعد قليل - بإذن الله -.
٣- أما المقصود بـ (الرأس) في قوله ﷺ: «على
رأس كل مائة سنة»، قد قال بعضهم: يعني في أولها، وقال آخرون: بل في
آخرها [٣٩] .
وأصل مادة «رأس» في اللغة تدل على التجمع والارتفاع [٤٠] .
وتستعمل هذه المادة في الوجهين في أول الشيء وفي آخره؛ فتقول: أعد
على كلامك من رأسٍ، وأنت على رئاس أمرك، بمعنى: أوله [٤١] .
ومثله: رأس المال، أي: أصله وأوله [٤٢] .
وتقول: القافية رأس البيت، بمعنى: آخره [٤٣] .
وجاء في الشرع الوجهان: فمن الأول: رأس الأمر الإسلام [٤٤]، بمعنى:
أوله ورأسه.
ومن الثاني: قد كانت إحداكن ترمي البعرة عند رأس الحول [٤٥]، يعني:
في آخره.
ومثله قوله ﷺ: «أرأيتم ليلتكم هذه؟ على رأس مائة
سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدِ» [٤٦] .
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملًا للوجهين، فهذا عمر بن
عبد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة ٩٩ هـ، وتوفي ﵀
سنة ١٠١ هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي ﵀ سنة ٢٠٤ هـ، ولعل القضية
تقريبية لا تحتمل الحسم القاطع بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد ثم
مات قبل تمام المائة بخمسة أيام يكون مجددًا! ..
ولعل ما يلتحق بهذا معرفة مبدأ المائة: من أين يكون؟ أمن مولده -صلى
الله عليه وسلم -؟ أم من بعثته؟ أم من هجرته؟ أم من وقت نطقه بذلك الحديث؟ أم من وفاته؟ .
ولا نحب أن ندخل في جدل حول هذه الأمور- وإن كان الترجيح بينها ممكنًا - ولكننا نقول:
إن بداية أي قرن تتصل بنهاية القرن الذي قبله، ومما لا يتلاءم مع طريقة
الشرع اعتبار الفصل بينهما بصورة قاطعة؛ ذلك أن الشرع حتى في الأمور
العبادية كالصلاة والصيام والحج وغيرها علق ذلك على أمور ظاهرة مدركة
لجمهور الناس.. فكيف بما ليس كذلك ولا يدخل فيه تعبد؟
الظاهر- والله أعلم- أن عدم تحديد المقصود بالرأس، وعدم تحديد المبتدأ..
كل ذلك أمرٌ مقصود فيه أن المجدد يظهر كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
وهذا ينسجم مع الأحداث التاريخية كلها؛ فإنها تسير بقدر الله تعالى على دفع
ما تقتضيه الأسباب - غالبًا - غير مقيدة أو محددة بفترات معينة.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم
ودنياهم، والتي يفتقر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا موقوفة
بأزمنة خاصة.
وفي تلك النكبات تتجلى رحمة الله بأمة محمد ﵊ حيث
ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور.
كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زمانًا ومكانًا ما
يجعله حيًا في الأجيال التالية بعلمه وعمله، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد
انتهت.
وإن من شأن هذا التصور الذي عرضناه، وهذا الرأي الذي اخترناه أن ترد
الأمور إلى نصابها فبحسب من أحيا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهرًا
ملموسًا للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت
عن رأس القرن.
٤- أما قوله ﷺ: «من يجدِّد لها دينها» .
فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
هل المقصود بذلك فرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن
الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟ .
فأما لفظ «مَنْ» فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة -
من حيث اللفظ -، ومن حيث المراد بها في الحديث قال بعضهم: المقصود بها
فردٌ، وحملوا «مَنْ» في هذه الرواية على لفظ (رجل)، أو (عالم) في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها [٤٧] .
واختار هذا الرأي عدد من العلماء، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال:
وكونه فردًا هو المشهور قد نطق الحديث، والجمهور [٤٨]
ونسبه غيره إلى (العلماء) [٤٩] .
واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والذهبي،
والمناوي، والعظيم آبادي، وغيرهم، وسيأتي بسط كلامهم.
وقبل الدخول في محاولة الترجيح نرى التقديم بحديثين فيهما بشريان أخريان
لهذه الأمة:
أولهما: قوله ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على
الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» [٥٠] .
وهذا الحديث عظيم مشهور، بل يصلح أن يدعى فيه التواتر، فقد ورد من
طرق كثيرة جدًا عن عدد من الصحابة منهم:
عمران بن حصين، وثوبان، وقرة بن إياس، والمغيرة بن شعبة، وجابر
بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، وسعد
بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأبو عتبة الخولاني، وعمر بن الخطاب، وأبو
أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، ومرة البهزي، وسلمة بن نفيل [*] السكوني،
وشرحبيل بن السَّمْط الكندي [*] .
قال الترمذي: (وفي الباب عن عبد الله حوالة، وابن عمر، وزيد بن ثابت،
وعبد الله بن عمرو) [٥١] .
فهؤلاء إحدى وعشرون نفسًا من أصحاب رسول الله ﷺ، رواه عنهم عدد لا يحصون كثرة من التابعين، مع أننا لم نسلك مسلك الاستقصاء.
وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والوهن والاختلاف
حتى لا يبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق المقاتلة دونه، القاهرة لعدوها، الصابرة، فلا يضرّها من خذلها، ولا من ناوأها، إلا ما يصيبها من اللأواء حتى يكون
آخرهم مع عيسى ابن مريم يقاتلون الدجال.
وقد قال الإمام البخاري في ترجمته على الحديث: (باب قول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل ... العلم) [٥٢] .
_________
(١) البقرة آية ٢١٣.
(٢) يونس آية ١٩.
(٣) نحلته: أعطيته.
(٤) اجتالتهم: صرفتهم عن هداهم إلى ضلالتها وأخذتهم بأن يجولوا معها واختارتهم لأنفسها (أساس البلاغة) .
(٥) رواه مسلم في: ٥١ - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ١٦ - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث رقم ٦٣، الرقم العام ٢٨٦٥، ج٤ ص٢١٩٧، ط: عبد الباقي، رواه أحمد في (المسند) ج٤، ص ١٦٢ ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي ﵁.
(٦) الآية من سورة الروم، رقم الآية ٣٠، والحديث رواه البخاري في: ٢٣ - كتاب الجنائز، ٩٢ - باب ما قيل في أولاد المشركين، حديث ١٣٨٥، الفتح ٣/ ٢٤٥ - ٢٤٦ ورواه أيضًا في: ٦٥ - كتاب التفسير، باب لا تبديل لخلق الله، رقم: ٤٧٧٥، ج٨، ص١٢، ورواه أيضًا في ٨٢ - كتاب القدر، ٣ - باب: الله أعلم بما كانوا عاملين، رقم ٦٥٩٩، ج١١، ص ٩٣ ورواه مسلم في: ٤٦ - كتاب القدر، ٦ - باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم ٢٦٥٨، ج٤، ص ٤٧، ورواه أحمد في مواضع: ٢/٣١٥، ٣٤٦ - ٣٤٧، ٢٧٥.
(٧) في الموضع السابق من كتاب التفسير ٨/٥١٢.
(٨) هذا أحد ألفاظ مسلم.
(٩) أبو داود: ٣١ - كتاب الملاحم، ١ - باب ما يذكر في قرن المائة، حديث ٢٩١، ج٤،
ص٤٨٠، ط٣.
(١٠) المستدرك: كتاب الفقه والملاحم ج٤، ص ٥٢٢، دار الفكر.
(١١) تاريخ بغداد ج٢، ص ٦١، نشر دار الكتاب العربي.
(١٢) المقدمة ص ١٨١ - ١٨٣، تحقيق: السامراني، ط: الأعظمي ببغداد، وج١، ص١٢٣،
ط: دار الفكر.
(١٣) ج١، ص ١٣٧، تحقيق: سيد أحمد صقر، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة.
(١٤) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس) ص ٢٤٠ من المخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم ١٠٦ مجاميع، وتابعه على ذلك المصنفون من بعده كالسيوطي، والعظيم أبادي صاحب (عون المعبود) .
(١٥) ج١، ص ٥٣، تحقيق: أحمد صقر، ط: دار التراث.
(١٦) السيوطي في رسالته المخطوطة: (التنبئة فيمن يبعث الله على رأس كل مائة) ص ٢أ، والسخاوي في (المقاصد الحسنة) ص ١٢٢، حديث ٢٣٨، ط: دار الكتب العلمية.
(١٧) سلسلة الأحاديث الصحيحة ج٢، ص ١٥٠، رقم ٥٩٩، المكتب الإسلامي.
(١٨) ص ٥١، ٥٢، ط: القدسي، عام ١٣٩٩ هـ.
(١٩) السيوطي في (التنبئة) ص ٢أ، وفي شرحه (مرقاة الصعود على سنن أبي داود) ص ١٨٩ب (مخطوطتان) .
(٢٠) فيض القدير ج٢، ص ٢٨٢.
(٢١) توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس (المخطوطة) ص ٢٤ ب.
(٢٢) التنبئة، ص ٢أ، ونحوه في مرقاة الصعود، ص ١٨٩ ب.
(٢٣) الجامع الصغير، ج١، ص ٧٤.
(٢٤) ذكره السيوطي في مرقاة الصعود، ص ١٨٩ب، وفي التنبئة: ٢أ، والمناوي في فيض القدير ج٢، ص ٢٨٢، وصاحب عون المعبود ج٤، ص ١٨٣، ط هندية وغيرهم.
(٢٥) المقاصد الحسنة، ص ١٢١، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث) .
(٢٦) فيض القدير ج٢ ص٢٨٢.
(٢٧) سلسلة الأحاديث الصحيحة ج٢، ص ١٥٠، رقم ٥٩٩ وقال في صحيح الجامع: حديث ...
صحيح، ج٢، ص ١٤٣، رقم ١٨٧٠، ط: المكتب الإسلامي أما قوله: (رجال مسلم) فنعم، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج٦، ص ٧١، ج٤، ص٧، ج٤، ص ٣٢٠، ٣٢٣، ٣٢٦، ج١٢، ص ١٧٣.
(٢٨) الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، مخطوط ورق ٨٥/ب، ٨٦/أ.
(٢٩) عن توالي التأسيس لابن حجر، مخطوطة، ورقة ٢٤ / أ، والتنبئة، ورقة ٢ أ - ب.
(٣٠) أبو نعيم في الحلية ٩/٩٧، وأبو إسماعيل الهروي بواسطة التنبئة ورقة ٢/ب، ولعله هو اللفظ الذي عناه الشيخ الألباني في إحالته السابقة إلى الهروي في ذم الكلام.
(٣١) التنبئة ورقة ٥/ب.
(٣٢) مقدمة فيض القدير للمناوي، ج١، ص١٠.
(٣٣) أيضًا ١/١٢.
(٣٤) جامع الأصول ج١١، ص ٣٢٤، تحقيق: الأرنؤوط، ط: الملاح.
(٣٥) فيض القدير ١/١٢، وانظر: عون المعبود ٤/١٧٨، ١٨٠.
(٣٦) موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة)، وموجودة في فيض القدير ج ٢، ص٢٨٢، وعون المعبود ٤/٨١.
(٣٧) التنبئة ص١٨/ب.
(٣٨) ومن هؤلاء: ابن السبكي في: طبقات الشافعية، ج١، ص ٢٠٢، حيث يرجح بعضهم لقرب وفاته من رأس المائة وبدر الدين الأهدل في رسالته: (الرسالة المرضية في نصر مذهب الأشعرية) على ما نقله السيوطي في التنبئة، ص ١٣/ب، وانظر مستدرك الحاكم ج٤، ص ٥٢٢، ٥٢٣.
(٣٩) انظر: عون المعبود ج٤، ص ١٧٨ - ١٧٩، ط: الهندية.
(٤٠) معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج٢، ص٤٧١، دار الكتب العلمية - إيران - قم.
(٤١) الصحاح للجوهري ج٣ ص٩٣٣، دار العلم للملايين، ومعجم مقاييس اللغة.
(٤٢) القاموس المحيط ج٢، ص ٢٢٦، ط٢ الحلبي.
(٤٣) لسان العرب ج٦، ص ٩١، ط: دار صادر.
(٤٤) حديث مرفوع رواه الترمذي في: ٤١ - كتاب الإيمان، ٨ - باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم ٢٦١٦ ج٥ ص١٢، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٤٥) حديث مرفوع رواه مسلم في: ١٨ - كتاب الطلاق، ٩- باب وجوب الإحداد، رقم ٦١ ج٢ ص ١٢٦، وأبو داود في: ٧ - الطلاق، ٤٣ - باب إحداد المتوفى عنها زوجها، رقم ٢٢٩٩، ج٢ ص٧٢٢، والترمذي في: ١١ - كتاب الطلاق، ١٨ - باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، رقم ١١٩٧، ج٣ ص ٤٩٢، والنسائي في الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها ٦/١٨٨، وليس فيه لفظ (رأس الحول) .
(٤٦) حديث: أرأيتكم ليلتكم، رواه البخاري في صحيحه في: أ - ٣ كتاب العلم، ٤١ - باب السمر في العلم، حديث رقم ١١٦، ج١، ص٢١١ (مع الفتح) ب - ٩ - مواقيت الصلاة، ٢٠ - باب ذكر العشاء والعتمة، حديث ٥٦٤، ج٢، ص ٤٥ ج - ٩ - مواقيت الصلاة أيضًا، ٤٠ - باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء، حديث ٦٠١، ج٢، ص ٧٣ ورواه الإمام أحمد في (مسنده) ج٢،
ص٨٨، ص١٢١، ص١٣١.
(٤٧) انظر: توالي التأسيس ص ٢٤/ب، وفيض القدير ج١، ص١٠، وفتح الباري ج١٣، ص٢٩٥.
(٤٨) التنبئة ص ١٨/ب.
(٤٩) بذل المجهود ج١٧، ص٢٠٣.
(٥٠) رواه البخاري في ٩٦ كتاب الاعتصام، ١٠ - باب قول النبي ﷺ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم ٧٣١١، ورقم ٧٣١٢، ج١٣، ص٢٩٣ ومسلم في: ١ - كتاب الإيمان، ٧- باب نزول عيسى ﵇، حديث رقم ١٥٦، ج١، ص١٣٧ وفي: ٣٣ - كتاب الإمارة، ٥٣ - باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة الخ، رقم ١٩٢٠، ١٩٢١، ١٩٢٢، ١٩٢٣، وقطعة من حديث في الزكاة بعد هذا الموضع وهي برقم ١٠٣٧، ١٩٢٤، ١٩٢٥، ج٣، ص ١٥٢٣ - ١٥٢٥، وأبو داود في كتاب الجهاد ٤ باب دوام الجهاد، رقم ٢٤٨٤، ج٣، ص١١، وفي: ٢٩ - كتاب الفتن والملاحم، ١ - باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم ٤٢٥٢، ج٤، ص ٤٥٢، والترمذي في ٣٤ كتاب الفتن، ٣٧ - باب ما جاء في الشام، حديث ٢١٩٢، ج٤، ص٤٨٥، وقال: حسن صحيح وفي: ٥١ - باب ما جاء في الأئمة المضلين حديث ٢٢٢٩، ج٤، ص٥٠٤، وقال أيضًا: حسن صحيح ورواه ابن ماجه في: المقدمة ١ - باب اتباع سنن الرسول ﷺ حديث ٦ - ١٠ ج١، ص٥، وفي ٣٦ كتاب الفتن ٩ - باب ما يكون من الفتن، حديث ٣٩٥٢، ج٣، ص١٣٠٤ ورواه الدارمي في ١٦ - كتاب الجهاد، ٣٩ - باب لا يزال طائفة من هذه الأمة رقم ٢٤٣٧، ١٤٣٨، ج٢، ص٢ ورواه أحمد في مسنده: ٥/٣٤، ٢٣٩، ٢٧٨، ٢٧٩، ورواه الطبراني في مواضع هذه بعضها: ج٢، ص ٢٤٨، رقم ١٩٢٢، ص٢٥٠، رقم ١٩٣١، ص ٢٦٥، رقم ١٩٩٦، ص ٢٦٩، رقم ٢٠١١، ج ٥، ص ١٨٥، رقم ١٩٦٧، ج٨، ص ١٧١، رقم ٧٦٤٣، ج١٧، ص٣١٤، رقم ٨٦٩ - ٨٧٠، ج٢٠، ص ٣١٨، رقم ٧٥٤، ص٤٠٢، رقم ٩٥٩ - ٩٦٠.
(*) مر تخريج أحاديثهم في الصفحة السابقة، أما سلمة بن فضيل فأشار إلى حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ص ٤٢، ط: مؤسسة الرسالة (مع الرد على الجهمية)، ورواه في تاريخه الكبير ج٤ ص ٧١، وحديث شرحبيل في، ج٤، ص٢٤٨.
(٥١) سنن الترمذي ج٤، ص٤٨٥.
(٥٢) صحيح البخاري (مع الفتح) ج١٣، ص٢٩٣.
1 / 10
الخلاف بين العلماء
أسبابه.. وموقفنا منه
بقلم: الشيخ محمد صالح العثيمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله
عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا، أما بعد:
فقد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم
مُّسْلِمُونَ] . [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] . [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] أما بعد:
فإنه قد يثير موضوع هذا البحث التساؤل من كثير من قارئيه لماذا كان
موضوع البحث هذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟ ولكن
هذا العنوان خاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة
بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين
الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير
من الناس، لا سميا من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت وبالله
أستعين أن يكون البحث هو هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين..
إن من نعم الله ﵎ على هذه الأمة أن الخلاف بينها لم يكن في
أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة
المسلمين الحقيقية وهو أمر لا بد أن يكون..
وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
من المعلوم عند جميع المسلمين ما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله -صلى
الله عليه وسلم- أن الله تعالى بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين
الحق، وهذا يتضمن أن يكون رسول الله ﷺ قد بين هذا الدين
بيانًا شافيًا كافيًا، لا يحتاج بعده إلى بيان لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل
معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله ﷿، ورسول
الله بُعث بالهدى ودين الحق، كان الناس في عهده صلوات الله وسلامه عليه
يرجعون عند التنازع إليه يحكم بينهم، ويبين لهم الحق، سواء فيما يختلفون فيه من
كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل
القرآن مبينًا لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: [يسألونك عن..] كذا،
فيجيب الله تعالى نبيه بالجواب الشافي، ويأمره أن يبلغه إلى الناس. قال الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ] ..
[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ] الآية.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ] الآية.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ] الآية.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] الآية.
إلى غير ذلك من الآيات التي يعلمها الكثير، ولكن بعد وفاة الرسول -صلى
الله عليه وسلم- اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول
الشريعة وأصول مصادرها، ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه..
ونحن جميعًا نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم
ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ عن عمد
وقصد، لأن من اتصفوا بالعلم والديانة، فلا بد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان
رائده الحق فإن الله سييسره له، واستمعوا إلى قوله تعالى: [ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] . [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى * وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى] .
ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله تبارك
وتعالى، لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لا بد أن يكون
لأن الإنسان كما وصفه الله تعالى بقوله: [وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا] الإنسان ضعيف
في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لا بد أن يقع الخطأ
منه في بعض الأمور، ومع أن أسباب الخطأ كبيرة، وبحر لا ساحل له والإنسان
البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، إلا أننا سنجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ في الأسباب الآتية:
السبب الأول:
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه، أو بلغه على وجه
لا يطمئن به.
وهذا السبب ليس خاصًا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن
بعدهم، ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:
الأول: هو كون الدليل لم يبلغ القائل. فإننا علمنا بما ثبت في صحيح
البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁
إلى الشام وفي أثناء الطريق ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل
يستشير الصحابة ﵃، فاستشار المهاجرين والأنصار، واختلفوا
في ذلك على رأيين.. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة
والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي
من ذلك علمًا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا سمعتم به
في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه»، فصار
هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد
الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب ﵁ وعبد الله بن عباس- ﵄ يريان أن المعتدة الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول
الأجلين من أربعة أشهر وعشر.. أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة
أشهر وعشر لم تنقضي العدة عندهما وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا
انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع
الحمل؛ لأن الله تعالى يقول: [وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] الآية.
ويقول: [والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وعَشْرًا] الآية. وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي. وطريق الجمع بين ما
بينهما عموم وخصوص وجهي أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى
ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس ﵄ ولكن السنة فوق ذلك فقد
ثبت عن رسول الله ﷺ: «في حديث سبيعة الأسلمية أنها
نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج»، ومعنى ذلك أننا
نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: [وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] .. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا
الحديث لو بلغ عليًا وابن عباس لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما.
الثاني: ربما يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله ورأى أنه
مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أحرى منه، ونحن نضرب مثلًا أيضًا ليس
فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس - رضي الله
عنها - طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات فأرسل إليها وكيله شعيرًا نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي ﷺ
فأخبرها النبي أنه لا نفقة لها ولا سكنى وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا
سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملًا لقوله تعالى: [وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] الآية.
عمر ﵁ ناهيك عنه فضلًا وعلمًا، خفيت عليه هذه السنة،
رأى أن لها النفقة والسكنى ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك
قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر- ﵁ لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من
الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضًا لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا
إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل،
وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة
فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة فلا يأخذون بها نظرًا لعدم الوثوق بنقلها عن
رسول الله ﷺ.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجل من لا ينسى، كم من إنسان
ينسى حديثًا، بل قد ينسى آية، رسول الله ﷺ «صلى ذات
يوم في أصحابه فأسقط آية نسيانًا، وكان معه أبي بن كعب ﵁،
فلما انصرف من صلاته قال: هلا كنت ذكرتنيها» وهو الذي ينزل عليه الوحي،
وقد قال له ربه [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفَى]،
ومن هذا - أي: مما يكون الحديث قد بلغ الإنسان ولكن نسيه - قصة عمر بن
الخطاب مع عمار بن ياسر ﵄ حينما أرسلهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم- في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر، أما عمار فاجتهد ورأى أن
طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، لأجل أن يشمل
بدنه التراب كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر ﵁ فلم يصل. ثم أتيا إلى رسول الله ﷺ فأرشدهما إلى الصواب،قال لعمار: إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا - وضرب بيديه الأرض مرة
واحدة ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه، وكان عمار - رضي الله
عنه - يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات
يوم ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله
في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي -
ﷺ: إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا. ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله علي من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت - يعني فحدث به
الناس - فهذا عمر نسي أن يكون النبي ﷺ جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن
مسعود ﵁، وحصل بينه وبين أبي موسى ﵄
مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، قال ابن مسعود: ألم تر أن
عمر لم يقنع بقول عمار، فقال له أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في
هذه الآية - يعني آية المائدة -، فلم يقل ابن مسعود شيئًا، ولكن لا شك أن
الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجنب يتيمم كما أن المحدث حدثًا أصغر
يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي، فيقول قولًا
يكون به معذورًا لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.
والسبب الثالث:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد..
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب والثاني من السنة:
١ - من القرآن قوله تعالى: [وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] الآية.
اختلف العلماء ﵏ في معنى [أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ]، ففهم بعض
منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة،
وفهم آخرون أن المراد به الجماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس ﵁.
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله تبارك
وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر، ففي الأصغر
قوله: [فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلَى
الكَعْبَيْنِ] أما الأكبر فقوله: [وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا] الآية. وكان مقتضى
البلاغة والبيان أن يذكر أيضًا موجبي الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى:
[أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ] إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر.. وقوله:
[أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ] الآية.. إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.. ولو جعلنا
الملامسة هنا بمعنى اللمس لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث
الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر وهذا خلاف ما
تقضيه بلاغة القرآن، فالذين فهموا الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس
إنسان ذكر بشرة الأنثى بشهوة انتقض وضوؤه، ولغير شهوة لا ينتقض،
والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قبل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقد جاء من طريق
يقوي بعضها بعضًا.
كذلك مثال آخر: لما رجع رسول الله ﷺ من غزوة
الأحزاب، ووضع عنده الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج
إلى بني قريظة، فأمر رسول الله ﷺ أصحابه بالخروج وقال:
«لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» الحديث، فقد اختلف الصحابة في
فهمه، فمنهم من فهم أن مراد الرسول: المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت
العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم
يؤخروها إلى أن يخرج وقتها.
ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله ﷺ أن لا صلوا إلا
إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في
وجوب الصلاة في وقتها محكمة، هذا نص مشتبه، وطريق العلم أن يحمل
المتشابه على المحكم.. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله
ورسوله، وذلك هو السبب الثالث.
السبب الرابع:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ، فيكون الحديث
صحيحًا والمراد منه مفهومًا ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر
لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم بالناسخ.
من هذا رأي ابن مسعود ﵁.. ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا
ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ووضعهما بين
ركبتيه، هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك، وصار المشروع أن
يضع يديه على ركبتيه، وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن
مسعود ﵁ لم يعلم بالنسخ فكان يطبق بين يديه، فصلى إلى جانب
علقمة والأسود؟ ! فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه ﵁ نهاهما
عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.. لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ والإنسان لا يكلف إلا وسع
نفسه.. قال تعالى: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] الآية.
السبب الخامس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، بمعنى أنه يصل
الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع،
وهذا كثير في خلاف الأئمة، وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع ولكنه عند التأمل
لا يكون إجماعًا.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة
العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم،
لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص فيجتمع في ذهنه دليلان: النص والإجماع،
وربما يراه مقتضى القياس الصحيح والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا
مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل لذلك برأي ابن عباس ﵄ في ربا الفضل.
ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إنما الربا في النسيئة»، وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: «إن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة» .
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة،
أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط، مثاله: لو بعت صاعًا
من القمح بصاعين يدًا بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في
النسيئة فقط، وإذا بعت مثلًا مثقالًا من الذهب بمثقالين من الذهب يدًا بيد عنده أنه
ليس ربًا، لكن إذا أخرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد
التفرق فهو ربًا.. لكن ابن عباس ﵄ يرى أن هذا الحصر مانع
من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر، فيدل على أن ما سواه
ليس بربًا، لكن الحقيقة أن ادل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا
لقول الرسول ﷺ: «من زاد أو استزاد فقد أربى» .
إذًا ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله
على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضًا في
الفضل: بأن نقول: إما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً] الآية. إنما هو
ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في
كتاب (إعلام الموقعين) إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس
من باب تحريم المقاصد.
والسبب السادس:
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف ويستدل استدلالًا ضعيفًا. وهو كثير جدًا،
فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من
استحباب صلاة التسبيح، وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة،
ويسبح خمس عشرة تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم
أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع. ويرى آخرون أن صلاة التسبيح
بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك: الإمام أحمد ﵀، وقال: إنها لا تصح عن النبي ﷺ، وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية ﵀: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها
وجد أن بها شذوذًا حتى بالنسبة للشرع؛ إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب،
ولا بد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا
تكون نافعة فلا تكون مشروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان
كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، هذا لا نظير له في الشرع،
فدل على شذوذها سندًا ومتنًا، وأن من قال أنها كذب كشيخ الإسلام فإنه مصيب،
ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.
وإنما مثلتُ بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون
هذه البدعة أمرًا مشروعًا، وإنما أقول بدعة أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس
لأننا نعتقد أن كل من دان لله سبحانه مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه
بدعة.
كذلك أيضًا من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال.
الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء
من حديث: «زكاة الجنين زكاة أمه» .. فمعروف عند أهل العلم من معنى
الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن زكاتها زكاةً له، أي لا يحتاج إلا زكاةً إذا أخرج
منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء من فهم أن المراد به - أي الحديث -: أن زكاة الجنين كزكاة
أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم، ولكن هذا بعيد، والذي يبعده أنه لا يحصل
إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله يقول: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»، ومن المعلوم
أن لا يمكن إنهار الدم بعد الموت.
هذه في الحقيقة الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة وبحر لا
ساحل له.. ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟ .
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة
والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه المسائل صاروا
يتشككون ويقولون: من نتبع؟ .
تكاثرت الظباء على خراشٍ ... فما يدري خراشٌ ما يصيد
وحينئذ نقول: موقنا من هذا الخلاف، وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم
أنهم موثوقون علمًا وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا
لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.. ولكننا
نعني به: العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم.
موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
١ - كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا
يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره وهو
كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحرًا في العلم.
٢ - ما موقفنا من اتباعهم؟ من نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إمامًا
لا يخرج عن قوله ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع
ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفًا لمن ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب
هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من
الأئمة. إذ لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحدًا غير رسول الله يجب أن
يؤخذ بقوله فعلًا وتركًا بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله، ولكن يبقى في الأمر نظر
لأننا لا نزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من هذه الأدلة؟ هذه
مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، وأن
نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق الدليل وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول:
أنت مجتهد تقول ما شئت، فإن في ذلك فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع،
والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
١- عالم رزقه الله علمًا وفهمًا.
٢- طالب علم عنده من العلم لكن لم يبلغ درجة لذلك المتبحر.
٣- عامي لا يدري شيئًا.
أما الأول: فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان
عليه مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس؛ لأنه مأمور بذلك. قال
تعالى: [لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ]، الآية. وهذا من أهل الاستنباط الذين
يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني: الذي رزقه الله علمًا ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عليه
إذا أخذ بالعمومات، والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزًا في
ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطئ وقد لا
يصل علمه إلا شيء خصص ما كان عامًا أو قيد ما كان مطلقًا أو نسخ ما يراه
محكمًا، وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث: وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم؛
لقوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ]، وفي آية أخرى: [إن
كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ والزُّبُرِ]، فوظيفة هذا أن يسأل ولكن من يسأل؟ في
البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه إنه عالم فمن الذي
يسأل، هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم
تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم، والمفضول قد
يوفق للعلم في مسألة معينة لا يوفق لها من هو أفضل منه وأعلم، اختلف في هذا
أهل العلم:
فمنهم من يرى أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من
علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه
من يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك
تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علمًا إذ لا
فرق.
ومنهم من يرى أن ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علمًا قد لا يكون أعلم
في كل مسألة بعينها، يرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل، والذي أرى في هذه المسألة أنه
يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد
يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو
على سبيل الأولوية والأرجح أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه
ودينه.
وأخيرًا أنصح نفسي أولًا وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت
بإنسان نازلة من مسائل العلم أن لا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول، لئلا
يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن
رسول الله ﷺ: «العلماء ورثة الأنبياء»، «وأخبر النبي- ﷺ أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة، وهو من علم
الحق فحكم به»، كذلك أيضًا من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله
وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس، فقد ذكر لي بعض مشايخنا أنه ينبغي على من سأل عن مسألة أن يكثر
من الاستغفار مستنبطًا من قوله تعالى: [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَّحِيمًا]، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في
نسيان العلم والجهل، كما قال تعالى: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] الآية.
وقد ذُكِر عن الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن الاستغفار سببًا لفتح الله على المرء..
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب
والحمد لله رب العالمين أولًا وأخيرًا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
وسلم.
1 / 17
الإرجاء والمرجئة
طارق عبد الحليم
إن من الصفات اللصيقة ببني الإنسان: العجلة في الأمور، وكيف لا؛ وقد
قال فاطر الناس جل وعلا: [وكَانَ الإنسَانُ عَجُولًا]، ثم منَّ تعالى على المؤمنين
بأن وجّه تلك الفطرة العجولة لديهم إلى معنى قُدّ من العجلة، إلا أن جالب للبر
والخير، وهو (المسارعة) إلى الخيرات، وقد قدمت بهذه المقدمة لأستميح القارئ
عذرًا لمسارعتي بالكتابة في موضوع هذه المقالة عن الإرجاء والمرجئة، رغم أنه
يدخل ضمن مجموعة الكتب التي اعتزمت - وأخ لي - أن نصدرها تباعًا - بعون
الله تعالى - عن الفرق الإسلامية، والتي صدر منها بالفعل مقدمتها عن أسباب
التفرق والاختلاف، وما فعلت ذلك إلا بعد أن قدرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار
تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين - بل وعجبًا! بين صفوف الإسلاميين منهم - فتصيب ذلك الكيان
الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب، ومعرفة
المفسد من المصلح، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقيًا
وسياسيًا.
ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة
أصحابه فيما ذهبوا إليه، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها، إلا أننا سنذكر اختصارًا ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم، ثم نعرِّج
بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة، ثم نلقي
نظرة على الواقع الإسلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومة الإرجائية التي لازالت
تنتقل في الجسد الإسلامي، لتنخر فيه نخرًا يفسد عليه قوته، ويجعله عرضة
للتفكك والانهيار. بعد أن يفسد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ
والانحراف.
الإرجاء: مصدر أرجأ بمعنى أخر، يقال: أرجأ الأمر أي أخره. وقد أطلق
هذا الاسم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان، أي فصله عنه
وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له،
وادعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان، إذا ذهب
أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان - عدا بعضهم ممن زعم أنه
تصديق القلب ولم يشترط أنه النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما - ولم يُدخلوا
العمل في مسمى الإيمان، فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملًا لمن صدق بالرسالة
ونطق بالشهادتين، وإن لم يأتي بعمل من أعمال الطاعات!
وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان، وأنه واحد لا يتجزأ
ولا يتبعض: أي لا يزيد ولا ينقص.
وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة:
التصديق، كما في قوله تعالى: [ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا]، أي: مصدق لنا.
كذلك بظواهر الأحاديث، كما في قوله ﷺ، فيما رواه
مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا
الله»، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- له: «فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا
بها قلبه فبشره بالجنة» .
وقالوا: إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو: تصديق القلب والتلفظ
بالشهادتين، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل! .
وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال
الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان بل كذلك الأعمال اللازمة
لتحقيق التوحيد، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع - والذي هو من معاني الشهادتين
والمتعلق بتوحيد ألوهية الله ﷿ ولم لا؟ ! والإيمان محله القلب والتصديق
متحقق؟ ! وما يضر من يترك التحاكم بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق
البرتقالة، أو من يؤذي جاره؟ ! .
فأتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة، ومهدوا لما سنلقي
عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي.
ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين: أحدهما: عام، يتناول نقض مبادئهم
في النظر إلى الشريعة - وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء -،
والآخر: خاص، يتناول الرد على أقوالهم قولًا قولًا، وبيان فسادها بالأدلة
الشرعية.
وسنتناول كل طريق منهما بشكل موجز، يتناسب مع ما قدرناه لهذا المقال من
إيجاز.
أولًا - الرد العام:
سلك أهل البدع والأهواء طرقًا معينة في دراستهم للنصوص الشرعية، أدت
بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها، نجملها فيما يلي:
١- عدم الجمع بين أطراف الأدلة، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالًا - من
جهة معينة - على ما أرادوه، فإذا صادفوا دليلًا آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول،
بل أولوه أو ضعفوه أو أخفوه! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على
أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة
عليها، وعامها المترتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها
المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها) .
٢- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، مع ترك الأحاديث
الصحيحة وإغفالها، بينما مسلك أهل السنة هو في اتباع الحديث الصحيح وما يصح
الاحتجاج به في الأحكام الشرعية، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك.
٣- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها
وتنتظمها.
٤ - تحريف الأدلة عن مواضعها، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه
الذي ذمه الله تعالى في كتابه، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة
محددة لتطبيقه على مناط آخر - أو واقعة أخرى - وهي العملية التي تسمى عند
الأصوليين: (تحقيق المناط)، ولا شك أن (من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلام
عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحًا إلا مع اشتباه يعرض له وجهل يصده عن الحق،
مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعًا) .
فإطلاق الدليل وتوهم أنه يعم كافة الحالات الداخلة تحته دون تقييد فهو من
جملة من حرف الكلم عن مواضعه وصار إلى الابتداع بدلًا من الاتباع.
