Misra da Sham
مصر والشام في الغابر والحاضر
Nau'ikan
الآثار القديمة. (10)
فرع النيل وفيضانه.
وقد جعل لكل فرع أعضاء يعملون فيه ويطوفون البلاد ويجتمعون بأعيانها وشبانها ويناقشونهم ويباحثونهم في موضوعاتهم، وقد دهش المصريون لهذا الجيش العلمي وأعجبوا به، ولا عجب فإن المصري مفطور على حب التطلع إلى العلم والسعي إليه، وقد حدثنا مؤرخ ذلك العصر (الجبرتي) عن إعجاب المصريين بالحركة العلمية الفرنسية في مصر حديثا ممتعا في كتابه، فقد اطلع المصريون عن كثب على مظاهر الرقي الفكري الحديث الذي وصلت إليه أوروبا، كما اطلعوا على مناهج في التفكير لم يعرفوها، وعلى آلات وأوائل حديثة لم يسمعوا بأخبارها، ومن أمتع فصول كتاب الجبرتي فصله الذي كتبه عن دار الكتب التي أنشأها الفرنسيون في درب الناصرية، وما فيها من الكتب والمخطوطات والمخططات والخرائط والصور الممتعة، ولا يقل إعجابه بها عن إعجابه بدار الكيمياء والمختبرات العلمية وما شاهده فيها من العجائب والغرائب، ولا شك في أن أمثال الجبرتي كانوا كثيرين، فقد فتح الفرنسيون مؤسساتهم هذه للمصريين عامة، وأسسوا في القاهرة معاهد أخرى تنشر الحضارة الجديدة، ومن أعظم هذه المعاهد المدرستان اللتان أوجدوهما لتعليم أطفال الفرنسيين المولودين في القاهرة، كما أنشئوا في مصر جريدة عربية وأخرى فرنسية ومصانع للورق وأخرى للأقمشة وغير ذلك، ويحدثنا الجبرتي أن الفرنسيين كانوا يرحبون بالزوار المصريين ويقومون بالتجارب العلمية الكيماوية أمامهم، وأن المصريين كانوا مدهوشين لتلك الأعمال العجيبة. ولا شك عندنا أيضا في أن الجيل الجديد كان ينظر إلى العلوم القديمة نظرة استخفاف بعد أن شاهد ما شاهد من مظاهر العلم الحديث، ولكن خروج الفرنسيين من مصر (سنة 1801م) قضى على كل ما كان يؤمل من مصر فيما لو بقي فيها الفرنسيون؛ فبخروجهم تقهقر كل شيء وأخذ المستوى العلمي ينحط، وكاد أن يعود إلى ما كان عليه قبل دخول الحملة الفرنسية، لولا أن قيض الله لمصر من أخذ بيدها من جديد وسار بها في سبيل التقدم، أعني بذلك محمد علي باشا، فإنه أدرك أن التعليم الأزهري وحده لم يعد كافيا لمجاراة الأمم القوية الحية، ولذلك بدل نظم التعليم في مصر وعمد إلى إنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والعالية كمدارس الطب والهندسة والحربية والفنون والصنائع واللغات، ثم رأى أن هذا وحده ليس كافيا لتوجيه الثقافة في مصر، فأرسل بعوثا علمية إلى أوروبا اختار أفرادهم من الأزهر وغيره من المعاهد، وقد بلغ عدد هذه البعوث في زمنه نحوا من 320 طالبا، وقد كان لهذه البعوث صدى كبير في أوروبا والشرق، ولم تكن حركة محمد علي مقصورة على مصر، فقد تعدت إلى الشام حينما انضم الشام إلى الدولة المصرية، ومن آثار محمد علي في الشام إنشاؤه فرعا لمدرسة طب القصر العيني في حلب.
