328

Tarihin Misra a zamanin Khidiwi Ismail

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Nau'ikan

وفي آخر هذه المدة توفي (محمد علي)، وتولى (عباس الأول)، فأمر باسترجاع تلاميذ الرسالة المصرية بفرنسا سنة 1849 فعادوا، ورجع شريف باشا مكتسبا من الحكومة الفرنساوية رتبة يوزباشي أركان حرب، لابسا ملابسها الرسمية، فألحق بالجيش المصري بهذه الرتبة أيضا، ولم يلبث في الجيش إلا قليلا حتى تعين من جملة ياوران سليمان باشا الفرنساوي، سردار الجيش المصري، بناء على طلب سليمان باشا عينه، وإلحاحه على (عباس الأول)، ولكن هذا التعيين لم يزده شيئا على رتبته، مع تكرار الطلب من رئيسه سليمان باشا، وبقي في هذه الوظيفة لغاية سنة 1852، فتمكنت محبته من قلب رئيسه لحسن قيامه بأعماله، ونباهته واستقامته وخبرته، ولكنه لم يتقدم، ولم ينل رتبة من (عباس) على مهارته ومساعدة رئيسه إياه، فقام بفكره أن يترك الوظيفة، وتركها، واستخدمه الأمير حليم في دائرته، بوظيفة كاتب يده في سنة 1853، وبقي في هذه الوظيفة سنة واحدة إلى أن توفي (عباس) وتولى بعده (سعيد)، فكانت باكورة أعماله ترقية شريف، رفيقه في التلمذة قديما والجدير بالالتفات، إلى رتبة أميرالاي الحرس الخصوصي، فبقي في هذه الوظيفة سنتين، والقلوب راضية عنه، والأمير ملتفت إليه حق الالتفات، وبعدها أنعم عليه برتبة لواء (باشا)، وعين لقيادة آلاي بيادة وآلاي الحرس الخصوصي، ثم كمل سعده بعد هذه الترقية بسنة واحدة سنة 1856، فتزوج ابنة سليمان باشا الفرنساوي السردار البادي ذكره، فازداد بقرانه هذا تمسكا بميوله الفرنساوية الأصلية.

وبقربه من (سعيد) زاد قدره لديه، وظهرت فيه علامات الأهلية التامة، والجدارة العظمى، والعفة، وسداد الرأي، فرقاه إلى رتبة فريق، ثم خطر بباله أن يعينه في وظيفة إدارية، فكان ذلك، وعينه ناظرا للأمور الخارجية المصرية، فقام بها حق القيام إلى انقضاء أيام (سعيد). ومن عهد توظفه للخارجية ظهر في الوجود السياسي ظهورا بينا، ولبث كذلك نحو ثلاثين سنة، لا تحدث حادثة سياسية إلا وله فيها الاسم الطيب الشريف، وانقضت مدة (إسماعيل) وأوائل مدة (توفيق) وشريف في منزلته السياسية، وعلو مكانته، وارتقائه في الاسم والصيت.

وبعد أن توفي (سعيد) لم يتزحزح مركز شريف، بل زاد في عهد (إسماعيل) الذي كان هو أيضا لا يفتأ يذكر أيام تلمذتهما معا في باريس وساعاتها الحلوة، فولاه نظارة الداخلية مع نظارة الخارجية، فقام بالوظيفتين حق القيام، بالأمانة وحسن الإدارة والإخلاص، إلى أن سافر (إسماعيل) إلى الأستانة في يولية سنة 1865، فعهد إليه بالشرف الرفيع الذي لا يعدله شرف، وهو جعله قائمقام مصر، لما عهده فيه من حسن الرياسة والذكاء والكياسة والمهابة والإمارة، وهذه هي أول مرة تعين فيها نائبا عن خديو مصر رجل ليس من العائلة الخديوية، فكان ذلك أكبر دليل على ما كان لشريف من المنزلة العليا في النفوس.

ثم لما عاد (إسماعيل) إلى مصر أبقاه في الخارجية، وألقى إليه مقاليد المعارف العمومية، وعهد بالداخلية إلى راغب باشا، وفي سنة 1867 اختاره لرياسة المجلس الخصوصي الذي كان بمنزلة مجلس النظار، ومن هذا التاريخ إلى آخر حكم (إسماعيل) تقلب في الوظائف العالية؛ فتقلد نظارة الداخلية من سنة 1868 إلى سنة 1869، والخارجية في سنة 1870 وسنة 1874 وسنة 1875 وسنة 1876 وسنة 1879، والحقانية أيضا في سنة 1874 وسنة 1875، وأحيلت عليه نظارة التجارة كذلك في سنة 1875، وفي سنة 1879 كان آخر رئيس نظار (إسماعيل) وأول رئيس نظار (توفيق)، ولكنه اعتزل المناصب في أوائل (توفيق)، وما زال بعيدا عنها إلى أن تحركت الثورة العرابية، فعهدت إليه رياسة مجلس النظار سنة 1881، فأسس في مدته هذه مجلس نواب البلاد، ولما ثبت له أن الثورة انقلبت إلى حركة مؤدية حتما إلى جلب ضرر على البلاد استقال، والكل راضون عنه، وبعد تدمير الإسكندرية عاد فألف وزارة كانت آخر الوزارات التي ترأسها، وتقلد فيها منصب الخارجية في ذلك الحين، ولما اشتد أوار المسألة السودانية تنحى، وترك المناصب، ثم سافر إلى أوروبا حيث أدركته الوفاة سنة 1887.