[الاعتصام ١/٢٢٣] .
ثانيًا - النقض الخاص:
إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح، والحق
أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع، هي
مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما
ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد
بها من جهة النبي ﷺ لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال
أهل اللغة وغيرهم) .
[الإيمان لابن تيمية: ٢٤٥]
هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا
صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال: آمن له، كما قال: [فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ]، وقال: [فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ] «فإن تعدى باللام كقوله: آمن له، كان تصديقًا وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل.
[الإيمان: ٢٤٨]
كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر، فيقال لمن لم يصدق: قد
كذب، ومن لم يؤمن: قد كفر.
ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب: يطلق على ما هو غائب أو مشاهد،
أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب [الإيمان: ٢٤٩] .
والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا، وهو الاستسلام
لله والعبودية له سبحانه ظاهرًا وباطنًا، لكنهما إن اجتمعا دل كل منهما على معنى
غير الآخر، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج، ودلّ
الإيمان على الأعمال الباطنة، كالخشية والمحبة والخوف، من أعمال القلوب.
وقد دلت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان - وعليه
أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة - فهو: قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد
بالطاعات، وينقص بالمعاصي، قال تعالى: [لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَّعَ إيمَانِهِمْ] .
وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -:» الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله
إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان «.
كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس، قال
رسول الله ﷺ:» وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم
رمضان، وأن تؤدي خمسًا من المغنم «.
فالإيمان - إذن - قول وعمل، قول القلب وهو: التصديق، وعمل القلب:
وهو: الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد، وقول اللسان: وهو: النطق
بالشهادتين، وعمل اللسان والجوارح، وهو العمل بالطاعات، وترك المحظورات
من الشريعة، وهو يزيد وينقص.
ثم ننظر إلى استدلال المرجئة - سلفًا وخلفًا - بأحاديث الشفاعة على أن قول
الشهادتين تلفظًا يُثبت لصاحبة الإسلام والإيمان، وإن أتى عملًا من أعمال الكفر،
كترك التحاكم إلى الشرع، فنرى أنها هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف
الأدلة، والنظر في الأحاديث.
قالوا: روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل: قال: قال
رسول الله ﷺ:» أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد
رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلًا «.
وأغفلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله ﷺ:» الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا،
وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان «.
كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن
أبيه، قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ:» بُني الإسلام على
خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان «.
وأغفلوا رواية مسلم الأخرى: في الباب نفسه عن ابن عمر عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال:» بُني الإسلام على خمسة: على أن يُوحَّد الله، وإقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج «.
وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسقطوا روايات، والتي تدل
على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعًا هو توحيد الله وعبادته، وترك الشرك،
وأن التلفظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولًا وعملًا؛
ما لم يأت بعمل ظاهر َيكْفُر به، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ، وهو المعنى الذي ذكره
ابن القيم في إعلام الموقعين من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من
اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ.
[مسلم بشرح النووي ١/١٥٧]
وبعد.. فما هي الدوافع التي أدت إلى ظهور المرجئة في التاريخ؟ وما هي
عوامل بقائهم واستمرارهم؟ لذلك الأمر تفصيل يضيق عنه نطاق هذا المقال ولكن
لا بد من كلمتين توفيان بالغرض في هذا المقال.
أما عن بداية الإرجاء فقد زعم بعض من تناول ذلك الأمر أنها ترجع إلى
موقف بعض الصحابة إبان إطلال الفتن برأسها عند إرهاصات قيام الدولة الأموية،
وهم الذين لم يشاركوا في تلك الفتن إلا أننا نرى أن ذلك تزيد معيب على تلك الفترة
يحمّلها أكثر مما تطيق، ويجعلها نواة كل فساد ظهر في تاريخ المسلمين بعدها، وما
اعتزل بعض الصحابة الفتنة إرجاءً بل إن منهم من لاح له وجه الصواب فاتبعه،
ومنهم من غمض عليه جلية الأمر فآثر السلامة وحسب..! وهو موقف معتاد في
مثل تلك الظروف أن يشارك البعض ويعتزل البعض الآخر!، ولعل بعض
المفكرين يخرج علينا بأن هؤلاء - كذلك - هم نواة المعتزلة؛ لاعتزالهم ذلك الأمر!. [انظر إعلام الموقعين ٣/١٠٥]
وما نرتضيه في هذا المقام إيجازًا أن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في
موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل، فإن من تلفظ بالشهادتين
مؤمن كإيمان جبريل! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر، وليس لنا
أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول
الله ﷺ في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر، فمن ثم فهو
مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم - أو الحاكم الكافر حسب الحالة - فلن يثير أرباب هذا المذهب خلافًا مع الحاكم مهما أتى من أفعال، فهو مؤمن على كل حال، أليس
يتلفظ بالشهادتين؟ ! ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندعي معرفة مكنونات
صدورهم، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان، وأن اعتقاد القلب
هو المعوّل عليه في ذلك، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد
ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ ضلال حكمه،
وإن ظهرت منا في بعض الأحيان - أو كلها - معاتبة أو معارضة فإنما هي معاتبة
التصديق، ونصح الأخ المؤمن لأخيه، أو هي معارضة الخاضع، وتبرم السائر
تحت اللواء! .
ثم عامل آخر قد يكون له بعض الأثر في إطلال الإرجاء برأسه، بل هو إلى
عوامل استمراريته أقرب - وهو ظهور طوائف المنتسبين إلى مذهب الخوارج فكرًا
وعقيدة - وإن لم يكن بالضرورة اسمًا - مما يزين لمن لم يتعمق النظر في دراسة
العقائد وترجيح الصالح من الفاسد من الآراء - وغالبهم من الشباب على مر التاريخ
دون رءوس الفتنة الذين يعون ما هم عليه من البدعة، بل وبعضهم يقصد إليه
قصدًا - أن ينتسب إلى فكر الإرجاء قولًا وعملًا - دون تسمية ودون وعي منهم
بذلك ولا إدراك لحقيقة مذهب السلف الصالح، وهذا التصرف كرد فعل غير
مدروس للأفكار التي تجنح للتطرف والغلو في فهم العقيدة في الجانب الآخر، وكلا
جناحي الإفراط والتفريط إن هي إلا ردود أفعال سلبية للحكم غير المشروع الذي
يسود المجتمعات الإسلامية في أي عصر من عصورها.
فالإرجاء إذن مذهب سياسي - أو قل: موقف سياسي - اتخذ طابع البحث
في أوليات العقائد مع استشراء تلك الموجة في بداية عصر الأمويين وظهور علم
الكلام - كما بينا عوامل ذلك في مقدمة أسباب الاختلاف - كان موقفًا سياسيًا في
الحكام الظالمين، يوم أن كانوا لا يزالون يحكّمون شرع الله، وإن تجاوزوا الحد
وأفرطوا في الظلم، ثم استمر على ذلك النهج منهجًا للضعاف ممن يريدون مهادنة
الظالم وتبرير مواقف الضعف والخزي، حتى وإن تجاوز الظلم إلى الكفر، ومن
هنا نرى أن المرجئة لم يكونوا هدفًا للسلطة الغاشمة الظالمة في عصر من العصور، بل كان منهم شعراء وعمال للحكام، كثابت قطنة الذي كان واليًا ليزيد بن المهلب
على بعض الثغور، بل إنه مذهب يصلح أن يدعيه الحاكم نفسه ليكون بردًا وسلامًا
على كافة الطوائف المبتدعة.
فالمرجئة - إذن - في صلحٍ خفي ومهادنة غير مكتوبة مع الحاكم يتمتعون
بالحرية في الحركة والقول جميعًا، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة
والجماعة، كما حدث لأئمة الفقه والحديث، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية،
وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة.
وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجاء والمرجئة كما قدمت في أول
المقال، ولكنها نفثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدْرُ، فلم يكن بُدِّ من إظهارها! .
وقد اتبعت فيها مذهبًا أراه يعين الباحث في مثل تلك الأمور، وهو التحليل
النفسي لفهم الدوافع وراء تلك العقائد المنحرفة، وهو مذهب ارتضيناه في أسباب
الاختلاف وسنجعله بعون الله تعالى أحد مصادرنا في دراسة أمثال تلك الفرق التي
تحمل معول الهدم والخراب لتهدم به صرح الإسلام من داخله، عارفةً بذلك أو
جاهلةً.
[واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ] .
1 / 24
دعوة كريمة
لم تقولون ما لا تفعلون
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ
اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [سورة الصف: ٢-٣] .
أخرج الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس ﵄، قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لودِدنا أنَّ الله ﷿ دلَّنا
على أحبِّ الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه، ﷺ
أن أحب الأعمال: إيمانٌ به، لا شك فيه، وجهادُ أهل معصيته، الذين خالفوا
الإيمان، ولم يُقِرّوا به.
فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمره، فأنزل الله
﷾ قوله: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ...] [١] .
وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في علم
الأصول، فإن الآية الكريمة، تبقى أبعد مدى من الحادثة الفردية التي نزلت
لمواجهتها، وأشل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها، فهي تحيط بكل
حالة من الحالات التي يقع فيها الانفصام بين الإيمان والحركة به أو بين القول
والعمل، أو العلم والعمل.
والعلم لا يراد به أصلًا إلا العمل، وكل علم لا يفيد عملًا، ولا يتوقف عليه
حفظ مقاصد الشريعة، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، والعلم المعتبر
شرعًا، الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله، على الإطلاق، هو العلم الباعث على
العمل، الذي لا يخلِّي صاحبه جاريًا مع هداه كيفما كان. بل هو المقيد صاحبه
بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعًا أو كرهًا.
وعندئذ يصير العلم وصفًا من الأوصاف الثابتة لصاحبه، يأبى للعالم أن
يخالفه؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا ينصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادًا
وإن تخلّف فإنما يكون تخلّفه لعنادٍ أو غفلة [٢] .
وليس عالمًا ذاك الذي لم يعمل بعلمه، ولا يستحق وصف التكريم هذا، فعن
علي ﵁ قال: (يا حملة العلم: اعملوا به، فإن العالم من علم ثم
عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم تخالف
سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حِلقًا، يباهي بعضهم بعضًا؛
حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد
أعمالهم إلى الله ﷿ .
وقال الحسن البصري ﵀: (العالم الذي وافق علمه عمله، ومن
خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئًا فقاله) .
وقال الثوري: (العلماء إذا علوا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا ...) . وقال:
(العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل) [٣] .
فالذين لا يعملون بعلمهم ولا يتسق سلوكهم مع عملهم، فضلًا عن أن يكونوا
من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة أخبار وحفظة أسفار، والفقه فيما رووه أمر
آخر وراء هذا. أو هم ممن غلب عليهم الهوى فغطّى على قلوبهم.
وهنا ينبغي أن يوجّه اللوم، والعتاب كلُ العتاب، لمن يفعل ذلك، وحسبك
أن الله تعالى سمّى ذلك الانفصام بين القول والعمل مقتًا، بل جعله أكبر المقت وأشدّ
البغض، فقال: [كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] .
وما سمَّى الله تعالى شيئًا بهذا الاسم، ولا أطلقه عليه إلا في أمرين:
أولهما: الجدال في الله وآياته بغير سلطان وعلم، فقال سبحانه: [الَذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وعِندَ الَذِينَ آمَنُوا]
[غافر/٣٥] .
وثانيهما: نكاح الرجل زوجة أبيه المتوفى عنها أو المطلقة، كما كان يفعله
الجاهليون، فقال ﷾: [ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ
سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ومَقْتًا وسَاءَ سَبِيلًا] [النساء/٢٢] .
ومن هذا نعلم عظم الآفة الكبيرة والداء الخطير في الانفصام بين القول والعمل، أو بين الإيمان والسلوك.
إن الإيمان ليس مجرد كلمات يديرها الإنسان على لسانه، ويتحلى بها أمام
الناس ويتشدق بها في المناسبات دون أن يكون لها أثرها في سلوكه وواقعه، ودون
أن تترجم إلى واقع حي يراه الناس، فيكون هذا الواقع العملي الظاهر والالتزام
مؤشرًا على الإيمان الصحيح وعمقه في نفس صاحبه.
يقول صاحب الظلال - رحمه الله تعالى -:
(إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك والإسلام
عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك
لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى حركة في عالم الواقع.
ومنهج الإسلام الواضع يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها
إلى حركة سلوكية لتبقى حية متصلّة بالينبوع الأصيل) [٤] .
والمؤمن لا يخالف قوله فعله، وهو الذي يبدأ بنفسه أولًا فيحملها على الخير
والبر، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن
يدعوهم، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم، بل إنه
ليس بحاجة إلى كثير عندئذ، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه، ليروا
فيهما الإسلام والإيمان حيًا يمشي أمامهم على الأرض وليشعّ بنوره على من حوله،
فيضيء الطريق للسالكين، وتنفتح عليه العيون ويقع في القلوب، فيحمل الناس
بذلك على التأسي والاتباع.. فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله ﷺ خير أسوة، فقد كان عليه الصلاة
والسلام إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكًا به، وكان يحمل أهل بيته على
ذلك قبل أن يدعو غيرهم.
وعن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين ﵂
فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله ﷺ، فقالت: أما تقرأ
القرآن؟ قلت: بلى، قالت: «كان خلقه القرآن» [٥]، فمهما أمره القرآن بشيء
امتثله، ومهما نهاه عنه تركه.
وهي إجابة دقيقة من عائشة ﵂ وهي إجابة موجزة جامعة
أيضًا، تحمل في طياتها كل ما يخطر على بال المرء من أخلاق الكمال وصفات
العظمة، فحسبك أن يكون ﵊، ترجمة عملية حية لمبادئ القرآن
الكريم، فإذا أردت أن تعرف أخلاق الرسول ﷺ، فانظر إلى
القرآن الكريم واقرأ ما فيه من آيات تحث على الأخلاق، وإذا أردت أن ترى
القرآن الكريم واقعًا عمليًا في حياة الناس فانظر إلى خلق رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وادرس سيرته بكل وعي وعناية واهتمام وبقلب مفتوح على الخير،
وبعزيمة صادقة، تحمل على التأسي والمتابعة.. فكل واحد منهما يدل على الآخر ...
(لقد كان رسول الله ﷺ، أكبر قدوة للبشرية في تاريخها
الطويل وكان مربيًا وهاديًا بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به
سواء في ذلك القرآن المنزل أو حديث الرسول ﷺ) [٦] .
وإنها لمصيبة كبيرة، وخسارة ما بعدها خسارة، أن يتحول الإيمان والإسلام
في سلوك أصحابه إلى كلمات ودعاوى، لا تتجاوز الحناجر، وأن ينطلق المسلم،
يدعو غيره إلى البر والهدى والخير، ولكنه يترك نفسه بمعزل عن ذلك، ويعطيها
إجازة تتمتع بها، ولا يحملها حملًا على أن تكون سبّاقة إلى هذه الدعوة والعمل
بمقتضاها.
ولقد نعى الله ﷾، على بني إسرائيل، وبخاصة أولئك الأحبار
فيهم، ووبَّخهم علي سلوكهم، فهم يأمرون الناس بالبر، الذي هو جماع الخير،
ولكنهم ينسون أنفسهم فلا يأتمرون بما يأمرون الناس به، مع علمهم بجزاء من
قصّر في أوامر الله ﷾ [٧]، فقال: [وأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة /٤٤] .
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يتحدث الأستاذ سيد قطب ﵀ عن
آثار الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في السلوك، فيقول:
(ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداءً حالة واقعة من بني إسرائيل
فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين [٨] بصفة خاصة، دائم لا يخص
قومًا دون قوم، ولا يعني جيلًا دون جيل.
إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه ويحرفون الكلام عن مواضعه، ويؤلفون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات، قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود.
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي
تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم، ولكن في الدعوات ذاتها، وهي تبلبل
قلوب الناس وأفكارهم أنهم يسمعون قولًا جميلًا، ويشهدون فعلًا قبيحًا، فتتملكهم
الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ
في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين عدما فقدوا ثقتهم
في رجال الدين) [٩] .
وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه والتمسك بأحكامه؛ لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول: انظروا إلى فلان.. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره، ولو كان ما دعونا إليه حقًا لاتبعه وتمسك به؟ فيتركون - عندئذ - الدين، بسبب سلوكه ذاك! !
وكم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك، إذ أنهم حملوهم على
المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية، ولولاهم ما وقعوا في ذلك، فهم الذين سنَّوا
هذه السنة السيئة فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم فقد: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: «من سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة يُعمل بها من بعده، كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» [١٠] .
وقبل أن يدعو الداعية غيره إلى الخير ينبغي أن يتمسك هو به، ولن يستطيع
المريض أن يعالج مرضًا مثله، وما أجمل الحكمة التي أجراها الله تعالى على لسان
أبي الأسود الدؤلي، عندما قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وإذا كان لعدم الموافقة بين القول والعمل تلك الآثار، فإنه ليس غريبًا أن يشدد
الإسلام في عقوبة الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، فيجعلونه وراءهم ظهريًا،
وينهون عن المنكر ويفعلونه، وأولئك هم علماء السوء وصفوا الحق والعدل
بألسنتهم وخالفوه إلى غيره، فلم يعملوا به:
فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: «إن أوَّل الناس يُقضى عليه يوم القيامة ... ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه،
وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ
العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلّمت العلم ليقال: إنك عالم
وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي
في النَّار ...» [١١] .
وعن أسامة بن زيد ﵄ قال: سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب
بطنه [١٢] فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون:
يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت
آمر بالمعروف ولا آتية، وأنهى عن المنكر وآتيه» [١٣] .
ودوران هذا الحمار بأقتاب بطنه يوم القيامة، يعيد إلى الأذهان تلك الصورة
المزرية البائسة لأولئك الذين حُمّلوا التوراة، وكُلِّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحملوها، ونكصوا على أعقابهم، فكانوا من الخاسرين، وأولئك هم اليهود ... كالحمار
يحمل أثقالًا من الكتب، ليس له منها نصيب إلا أن يشعر بثقلها على طهره، وينوء
بحملها:
[مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ
مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [الجمعة /٥] .
ولا يغيبَّن عن ذهنك صورة ذاك الذي آتاه الله آياته، فلم يعمل بما آتاه الله من
العلم، فانسلخ منها كما تنسلخ الحَية من جلدها وتتركه على الأرض [١٤]:
[واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ
الغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ
إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* سَاءَ مَثَلًا القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: ١٧٥ - ١٧٦] .
وليس هذا شأن يهود فحسب، بل إن إخوانهم من المنافقين يلتقون معهم في
هذه السمة وينهلون من نفس المنهل:
[ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا
أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ] [النور ٤٧ - ٤٨] .
[ويَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَذِي تَقُولُ] [النساء ٨١] .
[ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ
وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ
واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ] [البقرة: ٢٠٤ - ٢٠٥] .
هذه صورة المنافقين، وتلك صورة يهود ... فليحذر المؤمنون أن يقعوا فيما
وقع فيه هؤلاء إذ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب
وصدّقته الأعمال، من قال حسنًا وعمل غير صالح، ردّه الله على قوله، ونمن قال
حسنًا وعمل صالحًا، رفعه العمل [١٥]، وذلك بأن الله تعالى يقول: [إلَيْهِ يَصْعَدُ
الكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] [فاطر: ١٠] .
وما أروع كلمة شعيب، ﵊، وما أكثرها إنصافًا عندما قال
لقومه: [ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
ومَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ] [هود ٨٨] .
وليت الدعاة، وليت الذين نصبوا أنفسهم للعمل الإسلامي يضعون هذا المبدأ
الذي أرشد إليه شعيب ﵊ نصب أعينهم، فلا يخالفون إلى ما
ينهون عنه ليكون لكلامهم ذلك التأثير في نفوس المدعوين! .
وكم نجد أناسًا يدعون إلى وحدة الكلمة وجمع صفوف المسلمين على الحق،
وهم أنفسهم في واقعهم دعاة فرقة وضلال؛ يدعون إلى التمسك بكتاب الله وسنة
نبيه ﷺ وهم أبعد الناس عن الكتاب والسنة، يقدمون آراءهم
وآراء من يقلدونهم ويتبعونهم علي الكتاب والسنة، صراحة أو تأويلًا يدعون إلى
الحفاظ على الإخوة الإيمانية وحقوق الأخوة، ولكنهم يزورّون عن إخوانهم ولا يفون
بحقوقهم لمجرد خلاف في الرأي أو الفهم ... يتحدثون عن وجوب التثبت في نقل
الأخبار ولكنهم يجرون وراء الشائعات ويرمون غيرهم فظائع التهم، ولا يكلّفون
أنفسهم الرجوع إلى مصدر صادق ليتثبتوا فيما ينقلونه، لئلا يظلموا إخوة لهم أو
يرمونهم بتهم باطلة! يتحدثون عن تحريم الغيبة وآثارها وضررها، ولكنهم لا
يتفكهون إلا بأعراض الآخرين ولا يتندرون إلا بما يتخيلونه من سيئ الخلال؛
ويتحدثون عن مفاصلة المشركين والعلمانيين والمرتدين والملحدين ولا يجدون بأسًا
أو غضاضة في مجالستهم ومداهنتهم، بل قد يرتمون في أحضانهم ويؤمِّلون عندهم
ويرجون، ما لا يؤمِّلون عند الله ويرجون ... إلى غير ذلك من المفارقات العجيبة
الغريبة، فليحذر المسلمون ذلك كله وأشباهه، فإنها أمراض جد خطيرة، ولها
آثارها السيئة، في حياة الدعوة والدعاة، نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب في
القول والعمل، (ونسأل الله المبتدئ لنا بنعمة قبل استحقاقها المديمها علينا مع
تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من الشكر بها الجاعلنا في خير أمة أخرجت
للناس: أن يرزقنا فهمًا في كتابه، ثم سنة نبيه وقولًا وعملًا يؤدّي به عنا حقَّه
ويوجب بنا نافلة مزيدة) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
(١) انظر الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي: ١/٦١ وما بعدها، بتحقيق دراز.
(٢) الموافقات ١/٧٥ - ٧٦، وانظر: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغداي ٤٦ - ٦٣، فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب الحنبلي، مطبعة الحلبي.
(٣) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب: ٢٥٢٥.
(٤) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (٧٤٦) والترمذي في البر، والنسائي في قيام الليل، وابن ماجه في الأحكام، والدارمي: ٢/٣٤٥، وأحمد في المسند: ٦/٥٤، وانظر شمائل الرسول لابن كثير: ٥٧ - ٥٩.
(٥) منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب: ١/١٨٣، دار الشروق.
(٦) - انظر: تفسير ابن كثير: ١/٨٦ ٠ ٨٧.
(٧) استعمل هنا كلمة رجال الدين؛ لأنه يتحدث عن هذا الصنف الذي اتخذ الدين حرفة وصناعة، وإلا فهو ﵀ يمقت هذا التعبير، إذ ليس في الإسلام طبقة كهنوت أو رجال دين كما عرفتها أوربا
مثلًا.
(٨) في ظلال القرآن: ١/٨٦، دار الشروق.
(٩) قطعة من حديث جرير بن عبد الله البجلي، أخرجه مسلم في الزكاة برقم (١٠١٧)، والنسائي:
٥/٧٥ - ٧٧، وابن ماجه برقم (٢٠٣)، وأحمد في المسند: ٤/٣٥٧، والدارمي: ١/١٣٠ - ١٣١، وفي المعنى أحاديث أخرى.
(١٠) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الإمارة برقم (١٩٠٥) .
(١١) أي تنصبّ أمعاؤه وتخرج من جوفه بسرعة خارجة من دبره.
(١٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق: ٦/٣٣١ فتح الباري، ومسلم في الزهد: ٤/٢٩٩٠ - ٢٩٩١ برقم (٢٩٨٩) واللفظ له، والإمام أحمد في المسند ٥/ ٢٠٥ - ٢٠٦، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: ٥٢ برقم (٧٤)، تحقيق الألباني، والبغوي في شرح السنة ١٤/٣٥٢، وفي تفسيره أيضًا.
(١٣) انظر: تفسير الطبري: ٩/١١٩ - ١٢٤، تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٦٥ - ٢٦٨، تفسير المنار للشيخ رشيد رضا: ٩/٣٧٥ - ٣٨٤.
(١٤) كلمة للحسن البصري ﵀، انظر: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي: ٤٢ - ٤٣.
(١٥) اقتباس من افتتاحية الإمام الشافعي ﵀ في الأصول (الرسالة)، تحقيق أحمد شاكر.
1 / 28
خواطر في الدعوة
فقه الشافعي
بقلم: أبو أنس
(في حوار جرى بين الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني، قال
الشافعي: ناشدتك الله، صاحبنا (مالك بن أنس) أعلم بكتاب الله أم صاحبكم (أبو
حنيفة)؟ قال: بل صاحبكم.
قال الشافعي: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله ﷺ أم
صاحبكم؟ قال: بل صاحبكم.
الشافعي: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله ﷺ
أم صاحبكم؟ قال: بل صاحبكم.
الشافعي: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس، ونحن نقول بالقياس، ولكن من
كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح) (ابن تيمية: الفتاوى ٢٠/٣٢٨) .
والذي نريد أن نخلص إليه من هذا الحوار بين هذين العالمين الجليلين أن
الشافعي ﵁ رتب الأمور ترتيبًا صحيحًا، كتاب الله، ثم سنة
رسول الله ﷺ، ثم أقوال الصحابة، وهذا الترتيب الدقيق يغفل
عنه كثير من المسلمين في هذه الأيام، بل ربما عكسوا الآية، فيضطرب الأمر
عليهم وتضيع الموازين الحقيقية مع أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء
فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة
سواء فأقدمهم سنًا»، فقدم ﷺ: العلم بالقرآن على العالم
بالسنة، وقدم العلم على العمل.
روى الزهري عن عروة أن عمر بن الخطاب ﵁ أراد أن
يكتب السنن ثم تردد، ثم قال: كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قومًا كانوا
قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله
بشيء أبدًا. (جامع بيان العلم ١/٦٤) .
أراد عمر ﵁ أن يحدد الأولويات وكأنه كان يخشى أن يهجر
القرآن ويضعف العلم به، ويكب الناس على الشروح والحواشي لتصبح هي
المصدر لفهم الإسلام دون القرآن، كما أن الذين أسلموا حديثًا في الشام والعراق لا
تقدم لهم كل العلوم الإسلامية دفعة واحدة، بل لا بد من تربيتهم تربية متأنية تبدأ
بالزصول ثم تندرج بهم إلى الفروع والتفصيلات.
وهذا المعنى يؤكده ابن مسعود ﵁ بقوله: (إنما هلك أهل
الكتابين قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا كتاب ربهم) .
إن عدم ملاحظة هذا الفقه الدقيق يجعل المسلمين لا يفرقون بين المهم والأهم، بين الواجب والضروري، بل ربما قدم بعضهم الكمالي على الضروري، وبذلك
يكونون كمن يضع العربة أمام الحصان.
1 / 33
مفهوم الحرية
عند الفقهاء والمحدثين في القرن الثاني
بقلم د. مصطفى السيد
ما هي الحرية؟
هل هي أن تفعل ما تريد بلا مانع أو تقول ما تشاء بلا رادع؟
تختلف النظرة إلى الحرية وإلى الأحرار من مجتمع إلى آخر، ومن مدرسة
فكرية إلى أخرى، وكثيرًا ما تجدّ تطورات اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك لتمد
التعريف بأضواء كاشفة، أو بقيود جديدة.
وما من شك في أن للحرية مقوماتها القانونية ومكوناتها الفلسفية والتي بدونها
لا تعد شيئًا لدى المذاهب الفكرية المعاصرة.
وغني عن القول أن معرفة الحرية - ثقافيًا أو نظريًا - غير ممارستها وإن
كانت الأولى أصلًا في تحقق الثانية.
وإذا ما تأصل مفهوم الحرية في مجتمع ما فسيكون تأصله مطابقًا ومساويًا
لمعنى الوجود والحياة، وبدونه تبقى الحياة الإيجابية معطلة، ووجود مثل هذا
المجتمع يكون متساويًا مع وجود سقط المتاع من الأشياء.
والمجتمع الذي يؤثر الحرية سيحرسها حراسة المحبة، بينما العبيد يحرسونها
حراسة الخوف، والمجتمع الحر هو الذي يختار ويشارك فيما يمس وجوده فردًا أو
جماعة.
وفي موضوع الحرية يحلو للكثيرين أن يجعلوا من النموذج الغربي -
أشخاصًا وأفكارًا - أساسًا للانطلاق في أي بحث عن الحرية، ويرى هذا الفريق -
المأسور أو المبهور بحضارة الغرب - أن كل كلام في الحرية يعارض كلام الغرب
وكل تصرف لا يضارع تصرفه لا يؤذن له بالدخول إلى حلبة - الفكر السامي -.
وهذه الشنشنة نجد أشباهًا لها ونظائر في عالم الأدب - ولا سيما الشعر - فلن
يلج الشعر رتاج [١] العالمية ولن تسلّم للشاعر مفاتح الأدب الخالد إن لم يبلغ القلق - على المصير - منه الحلقوم، وتأخذ الحيرة بمجامع نفسه وأن يكون الرمز بل
(اللغز) هو أخص لوازم هذا الشعر فلا يفهمه إلا نفر قليل وحبذا لو استعجم فهمه
حتى على قائلة! ! ! ومن لم يرزق هذه النعم قذف ب (التقليد - والكلاسيكية -
والعمودية) إلى آخر ما هنالك من التسميات.
وإذا كان المفكر الملحد شرقيًا كان أم غربيًا يبحث عن إجابات للأسئلة التي
يفرضها عليه خواؤه الروحي وغروره المادي فإن المسلم - بفضل ما أنعم الله عليه
من رؤية سليمة - لا يعيش أزمة الوجود بل أزمة الوجودية.
فوجوده محدد المعالم والأهداف - بداية ووسطًا ونهاية - من أين وإلى أين،
أما وجوديته فهي مجال كفاحه، وكل تحد أيًا كان مصدره ومهما كان هدفه يعد محكًا
لاختيار حرية المسلم.
ومن هنا فإن موضوع القدر لا يحتل المساحة الواسعة في الهموم الإسلامية
المعاصرة إذا ما قارنا ذلك بما يشغله هذا الموضوع من طاقات في الفكر الإلحادي.
* * *
بانتهاء الثلث الأول من القرن الثاني الهجري (١٣٢هـ) أطلت الدولة العباسية إلى الوجود، وقد قامت على أنقاض دولة بني أمية، وإذا كان الصراع العسكري قد حسم الأمور لبني العباس فإن الصراع الثقافي لم يتحقق فيه انتصار كبير للدولة الجديدة، وعلى سبيل المثال فإن موضوع خلق القرآن - الذي تبنَّته الدولة بكل قوة بالحوار ثم بالضغط المادي والمعنوي - كشف مكانة الدولة الثقافية وأفقدها ثقة العامة وتأييدهم وبالتالي فقدت جزءًا غير يسير من شعبيتها.
وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل المؤسسة - الجوامعية والمسجدية - التي باتت
تملك من الثبات والأصولية الراسخة ما جعلها ندًا لمواجهة كل مُحدث يهدد سلامة
العقيدة الإسلامية كما جعلت الجوامعية والمسجدية الانتصارات العسكرية أقل صدى
وأضأل تأثيرًا في فرض قيم سياسية على طائفة من الناس رأت في القرآن والسنة
قبلتها الفكرية وبوصلتها السياسية.
كما أخفقت الدولة - العباسية - في احتواء العلماء وإظهارهم بمظهر الذين
يمنح الدولة الشرعية الفقهية لما تأتي وتدع من أمور، لدفع احتمال التناقض بين
الفريقين ولمنع الاحتجاج والسخط.
لقد شعر المحدثون والفقهاء بأن بعض التحديث والتجديد في سياسية الدولة
سيتم جزء منه على حساب القيم التي يمثلونها والآراء التي يحملونها ولم يكن في
الأمر حلول وسط فإما ركوب الموجة ومنافسة الدولة في مسيرة التراجعات، أو
الاعتزال السلبي في الزوايا والدويرات، أو الوقوف قولًا وعملًا بجانب ما يمثلون
من قيم ويحملون من آراء، ولقد اختار المحدثون والفقهاء التوجه الثالث الذي يعد
امتدادًا طبيعيًا لتربيتهم، وموقفًا سلوكيًا منسجمًا مع رؤيتهم الفكرية ولقد رأوا أن
السلطة السياسية تشكل تحديًا للحرية في - أحايين كثيرة - يعد أعظم خطرًا من
الخطر الكامن في عبودية الرق، لأن عبودية الرق تعني امتلاك يمين العبد من قبل
الجهة التي تملكه اقتصاديًا، وقد تكون حرية عقيدته مصونة، أما السلطة السياسية
فقد تعمل جاهدة على استعباد الأحرار باستعباد الأفكار، ترغيبًا أو ترهيبًا، ومما لا
شك فيه أن الدولة للعلماء تعني إخضاعهم لا إخضاع جسومهم بل عقولهم وفكرهم
وسلوكهم.
قال الإمام الذهبي ﵀:
(لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان (الثوري) فلما دخل عليه خلع خاتمه
فرمى به إليه وقال: يا أبا عبد الله: هذا خاتمي، فاعمل بهذه الأمة في الكتاب
والسنة.
فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: أتكلم على أني آمن؟
قال: نعم.
قال: لا تبعث إلي حتى آتيك ولا تعطني حتى أسألك.
قال: فغضب، وهم به، فقال له كاتبه:
أليس قد أمنته؟
قال: بلى.
فلما خرج حفّ به أصحابه فقالوا:
ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟
فاستصغر عقولهم، وخرج هاربًا إلى البصرة) [٢] .
ولم تكن هذه أولى محاولات (الإحاطة) بسفيان بل قد حاول المنصور قبل
المهدي فلم يكن أسعد حظًا منه، فقد لقي المنصور سفيان (في الطواف - وسفيان لا
يعرفه - فضربه بيده على عاتقه وقال: أتعرفني؟ قال سفيان: لا، ولكنك قبضت
علي قبضة جبار! ! !
قال: عظني يا أبا عبد الله. قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟
قال: فما يمنعك أن تأتينا؟
قال: إن الله قد نهى عنكم، فقال تعالى:
[ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] .
ثم التفت أبو جعفر إلى أصحابه ثم قال:
ألقينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فرارًا) [٣] .
ولم تكن إجابة سفيان الخشنة هي الإجابة الوحيدة التي سمعها أبو جعفر من
العلماء.
قال الإمام أحمد:
دخل ابن أبي ذئب على المنصور فلم يمهله أن قال الحق وقال: (الظلم ببابك
فاش، وأبو جعفر أبو جعفر) [٤] .
ولقد كانت الثقافة الجوامعية والمسجدية تثمر في مشرق الدولة ومغربها هذه
الثمار وتنجب أمثال هؤلاء الرجال، الذين يتميزوا بإيثار حرية الرأي وإشهار
وجهة نظرهم ولو دفعوا رؤوسهم ثمنًا لذلك.
فعندما قُدم بعبد الرحمن بن أنعم - قاضي إفريقية - على المنصور سأله.
(ما رأيك في طريقك؟ قال: ما زلت في منكر وجور عظيم حتى قدمت
عليك!! فقال أبو جعفر: ما نعمل وما نصنع؟ لا يلي لنا مثلك.
قال له: أتدري ما قال عمر بن عبد العزيز، قال: الملك سوق، وإنما يجلب
إلى السوق ما ينفق فيها) [٥] .
ولقد كان هؤلاء العلماء من فقهاء ومحدثين يعون جيدًا أن كل أعطية مادية
كانت أو معنوية ليست إلا أغلالًا تقمح بها أفكارهم وتسلسل بها حريتهم، ولذا
تواترت نصائحهم في التحذير من ذلك.