وقد رأى عقلاء الشاميين الثمرة الصالحة التي جنتها مصر من هذه البعوث والأعمال العلمية والإصلاحية التي قام بها محمد علي في مصر، فأخذوا يقلدون مصر، وأول حركة تقليدية قامت بها سورية هي حركة تأسيس المعاهد على غرار معاهد محمد علي وأعقابه في مصر؛ ففي سنة 1834م أنشأ الآباء العازريون مدرسة نظامية في عين طورا، فلما رأى الأوروبيون والأميركان ميل الشاميين إلى العلم والحضارة الأدبية التي رأوا ثمرتها في مصر أخذوا يتهافتون على تأسيس المعاهد في سورية، ففي سنة 1835م أسس الأميركان في بيروت مدرستهم الكبرى، كما أسسوا مدرسة أخرى في عبية لبنان سنة 1847م، وفي هذه السنة أسس اليسوعيون مدرستهم في لبنان وهي التي صارت فيما بعد جامعة عظيمة، وفي سنة 1860م أسست المدرسة الإنكليزية بعناية المسز طمسن، وفي سنة 1861م أسست المدرسة الإنجيلية الأميركانية للبنات، وجعلت فروع كثيرة لهذين المعهدين في جميع أنحاء لبنان، وفي سنة 1863م أسس العبقري اللبناني المعلم بطرس البستاني مدرسته الوطنية التي خرج منها جمهور كبير من علماء الديار الشامية، وفي سنة 1864م أنشأ البطريرك غور يغوريوس يوسف الكاثوليكي مدرسة كبيرة.
ومن أسباب الحركة العلمية في مصر ظهور الطباعة العربية فيها، فقد أسست أول مطبعة فيها أيام نابليون سنة 1798، وقد كان في هذه المطبعة عدد من العمال الفرنسيين مع عدد من العمال السوريين الذين كانوا تعلموا هذه الصنعة في رومية، ومن كبارهم إلياس فتح الله ويوسف مسابكي، وقد ظلت هذه المطبعة عامرة نحو أربع سنوات، ولما خرج الفرنساويون سنة 1801م أخذوها معهم، وظلت مصر نحوا من عشرين سنة بلا مطبعة، فلما نهض محمد علي أنشأ مطبعته الأهلية سنة «1821م» في بولاق وعهد في إدارتها إلى نقولا المسابكي، فقام بعمله خير قيام وظل فيها إلى أن مات سنة «1830م»، وكان يدرب طائفة من الطلاب الأزهريين على الصناعة. ولم تكن هذه المطبعة هي الوحيدة في مصر، فإن الأنبا كيراس الرابع بطريرك الأقباط كلف في سنة «1860م» روفائيل عبيد السوري أن يقوم على إدارة مطبعته التي استحضرها من أوروبا.
وقد نشأ عن ظهور الطباعة في مصر أن ظهرت الصحافة فيها، ففي أيام محمد علي وجدت مجلة الوقائع المصرية وقد استمر ظهورها حتى نهاية عصر محمد علي، وفي أيام عباس الأول وسعيد الأول (1849-1863م) أهمل شأنها، وقد رأى السوريون فائدة الصحافة فأوجدوها في بلادهم، وأقدم الصحف السورية مجلة مرآة الأحوال التي أوجدها رزق الله حسون الحلبي في الآستانة سنة «1855م»، وفي سنة «1858م» وجدت جريدة حديقة الأخبار في بيروت، ثم تتابع إنشاء الصحف والمطابع في سورية. أما في مصر فقد رأيت أن العزيزين اللذين خلفا محمد علي كانا لا يهتمان بهذا النوع من الأدب، فلما جاء إسماعيل (1863-1882م) وكان يحب الأدب وأهله، نشط الصحافة ورعاها، فسمع بعض السوريين بذلك فتوافدوا عليه، وفي عهده أنشأ سليم وبشارة تقلا جريدة الأهرام في الإسكندرية سنة 1876م، وفي سنة 1880م أسس الأديبان السوريان الشهيران أديب إسحاق وسليم النقاش جريدة المحروسة فلقيت كل رواج، وهناك آخرون أنشئوا صحفا في مصر، ولكن لم يستمر منها إلا الأهرام والمحروسة، والحق أن لإسماعيل يدا كبيرة على الصحافة السورية في مصر، فلولاه لما عاشت هذا العمر الطويل، ولولاه لما ارتقى أسلوبها رقيا جعلها أفضل مئات الدرجات من الصحافة القديمة، والحق أن أكثر الفضل في ذلك يعود إلى سليم النقاش وأديب إسحاق، فإنهما كانا ذوي قلم سيال وأسلوب متين.
وكما ازدهرت الجرائد اليومية في مصر بفضل السوريين ازدهرت المجلات فيها، وأول المجلات السورية العلمية ظهورا في مصر مجلة روضة المدارس التي أسست سنة 1870، وكانت مجلة علمية تاريخية طبية، ثم أنشئ المقتطف سنة 1871 وكان أول أمره يصدر في بيروت ثم انتقل إلى مصر سنة 1886م، وفي سنة 1877م صدرت مجلة الشفاء في مصر للدكتور شبلي شميل، ومجلة الحقوق لأخيه أمين شميل، ثم توالت المجلات.
