Misira Daga Nasir Zuwa Yaki
مصر من ناصر إلى حرب
Nau'ikan
في البداية وضع السادات عزيز صدقي على رأس الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو الرجل الذي لم يعمل قبل ذلك مطلقا بالسياسة، ثم جاء بعده عبد السلام الزيات، سكرتيره الأسبق، المثقف صاحب الهوى الماركسي. كانت حسابات السادات في ذلك أن يقول: انظروا جميعا، إن مصر باعتقال الناصريين لم تنحرف يمينا، إنها لا تزال تسير يسارا. وعلى الرغم من حل اللجنة التنفيذية العليا، ظل الأشخاص المعروفون للعالم أجمع بأنهم تقدميون يرأسون الاتحاد الاشتراكي العربي.
بوصولهما إلى الاتحاد الاشتراكي العربي، نجح كل من صدقي والزيات في الحصول على موافقة السادات على جذب الماركسيين المصريين للعمل في هيئات الاتحاد الاشتراكي العربي وفي غيرها من المنظمات الجماهيرية. كان الأمر شاقا آنذاك على السادات الذي قبل الأمر على مضض. اضطلع صدقي والزيات بالعمل في الاتحاد الاشتراكي العربي، ولكن ليس في هذا الاتجاه الذي تصوره السادات، فوضعا «برنامجا للعمل» يربط بشكل جيد بين الشعارات الأيديولوجية التقدمية بأعمال محددة تتمثل في خطط البناء الاقتصادي لمصر. كان برنامجا متقنا في الواقع استهدف إجراء إصلاحات اجتماعية واقتصادية في البلاد. واستند البرنامج لا على النيات الحسنة والأماني الطيبة، وإنما على حسابات اقتصادية رصينة جديرة بالاعتبار.
كان الأمر الواضح هنا هو التعاون بين النظرية التقدمية التي وفرها الزيات والاقتصاديون، كما لوحظ فيها إسهام الاقتصادي العملي الموهوب عزيز صدقي. وقد أسفر الجهد عن وثيقة تتميز بالجمع بين النظرية والتطبيق. وكان من الضروري الموافقة عليها في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في يوليو 1971م.
تمثلت القيمة الكبرى للبرنامج الذي أعده صدقي والزيات في أن العمال في كل المجالات الاقتصادية للبلاد تسلموا بالفعل ما يمكن أن نعتبره مهمة عملية محددة لعملهم وحياتهم. وقد كشفت هذه المهمة بوضوح أن تحقيق هذا المستوى أو ذاك من الإنتاج في مجال محدد من مجالات الاقتصاد، ومن ثم في مصنع بعينه أو في أي مؤسسة، سوف يؤدي إلى خطوات ملموسة تتعلق بالضمان المادي والثقافي والمعيشي لهؤلاء العمال. وقد رسم البرنامج أيضا خطوات محددة لتحجيم نفوذ القطاع الخاص واستخدامه لصالح العمال جميعا. أتذكر أنه في سياق إعداد برنامج صدقي والزيات كانا كثيرا ما يستفسران مني عن الخطط الخمسية السوفييتية الأولى وعن معناها التنظيمي وعن العمل السياسي الذي توسع في بلادنا في تلك السنوات حول الخطط الخمسية التي أصبحت بمثابة خطط لحياة كل عامل.
تمت الموافقة بطبيعة الحال على البرنامج في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي، على الرغم من أنني كنت على يقين أن السادات نفسه لم يقرأه كاملا على الأرجح، فضلا عن أن البرنامج كان كبيرا للغاية من حيث حجمه. على أية حال فقد كنت أثناء لقاءاتي بالسادات أسأله عن الاتجاهات الأساسية في البرنامج، الذي ما زال في مرحلة الإعداد، ولكنه لم يكن باستطاعته أن يعطيني إجابة واضحة، لكنه استمع إلي بمزيد من الاهتمام عندما حدثته عن الإجراءات التي وردت في مشروع البرنامج.
