بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الملك الحق المبين ، باسط الرزق ذي القوة المتين ، منزل الوحي على المرسلين ، باعثهم إلى الكافة ( مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )، وقد أوضح طريق مراضيه ومساخطه بالتبيين، وفرق بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين الضلال المشين ، المردي في طبقات سجين ، وبين الهدى المرقي إلى درجات الفردوس في عليين، وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحجة البالغة، والدلالة الواضحة، وجعله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، فتح الله صلى الله عليه وسلم ببعثته عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فتلقحت بنوره العقول، واستقامت به الأعمال في طريق الوصول، واكتسبت الفطر من شمائله كرائم الأخلاق، فكان لها نهاية السلوك، وانجذبت الأرواح بالمحبة إلى فاطرها العلي ، فارتفعت إلى قربه صاعدة من السفول، راقية من دركات الإبعاد، ومهاوي الأضداد والنزول، وكمل الأمة بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم غاية المأمول - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه - وخصه بالمقام المحمود، وقدم الصدق الثابت ، الذي لا يتزلزل ولا يزول، ورزقنا اتباعه، وسلوك نهجه المضيء، الذي لا ضلالة فيه، ولا لإضاءته أفول، وبعد: فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني المؤمنين في الآفاق - جمعنا الله وإياهم في حضرة قدسه يوم التلاق وذلك لما كان في النصيحة لله ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من المندوب ، الذي لا يسع المؤمن تركه ، ولا الإعراض عنه خصوصا في هذه الأزمنة المتباعدة عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فلها اليوم سبعمئة سنة وكسور، فحدثت في هذه المدة الطويلة الأحداث، وكثرت البدع وتشربتها النفوس فقذفت بمقدار ما تشربته من البدع المنكرة سننا معروفة، فصار الإسلام غريبا وأهله غرباء، كما اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رحم الله الأمة بأن أقام لها في كل قرن أعلاما يكونون لدينه أنصارا
Shafi 229
فينبهون الناس على الأحداث الناشئة، والبدع الكائنة، يتلو بعضهم بعضا، يصلحون ما أفسد الناس من سنن، وفي الحديث:(من أحيا سنة أميتت فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة ).
فصل
إنما يقتدي العاقة برؤسائها وأشرافها ومشايخها، فعليهم وزر ما ابتدعوا، ولهم أجر ما تبعوا - كذلك - إلى يوم القيامة ، وقي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن ابتدع بدعة لا يرضاها، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وعنه صلى الله عليه وسلم قال (ما من قتيل يقتل إلا وعلى ابن آدم الأول كفل من دمه، فإنه أول من سن القتل) يعني به (قابيل) الذي قتل (هابيل).
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل : (وإن توليت ، فعليك إثم الأريسيين) والأريسيون هم الأتباع والأكرة، يعني إن توليت عن الحق فإن عليك إثم من اتبعك في الضلالة، والتولي عن أمر الله تعالى.
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار دين ورهبانها يروى هذا القصيد بكماله عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
فصل
القادة في زماننا أصناف : ملوك، وأمراء، ورؤساء، وعلماء، ومشايخ صوفية ومشايخ فقراء، فالملوك والرؤساء والأمراء - وإن كانوا أولي أمر- فأبصارهم طامحة إلى مشايخ العلم، ومشايخ الزي، فإلى مشايخ العلم يستندون في القضايا والأحكام، ومن مشايخ الزي يستنشقون أرائج المواجيد، وحقائق الإيمان، ثم إن الملوك، والأمراء، والرؤساء، لما انصرفت هممهم إلى جمع الحطام، وقهر الأنام، وشرب الخمور، ومعانقة المنكر والمحظور، واستحلال المحارم والمظالم
Shafi 230
والمكوس، واقتناء المماليك للاستمتاع المحرم، فقست لذلك القلوب وأظلمت أرجاؤها، وانعكست فطرهم، فصار عندهم الحسن ما استحسنته نفوسهم واستطابته، والقبيح ما قبح في نظرهم، فأعرضوا عن استحسان الشرع واستقباحه، اللهم إلا أشياء ظواهر ، ينخرم الدين جملة بتعاطيها ، وخرق سياجها ، كاستباحة المحارم ظاهرا، وخرق سياج الصوم والصلاة، فهذا لم يمكنهم تركه لأنه خروج إلى الكفر بالأصالة.
فلما عميت قلوبهم وأظلمت أسرارهم، خفي عنهم تمييز الصادق من الكاذب وكل من لبس عندهم هيئة العلماء، ووجدوا عنده كلاما ونهمة في المنطق ، كان فقيها، وكل من تزيا عندهم بلبس المرقعة كان صوفيا أو فقيرا، فضلت العامة بهم ضلالا مبينا ، لجهلهم بالصادقين، وعدم التمييز بينهم وبين الكاذبين.
فصل
وأما العلماء، فلما اهتموا - أيضا - بحب الدنيا، وجمع الحطام، والتكالب على الرفعة والمناصب بين الأنام، وشدة الاهتمام بالتقرب إلى الأمراء والدخول معهم في أهوائهم، ويفتنونهم بآرائهم طلبا للمنزلة عندهم، أظلمت - أيضا - قلوبهم، وعميت عن الرشد، فتصرف هواهم في علومهم وكدرها، فصارت علومهم الشرعية مشوبة بأكدار الهوى، ممزوجة - وإن كانت حقا - بأباطيل آرائهم ومحبوباتهم، فلا ينكرون المنكر، ولا ما قام لهم فيه مصلحة دنيوية ، من كسر من عاندهم أو ناوأهم ، فيكسرونهم بحجة إقامة الدين، ويظهرون مثالبهم، ولا يأمرون من المعروف إلا ما استجلبوا به رفقا أوجب لهم رئاسة وظهورا، فمات الحق لظهور رغبتهم، وظهر المنكر لإبقائهم على رئاستهم، فبعدوا عن الله تعالى وأبعدوا، وكانت زلاتهم كالسفينة تغرق وتغرق، اللهم إلا بقايا منهم خاملون مضطهدون مبغوضون (وقليل ما هم) فضل بهم العامة والملوك، وصاروا حجة في العوائد الفاسدة والأحكام الباطلة، والرغبة في الدنيا، والتهاون بأمور الدين، يقول الناس بأجمعهم: (إذا كان الفقهاء يفعلون ويتركون) فاتخذوهم قدوة، فضلوا في أنفسهم، وأضلوا عن سواء السبيل.