فأنت ترى قوة الصلات بين القطرين، وما ينبغي لنا أن ننسى أن للأزهر يدا قوية في إحكام هذه الصلات، فهو الذي كان يخرج رجال الأدب والدين عند المسلمين، وهو الملجأ الوحيد الذي كان يلجأ إليه الشاميون ليتفقهوا في الدين وليدرسوا لغتهم، وقد كان المصريون يرحبون بهم كل ترحيب ويغدقون عليهم العطايا والجرايات ولا يقفون في سبيل من أوتي نصيبا من العلم والنشاط أن يتولى الوظائف الكبيرة في مصر كمشيخة الأزهر ومشيخة أروقته وإفتاء مصر والتدريس في المعاهد. وفي عصر إسماعيل ارتقى الأزهر رقيا محسوسا، فقد كان يدرس فيه - فضلا عن علوم الدين واللغة - العلوم الحكمية والفلسفية والرياضية والتاريخية، وهذه علوم كانت جد نادرة في الشام في تلك الفترة، فبفضل الأزهر عادت هذه العلوم إلى الشام.
وما ينبغي أن ننسى فضل السيد جمال الدين وتلميذه محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي في إحياء الثقافة الجديدة وبعث الثقافة العربية القديمة الصحيحة، ولم تكن حركة الأفغاني مقصورة على العلم وحده بل تعدته إلى السياسة؛ ففي مصر أسست أول جمعية سياسية اشترك فيها نفر من رجالات مصر والشام، وهي جمعية مصر الفتاة، ومن أعضائها المؤسسين جمال الدين، وأديب إسحاق، وسليم النقاش، وعبد الله نديم، ونقولا توما، وغيرهم من حملة الأقلام السوريين المقيمين في مصر، وقد أصدروا لهم جريدة باسم «مصر الفتاة» وكان ذلك في أواخر عهد إسماعيل، وكان لهذه الجمعية أثر كبير في تطور السياسة المصرية والسياسة الشرقية. والحق أن حركة السيد جمال الدين كانت حركة قوية امتدت إلى الشام وغيره من أقطار الإمبراطورية العثمانية؛ لأن دروس الشيخ جمال الدين كانت عامة يحضرها المصريون والأتراك والشاميون والحجازيون، ولم تكن تلك الدروس كدروس غيره من شيوخ الأزهر، فقد كان الشيخ يتخذ الكتب الأزهرية وسيلة إلى نشر أفكاره وتنمية عقول تلاميذه، وقد اعتمد الشيخ على الفلسفة في تنبيه أفكار تلاميذه واعتزازهم بنفسهم، فقد كان الشيوخ قبله يمنعون تلاميذهم من الاعتزاز بآرائهم ويمنعونهم من مناقشة كلام المؤلفين ويعتبرونه كأنه كلام رب العالمين، فإذا هو يقول لتلاميذه: «ناقشوا كل كلام فاقبلوا الصواب واطرحوا الخطأ.» ولم تكن دروس الشيخ مقصورة على دروسه في الأزهر، فقد كانت له مجامع في المقاهي والبيوت، وكان يجتمع إليه فيها طائفة من الفضلاء كسعد زغلول، وسليم نقاش، وأديب إسحاق، وعلي مظهر، وغيرهم من أدباء الشام ومصر. وفي هذه المجالس أيضا وجه الأفغاني الأدب العربي توجيها جديدا، فقد كان الأدباء والكتاب قبله لا يتخطون سور القديم، أما الشيخ فقد دعا إلى تحطيم هذه الأسوار وتحكيم العقل والذوق، وكان الأدب قبله أدب ألفاظ وزخرفة، فحاربه الشيخ ودعا إلى أدب يعبر عن نفسية الشعب، وكان الدين قبله دين تقليد وخرافات، فحطم الشيخ هذه التقاليد وتلك الخرافات، وأرجع الدين إلى ما كان عليه السلف الصالح، وكانت السياسة قبل الشيخ خنوعا للأجنبي الدخيل، فدعا إلى الثورة وإلى أن يعيش الناس أحرارا في بلادهم.
هذه هي الخطوط الأولية لحركة الشيخ في بيته وفي مقهاه وفي مدرسته، وقد استفاد منها طلابه فنبغ منهم من المصريين سعد زغلول ومحمد عبده، ومن الشاميين أديب إسحاق وسليم عنخوري.
Shafi da ba'a sani ba