قال الأوزاعي فقيه بيروت - جبر الله كسرها وأقال عثرتها -:
[لو قبلنا من الناس كل ما يعطوننا لهنا عليهم] [٦] .
ويقول المحدّث مسعر بن كدام شيخ الإمام مسلم:
[من صبر على الخل والبقل لم يستعبد] [٧] .
ويقول محمد بن مبارك الصوري (ت٢١٥هـ):
[كذب مؤمن - ادعى المعرفة بالله - ويداه ترعى في قصاع المستكثرين، ومن وضع يده في قصعة غيره ذلت رقبته] [٨] .
وهكذا تسترقهم مطالب دنيوية أو مقتنيات عرضية وكان ذلك - بفضل الله -
سببًا لحرية تفكيرهم وحرية تعبيرهم.
عرّج الرشيد على المدينة وهو في طريقه إلى الحج فبعث إلى الإمام مالك
بكيس فيه خمسمائة دينار، فلما قضى نسكه وقدم المدينة أرسل إلى مالك رسولًا
يقول له:
[إن أمير المؤمنين يحب أن تنتقل معه إلى مدينة السلام - بغداد - فقال مالك
للرسول، قل له: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله)] [٩] .
ولقد ربط الإمام الشافعي بين التعلق بالدنيا والمذلة فقال:
[من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها] [١٠] .
وفي هذا المعنى يقول بشر الحافي ﵀:
[من أحب الدنيا فليتهيأ للذل] [١١] .
ولقد تعرض الفقهاء والمحدثون لسياسة الدولة الاقتصادية ونقدوا مظاهر
الإسراف والتبذير، فقد قال سفيان الثوري للمهدي بمنى:
[حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهمًا وإني أرى هاهنا أمورًا لا تطيقها الجبال] [١٢] .
* * *
هكذا فقد كان الفقهاء والمحدثون قادرين على اتخاذ موقف ما من القضايا التي
عايشوها والأحداث التي عاصروها، وكان الموت أحد الاحتمالات التي واجهوها،
وكان ذلك أحب إليهم من أن ينوؤا تحت عبء تبكيت نصوص الميثاق الذي أخذ
عليهم بتبليغ العلم وأن يجأروا بكلمة الحق أمام كل أحد.
وربما كان لبعضهم في العافية متسع، وفي التقية ملتجأ، ولكن أحسابهم
الكريمة وقدوتهم العظيمة أبت لهم إلا أن يتابعوا من قبلهم قولًا وعملًا والحمد لله
على عظمة هذا الدين منبع الفضائل، ومبعث العزائم، ومنبت الرجال، ومصدر
الكمال.
_________
(١) الرتاج: الباب العظيم، والباب مطلقًا والجمع رَتج، المعجم الوسيط ١/ ٣٢٦.
(٢) سير أعلام النبلاء ٧/٢٦٢.
(٣) العقد الفريد: ٣/١٦٥.
(٤) سير أعلام النبلاء: ٩/١٤٤.
(٥) كتاب رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية: ١/١٦٥.
(٦) - حلية الأولياء ٦/١٤٣.
(٧) حلية الأولياء ٧/٢١٩.
(٨) حلية الأولياء ٩/٢٩٨.
(٩) جامع بيان العلم ١/٢٢٨ وفيه آخر الحديث، وسير أعلام النبلاء ٨/ ٦٢-٦٣.
(١٠) التيار الإسلامي في شعر العصر العباسي الأول ص: ٦١٢، د مجاهد مصطفى بهجت.
(١١) البداية والنهاية ١٠/٢٩٨.
(١٢) سير أعلام النبلاء ٧/٢٦٥.
1 / 34
أبو بكر الطرطوشي
وكتابه: «الحوادث والبدع»
دراسة وتحليل بقلم:
أحمد عبد العزيز أبو عامر
لقد كان لعلماء الإسلام الأعلام موقف حازم من البدع والمبتدعة، في بيان
حقائقهم وأساليبهم في فهم الشريعة والتحذير منهم ومخالطتهم، مع الحث على اتباع
الوحيين، واعتبارهما منهجًا للحياة، ولما كان للطرطوشي جهدِ بارز في هذا الباب؛ ومع ذلك فهو مجهول الجهد مغمور الذكر لذى الكثير من القراء؛ ناسب التعريف
به وبأعماله وتراثه الفكري، مع عرض كتابه في البدع، ووقفات على ما بذل من
جهد في تحقيقه. وسيكون الموضوع على النحو التالي:
أولًا: حياته وأعماله وتراثه الفكري:
هو أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي
الفهري الطرطوشي، ولد سنة ٤٥٠ هـ، وقيل بعدها بسنة في مدينة طرطوشة
بالأندلس، وفيها نشأ وتعلم في مسجدها الكبير على يد بعض العلماء، ثم أخذ عن
(أبو الوليد الباجي) في (سرفسطة) مسائل الخلاف، وسمع عنه وأجازه، والذي
يظهر أن والده كان عالمًا أو من المشتغلين بالعلم، ولذا وجه ابنه هذه الوجهة،
وكانت أسرته على شيء من الثراء، ولذا عاش في وطنه حتى الخامسة والعشرين
من عمره، في كنف أهه يطلب العلم ويكفونه مؤنة السعي وراء الرزق، وفي سنة
٤٧٤ غادر إلى الشرق وعمره آنذاك ٢٥ سنة تقريبًا، فأدى فريضة الحج ودرّس
بمكة ولم يقم بها طويلًا، فاتجه إلى بغداد حيث تلقى المزيد من العلم في المدرسة
النظامية وتجول بالبصرة، ولقي بها القاضي الجرجاني، وروى عنه شيئًا من
أشعاره الزهدية والتي ضمنها كتابه: (سراج الملوك) وغادر العراق وعمره آنذاك
حوالي الثلاثين سنة إلى بيت المقدس وفيه لبث وقتًا يعلم الناس، ثم غادرها إلى
جبل لبنان ومنه إلى أنطاكية وكانت آنذاك محاصرة من قبل الصليبيين مما دفعه إلى
ترك الشام ميممًا وجهه صوب مصر، فنزل في (رشيد) فجاءه وفد من أهل
الإسكندرية يحثونه على الانتقال إليهم قاضيًا بعدما قتل (بدر الدين الجمالي) القائد
العبيدي عددًا من العلماء، فاستجاب لهم ومن ثم استقر بالإكسندرية وبها تزوج
وحفلت حياته بالنشاط والتدريس والتأليف مما جمع الناس حوله، وكان لا يغادر
الإسكندرية إلا للاتصال بوزراء الدولة لنصحهم وإرشادهم مما جعل له مكانة
أوغرت صدر القاضي (أبو طالب بن حديد) الذي كان منتظرًا منه أن يكون من
حاشيته، لكن زهد الشيخ وجرأته التي تصل أحيانًا إلى نقد أحكام القاضي، كما
فعل في تحريمه للمؤكولات الواردة من أوربا (كالجبن الرومي) .. كل ذلك حدا
بالقاضي إلى كتابة تقرير فيه ورفعه للحاكم (الأفضل) الذي ما يزال يتذكر موعظة
الطرطوشي له والتي تسمت بالقسوة فأمر الحاكم بتحديد إقامته الجبرية في (مسجد
جنوب الفسطاط) ولم يخرج من إقامته تلك إلا بعد قتل الأفضل، ولما تولى (الوزير
المأمون البطائحي) مكانه أكرمه وأخرجه فظل في الإسكندرية لامع النجم يفد إليه
طلبة العلم من الإسكندرية ومن غيرها، ومن أهم تلاميذه من الإسكندرية (سند بن
عون) العالم الفقيه الذي خلفه في التدريس إحدى عشرة سنة، وكذلك (ابن الطاهر
بن عوف) والذي قام بنفس المهمة في التدريس، ومن تلاميذه الآخرين (أبو بكر بن
العربي المعافري) (وهو غير ابن عربي الصوفي) وكذلك (المتمهدي بن تومرت
البربري) .
مؤلفات الطرطوشي:
كان خصب الإنتاج وقد أحصي له أكثر من عشرين مؤلفًا ومن أهمها:
١ - الكبير في مسائل الخلاف.
٢ - شرح رسالة أبي زيد القيرواني.
٣ - معارضة إحياء الغزالي.
٤ - العدة عند الكرب والشدة.
٥ - سراج الملوك.
وفاته:
توفي إلى رحمة الله سنة ٥٢٥ ولعل حياته امتدت بعد هذا إن صح ما نقله ابن
خلكان في (وفيات الأعيان) [١] .
ثانيًا: كتابه (الحوادث والبدع) [٢]:
قال الطرطوشي في مقدمته: هذا كتاب أردنا أن نذكر فيه جملًا من بدع
الأمور ومحدثاتها التي ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع ولا
غيره فألفيت ذلك ينقسم إلى قسمين:
قسم يعرفه الخاصة والعامة أنه بدعة محدثة إما محرمة وإما مكروهة.
وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عبادات وقربات وطاعات وسننًا.
فأما القسم الأول: فلم نتعرض لذكره، إذ كفينا مؤنة الكلام فيه لاعتراف
فاعله أنه ليس من الدين.
أما القسم الثاني: فهو الذي قصدنا جمعه، وإيقاف المسلمين من هذه المنكرات
والبدع لا مطمع لأحد في حصرها لأنها خطأ وباطل، وذلك لا تنحصر سبله ولا
تتحصل طرقه، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه فهو الحق لأنه أمر
واحد مقصود يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه ... ثم بين أبواب الكتاب
الأربعة كما يلي:
١- الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها
سلم جرت إلى هلك، موردًا بعض الآيات ومنها: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا] [البقرة: ١٠٤]، وذلك أن المسلمين كانوا يقولون للرسول:
(راعنا) و(ارعنا) سمعك، وهي بالعبرانية كلمة سب من الرعونة، فكانت اليهود
تقولها للنبي سبًا، فمنع الله المسلمين أن يقولوها، وإن كانت جائزة، لئلا تتذرع
اليهود بذلك إلى ما لا يجوز، وهذا في الحقيقة منع جائز في الظاهر لما كان يتطرق
به إلى باطل ممنوع.
ومن ذلك قوله تعالى: [ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: ٦/١٠٨]، فمنع الله سائر المسلمين من سب آلهة الكفار، وهو مباح، لئلا يصير طريقًا لهم إلى سب الله تعالى عند ذلك.
ثم بين أن مما يدخل في هذا الباب والتحذير من الزيادة في دين الله تعالى
والنقصان منه، قوله تعالى: [وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا] إلى قوله تعالى: [فَبَدَّلَ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: ٧/١٦٢] .. قال أهل التأويل: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فيدخلوا سجدًا منحنين متواضعين ويقولوا حطة - معناه حط عنا خطايانا - فقالوا: (حنطة) استخفافًا بأمر الله فأرسل الله تعالى عليهم رجزًا من العذاب لقوا منه ما لقوا، لأنهم زادوا حرفًا في كلمة، فما بالك بالابتداع والتغيير مما لم يأذن به الله، ولم يرد في سنة رسوله.
٢ - الباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من النهي عن محدثات الأمور
وأورد بعضًا من الأحاديث في التحذير من الأهواء والبدع، ومنها حديث ابن مسعود
عن النبي ﷺ أنه خط لهم خطًا ثم خط إلى جانبه خطوطًا، ثم
قال للخط الأول: «هذا سبيل الله يدعو إليه» وقال للخطوط: «هذه سبل
الشيطان علي كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ]، وما رواه الشيخان أن
النبي ﷺ قال:» لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتوهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ «.
وحديث البخاري عن أبي واقد الليثي قال:» خرجنا مع النبي -صلى الله
عليه وسلم- قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها
وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: (ذات أنواط) فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله،
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي ﷺ:
الله أكبر، إنها السنن، لقد قلتم كما قالت بنو إسرائيل [اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ
قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] لتركبن سنن من كان قبلكم «رواه الترمذي وصححه.
قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها
الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير
والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها.
ثم عقد فصلًا في تعريف البدعة قال فيه: إن أصل الكلمة من الاختراع وهو
الشيء الذي يحدث من غير أصل سابق، ولا مثال احتذي ولا أُلف مثله ومنه قوله
تعالى: [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ] أي خالقها ابتداء.. وهذا الاسم يدخل فيما
تخترعه القلوب وما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح والدليل على هذا ما
سيذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة وكافة العلماء بدعًا للأقوال والأفعال.
٣ - الباب الثالث: منهاج الصحابة في إنكار البدع وترك ما يؤدي إليها.
ساق فيها آثارًا عن بعض الصحابة توضح ذلك، ومنها: ما رواه البخاري في كتاب
الصلاة عن أم الدرداء قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضبًا فقلت له: ما لك؟
فقال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعًا) .
وروى مالك في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: (ما أعرف
شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة)، يعني الصحابة، وذلك أنه أنكر
أكثر أفعال أهل عصره، ورآها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة. وروي
البخاري عن أنس قال: (إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا
نعدها على عهد رسول الله ﷺ من الموبقات) .
قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمان طمس للحق
وظهر الباطل حتى لا يعرف من الأمر القديم إلا القبلة فما ظنك بزمانك هذا، والله
المستعان. (قلت): وما ظنك أخي القارئ بزماننا هذا! ..
ثم ساق صورًا لفقه الصحابة في العبادات ومنها: عدم قصر عثمان بن عفان
الصلاة في السفر، معللًا ذلك لئلا يعتقد الناس أن الفرض ركعتان، وقول أبي
مسعود البدري: إني لأترك الضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن يظن الجيران أنها
واجبة، ثم عقد بابًا في صلاة التراويح وأحكامها، وكيف بدؤها ومستقرها، وبين
فيه أن الأصل في هذه الصلاة ما رواه الشيخان ومالك في موطئه وأبو داود في
سننه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: يرغب في قيام رمضان
من غير أن يزمر بعزيمة.. قال ابن شهاب الزهري: فتوفي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر خلافة عمر.. ثم لما خرج
عمر يومًا إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي
بصلاته الرهط فقال عمر: (والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد
لكان أمثل) فجمعهم على أبي بن كعب، ولما رآهم يصلون بقارئهم قال: (نعمت
البدعة)، ثم شرح المتون التي أوردها في هذا الباب ووجه الجمع بينها، موضحًا
فيها: هل الأفضل أن تصلى في البيوت أو في المساجد والجماعات، وعند القيام،
الفصل بين الترويحتين، وهل يؤمهم في المصحف والقنوت، خلص في ذلك إلى
أن هذه أحكام القيام مما روي في السنة ولم يرووا فيها بشيء مما أحدثه الناس من
هذه البدع من نصب المنابر عند ختم القرآن والقصص والدعاء وختم هذا الفصل
ببيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين، وبين أن سبيله الجهل
والأخذ عن العلماء الجهال لقول الرسول ﷺ:» إن الله لا
يقبض العلم انتزاعًا ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس
رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا «.
وقد صرف عمر هذا المعنى تصريفًا فقال: (ما خان أمين قط ولكنه أؤتمن
غير أمين فخان) قالا لطرطوشي: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من
ليس بعالم فضل وأضل، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال -
ﷺ:» قبل الساعة سنون خداعات يصدق فيهن الكاذب ويكذب
فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهم الرويبضة [وهو
التافه الخسيس] ينطق في أمور العامة «، وقال سفيان: (كانوا يتعوذون بالله من
شر فتنة العالم ومن شر فتنة العابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) .
٤ - الباب الرابع: في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها، ومنها ما يلي:
١- القراءة بالألحان: وهو التطريب الذي ينقل القراءة إلى أوضاع لحون
الأغاني من مد المقصور، وقصر الممدود، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك..
لاقتفاء نغمات الأغاني المطربة.. فاشتقوا لها أسماء من شذر ونبر وتفريق وتعليق
وهز وخز ومزمر وزجر، فهذا مخرجه الأنف وهذا من الصدر وهذا من الشدق..
فهذا الألحان أحدثها في القرن الرابع رجال منهم (محمد بن سعيد) و(الكرماني)
و(الهيثم) وغيرهم ممن هم مهجورون عند العلماء.
٢- ومنها القص في المساجد: لقصص الغابرين كبني إسرائيل، وغالبها لا
يصح، ولذا منع عمر بن الخطاب تميمًا الداري عن القص في المسجد.
٣- ثم عقد فصلًا عن آداب المساجد وما داخلها من البدع، ومنها الأكل في
المسجد وبناء السكن فوق المسجد والبصق به، والسؤال فيه وإنشاد الضالة ورفع
الصوت فيه.
٤ - ما روي من فضائل الأعمال في منتصف شعبان، وبيان أنه لا يلتفت
إليه، وأورد قول ابن أبي مليكة ردًا على ما قاله زياد البحترى: إن أجر هذه الليلة
كأجر ليلة القدر، قائلًا: لو سمعته وبيدي عصًا لضربته.
٥- بيان عدم صحة صلاة الرغائب وأنها مبتدعة من قبل ابن أبي الحمراء
سنة ١٤٨ في بيت المقدس ولم يسمع بها قبله.
٦-- تعظيم رجب بصوم أو عبادة: لا أساس له، بل الآثار ضده فعن أبي
بكر أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه
فقال: (أجعلتم رجبًا كرمضان؟)، وكره ابن عباس صيام رجب كله، وكان ابن
عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا فإنه شهر
تعظمه الجاهلية.
قال الطرطوشي: فهذه الآثار تدل على أن ما يعظمه الناس فيه إنما هي
نزعات من بقايا عهود الجاهلية.
وأنهى الكتاب بفصل في جوامع من البدع ومنها:
١ - دخول الحمام بغير مئزر مع أهل الكتاب.
٢ - الإنذار للعرس والجنائز للمباهاة والفخر.
٣ - البناء على القبور بالحجارة.
٤ - التمسح بقبر النبي ﷺ.
٥ - إقامة المآتم للأموات والتصدي للعزاء.
٦ - خروج النساء للمقابر واتباع الجنائز.
ثالثًا: تحقيق الكتاب:
١ - قام الأستاذ محمد الطالبي بتحقيق الكتاب على نسختين (نسخة مخطوطة
في أسبانيا محفوظة في المكتبة القومية، ومخطوطة في تونس بالمكتبة الأحمدية
بجامع الزيتونة) مع إيراد مختلف الروايات وأضاف أحيانًا بين حاصرتين بعض
العناوين إيضاحًا وبالإضافة إلى المقارنة بين المخطوطتين عرف المحقق بعض
الأعلام والمواقع والكلمات، وأرجع الآيات إلى أماكنها في المصحف وبعض
الأحاديث إلى مصادرها، مع الرجوع إلى أقوال بعض المفسرين، وعند ذكر بعض
الفرق يحيل القارئ إلى الكتب المعرفة بها.
٢ - عرف بإيجاز بالمؤلف وكتب تمهيدًا عن التأليف في البدع موضحًا إنكار
السلف للبدع المحدثة، وتحرجهم في التأليف في ذمها والتحذير منها ما لم يكن
المؤلف ضابطًا عارفًا بما يقوم به ولئلا يكون ذلك سببًا في إظهار الجدل مما يؤدي
إلى ما يخاف عاقبته، وهذا هو موقف الإمام مالك من تلميذه (ابن فروخ) حينما
استأذنه في الرد على المبتدعة، ثم ظهرت المؤلفات في الرد على أهل البدع،
ومنها:
١ - (البدع والنهي عنها) لابن وضاح (١٩٧ - ٢٨٦) .
٢ - الرد على أهل البدع لابن سحنون (٣٠٢ - ٣٥٦) .
٣ - الطرطوشي في كتابه هذا، ثم بين رأي العلماء في كتابه وثناءهم عليه
(كابن فرحون) و(أبو شامة) وابن الحاج، ثم بين المحقق محتويات الكتاب بإيجاز
وأسلوبه في النقل موضحًا أنه استفاد ممن سبقه ولم يذكر ذلك عنهم، ثم بين
(أسلوب المؤلف الجدلي) موضحًا أن كتابه هذا ليس موجهًا للعموم فحسب كي يقلعوا
عما هم فيه من منكرات الأمور، بل هو موجه أيضًا إلى الخصوص والمخالفين،
فهو كتاب إرشاد وتوجيه من ناحية، وكتاب جدل متحمس.. من ناحية أخرى،
ألفه مولع بمسائل الخلاف، عارف بالأساليب المنطقية، مناقش لكل رأي.. لا يدع
فرصة تمر إلا وأبرز تناقض المخالف ودحض حجة بحجة مرددًا: فإن قال.. قلنا.
ثم يبين قيمة الكتاب قائلًا: إن الكتاب يتعدى قيمته التي ألف من أجلها إلى
وصفه المحيط الاجتماعي الذي قامت فيه هذه المآخذ ووصف للبيئة وأهلها بل لعدد
ممن أنكروها.. وهو كتاب متين الصلة بالشعب أي إنه شعبي في تبويبه،
واستطراده، وفي لهجته ومشاكله التي يريد لها حلًا، وإن الكتاب يهم المشتغل
بالتشريع الإسلامي كما يهم المؤرخ والباحث الاجتماعي ولا غنى لمن يؤرخ لحركة
الإصلاح الاجتماعي عنه، وختم الكتاب بعدة فهارس علمية هي:
١ - فهرس مراجع تحقيق النص.
٢ - فهرس الأعلام.
٣ - فهرس المصنفات الواردة في النص.
٤ - فهرس المواضع والمواقع والفرق.
٥ - فهرس الآيات وفهرس أخير للأحاديث.
رابعًا: ملاحظات وتصويبات على ما جاء في تمهيد المحقق:
١ - ما ذكره المحقق الأستاذ محمد الطالبي من عدم إشارة الطرطوشي في
كتابه هذا إلى البدع المستحسنة، والحقيقة أن العلماء المحققين لا يرون أن هناك
بدعًا مستحسنة مستدلين بقوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] الآية، وبقول
الرسول ﷺ:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
«، مما جعل العلماء الأعلام يقولون بما يفهم من هذين الدليلين، فهذا الإمام مالك
يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة)،
وقال الإمام أحمد: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول -
ﷺ والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة)، والشافعي
يقول: (من استحسن فقد شرع)، وعليه يتبين خطأ من جعل البدع على أحكام
الشريعة الخمسة ولم يجعلوها قسمًا واحدًا مذمومًا، وقد ذهب لهذا الرأي الخاطئ
العراقي في (الفروق) عن شيخه العز بن عبد السلام، ولتعرف أخي القارئ رد هذا
الرأي انظر (الاعتصام) للشاطبي [٣]، و(البدع والنهي عنها) لابن وضاح [٤]،
وكذلك (البدعة وأثرها السيئ في الأمة) [٥] لسليم الهلالي، وأيضًا (تحذير المسلمين
من الابتداع في الدين) [٦] أحمد بن حجر القطري.
٢ - إن أسلوب الطرطوشي في نقاشه ونضاله فيه تأثر بأسلوب المعتزلة،
وذلك في بيانه الحكم في التشريع وإن أقيسته فقهية، ولا يؤمن معها الزلل.
والحقيقة أنه من الخطأ أن يتصور كثير من الباحثين أن (أهل السنة وأعني
بهم أهل الحديث) لا يرون سبيل النقاش العقلي. وأن ذلك طريق أهل الكلام
فقط، وفي هذا تجن عليهم، فأسلوب فقهاء أهل السنة وعلمائهم لا يخلو من استدلالات عقلية فيما يكتبون ويرددون، لكنها أدلة وبراهين منطقية قائمة على تفسير القرآن والحديث، وهذا ما بينه باستفاضة واستدلال الدكتور مصطفى حلمي في كتابه القيم (منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) [٧]، وكذلك د/ زاهر الألمعي في كتابه (مناهج الجدل في القرآن) [٨] .
٣ - ما ذكره المحقق أنه لم يطلع على طبعة سابقة لهذا الكتاب في معرض
رده على محمد دهمان الذي ذكر أنه مطبوع في تحقيقه لكتاب البدع لابن وضاح،
وكون الأستاذ المحقق لم يعثر على ما يدل على أنه مطبوع من واقع رجوعه لبعض
المصادر لا يعني أنه غير مطبوع، فلقد رأيت طبعة قديمة لهذا الكتاب مطبوعة في
تونس وتحت نفقة أحد الأمراء السعوديين ممن لا يحضرني الآن ذكره.
٤ - ما ذكره المحقق من أن كتاب الطرطوشي هذا تتجلى فيه فلسفة خاصة
تكشف عن بعض سر الماضي والحاضر، فلسفة عمادها خلط الزمني بالروحي،
وضع الأمور كلها على بساط واحد، وهذا عجيب جدًا من حضرة المحقق ومتى
كان علماء الإسلام يفرقون بين الزمان والروح أو بمعنى أوضح بين الدين
والسياسة؟ إنها شطحة غريبة جدًا لا سيما في عصر تبين فيه سخف هذه
المقالة المنقولة عن النصرانية التي تفرق بين الدين والسياسة، أما الإسلام فهو دين ودولة ولمزيد الضوء يرجع إلى (مؤامرة فصل الدين عن الدولة) للأستاذ محمد حبيب كاظم أو (فصل الدين عن الدولة ضلالة مستوردة) للأستاذ يوسف العظم، وقد طبعت ضمن كتاب (المنهزمون) .
٥ - زعم المحقق أن حرص بعض العلماء على القتداء بالسلف ووزن كل
شيء في الحياة بميزان الإيمان والتقوى يمنع من التطور! والحقيقة أن هذه
التصورات غريبة جدًا على كل مسلم يعرف دينه حق المعرفة ولا توجد هذه الأفكار
إلا لدى العلمانيين الذي يحكمون على الإسلام حكمهم على الدين المسيحي المعروف
بكهنوته ورهبانيته، ولا شك أن الحرص على القيم الروحية الخالدة في الإسلام
هدف سامٍ، لكن تصور اتباع السلف بهذا التصور يحتاج إلى تصحيح ومعرفة
للإسلام من جديد، ولبيان ذلك ودحض الشبه العلمانية في هذا الباب أنصح بالرجوع
إلى الرسالة العلمية القيمة للأستاذ / سفر الحوالي وهي بعنوان: (العلمانية نشأتها
وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة) .
والخلاصة أن هذا الكتاب قيم جدًا في بابه، ولكن أفكار المحقق هداه الله كما
وضحت تحتم أن تعاد طباعة الكتاب بتحقيق أكثر استيفاء بالمؤلف في التعريف به
وبمؤلفاته وبتخريج الأحاديث والآثار تخريجًا علميًا على ضوء المصادر المعتمدة في
علم الجرح والتعديل، وبيان الحكم الشرعي لبعض البدع باستفاضة وتوضيح، مع
مدخل في التعريف بالبدع والمبتدعة ونهج من ألف فيها، خاصة وأن هذا الكتاب
نادر جدًا.
_________
(١) بتصرف من كتاب (أبو بكر الطرطوشي) د/جمال الدين الشيال، سلسلة أعلام العرب، العدد ٧٤.
(٢) الحوادث والبدع للطرطوشي من منشورات كتابة الدولة للتربية بتونس، وطبع في المطبعة الرسمية عام ١٩٥٩م.
(٣) الاعتصام للشاطبي، نشر دار المعرفة ببيروت، تحقيق محمد رشيد رضا، وقد نال الأستاذ / عمر الكحل رسالة الماجستير من (أصول الدين بجامعة الإمام) في تخريج أحاديث وآثار الاعتصام للشاطبي.
(٤) البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، تحقيق / محمد أحمد دهمان، نشر دار البصائر بدمشق ١٤٠٠ هـ.
(٥) (البدعة وأثرها السي في الأمة) للأستاذ سليم الهلالي، نشر المكتبة الإسلامية بعمان، الأردن ط: ١٤٠٠هـ.
(٦) تحذير المسلمين من الابتداع في الدين، لأحمد بن حجر القطري.
(٧) (نهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) د/ مصطفى حلمي، نشر دار الدعوة بالإسكندرية ١٩٨٢م.
(٨) (نهج الجدل في القرآن الكريم) د/ زاهر عوض الألمعي، مطبعة الفرزدق بالرياض، وهو رسالة نال بها درجة دكتوراة من الأزهر.
1 / 37
شؤون العالم الإسلامي ومشكلاته
رسالة مفتوحة إلى المجاهدين الأفغان
التحرير
أولًا - إن تنصروا الله ينصركم.
ثانيًا - ولا تنازعوا فتفشلوا. ...
ثالثًا - قد خلت من قبلكم سنن. ...
رابعًا - الاستقلالية وحرية اتخاذ القرار. ...
خامسًا - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا. ...
سادسًا - الكرامة وليس الخرافة. ...
سابعًا - الخاتمة.
أيها الأخوة الأحبة:
نحمد الله إليكم جلت قدرته الذي من علينا بنعمة الإسلام، وجعلنا كالجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، ونصلي
ونسلم على خير خلقه محد بن عبد الله.. ونحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأله تعالى أن يرزقكم النصر على عدوكم ويردكم إلى دياركم ويختم بالصالحات أعمالنا وأعمالكم، وبعد:
عن أنس ﵁: «أن رجلًا كان عند النبي -صلى الله عليه
وسلم- فمر رجل فقال: يا رسول الله، إني لأحبُّ هذا، فقال له النبي - صلى الله
عليه وسلم -: أأعْلَمته؟ ! قال: لا، قال: أعلمه، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له» [١] .
واستجابة لأمر رسول الله ﷺ نقول:
نحن المسلمين العرب نحبكم في الله:
- نحب فيكم - ومنذ القديم - الشجاعة والبطولة، وقد حدثنا التاريخ كيف
قهرتم (جنكيز خان) وما أدراك من جنكيز خان؟ ! !
جنكيز خان الذي اجتاحت العالم جيوشه، وقهر الممالك، وأذعن له الجبابرة.. لقد انتصر عليه أجدادكم جنود الإسلام الأشاوس. وأسقوه كؤوس الذل والمهانة.
وحدثنا التاريخ الحديث عن جهاد آبائكم ضد الاستعمار البريطاني الذي جثم
على أرضكم طيلة (٤٤) عامًا واستخدم المستعمرون مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة،
وأشرس أساليب العنف والإرهاب، وظنوا أنهم باقون بقاء الدهر.. ولكن جهاد
آبائكم في سبيل الله أرغم بريطانيا - التي كانت تسمى بريطانيا العظمى - على
الخروج من بلدكم وهي تجر أذيال الهزيمة والفشل.
- ونحب فيكم الإيمان الذي لا يخبو لهيبه، والزهد الذي يتجلى بأروع معانيه.. ونذكر جيدًا أن بلادكم وقفت وقفة جبارة ضد الفساد والانحلال، وكانت حصونكم
آخر الحصون التي اجتاحها أعداء الإسلام.. ورغم ذلك فلم تنقطع مقاومتكم، ولم
يستسلم أبطالكم، وبقيت آثار الغزو الاستعماري في حدود العاصمة ولا تكاد
تتجاوزها.
- ونحب فيكم الفطرة الطيبة والبساطة في كل شيء: البساطة في الملبس
والمطعم، البساطة في المسكن والمشرب.. ونحب فيكم العزائم القوية والإرادة
الصلبة.
أجل إن شدة محبتنا لكم ليست سرًا من الأسرار.. وإن نسيت لا أنسى أن أحد
الباطنيين الحاقدين قَدَّم نفسه على أنه أفغاني عندما وطأت قدماه أرض العرب لأنه
كان يعرف مدى محبة العرب للأفغان، ولهذا قد استُقبِل أحسن استقبال، والتف
حوله المثقفون وطلاب العلم، وفتحت أمامه أبواب كبار المسؤولين، وما كان يشعر
طوال إقامته بأنه غريب عن وطنه وعشيرته لا بل لقد نجح في تحقيق مكاسب لم
يستطع أن يحقق شيئًا منها في بلده.. ولو علم العرب موطنه الحقيقي لما استطاع
أن يبيض ويفرخ في بلادنا [٢] .
أيها الأخوة الأحبة: إن الحديث عن تاريخكم عذب جميل.. كما أن الحديث
عن جهادكم ضد الغزاة الشيوعيين أكثر عذوبة وجمالًا فجزاكم الله كل خير، وثبتنا
وإياكم على الحق وجنبكم كيد الكائدين، مؤامرات المارقين.
إن تسابقكم على الموت في سبيل الله هز المشاعر التي تبلدت، وبعث الأمل
في النفوس التي كاد يسيطر عليها اليأس.
لقد عمرتم نفوسنا فرحًا ببطولاتكم التي تحدث عنها العالم أجمع عبر وسائل
إعلامه، وملأتم قلوبنا إيمانًا بوعد الله لنا بالنصر والتمكين، وذكرتمونا بجهاد
رجال خير القرون ومن نحا نحوهم وسار على نهجهم.
أيها المجاهدون الأفاضل:
انطلاقًا من حرصنا على استمرار مسيرة الجهاد، والتزامًا بقوله صلى الله
عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلنا: لمَن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم» [٣] .
وعن جرير بن عبد الله ﵁ قال: «بايعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» [٤] .
ولأننا عشنا معكم منذ بداية محنتكم في آلامكم وآمالكم، ونخشى أن نسكت عن
حق نراه فتحل بنا عقوبة من الله ﷾.
لهذه الأسباب مجتمعة أحببنا أن نتقدم إليكم بهذه النصائح راجين أن تدرس
بعناية وروية، وسنحاول الإيجاز قدر الاستطاعة لأن أوقاتكم ثمينة، وفي الإشارة
ما يغني عن الكلم، وما كل ما يعلم يقال.
أولًا - إن تنصروا الله ينصركم:
قال ﷾:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [٥] .
وقال جل من قائل:
[ومَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] [٦] .
[ومَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [٧] .
فالنصر لا يتحقق بكثرة العدد، ولا بشجاعة الجند.. وإنما النصر من الله
وحده لا شريك له، ويمنُّ به على عباده المؤمنين إذا توفر في أعمالهم الشرطان
التاليان:
١ - أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، ليس فيها رياء ولا شرك.
٢ - أن يكون بما شرع الله تعالى، قال تعالى:
[فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] [٨] . ...
وعن أمير المؤمنين أبي حفص ﵁ قال: سمعت رسول
الله ﷺ يقول:
«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة
ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» [٩] .
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ﵁ قال: سئل
رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل
رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ:
«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [١٠] .
بل وأول من تسعر بهم نار جهنم مجاهد مات في ساحة المعركة، وكان يحب
أن يذكر اسمه بعد موته مع أنه جاهد في سبيل الله.
ومن المعوقات في طريق النصر:
- أن لا يكون العمل با شرع الله وثبت بما صح من سنة المصطفى - صلى
الله عليه وسلم -.. فحذار يا أخوة من البدع والخرافة وتعظيم الرجال، والتعصب
المذهبي الذميم.
- أن لا تكون النية خالصة لوجه الله ومن ذلك:
استصغار شأن الآخرين، واتهامهم بما هم منه برآء، وحب الرئاسة والزعامة، والمبالغة فيما يذكر القائد عن عدد جنده وعدد العمليات والغنائم التي غنمها من
العدو.
ثانيًا - ولا تنازعوا فتفشلوا:
هناك خلافات وصراعات بين المجاهدين الأفغان! ! هذه حقيقة لا ريب فيها،
ويعرفها أعداء الإسلام من الأمريكان، والسوفيات، وأجهزة المخابرات الغربية،
وتتحدث عنها الصحف والإذاعات شرقية كانت أو غربية.
ورغم ذلك فبعض الناس من الأفغان والعرب ينكرون أن تكون هناك خلافات
وإذا واجهتهم بالحقائق قالوا:
إن الحديث عن هذه الخلافات يترك اثارًا سلبية، ويقلل من أهمية المجاهدين
فلنتحدث عن الإيجابيات وحدها.
وبعض الناي يحاولون إيهام الآخرين بأن المجاهدين جميعًا يلتقون حول فلان
أو فلان، وهناك حفنة من المشاغبين خرجوا على الإجماع، وراحوا يصطادون في
الماء العكر، وعلى كل حال فأمر هؤلاء المشاغبين مكشوف عند الأفغان، وهم
أعداء للجهاد ودمى تحركها جهات أجنبية مشبوهة! !