عندما ألقى السادات تقريرا في المؤتمر حول هذا البرنامج، تم إعداد خطاب مناسب ليلقيه في هذه المناسبة. على أنه بدأ لا بالحديث عن القضايا الواردة في البرنامج، وإنما بالحديث في موضوعه المفضل وهو الوضع الدولي والصراع مع إسرائيل. وفي هذا الصدد لم يكن السادات بحاجة إلى ورق مكتوب، وحتى لو كان هناك شيء معد لذلك؛ فإنه لم يكن ليعبأ به. كان من الملاحظ دائما كيف كان من الصعب قراءة شيء ما كتبه له آخرون. شيء لا يعبر عن تركيبة أفكاره ومزاجه، اللذين يتشكلان لحظة إلقائه لخطابه. وقد كان هذا بالنسبة له، كإنسان مزاجي، أمرا حاكما.
كان السادات مولعا بالخروج عن الموضوع الرئيسي، وقد بدا أنه لا يستطيع التوقف عن الحديث في مجال العلاقات الدولية. لقد ظهر لديه الآن مزاج نفسي مختلف. كان من الصعب عليه العودة إلى الجزء العملي في خطابه والخاص ببرنامج العمل. على أية حال فقد توقف ، ثم التزم الصمت طويلا، محدقا في الأوراق الموضوعة أمامه على المنصة، كأنما هو غير مدرك ما الذي جاء بكل هذه الأوراق إلى هنا. وبعد انقضاء فترة الصمت الطويلة، قال إن مشروع البرنامج قد تم توزيعه على الأعضاء جميعا؛ ولهذا فلا حاجة إلى عرضه. واصل السادات النظر في الأوراق ثم راح يقلبها على نحو آلي واضح، متظاهرا بالاهتمام وكأنما يبحث عن شيء ما، ولكنه لا يجد ما يريد أن يركز عليه اهتمامه. جزء من الأوراق سقط على الأرض فلم يعره السادات اهتماما كأنما لم يلحظه مواصلا فحص الأوراق واحدة وراء الأخرى. عندئذ نهض الزيات عن مكانه كرئيس للمؤتمر واقترب من المنصة وراح يلملم الأوراق ويضعها أمام السادات، ثم ابتعد عائدا إلى مكانه. وبدا أن السادات لم يلحظ أي شيء. تفحص جدولا في الوثيقة، حيث كان يقلب الأوراق في الملف ثم قال: هاكم على سبيل المثال ما يجب أن يصل إليه إنتاج الطاقة الكهربائية، ثم ذكر رقما. فترة أخرى من الصمت، ومرة أخرى تتطاير بعض الأوراق من على المنصة إلى الأرض والسادات لا يلاحظ شيئا. ومرة أخرى ينهض الزيات ويقترب ويرفع الورق ويضعه أمام السادات ثم يعود إلى مكانه ليتكرر الأمر مرة أخرى. لم يعد الأمر مفهوما. ترى هل يسخر السادات من الوثيقة، أم تراه ثملا؛ إذ كان يتصرف عند وصوله إلى المنصة تصرف شخص في حالة غير طبيعية. راحت القاعة الغارقة في الصمت والتي تحتوي ثلاثة آلاف عضو ينظرون ويتابعون هذه الحيلة الغريبة للرئيس. كان الجميع يشعرون بحرج شديد.
أنهى السادات خطابه كيفما اتفق بعد أن أعلن أنه ما دام كل شيء مكتوبا في الوثيقة التي تم توزيعها على الأعضاء، إذن فكل شيء واضح. تولد لدي انطباع أن السادات تعمد أن يقوم بتمثيل هذا المشهد. كان يشعر أنه ليس الشخص الرئيسي وراء هذا البرنامج، وأن البرنامج لا يمت إليه بصلة. وبالمناسبة فقد قام السادات فيما بعد بعزل صدقي، ومن بعده الزيات عن منصب الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وعين فيه سيد مرعي - الإقطاعي - لسان حال المصالح البرجوازية المصرية الكبيرة. لم يكن هناك شيء أكثر إهانة لفكرة وجود منظمة تقدمية في مصر من تعيين مرعي في هذا المنصب. علاوة على ذلك فقد كان مرعي خصما شخصيا لصدقي من الناحية الأيديولوجية. كان صدقي يدافع عن تصنيع البلاد ويسعى لتنمية القطاع الحكومي بكل الوسائل، ويميل للاتحاد السوفييتي، أما مرعي فكان يضع تركيزه على الزراعة وازدهار القطاع الخاص والتوجه ناحية الغرب.