فصدر أمر (توفيق) بإحضار رفاته، وتشييع جنازته على نفقة الحكومة، اعترافا بفضله وخدماته الجليلة، ونعاه نوبار - وكان إذ ذاك رئيس الوزراء - إلى عموم المصالح بعبارات مؤثرة، دلت على ما كان بين الرجلين من أواصر المحبة والاحترام، بالرغم من اختلاف مشاربهما.

فإن نوبار كان في طباعه وأخلاقه وشمائله يشبه الإنجليز، وشريفا كان فرنساويا بحتا في مظهره وملبسه، لا سيما بعد اقترانه بابنة سليمان باشا، إلى حد جعل معاصريه يسمونه «شريف باشا الفرنساوي»، وبينما نوبار ربما كان لاأدريا، فإن شريفا كان مسلما صحيح الاعتقاد، ولو أنه لم يكن يعمل بدقة بكل مقتضيات الحياة والدين الإسلاميين، وكان شريف عكس نوبار أيضا في المظهر الطبيعي، كما كان عكسه في العقلية والخلق، فبينما نوبار أسمر اللون، أسود الشعر والعينين، فإن شريفا كان أشقر اللون والشعر، عسلي العينين، وبينما كان الأول يحسن إخفاء عواطفه وأفكاره، كان الثاني لا يستطيع ذلك مطلقا، لما جبل عليه من الصراحة الكلية في قلبه وكلامه، فكان إلى أنه جندي أقرب منه إلى أنه رجل سياسة، ولو حاول إخفاء عاطفة لخانته شيمه الصريحة، وسحنته المفتوحة، وبالرغم من ذلك فإنه كان محبوبا من الجميع، ولا أعداء له، لوقوف الكل على سلامة ضميره وإخلاص قلبه، بخلاف نوبار، فإن خلقه الشديد كان ينفر منه الناس بقدر ما كان يدني إليه منهم.

على أن كلا الرجلين كانا متشابهين في الذكاء، وسرعة الخاطر، وحلاوة الحديث، وحسن المعاشرة والمجالسة، وسعة الضيافة وكرمها، تشابههما في وقار النفس وكمالها، في الأنفة من الدنايا والترفع عنها، وفي علو الهمة، وحب المبرات، وحرية الفكر والضمير، وكان أحدهما يحترم الآخر، فالاحترام متبادل بينهما لهذه الفضائل والكمالات.

غير أنه بينما كان نوبار يرى المطالعة من أكبر اللذات في هذه الحياة الدنيا، كان شريف يرى أن الصيد والقنص هما أكبر ملاذها، فكان شديد الغرام بهما إذن كأنه نمرود ثان، لذلك وصفهما (إسماعيل) بقوله: «لست أرى سفيرا أرسله إلى بلاد الإنجليز خيرا من شريف فإنه صياد مولع بالصيد، لا يبالي بأخطاره، وهذا يعجب القوم هناك، ويستميل قلوبهم، كما أني لست أرى سفيرا أرسله إلى الأستانة خيرا من نوبار، فإنه أمهر الناس في تزويق الخبيث وتنميقه، ولو كان مبالغا فيه، وأحذقهم في حمل المحدث على القهقهة، وهو ساكن لا يضحك، وليس شيء يعجب الأتراك أكثر من هذا!»

وكلا الرجلين كان يميل إلى التلاهي عن الأشغال الجدية بالألعاب الاجتماعية، ولكن نوبار كان يفضل لعبة البزيج على كل لعبة خلافها، وكثيرا ما كنت إذا زرته تجده يتعاطاه مع خصيص من أخصائه أو زائر من زائريه الغربيين، وأما شريف فإنه لم يكن يفضل على البلياردو لعبة في الوجود، وكان غرامه به يكاد يضاهي ولعه بالقنص والصيد، ويبلغ حدا يجعله يتصور معه كل كفاءة لأي نوع من أنواع الأعمال والأشغال في الرجل المتقن لعبه.

وإن الناظر إلى تداول وزارتي الخارجية والتجارة بين هذين الوزيرين، إلى بقائهما في منصبيهما في الإدارة المصرية المدد الطويلة، مع أن الحكم كان فرديا واستبداديا على ما يقولون، لا يسعه إلا مقارنة ذلك بسرعة زوال الوزارات، وسرعة تغير المظاهر الإدارية في الدول السائد عليها نظام الدستور، فلا يجد من يصح له أن يقارنه بهما من رجال الدول، معاصريهما، سوى دزرائيلي وجلادستون، ومع ذلك فإن هذين الإنجليزيين تواليا على المناصب، ولم يتعاصرا عليها، فأمكن الواحد منهما في أوقات اعتزاله أن يؤلف الروايات أو يحطب في الغابات، وهذا ما لم يسمح به لنوبار وشريف، لا سيما لهذا الأخير، مطلقا طوال حكم (إسماعيل).

Shafi da ba'a sani ba