Misira: Zanen Mutane da Wuri da Lokaci
مصر: نسيج الناس والمكان والزمان
Nau'ikan
والخلاصة أن الاستثمارات في الموارد الطبيعية تكاد أن تختصر في إنتاج الغاز والبترول وأعمال الكشف عن حقول جديدة لهما بإشراك شركات عالمية. (3)
المشروعات الكبرى أو أحيانا تسمى مشروعات قومية أنفقنا عليها مليارات من الجنيهات أو الدولارات، أو بأي مقياس آخر بشري مثل كم من جهد آلاف العاملين يقوم بسعر الساعة أو اليوم أو السنة، وكم من آلات وأجهزة ومضخات وكابلات الجهد العالي وتوربينات ووقود وسيارات ولواري استهلكت، وكم من طرق شقت وعبدت، وكم من جسور وكباري وأنفاق و«سيفونات» - أنفاق تحت مجار مائية - بنيت، وكم من ترع وقنوات أنشئت، وكم من مساحات من مئات وآلاف الأفدنة مهدت، وكم من مساكن عمال وفيلات مديرين ومبان إدارية شيدت، وكم وكم ... وكم يقدر ذلك كله مقوما بالمال في زمانه ومقوما بقيمة العملة في زماننا الحالي، ومقوما بالزمن الذي استغرق تشييده ومقوما بالدمار الذي ألحقناه بالبيئة في محاولة تطويع أرض هشة لرغبات جامحة مدعومة بالدعاية والإعلام المطنب المطنطن، ثم الصمت البليغ عن قصور الهدف واختصاره إلى مرحلة أولى لا تليه مرحلة أخرى - كم هي قاسية بيئتنا الطبيعية وكم هي عفوية بيئتنا البشرية تضرب ضرب عشواء دون مراجعة واستذكار وتوقع مستجدات الأمور من إشكالات تسببنا فيها وكنا في غنى عنها! (4)
من أمثلة المشروعات القومية: الوادي الجديد في الواحة الخارجة وتوشكى على بحيرة ناصر في النوبة القديمة، وترعة السلام في شمال سيناء، ومشروعات الزراعة في شرق العوينات، والمشروع القديم للزراعة في شرق البحيرات المرة عبر منطقة سيرابيوم، والمريوطية في غرب الإسكندرية، وتحويل حلوان-التبين إلى «رور» صناعي على النيل يضاهي إقليم الرور على نهر الراين في ألمانيا، وميناء الحاويات في شرق التفريعة شمال قناة السويس، وميناء العين السخنة في جنوب قناة السويس، ومجمع فوسفات أبو طرطور في الواحات، وخط السكة الحديد من أبو طرطور إلى ميناء سفاجة عبر الصحاري الغربية والشرقية، وعبر محافظة قنا إلى البحر الأحمر، ومشروعات أخرى بعضها فشل في المهد كحديد جنوب أسوان شرق بحيرة ناصر، وحلقة المدن التوابع حول القاهرة، والطريق الدائري بغرض حل اختناق القاهرة فأنتج ضواح للصفوة من كبار المليونيرية واختناق لحركة مرور القاهرة الكبرى، وكذا مشروع ممر التعمير المغرق في الأحلام والمتناهي الضخامة والتكلفة، والذي يمتد من البحر المتوسط قرب العلمين إلى حدود السودان في مسار هائل (1200 كيلومتر) غرب الدلتا والوادي ... وغير ذلك كثير على مستويات محلية. (5)
الهدف غالبا ذو قصد حسن من هذه المشروعات، قد يكون الهدف إيجاد حل لمشكلة السكان في محافظات الفقر في جنوب مصر أو شمالها، وذلك بتمهيد أرض استزراع وتهجير الناس إليها، قد يكون الهدف مستقبلي بزيادة المساحة المعمورة من مصر من مجرد 5٪ إلى أحلام 25٪ المستحيلة علما ومنطقا وواقعا، قد يكون الهدف استراتيجيا بمعنى إعمار مناطق مصرية خالية وبالتالي جعلها امتدادا عمرانيا إلى الجنوب في النوبة وبحيرة ناصر وشرق العوينات، ومشروعات على رأسها توشكى التي تفتخر بأنها تضم أضخم مضخات رفع المياه على مستوى العالم، ثم تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أو إلى الشمال الشرقي في شمال سيناء حيث تجري ترعة السلام إلى لا شيء ملموس يمكن أن يتناسب مع الإنفاقات والمضخات والسيفونات تحت قناة السويس حتى الآن، وقد تكون كل هذه الأهداف معا في مشروع أو آخر مثل استنفاذ غير مبرر لمياه جوفية في واحات الصحراء الغربية محدثا دمارا بيئيا يلخصه نفاذ مخزون المياه الجوفية في فترة زمنية قصيرة، أو مشروعات الزراعة على امتداد مريوط، والوادي الفارغ في منخفض النطرون. (6)