Shafi 231
فصل
وأما مشايخ الزي، فلما أعرضوا عن مجموع أمر الله تعالى، فطلبوا الدنيا وطاب لهم أكلها بما يظهرون من الزي والحال، وحسن السمت، ومد العنق، وحب الشهرة والقبول ، ومحبة الاستتباع والاتباع في الدنيا ، داهنوا لهذه الأغراض الملوك والأمراء، إبقاء على رئاستهم، وكرهوا أن يصدعوهم، فصار سكوتهم حجة لظلم الظالم.
وأما أهل الانحراف من أهل الزي، الذين شأنهم الستجلاب قلوب الجهال والبطلة، والنساء، والفلاحين ، بإظهار السماع والرقص ، ودعوى أنهم أهل المحبة ، والمعرفة، والاتصال بالله، والتصوف، فاتخذوا هذه الدعوى سبيلا إلى أكل أموال الناس بالباطل، والتمتع بنسائهم وصبيانهم بعقد المؤاخاة، والمضاجعة معهم، فإن أحدهم - على زعمهم - إنما يضاجع أخته أو أخاه، وذلك عندهم لا بأس به إذا كان القلب نظيفا !!
يتقربون إلى الأمراء لنيل الدراهم والجاه عندهم ، ويزوكرون بالصياح والثهد عندهم، والأمراء منغمسون في الفواحش والمظالم، قد أظلمت قلوبهم، وعميت عن الحق أبصارهم، فصاروا لا يعرفون التمييز بين الحق والباطل، ولا بين الصادق والكاذب، فيرون شيخا معه جمع كثير، عليهم المرقعات، قد أحسنوا زيهم، وتزينوا للخلق باجتماعهم وعكوفهم على شيخهم يعظمونه ويقبلون يده ، وكيف لا وهو دكانهم، وسبب إلى نيل معاشهم.
بهذه الصورة تقوم صورهم، إذ لولاها لماتوا جوعا، فهو لهم صنم يرتقون به والحادي صنم آخر ، على حسه يجتمع الناس ، ويؤلف بينهم ، فالشيخ هو محل الوهم الذي يوهمون به الخلق، وأن هذا هو، وهو والحادي كطبل المشعبذ، يجمع الناس على ذلك الوهم الفاسد ، فينتج من اجتماعهم ميل القلب إليهم، ومحبتهم لهم، وصنعة الطعام لاجتماعهم، ولا بد من أولاد حسان وزوجات وضيئات، فإذا
Shafi 232
مال الآباء إليهم، فبالضرورة يحن الأولاد والأزواج إليهم، فيرتقون بطعام الآباء ويتمتعون بالإخوة - وهم الأولاد والأزواج فتبلغ نفوسهم هواها وغرضها بهذه الصورة التي أقاموها، فضلوا بذلك وأضلوا كثيرا، وأظلمت قلوبهم والتبستهم صور شيطانية، يرى العارفون بشاعتها من وجوههم، فما أبعدهم عن الله تعالى، وأبعدهم عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله حقيقة، وهم قطاع الطريق، يقطعون طريق الحق عن اتباع السنة والوصول إلى الله تعالى،فما جاء الإسلام قوم أضر منهم على أهله ، إنما يعرف ضررهم على الإسلام من يعرف الإسلام وطريقته، وما أصدق من قال: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها فنسأل الله العظيم، الجبار القدير ، العزيز الحكيم ، أن يكشف هذه الظلمة عن وجه الإسلام، وأن يعفي آثارها، ويمحق منارها، وأن يكشفهم للخاص والعام، حتى ترميهم العيون بالنظر الشزر والازدراء،و يقلاهم الخلق فينالهم الذل عقوبة الافتراء فيموتوا جوعا وعريا وحفاء وذلة، أو يرجعوا إلى طريق الحق والصواب ، ويتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجيء والذهاب.
فصل
سبب انحراف الأمة وتشعبها، هو أنه حدث في هذه القرون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مشايخ صالحون، أولو أحوال أميون،لا يعرفون تفاصيل الشريعة، فلم يعملوها، ولم يحملوا أصحابهم على تفاصيلها، فصات أفعال شيخ كل طائفة بها يقتدي أصحابها، وصار الشيخ هو المتبوع في شمائله وأحواله وعاداته، وأعرضوا بذلك عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والله تعالى سائلهم يوم القيامة عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا عن اتباع الشيخ فلذلك افترقت الأمة فرقا، وصاروا بهذا الافتراق شيعا.
فصل في ميزان توزن به المشايخ، ليكون متبعهم على بصيرة من أمره ونيته من حاله
Shafi 233
اعلم أن المشايخ في زماننا ثلاثة : شيخ علم، وهو الفقيه، وشيخ سلوك، وهو الصوفي، وشيخ عامة، وهو شيخ الفقراء، ولا بد لهم من ميزان تعرف به جادة طريق المستقيم منهم والمنحرف ، ومن الذي يتعين اتباعه منهم ، والذي يجب اجتنابه والتباعد عنه منهم، وبالله التوفيق ، ونسأله أن يرينا الحق حقا ويعيننا على اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويعيننا على اجتنابه.
