Tarihin Misra a zamanin Khidiwi Ismail
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Nau'ikan
وقد عبر اللورد بلمرستن عن هذا الفكر الأخير بما كتبه للورد كولي، حيث قال: «نحن لسنا في حاجة إلى مصر، ولا نريدها لأنفسنا، أكثر مما يريد رجل عاقل، له ملك في شمال إنجلترا، بينما مقامه في جنوبها، أن يمتلك جميع الفنادق القائمة على الطريق الموصلة إلى الشمال؛ غاية ما هو في حاجة إليه، أن تكون الفنادق هذه معتنى بها اعتناء حسنا، وأن تكون مفتوحة له في كل وقت يردها، ومستعدة تمام الاستعداد لأن تقدم له لحما حنيذا لأكله، وخيلا بريدية تحل محل خيله المتعبة!»
فدحض دي لسبس الزعم الأول، دحضا لم تعد تقوم معه لذلك الزعم قائمة، برأي اللجنة الدولية الهندسية السالف ذكرها؛ ودحض الزعم الثاني، دحضا نهائيا، أيضا، بتقرير شامل مفصل وضعه رجال فنيون خبيرون؛ منهم اثنان بريطانيان، بينوا فيه، حسابيا، مقدار أقصى ما تستوجبه الترعة من النفقات ونفقات صيانتها، ومقادير الإيرادات العائدة إلى الشركة التي تقوم بحفرها، والأرباح الناجمة لها عنها بالنسبة لمجموع حمولة السفن التي تمر منها، ومحاصيل الأطيان الموهوبة إليها من الحكومة المصرية، والتي ستباشر زراعتها؛ ودحض الزعم الثالث بأقوال رسمية صادرة عن (سعيد باشا) ذاته، أكد بها ولاءه للسلطان العثماني وعدم وجود مصلحة لنفسه في الانفصال عن تركيا؛ ودحض الزعم الرابع بأن الواقع يكذبه، وأن حفر الترعة لا يغير شيئا في أسباب نسبة الملاحة البريطانية الحالية إلى ملاحة الدول الأخرى؛ لأنه في استطاعة بريطانيا العظمى إبقاء تلك النسبة كما هي؛ ودحض الزعم الأخير بقول ظاهر الصواب، وهو أن حفر الترعة شرقي مصر، وفي برزخ رملي لا مصلحة للقطر فيه، يخرج مصر في الحقيقة، عن طريق بريطانيا العظمى إلى أملاكها الأسيوية، ويحول دون تضارب مطامعها ومطامع فرنسا السياسية بمصر، وأنه إذا كان هناك ما يجبر بريطانيا العظمى على محاولة امتلاك مصر، فإنما يكون ذلك بقاء طريقها إلى أملاكها الأسيوية مجتازة داخلية القطر المصري؛ وشعورها، ذات يوم، بأن تلك الطريق باتت غير آمنة وغير سليمة.
فأدى ثبات دي لسبس وشجاعته، من جهة؛ وكون الحق الفني والمنطقي في جانبه، من جهة أخرى؛ إلى فوز المشروع على خصومه ومقاوميه، وإلى إقبال الناس على الاكتتاب في أسهم الشركة العالمية المرغوب في تأسيسها، للتمكن من إخراجه إلى حيز الوجود.
بيد أن لولا وقوف (محمد سعيد باشا) بجانب صديقه، وهو موطن عزمه توطينا وطيدا على تنفيذ المشروع مهما كلفه من نقود، ومهما اضطر إلى التغلب عليه من صعوبات وعقبات، والتعرض إليه من أخطار؛ لولا إقباله إقبالا صحيحا على تقديم كل المتوفر عنده من مال في سنة 54، وقدره خمسمائة ألف ريال، إلى صديقه المذكور، وإقدامه على إنشاء ترعة الماء العذب التي نيط بالشركة إنشاؤها، على مصروفه الخاص وبأيدي مصرييه؛ لولا مشتراه، بمبلغ ينيف على ثلاثة ملايين من الجنيهات، كل الأسهم الباقية معروضة للبيع، التي لم تدر الشركة كيف تصرفها، في أيام بؤسها الأولى؛ ولولا وضعه بالفرمان الذي أصدره في 20 يولية سنة 1856 العدد الكافي من الأيدي المصرية تحت تصرف الشركة، لأخفق المشروع ولتفرق المساهمون أيدي سبا.
على أن وقوف (سعيد) ذلك الموقف، حيال استمرار المعارضة الإنجليزية مخيمة بثقل في الجو، تملأه سحبا، تومض فيها البروق وتدوي الرعود، كان من شأنه أن يجمع، حول ذلك الأمير المتقلب الأهواء، أسبابا متنوعة لمضايقة لا نهاية لها، تؤدي حتما إلى إرهاقه عسرا، وهو الأمر الذي وقع؛ فجعله يتململ، ويقول للائمية ومؤاخذيه: «إنما أعطيت الامتياز، بلا ترو لصديق وهو فرنساوي، فخاطبوه، أو خاطبوا حكومته. أما أنا فلست أستطيع سحب امتياز أعطيته».
12
ولكن ذلك لم يكن إلا ليزيد معارضه المعارضين ولجب الصاخبين، حتى زهقت نفس (سعيد)؛ وأخذ النحول يأكل من بدانة جسمه، فقال دي لسبس له يوما: «ألا نذهب معا إلى السودان، فنبعد عن الثقلاء، ونصيب مرميين: (الأول) أننا نتمكن من التكلم في شئون قناتنا، وليس حولنا عاذل؛ و(الثاني) أنك تنظر بعينيك حال شعب ألقيت أحكامه إليك، ويبلغنا أنه يئن من الظلم الضاغط عليه؛ فتصلح حاله، وتمد ظل السعادة فوقه؟»
13
فطرب (سعيد) للفكرة، وقام من وقته إلى زيارته للسودان التي ذكرناها؛ فما بلغ بربر إلا وقد أثارت شجونه الويلات والمصائب التي رآها محيقة بتلك الشعوب المسكينة، فدخل دي لسبس عليه، يوما، وإذا به يبكي بكاء سخينا، فسأله: «ما الذي يبكيك؟» قال: «أبكي على شقاء هذا الملأ، وعلى ما فعلت به أسرتي، فإن العرائض مفعمة بالشكاوى ترد إلي، في كل لحظة، من عموم طبقات الناس، وقد رأيت بعيني رأسي القرى التي أحرقها الدفتردار صهري ولم يعد للآن بناؤها. هذا بؤس فوق طاقة الاحتمال، وقد عزمت على التخلي عن السودان، فأتركه وشأنه، وأعود إلى مصر!»
فقال دي لسبس له: «هذا لن يكون. أنت لا تستطيع أن تعود بهذه الصفة، فارا من وجه واجبك. أنت أمير متعلم ذو خبرة، فقنن لهذه الأمم، وأنشئ لها بلديات تهتم بشئونها!»
Shafi da ba'a sani ba