وهناك أسئلة تفرض نفسها بإلحاح:
أليست هذه الردود من بعض الناس دليلًا أكيدًا على وجود الخلافات؟ !
- لماذا الحرص على أن يكون الشباب الدعاة وحدهم غير عالمين بما يدور
حولهم؟ !
- وماذا لو زار هؤلاء الشباب مدينة (بيشاور) وشاهدوا بأعينهم وسمعوا
بآذانهم حقيقة هذه الخلافات؟ !
- لماذا لا نستفيد من تجارب إخواننا في بلاد أخرى، لقد كانوا يخبرون
شبابهم بأمور مغلوطة ويقولون لهم: إننا من النصر قاب قوسين أو أدنى ...
واستيقظ الشباب بعد خراب البصرة - كما يقولون - فوجدوا أنفسهم في موقف
محزن جدًا وما عادوا يثقون بقيادتهم ولا بغيرها وبعضهم ارتد عن الإسلام من هول
الصدمة؟ !
وإذا كان أعداؤنا يضخمون هذه الخلافات، ويرون استحالة وحدة الصف
ورأب الصدع، ويفسرون الأمور تفسيرًا ليس فيه حياد ولا موضوعية ... إذا كان
هذا حال أعدائنا فنحن نعتقد أن الأصل وحدة الصف، والاختلاف حالة شاذة،
ويجب أن لا تستمر، ونملك الجرأة التي تمكننا من مواجهة مشكلاتنا بكل صراحة
ووضوح.
ومن هذا المنطلق فإننا نذكر إخواننا المجاهدين بالحقائق التالية:
١ - لقد هب المسلمون الأفغان الذين لم تلوثهم الأفكار والمبادئ الشيوعية منذ
عام ١٩٧٩م يدافعون عن دينهم وأعراضهم ضد البلاشفة الذين أهلكوا الحرث
والنسل وعاثوا في الأرض فسادًا.. فكانت معركتهم:
معركة الإسلام ضد الجاهلية.
معركة الإسلام ضد الكفر.
معركة الإسلام ضد الباطل.
إنها معركة المسلمين جميعًا وليست معركة جماعة من الجماعات أو هيئة من
الهيئات.
٢ - المسلمون العرب الذين يلتزمون بالإسلام سلوكًا وعقيدة وعبادة ومنهج
حياة.. هؤلاء على مختلف اتجاهاتهم وميولهم وجماعاتهم وقفوا مع المجاهدين
الأفغان في خندق واحد وحتى الدخلاء منهم جادوا بأموالهم.. ولا يجوز لجماعة من
الجماعات أو حزب من الأحزاب أن يزعموا بأنهم وحدهم الذين أيدوا المجاهدين
الأفغان أو أن المجاهدين جميعًا من المنتمين إليهم.
لا يجوز استغلال المساعدات التي تقدم للمجاهدين من أجل المتاجرة بشعارات
حزبية، كما أنه لا يجوز نقل صراعات هذه الجماعات إلى مخيمات الأفغان البائسة، وإقامة أحلاف ومحاور مع جماعات هناك.. وعلينا جميعًا أن نسعى لإصلاح ذات
البيت ورأب الصدع.
يستحيل اجتماع كلمة المجاهدين على حزب من الأحزاب أو جماعة من
الجماعات، وقد بذلوا محاولات من هذا القبيل ففشلوا لكنهم يؤكدون بأنهم يسيرون
على ما كان عليه الرسول ﷺ وما كان عليه الصحابة -
رضوان الله عليهم - ومن تبعهم من رجال خير القرون - أي منهج أهل السنة
والجماعة -.. وقد التقينا بمعظم قادة المجاهدين فقالوا لنا: إنهم يلتزمون منهج
أهل السنة والجماعة، ولا يؤمنون بالبدع والخرافات.. فلماذا لا تترجم هذه
القناعات إلى واقع عملي، ولماذا نتجاهل الأصول ونحاول عبثًا جمع الناس وتوحيد
كلمتهم على الفروع؟ !
٤ - نذكر أنفسنا وإخواننا المجاهدين بوجوب الصدق في القول والعمل إذا
كان لا بد من اختلاف وجهات النظر، وعلينا أن نحذف من ألفاظنا: هذا عميل،
وذاك يتاجر بالجهاد.. لا سيما إذا كانت هذه الاتهامات توجه لأبرز قادة المجاهدين
الذين لا يكفرون أحدًا من المسلمين ونعرف بأنهم ليسوا عملاء! ! .
٥ - كان لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ موقف رائع في حرب التتار، فعندما طلب قائد التتار (قازان) وفدًا من كبار علماء المسلمين، ذهب شيخ الإسلام
مع خصومه من المبتدعين الذين ذاق منهم الويلات وكذلك كان موقفه في معركة
(شقحب)، أما الباطنيون فكان له معهم موقف آخر، لقد حاربهم بعد انتصاره على
التتار.
هذا - يا أيها الإخوة - وقت استنفار جميع الطاقات الإسلامية، وليس وقت
تفجير الخلافات وإثارة النعرات.
أيها الأخوة المجاهدون:
اعلموا أن إثارة الفرقة بين الدعاة إلى الله جلَّ وعلا أشد سلاح يستخدمه
أعداء الإسلام خطرًا، وأشد الضربات التي يسددها العدو تلك الضربات الداخلية
التي تجعل الصف الواحد عدة صفوف متخاصمة متحاربة.
قال تعالى:
[إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [١١] .
وقال جلَّ من قائل:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ] [١٢] .
إن عدونا يرقص طربًا ويتيه غرورًا بسبب هذه الخلافات، ويحاول بذل كافة
طاقاته من أجل ديمومتها واستمرارها.
انزعوا من عقولكم - يا إخوة الإسلام - الأفكار الشاذة التي يزعم دعاتها بأنه
لا بد من القضاء على الجماعات كلها لأنها منحرفة وتوحيد الناس من خلال
جماعتهم التي يظنون أنها جماعة المسلمين.
حذار يا إخوة من الغرور، وتقديس الذات، وإعجاب كل ذي رأي برأيه،
واعلموا بأنكم لن تنتصروا بتصفيق المصفقين، وقوة إعلام المتحالفين من غير
الأفغان، فهذه التحالفات ليست ثابتة لأنها لا تقوم على أساس متين، وقد تبدلت
مرات ومرات في السنوات الماضية.
التزموا منهج أهل السنة والجماعة وأخلصوا النية لله وحده، ووحدوا صفوفكم
بنصركم الله على عدوكم:
[إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] .
ثالثًا - قد خلت من قبلكم سنن:
قال تعالى:
[قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
المُكَذِّبِينَ] [١٣] .
وقال سيد قطب ﵀ في تفسير هذه الآية:
(والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى
الأصول التي تجري وفقها الأمور فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم
الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافًا، إنما هي تتبع هذه النواميس،
فإذا هم درسوها وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت
لهم الأهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى
وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان
في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر
والتمكين، بدون الأخذ بأسباب النصر وفي أولها طاعة الله وطاعة
الرسول) . اهـ[١٤] .
لستم - يا إخوة الإسلام - بدعًا في هذه الحياة، وتاريخ أنبياء اله ومن سار
على نهجهم من الدعاة والمصلحين على مختلف الأجيال والأزمان ملك لنا جميعًا
ومن أوجب الواجبات علينا دراسة هذا التاريخ لنتعلم منه كيف نربط الحاضر
بالماضي، وكيف نضع الحلول الناجعة للمشكلات التي تواجهنا، والذين لا يدرسون
هذا التاريخ من المغفلين والسطحيين والمتسرعين ليسوا أهلًا لقيادة العمل الإسلامي.
ومن هؤلاء المكذبين الذين نحذر إخواننا المجاهدين من شرورهم ومكائدهم:
١ - المنافقون:
وهل بين المجاهدين منافقون؟ !
وجوابنا على ذلك: نعم، بين المجاهدين الأفغان منافقون.. وأمثال هؤلاء
المنافقين كانوا يخرجون في جيش رسول الله ﷺ كما حدث في
أحد وتبوك.
س: ولكن نخشى أن يكون هذا القول اتهام من طرف ضد طرف آخر؟ !
ج: قلنا فيما مضى: لسنا مع طرف أو جماعة من جماعات المجاهدين وإنما
نحن مع المجاهدين جميعًا، ونكره ونحذر من الخوض في خلافاتهم إلا لمن أراد
الإصلاح.. ومع ذلك فالمجاهدون وأصدقائهم يعرفون أن هناك منافقين بين الأفغان، وقد باتوا يشكلون خطرًا على مسيرة الجهاد.
س: هل نفاقهم اعتقادي أم عملي؟!
ج: هؤلاء مسلمون يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، وأكثر من
ذلك فهم يشاركون في الجهاد، ومع ذلك فقادتهم يوالون أعداء الله من الأمريكان
وغيرهم، ويناصبون الدعاة الصادقين العداء، ويقولون ما لا يفعلون ويحسبون كل
صيحة عليهم، ويعشقون البدع والخرافة.. هذه هي أحوالهم ولا نستطيع تعميم حكم
عليهم، لأن مشكلتهم تختلف من فرد لآخر.
أيها الأخوة المجاهدون:
لقد كثر الكلام عن هؤلاء المنافقين، ونسمع أن أعداء الله من الأمريكان ومن
نحا نحوهم يعلقون عليهم آمالًا عريضة، ويغدقون عليهم الأموال والهبات، ونسمع
أن خطرهم يزداد، وإذا ما اتفق الأمريكان والسوفيات على حل فسوف يستعينون
بهؤلاء العملاء.. فماذا أعددتم لهذا اليوم العصيب؟ !
تعلموا يا أخوة هدي الرسول ﷺ مع المنافقين ومن ذلك
أنه ﷺ ما كان يختار منهم قادة لسراياه، ولا كان يبوح لهم بسر
من أسراره، وفوق هذا وذاك كان يعرفهم ويعرف مكائدهم.
ولا نظن أن أوضاعكم كذلك.. فتداركوا أمركم قبل فوات الأوان واعلموا أن
أشد المؤامرات التي ابتلينا بها مؤامرات المنافقين لأنها تفتت الصف الواحد،
وتبعثر الطاقات واقرأوا في كتاب الله ﷾، وفي سنة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم- صفات المنافقين وأساليبهم في مواجهة الدعاة إلى الله.
٢ - الباطنيون:
لا تنتظروا خيرًا أو تعلقوا آمالًا على جند عبد الله بن سبأ اليهودي، إنهم
عون للطغاة المتجبرين، وعيون للغزاة المستعمرين.
قلبوا صفحات من تاريخهم الأسود ترون فيه العجب العجاب من موالاة أعداء
الله من التتار واليهود والصليبيين وعداوتهم لأولياء الله بدءًا بأم المؤمنين عائشة -
﵂، ومرورًا بالشيخين - أبي بكر وعمر - وانتهاءً بسائر الصحابة- ﵃ أجمعين -.
اسألوا إخوانكم الذين اكتووا بنيرانهم وشرورهم في بعض بلدان العالم
الإسلامي، ولا تصدقوا أقوالهم ووعودهم فمن صفاتهم الغدر والكذب ولن يتورع
هؤلاء الباطنيون عن التعاون مع الشيوعيين، كما أنهم لن يقصروا في استغلال
ظروف إخوانكم وبذل المحاولات من أجل زعزعة إيمانهم تشكيكهم بأصول دينهم.
رابعًا - الاستقلالية وحرية اتخاذ القرار:
- نحن نفهم جيدًا الأسباب التي دعت المجاهدين خاصة، والأفغان عامة إلى
الالتجاء إلى بلد مجاور لبلدهم.
- ونفهم جيدًا الأسباب التي دعت إلى وجود مخيمات للذين فروا بدينهم من
الفقراء والمعدمين، ومستشفيات ومستوصفات للجرحى والمشوهين من ضحايا
قصف البلاشفة الشيوعيين.
- ونفهم كذلك أن يقول قادة المجاهدين: ولماذا لا نستفيد من هذا الواقع الذي
فرض نفسه محليًا وعالميًا؟ ! ! .
نعم، نحن نفهم كل ما سبق ذكره، لكننا لم نستطع أن نفهم - ومن بداية
الجهاد -:
لماذا اتخذ المجاهدون الذين نثق بهم من هذا البلد أو ذاك مركزًا لانطلاقتهم،
وكنا نستغرب منهم هذا الموقف لأسباب كثيرة من أشهرها ما يلي:
١ - أنشأوا مراكز قياداتهم وسائر مؤسساتهم على أرض لا يملكونها وإنما
يملكها نظام يرى خلاف ما يرون.
وعندما يبرم الإرهابي المجرم (رونالد ريغان) الصفقة مع السوفيات سوف
يجد المجاهدون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: الاستسلام الذي يسمونه: السلام،
ولن يكون فيه خير للإسلام والمسلمين، أو الخروج من الأرض التي أقاموا فيها
دولة ظل لهم سيكون إخراجهم أو إخراج المتطرفين [١٥] فيهم خلال أيام وسوف
يجد المجاهدون أنفسهم محاطين بجيش لا قبل لهم به، وسوف تتغير الوجوه،
وتتبدل المواقف، وتغلق الأبواب التي كانت تفتح على مصاريعها عند قدوم زيد
وعمرو من قادة المجاهدين.
٢ - بدأوا أنشطتهم بأموال كانوا يتلقونها من المحسنين المسلمين وغيرهم، ثم
راحوا يطورون مؤسساتهم ومكاتبهم بشكل يتناسب مع وفرة هذه الأموال، وأصبحنا
نسمع أن هذه الجماعة تملك جيشًا يربو عدد جنوده على مائة ألف، والثانية أكثر
عددًا والثالثة أقل قليلًا لكنها تملك مؤسسات توحي لمن يسمع أسماءها وكأن
المجاهدين لن يغادروا المنطقة التي التجأوا إليها.
ترى هل يفكر إخواننا المجاهدون بأن هذه الموال سوف تحجب عنهم؟ !
هل فكروا - غفر الله لهم - بمرتبات هذه الجيوش الجرارة، وهذه المؤسسات
التي لا يحصى عددها؟ ! .
وحتى الأموال التي يدفعها المحسنون سوف تتضاءل كثيرًا، ويقل نفعها
بسبب تعدد الجماعات، لا سيما ونحن نرى أن كل جماعة تحالفت مع جماعة أخرى
في البلاد العربية وغيرها، وفوق هذا وذاك فهناك محسنون يكثرون في ظروف
معينة، ويفتقدون عندما تتغير هذه الظروف! !
٣ - إذا كانت الأرقام التي تذكرونها عن عدد قواتكم دقيقة فهي تزيد على
نصف مليون مجاهد، ومثل هذا الرقم تعجز عن تمويله دولة كبرى، فكيف بمن لا
يملكون دولة ولا موارد اقتصادية ذاتية يعتمدون عليها.
ومن جهة أخرى فحربكم مع القوات الشيوعية حرب عصابات، ومن بدهيات
هذه الحرب:
الحذر الشديد من العملاء داخل الصف، والسرية في التحرك، والدقة في
مباغتة العدو، والاستقلالية التامة في اتخاذ القرار.
ولا تحتاج حرب العصابات إلى نصف مليون جندي، ولا إلى نصف هذا
العدد أو ربعه، ورنما يكفي في بلد كأفغانستان عشرون ألف مجاهد وكحد أعلى
ضعف هذا العدد.
ولن يعجز المحسنون المخلصون في العالم الإسلامي عن تمويل مثل هذا العدد.
ولن يستطيع أعداء الله الحيلولة بينكم وبين إخوانكم في جميع بلدان العالمي
الإسلامي، ومن ذا الذي يستطيع قهركم في جبالكم ووديانكم التي سوف تتحول بإذن
الله إلى نيران متأججة يحترق في لهيبها الشيوعيون وغيرهم من أعداء الله.
هؤلاء المقاتلون (إذا كان تدريبهم جيدًا، وكانوا يتبعون قيادة واحدة) سوف
تتحدث عنهم أسلحتهم وعملياتهم الناجحة، ولا يحتاجون إلى تأييد الأمم المتحدة، أو
إلى فتح مكاتب في عواصم بلدان العالم.. وها هي الأمم المتحدة تتخذ القرار تلو
القرار ضد الاعتداءات الإسرائيلية فهل تراجع نظام العدو الصهيوني عن اعتداءاته؟
وسوف يفجر هؤلاء المجاهدون ببطولاتهم ثورة إسلامية في تركستان والقوقاز
وبخارى وسمرقند وأول الغيث قطرة، ولا يزال الخير في أمة محمد -صلى الله
عليه وسلم- حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
٤ - اعتبروا - يا إخوة الإسلام - بأخطاء غيركم - والعاقل من اتعظ بغيره وآخر هذه الدروس ما حدث لمنظمة التحرير الفلسطينية - لقد بدأت منظمة
فتح عملياتها داخل الأرض المحتلة في أواسط الستينيات، وكانت إمكاناتها
متواضعة، ومع ذلك كانت عملياتها ناجحة.. ثم قامت منظمة التحرير الفلسطينية،
وبعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ تعددت المنظمات التي كانت فلسطينية في ظاهرها
حزبية في حقيقتها، وأُغدقت الأموال على منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت
ميزانيتها أقوى من ميزانية حكومة من الحكومات وصار للمنظمة مكاتب في معظم
العواصم العالمية بعد أن اعترفت بها معظم بلدان العالم، أما زعيم المنظمة فأصبح
بمثابة رئيس دولة، وصار له سفراء ومساعدون ومستشارون.. وبعد حين من
الزمن التفت قادة المنظمة فوجدوا أنفسهم يقفون على أرض لا يملكونها، وقد
أخرجوا منها غير مرة كما أنهم وجدوا أنفسهم يتحركون بأموال تأتيهم من هنا وهناك، وقد تمنع عنهم في أي وقت منا لأوقات، وقد بدأ هذا المنع فعلًا.
وأخيرًا جاءت الضربة القاتلة، ولم تكن هذه المرة من إسرائيل أو من
الولايات المتحدة الأمريكية، أو من الرجعية، ولكنها جاءت من رفاق السلاح الذي
حركتهم جهات رسمية تقدمية اشتراكية بمباركة السوفيات.
وأخيرًا ارتفعت أصوات معظم قادة المنظمة يطالبون منظمتهم العودة إلى
مرحلة البداية، والتحرر من دبلوماسية المكاتب والحلول السياسية، ولكن هذه
الأصوات جاءت بعد فوات الأوان فأصبحت كصيحة في واد أو كنفخة في رماد،
وأصحاب هذه الأصوات لم يعودوا يصلحون لمرحلة البداية بعد أن سلطت عليهم
الأضواء.
خامسًا - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا:
يتباكى إعلام الدول الغربية، والولايات المتحدة الأميركية على الأفغان،
ويطالب قادة هذه الدول بوجوب خروج القوات السوفياتية من أفغانستان وضرورة
عودة اللاجئين إلى ديارهم.
أما السوفيات فيزعمون أن هناك مؤامرة، وأنهم كانوا مضطرين لاتخاذ هذا
الموقف العسكري، وهم حريصون على الوصول إلى حل للمشكلة الأفغانية؟ !،
فما مدى هذه الدعاءات من الصحة، ولماذا يجعجع الأمريكان وينادون بتحرير
أفغانستان؟ !
لنعلم حقيقة الدور الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان،
يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الثوابت التالية في السياسة الأميركية:
١ - ورثت الولايات المتحدة عن بريطانيا وفرنسا سياسة تفتيت العالم
الإسلامي إلى دويلات عرقية وطائفية صغيرة ومتناحرة.. وأقرب مثال على ذلك
اليمن الجنوبي في أواخر الستينات فعندما لم تجد فيه بريطانيا طوائف ولا قوميات
سلمته لحفنة متواطئة من الشيوعيين.
٢ - لليهود دور مهم في صنع القرار الصادر عن الإدارة الأميركية سواء كان
هذا القرار صادرًا عن إدارة البيت الأبيض أو وكالة المخابرات الأميركية أو
(الكونغرس)، بل وما من رئيس من رؤساء الولايات المتحدة إلا ولليهود فضل
عليه.. وماذا ينتظر المسلمون من دولة يوجهها اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه؟ !
٣ - يؤكد القادة الأمريكان بأنهم ضد التطرف الديني، ويعقدون المؤتمرات
ويحيكون المؤامرات من أجل مكافحة التطرف الديني ويصرحون بأنهم لن يمكنوا
هؤلاء المتطرفين من السيطرة على مقاليد الحكم في أي بلد من البلاد.
ومما لا شك فيه أن الأمريكان لا يحاربون المتدينين اليهود أو النصارى بل
على العكس من ذلك يستفيدون منهم في مقاومة التغلغل الشيوعي.. وكل الذي
يقصدونه بقولهم: (التطرف الديني) هو الدعاة المسلمون الذين يجاهدون من أجل أن
يكون الدين كله لله.. وإذن فالأمريكان ضد جهادكم.
٤ - ليس في قاموس السياسة الأميركية شيء اسمه إنسانية، أو شفقة، أو
رحمة، أو خدمات بالمجان.
فعندما يقدمون المساعدات لجهة من الجهات فهذا يعني أن مصالحهم فرضت
عليهم اتخاذ مثل هذا الموقف.. ومصالحهم هنا تقتضي أن تكون أفغانستان مستعمرة
أميركية..
وبعد أن ينسحب الشيوعيون منها ويكون لهم الأمر فيها، سوف يستردون من
مواردها الاقتصادية أضعاف ما قدموه من مساعدات أو يبرمون صفقة مع الاتحاد
السوفياتي وفق سياسة الاتفاق على اقتسام مناطق النفوذ في العالم.
وعلى أي حال فالولايات المتحدة الأميركية ليست مستعدة للدخول في حرب
نووية مع الاتحاد السوفياتي من أجل أفغانستان.
أيها الأخوة المجاهدون: احذروا أشد الحذر من كيد الأمريكان ومكرهم،
واذكروا جرائمهم في فلسطين ولبنان ومصر وباكستان وغيرها وغيرها من بلدان
العالم الإسلامي.
إنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا تعرف الرحمة ولا النخوة والمروءة
سبيلًا إلى قلوبهم.
ومن أهم مخططات الأمريكان تفريغ الحركات الجهادية الإسلامية من
مضمونها الجاد، ولهم تجارب كثيرة ليس هذا موضع الحديث عنها.
إننا نعلم أن بعض قادتكم على علم بمخططات الأمريكان وأهدافهم، ويتابع
هؤلاء القادة بقلق المفاوضات التي تجري بين الأمريكان والسوفيات بشأن أفغانستان، ولكن المشكلة الأكثر خطورة تتجلى في دور المنافقين - أو إن شئتم فقولوا
(الطابور الخامس) في صفوفكم - وهؤلاء الذين يعتمد عليهم الأمريكان كما
يعتمدون على غيرهم ممن قبلتم - غفر الله لنا ولكم - أن يكون لهم دور وأثر فعال
على مسيرتكم.
لقد بدأت الهمسات تتحول إلى صيحات تنذر بالخطر، وبدأ المنافقون يمهدون
لدورهم المرتقب بقولهم:
من الخير لنا أن نعود إلى ديارنا وأرضنا، ومن هناك سوف نستأنف الجهاد
ضد الغزاة الشيوعيين.. ولو أرادوا الجهاد لأعدوا له عدته، ولكنهم أصحاب أهواء
ومصالح، بينهم من يعرف الحكم فيمن يوالون أعداء الله من الأمريكان والأفغان
وغيرهم.
أيها الإخوة المجاهدون: إنكم تعيشون ظروفًا عصيبة، فلا ينفعكم الصمت في
هذه المرحلة الحرجة ولا تفوتنكم فرصة جمع صفوف المخلصين الذين يرفضون
الاستسلام والهوان.
وإذا كانت هذه هي أحوال الأمريكان ومواقفهم في القديم والحديث فالبلاشفة
أكثر منهم إجرامًا، وأشد كيدًا وأطول باعًا.. سلوا إخوانكم في تركستان، وألبانيا،
ويوغسلافيا، وبلغاريا، واليمن الجنوبي، والعراق عام ١٩٥٩م ماذا فعلوا بهم؟ !
لقد قتلوا الدعاة العلماء شر قتلة، وحولوا المساجد والمدارس الإسلامية إلى
مسارح واصطبلات ودور للسينما، وجمعوا نسخ القرآن وكتب الحديث، وأمهات
كتب التاريخ والفقه والتفسير وأضرموا فيها النيران، وهتكوا أعراض المسلمين،
واستخدموا أبشع أنواع التعذيب.. كانوا يدقون مسامير طويلة في الرأس حتى تصل
إلى المخ، كما كانوا يمشطون جسم المسجون بأمشاط حديدية حادة، ويصبون
البترول على الأحياء يم يشعلون فيهم النيران [١٦] .
ولم يدخل السوفيات أفغانستان ليخرجوا منها، ولذلك أسباب من أهمها: سعي
الشيوعيين الحثيث من أجل السيطرة على جميع بلدان العالم وتحقيق أحلام كارل
ماركس، وستالين، ولينين، ومن جهة أخرى فأفغانستان مجاورة ويخشون من قيام
نظام إسلامي فيها، وآثار هذا النظام سوف تنعكس على أحوال المسلمين
المضطهدين في الاتحاد السوفياتي، وسوف يكون هذا الحدث بمثابة إعصار يعصف
بالشيوعية والشيوعيين.. وقد بدأت أجهزة الإعلام العالمية منذ فترة تتحدث عن
تحرك المسلمين في تركستان حيث عجز أعداء الله خلال بضعة عقود عن اجتثاث
جذور الإيمان من قلوب المسلمين في هذا البلد الطيب المعطاء.
إن السيطرة على أفغانستان قضية حياة أو موت عند البلاشفة، وسوف
يستخدمون كافة الأسلحة التي يملكونها من أجل أن لا يسيطر المجاهدون على كابل
ويسقطون النظام الشيوعي الدخيل.. أما مفاوضات (جنيف) فليست أكثر من ذر
للرماد في العيون، بل وليس هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها شيوعيو الكرملين
إلى مثل هذه الوسائل.
لقد وافقوا على إقامة دولة للمسلمين في تركستان ثم نقضوا هذا الاتفاق عندما
قويت شوكتهم، وأرسل زعيمهم (لينين) رسالة مفتوحة إلى المسلمين في بخارى
وسمرقند يعدهم فيها بالاستقلال، ومنحهم حرية العبادة وعندما نجحت ثورته قلب
لهم ظهر المجن، وتنكر لوعوده ومواثيقه، وكذلك فعل (ستالين) عندما أعلن
النازيون الحرب على السوفيات وشعر أنه بحاجة إلى مساعدة المسلمين والنصارى
أو تحييدهم.
وهذه هي أخلاق الشيوعيين مع الناس جميعًا، وحتى مع رفاقهم، ويكفينا
مثالًا على ذلك ما فعلوه مع رفاقهم الأفغان في كابل:
في عام ١٩٧٩م قاد السوفيات انقلابًا عسكريًا ضد نائب رئيس الجمهورية
حفيظ الله أمين، لكن أمين أحبط الانقلاب وأعدم رئيس الجمهورية نور محمد تراقي.. وفي العام نفسه حاصر السوفيات قصر الرئاسة في كابل ودارت معركة بينهم
وبين الحرس الجمهوري انتهت بمقتل رفيقهم حفيظ الله أمين، ونصبوا (بابراك
كارمل) بدلًا عنه، وهاهم اليوم أطاحوا بكارمل ونصبوا رئيس المخابرات الجنرال
محمد نجيب أمينًا عامًا لحزب الشعب الديمقراطي، وإن كانوا لم يقتلوا حتى الآن
كارمل.
وجاء اختيارهم لرئيس المخابرات محمد نجيب الله متزامنًا مع حديثهم عن
الانسحاب من أفغانستان، فلماذا هذا الرجل بالذات.
يعلم المجاهدون أنه ليس بين الشيوعيين الأفغان من هو أشد بطشًا وأحط
أخلاقًا من نجيب الله هذا.. لقد كان يدفن الأحياء، ويمزق المصاحف أمام المعتقلين، ويمارس عملية القتل الجماعي، ويعيد للأذهان الأساليب الوحشية التي مارسها
البلاشفة ضد المسلمين في تركستان.
وفي رسالة بعثها نجيب الله إلى الزعيم السوفياتي غورباتشيف ردًا على برقية
تهنئة بعثها له بمناسبة تقلده منصبه الجديد، قال نجيب الله أنه سيعمل بكل ما لديه
من قوة وسيوفر كافة الإمكانات من أجل القضاء على (عصابات [١٧] اللصوص)
أي على المجاهدين. وإذن فأهداف السوفيات من مفاوضات جنيف واضحة وضوح
الشمس في رابعة النهار والمعلومات التي وصلتنا عن طريق المجاهدين وغيرهم
تؤكد بأن الأمريكان متفقون مع السوفيات على طبيعة المرحلة القادمة، وبعض هذه
المعلومات تقول: لقد كان الأمريكان على علم مسبق بالتغيير الذي حصل في كابول.
وقصارى القول فإن مهمة نجيب الله تتلخص فيما يلي:
١ - الضرب بيد من حديد وإعادة ترتيب أجهزة السلطة لتكون في مستوي
الأحداث القادمة.
٢ - شراء ذمم زعماء القبائل داخل أفغانستان وعلى الحدود الأفغانية
الباكستانية، وبعض الإخوة يرون أن زعماء القبائل لن يستجيبوا لمثل هذه الأساليب، ونحن نخالفهم ونرى أن معظم زعماء الأعراب والقبائل كانوا نقطة ضعف في
تاريخنا الإسلامي.
٣ - التسلل إلى صفوف المجاهدين عن طريق رجال المخابرات الذي
يلتحقون بصفوف المجاهدين ويزعمون أنهم فروا من الجيش الأفغاني الشيوعي،
ومهمة رجال المخابرات هؤلاء إثارة حوادث الشغب والاعتداء على المرافق العامة
في باكستان وتفجير الخلافات بين جماعات المجاهدين، ونقل كل ما يحصلون عليه
من معلومات إلى قيادة المخابرات في كابول.
وممن المؤسف أن للزعيم الشيوعي الجديد (نجيب الله) تجارب واسعة في هذا
المضمار، وقد حققت محاولاته السابقة بعض النجاح.
سادسًا - الكرامة وليس الخرافة:
يتحدث معظم المجاهدين عن كرامات أجراها الله على أيديهم، وقد كثر
الحديث حول هذه المسألة، ولو جمعنا أهم هذه الكرامات لما اتسعت لها عشرات
المجلدات، ولو اعترض معترض على ما يذكرون لقالوا له:
أوتنكر الكرامات وأخبارها ثابتة بأدلة لا يرقى إليها شك؟ ! .
ونحب في البداية أن يطمئن إخواننا المجاهدون بأننا نؤمن بالكرامات التي
يجريها ﷾ على أيدي أوليائه المتقين، ونحذر من أهل الاعتزال ومن
نحا نحوهم من أصحاب المدرسة العقلية الذين ينكرون الكرامات ويؤولون
المعجزات أو ينكرونها.. ولكن المشكلة عندنا تتعلق بالذين يخبرون عن هذه
الكرامات هل هم صادقون؟ !
والذي نراه أن بين المجاهدين كثيرًا من الخرافيين وهؤلاء لا نثق بهم ولا
برواياتهم، نعلم أنه يختلقون مثل هذه القصص وينسبونها لأنفسهم أو لشيوخهم،
ومن جهة أخرى فليس كل من تجاوز حدود أفغانستان مع باكستان أصبح مجاهدًا،
ومن جهة ثالثة فأولياء الله لا يتفاخرون في الحديث عن هذه الكرامات بل يخجلون
إذا تناقل الناس أخبارهم الطيبة ويخشون من الفتنة، ومن جهة رابعة كيف تكون
كرامات الأفغان مئات أضعاف معجزات الأنبياء ﵈، وكرامات الصحابة- رضوان الله عليهم -.
مرة أخرى نقول: بين المجاهدين الأفغان كثير من الصالحين قد يجري الله
﷾ على أيديهم بعض الكرامات.
سابعًا - الخاتمة:
أيها الإخوة الأحبة: إن ما نشعر به من قلق على مستقبل مسيرتكم في ميدان
الجهاد وما نكنه لكم من حب عميق أوجب علينا أن نتقدم إليكم بهذه النصائح
والخواطر، فإن أصبنا فبفضل الله ومنته، وإن أخطأنا فمن أنفسنا.
واعذرونا إن كنا قد أخطأنا في التعبير، أو تجاوزنا الحدود، فما أردنا إلا
الخير، ولا يجوز لأحد أن ينصب نفسه أستاذًا عليكم أو وصيًا على شؤونكم..
فأنتم المجاهدون الذين تبذلون أرواحكم رخيصة في سبيل الله، وتصبرون على
شظف العيش، ونعلم أن بعضكم يقتات أوراق الأشجار من شدة الجوع، ويحق لكم
إن شاء الله تقولوا للأتقياء:
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
يا أخوتنا الأحبة: لا تخشوا كيد الأمريكان والسوفيات، فإنهم لن يصنعوا
شيئًا إذا أراد الله لكم النصر والتمكين، قال تعالى: [إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ
لَكُمْ وإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] [١٨]
فتوكلوا على الله وحده لا شريك له ورصوا صفوفكم، وكونوا من الذين
وصفهم الله ﷾ في قوله:
[الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ] [١٩] .
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، اهزم أعداءك الشيوعيين في
أفغانستان، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، وانصر اللهم
عبادك المجاهدين في سبيلك.. اللهم انصرهم ووحد صفهم ولا تجعل بأسهم بينهم
إنك سميع الدعاء.
_________
(١) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(٢) رغم ذلك كله فلقد كان صاحب مواهب، وكان ناجحًا في تأدية الدور الذي تم اختياره من أجله.
(٣) رواه مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري ﵁.
(٤) متفق عليه.
(٥) سورة محمد، الآية: ٧.
(٦) - سورة آل عمران، الآية: ١٢٦.
(٧) سورة الأنفال، الآية: ١٠.
(٨) سورة الكهف، الآية: ١١٠.
(٩) متفق عليه.
(١٠) متفق عليه.
(١١) سورة الأنعام، الآية: ١٥٩.
(١٢) سورة الأنفال، الآية: ٤٥، ٤٦.
(١٣) سورة آل عمران، الآية: ١٣٧ والآية وردت في صدر الحديث عن نتائج غزوة أحد.
(١٤) في ظلال القرآن، المجلد الأول / ٤٥٦، دار الشروق، تفسير الآية ١٣٨ من سورة آل عمران.
(١٥) الدعاة الذين يرفضون الانقياد لغير الله ﷾ وقد اعتادت الدوائر الاستعمارية إطلاق هذه التسمية على كل جماعة متميزة مستقلة.
(١٦) من شاء مزيدًا من التفاصيل فليراجع كتاب (المسلمون وراء الستار الحديدي) لمؤلفه عيسى يوسف ألب تكين.
(١٧) عن صحيفة (دير شبيغل) الألمانية تاريخ ١٢/٥/١٩٨٦.
(١٨) سورة آل عمران، الآية: ١٦٠.
(١٩) سورة آل عمران، الآية: ١٧٣.
1 / 43
مجاعة فأين ابن الخطاب؟ !
التحرير
ذكرت مصادر في برامج الإغاثة الدولية أن عدد الذين يواجهون خطر الموت
بسبب الجوع وسوء التغذية في السودان قد ارتفع هذا العام إلى حوالي مليونين عن
العام الماضي ليصل إلى (١.٥) ملايين شخص.
وعزت المصادر الأسباب إلى اتساع رقعة المناطق المنكوبة والتي وصلت إلى
مرحلة الجفاف في جنوب السودان.
وتعاني بعثات الإغاثة من الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى من صعوبات
ومشاكل تحول دون إيصال قوافل الإغاثة التابعة لها والتي تحمل المواد الغذائية
اللازمة لسكان المناطق المنكوبة بسبب الحرب الأهلية الدائرة في الأقاليم السودانية
الجنوبية بالإضافة إلى التطورات التي حدثت في أوغندا مؤخرًا والتي أحدثت شللًا
في حركة المواصلات من وإلى هذه الأقاليم.