الفصل الأول في بيان استقامة طريق شيخ العلم من انحرافه
(العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ، كذا جاء في الحديث ، وقال الله تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان ) فالعلم الكامل هو اسم يدخل تحته كل فضيلة تتعلق بالدين الظاهر ، أو بالحال الباطن، علما وعملا وخلقا وحالا، قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء ) فقد نبه على أن الخشية من الله تعالى ميزان العلم ، أي العلم به، وبأمره، ونهيه.
فانقسم العلماء ثلاثة أقسام:[ الأول ] عالم بالله عز و جل، وعالم بدينه، وهو العالم الكامل الجامع ، الذي علمه وحاله قوت ومادة لكل مؤمن، ومسلم، وصديق، ومثالهم في الأمة كأبي بكر، وعمر، وبقية العشرة، وعلماء الصحابة وفقهائهم، أهل العلم الشرعي ، والعمل الموفي به ، والعلم اللدني ، جمعوا كل فضيلة من علم وعمل، وخلق وحال رضي الله عنهم فهم كانوا أعمق الناس علوما، وأصحهم أعمالا، وأكملهم أحوالا.
كانوا متبعين لأمر الله تعالى في الظاهر مجتنبين لنهيه ، عالمين يأمره ونهيه ، يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. يبذل أحدهم نفسه لله، يرى دماءه تسيل
Shafi 234
وهو إلى قدام يقاتل على دين الله من خالف الله وكفر به، هذا عملهم، وأما وعلمهم وحالهم، فكان شيخهم، وممدهم من العلم والحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو سيد العلماء، وسيد العارفين ، وكان علم الصحابة من بحر علم الرسول صلى الله عليه وسلم ورثوا الحال من صحبته ونظره، وورثوا العلم من أقواله وأفعاله، فهم سادات الأمة، بهم نقتدي وبهم نهتدي.
أيها المنصف !! فهل كانوا كشيوخ الفقراء في زماننا?! كلا - والله - بل لو رأوهم لجاهدوهم وقاتلوهم على ما ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وكذلك جاء بعد الصحابة سادات التابعين وعارفوهم وعلماؤهم ، كسعيد بن المسيب ، وأصحاب ابن مسعود ، كعلقمة والأسود - من أهل البصرة - والحسن البصري وغيرهم، كان الحسن إماما في كل فن، كان قوم يأخذون عنه العربية، وقوم يأخذون عنه التفسير، وقوم الأحكام الفقهية، وقوم يأخذون عنه أحوال القلوب، فكان إذا اجتمع به أهل القلوب يخلو بهم، فلا يدع غيرهم يدخل معهم، فرأى يوما في حلقته شيخا من غيرهم، فقال: ما أجلسك عندنا يا لكع؟ إنما جلسنا مع أصحابنا نتذاكر.
وكذلك كان في كل قرن سادات من العلماء الكمل، جمعوا العلوم، والأعمال والأخلاق، والأحوال، حتى كان في المئة الرابعة، شيخ الإسلام وقدوة الأنام، أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري الهروي بهراة ، صاحب (منازل السائرين) كان إماما في السنة والتفسير، إماما في المواجيد والأحوال رضي الله عنه ثم كان في المئة الخامسة الشيخ الإمام عبد القادر الجيلي رضي الله عنه ببغداد، كان الفقيه يأخذ عنه مدد علمه، وكان العارف يأخذ عنه مدد عرفانه، فهؤلاء العلماء الكمل رضي الله عنهم.
الثاني : عالم بأمر الله تعالى، وليس عالما بالله، وهم الفقهاء، ويعرفون أمر الله نهيه ، ولم تتصل قلوبهم بالله اتصال المحبة التامة ، بكمال الزهد في الدنيا والمناصب.
الثالث: عالم بالله تعالى، وليس عالما بامره، وهم العارفون الأميون، أحدهم له نصيب من الله عز وجل في قلبه، ولا يعرف تفاصيل الأمر والنهي، فهو صحيح بشرط ألا
Shafi 235
يخرج من معرفته إلى بدعة ، لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلامة استقامة طريق شيخ العلم في زماننا أن يكون عارفا بكتاب الله عز وجل، عالما بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عالما بفروع الأحكام، ورد الحوادث إلى الأصول، يقيم برهان ذلك إذا سئل عند النازلة، فيدل عليه من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون مع ذلك عاملا بعلمه، لا يجري على ظاهره من الأقوال والأفعال ما يخالف علمه، وأن يكون حريصا على الأمر بالمعروف ، مهتما به ، يصبح مهتما بإقامة أمر الله ، ويمسي به مهتما ، حريصا على النهي عن المنكر ، لا يدع فيه ممكنا ، يبذل فيه ما أمكنه من ماله وجاهه ، يتآلف الناس بماله وخلقه على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون زاهدا في المناصب، وفضول الدنيا تطلبه ولا يطلبها، وتأتيه ولا يأتيها، وأن يكون مجانبا للدخول على الملوك والأمراء الظلمة، فلا يدخل عليهم لطلب مال ولا جاه، يدخل عليهم ليأمرهم بالحق والعدل، ويعلمهم أمر الله ونهيه، وينهاهم عن البغي والظلم والإثم والعدوان، يدخل عليهم ليستضيئوا بعلمه ونوره في ظلمات حوادثهم، فهذا الدخول عليهم قد يكون واجبا عليه تارة، وأخرى مستحبا، وأن لا يداهنهم، ولا يدخل معهم في أغراضهم الفاسدة، ولا يفتيهم بما يأكلون من أموال الناس بالباطل، فيقلدونه فيها، فيدخل معهم بالتأويلات الفاسدة لينال من جاههم ومالهم، فيكون جسرا لهم يعبرون على رقبته إلى النار، وأن يكون من أهل الحديث والسنة، مجانبا للكلام والمنطق وأهله، عقيدته عقيدة أهل الحديث والأثر، لا عقيدة أهل الكلام والآراء الفاسدة، وأن يكون ورعا في منطقه، فلا يتكلم بما لا يعلمه، وإن سئل عما لا يعلم يقول: الله أعلم. ورعا في مأكله وملبسه، يكون له معيشة يستغني بها عن الناس، لا يقبل الهدية من مستفت يستفتيه، غرضه أن يفتيه في تحريم حلال، أو تحليل حر ام على وفق غرضه، وأن يكون أعف الناس وأعقلهم، فمن قل عقله لا يؤمن في علمه من الخطأ، وسوء الرأي، وأن يكون ظاهر المروءة، له مع ربه في خلواته عبارات وأوراد ، تعامله يظهر أنوار المعاملة على وجهه، ويظهر السكينة على منطقه وعمله، قليل الانبساط، ضحكه تبسم، مستعمل الأخلاق من الحلم، والصبر، والتواضع مع
Shafi 236
المؤمنين ، مستعملا للشدة والغلظة، سمتعملا للمصابرة والمداراة مع من يرجو منه الانتفاع بعلمه وكلامه ، راقد النفس ، ساكن الهوى ، فمن غلب عليه الهوى في علمه لا يؤمن أن ينتصر لباطل إذا حوجج فيه، ويخذل الحق إذا ظهر مع خصمه، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال من علماء زمانكم فاغتنموه، واسألوه عن أمور دينكم، وقلدوه أحكام حوادثكم ونوائبكم، واعلموا أن مثل هذا العالم يسمى وارثا، فإنه قد ورث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما قام به من العلم والعمل والخلق، فهو نور الأمة، ومصباح العالم، يستضاء بنوره، ويهتدى بعلمه.