وفي مقابل هذه الاهتمامات بالمشروعات القومية نجد نوعا من الإهمال أو التناسي للقلاع الصناعية المصرية وبخاصة صناعة القطن في المحلة الكبرى وكفر الدوار والبيضا وشبين الكوم وغيرها، لم يقتصر الأمر على تدهور النسيج المصري الذي كان في قمة الإنتاج العالمي، بل زاد الموضوع سوءا على سوء بتناقص إنتاج القطن نتيجة خسارة القطن معركة المنافسة مع الأرز لأسباب كثيرة منها أن السوق الداخلي للأرز في متناول الفلاح والتاجر المحلي، بينما سوق القطن تتناوله أيدي كثر من السماسرة والبورصة والتجار المحليين والأجانب، وتأثره أيضا بمجموعة العلاقات الدولية المصرية بين الكتل السياسية العالمية منذ الستينيات إلى التسعينيات في شد وجذب وازدهار وركود للتوجهات السياسية والتجارة الخارجية. هذا فضلا عن منافسة ضارية في السوق الأوروبية والعالمية لصناعات الملابس من شرق آسيا للصناعة المصرية المماثلة، وأخيرا سياسات الإغراق التجارية الصينية على المستوى المحلي والعالمي ... (7)
انعكاسات كل ذلك ظهرت مؤخرا جدا في صورة إضرابات عمال صناعات القطن المختلفة من الغزل إلى النسيج إلى الملابس في المحلة وكفر الدوار وشبين، وما قد يتلو ذلك في صناعات مصرية أخرى تعاني المنافسة والكساد معا. (8)
هل تظل هذه الإضرابات والاعتصامات التي تطالب بأشياء محدودة كتوزيع الحوافز والأرباح على العمال تدور في هذا المحور الضيق؟ أم ستتسع إلى حركة نقابية أكبر وأقوى؟ أم تلتقطها الأحزاب السياسية المصرية وجماعات الضغط المختلفة - دينية وعلمانية - لتصعيد أكبر لإشكالية معاناة سوق العمل المحلي ودور البطالة والمهمشين من القوى العاملة المصرية؟ (9) «مصر هبة النيل» قول مأثور عن هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد بعد أن راعه هذا الغنى وتلك الوفرة الزراعية في سهول الدلتا والوادي مقارنة بحال الحقول في الوديان الجبلية الصغيرة الفقيرة في اليونان والأناضول وفينيقيا ... «مصر هبة سكانها» قول آخر مأثور لأستاذنا الراحل سليمان حزين، وبرغم مأثورة هيرودوت المدهشة فإنني أميل أكثر إلى أن نشاط الإنسان الواعي المبدع هو سبب أكبر في التميز المصري منذ آلاف السنين، وذلك باعتبار أن النيل والبيئة المصرية كتاب مفتوح يمكن أن يصبح مصدرا للثروة بفضل أهلها وإبداعهم في ابتكار استخدام النهر والتربة بري الحياض كأول مدرسة للزراعة المروية في العالم المعروف آنذاك، أو يمكن أن يظل مجرد مسار نهري يكتنفه اللوتس والبردي والبوص ويتعايش على أسماكه المقيمون حوله دون إبداع يذكر! ... «ومصر هبة الصحراء» قول ثالث لعلماء دراسات ما قبل التاريخ، فقد عاش سكان ما هي مصر الآن في المناطق الصحراوية الحالية التي لم تكن صحراء حقيقية إلا نحو 2500ق.م ومن ثم فإننا نعرف الآن قدرا من جذور الحضارة الفرعونية بدراسة اللقى الأثرية للمصريين منذ أكثر من عشرة آلاف سنة مضت وبخاصة نمط حياة الصيد وبعض الرعي، ومستوطنات سكنية عديدة في وادي الكوبانية (جنوب إدفو) ونبطه-كسيبة (غرب أبو سمبل) وسيوة وسيناء ... إلخ، وبخاصة المعرفة الفلكية والحساب الرياضي والتقويم الفلكي والشمسي (آثار نبطة)، وكلها مقدمات طالها التطوير في العصور الفرعونية التالية! (10)
هذه المقدمة ضرورية لكي نفهم أن استمرارنا في التحكم في مياه النيل منذ عصر محمد علي قد أدى تدريجيا إلى فرض قيد قاس على النهر بإنشاء السد العالي. وهذا السد هو مثار جدل دائم حول المؤيدين والمعارضين، فله مزايا لا تنكر وكذا عيوب لا تنكر ربما ليس هنا مكان الحديث عنهما؛ لكن الأخطر أننا بالغنا في تعظيم الاستفادة من مخزون مياه بحيرة ناصر داخل أراضينا حتى كاد النيل أن «يفقد وعيه»، ويقل تصرف المياه فتشحط كثير من السفن السياحية ويتعرض السياح لمخاطر حياة في ذات الوقت الذي نبذل فيه الشيء الكثير للترويج للسياحة في الخارج، يقل تصرف النهر بالتحكم في كمية المنصرف شمال السد من أجل احتياجات أراض زراعية جديدة في أماكن بعيدة وقريبة مثل أرض مشروع توشكى، وترعة السلام والنوبارية وإمدادات المياه إلى نطاقات المدن السياحية في المشاتي والمصايف في جنوب سيناء، وساحل البحر الأحمر والساحل الشمالي الغربي، هذا فضلا عن نظامنا الزراعي في الدلتا والوادي الذي انتفت فيه فكرة الدورة الزراعية، وإراحة التربة بنمط الشراقي لتجديد قوتها، بل بالغنا في الزراعة الدائمة فأجهدنا التربة ورفعنا مناسيب المياه الجوفية لدرجة تهديد التربة بالشيخوخة والعفن والسموم من كثرة استخدام الأسمدة الكيماوية لإرغام الأرض على إنتاج المزيد.