وقد عزلت هذه الظروف أقاليم الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال عن
العالم الخارجي مما يهدد بارتفاع عدد ضحايا الجفاف في هذه الأقاليم التي يصل عدد
سكانها إلى مليوني نسمة.
ونشرت وكالة الأنباء السودانية في ٩/١٠/١٩٨٥ الخبر الآتي:
(عثر فريق من سائقي الشاحنات على ٤٣ جثة لسودانيين يبدو أنهم ضلوا
الطريق في الصحراء الكبرى أثناء رحلة قصدوا فيها ليبيا بحثًا عن عمل.
ونسبت وكالة الأنباء السودانية إلى مصادر الشرطة في بلدة الفاشر الغربية
قولها: إن السودانيين هلكوا من الجوع والعطش.
وقالت مصادر الشرطة أيضًا: إن سائق الشاحنات عثروا على الجثث متناثرة
في الصحراء على بعد (٧١٢) كيلو مترًا شمال غرب الخرطوم.
ولم توضح الوكالة السودانية ما إذا كانت الجثث لجماعة واحدة ضلت الطريق
أو لعدة جماعات أو أفراد سلكوا الطريق بحثًا عن العمل، لكنها ذكرت أن وثائق
السفر والجوازات التي كانت بحوزتهم تظهر أن غالبيتهم قدمت من إقليم كردفان
جنوب غربي السودان وهو من الأقاليم التي عانت أكثر من غيرها بسبب موجة
الجفاف والقحط الحالية) .
وقفت مشدوهًا أمام هذين الخبرين وكيف لا أكون مشدوهًا وينتابني الفزع
والقلق وربع سكان السودان المسلمة مهددون بالموت جوعًا؟ ! .
بل والله رحت أتصور منظر ٤٣ جثة متناثرة في الصحراء ... متى بدأوا
رحلتهم، وماذا كانوا يحملون من زاد وماذا أفعل لو كان أخي أو ابني واحدًا منهم؟ .
كنت أذكرهم إذا جلست مع أفراد عائلتي على مائدة الطعام، وأذكرهم إذا
أويت إلى فراشي ... وكنت أتساءل:
ماذا قدم المسلمون في كل مكان لإخوانهم في السودان ... بل ماذا قدم الزعماء
والأغنياء السودانيون لإخوانهم؟ ! .
أما الزعماء السودانيون فأمرهم يدعو إلى العجب، وسوف أذكر فيما يلي
نماذج من مواقفهم المؤسفة.
كان كبيرهم السابق - الذي زعم أنه أمير المؤمنين - من أهم أسباب المجاعة.
لقد نهب وسلب وأظهر في الأرض الفساد، ويعيش الآن في رومانيا حياة
المترفين المترهلين، وله في بنوك أوربا عشرات الملايين من الدولارات ...
وكذلك كان من حوله يسلبون وينهبون دون حياء ولا خجل، بل وكانوا يضعون
معظم ما يقدم للجياع في السودان من مساعدات في جيوبهم أو في أرصدة في سرية
في بنوك أوربا ... وقد تاجروا، عليهم من الله ما يستحقون، حتى بنقل يهود
(الفلاشا) إلى فلسطين المحتلة.
- أما الأحزاب السودانية التي يربو عددها على الثلاثين فمشغولون عن
المجاعة بالانتخابات وتبادل الاتهامات والشتائم ... وتتناقل الصحف العربية
والعالمية أخبار الانتخابات بشيء من المرارة والسخرية، ويؤكد المطلعون بأن
مجموع ما أنفقته هذه الأحزاب في المعركة الانتخابية يبلغ بضعة مئات الملايين من
الدولارات، ولمعظم هذه الأحزاب ممولون من خارج السودان، ولهؤلاء الممولين
أهداف لا تبشر بخير.
- وفي جنوب السودان حرب شرسة تهدد وحدة السودان، وتنذر بخطر عظيم، وتمول الحبشة، ومن ورائها الاتحاد السوفياتي الصليبيين الذي يقودهم (قرنق) في
جنوب السودان ... وينفقون على هذه الحرب مئات الملايين من الدولارات.
وقصارى القول: فإن الأموال التي سرقت، والأموال التي أهدرت في
المعركة الانتخابية، والأموال التي تنفق على القتال في جنوب السودان ... هذه
الأموال وحدها كافية لحل مشكلة المجاعة ... ولو كان زعماء هذه الأحزاب يعيشون
مشكلة المجاعة لجمعوا هذه الأموال وشكلوا حكومة هدفها إنقاذ ربع السودان من
موت يهددهم.
أما غير السودانيين، فمما لا شك فيه أن كثيرًا من المحسنين في البلدان
العربية أنفقوا مما يحبون من المال وأرسلوا الوفود التي قدمت المساعدات إلى هذه
البلدان المنكوبة، ولكن حاجة المنكوبين أكبر من طاقة جمعيات البر الإسلامية..
فأين الذين يخسرون الملايين من الاسترليني في ليلة واحدة على موائد القمار؟ ! .
وأين الذين يشعلون الحروب هنا وهناك ويتحدثون عن تصدير ثورتهم ...
ماذا عليهم لو صدروا الخير والبر والإحسان؟ ! .
وهذه الدول التي تمول الأحزاب من أجل السيطرة على السودان ماذا يضيرها
لو دفعت هذه الأموال للمواطنين الجياع في السودان؟ ! .
لقد بات من المؤكد أن الاتحاد السوفياتي يمول الحزب الشيوعي كما يمول
بشكل غير مباشر التمرد في جنوب السودان، كما بات من المؤكد أن الولايات
المتحدة الأميركية تمول وتراهن علي حزب آخر، وهي التي كانت وراء مصالحة
(نميري) مع زعيم هذا الحزب ... وهناك أنظمة تمول أحزابًا أخرى، ولا نعتقد أن
نتائج المعركة الانتخابية سوف تكون في مصلحة السودان، مهما كانت هذه النتائج.
والمجاعة ليست قاصرة على السودان..
ذكرت دراسة أعدها البنك الدولي تحت عنوان: (الفقر والجوع ... مشكلات
واختيارات تتعلق بالأمن الغذائي في الدول النامية) .
ذكرت هذه الدراسة أن هناك أكثر من سبعمائة مليون شخص في العالم لا يجدون ما يقوم بأودهم، ومعظمهم يعانون من سوء التغذية، ومعظم هؤلاء
المنكوبين يعيشون في جنوبي آسيا والمنطقة الصحراوية من أفريقيا ... وهذا يعني
أن نسبة كبيرة منهم من المسلمين.
وجاء في هذه الدراسة أن العالم مليء بالطعام، ومع ذلك فالقمح يفسد في
مستودعات الولايات المتحدة ولا توزعه هذه الدولة المجرمة على الجياع البائسين
في العالم وكأنها - أي الولايات المتحدة - أخذت على عاتقها هلاك العالم ودماره إن
لم يكن بالأسلحة الفتاكة ففي منع قمحها وغيره من الأغذية عن الفقراء الذين
يتضورون جوعًا.
والاتحاد السوفياتي ليس أحسن حالًا من الولايات المتحدة ونحن لا نطالبه
بمساعدة المحتاجين البائسين، وإنما نطالبه أن يكف عن مساعدة المتمردين
الصليبيين في جنوب السودان ونطالبه السماح لجمعيات البر والخدمات الاجتماعية
بالقيام بدورها في الحبشة وإتيريا دون قيود من النظام الحاكم في أديس أبابا.
لقد فشل العالم من أدناه إلى أقصاه في وضع الحلول لمشكلة المجاعة، وها
نحن نسمع ونقرأ أخبار عدد كبير من الناس يموتون بسبب كثرة ما يأكلون وعدد
كبير يموتون لأنهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم! ! .
ألا ما أحوج عالمنا المعاصر إلى رجل كعمر بن الخطاب ﵁
وأرضاه - كان يأكل مع الناس في عام الرمادة [وهو عام أصاب الناس فيه قحط
ومخمصة] فإن جاعوا ظل جائعًا معهم، وكان عليه رضوان الله لا يتميز عن عامة
رعيته بطعام ولا بشراب ولا بلباس، وسارع إلى حمل الدقيق على ظهره عندما
رأى امرأة وأولادها يسهرون من شدة الجوع، وراح ﵁ يشعل
النار، وينفخ تحت القدر، وما نام أمير المؤمنين حتى شبع الصبية وناموا.
وقد أجاد حافظ إبراهيم عندما نظم هذه القصة في الأبيات التالية:
ومن رآه أمام القدر منبطحًا ... والنار تأخذ منه وهو يذكيها
وقد تخلل في أثناء لحيته ... منها الدخان وفوه غاب في فيها
رأى هناك أمير المؤمنين على ... حال تروع لعمر الله رائيها
يستقبل النار خوف النار في غده ... والعين من خشية سالت مآقيها
إن جاع في شدّة قوم شرِكتَهُم ... في الجوع أو تنجلى عنه غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته ... في الزهد منزلة سبحان موليها
فمن يساوي أبا حفص وسيرته ... أو من يحاول للفاروق تشبيهًا
لقد بدأ عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه - بنفسه ثم بأهله، وهكذا
يكون التغيير.
أما الذين يقبعون خلف السجائف والسنور ويتربعون على أرائك وثيرة
ويتقلبون في رغد من العيش، ويملكون الملايين خارج بلادهم. هؤلاء لن يصنعوا
شيئًا للجياع والبائسين لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ويخادعون الله والذين آمنوا.
قال تعالى:
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] .
والإسلام الذي صنع عمر بن الخطاب لا يزال كما أنزله الله ﷾
نقيًا طاهرًا، وهو الذي صنع عمر بن عبد العزيز، وعماد الدين زنكي، ونور
الدين الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم وغيرهم.
1 / 53
كيف يحارب الإسلام من الداخل
التحرير
أنى ألتفت إلى بلد من بلدان العالم الإسلامي وجدت جهات كثيرة تحارب
الإسلام، وتحاول - بكل ما تملك من طاقات ووسائل - هدم أركانه وزعزعة بنيانه. ومن أشد هذه العداوات وأكثرها كيدًا ودهائًا وخبثًا تحالف أعداء الإسلام مع
المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون ويحسبون كل صيحة عليهم.
ومن هؤلاء المنافقين كثير من زعماء الصوفية في عصرنا الحديث وسوف
نذكر في هذه الأسطر القليلة أبرز سماتهم وأهم تناقضاتهم.
- يلبسون لبوس الرهبان ويتظاهرون بالزهد والورع والتقوى ويزعمون أن
الدنيا لا تساوي عندهم جناح بعوضة، ويتباكون من خشية الله تعالى.
- يكرهون العلم والعلماء وينفرون من أمهات الكتب الإسلامية ويناصبون
الفقهاء والمحدثين العداوة والبغضاء ويسفهون كل من يطالبهم بذكر الأدلة الشرعية.
- يقدسون شيوخهم فيُقبّلونَ أيديهم وأرجلهم ويسجدون أمامهم ولا يردون لهم
أمرًا، ويرون أن هؤلاء الشيوخ يعلمون الغيب، وكل ما يصدر عنهم من قول أو
فعل لا يجوز مخالفته أو التشكيك فيه.
- هم وحدهم الذين يفهمون القرآن والحديث والفقه؛ لأنهم تلقوا هذه العلوم
عن شيوخهم، وشيوخهم تلقوا هذه العلوم عن الأوتاد والأبدال والأقطاب الذين
يشتركون في تصريف أمر هذا الكون، ويعلمون الباطن في حين لا يفهم علماء
التفسير والحديث من هذه العلوم إلا الظاهر، والظاهر لا يغني من الحق شيئًا.
- يحبون الفلسفة، ويعشقون علماء الكلام من الملاحدة في القديم والحديث؛
لأنهم يتفقون معهم في كثير من أفكارهم الخطيرة كوحدة الوجود والحلول.
ولست في صدد الحديث في هذا التعليق عن أفكار غلاة الصوفية وتصوراتهم
وأخلاقهم، فلقد سبقني إلى هذا الفضل علماء كبار صدقوا ما عاهدوا الله عليه،
وتركوا لنا أسفارًا نفيسة بينوا فيها فساد اعتقاد غلاة الصوفية وكشفوا أسرارهم،
وهتكوا أستارهم.
وإن الذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر ما أراه من حرص كثير من أجهزة
الإعلام - التي تحارب الإسلام والمسلمين - على تلميع وجوه قادة غلاة الصوفية
وإحاطتهم بهالة من التقديس والتعظيم:
فأنت تقرأ في صحيفة علمانية أخبار أحد زعماء الصوفية وتصريحاته ومواقفه
المزعومة في خدمة الإسلام والمسلمين وتشاهد صورة الشيخ إلى جانب التصريح
الذي أدلى به ... وفضلًا عن هذا وذاك تحتل الصورة والتصريح أهم مكان في
الصحيفة، وتبحث عما وراء الأسطر فتعلم بأن الشيخ المزعوم يمد الصحيفة بأرقام
خيالية من المساعدات المادية، ولا ندري من أين يأتي بها؟ ! .
وفي صحيفة أخرى أو جهاز إعلام آخر نلاحظ أن الاختيار وقع على هذا
الزعيم الصوفي ليكون عونًا للعلمانيين في معركتهم مع دعاة الإسلام، ولهذا يتبوأ
الشيخ وتلامذته أعلى المناصب وأرفع الدرجات، وتغدق عليهم الأموال وتقدم لهم
المنح والأعطيات ...
وبعد حين من الزمن يصبح الشيخ وأعوانه من كبار أصحاب رؤوس الأموال، ويمتلكون المزارع والمتاجر والعقارات، ويعيشون حياة السلاطين والأباطرة،
وهم الذين يتحدثون في دروسهم ومواعظهم عن الزهد والورع وخشونة العيش.
ومن المؤسف أن هؤلاء الذين تم اختيارهم لأعلى المناصب الدينية ليسوا من
العلماء، بل إنهم من أجهل الناس فيفهم كتاب الله جلَّ وعلا، وفي معرفة الحديث
الصحيح من الضعيف أو الموضوع ... ولا غرابة في ذلك فأعداء الإسلام يخشون
من العلماء العاملين ويحرصون على شراء ذمم الجهلة المتقاعسين الذين يفتون عن
غير علم فيصلُّون ويُضلّون.
وقد سئل هؤلاء الجهلة الصوفيون عن أسباب تعاونهم مع أعداء الإسلام ولماذا
يبطش الملاحدة بالدعاة إلى الله ويوادون الصوفيين، فأجابوا:
نحن لا نتدخل بالسياسة، ونتودد إلى الناس جميعًا، ونخاطبهم بالحكمة
والموعظة الحسنة.
وقد كذبوا في هذه وتلك، فهم ينافقون لأعداء الإسلام، ويتذللون لهم في حين
يقفون من العلماء والمحدثين موقفًا آخر ليس فيه مودة ولا ليونة.
وفي معركة دعاة الإسلام مع الملاحدة والطغاة، انحاز غلاة الصوفية إلى
جانب الملاحدة من الشيوعيين والرأسماليين والعلمانيين، ولو أنهم وقفوا على الحياد
لالتمسنا لهم الأعذار وسكتنا عنهم.. لكنهم دخلوا السياسة من أوسع أبوابها، وشنوا
حملة ضد الدعاة إلى الله، وباعوا أنفسهم للشيطان لقاء دريهمات معدودات، كما
باعوا آخرتهم بدنياهم، وإذا هلك شيطانهم الأول استبدلوه بشيطان آخر قد تتناقض
مواقفه وأقواله مع سلفه، ولا يخجلون من تغيير المواقف والولاءات.
إن قادة الفرق الصوفية يفسدون داخل الصف الإسلامي، ولا يصلحون،
ويعرف أعداء الإسلام كيف يتعاملون معهم، وكيف يستخدمونهم في حربهم ضد
الإسلام والمسلمين، فبالأمس القريب استخدمهم الانكليز والفرنسيون عندما
استعمروا معظم بلدان العالم الإسلامي، وانتسب بعض زعمائهم إلى المحافل
الماسونية، وفي مقدمتهم ذلك المخرف الذي أمر بحرق كتب شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ان القيم كما أمر بنشر كتب ابن عربي وابن الفارض وغيرهما من أساطين
الصوفية.
إن شباب الإسلام مدعوون إلى رصد هذه الظاهرة وسبر غورها وتحذير
الناس من أخطارها.
[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] .
1 / 56
أدب وتاريخ
موقع الأدب
في الثقافة الإسلامية المعاصرة
منصور الأحمد
لقد كان الأدب، وما زال، المرآة التي تعكس تفكير المجتمع، وتشير إلى
مكامن الضعف والقوة في ثقافته وحضارته، وكذلك كان الأدب هو المبشر
بإرهاصات النهضة لأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم.
ولقد تنبهت الشعوب - على ضوء تقدم الدراسات في مختلف المجالات - لما
للأدب من أثر فعال في صياغة وتوجيه الأفكار، وإحلال قيم وأفكار جديدة محل
أخرى قديمة، فاستخدم الأدب من أجل ذلك أكبر استخدام، وتوسل أصحاب الأفكار
والعقائد به، للوصول إلى عقول الجماهير من الناس من أقرب طريق وأسهله.
وإذا ألقينا نظرة عجلى على تاريخنا الأدبي، وجدنا أن الإسلام يوم جاء كان
للعرب حياتهم الاجتماعية الخاصة، وكانت لهم قيمهم الأدبية التي ترتكز على الفخر
بالأمجاد الشخصية أو القبلية، وإن كانت مجانبة للحق والعدل، وعلى الإشادة
ببعض العادات المرذولة كشرب الخمر ولعب الميسر، فلما دخل العرب في الدين
الجديد؛ حدث في حياتهم وأدبهم انقلاب شامل، وشعروا برحابة العالم، وبُعد
الأهداف التي قدمها الإسلام إليهم، وأدركوا أنهم أمناء على تقديم هذه الرسالة للناس
كافة، وأنهم خرجوا من جزيرتهم ليحرروا الناس جميعًا من العبودية لغير الله،
وليزيلوا العراقيل - أيا كانت - من طريق البشرية حتى تحس ببشريتها وتشعر
بتكريم الله لها حين خلقها:
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: ٤٢] .
ولسنا نريد من إشارتنا إلى بعض عادات العرب التي ذمها الإسلام، كاعتداء
القوي علي الضعيف، وشرب الخمر، ووأد البنات، أن نجردهم من كل فضيلة،
ونقع في ما وقع فيه الشعوبيون الذين دفعهم كرههم لعنصر العربي - لحاجات في
نفوسهم - أن نسبوا إليه كل مثلبة، وجردوه من كل منقبة، بل إننا نرى أن الله
ادخر فضله لهذه الأمة بأن جعلها أمينة على الرسالة الخاتمة، عندما لم يكن غيرها
من الأمم أهلًا لذلك.
وهكذا، اندفع العرب بالإسلام، وقدموا للعالم قيمًا جديدة خالدة، تمثلت في
قيم العدل، والحرية، والسماحة، والبعد عن التكلف، والتواضع، الإنصاف من
أنفسهم، وحملوا معهم البيان الخالد الذي حفظ لهم لغتهم ووحدتهم، وأمدهم بعناصر
الحياة لهذه القيم العظيمة، فتأثر أدبهم من شعر ونثر وخطابة، بهذا البيان، واستمد
منه عناصر العظمة والخلود المتمثلة بنصاعة التعبير وقوة التأثير.
وإن المتأمل بإنتاج مشاهير الأدب العربي في عصوره الزاهرة من شعراء
وكتاب وخطباء، يتلمس بكل وضوح أثر القرآن الكريم وأثر الإسلام في أدبهم.
إن الأدب شأنه شأن الأمم، يقوى ويزدهر إذا قويت، ويضعف ويجمد إذا
انحطت وضعفت، وذلك لأنه انعكاس لذاكرة الأمة ينشط بنشاطها ويتراجع
بتراجعها.
وقد مرت الأمة الإسلامية - في تاريخها الطويل - بفترات ضعف خضعت
فيها للكثير من المؤثرات الغريبة عنها، وانعكس ذلك على أدبها، وكما كانت هذه
الأمة بما تدخر في كيانها من رصيد، وما تحمله من خميرة كامنة في ذاتها، تصد
اندفاع الهجمات الخارجية، وتتخلص من عدوان المغيرين، وتسلط الطغاة
والطامعين، فكذلك كان أدبها صورة معبرة عن آمالها وأهدافها.
وفي عصر النهضة الأدبية الحديثة، وجدنا أن الذين قامت على أكتافهم هذه
النهضة قد اتخذوا المصادر الإسلامية الأصيلة منطلقًا لهم، فجاء أدبهم امتدادًا
للعصور الزاهرة للأدب، يبشر بعودة الأمة إلى تراثها وأصالتها بعد أن ابتعدت
عنها وجمدت نتيجة لمؤثرات كثيرة لا مجال لبسطها.
ولكن سيطرة المستعمرين الغربيين، وما أعقب ذلك من محاولاتهم الدؤوبة
للقضاء على عناصر القوة في كيان هذه الأمة والمتمثل في عقيدتها الإسلامية،
جعلهم يستنبتون عناصر تدين لهم بالولاء، وترتبط مصالحها بمصالحهم، بعيدًا عن
آمال أمتها وتاريخها فدرس هؤلاء ثقافة الغرب الغازي، وأورثهم ذلك احتقار
تاريخهم، بالإضافة إلى كثير من نصارى العرب الذين يرتبطون مع هذا الغازي
برباط العقيدة، فوجدوا أن مما يقوي سيطرتهم على المسلمين أن يعملوا على
إضعاف الثقافة الإسلامية.
وهكذا لم يلبث جحافل المستعمرين أن تجلو عن أكثر ديار المسلمين، ولكنها
لم تخرج إلا بعد أن ائتمنت على تطبيق خططها وأفكارها هؤلاء الذين رعتهم
وربتهم وربطت مثيرها بهم، فأحلوا - بالقوة - أفكار الغرب وتقاليده وثقافته محل
الثقافة الإسلامية، فأهملوا النقاط المضيئة من التاريخ الإسلامي، وضخموا
الجوانب السلبية منه، وشوهوا حقائقه، ونسفوا التشريعات الإسلامية وأحلوا محلها
قوانين الغرب الكافر وتشريعاته الوثنية، وفصلوا الأدب عن العقيدة، وابتعدوا به
عن الأخلاق تحت شعارات براقة حينًا كمقولة الفن للفن.
وتحت أمثال هذه الذريعة وجدنا أن الذين أوكل إليهم وضع مناهج الأدب،
وأعيرت لهم منابر الكتابة يتعمدون طمس كثير من الآثار الأدبية الإسلامية،
ويتجاهلون كثيرًا من الأسماء التي كانت تصدر في أدبها عن مبدئية إسلامية
واضحة، في الوقت الذي يبرزون فيه كل ما شذ من الأدب قديمًا وحديثًا، فيلمّعون
أدب الشهوة والجنس باسم (الواقعية) ويشيدون بالتمرد والشذوذ عن العقائد والأخلاق
باسم التطور والتجديد، وإذا ما نبغ شاعر أو كاتب يسب عقيدة الأمة ويتطاول على
مقدساتها ويتبرأ من تاريخها ويقذف قيمها وتراثها، وينسلخ عن أهدافها، فهو
عندهم الذي تفتح له المغاليق، ويحوز قصب السبق فتفتح له صدور الصحف
والمجلات، وتتسابق فيما بينها للظفر منه بالتحليلات والمقابلات، وتنقل تنطعاته
وحذلقاته موجات الأثير عبر الإذاعات.
وهكذا أعقب خروج الاستعمار العسكري من البلاد الإسلامية انتكاسة في أدب
هذه الأقطار، وذوبان في ثقافة المستعمر وقيمه وتقاليده، وشيوع للبدع الأدبية التي
تتخبط فيها الحضارة الحديثة مثل: (الوجودية) و(الواقعية) ...
وفي هذا الوقت الذي تردت فيه أوضاعنا إلى ما نلاحظه من تفرق وتمزق،
وتعددت فيه مشاربنا من غبر ومن شرق، وكدنا ننسى ما يربطنا بتراثنا وعقيدتنا،
مطلوب من المسلمين - وقد لاحت بوادر رجوعهم إلى دينهم - أن يحلوا أدبهم ما
يليق به من مكانه وأن يسدوا الفراغ الهائل الذي نتج عن شيوع كل ما هو غير
إسلامي من صنوف التعبير والكتابة ومخاطبة الجماهير وذلك لأن الأدب الذي يعبر
عن ذاتية هذه الجماهير أدب فقير مجدب. وأن الأدب المجرد من العقيدة التي
اختلطت بدم معتنقيها، وتخللت ما بين مشاعرهم وعواطفهم لا يجد له استجابة،
ولا يحرك أحدًا، بل هو أدب هجين لا تكتب له الحياة.
لقد آن الأوان أن يؤخذ زمام المبادرة من المفسدين في الأرض، ويطرح
للناس أدب يعبر عن تطلعات الشخصية الإسلامية، ويشبع شوقها إلى نماذج نظيفة
من الأدب الذي يقودها في الأوقات العصيبة.
إننا نطرح - عبر هذه المجلة - الدعوة لكل من يأنس من نفسه القدرة على
أن يضيف شيئًا في مجال الإبداع الأدبي، وسوف نعمل - بإذن الله - على تشجيع
كل المواهب الشابة التي تُزوى عنها صفحات المجلات والصحف العلمانية،
مرحبين بكل الأنواع الأدبية من شعر ونثر وقصة، رائدنا في ذلك أن يكون هؤلاء
الكتاب كما وصفهم الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: (مختارات من أدب العرب):
(كتابًا مؤمنين.. ملكتهم فكرة أو عقيدة، أو يكتبون لأنفسهم أو إجابة لنداء
ضميرهم وعقيدتهم، مندفعين منبعثين، فتشمل مواهبهم ويفيض خاطرهم،
ويتحرق قلبهم، فتنثال عليهم المعاني، وتطاوعهم الألفاظ وتؤثر كتابتهم في نفوس
قرائها، لأنها خرجت من قبل فلا تستقر إلا في قلب) .
1 / 58
البلاغة والبيان
التحرير
قال علي بن عيسى الرمَّاني:
البلاغة ما حط التكلف عنه، وبنى على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه
من القافية بأن جمع مع ذلك سهولة المخرج، مع قرب المتناول، وعذوبة اللفظ،
ومع رشاقة المعنى، وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء، وحسن الوصل
كحسن القطع، في المعنى والسمع وكانت كل كلمة قد وقعت في حقها، وإلى جنب
اختها، حتى لا يقال: لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى! وحتى لا يكون فيه
لفظ مختلف، ولا معنى مستكره، ثم ألبس بهاء الحكمة، ونور المعرفة، وشرف
المعنى، وجزالة اللفظ، وكانت حلاوته في الصدر، وجلالته في النفس، تفتق
الفهم، وتنثر دقائق الحكم، وكان ظاهر النفع، شريف القصد، معتدل الوزن،
جميل المذهب، كريم المطلب، فصيحًا في معناه، بينًا في فحواه، وكلُّ هذه
الشروط قد حواها القرآن، ولذلك عجز عن معارضته جميع الأنام.
ووصف العتابي رجلًا بليغًا فقال:
كان يظهر ما غمض من الحجة، ويصور الباطل في صورة الحق، ويفهمك
الحاجة من غير إعادة ولا استعانة.
قيل له: وما الاستعانة؟
قال: يقول عند مقاطع كلامه:
يا هناة، واسمع، وفهمت! وما أشبه ذلك. وهذا من أمارات العجز، ودلائل
الحصر! وإنما ينقطع عليه كلامه، فيحاول وصله بهذا فيكون أشد لانقطاعه.
وقال الجاحظ:
البيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون
الضمير، حتى يقضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائنًا ما كان
ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها
يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت
عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
زهر الآداب: ١٠٠/١٠٦/١٠٧.
1 / 60
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
بقلم: محمد الناصر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي
ونسلم على رسول الله ﷺ وبعد:
فإن الشعر الجاهلي ... شعر قديم متصل الحلقات يصور حياة العرب قبل
الإسلام، فهو سجل العواطف والمفاخر، سجل العصبيات والحروب، فيه أيام
العرب ووقائعهم، وتدوين لأصولهم وأنسابهم، يقول أبو هلال العسكري [١]:
(لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارهم
فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها) .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁:
(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه) [٢] .
وللشعر منزلة عظيمة عند العرب وللشاعر مكانة لا تضاهى [٣]، فإذا نبغ في القبيلة شاعر هنأتها القبائل، وصنعت الأطعمة، وأعلنت الأفراح ... لأنه حماية لأعراضهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج [٤] .
وما تكاد القصيدة تلقى حتى تسير بها الرواة، وتنشدها المجالس، قال
المسيب بن علس [٥]:
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
فقصيدته تنشر بين القبائل ويرددها الناس مستمعين لها ومتمثلين بأبياتها.
والأمثلة كثيرة لشعراء حموا أعراض قبائلهم، ولشعراء تشفعوا لقبائلهم، أو
لأفراد منها فشفعوا، وشعراء رفعوا الوضيع ووضعوا الرفيع ...
فالأعشى يقدم مكة ويمدح المحلَّق ويذكر كرمه وشرفه وحسن صفاته بعد فقر
وخمول ذكر ... ثم تحدث عن بناته فقال:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذيم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق
فما إن أتم قصيدته حتى انسل الناس إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل
قبيلة يخطبون بناته العوانس فلم تمس منهن واحدة إلا عصمة رجل أفضل من أبيها
ألف ضعف [٦] .
وكان بنو أنف الناقة يأنفون من هذا اللقب حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
صار اسمهم شرفًا لهم.
ولقد كانت القبيلة تحرص على رواية شعرها فتعلم صغارها الشعر وحفظ
أشعار القبية خاصة، كما كانت تفعل تغلب في تحفيظ أبنائها معلقة عمرو بن كلثوم، فهجاها شاعر بكر بقوله:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... يروونها أبدًا مذ كان أولهم
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ... يا للرجال لشعر غير مسلوم [٧]
وفي الإسلام يأذن الرسول ﵊ لحسان بن ثابت أن يهجو
كفار قريش، وقال: «اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم
ثم اهجهم وجبريل معك» [٨] .
وفي السيرة النبوية أن الرسول ﷺ قال لحسان - رضي
الله عنه -: «لشعرك أشد عليهم من وقع النبل»، مما يبين لنا أهمية الشعر
في الذب عن الدعوة وأصحابها.
وبعد هذه الشواهد، والأمثلة في مصادر الشعر كثيرة، يتبين لنا مدى اهتمام
العرب بالشعر، فهو خير مصدر لتصوير حياتهم، وهو ديوان العرب كما عرفنا،
ولذلك يمكننا استخراج مفهوم الحياة الجاهلية، في مختلف مظاهرها من هذا الشعر، ثم من ردود القرآن الكريم على الانحراف حينًا لتقويمه وإنكار السلبيات المطلقة
حينًا آخر ...
ولقد حاولت الرجوع إلى المصادر الموثقة للشعر الجاهلي كالمفضليات
والأصمعيات والمعلقات وطبقات فحول الشعراء والشعر والشعراء ... وغيرها
لتكوين صورة واضحة لما كان عليه القوم في جاهليتهم من مصادر الشعر أولًا
وكتب السيرة والتاريخ التي وصفت لنا حياة أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم بنور
الإسلام.
وسترى بعونه تعالى أن كثيرًا من مظاهر حياتنا الحديثة وما فيها من عادات
وتقاليد ما هي إلا امتداد لمفهوم الجاهلية العربية ... جاهلية ما قبل الإسلام ...
تحديد العصر الجاهلي:
قد يتبادر إلى الذهن أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب،
ولكن البحث يظهر أن الأدب الجاهلي يعود إلى قرن ونصف قبل البعثة النبوية،
يقول الجاحظ [٩]:
(أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن ... فإذا استظهرنا الشعر
وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية
الاستظهار فمائتي عام) .
وما قبل هذا التاريخ قد يشوبه الغموض ولا يعطينا صورة واضحة عن الحياة
الجاهلية مثل إمارة الغساسنة ثم المناذرة، ومملكة كندة في شمالي نجد ...
ومعلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة [١٠] .
والسيد محمود شكري الألوسي يحدد فترة الجاهلية بقوله: (وهي الزمن بين
الرسولين، تطلق على زمن الكفر مطلقًا، وعلى ما قبل الفتح وعلى ما كان بين
مولد النبي والبعث) [١١] .
وعلى العموم فإن الفترة الجاهلية التي تعنينا هي فترة ما قبل بعثة الرسول -
﵊، وهي لا تمتد أكثر من مائتي عام، لأن ما وراء ذلك من
الزمن يشوبه الغموض ولم يصل إلينا من الشعر الجاهلي قبل تلك الفترة شيء
نطمئن إليه.. وفترة ما قبل الإسلام مباشرة هي الفترة التي ورثنا عنها الشعر
الجاهلي ... وهذا العصر هو الذي بزغت عيه شمس الإسلام، وصور القرآن
الكريم وأحداث السيرة، كثيرًا من معالمه وصراع الحق مع الباطل وزيفه.
معنى الجاهلية:
أ - في كتب اللغة والأدب:
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مادة: جهل تعني الجهل الذي هو خلاف
العلم ... وقد جهل فلان جهلًا وجهلة.
وتجاهل: أي أرى من نفسه ذلك وليس به.
واستجهله: عده جاهلًا واستخفه أيضًا.
والمجهلة: الأمر الذي يحملك على الجهل.
والمجهل: المفازة لا أعلام فيها [١٢] .
وفي المعجم الوسيط: جهلت القدر جهلًا: اشتد غليانها، وجهل على غيره
جهالة وجهلًا: قسا وتسافه، وجاهله: سافهه.
وفي القرآن: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] .
والجاهلية ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة.. والمجهلة:
ما يحمل الإنسان على الجهل وجاء في الحديث الشريف: «الولد مبخلة مجبنة
مجهلة» .
وهكذا (نتبين أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة الإسلام
التي تدل على الخضوع والطاعة لله ﷿ وما يطوى فيها من سلوك خلقي
كريم) [١٣] .
وقد تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم وليس ضد العلم إلا أن
العصر الجاهلي عرف كثيرًا من الناس عرفوا بالحلم والتسامح مثل قيس بن عاصم، والأحنف بن قيس، وغيرهما حتى ضربت بحلمهما الأمثال [١٤] ....
وجاء في معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي لا يتسافه أحد علينا ... وقد يتضمن البيت معنى الظلم والطيش.
ب - وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بهذا المعنى، معنى
الحمية والطيش والغضب، ففي سورة البقرة: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ]، وفي سورة الأعراف: [خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] .
وفي الحديث الشريف: أن الرسول ﵊ قال لأبي ذر،
وقد عير رجلًا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . أي فيك روح الجاهلية وطيشها
تغضب فلا تحلم.
والذي يظهر لنا أن الجاهلية كانت تعني الجهل لمعنى تجاوز الحق وعدم
معرفته، وتعني أيضًا الحمية حمية الجاهلية بما فيها من ثأر وطيش وحمق وسفه
وكبر.
وأصبحت تطلق على العصر السابق للإسلام مباشرة، وكل ما فيه من وثنية
وأخلاق قوامها الحمية واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات [١٥] .
أما تعبير الجاهلية في كتاب الله فقد جاء في تفسير هذه العبارة في الآية: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] [١٦] .
(ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي
عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها
الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان من أهل الجاهلية يحكمون به من
الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم) .
وجاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لسيد قطب ﵀:
(فالجاهلية كما يصفها الله ويحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي
عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في
مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله) .
ثم يقول ﵀ أيضًا:
(إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع
يوجد بالأمس، ويجد اليوم، ويوجد غدًا، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام،
والمناقضة للإسلام ... فالعبودية لغير الله جرت أهل الجاهلية إلى كل الضلالات
السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد) [١٧] .