فصل
ومتى رأيتم العالم يعمل بخلاف ما يعلم، فيخالف عمله علمه، ويقول ما لا يفعل ، أو يميل إلى الهوى في العلم ، أو يقل الاكتراث بالسنة والنصوص ، ويجنح إلى الرأي والتقليد ، مع قدرته على ذلك ، فيستدل بأعماله - بذلك - على سقوط منزلة النصوص عن قلبه، فيستدل بذلك على قلة دينه، أو سوء عقيدته، ومتى رأيتم العالم غير مهتم بالأمر بالمعروف ، غير مكترث بالنهي عن المنكر ، لا يبالي إذا انتهكت المحارم، ولا يتوجع قلبه لها، ولا يتأسف إذا عصي الله في أرضه، ولا يغضب لله في مخالفة أمره، ولا يحرص على الأمر بالمعروف، ويتآلف الناس عليه بالمال والخلق، فاتهموه في علمه ودينه، واستدلوا بذلك على قسوة قلبه، والطبع عليه، فما أشبه هذا بعلماء اليهود. قال تعالى: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) [ الخطاب مع اليهود، وكذلك من عرف أمرا وخالفه أورثه ذلك القسوة، وبضده من عمل بما يعلم، أورثه ذلك الحكمة والحكم، ميراث خشوع القلب وصلاحه ، وإذا رأيتم العالم راغبا في فضول الدنيا ، نازعا لأهل المناصب في مناصبهم، يأتي أبواب الظلمة لما يناله من ذلك أو يطمع فيه، إذا دخل مع الأمراء يدخل معهم في أهوائهم، لا يحسن الحسن عندهم، ولا يقبح القبيح يأخذ معهم في الحكايات المضحكات لبسطهم ، ويأتي بالمحاضرات والملح فيمازحمهم، فاتهموه على علمه، وعلى دينه خصوصا إذ لم ينصر عندهم مظلوما،
Shafi 237
و لا يعتني بقضاء حاجة مضطر ملهوف، فإنه من القاسية قلوبهم ، المعرضين عن ربهم، قلبه بعيد من الآخرة، متعلق بالدنيا، علمه دكانه، ويتأكل ويرتزق، ولا يعامل الله بعلمه إلا قليلا، يسكت عن الحق خشية سقوط منزلته، ويمالئ على الباطل طلبا للرفعة، فما أبعد هذا عن الله وعن طريقه، علمه حجة عليه.
ومتى رأيتم العالم قليل الووع في كلامه ، يتكلم مجازفة ، ويكذب أحيانا ، ويستعمل الهزل واللعب، ويذكر المردان، ويميل إليهم، أو رأيتموه قليل الورع في المأكل والمشرب، والمدخل والمخرج، لا يبالي ما أكل حلالا كان أو حراما فاتهموه على علمه وعلى دينه، ولا تقلدوه أموركم، واحذروه أن يسلبكم دينكم، بتهوينه للأشياء الصغيرة من الحرام والشبهات، يسرق بذلك عقولكم، فيستدرجكم من حيث لا تعلمون.
ومتى رأيتم العالم يقبل الهدية من المستفتي ويفتيه على غرضه ، ويدخل في التأويلات والشبهات، كمسألة الاستحلال ، ومسألة الربا والمعاملة، ولا تجدونه متعففا في معيشته ، ترونه طامعا في أموال الناس ، يداخل القضاة ليولوه الولايات، مع شرهه على الدنيا ، وقلة ورعه ومبالاته بالحلال والحرام ، فاتهموه على علمه ودينه.
ومتى رأيتم عالما في عقله سخافة، وفي نظره قصور، يضع الأشياء - غالبا - في غير مواضعها، فاتهموه على استنباطه وعلمه ورأيه، ولا تقلدوه ومتى رأيتم العالم لا يتمم صلاته المفروضة ، ولا يطمئن في ركوعه وسجودها، ولا يحضر مع قراءته فيها بالخشوع والحضور، والتدبر والترتيل فاتهموه بقساوة القلب، وبعده عن الرب عز وجل.
ومتى وجدتم العالم لا معاملة له مع ربه عز وجل ، تظهر عليه بهجتها وأنوارها وسكينتها ، من تلاوة وصيام وقيام، فاعلموا أنه قليل النصيب من ثمرة العلم إذ ثمرة العلم المعاملة ، وقليل النصيب من المحبة والخشية، و( إنما يخشى الله من عباده العلماء) .