ومن هنا بدأنا نفكر في استزراع بعض الصحراء وهي عطشى للماء والمكونات البيولوجية اللازمة لنمو الزرع والضرع، بالغنا في كل شيء: الاستخدام الجائر للتربة، والاستخدام الجائر للمياه، حتى أصبح النهر مقيدا ملوثا غير قادر على تطهير نفسه كما كان أيام النظام الطبيعي من فيضان وتحاريق، هذا فضلا عن وقوع النيل الآن بين مضامين السياسة، فدول الحوض كثيرة وربما تزيد - باستقلال بعض المناطق، والكل يسعى إلى مزيد من المياه عكس ما كان في الزمان الفائت، وهو ما يحدد بالقطع استحالة زيادة نصيب مصر إلا بفتات قناة جونجلي في جنوب السودان - هذا إذا استكملت، مع ما ينقص نتيجة حصص مائية لإثيوبيا والسودان. فأين المفر إذا استمر استحلاب النيل من أجل المزيد من مياه هو غير قادر على توفيرها في ظل المتطلبات الاقتصادية والسياسية المشروعة لنا ولشركائنا في حوض النيل؟ وفوق كل هذا الذبذبة المعروفة في كمية الفيضان من سنة عالية إلى عدة سنين ذات فيضان متوسط أو منخفض. (11)
تتحكم في قراراتنا - بحكم تاريخنا وتراثنا - دينونة إيديولوجية مفادها: أن الزراعة هي المجال الأهم في التنمية؛ لأنها غالبا ما تستدعي إقامة مجتمعات متكاملة من الجنسين من مختلف مراحل العمر. وهذا صحيح في أشكال الزراعة التي يمارسها معظم فلاحي العالم النامي، حيث ننسب كثافة السكان إلى فدان، أو هكتار زراعي فنقول: إن المنافسة عالية جدا في مصر الريف والوادي فهي غالبا حول فدان/10 أفراد عند نهاية القرن بعد أن كانت نحو نصف ذلك في 1975. وباعتبارنا من العالم النامي فقد ثبت في وجداننا أن الزراعة هي الحل الممكن لتخفيف أعباء الكثافة في أرض الوادي والدلتا. وهذه الإيديولوجية غير ممكنة لسببين أولهما: أن نمط الزراعة المروية تستنفذ ما يقرب من ثلاثة أرباع المياه في مصر وغير مصر. وحيث إن القدر المتحصل من مياه النيل هو قدر ثابت في أحسن الظروف فإن تدبير المياه لمساحات زراعية كبيرة - كالقول الشائع الآن أن الهدف هو استصلاح مليوني فدان من الصحراء! هو في الواقع أمر غير ممكن بالنسبة لمياه النيل. والسبب الثاني: أن أراضي الزراعة التي نكسبها من الصحاري المصرية تعتمد في أغلبها على خزان المياه الجوفية. ومصطلح «خزان» يعني أنه محدود الكمية. وأكدت الدراسات المتاحة الآن أن الخزان الجوفي حفري؛ أي إن مياه الأمطار القديمة تسربت إلى باطن الأرض منذ عشرات آلاف السنين حين كانت الصحراء الحالية ممطرة بكمية معقولة. ويقال: إن هناك إعادة تغذية للخزان من مياه المطر المتساقط على تشاد، وربما دارفور وغيرهما جنوب الصحراء المصرية والسودانية. لكن الجفاف - كظاهرة مناخية عالمية - قد حل تدريجيا بهذه الأقاليم بحيث إن خط المطر الصيفي يزحف جنوبا وتميل كميته نحو القلة أيضا. وهو ما يترتب عليه نقص بالغ في إعادة إمدادت الخزان الجوفي بالمياه لتتعادل مع كمية ما نسحبه منه. وإلى ذلك يجب أن نضيف أن سرعة المياه الباطنية بطيئة جدا بحيث قد تتحرك أقل من عدة عشرات الأمتار في السنة؛ ومن ثم فإن الاعتماد على مياه الخزان الجوفي في الصحراء يجب أن يكون مرشدا بدقة حتى لا ينضب بسرعة ويذهب الماء إلى أغوار عميقة. ولنا في هذا المجال درس قاس في مشروع الوادي الجديد وكيف هبطت المناسيب وتصحرت أرض زراعية كسبناها لقليل من السنين، فهبطت التوقعات وخابت الآمال الكبار. (12)
Shafi da ba'a sani ba