وهي بناء على ذلك تعني مفهوم الضلالات، والسفه، والطيش، وتحكيم
العادات والتقاليد، بعيدًا عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة
الاجتماعية، وتتلون بشعارات براقة كثيرة، قد تخدع وتسيطر على العقول عندما
تضعف آصرة العقيدة، والتوحيد وتحكيم شرع الله.
وسنتابع هذا المفهوم، مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي يصور لنا حياة
العرب قبل الإسلام في حروبهم وثاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم وخرافاتهم،
مما سنجمله في الفصول التالية بإذنه تعالى:
١-الأول: الحياة السياسية أو الصراع القبلي.
٢-الثاني: الحياة الاجتماعية، وما فيها من عادات وتقاليد.
٣-الثالث: الحياة الدينية، وما فيها من عقائد وتصورات وخرافات.
٤-الرابع: الحياة الاقتصادية وأمور حياتهم ومعاشهم.
الفصل الأول
الحياة السياسية عند العرب
أو: الصراع القبلي
أ - لمحة موجزة عن حياة العرب قبل الإسلام:
إن العرب ينحدرون من أصلين كبيرين: قحطان وعدنان [١٨] .
١ - عرب الجنوب:
وكان موطن قحطان باليمن ثم تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان، وكان منهم قبيلة حمير ومنها قضاعة، ومنهم كهلان وأشهرهم
طيء وهمدان وكندة ولخم والأزد، وأولاد جفنة ملوك صحراء الشام.
هاجرت هذه القبائل بعد انهيار مأرب عام (١٢٠ق. م) فسكنت الأزد المدينة، وكان منها الأوس والخزرج، ومنهم من نزل على ماء غسان في الشام وأسسوا
إمارة الغساسنة والموالية للروم، أما لخم فقد سكنت الحيرة، واصطفتهم فارس إلى
جوارها وبقي في اليمن كثير من قبائل حمير وكندة وغيرهم.
ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت غالبًا جوار الأمم المتحضرة ويذكر
المؤرخون أن عرب الجنوب كانت لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل
وتشييد السدود وكانوا يؤلهون الكواكب والنجوم.
٢- عرب الشمال:
وكان موطن عدنان مكة المكرمة وما جاورها من أرض الحجاز وتهامة، وقد
تشعبت بطون هذا الفرع من نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل - عليه
السلام -.
ثم هاجرت بعض هذه البطون إلى مواطن الخصب والكلأ.. فنزلت ربيعة
شرقًا، فأقامت عبد القيس في البحرين، وحذيفة في اليمامة، وأقامت سائر بكر بن
وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة
بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.
وأما فرع مضر بن معد بن عدنان: فقد نزلت سُليم بالقرب من المدينة
وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت ساذر هوازن شرقي مكة المكرمة، وسكنت
أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حورا [١٩] .
وبقيت معيشة هذه القبائل صحراوية بدوية، ولم تهيء لهم هذه الحياة
الاستقرار إلا في بعض الواحات في الحجاز.. ويظهر أن عرب الشمال لم ينجحوا
في وحدة سياسية قبل الميلاد، فطبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق [٢٠] .
٣- القبائل العربية:
النظام القبلي:
وهكذا (استقرت القبائل العربية في الجزيرة وتجاور العدنانيون والقحطانيون،
ولم يكن لهذه القبائل دولة تشمهم، ولا نظام موحد يسودهم بل كانت كل قبيلة تكون
وحدة اجتماعية وسياسية مستقلة) .
(وكانت هذه القبائل متشابهة في تكوينها ونظامها، فكل قبيلة تقوم على أساس
اشتراك أبنائها في الأصل الواحد والموطن الواحد. والرباط الأقوى في القبيلة هو
العصبية، والعصبية كما يعرفها ابن خلدون في مقدمته: «النصرة على ذوي
القربى وأهل الأرحام أن ينالهم أو تصيبهم هلكة) .
(وأفراد القبيلة متضامنون كلهم في المصائب والمسرات فقالوا: في الحرب
تشترك العشيرة) .
(ثم نشأ عن طبيعة الجزيرة العربية وحتمية انتقال العرب وراء الماء وطلبًا
للكلأ، نشأ النظام القبلي كضرورة اجتماعية، وحيوية حتى يتنقلوا في جماعات
عشائر توفر لأفرادها الحماية والأمن.. ولم يقتصر وجودها على البادية بل تعداها
إلى الحواضر على قلتها وتناثرها في الصحراء المترامية) [٢١] .
ولقد كانت هيمنة القبيلة هي الأساس في البادية والحاضرة حيث أن (هذه
القبائل لم تفقد صورتها القبلية فقد ظل لكل منها منازلها الخاصة ومعاقلها الصغيرة،
وسيادتها وشئونها الخاصة، ومرد ذلك إلى أن رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة
المدينة حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها) [٢٢] .
فوحدة القبيلة كانت أمرًا مقدسًا ترتب عليه طائفة من التقاليد يحدد علاقة
الأفراد مع بعضهم.. وعلاقة الأفراد بقبائلهم لأن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي
عرفها المجتمع الجاهلي في البادية والمدن.. وكان أفراد القبيلة يؤلفون أسرة واحدة
قائمة بذاتها لا اختلاط فيها، متجانسة لا تباين بين أفرادها.. يعمل الجميع في
سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها [٢٣] .
العصبية:
وقد آمنت القبيلة بوحدتها وجعلت ذلك أمرًا مقدسًا، ترتب عليه طائفة من
التقاليد الاجتماعية، تحدد واجبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالمًا أو مظلومًا.
ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون
الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل
اعتبار.
يقول دريد بن الصمة [٢٤]:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فالشاعر يرى رأي قبيلته غزية، بل يتنازل عن رأيه من أجل رأيها، ولو
كان خطأً.. فغيه وضلاله، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها، وأمعن في ضلاله، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه.
والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله [٢٥]:
حدبت علي بطون ضبة كلها ... إن ظالمًا فيهم وإن مظلومًا
وعلى الفرد أن يحترم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سببًا في تمزيق
وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق، ولذلك اتخذت
القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفرادها إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض
أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم
للأخلاق آنذاك، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي [٢٦] .
شيخ القبيلة:
فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة
ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به، وشيخ القبيلة
يكون عادة شيخًا مجربًا هو سيدها له حكمة وسداد رأي وسعة في الثروة.. وهو
الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخري، ويعقد
الصلح والمحالفات ويقيم الضيافات، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء
كليب التغلبي عندما بغى وطغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سببًا في
نشوب حرب البسوس المشهورة.
ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها، كالشجاعة والحسب والكرم
والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة
وما تدفعه من ديات، وغالبًا يرث الشيخ سيادته عن آبائه [٢٧]، وإلى ذلك يشير
معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول [٢٨]:
إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد، لهم مجد أشم تليد
ألفوا أباهم سيدًا وأعانهم ... كرم وأعمام لهم وجدود
نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها، وتغفر ذنبها وتسود
وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به، وإذا تعود نعود
ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفًا لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سيد
بني شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته [٢٩]:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية، والصفايا جمع
صفية وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة، والنشيطة ما أصابه
الجيش في طريقه قبل الغارة من فرس أو ناقة، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو
الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام.
الاعتزاز بالأنساب والقوة:
ولقد آمنت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم
قبيلة أخرى، وهم يفضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات،
وهم أجدر الناس أن يكونوا خير الناس، ولعل هذا ما يفسر لنا تلك المنافرات التي
امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد
شعرائه [٣٠] .
ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب، والفخر بالآباء،
والأجداد [٣١] حيث يقول:
١- ورثت مهلهلًا [٣٢] والخير منه ... زهيرًا نعم ذخر الذاخرينا
٢- وعتابًا وكلثومًا جميعًا ... بهم نلنا تراث الأكرمينا
٣- ومنا قبله الساعي كليب ... فأي المجد إلا قد ولينا
ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول:
٤- ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العازمون إذا عُصينا
٥- ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا
٦- وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أتينا
٧- وأنا الشاربون الماء صفوًا ... ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا
وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون
بلا رادع حيث يقول:
٨- لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حيث نبطش قادرينا
٩- إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
والمعلقة كلها ضجيج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها
الجاهلية المتغطرسة، انظر إليه حيث يقول:
١٠ - إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
١١ - ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا
١٢- ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق
البحر بسفنهم؟ !، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجودًا ومذلة.
والشواهد كثيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن
جبروت الجاهلية وغطرستها.
فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول [٣٣]:
هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ... ولنا فواضلها ومجدُ لوائها
ثم يفتخر بقوة قومه في الحروب، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال
أجود ذوو مروءة، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول [٣٤]:
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآمية ... وخير ناد رآه الناس نادينا
فهم أصحاب حروب وقرى.
وطرفة بن العبد يفتخر بقبيلته بكر ويتحدث عن كرمها وقوتها وحسبها إذ
يقول [٣٥]:
١- ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يُسُر
٢- ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وُقر
٣- ولقد تعلم بكر أننا ... صادقو البأس وفي المحفل غر
والشاعر لبيد بن ربيعة يفخر بأحساب قومه وشرفهم في معلقته، فالمجد فيهم
قد سنَّه آباؤهم وعلموهم إياه فتبعه صغارهم بعد كبارهم إذ يقول [٣٦]:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سُنَّة وإمامها
فبنوا لنا بيتًا رفيعًا سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
وكانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى لذلك يحزن الشاعر
ذو الإصبع العدواني على تفرق قومه بني عدوان واختلافهم بعد ائتلافهم واتحادهم
فيقول [٣٧]:
١- عذير الحي من هذوا ... من كانوا حية الأرض
٢- بغى بعضهم بعضًا ... فلم يُرعُوا على بعض
٣- ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض
وعدوان من قيس عيلان بن مضر بن نزار، كانوا من أعز العرب وأكثرهم
عددًا ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا.
إن الأنساب مهمة وأساسية في حياة العربي آمن بها إيمانًا شديدًا، وصارت
علمًا عندهم إذا رأوا فيه ما يراه الناس في الوطن الآن.
والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية،
وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكًا شديدًا، الرابط
الوحيد بين أفرادها هو العصبية، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن
إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه، ولا سلطة يتحاكم إليها، والعصبية قبلية ليس فيها
شعور واضح بالجنس العربي العام، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة
ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية.. ولم ينفذ هؤلاء جميعًا إلى فكرة الأمة
العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد، إنما كل ما
هنالك اتحاد قبلي له رئيس [٣٨]، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات.
وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد
القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيرًا ما
تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب ... فكل قبيلة مستعدة دائمًا
للحرب والإغارة وهلأ دائمًا شاكية السلاح، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم
الأعلى.
هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية.
الإمارات العربية في شمال الجزيرة [٣٩]:
أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق، في تخوم الشام حيث أسس
الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم
على أطراف بلاد فارس.. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا
درعًا واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية، وكثيرًا ما وقعت
الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم، وبدوافع قبلية أخرى.
(١) لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة، وكان قد
تنصر ثم خلفه ابنه المنذر، ومن ملوكهم الحارث الأصغر، وكانت جيوش
الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد، وبني فزارة، وقع كثير من أسرى
القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر، فقصده النابغة الذبياني يمدحه
متوسلًا إليه في فكاكهم، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول [٤٠]:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت ﵁، وقد كان ينزل به
وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم [٤١]:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
(٢) أما المناذرة: فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا، حيث رحلت
قبائل لخم وتنوخ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم،
ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (٥١٤ - ٥٥٤م)، وامتد سلطانه على عدد
من قبائل نجد وكان له يومان: يوم نعيم، ويوم بؤس، وممن قتل في يوم بؤسه:
الشاعر عبيد بن الأبرص، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ
عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه
الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج، ثم سار
الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها [٤٢]، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند،
وكان طاغية مستبدًا، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول [٤٣]:
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته [٤٤]:
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويدًا ... متى كنا لأمك مقتوينا [٤٥]
ومن ملوكهم: النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس، وقد امتد سلطانه
إلى نجد والبحرين وعمان، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سببًا في حروب
شغلت قبائل قيس ردحًا من الزمن، ويقال: إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب
قتله عدي بن زيد العبادي.. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته
ومنها قوله [٤٦]:
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار
بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب.
لقد أدت هاتان الإمارتان دورهما في خدمة سادتهما خير أداء، فقد بطش
ملوكهم بقبائل العرب بطشًا مريعًا ففي يوم أوارة الأول مثلًا يبطش المنذر بن ماء
السماء بقبيلة بكر؛ لأنها رفضت طاعته، ويقتل منها خلقًا كثيرًا بعد حرب دامية،
ثم أسر منهم عددًا كبيرًا وأمر بهم أن يذبحوا على جبل أوارة حتى جعل الدم يحمد
وأمر النساء أن يحرقن بالنار [٤٧] .
وابنه عمرو بن هند وضع ابنًا له عند سيد بني تميم زرارة بن عُدس، وكان
صغيرًا، خرج يصطاد بعد أن أصبح رجلًا، ومر بإبل لزوج ابنة زرارة وأمر
ببكرة منها فنُحرت، وكان صاحب الإبل نائمًا فلما انتبه ضربه بعصا ولم يعرفه
فمات.. فخرج سويد صهر زرارة هاربًا إلى مكة المكرمة، وهرب زرارة أيضًا
إلى أن قيل له: ائت الملك واصدقه.. فجاء الملك وأخبره الخبر فقال: جئني
بسويد، قال: قد لحق بمكة، قال: فعلي ببنيه، فأتي ببنيه السبعة من ابنة زرارة
وهم غلمة بعضهم فوق بعض فأمر بقتلهم، تناولوا أحدهم فضربوا عنقه، فتعلق
الآخرون بزرارة، فقال زرارة: يا بعضي سرّح بعضًا، ثم قتلوا، وآلى عمرو
ليحرقن من بني درام مائة رجل.. فبعث بجيش على مقدمته عمرو بن ملقط الطائي
فأخذ ثمانية وتسعين منهم - من بني دارم - ولحقه عمرو بن هند في الناس حتى
انتهى إلى أوارة وهو جبل من ناحية البحرين.. وأمر الملك بأخدود فخد لهم ثم
أضرم نارًا ثم قذف بهم في النار، ومن هنا سمته العرب: محرقًا [٤٨] .
وبقي أمر الحيرة مضطربًا بعد مقتل أبي قابوس، حتى فتحها المسلمون،
وأذعنت لخالد بن الوليد ﵁.
- وهناك إمارة كندة: في شمال نجد في دومة الجندل، ومن أشهر ملوكهم
حجر الملقب بآكل المرار، وقد سيطر على القبائل الشمالية في نجد واليمامة، ثم
جاء بعده حفيده الحارث الذي عين أبناءه على قبائل نجد، منهم ابنه والد امرئ
القيس (حجر) الذي ساءت سيرته في بني أسد فقتلته بعد أن انهزمت كندة وغنمت
أسدٌ أموالهم وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص [٤٩]:
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين! أينا
وأمضى امرؤ القيس بقية حياته مستعينًا بقبائل العرب من حمير وطيء يريد
أن يثأر من بني أسد، ويستعيد ملك آبائه، فلم يشتف، واتجه إلى قيصر الروم
ولقي حتفه بينما كان راجعًا.. ومن شعره في ذلك [٥٠]:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
مكة المكرمة وغيرها من مدن الحجاز [٥١]:
تقوم مكة المكرمة في منتصف الطريق المعبد بين اليمن والشام حيث تمسك
بزمام القوافل التجارية وتعتبر أكبر مركز ديني للوثنية عند العرب.
لقد كانت مسكنًا لجرهم وبقايا الأمم البائدة، ثم سكنها إسماعيل - عليه الصلاة
والسلام - وأصهر إلى قبيلة جرهم، ثم أجلت قبيلة خزاعة قبيلة جرهم عن مكة
المكرمة.
ثم نزلها قصي ومعه قبيلة قريش وأصهر إلى خزاعة، وأساءت هذه القبيلة
إلى البيت العتيق فأخرجها قصي ومن معه.
كان قصي بن كلاب مطاعًا في قومه، سيدًا رئيسًا معظمًا، ولي البيت وأمر
مكة وجمّع قومه من منازلهم المتفرقة، وتملك على قومه فملكوه، وأقر العرب على
ما كانوا عليه من النسيء والإجازة من مزدلفة.. حتى جاء الإسلام فهدم به الله كل
ذلك.. وكانت إلى قصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فجاز شرف
مكة كله، وقطع مكة رباعًا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.
قال قائلهم في مدح قصي وشرفه [٥٢]:
قصي لعمري كان يُدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر
همو ملأوا البطحاء مجدًا وسؤددًا ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر
لم تدن مكة لأي ملك أجنبي، وفي ذلك يقول حرب بن أمية [٥٣]:
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتنزل بلدة عزت قديمًا ... وتأمن أن يزورك رب جيش
(ولم يؤد أهل مكة في الجاهلية إتاوة قط، وفرضوا على العرب قاطبة أن
يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وهم بعد أعز العرب فيتأمرون عليهم ... قاطبة) [٥٤] .
وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، مما يؤكد زعامة قريش
ومكانتها عند العرب، فمكة بيت كعبتهم، وبيت تجارتهم، أقاموا حولها الأسواق
التجارية، كسوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وكان يعرض فيها الشعر والأدب
أيضًا، وفيها - في مكة - دار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها
الدينية والتجارية، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من
الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبليًا على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط
بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان
لعشيرة على عشيرة.
كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب
والعادة، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية [٥٥] .
وكانت الطائف مصيفًا جميلًا يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة
والخمرة الصافية، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وكانت حياتهم لا تختلف عن
حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من
الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة.
أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني
الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا
العربية لغة لهم في حياتهم اليومية، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية،
وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف.
بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس
والخزرج من اليمن، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين، وكانوا وثنيين يحجون إلى
مكة وأصنامها، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون
على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة.
كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة
يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية ...
كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم
حاطب ويوم فارع، والبقيع، ويوم بُعاث وغيرها [٥٦] .
وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم
برسوله، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا.
وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء، ومازالوا بها
حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ من الجزيرة كلها
وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصرًا لامرئ
القيس.
ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعًا
ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها [٥٧] .
هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في
القبائل والمدن، لم نجد بينها فرقًا يذكر، حيث إن النظام القبلي، هو الذي كان
يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها.
وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب، والأحلاف وعادات الثأر
والأسر والسبي والصلح والسلم، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم.
الحروب في الجاهلية:
أ - أسبابها [٥٨]:
إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية، أو على
المحالفة والنصرة.
ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها؟ لوجدنا
أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه
الأسباب، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء
يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها [٥٩] .
وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم
في رماحهم، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم،
وديدنهم في السلب والغارة [٦٠]:
وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحيانًا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجًا وأحلافهم عازمون على
غزوهم:
(البسوا جلود النمر، والثبات أفضل من القوة، أهنأ الظفر كثرة الأسرى،
وخير الغنيمة المال) [٦١] .
فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان
بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها.
يقول سلامة بن جندل: إن بقاؤه بعيدًا عن الغزو، سيؤخره عن جمع الإبل
التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها [٦٢]:
تقول ابنتي إن انطلاقك واحدًا ... إلى الرّوع يومًا تاركي لا أبا ليا
دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا ... من الحدثان والمنية واقيا
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ... ترى ساقييها يألان التراقيا
وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعيًا وراء الشهرة والسيادة،
فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالًا، وإذا كان الحكم خبيرًا بما سيجره
حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر
بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين.
وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالمًا أو مظلومًا، على الحقيقة
وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته، وربما عير الشاعر قبيلته من
جراء تخليها عن نصرته، قال قريط بن أنيف، وكان بعض بني شيبان أغار على
إبله، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم ... فأنجدوه [٦٣]:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذًا لهبّ لنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرسانًا وركبانا
وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما
حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج.
وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض، أو الأخذ بالثأر، أو بسبب
المنافسة على رئاسة وزعامة، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب
وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث
قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء، التي استمرت أربعين
سنة، بسبب سباق بين فرسين.
ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد
نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى.
ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول:
(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب
لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل
المتجاورة والعشائر المتناظرة، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم
الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا
أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم.. والثالث وهو المسمى في
الشريعة بالجهاد، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين ... لطاعتها..) [٦٤] .
ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف:
لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية، أنها كانت حياة حربية تقوم على
سفك الدماء.. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم، فهم دائمًا قاتلون
مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم.
وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها، بل
يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم [٦٥] .
يقول زهير بن أبي سلمى [٦٦]:
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل [٦٧]
فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم ... وكانوا قديمًا من مناياهم القتل
فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب
فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم، يقول
دريد بن الصمة [٦٨]:
وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة ... ونلحمه حينًا وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيُشتفى ... بنا إن صبنا أو تُغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائمًا واترون
موتورون.
وما كانوا يرهبون شيئًا مثل الموت حتف الأنف بعيدًا عن ميادين القتال،
ميادين الشرف والبطولة، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول ... الشنفري [٦٩]:
فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أمّ عامر
فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية.
إن طبيعة العربي في باديته، من حبه للحرية، وتعشقه للقوة، وتفضيله
الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم، جعلت حياته حربًا ضروسًا لا
تهدأ، يقول الأفوه الأودي:
نقود ونأبى أن نقاد ولا نرى ... لقوم علينا في مكارمهم فضلًا
وكانت القبيلة تؤمن إيمانًا كليًا بإخضاع القبائل الأخرى لمشيئتها سعيًا وراء
المجد الرفيع مما يدفع القبائل إلى التناحر والتصادم [٧٠] .
الفخر والحماسة:
ولقد وصفوا الحرب وصفًا مسهبًا فيه فخر واعتزاز فهذا عنترة بن شداد
يصف وطأة الحرب وشدتها إذ يقول [٧١]:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذا تقلّص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم [٧٢]
يدعون عنترة والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم [٧٣]
مازلت أرميهم بغرة وجهه ... ولبانه حتى تسربل بالدم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مُكلمي
نشوة عجيبة يحس بها عنترة وهو يخوض غمرات الموت، فيسطر لنا
مشاعر الفخر والحماسة في معلقته هذه.
وكان الشعراء يمدحون الشجاع ويفتخرون بالقوة والشجاعة والفروسية. يقول
طرفة بن العبد في معلقته [٧٤]:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعًا إذا بلت بقائمة يدي
فالقوة وصليل السيوف، والغارات المريعة، هي قوام حياة العربي في باديته
ومجال فخرة وعزه، حتى أصبحت حكمتهم المنشودة تدعو إلى الظلم حتى لا يُظلم، ولا يجرؤ العدو على انتقاص حقك، يقول زهير بن أبي سلمى [٧٥]:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أي من لا يمنع عن عشيرته يذل، ويشرح الأصمعي البيت الأول بقول: من
ملأ حوضه ثم لم يمنع منه غُشي وهدم وهو تمثيل أي من لان للناس ظلموه.
وعمرو بن كلثوم يقول في معلقته [٧٦]:
نسمّى ظالمين وما ظلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمِينا
ثم نراه يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المشهورة من مثل قوله [٧٧]:
متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا
نطاعن ما تراضى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا
نجذ رؤوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا
كأن ثيابنا منا ومنهم ... خُضبن بأرجوان أو طُلينا
_________
(١) الصناعتين: ص١٣٨.
(٢) طبقات فحول الشعراء ١/٢٤.
(٣) انظر: الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري، والحياة العربية للحوفي.
(٤) العمدة.
(٥) المفضليات: ص٦٢.
(٦) - العمدة ١/٢٥، والسبح: الماء الجاري، والجابية: الحوض الضخم.
(٧) الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري ص ١٣٦.
(٨) الأغاني: ٤.
(٩) الحيوان للجاحظ: ١/٧٤.
(١٠) انظر العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص ٣٩.
(١١) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ١/١٥.
(١٢) الصحاح للجوهري.
(١٣) العصر الجاهلي: دكتور شوقي ضيف ص٣٩.
(١٤) انظر الشعر الجاهلي: د يحيى الجبوري.
(١٥) انظر المصدري السابقين: العصر الجاهلي، والشعر الجاهلي.
(١٦) المائدة: ٥٠، وانظر تفسير ابن كثير.
(١٧) في ظلال القرآن ص ٩٠٤، المجلد الثاني / الآية ٥٠ من سورة المائدة.
(١٨) انظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص ٣٩، والطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال ص٤٠ وانظر أنساب العرب في أيام العرب لجاد المولى ص ٤٠٨ وما بعدها.
(١٩) الطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال.
(٢٠) الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري ص ٤٣ - ٤٤.
(٢١) الطريق إلى المدائن ص ٤٧.
(٢٢) الطريق إلى المدائن ص ٤٧.
(٢٣) الشعراء الصعاليك: يوسف خليف ص ٨٧.
(٢٤) الأصمعيات: ص ١٠٧.
(٢٥) أشعار الشعراء الستة الجاهليين، اختيارات الأعلم الشنتمري ص ٢٣٦، وضية: قبيلة من عذرة ثم من قضاعة، وحديث عطفت وأشفقت.
(٢٦) انظر أسباب الخلع: كتاب الشعراء الصعاليك ص ٩١ وما بعدها.
(٢٧) العصر الجاهلي: د شوقي ضيف ص ٥٩، ٦٠ بتصرف.
(٢٨) المفضليات رقم القصيدة (١٠٤) ص ٣٥٤ /٣٥٥، والحشد: الذين يحتشدون ويجتمعون للملمات الثقل: الغرم والدية وغيرهما يقول: نفعل ذلك كلما سللنا مربة بعد مرة.
(٢٩) الأصمعيات: رقم القصيدة (٨) ص٣٧.
(٣٠) شرح أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون ص٣٧.
(٣١) الشعراء الصعالية ص١٠٢ - ١٠٣.
(٣٢) شرح القصائد العشر للتبريزي ص ٢٧٦ وما بعدها.
(٣٣) مهلهل: هو عدي بن ربيعة أخو كليب، وهو خال امرئ القيس وهو جد عمرو بن كلثوم من قبل أمه، وزهير جده من قبل أبيه.
(٣٤) المفضليات، رقم القصيدة (٥١) .
(٣٥) المفضليات، رقم القصيدة (١٢٨) .
(٣٦) اختيارات الأعلم: ص ٤٢٢، أ - يسر: الداخلون في الميسر، ب - تفضل آراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخاف عند الروح بل نثبت ونتوقر، ج - أي وجوهنا مشرقة ترتاح للكرم.
(٣٧) المعلقات العشر شرح التبريزي ص ٢٠٥ وما بعدها.
(٣٨) الأصمعيات رقم القصيدة ١٨، أ - يقول: هات عذرًا لحي عدوان فيما فعل بعضهم ببعض من القتل والتباعد بعدما ما كانوا حية الأرض التي يحذرها كل أحد، ب - الإرعاء: الإبقاء على أخيك،
ج - القرض: ما يتجازى به الناس من إحسان وإساءة.
(٣٩) العصر الجاهلي: د/ شوقي ضيف، ص ٥٧ وما بعدها.
(٤٠) انظر المصدر السابق والشعر الجاهلي: د يحيى الجبوري.
(٤١) اختيارات الأعلم القصيدة رقم (٣) ص ٢٠٢.
(٤٢) انظر الشعر والشعراء: ١/٣١١ لابن قتيبة.
(٤٣) انظر أيام العرب: يوم عين أباغ ص ٥١ محمد أحمد جاد المولى.
(٤٤) الأغاني ٢١/١٢٦ ط ساسي، والشعر والشعراء ١/٣٩٤ لابن قتيبة، والسدير قصر ازلملك، وأسد خفية: الخفية غيضة يتخذها الأسد عرينة أو اسم علم لمأسدة بعينها.
(٤٥) انظر يوم أوارة الأول ص ٩٩ أيام العرب.
(٤٦) مقتوينا: أي خدمًا (المعلقة ص ٢٥٢ شرح التبريزي) .
(٤٧) ديوان النابغة، والأعلم في اختياراته ص ١٩٦.
(٤٨) أيام العرب، يوم أوارة الثاني ص ١٠٠.
(٤٩) الشعر والشعراء ١/٢١ لابن قتيبة.
(٥٠) انظر الديوان (٦٦/٧٦) واختيارات الأعلم.
(٥١) انظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص ٤٩ وما بعدها.
(٥٢) البداية والنهاية لابن كثير ٢/٢٠٥ وما بعدها.
(٥٣) الحيوان للجاحظ ٣/١٤١ وصلاح هنا مكة.
(٥٤) كتاب البلدان لابن الفقيه، نقلًا عن كتاب العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(٥٥) العصر الجاهلي.
(٥٦) انظر آيام العرب: حروب الأوس والخزرج ص ٦٢ - ٨٥.
(٥٧) وانظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(٥٨) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص ٢٣٠ وما بعدها، والفروسية في الشعر الجاهلي الأول، د محمد أحمد الحوفي، والثاني د نوري القيسي.
(٥٩) العقد الفريد: ٥/٢٠١.
(٦٠) شرح الحماسة للتبريزي: ١/١٨١ نقلًا عن الحياة العربية للحوفي.
(٦١) الكامل لابن الأثير ١/٢٦١، وأيام العرب ص ١٢٦.
(٦٢) ديوان سلامة بن جندل ص ٢١، نقلًا عن الفروسية في الشعر الجاهلي.
(٦٣) شرح الحماسة للتبريزي ١/٥.
(٦٤) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: محمود شكري الألوسي ٢/٥٦.
(٦٥) العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص ٦٢ وما بعدها.
(٦٦) ديوان زهير ص ١٠٢، والأعزل مفرد عزل: وهو من لا سلاح له، فزعوا أغاثوا.
(٦٧) المرزوقي ٢/٨٢٥ نقلًا عن العصر الجاهلي نلحمه: نطعمه اللحم الوتر: الثأر.
(٦٨) المرزوقي ٢/٤٨٧ نقلًا عن العصر الجاهلي.
(٦٩) الطرائف الأدبية، شعر الأفوه الأودي ص ٢٢.
(٧٠) الفروسية في الشعر الجاهلي ص ٧٧ وما بعدها.
(٧١) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص ٢٤٥، وما بعدها يتذامرون: يحض بعضهم بعضًا.
(٧٢) أشطان البئر: حباله (ويروى بثغرة نحره) .
(٧٣) شرح القصائد العشر للتبريزي الضرب: الخفيف خشاش فيه قوة ومضاء بلت: ظفرت وتمكنت.
(٧٤) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص ١٥١.
(٧٥) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص ٢٨٨.
(٧٦) المصدر السابق والثفال: خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن، اللهوة: القبضة من الحب، يبين: يظهر، الوتر: الثأر، نجذ: نقطع ويروى: نحز رؤوسهم في غير بر، الأرجوان: صبغ أحمر.
(٧٧) العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
1 / 61
معالم
حول كتابة التاريخ الإسلامي
بقلم محمد العبدة
تزداد الحاجة يومًا بعد يوم إلى تنفيذ ما طرح من فترة غير قصيرة حول إعادة
كتابة التاريخ الإسلامي، بعد أن عاث به فسادًا المستشرقون والمستغربون على حد
سواء، وهذا الشعور بالحاجة الملحة له أسباب نذكر بعضها:
١- إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها لهي
أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحًا لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس
إعادة صياغة الحاضر، ومقولة (التاريخ يعيد نفسه) ليست خطأ من كل الوجوه،
وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للتأثير في نفوس الناس، أو للتأثير
في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال تعالى: [ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ
مِنْهَا قَائِمٌ وحَصِيدٌ] [هود: ١٠٠]، وقال تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] [يوسف: ١٠٩] .
ولابد لأهل كل عصر من أن يواجهوا النوع ذاته من التعقيدات التي واجهها
أسلافهم، وإن سجل التاريخ ما هو إلا المنار الذي ينبئ الملاحين الجدد عن
الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمين في هذا
العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطأوا في كثير من الأمور، كما أن الدراسة
المتأملة للحاضر تساعدنا أيضًا على فهم الماضي، والذي جرب تقلبات الدول
والمجتمعات وشاهد المؤامرات السياسية، وعاين الركود الاقتصادي، يكون أقدر
على تفهم الحوادث الماضية التي ليست نسخة مطابقة للحاضر ولكن فيها شبه كبير
فيه.
يقول المؤرخ ابن الأثير: (وأنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره
فيزداد الإنسان بذلك عقلًا ويصبح لأن يقتدي به أهلًا) [١] .
والذي يشاهد ما تفعله بعض الدول الآن من استعانتها بعناصر أجنبية
وتفضيلهم على الأقرباء والدين واللغة يدرك طرفًا من نظرية ابن خلدون في أن
الدول إذا تمكنت تبعد عصبيتها الأولى وتعتمد على عصبيات مجلوبة، من الخارج، ويدرك المؤرخ عقم المحاولة التي قام بها الخليفة المعتصم العباسي لتقوية دولته
عندما جلب الأتراك فتحولوا إلى شوكة في حلق العباسيين، وأصبح المسلم العربي
كما قال المتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
٢ - لئن كان التاريخ له أهميته ومنزلته عند المتقدمين من العلماء حيث قام به
أمثال ابن جرير الطبري والبخاري وابن الأثير والذهبي، وكتب السخاوي (الإعلان
بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) لئن كان هذا فهناك علماء لهم رأي آخر، فالغزالي يرى
أنه من العلوم المباحة التي ليس فيها نفع دنيوي ولا أخروي، وأنه كالعلم بالأشعار
التي لا سخف فيها [٢] وتابعه النووي في ذلك فقال في (الروضة): (الكتاب يحتاج
إليه لثلاثة أغراض: التعليم والتفرج بالمطالعة، والاستفادة، فالتفرج لا يعد حاجة
كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا) [٣] .
وكان من نتائج هذه النظرة أن ضعف الحس التاريخي في العصور المتأخرة،
وفقدت خاصية التأمل والاستفادة من الحوادث، وأصبح التاريخ قصصًا وروايات
للتسلية وللتفريج عن الهم والغم ومرتبته في العلوم تأتي في الدرجة الثالثة أو الرابعة، ومجيء مؤرخ كبير كابن خلدون لم يغير هذه النظرة، لأن الأمة كانت في حالة
تدهور ثقافي، ولم يظفر كتابه المهم في النقد التاريخي بالأهمية والمكانة المناسبة له.
وفي العصر الحديث تنبه المسلمون لما للتاريخ من أهمية بالغة، وخاصة
عندما يكون الجهد منصبًا على (استئناف حياة إسلامية) ولذلك لابد من إعادة كتابة
التاريخ الإسلامي.
٣ - إن ما كتبه علماؤنا قديمًا، وإن كان عملًا ضخمًا، قد حفظوا لنا فيه كل
جزئيات وتفاصيل تاريخنا الإسلامي وجمعوا روايات كثيرة جدًا، إلا أن هذه
الروايات تحتاج إلى غربلة وتمحيص لأن فيها الصحيح والضعيف بل والموضوع،
وقد ذكروا لنا مصادرهم حتى يعذروا ولا نحملهم المسؤولية، وما كتبه المحدثون
إنما نسجوا فيه على منوال المستشرقين الذين اهتموا اهتمامًا زائدًا بالتاريخ
الإسلامي لغاية في أنفسهم وكان لهم منهج خاص في البحث والتنقيب، ولهم منهج
في تفسير النصوص أكثره تهويل، يأتون فيه بالغرائب والعجائب، وذلك
بقصورهم عن فهم اللغة العربية وفهم حركة التاريخ الإسلامي، بالإضافة إلى النية
المبيتة لتشويه التاريخ الإسلامي، وأعجب بهم المستغربون وأصبحت المعادلة
عندهم: ما دام هؤلاء يتقصون هذا التقصي في تفسير النصوص ومدلولاتها فلا بد
أن يكونوا محايدين.