Shafi 238
ومتى رأيتم العالم هواه غالب على عقله، ينتصر لنفسه في الباطل، ويخذل غيره في الحق فاتهموه على علمه ، ولا تقلدوه حتى تظهر لكم الحجة الصحيحة على فتياه، وبالله التوفيق والمستعان، وهو أعلم.
فصل
وأما ميزان استقامة طريق شيخ السلوك، فهو أن يكون عالما بأمر الله ونهيه، مما يلزم علمه والعمل به ، دون علم النكاح والطلاق واللعان وغيره من الأحكام العامة، فإن اتسع لذلك كان أكمل لمرتبته، وأعلى لحاله، وأن يكون عاملا بعلمه، واقفا عند حدوده ، ليس للشريعة عليه مطالبة، لا في ظاهره، ولا في باطنه. قد أحكم شيئين هما ركنا الطريق، وعليهما تبنى قواعده، الأول : التقوى، والتقوى هو: معنى عام في كل قول وفعل وخاطر، قد أحكم هذا الأستاذ تقوى الله تعالى في لسانه، فلا يتكلم بما حرمه العلم أو كرهه، واتقى الله تعالى في عينيه ، فلا ينظر إلى ما حرمه العلم أو كرهه، واتقى الله تعالى في سمعه فلا يسمع ما لا يحبه الله، ولا ما يكرهه، واتقى الله تعالى في بطنه، فلا يدخله من الطعام إلا ما أحله العلم، ويجتنب ما حرمه العلم، أو كرهه، واتقى الله تعالى في يديه ورجليه، فلا ينقلهما ولا يحركهما إلا إلى ما يحب الله ويرضاه، ولا ينقلهما إلى لهو ولعب وباطل، وفي الجملة فلا يحرك جوارحه إلا فيما يرجو ثواب الله عليه، وفيما يأمن فيه عقابه بمقتضى العلم وحده، ثم تصل تقواه من ظاهره إلى باطنه، فيبقى الله تعالى في الخطرات والوساوس، والهم والعزائم والمقصود حتى يحرس قلبه من جميع ما حرمه الله وكرهه، كما حرس جوارحه فإن الخطرة من الشر إذا أهملها صاحبها صارت وسوسة، بمعنى أنها تتردد وتتكرر، فإن حفظها قبل أن تصير وسواسا اندفعت، وصلح القلب، وذهب أثرها عنه، وإن تركت صارت وسواسا ، فيصعب دفعها في حال الوسواس أكثر من صعوبته في حال الخطرة، ثم إن دفعت الوسوسة ذهب أثرها، وصلح القلب وطهر من كونها، وإن تركت صارت الوسوسة همه، فيكون دفعها أصعب فإن دفعت الهمة اندفعت، وإلا صارت عزما فيكون دفع العزم أصعب وأصعب وأصعب، فإن اندفع وإلا صار
Shafi 239
قصدا، فإن اندفع وإلا صار عملا ظاهرا بالجوارح، فيعصي العبد بذلك ربه.
فهذه قاعدة عظيمة النفع من عرفها وكابد نفسه فيها استقام باطنه، واستقام ظاهره لاستقامة باطنه، فإن القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وبها يعرف الإنسان كيف تنشأ المعاصي ، فجميع المعاصي والطاعات هكذا تنشأ مبدأ من الخواطر، فلا يزال هذا الشيخ يتقي الله في ظاهره وباطنه حتى يملك ظاهره بالمحاسبة ، ويملك باطنه بالمراقبة ، فيصير القلب كالكوكب الدري في أفق السماء ، تتلألأ فيه الأنوار بمشاهدة الأذكار، ومتى لم يكن الشيخ بهذه المثابة لا يصلح للمشيخة، لأنه يريد أن يأخذ المريد في هذه الطريقة، وهو لم يحكمها ولم يحقق عملها فكيف يقدر على أن يسوس المريد فيها.
الركن الثاني من أركان الطريق بعد تحقيق التقوى يكون الشيخ المذكور قد حقق الزهد في الدنيا، فتكون نفسه ساكنة، غير متحركة إلى طلب الدنيا من مالها وجاهها، ففي الناس من يكون ساكنا عن طلب المال تحركا إلى طلب العلو والرفعة والاستتباع، يحب أن يطأ عقبه الناس، وينكسر إذا لم ير وراءه أحدا، فهذا طالب رئاسة ، وهي من أغلى مطالب الدنيا ، فقد يبذل المال لطلب الرئاسة، قال تعالي: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) ومن لم يتحقق التقوى والزهد في فضول الدنيا، من مالها وجاهها، كيف يلج قلبه ملكوت السماء ? وكيف يذوق الحب الخالص الملهب للأرراح ? هذا مستحيل ، ومن لم يلج قلبه ملكوت السماء، ولم يكاشف بالمحبة الخالصة كيف يصلح للمشيخة ?!، وهو يريد أن يأخذ المريدين في طريقها ولم يبلغها هو.
فصل
ومن شرط شيخ السلوك أن يكون متعففا، غير طامع في فتوح الناس، وإن كان ذا سبب كان أكمل بحاله، وأن لا يقبل الفتوح من كل أحد، ولا يأكل طعام كل أحد، ولا يأكل إلا طعام من يقصد الله تعالى بإنفاقه، ولا يكون لما أنفقه في قلبه
Shafi 240
منزلة بل يراه قليلا ، ويرى نفسه بإنفاقه قليلة حقيرة ، ولا يرى بإنفاقه لنفسه منزلة وفضلا على الفقير الذي أطعمه، ويرى الفضل لمن آكله يشكره على أكله، ويعتذر إليه من تقليله وتهجمه، والفقير لا يقبل إلا لقلب هذا العبد الصالح، ويرى منة الله تعالى عليه لسياقة هذا الرزق إليه، فكل منهما قد يثاب على إنفاقه وبذله، وهذا يثاب على قبوله وتناوله، إذ كل منهما له فيما عمله قصد صالح وعمل صالح، ولا يأكل الفقير طعام أهل النفوس الحارة ، العامية طباعهم، الثقيلة أنفاسهم، الذين يذكرون ما أنفقوا، ويمنون بلسان حالهم، وإن لم يقولوا بألسنتهم، وإن كانوا عبادا صلحاء فإنهم أهل نفوس تثقل نفوسهم في طعامهم، فمثل طعام هؤلاء سم يضر القلوب ويوهنها بل ربما كان أكل الشبهة ممن عنده أهلية ورياضة، أقل ضررا من الحلال إذا كان الباذل له صاحب نفس ثقيلة، ولهذا قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان) ، فقد تعارض في هذا الشبهة والمنة ، فاختار الشبهة لما له فيها من الحق في بيت المال على المنة التي تضر القلوب وتشغلها، وهذا من دقائق علوم أهل الله وخاصته والصفوة من عباده.
