وفي الحقيقة كان المصري لا يرضى لنفسه أن يحترف الجندية؛ لأنه كان يعتقد أنها عمل مؤلم لا يختلف عن الأعمال الشاقة، ففيها يتعرض الجندي لكل أنواع الذل والمهانة، ولا تظن أن سوء ظنه هذا بالجندية كان على غير الحق.
أما ما يرجوه في الحياة، فهو أن يفوز بعمل كاتب عند أحد الأغنياء أو في مصالح الحكومة، يكتب التقارير ويحسب الحسابات. ولما لم يكن في الإمكان أن تتسع الوظائف لجميع الشبان، فقد كان الأب الذي يتمكن من توظيف أحد أبنائه أسعد الآباء، ولو أنه من المحتمل جدا أن يحتقره الابن، ويترفع عن الانتساب إليه وإلى إخوته الذين يزرعون في الحقول أو يخدمون في الجيش.
ولدينا الآن كتاب قديم كان كاتبه جنديا، ثم رقي إلى ضابط في الإدارة السياسية، كتبه لشاب صغير مبينا له آراءه عن الجندية، محذرا إياه أن يتخذها مهنة مستقبلة. وكان الشاب ولوعا بأن يكون في أحد الأيام من جنود العربات، وهم الذين يقابلون الفرسان عندنا اليوم، وكان يقف في العربة جنديان أحدهما يسوق ويقود الجياد، والآخر يحارب بقوسه، وفي بعض الأحوال بالسيف أو الرمح.
وقد قال له إن فرسان العربات ليسوا أحسن حالا من بقية الجند، وقد يظهر العمل لقليل الاختبار جذابا جميلا، فلا يركب الجندي العربة حتى يظن أنه ملك على الأرض كلها، ثم يذهب إلى أهله بملابسه الجديدة فخورا مختالا!
ولكنه معرض لأشد أنواع العقوبات وأقساها إذا ارتكب أقل الأخطاء وأهونها، فإذا جاء يوم التفتيش ووجد أن أحد الجنود مقصر أقل تقصير، أو أن إحدى معداته بها خلل لا يذكر، فإنه يطرح على الأرض، ويضرب بالعصي ضربا مبرحا، حتى يشرف على الهلاك من شدة الألم. ويؤكد للشاب أن هذه الحالة التي وصفها تعد خيرا بكثير من حالة الجنود العادية، فإنهم كانوا يجلدون في ثكناتهم لأي هفوة تصدر منهم، ثم إنهم يتكبدون أشد المتاعب في أثناء الحروب، فيسيرون إلى سوريا الأيام الطوال، والأرض تأكل أقدامهم التي لم تلمس إلا أرض مصر اللينة. وكانوا يحملون معداتهم ولوازمهم وآلات القتال. وبالجملة فقد كانوا ينوءون تحت حمل ثقيل، وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى شرب الماء القذر في أثناء اجتيازهم الصحراء، غير مبالين بما قد يسببه لهم من الأمراض، وهم الذين يقاتلون الأعداء معرضين أنفسهم للموت وأجسامهم للتلف، بينما يجلس القواد في أمان وسلام. فإذا انتهت الحرب عاد الجندي منهم إلى بلده مثخنا بالجراح، مهدم البنيان، مسلوب الملابس؛ وذلك لأن النوبيين الذين يحرسون الأمتعة ينتهزون فرصة اشتباك الفريقين في القتال، ثم يسرقون الأمتعة ويلوذون بالفرار.
وختم الكاتب كلامه بأن قال: «خير من كل ذلك أن تختار لنفسك مهنة كمهنة الكتابة، وتعيش سعيدا في وطنك.»
وأستطيع أن أقول إن كلام هذا الكاتب صحيح، وهذه الحالة التي كانوا يشكون منها قديما لا تزال على ما كانت عليه إلى الآن، ولكن رغما عن كل ذلك، فقد استطاع فرعون أن يجمع الجيوش الجرارة في وقت الخطر.
ولم يكن الجيش المصري كثير العدد مثل الجيوش التي نسمع عنها الآن، أو التي نقرأ عنها في كتب القدماء؛ فالجيوش التي قادها الفراعنة إلى أرض سوريا لم تكن تزيد على العشرين أو الخمسة وعشرين ألفا، ولكن الغريب أن يكون الجيش - وهو على هذه القلة - كثير الجنسيات، مثل جيشنا الموجود في الهند.
وأهم فرق الجيش هي فرق الوطنيين من رماة القوس ورجال الرمح، ويحمل الأولون الأقواس والسهام، وهم أخف حملا من رماة الرمح إلا أنهم أشد خطرا، فإن المصريين اشتهروا بالمهارة في الرماية مثل الإنجليز القدماء، وقد كانوا سبب انتصار فرعون في كثير من الأوقات، أما الآخرون فيحملون الرماح والدروع، وفي بعض الأحيان الفئوس والخناجر أو السيوف القصار.
وهنالك فرقة من جنود العربات، وهم من المصريين أيضا، ويعتبرون أرقى درجة من المشاة. ولم تكن مهمة جندي العربة من الأمور السهلة، فقد كان عليه أن يحفظ توازنه، وأن يصيب عدوه في أثناء جري الخيل وسير العربة، ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة، وما يحتاجه من المران والثبات. وكانت خيول العربات تزين أجمل زينة.
Shafi da ba'a sani ba