ووقع المسلمون بين قديم ينظر له باحترام وإنصاف ولكنه لم ينق من
الروايات المكذوبة وبين ما كتبه المستشرقون وتلامذتهم وفيه ما فيه من دس وافتراء
متعمد.
٤- استغل أصحاب الاتجاهات المنحرفة بعض الروايات الضعيفة أو
الموضوعة في الموسوعات التاريخية القديمة أو تحليلات المستشرقين المشوهة،
استغلوا هذا في المدارس والجامعات وغرسوا في نفوس الشباب المتعلم أن تاريخنا
لا يعدو أن يكون أحداثًا دموية يتلو بعضها بعضًا وأنه إذا استثنينا الخلفاء الراشدين، بل إذا استثنينا فترة أبي بكر وعمر ﵄ فكل تاريخنا صراع
على الحكم وترف وفساد في القصور.. وعظمت المصيبة بأمثال هؤلاء، والمتعلم
الناشئ يتأثر بما يقال له، وأصبح الشباب في حيرة واضطراب، فعندما يسألون
عن كتب التاريخ لترشدهم إلى الحقيقة لا يجدون أمامهم إلا كتب الموسوعات الكبيرة
التي من الصعب على أمثالهم الرجوع إليها، أو الكتب المعاصرة وفيها من الجهل
والتشويه الشيء الكثير، وبذلك أيضًا عظمت التبعة على المسلمين وبدأ المخلصون
في التصدي لهذا التيار فكتبت دراسات حول هذا الموضوع [٤]، وصنفت كتب في
التاريخ الإسلامي، هي أفضل بكثير مما كتب في المرحلة السابقة [٥]، ولكن كتابة
التاريخ الإسلامي هي أكبر من هذه الجهود، ولا تزال بحاجة إلى توضيح وبيان،
وصياغة جديدة، والدخول في التفصيلات بعد التعميمات.
وهذا المقال محاولة من هذه المحاولات لعله يكون وغيره ارهاصًا بين يدي
كتابة التاريخ الإسلامي من جديد إن شاء الله.
التفسير الإسلامي للتاريخ:
يلح القرآن الكريم - لمن تدبره وعقله - على أهمية السنن التي وضعها الله
﷾ لهذا الكون، ولتسير فطرة الإنسان عليها، وهذه السنن صالحة،
صلاحًا شاملًا لأنها غير مقيدة بالزمان أو المكان، ويعتقد المسلمون أن تاريخ الأمم
وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ما هي إلا تفاصيل لجزئيات هذه السنن
وعرّفنا الله سبحانه من الأسباب الكلية للخير والشر [٦] .
إن حوادث التاريخ هي من صنع الإنسان حقيقة، ولكنها تجري حسب حكمة
الله وعدله ومشيئته المطلقة في توجيه شؤون البشر [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: ١٤٠]، كما أن الإنسان عندما يفعل الخير أو الشر له مشيئة
حقيقية بها يحاسب ويجازى والله خلقه وخلق مشيئته، قال تعالى: [ظَهَرَ الفَسَادُ
فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] [الروم: ٤١] .
[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ] [الأنعام: ٤٤] .
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] .
والله ﷾ يحب دفع الشر في الأرض وهو من سننه الكونية، كما
قال: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: ٢٥١] .
ولكن هذا الدفع يجب أن يقوم به أولياؤه المتقون، فيجاهدون في سبيله، فإذا
لم يقوموا به لم يندفع، وعندئذ تتحول الحياة البشرية إلى مستنقع آسن من الشرور.
وإذا كان الغرب ومؤرخوه قد تنقلوا بين نظريات كثيرة لتعليل أحداث التاريخ، ما بين التأكيد على الجانب الغيبي [٧]، وما بين بروز النزعات المادية كالتفسير
القومي [٨] أو التفسير المادي [٩]، كما ظهر التفسير التشاؤمي عند (اشبنجار) [١٠] ونظرية التحدي عند (توينبي) [١١]، هذه النظريات وإن كان في بعضها
شيء من الحق [١٢] إلا أن التفسير الإسلامي للتاريخ يختلف ابتداءً عن النظرة
الغربية لأنه ينطلق في الأصل من تكريم الله للإنسان، وأن الله خلق هذا الإنسان
لعبادته، وسخر له كل ما يحتاجه لعمارة هذه الأرض، وأرسل الأنبياء وأنزل
الكتب ليكون أبلغ في العذر، وهذه الحياة الدنيا مؤقتة، والحياة الأخرى هي الباقية، وأوج الحضارة عند المسلم هو عندما يحقق ما يريده الله منه، وما خلق من أجله، وعندئذ يكرم بالاستخلاف في الأرض، وليست قمة الحضارة بقدر ما يمتلكه من
الأشياء وأدوات الترف والغنى والرفاهية والتدمير.
إن محور التفسير الإسلامي للتاريخ هو: إن ما يقع من الحوادث إنما يخضع
لسنن إلهية، كونية أو دينية، وإن ظاهر التدين أصيلة قوية في الإنسان بالفطرة
التي خلقه الله عليها، فهو يتجه إلى الدين ولكن شياطين الإنس والجن يجتالونه عن
هذه الفطرة فيغير ويبدل.
ومن هذه السنن:
١ - إن الدولة الكبرى أو الحضارات لا تقوم إلا بدين أو ببقايا دين.
٢ - سنة دفع الله الناس بعضهم ببعض ومداولة الأيام بينهم ليتبين الحق
ويظهر الخير.
٣ - زوال الأمم وهلاكها بالترف والفساد وعدم إقامة العدل.
٤ - الناس مسؤولون عن رقيهم وانحطاطهم.
٥ - استحقاق النصر للمؤمنين.
وسنتكلم عن كل واحدة من هذه السنن بشيء من التفصيل:
أولًا - من الملاحظ أن محل الدراسة التاريخية في القرآن الكريم ليس
المقصود بها شعبًا معينًا أو دولة معينة بقدر ما هو مقصود: ما هو دين هذه الأمة
وما هي عقيدتها؟ وما موقفها من الرسل والأنبياء؟ فالتركيز على (الملة) باعتبار
أن ظاهرة التدين هي الأصل في الإنسان قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا
والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة/٦٢]، فالحديث هنا عن (ملل)
معينة وليس عن شعوب أو دول، وعندما يذكر القرآن الحوادث التي وقعت لبني
إسرائيل يسردها دون ترتيب زمني؛ لأن المقصود أن هذه الأمة (يهود) لها صفات
معينة، وهذا واضح من سيرتهم مع نبيهم موسى ﵇، وقد امتن الله
على اليهود المعاصرين لفجر الدعوة الإسلامية بنعمة أنعمها على آبائهم، وذلك
لأنهم أمة واحدة، وقصص الأنبياء في القرآن هي قصة الصراع بين التوحيد وبين
الوثنية والأمة الإسلامية يقابلها الأمم النصرانية أو المجوسية.. وقد فرح المسلمون
في مكة ببشارة القرآن لهم بانتصار الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب فهم
أقرب من المجوس.
وتركيز القرآن علي هذه الناحية يؤكد أن الدين هو العامل الفعال في تكوين
الحضارات والدول الكبرى سواء كان هذا الدين حقًا كما أنزله الله ﷾ أو
قد حرف وبدل، المهم هو أن فكرة التدين أو التطلع الغيبي هي التي تعطي الحماس
والجد والعاطفة التي تحتاجها الدول في إبان تأسيسها، وقد خلق الإنسان متدينًا
بفطرته، بالعهد الذي أخذ عليه [ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] بل لا يوجد شعب مهما
كان موغلًا في الهمجية إلا وتطلع إلى الغيبيات، (وإن الغريزة الدينية المشتركة بين
كل الأجناس البشرية لا تختفي بل لا تضعف إلا في فترات الإسراف في الحضارة
وعند عدد قليل جدًا من الأفراد) .
يقول المفكر الجزائري مالك بن بني: (فالحضارة لا تنبعث - كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها
الديني، وكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى
ما وراء حياته الأرضية) [١٣]، ويقول توينبي: (والتحول الديني كان حقيقة مبدأ
كل شيء في التاريخ الانكليزي) [١٤] .
وهنا يثار سؤال: كيف تقوم دول كبرى على الوثنية المحضة وليس فيها أي
أثر للدين، كالدول الشيوعية في هذا العصر، والجواب كما قال مالك بن نبي:
(هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولًا من تفسير أصول الشيوعية باعتبارها حضارة،
وثانيًا إننا نعتبر الشيوعية (أزمة) للحضارة الغربية المسيحية) [١٥] . وهذا التفسير
ليس غريبًا، فقد ذكرت قبل قليل أن نزعة التدين لا تخلو منها أمة من الأمم إلا في
فترات استثنائية، ولابن تيمية كلام يقرر فيه شيئًا من هذا، يقول ﵀
بعد كلام عن الأنبياء وفضلهم على البشرية: (ويقال هنا: إنه ليس في الأرض
مملكة قائمة إلا بنبوة أو آثار نبوة وأن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا
يستريبن العاقل في الأقوام الذين درست النبوة فيهم كالبراهمة والمجوس) [١٦]،
كما يقرر ابن خلدون المعنى نفسه حيث يقول: (الدول العامة الاستيلاء، العظيمة
الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق) [١٧] .
ونحن يمكننا أن نضيف على كلام ابن خلدون: أو (بفكرة) تبلغ عند أصحابها
مبلغ التقديس للديانات ويتفانون في تطبيقها، وهذا من ناحية نفسية لا من ناحية
تاريخية، وهذه الحضارات والدول وإن قامت ابتداء على الدين إلا أنه مع تطاول
الزمن والإسراف في الحضارة يبدأ الفساد ينخر فيها ولابد إذن من مبدأ الدفع الذي
سنه الله ﷾.
ثانيًا - إن مبدأ الصراع بين الأمم ليظهر الخير ويخفف من الشر هو من
أعظم السنن الكونية، قال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا] [الحج: ٤٠]، وقال
تعالى: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: ٢٥١] .
فالأرض تفسد إذا طال فيها مكث الطواغيت وحكوماتهم الفاسدة، ولم يقم من
يجاهدهم ويدفع فسادهم ويريح العباد والبلاد منهم، والله ذو فضل على الناس أن
جعل هذه السنة من سننه الكونية حتى تتطهر الأرض بين كل فترة وأخرى، كما أن
هذا الصراع يرمي إلى تقوية المؤمنين، فيزداد نشاطهم ويحققوا ما يريده الله منهم،
يقول ابن تيمية شارحًا الآية السابقة:
(وقد بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها،
فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد، إذا هدمها المجوس والمشركون، وأما إذا
هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله فهذا خير وصلاح، فالله
سبحانه يدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم والنصارى ثم دفع
النصارى بالمؤمنين) [١٨] .
ويقول أحد المؤرخين الغربيين (هوايتهد): (إن صراع العقائد والمذاهب ليس
كارثة بل فرصة) .
إن المنطقة العربية - وبلاد الشام خاصة التي بارك الله فيها - من مراكز
الصراع الكبرى في العالم حتى يتبين الحق والباطل ويتمحص أهلها ويأخذوا أجر
الدفع والجهاد في سبيل الله، قال تعالى ذاكرًا بلاد الشام: [سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] [الإسراء: ١]، وقال: [وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا] [الأعراف: ١٣٧]، وبنوا إسرائيل أورثوا مشارق ومغارب بلاد
الشام، وقال تعالى ذاكرًا إبراهيم ﵇: [ونَجَّيْنَاهُ ولُوطًا إلَى الأَرْضِ
الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: ٨١]، وإبراهيم إنما نجاه الله ولوطًا إلى
أرض الشام.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «يوم
الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها: الغوطة، وفيها مدينة يقال لها:
دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» [١٩] .
وعن خريم بن فاتك الأسدي قال: (أهل الشام سوط الله في الأرض ينتقم بهم
ممن يشاء، كيف يشاء) [٢٠] .
كما ورد في الحديث الصحيح: «إذا أحب الله قومًا ابتلاهم» [٢١] .
وعلى أرض الشام ومصر قام الصراع بين المسلمين والصليبيين، فكان لهم
فضل رد هؤلاء الغزاة عن كل بلاد المسلمين، وعلى أرض الشام هُزم التتار لأول
مرة بعد زحفهم المدمر على بلاد الإسلام.
وفي العصر الحديث ابتليت باليهود وبكل الحاقدين على الإسلام، فهي في
صراع مستمر حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويتخذ منهم شهداء، والذي ينظر
بعين البصيرة إلى تجمع اليهود من كل أنحاء العالم، يشعر وكزنهم يساقون سوقًا
إلى هذه المنطقة، بل استطاعوا جرّ أمريكا وأوربا وراءهم لتصبح من المراكز
الحساسة جدًا في السياسة العالمية. يقول الدكتور زين نور الدين زين: (ربما ليس
هناك بقعة أخرى في الدنيا كلها وقعت حروب على أرضها وعبرت شعوب ثم
عادت لتعبر ثانية فوق أرضها كمنطقة الشرق الأدنى، فهذه المنطقة كانت أبدًا ساحة
معركة للجيوش، كما أنها كانت معتركًا للفكر) [٢٢]، ويقول أيضًا: (إن المشاكل
الحديثة التي جدت في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية تدفع بالمرء أحيانًا إلى
الاستنتاج أن القدر ذاته كان منذ فجر التاريخ يلعب دورًا حاسمًا في مصير الشرق
الأدنى وأنه مكتوب على شعوب هذه المنطقة أن تعيش في حالة مستمرة من التوتر
والتنازع، ومنذ سقوط الإمبراطورية العثمانية لم تحسم قط في هذه البقعة من الدنيا
قضية واحدة حسمًا نهائيًا) [٢٣] .
ويقول الدكتور ج. س. بادو: (مادام هناك ثمرة شهية متدلية من شجرة فإن
قطافها سيغوي أحد الناس وهذا هو السر في تورط منطقة الشرق الأدنى في الشؤون
العالمية) [٢٤] .
والمنطقة ليست ثمرة شهية للغرب والشرق من ناحية الثروات الطبيعية فقط
بل لأنها مركز الصراع الحضاري فالغرب يعتبر (إسرائيل) امتدادًا حضاريًا له،
وهو في صراع مع المسلمين فلابد إذن من مساعدة اليهود.
إن كثرة ذكر القرآن لليهود وتخصيصهم بالذكر هم والنصارى في سورة
الفاتحة ليدل على أن الصراع بين المسلمين وبين هاتين الفئتين سيكون صراعًا
طويلًا، كما يدل على أثر هاتين الفئتين في الأحداث العالمية، ومن يقرأ الكتب
التي تتحدث عن أثر اليهود في السيطرة على كثير من المؤسسات والدول
واستخدامهم - في سبيل ذلك - المال والنساء والصحافة والواجهات من جمعيات
وأحزاب ذات لافتات براقة، من يقرأ هذا يشعر بأنهم يتلاعبون بالشعوب والأمم
السادرة في غيها وضلالها، ومع أن هناك صيحات تحذير من هنا وهناك ممن
عرفوا حقيقة مكرهم وتخطيطهم من وراء الستار، وأنهم هم سبب الكثير من
الأزمات، الاقتصادية والسياسية، إلا أن هذه التحذيرات لم تعرقل أو تؤخر من
سيطرتهم.
وأما الدول التي تسمي نفسها بالاشتراكية فهي ليست إلا ثمرة من ثمار
اليهودي (ماركس) ومن ثمار المادية الأوروبية.
إن التفسير القرآني للتاريخ بمدافعة الأمم بعضها بعضًا هو أعم وأشمل من
نظرية (التحدي) عند المؤرخ الانكليزي (توينبي) التي هي صادقة في جانب من
جوانب التاريخ الإنساني، فإن تعرض أمة لخطر خارجي أو داخلي قد يظهر من
طاقات أبنائها ما كان خامدًا، فإن وقت الأزمات والمصائب هو الوقت الذي يفكر
فيه الناس بالتغيير، ولكن أين هذه النظرية من تفسير القرآن الذي هو عملية
مستمرة وصراع دائم بين الخير والشر ليتغلب الخير أو يخفف من الشر.
ثالثًا - ومن سنته تعالى في البشر أن الأمم التي تبطر معيشتها، وتعيش في
الترف وتنهمك في الملذات، وتقارف الآثام والذنوب، لابد أن يصيبها العقاب إن
آجلًا أو عاجلًا وسواء كان عذابًا ماديًا حسيًا أو عذابًا معنويًا.
قال تعالى: [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] [الإسراء: ١٦] فهلاك القرى إنما يجيء بعد وجود طبقة
المترفين الذين يفسقون فيها، والأمر هنا هو أمر قدري كوني، ولا داعي لتأويلها
بأن الله ﷾ أمر المترفين بأن يقيموا حدود الله فلم يقيموها فحق عليهم
القول؛ لأن المترفين في الاصطلاح القرآني قد فسدت فطرتهم فلا يستحقون هذا
التكريم [٢٥] .
وقال تعالى: [ولَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ
ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا] ... ... [فاطر: ٤٥] .
وقال: [وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
ولَتَعْلُنَّ عُلُوًا كَبِيرًا * فَإذَا جَاءَ وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَّفْعُولًا] [الإسراء: ٤-٥] .
وقال تعالى: [وكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ
خَبِيرًا بَصِيرًا] [الإسراء: ١٧] .
[ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِوالأَرْضِ]
[الأعراف: ٩٦] .
وقد ثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ] قال ﷺ: «أعوذ بوجهك» [أَوْ
مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] قال: «أعوذ بوجهك» [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ
بَعْضٍ] قال: «هاتان أهون» [٢٦] .
فعذاب التفرق والتحزب هو من العذاب الذي يصيب المسلمين كما يصيب
غيرهم، بل ربما كان في المسلمين أشد، لأن هذا من عذابهم في الدنيا، وقال -
ﷺ: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب ... الله» [٢٧] .
وما هذه الأمراض الفتاكة التي تظهر بين الفينة والأخرى وتستعصي على
الطب والأطباء، إلا من عذاب الله لهذه الأمم التي انغمست في حمأة الرذيلة وما هذا
القتل المستمر بين الناس لا يدري القاتل والمقتول فيم يقتتلان، وما هذه الزلازل
المدمرة في لحظات وثوان، إلا من عقاب الله الظاهر والخفي.
يقول ابن تيمية مطبقًا هذه القاعدة على التاريخ الإسلامي: (وقد أصاب أهل
المدينة [٢٨] من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد
الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالًا أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم
بإيمانهم وتقواهم) [٢٩] .
وجاء في (سير أعلام النبلاء) تعليقًا على الأحداث التي جرت في مكة بين
جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير السكوني وبين جيش عبد الله بن الزبير:
(دخل عبد الله بن عمرو المسجد الحرام والكعبة تحترق حين أدبر جيش
حصين بن نمير، فوقف وبكى وقال: أيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم
أنكم قاتلوا ابن نبيكم (الحسين بن علي) ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من
أبي هريرة، فقد فعلتم فانتظروا نقمة الله فليلبسنكم شيعًا، ويذيق بعضكم بأس
بعض) [٣٠] . وأما ما حل بالأمم السابقة بسبب فساد أخلاقها فهو معروف مشهور
وأكبر مثال على ذلك ما حل بالدولة الرومانية، فقد سقطت أمام جحافل الزاحفين
عليها وكأنها لم تكن والفساد والبطر الذي تمارسه أوربا في هذا العصر حدا بالعقلاء
منهم إلى إرسال صيحات الإنذار والخطر، ويقول ألكسس كاريل: (وهذا هو
السبب في أن الأسر والأمم والأجناس التي لم تعرف كيف تميز بين الحلال والحرام
تتحطم في الكوارث، فمرض الحضارة والحرب العالمية نتيجتان ضمنيتان لانتهاك
حرمة النواميس الكونية) [٣١] .
وكاريل يتحدث عن مرض الحضارة قبل الحرب الثانية وبعدها بقليل، فكيف
لو شاهد قمة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي الذي يعيشه الغرب الآن. وهذا ما حدا
أيضًا بمؤرخ كتوينبي أن يطلب من الغرب إعادة الدين إلى قوته الأولى وإيقاف
جبروت العلم [٣٢] .
رابعًا - ومما هو قريب من السنة السابقة: أن الناس هم المسؤولون عن
رقيهم وانحطاطهم، قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١]، فالتغيير يجب أن يبدأ من الإنسان، والله ﷾ ييسر له
السبل التي يريدها والأمة التي تعشش فيها الأفكار الميتة والأنانية والبغض والحسد، وقد ركنت إلى الكسل والخمول، هذه الأمة لا يمكن أن تنتج تقدمًا أو شيئًا يذكر
بل إن حكمًا علمانيًا يمكن أن يستمر ويزدهر بالاتحاد والعدالة أكثر من حكم أدعياء
الإيمان إذا ما ركنوا إلى الأخلاق المنحلة وإلى الفوضى والعصيان [٣٣] .
لقد نقل الإسلام العرب نقلة بعيدة غيرت ما بأنفسهم تغييرًا شاملًا وجذريًا،
وكل الأفكار القاتلة من عصبيات وخرافات وعقائد ساذجة مضحكة، كل هذا تغير
بعقيدة التوحيد الواضحة الشاملة لكل مناحي النفس الإنسانية وعندئذ استطاعوا تغيير
ما بأنفس الأمم الأخرى، لقد بدأ التغيير بكلمة [اقرأ] ورجل الفطرة الذي لم
تفسده الفلسفات الباردة أو الترف المردي، إن تدبر القرآن الكريم والسنة النبوية
كفيلان بتغيير ما بالنفس من أمراض ليعود رجل الفطرة إلى دوره في السير على
هدى الله ويحقق ما خلق من أجله. وإن تغيير ما بالنفس ليس عملية صعبة فهذه أمم
في العصر الحديث استطاعت أن تنهض من كبوتها بسبب وجود الإنسان الذي
اكتملت فيه الشروط النفسية للتغيير، وليس بسبب وجود المادة وتراكمها، وأكبر
مثال على ذلك ما فعله الشعب الألماني الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف
عمر بلده بعد أن أصبح خرابًا بسبب الحرب، ورجعت ألمانيا كأقوى الدول الغربية
اقتصاديًا، وصدق فيهم ما قاله الصحابي عمرو بن العاص عن أجدادهم الروم:
(وأسرع الناس إفاقة بعد مصيبة) [٣٤]، وعندما يغير المسلمون ما بأنفسهم سيأخذ
الله ﷾ بأيديهم، لأن هذا وعده ومن أصدق من الله قيلًا.
خامسًا - في صرح الحق والباطل سينتصر الحق في النهاية وإن انتفش
الباطل وعربد في البداية، وهذه سنة نلاحظها في تفاصيل الحياة اليومية كما
نلاحظها في الأحداث الكبار، قال تعالى: [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ
مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: ١٧] .
يقول ابن قتيبة شارحًا هذه الآيات: (هذا مثل ضربه الله للحق والباطل يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله،
ويجعل العافية للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود أسال الأودية بقدرها [٣٥]
[فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا] أي عاليًا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق،
وكذلك المعادن إذا دخلت الكير يوقد عليها فيعلوها مثل زبد الماء ثم قال: [فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً] أي يلقيه الماء عنه فيتعلق بأصول الشجر وجنبات الوادي،
وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير، فهذا مثل الباطل [وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ] فهو مثل الحق) [٣٦] .
والمسلمون هم أحق الناس بهذه السنة وإذا تأخر عنهم فلأمر ما في نفوسهم،
أو لأنه لم تتمحص صفوفهم وكيف لا ينصرهم الله سبحانه وهم أولياؤه، وهل
يستوي المجرمون والمسلمون، وقد قال رسول الله ﷺ:
«نصرت بالرعب مسيرة شهر» وهذا الكلام ليس من باب [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ]، فهذه لا يفكر فيها المسلم ولكنها من باب وعد الله الصادق بنصر المؤمنين عندما
يكونون مؤمنين فعلًا، قولًا وعملًا، وليس من قبيل الأماني ويجب أن يعتقد من
تأخر عنه النصر والتمكين أنه ما تأخر إلا لسبب أو لأسباب، فلا يلومن إلا نفسه،
ولا يضع المعاذير لنفسه ويلقي بالتبعة على غيره.
للبحث صلة.
_________
(١) السخاوي: الإعلان والتوبيخ لمن ذم التاريخ /٢٣.
(٢) انظر السخاوي: الإعلان والتوبيخ /٢٣.
(٣) المصدر السابق /٤٩.
(٤) من الكتب الجيدة التي ألفت ما كتبه الدكتور محمد رشاد خليل في (المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره) .
(٥) من رواد هذه المرحلة التي تأثرت بالمستشرقين: حسن إبراهيم حسن وأحمد أمين ومن تأثر بهم من تلامذتهم.
(٦) - انظر: ابن القيم: الجواب الكافي /٢٢، ودراسات في حضارة الإسلام لجب/١٥٢.
(٧) يقول (نيبور) و(مارتيان): إن هدف التاريخ يقع خارج التاريخ انظر: ادوار كان: ما هو التاريخ/٨٢.
(٨) الذي يقول بأن هناك مميزات خاصة لجماعات خاصة من البشر.
(٩) الذي قال به ماركس، وقد أخذه عن هيغل الذي يقول بتناسخ الحضارات وأن كل حضارة تحمل في داخلها تناقضًا وهذا التناقض يصطدم مع ضده فينتج شيئًا ثالثًا، وهكذا فالعالم يتجه إلى الروح الكلي! ! حور ماركوس هذه النظرية وقال: إن طرق الإنتاج هي التي تعين طرائق التفكير، وهكذا يستمر صراع الطبقات حتى ينتهي الأمر أخيرًا إلى حكم طبقة العمال، انظر لويس جودشك: كيف نفهم التاريخ /٥٤٩.
(١٠) يرى هذا المؤرخ أن الحضارة كالإنسان تمامًا، ولابد أن تمر بفترة النشوء والشباب ثم الهرم فالفناء محتم عليها.
(١١) يفسر (توينبي) الحضارة بأنها: رد معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس في مواجهة (تحد) معين، والطبيعة بالخصوص - أي الجغرافيا - هي التي تقوم بهذا التحدي، وحسب مستوى التحدي وفعالية الرد تقوم حضارة هذا الشعب إما بالتقدم والوثوب إلى الأمام، أو الجمود ومن ثم الفناء، انظر: (شروط النهضة لمالك بن نبي/٨٨) .
(١٢) محمد عبد الله دراز: الدين /٨٤.
(١٣) شروط النهضة /٦٧ - ط، مكتبة دار العروبة بالقاهرة.
(١٤) مختصر دراسة للتاريخ ١/٥.
(١٥) شروط النهضة/٧٣.
(١٦) الصارم المسلول /٢٥٠.
(١٧) المقدمة ٢/٥٢٦، نشرة علي عبد الواحد واقي.
(١٨) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ١/٢٧١.
(١٩) أخرجه أبو داود ٢/٢١١، والحاكم وأحمد، انظر فضائل الشام للربعي /٣٨ - بتحقيق الألباني.
(٢٠) قال الألباني في تعليقه على مناقب الشام لابن تيمية: إسناده صحيح وهو موقوف.
(٢١) صحيح الجامع الصغير ١/١٣٩.
(٢٢) الصراع الدولي في الشرق الأوسط /١٤.
(٢٣) المصدر السابق /١٨١ والمؤلف في تعبيراته (الشرق الأدنى) أو (الامبراطورية) متأثر بمسميات الغربيين لتاريخنا.
(٢٤) المصدر السابق /٢٠.
(٢٥) وقد يوضح هذا الأمر الكوني تفسيران: ١ - أن (أمرنا) هنا بمعنى كثرنا من أمر المال، يأمر إذا كثر، يقال: خير المال سِكَّةِ مأبورة، أو مهرة مأمورة، فالمأمور: الكثير الولد، والسكة: السطر من النخل، والمأبورة: المُصلَحة ٢ - ومن القراءات في الآية: أمرنا مترفيها، أي أصبحوا هم الأمراء حتى يحق عليها القول، فالله يريد أن يهلك هذه القرية لفسادها، فكانت كثرة المترفين أو وجودهم كأمراء هو السبب المباشر والتفسيران يرجعان إلى أن الأمر قدري كوني، وهو اختيار ابن تيمية ﵀، انظر الأمالي لأبي علي القاري ١/١٠٣ ط، دار الشعب.
(٢٦) فتاوى ابن تيمية ٣/٢٨٥.
(٢٧) صحيح الجامع الصغير ٥/١٤١، قال عنه الألباني: حسن.
(٢٨) يعني بذلك: وقعة الحرة عندما ثار أهل المدينة على يزيد بن معاوية.
(٢٩) الفتاوى ١١/١١٤.
(٣٠) الذهبي: سير أعلام النبلاء ٣/٩٤.
(٣١) تأملات في سلوم الأنسان /٤١ - نشرة جامعة الدول العربية.
(٣٢) توينبي: الإنسان وأمه الأرض، انظر: زكي محمود - هذا العصر وثقافته / ٢٧.
(٣٣) انظر ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه: (دستور الأخلاق في القرآن) حول هذا الموضوع، وما كتبه الأستاذ جودت سعيد حول سنن تغير ما بالنفس في كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) .
(٣٤) مختصر صحيح مسلم للمنذري، تحقيق الألباني/٢٩٦.
(٣٥) أي: الكبيرة على قدره، والصغيرة على قدره.
(٣٦) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن /٣٢٦ - تحقيق: سيد صقر.
1 / 75
صفر - ١٤٠٧هـ
أكتوبر - ١٩٨٦م
(السنة: ١)
Shafi da ba'a sani ba
الافتتاحية
بين يدي عام هجري جديد
التحرير
ما أحوجنا ونحن نستقبل عامًا جديدًا أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا
وواقعنا مع رسول ﷺ في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة
المنورة وإذا كانت هذه الافتتاحية المتواضعة لا تتسع لجميع معاني الهجرة وما حوته
من دروس وعبر، فسوف نختار منها قيمة الزمن وأهميته.
لقد جاهد ﷺ في سبيل الله حق الجهاد، منذ أنزل الله
عليه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * ورَبَّكَ فَكَبِّرْ * وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ]
[المدثر: ١-٤]، فكان ﷺ يواصل الليل مع النهار والسر مع
الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد
قريش ووعيدها.
واستجاب له منذ بداية الدعوة صديق الأمة أبو بكر من الرجال، ومن
الصبيان علي بن أبي طالب، ومن النساء زوجه خديجة بنت خويلد، واستجاب
لأبي بكر: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضى
الله عنهم جميعًا وأرضاهم.
وتعهد ﷺ أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار
الأرقم فيحفظهم ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق،
ويحذرهم من الفسق والشرك والعصيان، وكان ﷺ قدوة لهم في
جميع أقواله وأفعاله.
وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في الدعوة إلى الله
وفي التزود من علم رسول الله ﷺ وفضله، وكانت العقيدة في
نفوسهم أهم من المال والأهل والولد، وعندما خيروا بين الوطن والقبيلة ورغد
الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- والهجرة في سبيل الله.
لقد صدق الصحابة -رضوان الله عليهم- ما عاهدوا الله عليه، وعندما
ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية، وعندما نادى
منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم يقول
[وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] [طه: ٨٤] .
وبعد ثلاثة عشر عاما من البذل والتضحية أكرم الله جل وعلا محمدًا ... وأصحابه - صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم - بالنصر وجاءهم من جهة المدينة.
ثلاثة عشر عامًا كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها! ! .
ثلاثة عشر عامًا لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم
عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض.
ثلاثة عشر عامًا من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة.
فأين نحن اليوم من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلم؟ .
لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه..
فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت
وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله
شديد؟ ! .
ماذا قدمنا فيه كأفراد وكشعوب، ليوم كألف سنة مما تعدون؟ ! .
إن الجواب على هذا السؤال مخجل ومخجل جدًا، ولكن لابد من الاعتراف
بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه
في عمل قلما تنتفع به الدعوة الإسلامية، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه
التعب فيتناول طعام الغداء مع أهله ويرتاح قليلًا ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في
رعاية شؤون البيت والولد، ثم ينام، ثم يعود في الصباح إلى عمله وهكذا..إنها - والحق يقال - حياة كالتي وصفها الحطيئة في هجائه للزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لقد شغلتنا أموالنا وأولادنا عن طاعة الله والجهاد في سبيله، ونحن الذين
حذرنا الله -جل وعلا- من فتنة المال والولد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا
تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ *
وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المنافقون: ٩-١١] .
وكان ابن عمر ﵄ يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح
وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك»
رواه البخاري.
وقال ﷺ: لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن
عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه،
وعن جسمه فيم أبلاه.
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال
الصالحة، وفي الجهاد في سبيل الله، أم أفنيناها في اللهو والتفاخر بالجاه والمال
والولد.
ويسألنا ﷾ عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السان، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أم أبليناها في تناول ما لذ من الطعام والشراب؟ ! .
والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في
السماء.
قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ
مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ
إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]
[المجادلة: ٧] .
وقد انتبهت الأمم الأخرى إلى قيمة الوقت وأهميته، فالناس في جميع بلدان
العالم كانوا يظنون أنه لن تقوم للألمان قائمة، بعد دمار بلدهم، وهلاك الحرث
والنسل فيه خلال الحرب العالمية الثانية.. ولكن أصحاب العقول من العلماء
والحكماء والسياسيين الألمان راحوا يعملون بهمم جبارة، ورفعوا شعار العمل
ساعتين مجانًا في كل يوم من أجل بناء بلدهم، واستجاب الشعب لهم، وهبوا جميعًا
يعملون على قلب رجل واحد، وخلال زمن يسير عادت ألمانيا دولة قوية مرهوبة
الجانب وكأنها لم تتعرض لدمار شامل.
فتصوروا لو عمل المسلمون ساعتين في اليوم مجانًا في سبيل الله.
لو كان عملهم في مجال الاقتصاد لكان دخل الدعوة الإسلامية لا يقل عن ألفي
مليون دولار في اليوم الواحد، وسيكون خلال شهر واحد ستين ألف مليون دولار،
ولو رصد مثل هذا المبلغ في سبيل الله لتغير وجه الأرض شريطة أن يصاحبه
تخطيط وصدق.
ولو كان عمل المسلمين في مجال تبليغ الدعوة لدخل الناس في دين الله أفواجًا
في كل مكان من المعمورة، وأصبح الإسلام دين البشرية كلها.
ولو كان عملهم في المجال العلمي بجميع جوانبه وفروعه، لقاد علماء أمتنا
العالم ولانتهت أسطورة اليهود وغير اليهود.
وفضلًا عن هذا كله، فنحن أحق من الألمان بمثل هذا العمل لأنهم يعملون من
أجل دنياهم، ونحن نعمل من أجل دنيانا وآخرتنا.
فهل نبدأ عامنا الجديد ونحن أكثر استعدادًا لعمل الخير وطاعة الله سبحانه
وتعالى؟ ! .
وهل نتخلى عن السهرات والجلسات الفارغة وما يدور فيها من غيبة ونميمة
ومراء ونفاق؟ ! .
وهل نستفيد من أوقاتنا، ونحزن على كل يوم يمضي من أعمارنا دون أن
نعمل فيه عملًا طيبًا خالصًا لوجه الله؟ ! .
وهل نجدد العهد مع الله، ونتأسى برسول الله وأصحابه الغر الميامين - صلى
الله على رسوله وعلى آله وصحبه وسلم - الذين عرفوا كيف يستفيدون من ... أوقاتهم؟! .
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعلنا من
الخاسرين الذين يؤثرون العاجل على الآجل والفاني على الباقي.
2 / 4
التجديد في الإسلام
تحدث الباحث - في المقال السابق - عن حديث المجدّد، وتناوله من حيث
الثبوت. ثم من حيث المعاني المستخرجة منه، وعرض أقوال العلماء فيه
باستفاضة وقبل أن يدلف إلى الترجيح بين الآراء قدم لذلك بحديثين -كبُشْرَتَيْن لهذه
الأمة - مر أولهما في آخر المقال السابق، وهو حديث: لا تزال طائفة من أمتي
على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وفي هذا الجزء من البحث يتابع
الكاتب دراسته لحديث المجدد، وللتجديد بشكل عام.