ومن شرط شيخ السلوك أن يكون قلبه متصلا بالله تعالى، وأنفاسه محفوظة مع الله عز وجل، قد أشهده الله تعالى مشاهد الإلهية، ومشاهد الربوبية، ومشاهد الجمع وحققه بمشهد الفردانية وعمر وجوده بأنواره، وصار له نصيب من القرب الخاص والمحبة الخالصة، وأوقفه الله تعالى على الفرق بين دقائق التوحيد ودقائق الاتحاد ، وعرف المداخل والمخارج، والقوادح والقواطع، والنهايات والحقائق، والتهب باطنه بالمحبة الخاصة من أنوار الله المخزونة ، فإذا عرفه المريد أوقفه على مقام مقام ، وسار به إلى موطن موطن، بشرط الموافقة من المريد وحسن الاعتقاد، وترك الاختيار ، وحسن الانقياد والاستسلام، فيتخلص المريد بصحبته من حجب النفوس الكثيفة، ثم من حجبها اللطيفة، ثم من حجب القلوب وأنوارها، فيخلص إلى فضاء الوجدان، ومباشرة الروح صريح الفتوح، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
Shafi 241
فصل
وإذا رأيتم شيخ السلوك جاهلا بأمر الله ونهيه، لا فقه عنده فيما يخصه من دين الله، ولا يسأل العلماء إذا نابته نائبة، أو يكون عالما مخالفا لعلمه، مفرطا في عمله، لم يحكم أساسه على التقوى والزهد ، يحب الدنيا والمال والمناصب ، يداهن العامة لحفظ منصبه، لا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر، يتملقهم بالكلام والطعام ليحبوه ، يتقرب إلى أبناء الدنيا ويكرمهم لينال فتوحهم، يجالس غير أبناء جنسه أو يجري على لسانه الغيبة والنميمة والكذب والفضول والهذيان والهزليات والمضحكات، أو يتباهى بالنظر إلى الصور الملاح ، ولا يبالى بصحبة الأحداث ومعاشرتهم، أو يحضر السماعات، فيستمع المكروهات، من الدفوف والشبابات، أو يرقص على التصفيق والتوقيع في هذه الاجتماعات ، أو لا يبالي بما يأكله من الشبهات، فمثل هذا يكون بعيدا عن حفظ الخطرات بين يدي قيوم السموات وعالم الخفيات ، ويكون محجوب القلب عن الأحوال والكرامات ، فإن من خلط في الجوارح الظاهرة ، وأهمل المراعاة القلبية الباطنة ،كيف يتحقق بدعوى الحال? وعمله قد أبان عما به عن الصدق حال ، ومن أين لمثل هذا الإحاطة بالمشاهد الربانية ?، وكيف يعرف هذا الجمع والفرق ? ، والسكر والصحو? ، والفناء والبقاء ? والانفصال والاتصال? وهو في عبودية النفس الأمارة لم ينفصل عنها ولم يحكم سياسة الشرع عليها، ولم يذعن قلبه للشرع ولا لأحكامه ؟ فمثل هذا يتهم في سلوكه ، وصحبتة تقسي القلب ، وتفسد الوقت، ونعوذ بالله ممن يكون ممقوتا بدعوى الحال ، فينقلب سواد وجهه إلى الآخرة في المآل.
فصل
وأما ميزان شيخ الفقراء، أو علامة استقامته في طريقته ، أن يكون فقيها فيما يخصه من أمر دينه، يعلم فرائض الوضوء وسننها، وفرائض الصلاة وسننها، وأحكام الماء الطاهر والنجس وغير ذلك مما يخصه ، عالما بالواجبات والمندوبات
Shafi 242
والمستحبات عاملا بأحكام علمه، متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وطريقته، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل ما أحله الله، ويحرم ما حرمه، ويكره ما كرهه.
قد طالع كتب الحديث ومر على الصحاح الستة سماعا، فاكتسب قلبه من المرور عليها التخلص من الكيفية الجاهلية ، والتكيف بالمحمدية، وأن يكون محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يهتز قلبه عند ذكره، أكثر ما يهتز عند ذكر شيخه، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ، يضرب أصحابه إذا اجتمعوا بالنساء الأجنبيات أو واخوهن ، أو اتخذوا الصبي أخا ، وهو الذي يسمونه الحوار ، ويعرفهم أن الأنس بالنساء الأجانب والصبيان ليس من طريقة الرحمن، إنما هو من طريقة الشيطان، والسبب الموجب لذلك هيجان شهوة النكاح، ويعرفهم أن النظر إليهم زنا العين، (إن العين لتزني وإن اليد لتزني، وإن اللسان ليزني والفرج يصدق ذلك ويكذبه،، والشيخ إذا كان متبعا لله ورسوله يعلم ذلك، فيتبع قول الله عز وجل ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) فإذا كان الشيخ مخالفا لله، ولا ينهى أصحابه عن مخالفة الله عز وجل كيف يكون اتباعه والاجتماع به ? ومن شرط مشايخ الفقراء أن يكون قد صحح التوبة في بدايته، وصحح مقام الورع ومقام الزهد ومقام المحاسبة والرعاية ، ودخل في ميدان الخوف والرجاء فحينئذ يحق له أن يدخل في مقام الفقر، فلا يصح الفقر إلا لمن صحح هذه المقامات قبله ، وهي عبارة عن الفقر عما سوى الله ، ثم يدخل بعدها إلى مقام الغنا بالله وهو مقام الشكر ، ثم ينتقل إلى مقام التوكل فيصحه ، ثم إلى مقام الرضا فيصححه، ثم إلى مقام المحبة والمكاشفة، فحينئذ يصح له مشيخة الفقر، وأن يكون داعيا إلى طريقة الفقر.