بدأ مرعي بمباركة من السادات في «إعادة تنظيم» الاتحاد الاشتراكي العربي؛ بدأت العديد من اللجان واللجان الفرعية في عقد الاجتماعات، تم نسيان البرنامج الحيوي للإصلاحات الاجتماعية وتوقف العمل السياسي بين الجماهير. لكن صدقي والزيات واصلا العمل بطريقة أخرى؛ في تلك الفترة تم تعيين صدقي رئيسا للوزراء، والزيات نائبا لرئيس الوزراء. بدأ الاثنان في عقد اجتماعات الحكومة خارج العاصمة، في المدن الكبرى والمحافظات. وهناك في القاعات المفتوحة راحوا يتدارسون القضايا المتعلقة بكل محافظة أو مدينة على حدة وبشكل محدد، وأثبتا بشكل واضح أن الحكومة تعكس مصالح الكادحين، وكشفا عن الطاقة الكامنة المخفية لدى المحافظين، وأظهرا النزعة البيروقراطية لدى السلطات المحلية ... إلخ. وجدت هذه الاجتماعات الحكومية شعبية كبيرة في أوساط الكادحين، ولكنها أثارت - بطبيعة الحال - حفيظة وكراهية البيروقراطية المصرية التقليدية التي كان يستند عليها الرئيس نفسه بشكل كبير.
وعلى الفور، أقيل صدقي من منصبه رئيسا للوزراء ومعه الزيات في نفس الوقت، اللذين أصبحت لهما شعبية كبيرة فاقت شعبية الرئيس، وأصبحت إنجازاتهما تقف حجر عثرة أمام مصالح البرجوازية المصرية الكبيرة التي راح السادات يعتمد عليها أكثر فأكثر. وهنا عين السادات حافظ غانم أمينا أول للاتحاد الاشتراكي العربي، وزير التعليم السابق، أحد المخلصين من الحرس القديم، لا عقيدة له، باختصار، الشخص المطيع الذي يفعل ما يؤمر به. بدأ غانم في «إعادة تنظيم» الاتحاد الاشتراكي العربي مرة أخرى والعمل في إعداد ما عرف باسم «وثيقة العمل»، وهي تعد من الناحية العملية نفيا لكل ما تم التأكيد عليه منذ عامين مضيا. كانت هذه الوثيقة تتضمن أحكاما مغلوطة بشأن العلاقات الدولية وتزييفها لسياسة الاتحاد السوفييتي، فضلا عن دعوتها للانفتاح أمام رأس المال الخاص. كان هذا هو الهدف الأساسي لهذه «الوثيقة». تحول الاتحاد الاشتراكي العربي في الخطة التنظيمية له إلى مجرد منظمة «واجهة» تقوم بعقد اجتماعات جماهيرية لتبلغ السلطات بالمزاج السائد في البلاد. كانت هذه بالطبع خطوة إلى الخلف، لكنها كانت تناسب السادات ليصبح الاتحاد الاشتراكي العربي منظمة تعمل لخدمة الرئيس. وبطبيعة الحال تم إغلاق معهد الدراسات الاشتراكية، وهو مركز للدراسات العلمية كان تابعا للاتحاد الاشتراكي العربي؛ إذ لم يعد السادات بحاجة إليه. هكذا أصبحت البلاد مرتعا «للأفكار الحرة».
Shafi da ba'a sani ba