وقال الإمام الترمذي: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي ابن
المديني يقول: هم أهل الحديث) [١] وروى الحاكم عن الإمام أحمد أنه قال: (إن
لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟) [٢] .
قال الحافظ في الفتح (بسندٍ صحيح) [٣] .
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة
بين أنواع المؤمنين؛ منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم
زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض) [٤]
ونقل ابن حجر كلام النووي ثم زاد في آخره: (ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم
أولًا فأولًا، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر ... الله [٥] .
وثانيهما: قوله ﷺ: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين
فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على
ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال:
من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) [٦] وهذا الحديث وإن كان فيه بيان
تفرق الأمة الواحدة إلى شيع شتى، إلا أن فيه بيان حفظ الله لدينه بإقامة فرقة ناجية
تلتزم بهدي رسول الله ﷺ في اعتقادها وسلوكها وهذه الفرقة
الناجية هي الطائفة المنصورة، والله أعلم، ولا نظن حديث المجدّد بمعزل عن
مفهوم هذين الحديثين. فحين تستحكم الأهواء، وتعبث بهذه الأمة الآراء، فتفترقُ
إلى هذه الفرق الكثيرة، تكون الفرقة الناجية المنصورة هي القائمة بأمر الله في
خضم هذه النزاعات والاضطرابات، الملتزمة بمنهج الرسول -صلى الله عليه
وسلم- في جميع أمورها. ولا شك أن كل طائفة متحزبةٍ على شيءٍ من الدين سوف
تدَّعي -كما يدَّعي غيرها-أنها هي المقصودة في الأحاديث النبوية.
وكلُّ يدعي وصلًا بليلى ... وليلى لا تُقِرُّ لهم بوصل!
وليس من حقّ أحدٍ أن يتحكم فيدخل من شاء ضمن هذه الطائفة، وينفي من
شاء وفق رغبته وهواه، بل يكون ذلك وفق ميزانٍ عدلٍ مقسط، وهو عرض حال
المدَّعي على الصفات النظرية والعملية التي وصف السلف الصالح بها هذه الفئة،
وهي:
١- موافقة اعتقاداتها لما كان عليه ﷺ وأصحابه، في أبواب العقيدة كلها:
من أسماء الله وصفاته، والإيمان، والقدر، إلى غير ذلك من أصول الاعتقاد. وأسعد الناس بذلك هم الذين يؤمنون بالنصوص إيمانًا صادقًا دون أن يسلطوا
عليها سهام التحريف والتأويل والإنكار والتضعيف. ومن أين يستطيع أحد أن يثبت
أن الصحابة اعتقدوا بالأصول والنتائج التي اعتقدها المخالفون ممن أشربوا حب
الكلام، وجعلوا العقل الفلسفي حاكمًا على النصوص، ففسروا النصّ وفق ما
يقتضيه ذلك العقل - في نظرهم - وإن أدى ذلك إلى أن يفهم من النص نقيض
معناه.
وليس بنا الآن حاجةٌ إلى نقل نصوص الصحابة والتابعين ومن بعدهم من
الأئمة المهديين لأنها أكثر من أن يتسع لها المقام، ولكن نحيل إلى بعض مواطنها
لمن يريد [٧] .
٢- اعتمادها في التفقه والاستنباط على الوحي المنزل، أو على ما أحال عليه
الوحي المنزل من الأدلة كالإجماع الثابت، أو القياس الصحيح أو المصلحة
الراجحة التي لا تعارض نصًا من النصوص. وأين من ذلك الذين نبذوا مفهومات
النصوص، وتشبثوا بأقوال الأئمة وقدموها على الوحي المنزل حتى قال قائلهم:
(كل نص خالف ما قاله الأصحاب فهو إما منسوخ أو مؤول) . وليس يعنى هذا نبذ
أقوال أهل العلم المعتبرين ونشر الفوضى بين المسلمين، وفتح المجال للطلبة
الصغار الذين لا يحسنون التلاوة، فضلًا عن أن يعرفوا الناسخ والمنسوخ والخاص
والعام، والمطلق والمقيد ليتولوا أمر الفُتيا فيَضِلّون ويُضلّون. كلا، فالتقليد في
بعض الحالات يصبح (ضرورة)، وهكذا نريد أن يعامل على أنه جائز ضرورة،
فمتى استغنى عنه الإنسان في أي مسألة تركه إلى الدليل.
٣- ومن الخصائص المهمة لأهل السنة -أهل الحديث كما يعبر البخاري
وابن المديني وأحمد ﵏:
... الحرص على العمل بالشرع والتزام الأوامر والنواهي.
ولقد تسرب إلى أذهان كثير من الناس أن كلمة (أهل السنة) تعني المذهب
الاعتقادي فحسب، وذلك خطأ بيّن، إن المعرفة الصحيحة بالله التي يحرص عليها
أهل السنة ليست هي المعرفة الذهنية الباردة، بل هي المعرفة القلبية الحية التي
ينتج عنها الخوف والرجاء والمراقبة والامتثال.
ولذا كان الأئمة السابقون حين يذكرون أهل السنة يعتبرون من خصائصهم
المحافظة على المفروضات والسنن والمستحبات والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وصلة الرحم وحب المساكين والإحسان إلى الجيران.
قال الإمام المحدث الشيخ أبو عثمان الصابوني المتوفي سنة ٤٤٩ هـ في
رسالة (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): (.. ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات
وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات ويوجبون قراءة
الفاتحة خلف الإمام ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتمًا واجبًا، ويعدون إتمام
الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما، والارتفاع من الركوع والانتصاب منه
والطمأنينة فيه وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من
أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام وبصلة
الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام
والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح
والمصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع
ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه.. . الخ) [٨] وإلى هذا وذاك فأهل الحديث
والسنة يحرصون على جمع الصف ووحدة الكلمة داخل هذا الإطار، فهم ليسوا
حزبًا محدودًا ينفي من عداه بالهوى والتحكم، ولكنهم رايةٌ عقدية أثرية من انطبقت
عليه صفاتها وخصائصها فهو من هذه الفئة أقرّ له الآخرون بذلك أم لم يقرّوا.
استحالة أن يكون المجدّد من غير أهل السنة:
فهذه الفئة أو الطائفة الموعودة يستحيل أن يكون المجدّد من غيرها استحالةً
تامة. إذ هي القائمة بأمر الله، المتبعة لشرعه، السائرة على هدي نبيه حذو القذة
بالقذة، ومن ثم فهي المجدّدة لهذا الدين حين كاد يَخلَقُ بغبرة الأهواء وظلمتها وهي
الواقفة عند حدود الله حين تجارت الأهواء بأصحابها فلم يبق لهم من الدين إلا
الانتساب، فكيف يكون التجديد عمل غيرها؟ .
وقد يكون لهذه الطائفة رؤوس يمتازون بالموقف الصلب الثابت، والعلم
الواسع، والعمل الدؤوب في بلدٍ واحدٍ، أو في بلدان متعدِّدة، فردًا أو أفرادًا وهؤلاء
من التجديد أوفى نصيب، ولكن يصحُّ أن يقال: إن لغيرهم من المجاهدين في هذا
السبيل من التجديد بحسبهم. وهذا ما تلتقي عنده آراء عددٍ من الأئمة المحققين،
وهو ما ينسجم مع ما قررناه في حديثي الافتراق والطائفة المنصورة -السابقين-.
وسيأتي في سياق العرض التاريخي لحركة التجديد في الإسلام ما يكشف عن
هذا، وأنه إن جاز أن يكون المجدّد في القرن الأول فردًا؛ فإن احتمال ذلك أقل فيما
بعد لأسباب منها: كثرة الشر والفساد، واتساع مجالات الانحراف وطرقه وأسبابه،
واتساع رقعة الأمة وانتشارها، وتناقص الخيرية في هذه الأمة حتى لم يعد يوجد
الأفراد المستجمعون لصفات المجدّد بحذافيرها، بل هي مفرقة في عددٍ من فضلاء
الأمة ونجبائها.
يقول الإمام الحافظ ابن حجر ﵀ بعد سياق الخلاف في المجدّد:
أفرد أم جماعة؟ -: (ولكنّ الذي يتعين فيمن تأخر المحملُ على أكثر من الواحد؛
لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عامًا في جميع أهل ذلك
العصر، وهذا ممكنٌ في حقّ عمر بن عبد العزيز جدًا، ثم في حق الشافعي. أما
من جاء بعد ذلك، فلا يعدم من يشاركه في ذلك) [٩] .
وقال: (لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط؛ بل يكون الأمر
فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجهٌ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا
ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص
واحد، إلا أن يدَّعي ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس
المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم
كانوا يحملون الحديث عليه.
وأما من جاء بعده؛ فالشافعي - وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة - إلا أنه لم
يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل. فلعل هذا كل من كان متصفًا بشيءٍ من
ذلك عند رأس المائة هو المراد؛ سواء تعدَّد أم لا) [١٠] .
وإن لحظت في كلام ابن حجر في هذا شيئًا من الاختلاف عن كلامه ذاك فهو
هنا أكثر قناعة بضرورة تعدد المجدّدين في القرن الواحد، حيث يعبر عن تسمية
عمر بن عبد العزيز مجدّدًا فردًا بقوله: (.. إلاّ أن يدَّعى ذلك في عمر..)، وأما
بالنسبة للشافعي فينفي ذلك عنه لعدم استجماعه للصفات كلها، في حين أنه قال قبلُ: (وهذا ممكن في حقّ عمر بن عبد العزيز جدًا، ثم في حق الشافعي)، فالأولى
بالأخذ كلامه الأخير المنقول من الفتح؛ لأن الفتح من أهم كتبه وأوثقها عنده وآثرها
لديه، ولتأخر الفراغ منه إلى سنة ٨٤٢ هـ، وهذا الكلام المنقول هو في آخر
أبواب الكتاب، على حين فرغ من تأليف كتابه الآخر (توالي التأسيس بمعالي ابن
إدريس) سنة ٨٣٥هـ[١١] ويلحظ أنه ألفَّه للثناء على الإمام الشافعي ﵀
والإشادة به، فاختلف موقعا الكلام.
وقال الإمام الذهبي: (من - هنا - للجمع، لا للمفرد، فنقول مثلًا: على
رأس الثلاثمائة: ابن سُريجٍ في الفقه [١٢] والأشعري في الأصول، والنسائي في
الحديث.. . الخ) [١٣] .
وقال ابن الأثير: (لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا
واحدًا وإنما قد يكون واحدًا، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة (مَنْ) تقع على الواحد
والجمع. وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاءَ خاصة - كما ذهب
إليه بعض العلماء - فإن انتفاع الأمة بالفقهاء، وإن كان نفعًا عامًا في أمور الدين،
فإنّ انتفاعهم بغيرهم أيضًا كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء
والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فإن كل قومٍ ينفعون بفن لا ينفع به
الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي
به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك
أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون
بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم
التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر.. فإذا تحمل تأويل
الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة، وأثبه بالحكمة.. فالأحسن
والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعةٍ من الأكابر المشهورين على رأس
كل مائة سنة، يجددون للناس دينهم..) [١٤] .
وقال الحافظ ابن كثير: (وقد ذكر كل طائفة من العلماء: بل الصحيح أن
الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية
في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف كما جاء في الحديث
من طرق مرسلةٍ وغير مرسلة: يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه
تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا ... هذا..) [١٥] .
ثم أشار إلى الحديث المخرج سابقًا: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق. قال السهارنفوري نقلًا عن الشيخ محمد يحيى: (من يجدد لها دينها، أي:
نوعًا منهم وأشخاصًا، فلا يلزم أن يكون واحدًا بالشخص، وإن ذهب العلماء في
معنى الحديث إلى الذي نفينا. ووجه ما ذهبنا إليه أنه لا ينطبق على كثير ممن لم
تشرّف بالتجديد أن يكون جدّد كل نوع من أنواع الدين، فكم من محدّث ليس له من
تجديد الفقه نصيب، وكم من باعثٍ على أعمال حسنةٍ هو في نشر أقسام العلوم
غريب. مع أنه لم يسمع أن أحدًا من هؤلاء عمّ حديثُه وفقهه جملة الأقطار وتشرفت
بتجديده - بحسب الظاهر - جملة القرى والأمصار. وأما ما قلنا فالأمر سهل. مع
أن كلمة (مَنْ) ليست نصًّا في الشخص الواحد.. ولا يبعد أن يكون لكل مملكةٍ،
وبلدةٍ من معظم الممالك مجدّد على رأس مائة..) [١٦] .
وهكذا تلتقي أقوال هؤلاء الأئمة مع ما ذكرناه عن الإمام النووي من قبل في
شأن الطائفة المنصورة. وهذا من شأنه أن يجعل كل مؤمن صادق الإيمان حريصًا
على أن يقوم بدوره في عملية التجديد، فالقضية لم تعد شخصًا يُنتظر كما يُنتظر
المهدي أو عيسى بن مريم ﵇، بل عدت واجبًا منوطًا في عنق كل داعية
مسلم.
معنى التجديد:
والتجديد يعني جعل الشيء جديدًا، فتجديد الدين يعني إعادة نضارته ورونقه
وبهائه وإحياء ما اندرس من سننه ومعالمه، ونشره بين الناس. وهذا اللفظ
(التجديد) يؤكد أن التجديد الموعود لابد أن يكون على حين فترة من العلماء،
واضمحلال لشأن أهل الحق وحملة السنة، فيبعث الله هؤلاء المجدّدين ليعيدوا
للناس الثقة بدينهم، ويعلموهم ما جهلوا من شأنه. وهكذا يبدو جليًا أن التجديد لا
يعني بحال من الأحوال إضافة شيء جديدٍ إلى الدين، كما أنه لا يعني بحالٍ من
الأحوال اقتطاع شيء منه ونبذه. فهذا وذاك ليسا في الحقيقة تجديدًا، وإنما هو
مسخٌ وتجريد.
ليس من التجديد:
١- فالطريق الذي سلكه الفيلسوف الهندي (محمد إقبال) والنتائج التي توصل
إليها في محاضراته: (تجديد الفكر الديني في الإسلام) ليست إلا تفسيرًا كليًا للدين
بمجموع مكوناته: الألوهية - النبوة - البعث - الجزاء ... الخ.. هذا التفسير أو
التصور الذي يلتقي في معظمه مع مذهب الفلاسفة الاتحاديين الذين يرون الخلق
مظهرًا يتجلى فيه الخالق ليس تجديدًا للعقيدة (أو كما سمّاها: الفكر الإسلامي) ولكنه
تجريد له من حقيقته الإلهية، وإضفاء للفكرة الصوفية الفلسفية عليه.
والاتجاه العقلاني - عامة - الذي يحاول تفسير النصوص الشرعية وفق
مقتضيات الفلسفة البشرية، ويلوي عنق النص ليًا ليتفق معها ليس تجديدًا للدين،
لأن تجديد الدين يعنى تثبيت معالمه وعقائده وأحكامه ليظهر تميزها واختلافها عما
سواها من الأديان المحرفة المنسوخة أو من الآراء والفلسفات القاصرة، وليس يعني
إذابة تميزه وخلخلة بنائه لينسجم مع هذه أو تلك.
٢ - والمنهج الإسلامي الذي اختطه بعض الدعاة استجابة للضغوط الواقعية
والمتغيرات الاجتماعية والدولية - كما زعموا - واقتنعوا بموجبه بضرورة استبعاد
بعض القضايا الشرعية والعقدية المسلَّمة لدى الأمة وعلمائها منذ عصر الصحابة
حتى اليوم.
ثم رأوا أنه لا يستقيم منهجهم إلا إذا هدموا الأسس التي بنيت عليها تلك
القضايا ليتسنى لهم أن يتحركوا بحرية فرفعوا عقيرتهم بالمطالبة بتجديد هذه الأسس
وتلك الأصول؛ فلابدّ - في نظرهم - من إعادة النظر في (أصول الفقه) و(أصول
الحديث) و(علم الجرح والتعديل)، بل من إعادة النظر في العقائد الإسلامية.
وإخضاعها للنظرة العقلية المعاصرة! .
إنها المدرسة العقلية تطلُّ من جديد، وإن كانت لا تلتزم بذات الأصول التي
تواضع عليها العقلانيون الأوائل. وليس ثمة اعتراض منا على ضرورة صياغة
أصول الفقه مثلًا صياغة تلائم العصر، أو تنقيح مسائله وقواعده على ضوء الأدلة
من القرآن والسنة، ولا اعتراض لنا على ضرورة كتابة أصول الحديث كتابة
جديدة من حيث التوسُّع في موضوعاته، ودراستها، وترجيح بعضها على بعض
بالأدلة الصحيحة، مع مراعاة الأسلوب الجيد والإخراج الملائم.
ولا اعتراض لنا على ضرورة دراسة جوانب العقيدة -كما هي عند السلف-
وإخراجها للناس أو تغيير طريقة عرض بعض القضايا المتعلقة بها، وربط الدراسة
العلمية بالأوضاع المستجدة كقضية الحكم أو الولاء - مثلًا.
ولا اعتراض لنا على ضرورة الدراسة الشرعية المتعمقة للقضايا البشرية
الجديدة التي لم يتكلم فيها السلف ﵏؛ لأنها لم توجد في زمانهم فلم تدع
الحاجة إلى الحديث عنها. كل هذا مما نطالب به ونعتبره من صميم عملنا في خدمة
هذا الدين. لكن أن يتحول الأمر إلى (تغيير) لشيء نعتقد أنه (جزء) من الدين فهذا
ما لا نرتضيه، بل نعتبره تعديًا لحدود الله، وخللًا خطيرًا في (الاستسلام) الذي هو
روح الإسلام.
وقديمًا قال بعض السلف: (إن قدم الإسلام لا تثبت إلى على قنطرة ... التسليم) [١٧] .
فالتجديد المقصود المنشود ليس تغييرًا في حقائق الدين الثابتة القطعية لتلائم
أوضاع الناس وأهوائهم، ولكنه تغيير للمفهومات المترسبة في أذهان الناس عن
الدين، ورسم للصورة الصحيحة الواضحة، ثم هو بعد ذلك تعديل لأوضاع الناس
وسلوكهم حسبما يقتضيه هذا الدين.
إن أي حركة تستهدف تغيير معالم الدين تكون في حقيقتها هدمًا له وقضاء
عليه، وإن بدا أنها تدعو إليه، أو تحقق له بعض المكاسب الآنية.
ونلحظ في كلمتي (الأمة) و(دينها) أن الأصل فيهما العموم والشمول، فهذه
الحركة التجديدية التي تقوم عبر التاريخ الإسلامي في كل وقت يضعف فيه الخير
وينكمش، تستهدف إصلاح الأمة بكاملها في جميع أقطارها على كافة مستوياتها،
فهي ليست حركة إقليمية محدودة تقف عند بلد معين لا تتعداه أهدافها وطموحاتها،
وليست مقصورة على فئة معينة من الفئات التي تكوّن المجتمع؛ بل تخاطب الشاب
والشيخ والعامل والموظف والقريب والبعيد والرجل والمرأة تخاطب كل فئة على
قدر ما تحتمله عقولها، وبالأسلوب الذي يناسبها، فالإسلام لم ينزل ليكون دينًا لفئة
خاصة من العقلاء الأذكياء مثلًا! كلا، بل الإسلام إنقاذ للبشرية - كلها - من
ظلمات الكفر بأنواعه في الدنيا، ومن ظلمات النار والسعير يوم القيامة. وقد آن
الأوان أن يعقل المسلمون والدعاة إلى الله خاصة - هذا المعنى فلا يحجبون الخير
عن سائر فئات الناس ممن يتطلعون إلى الهداية ويتقبلونها، ولو كانت استجابتهم
تقف عن حد معين.
إن مجرد هداية فرد إلى الله تعالى، ووصله بحبل الله المتين، وإنقاذه من
الكفر والشرك يعد هدفًا بذاته ومكسبًا عظيمًا للداعي والمدعو، حتى لو وقف الأمر
عند هذا القدر. فكيف إذا أصبح هذا المدعو يحمل الدين الصحيح لمن حوله بحماس
أو بغير حماس؟ ! وقد آن الأوان أن يتحرك الدعاة الصادقون إلى ميدان عملهم
الأصيل: (الأمة) الأمة التي عبثت بها أيدي المفسدين من: اليهود والنصارى
والشيوعيين والمخرفين من الصوفية والرافضة والمعتزلة وغيرهم. هذا على صعيد
(الأمة) الممتد الفسيح.
مجالات التجديد:
وحين نلحظ بجوار ذلك الكلمة الأخرى: (من يجدد لها دينها) نجدها تفتح أمام
الدعاة آفاقا جديدة في طبيعة التجديد ونوعه.
إن هذا التجديد (للأمة) لا ينحصر في مجال واحد فحسب، بل يمتد امتدادًا
آخر ليشمل تجديد الدين كله: فيشمل:
أولًا: التجديد في مجال العقيدة:
وهيهات أن يكون التجديد يعنى إضافة شيء آخر إلى العقيدة الربانية، كلا بل
التجديد هو تخليص العقيدة من هذه الإضافات البشرية لتصبح نقية صافية ليس فيها
أثر لصنع البشر وآرائهم وفلسفاتهم. ولتفهم بالبساطة والوضوح التي فهمها سلف
هذه الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
فأول خطوة في مجال التجديد العقدي هو تنقية العقيدة الإسلامية من آثار علم
الكلام ومن جميع ما علق بها.
ومن التجديد في مجال العقيدة ربط آثارها الواقعية بها، فلا يكفى أن يؤمن
المرء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله على مقتضى ما يدين به أهل السنة إيمانًا عقلانيًا
جافًا، بل لابد من العمل على إحياء الآثار القلبية النابعة من صدق الإيمان.
لابد أن تطرق المعاني الباطنة التي هي جزء لا يتجزأ من العقيدة والإيمان:
عمل القلب، وعمل القلب هو الحب والبغض والخوف والرجاء والرغبة والرهبة
والإنابة والخشوع. ولقد غفل الناس عن هذه المعاني - حتى العلماء - إلا من رحم
الله - فطال الأمد، وقست القلوب، وصار الحديث عن صحة القلب ومرضه
وعلاجه، وعن المعاني الإيمانية القلبية وقفًا على الصوفية الذين أسرفوا وغلوا حتى
عبدوا ذواتهم ومشايخهم، فضلوا وأضلوا كثيرًا عن سواء السبيل. ولقد كان أئمة
السلف نماذج حية في صدق اللجأ إلى الله، وعمق الصلة به، ويقظة الضمير
وحساسيته من جراء ذلك، وأوفى الناس حظًا من ذلك صحابة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ثم التابعون لهم بإحسان، ثم العلماء العاملون على مدار القرون.
ومن يتأمل سيرهم وأحوالهم يجد ذلك الشيء العجيب الغريب.
إن من واجب الحركة التجديدية أن تولي هذه القضية عناية كبيرة، فهي الأثر
العملي المباشر للتصديق بالعقيدة. ولذا نجد أن الله تعالى بعد ما أثنى على المؤمنين
بتصديقهم بيوم الدين، اتبع ذلك بذكر إشفاقهم من عذاب الله، فقال سبحانه:
[والَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * والَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ
غَيْرُ مَأْمُونٍ] ... [المعارج] .
وإن معالجة الانحراف الظاهر على كافة المستويات لا تستقيم إلا إذا صاحبها
معالجة الانحراف الباطني؛ فما من فساد ظاهر إلا وله رصيده من الفساد الباطني
ولا يحصل تغير الظاهر إلا بتغير الباطن.
وإن توجيه الناس لالتزام الأوامر واجتناب المناهي لا يستقيم إلا إذا صاحبه
تربية للضمير وإحياء للمشاعر القلبية الصادقة التي تقف كالحارس اليقظ الساهر
الذي يمنع تسلل الضعف أو التقصير. فهذا على ما وصفناه من أعظم أبواب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن طرح مثل هذه الموضوعات لا يحسنه كل أحد، ولا يفلح فيه ويثمر إلا من كان يتكلم عن وجدٍ وانفعال، أما عملية (التكلف) فلا
تجدي شيئًا.
إن على الداعية الصادق أن يتعاهد قلبه، ويحرك أشواقه ليكون لكلامه التأثير
المطلوب. ومن التجديد المطلوب في مجال العقيدة: عرض الانحرافات الجوهرية
التي تعيش اليوم بين المسلمين مما له تعلق بجوانب الاعتقاد، مع بيان خطرها
وتأثيرها، والتحذير منها.
فالحديث عن موالاة الكافرين وحكمها وتأثيرها على النفوس، والخطر
الزاحف بسببها سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع، والتركيز على
ضرورة استقلال الأمة المسلمة وتميزها، واستعلائها بإيمانها وشريعتها على
الأوضاع والعقائد والنظم الجاهلية.
هذا الحديث وربطه بقضية العقيدة أصبح مطلبًا مُلِحًا مع لحوق كثير من
المنسوبين إلى هذا الدين بمعسكرات الكفر، ومع ربط كثير من الأمم المسلمة
مصيرها بالكافرين، ومع الولاء السافر المكشوف الذي يعطيه الحاكمون لأعداء الله، ومع الانفتاح الرهيب للمسلمين على المجتمعات والشعوب الوثنية والنصرانية
وغيرها.
والحديث عن قضية الحكم بغير ما أنزل الله، وحكمه، وضرورة رد الأمور
كلها إلى شرع الله لأن هذا هو مقتضى الإسلام والتسليم، وشرط الإيمان الذي لا
يكون إلا به. وتربية الأفراد والمجتمعات على الولاء لشريعة الإسلام، والحذر من
تنقصها أو اعتقاد أفضلية غيرها، أو مساواته لها، أو جواز الحكم بغيرها، بحيث
يصبح الإيمان المطلق بشريعة الله قناعة راسخة لدى كل مسلم، حتى لو فرضت
عليه النظم البشرية الجاهلية.
كل ذلك أصبح طرقه والتركيز عليه ضرورة مع سيطرة القانون الوضعي
على المسلمين من جهة، ومع انتشار الأفكار المشككة في الإسلام وصلاحيته للبقاء
والحكم من جهة ثانية.
ومثل هذا وذاك التركيز على توحيد العبادة خاصة في البلاد التي جهل الناس
فيها معنى الألوهية وصرفوا العبادة للشيوخ والأولياء وقدسوا الأضرحة أكثر من
تقديس المساجد!، وبالجملة فالتأكيد على أمر من أمور العقيدة لا يعني أن هذا الأمر
أخطر من غيره من القضايا التي لم يعنَ بها بنفس القدر؛ لأن الدعوة إلى الله تهتم
بمعالجة جوانب الانحراف، وحيثما اتسعت دائرة الانحراف في مجال كانت الحكمة
في التركيز عليه - مع عدم إهمال ماعداه.
ويشمل التجديد (ثانيًا): التجديد في مجال النظر والاستدلال، وإحياء الحركة
العلمية التي تهدف إلى دراسة القضايا الشرعية كلها دراسة مبنية على الدليل
الشرعي الصحيح بعيدًا عن عصبية المذاهب. فلسنا نعتقد أن الحق محصور في
مذهب بعينه لا يخرج عنه بحال، ولذا فالبحث عن الحق هو ضالة المسلم المنشودة، أنى وجده سَعِد به وقبله غير ناظر إلى هذه الحواجز المذهبية. ولضمان سير
منهج التفقه والاستنباط سيرًا سليمًا بعيدًا عن الانحراف أو الفوضى التشريعية فلا بد
من صياغة المنهج السليم للتفقه من خلال استقراء طريقة السلف الصالح رضوان
الله عليهم أجمعين.
ويشمل التجديد (ثالثًا): التجديد في السلوك الفردي والاجتماعي بالعمل على
صياغة حياة المسلمين بتفصيلاتها صياغة إسلامية شرعية، والإفادة من المعاني
الوجدانية التلبية التي يفترض أنها بدأت تستيقظ في النفوس، بربط الأحكام
التفصيلية بها.
إن الانحراف السلوكي في حياة المسلمين المؤمنين حقًا بهذا الدين يرجع إلى
أحد سببين:
١- إما الجهل بحكم الله ورسوله في هذه المسألة.
٢- وإما ضعف الإيمان وضعف الإرادة بحيث تغلب الإنسان شهوته، أو
تغلبه ظروفه فيقع في المحظور. فمعالجة الجهل هي بالتعليم والتفهيم وربط الناس
بالنصوص الشرعية، ومعالجة الضعف الداخلي هي بمخاطبة القلوب والتأثير ... عليها.
ومما نلحظه في واقع المقصدين للوعظ والتعليم اليوم أن كثيرًا منهم يعني
بذكر الله واليوم الآخر والجنة والنار وعذاب القبر والموت وسكراته. وبغض النظر
عن فشل الأسلوب الذي يستخدمه أكثر هؤلاء، وعدم قدرتهم على التسلل اللطيف
إلى قلوب السامعين؛ فإن الخطأ الذي نشير إليه هو أنهم لا يربطون المعاني التي
أثاروها بقضايا سلوكية واقعية يجب أن تعالج.
وفئة أخرى. من أهل الفقه تُعني ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام،
وبغض النظر عما يلاحظ عليها في منهجها ونتائجها ووسائلها؛ فإن الأمر الذي
نلحظه الآن هو عدم ربط هذه الأحكام بأصولها الإيمانية التي تدعو إلى العمل بها
وامتثالها.
وأنت حين تتأمل طريقة القرآن والسنة تجد أنه في الفترة المدنية حيث تتابع
نزول الأحكام التفصيلية المنظمة لحياة المسلمين، أصبح الحديث عن الحكم مرتبطًا
بإثارة العقيدة، وأصبح الكلام في العقيدة مستمرًا في التحريض على امتثال الحكم،
ولذلك تذيل الآيات ببيان صفة من صفات الله كالعلم والحكمة والعفو والمغفرة
والانتقام وشدة العقاب.. أو تتبع آيات الأحكام بآيات أخر تُرغِّب في عفو الله
ورضوانه والجنة، وتحذر من سخطه والنار.
وإذا أحسن الداعية سلوك هذا الطريق فسيجد فيه خيرًا كثيرًا، وسيلمس آثاره
الواضحة عن قريب.
ويشمل التجديد (رابعًا): فضح المناهج والاتجاهات والأوضاع والمبادئ
والسبل المخالفة للإسلام ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. ولقد
كان من مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه كشف طريق الضلال
لئلا يلتبس بطريق الحق. فكان النبي يقول: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ * ولا تُطِيعُوا
أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ] [الشعراء: ١٥٠ -
١٥٢] . واستبانة سبيل المجرمين هي من مقاصد القرآن: [وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] [الأنعام: ٥٥] . فمن مهمات الدعوة الإسلامية على
مدى الزمن أن تزيل أي التباس أو غموض قد يصيب الناس، فيلبسون المنافق
ثوب المؤمن الصادق، أو يلبسون المبتدع الضال ثوب المتبع المهتدي.
_________
(١) ذكره الترمذي في موضعين من سننه، الأول في ٤/٤٨٥ كتاب الفتن، والثاني في ٤/٥٠٤ نفس الكتاب.
(٢) معرفة علوم الحديث ص٢ نشرة: معظم حسين.
(٣) فتح الباري: ج ١٣ ص ٢٩٥.
(٤) شرح النووي على مسلم في كتاب الإمارة ج ١٣ ص ٦٦.
(٥) فتح الباري ج ١٣ ص ٢٩٥.
(٦) الحديث ورد من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم أبو هريرة، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك، وأنس، وأبو معاوية، وأبو الدرداء وواثلة بن الأسقع، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وهذه مواضع أحاديثهم على الإجمال: أبو داود: ٣٤ - كتاب السنة، ١ - باب شرح السنة، رقم ٤٥٩٦، ٤٥٩٧ ج ٥ص ٤، الترمذي: ٤١ - كتاب الإيمان، ١٨ - باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم ٢٦٤٠، ٢٦٤١ ج ٥ ص ٢٥-٢٦، ابن ماجة: ٣٦ - كتاب الفتن، ١٧ - باب افتراق الأمم، رقم ٣٩٩١ - ٣٩٩٣ ج ٢ ص ١٣٢١، أحمد: ج ٢ ص٣٣٢، ج ٤ ص ١٠٢، ج ٣ ص ١٢٠، ص ١٤٥ الحاكم في المستدرك في كتاب العلم ج ١ ص ١٢٨، وقال: صحيح على شرط مسلم وج ٢ ص٤٨٠ وقال: صحيح الإسناد، وقال: هذه الأسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح الحديث، الدارمي: ١٧ - كتاب السير، ٧٥ - باب في افتراق هذه الأمة، رقم ٢٥٢١ ج ٢ ص ١٥٨، الطبراني في الكبير: ج ٨ ص ٣٢٧ رقم ٨٠٥١، و:
ص ١٧٨، رقم ٧٦٥٩، و: ص ٣٢١ رقم ٨٠٣٥، ج ١٠ ص ٢٧١ - ٢٧٢، رقم ٢١١ - ٢١٢، وفى الصغير ج ١، ص ٢٢٤، الآجري في الشريعة ص ١٥ - ١٨، وابن أبي عاصم في شرح السنة ج ١ ص ٣٢-٣٥، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ج١ ص ١٠١، ١٠٠؟ ١٠٢؟ والطبري ج ٢٧ ص ٢٣٩ ورواه ابن أبي حاتم والحارث بن أبي أسامة وغيرهم.
(٧) انظر أقوالهم في: ١ - شرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي ج ١ ص ١٥١ - ١٨٦، ج ٢ ص ٢٢٧ - ٢٣٠، ٢ - العلو للعلي الغفار للأمام الذهبي، ومختصره للألباني، ٣ - مجموع (عقائد السلف) جمع: على سامي النشار، عمار الطالبي، ٤ - الشرح والإبانة لابن بطة، ٥-البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، ٦ - كتب: (السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وابن أبى
عاصم، والمروزي.
(٨) ضمن الرسائل المنيرية ج ١ ص ١٣١.
(٩) توالي التأسيس ص ٢٤ ب، ٢٥ ًا.
(١٠) الفتح ج ١٣ ص ٢٩٥.
(١١) انظر: توالي التأسيس، الصفحة الأولى، وكتاب: ابن حجر العسقلاني للدكتور شاكر محمود
ج١، ص ٢٦٤ وص ٣٠٦، وص ٥٦١.
(١٢) في الأصل: ابن شريح بالشبن المعجمة والحاء المهملة وكذلك: رد في مسقدرك الحاكم وفي الغيث المنسجم ج١، ص١٠٥، والصواب ما أثبتناه، انظر: وفيات الأعيان ٦٦/١ - ٦٧.
(١٣) فيض القدير ج١ ص١١.
(١٤) جامع الأصول ج١١ ص٣٢٠ - ٣٢٤.
(١٥) البداية والنهاية ٦/٨٩ مكتبة الفلاح بالرياض والحديث رواه ابن عدي في الكامل (المقدمة ص ١٩٠، ٢٣٢-٢٣٣) والعقيلي في الضعفاء في المقدمة ج١، ص٩، وفى ترجمة معان بن رفاعة السلامي ج ٤ ص٢٥٦ رقم ١٨٥٤ دار الكتب العلمية، والخطيب البغدادي في الجامع، ج ١ ص ١٢٨ - ١٢٩ ط مكتبة المعارف بالرياض، ونسبه الهيثمي في المجموع إلى البزار (ج١ ص١٤٠) ونسبه الخطيب التبريزي للبيهقي، (ج ١ ص ٨٢) والإمام أحمد والعلائي، وضعفه الأكثرون من منهم العقيلي، والعراقي (التقييد والإيضاح ص ١٣٨ - ١٣٩) والهيثمي في المجمع وغيره، وانظر أيضًا التمهيد ج١ ص ٥٩-٦٠ والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٨١.
(١٦) بذل المجهود ج ١٧ ص ٢٠٢ - ٢٠٤ ط دار الكتب العلمية.
(١٧) رسالة (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) للأمام الصابوني، ضمن مجموعة رسائل المنيرية ج١ ص ١٢٠.
2 / 8