ومن شرط الشيخ أن يتشبه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجتهد هو وأصحابه على اتباع طريقهم والعمل بعملهم، والذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمل السماع ولا يرقص فيه، ولا يدع أصحابه ينزلون النار، ولا يمسكون الحيات، فإن الصحابة كانوا أفضل الناس، وأعلم الناس، وأقرب الناس إلى الله، ورسوله سيد الأولين والآخرين بين
Shafi 243
أظهرهم، وهو معلمهم ومؤدبهم، والوحي من عند الله مع جبريل ينزل عليهم، فهم أفضل الخلق، وسادات الناس، بلغكم معاشر العقلاء أنهم عملوا سماعا قط ? بلغكم أن أبا بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان أو على بن أبي طالب رقصوا في الطابق ، أو داروا? أم هل بلغكم أن بلالا الحبشي أو غيره غنى بالكف أو الدف ? أم هل بلغكم أنه كان فيهم مولهون مكشوفو الرؤوس لهم شغف ? أم هل بلغكم أنهم كانوا يدورون من قرية إلى قرية بأكياس الحيات، ويتخذون الحوار ? أم هل بلغكم أنه كان لهم الشخرة والنخرة ? يا قوم انتبهوا !! ، يا قوم اعقلوا !! ، يا قوم ارجعوا إلى الله، فإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اتبعتم ، وكذلك التابعين ما اتبعتم ، لأنه قط ما بلغنا أنهم كانوا يعملون من ذلك شيئا بل كان طريقهم طريق الصحابة، وعملهم عملهم، وكذلك تابع التابعين ما اتبعتم ، لأنهم قط ما بلغنا أنهم عملوا هذه الأشياء، فليت شعري لمن اتبعتم ? أم بمن اقتديتم ? لم يظهر بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي آخر بشريعة أخرى، كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فليت شعري من أين جاءت هذه الشريعة الزائغة ? ومن الذي أظهرها، ودعا الناس إليها فأضلهم بها ? يا شؤم حالنا، يا فضيحتنا مع الله تعالى، إن لم يتب علينا، يا سوء حالنا إن لقينا الله تعالى ونحن مصرون على هذه البدع، يا سواد وجوهنا إن لقينا الله ونحن على هذه الحال.
ومن شرط شيخ الفقراء: ألا يدخل على الأمراء والظلمة، لينال صدقاتهم ومبراتهم، ولا يأكل طعامهم، فإن الجسم إذا نبت من حرام، فالنار أولى به.
وأن يأمر الفقراء بكتمان الحال والوجد، فقد رأيتم من يصرخ في السماع ويرقص ويضطرب كأنه يقول للناس: يا معاشر الناس اعرفوني اعرفوني، فإني ولي الله، وأنا صاحب حال أعطوني أعطوني ، يا صبايا، يا صبيان، أنا رجل صالح، واخوني واخوني،، تقربوا مني حتى أعطيكم حالي، حتى ينالكم مني نصيب !!
Shafi 244
معاشر العقلاء !! مثل هذا [لا] ينطلي إلا على أحمق، قليل العقل ، جاهل بأمر الله تعالى ورسوله ، بعيد عن معرفة الإسلام وأهله، أعمى عن معرفة الصادقين والتمييز بينهم وبين الكاذبين.
بعدنا عن الله ، وقلت عقولنا حتى صار مثل هؤلاء البغضاء البعداء ، إخوان الشياطين ، يدخلون منازلنا، ويأكلون طعامنا، ويتمتعون بصبياننا ونسائنا، بحجة: سيدي فلان، وسيدي فلان، وسيدي فلان !!
أما آن لنا أن تصحو عقولنا ? وتنفتح عيوننا، ونقف على زوكرة هؤلاء، ونعلم أنهم متأكلة يأكلون الناس، ويتفرجون على نسائهم وصبيانهم ? حيرة ، يا سبحان الله !! قط ما سمعنا طريقة السلف الصالحين ، الذين كانوا بعد الصحابة ، وبعد التابعين ، مثل : الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، ووهب بن الورد، ووهب بن منبه، وحذيفة المرعشي، وسفيان الثوري، ومن جاء بعدهم، مثل ذي النون المصري، وشقيق البلخي، وحاتم الأصم، وسهل التستري، ومعروف الكرخي وسري السقطي وأبي القاسم الجنيد وغيرهم قط - يا مسلمون عملوا هذه الأعمال ، أم قط اتصفوا بهذه الصفات. كانوا قوما مستورين صادقين مع ربهم، يحتقرون أعمالهم، ويخافون ربهم، ويغضون أبصارهم، ويستمعون إلى القرآن هو سماعهم، شغلهم الصيام والقيام، والذكر على الدوام، والخوف المحرق للأكباد ، ينتظرون الآخرة والقدوم على الله ، قد تهيؤوا للموت والقبر والحساب والميزان والصراط، يخافون النار، ويرجون رحمة الله، متبعين رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤون كتاب ربهم، وسنة نبيهم، مشتغلين بالصدق مع مولاهم.
معاشر العقلاء !! أفلا تنتبهون وتستيقظون ? أفكان هؤلاء يشبهون هؤلاء، أو قريبا منهم ? كلا والله، ثم والله لقد ضل هؤلاء الزواكر ضلالا بعيدا، وتاهوا في تيه الضلال والانحراف، بعدوا عن الله وعن أمره، وعن المروءة، فيا ليتهم يأكلون الدنيا بالدين، بل يأكلونها بالمحال والزوكرة، يستخفون العامة والجهال والنساء كما قال الله : ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) فعليكم
Shafi 245
معاشر العقلاء بمجانبة هؤلاء، والبعد عنهم، والمقت لهم، فإنهم ممقوتون، يمقتهم الله من فوق عرشه لمخالفتهم أمره وارتكابهم نهيه واعلموا أن إيمانهم ليس بطائل، لغلبة النفاق على قلوبهم، أشهد بالله الذي لا إله إلا هو، لو رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، أو أمراء الصحابة، أو أمراء بني أمية، وهم على هذه الحال، قوم مكشفة رؤوسهم، يزبدون ويشخرون، وينقرون الصلاة إذا صلوا، ويهربون من القرآن إذا سمعوه، فإذا دخلوا في السماع طربوا ورقصوا يوما إلى الليل ، معهم اكياس الحيات ، يخرجون للناس اللاذن والزعفران، ويؤاخون النسوان والمردان، ويأكلون الحرام - أي شيء جاءهم أكلوه - لا يقولون: هذا حلال، ولا هذا حرام، همتهم بطونهم، أو مليح أو مليحة، يحتفون عليهم، فهم عبيد بطونهم وفروجهم، يرقصون ويأكلون ويشاهدون وينامون، ويدعون أنهم أهل القطع والوصل والتصرف، وأنهم أولياء الله. كذبوا على الله، وابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، أشهد بالله لو رأؤهم على هذه الحال لدعوهم إلى الله، فلو امتنعوا لجاهدوهم بالسيوف، لأنهم ظهروا يشعار محدث مبتدع، مم ينزل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض هذا الوصف كفاية، ومن لم يكفه هذا من الكلام لا ينفعه التطويل، ومصنف هذه الأحرف أعرف الناس بهم، قال: كان أبوه من بعض شيوخهم، وربي بينهم ، ثم أنقذه الله تعالى بكرمه منهم ، إلى طرين الحق والسنة، فهو المحمود المشكور على ذلك.
فصل
معاشر الإخوان !! اجتنبوا هذا الصنف من الناس، فإنهم دجالون كذابون وعليكم بضحبة المشايخ والفقراء أهل الطريق ، الذين يعرفون دين الله ، وطريقة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أولياء الله، الذين يعرفون تفاصيل الأمر والنهي، ويفهمون عن الله كلامه، ويستمعون إليه في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وقصصه وأخباره،
Shafi 246
ويكاشفون في القرآن بمعنى الصفات المقدسة من الهيبة والجلال والإكرام، والفضل والأنعام الذين يدعون الخلق إلى محبة الله عز وجل والقرب منه، وإخلاص العمل له ، والتوكل عليه ، والتعويض إليه ، واتباع السنة المحمدية في الأقوال والأفعال ، والسنن والآداب ، تكتسبون بصحبتهم الخوف من الله عز وجل والرجاء والمحبة له والمحبة لدينه ، فتمتلئ قلوبكم من عظمة الله ومهابته ، والحياء منه والخشية له، أولئك المشايخ والفقراء، هم أولياء الله وحجته على خلقه، وأمناؤه بين عباده ، يدعون إلى معرفته ومحبته والقرب منه، فتفلحوا بصحبتهم كل الفلاح - إن شاء الله تعالى - وتتصل ظواهركم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اتصالا لا انفصال له، وهذا هو حقيقة الفقر إذا سألكم سائل ما الفقر? فقولوا له : اتصال الظاهر بالسنة اتصالا لا انفصال له، واتصال القلب بالله عز وجل اتصالا لا انفصال له ونسأل الله الكريم ألا يجعلنا ممن يكذب علمه عمله، ويخالف قوله فعله، قال تعالي ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وأن يوفقنا وإياكم إلى المحجة البيضاء، إنه قيوم الأرض والسماء.
فصل
ومن علامات صحة طريقة شيخ الفقراء: أن يكون خاشعا في صلاة الفريضة ، يكمل هو أصحابه الركوع والسجود ويجد هو أصحابه لذة الصلاة والتنعم بها .
وأن يجد لذة سماع القرآن هو وأصحابه وأن يحبوا الفقهاء ويجالسوهم ويسألوهم عن أمور دينهم وأن يعتقدوا أن الحقيقة يجب أن تكون موافقة الشريعة، وكل حقيقة لا توافق الشريعة فهي زندقة، وكل من ادعى أن الحقيقة شيء، والشريعة شيء، وأن صاحب الحقيقة قد صار حرا، ولا يحتاج إلى الشريعة ولا إلى العبودية ، فهو زنديق ضال مضل يجب أن يستتاب كما يستتاب المرتد فان تاب، وإلا ضربت عنقه.
وأن يكون الشيخ أورع الناس، وكل من ادعى أن صاحب الحال لا يضره
Shafi 247
الحرام، فهو مبتدع ضال، فلا حال أكمل من حال الصديق رضي الله عنه شرب لبنا ثم سأل عن أصله فلم يرضه، فقام وتقيأه، وأكل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لحم جزور جزره الجزار بعشر منه، ولم يعلماه فقاما فتقيآه، رواه ابن اسحق في السيرة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في فم الحسن أوالحسين تمرا من تمر الصدقة وهما دون البلوغ فأخرجها من فم أحدهما، فقال: (كخ كخ، إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد) فإذا كان مثل هؤلاء الكمل يضرهم الحرام والشبهة، فما ظنك بأهل الدعوى والنقص ? أعاذنا الله من سيئات الإجرام ، وموبقات الآثام ، وحققنا بالسنة واتباعها مدي الأيام ، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
Shafi 248