أهم مصادر الكتاب
تقدمة الكتاب
رأي اللجنة العلمية المشكلة لفحص مؤلفات المتبارين في هذا الكتاب
الكتاب المرسل من المجمع العلمي المصري إلى المؤلف
مقدمة الكتاب
شكر المؤلف من تفضلوا بمساعدته
تمهيد
الجزء الأول
1 - وفاة محمد سعيد باشا1
2 - الأمير (إسماعيل)1
3 - سمو الوالي (إسماعيل1 باشا)
الجزء الثاني
1 - إيقاظ الآمال1
2 - زيارة السلطان عبد العزيز للديار المصرية1
الجزء الثالث
الباب الأول: تحقيق الشطر الأول منها1
1 - إصلاح الإدارة1
2 - توسيع نطاق الزراعة والري والمواصلات1
3 - فتح أبواب التجارة والصناعة والعمل1
4 - إحياء مالية القطر1
5 - انتعاش التعليم والحركة الفكرية1
6 - التغييرات التي أدخلت على الحياة الاجتماعية المصرية فأوجبت تطورها المستمر1
الباب الثاني: تحقيق الشطر الثاني
1 - إزالة القيد الأول1
2 - إزالة القيد الثاني1
3 - إزالة القيد الثالث1
الباب الثالث: تحقيق الشطر الثالث من الخطة المرسومة
1 - القوة المادية واتساع السلطان بالفتح والاستعمار1
2 - العناية بالعلوم وتوسيع دائرتها1
3 - أبهة الملك وجلاله لا سيما في المواسم والأعياد والأفراح1
الباب الرابع: المساعدون على نفاذ الخطة
1 - فصل فذ1
الباب الخامس: العقبات التي اعترضت سبل نفاذ الخطة
1 - الكوارث الطبيعية1
2 - الحملات المصرية المرسلة مساعدة لتركيا1
الجزء الرابع
1 - السحاب في السماء
2 - سفر في تاريخ مصر المالي1
الجزء الخامس
1 - نحو التوقف عن الدفع1
2 - انقلاب ظهر المجن1
3 - نكبة إسماعيل صديق باشا1
الجزء السادس
1 - تعقد حلقات الضيق1
2 - الكتابة على الحائط1
3 - بين يدي المندوبية1
4 - الوزارة المسئولة1
5 - بين الكاپيتول والصخرة الترپيئية1
الجزء السابع
1 - حيرة وارتباك1
2 - البروق تشق السحاب1
3 - قضي الأمر1
4 - فصل أخير1
ملحق
أهم مصادر الكتاب
تقدمة الكتاب
رأي اللجنة العلمية المشكلة لفحص مؤلفات المتبارين في هذا الكتاب
الكتاب المرسل من المجمع العلمي المصري إلى المؤلف
مقدمة الكتاب
شكر المؤلف من تفضلوا بمساعدته
تمهيد
الجزء الأول
1 - وفاة محمد سعيد باشا1
2 - الأمير (إسماعيل)1
3 - سمو الوالي (إسماعيل1 باشا)
الجزء الثاني
1 - إيقاظ الآمال1
2 - زيارة السلطان عبد العزيز للديار المصرية1
الجزء الثالث
الباب الأول: تحقيق الشطر الأول منها1
1 - إصلاح الإدارة1
2 - توسيع نطاق الزراعة والري والمواصلات1
3 - فتح أبواب التجارة والصناعة والعمل1
4 - إحياء مالية القطر1
5 - انتعاش التعليم والحركة الفكرية1
6 - التغييرات التي أدخلت على الحياة الاجتماعية المصرية فأوجبت تطورها المستمر1
الباب الثاني: تحقيق الشطر الثاني
1 - إزالة القيد الأول1
2 - إزالة القيد الثاني1
3 - إزالة القيد الثالث1
الباب الثالث: تحقيق الشطر الثالث من الخطة المرسومة
1 - القوة المادية واتساع السلطان بالفتح والاستعمار1
2 - العناية بالعلوم وتوسيع دائرتها1
3 - أبهة الملك وجلاله لا سيما في المواسم والأعياد والأفراح1
الباب الرابع: المساعدون على نفاذ الخطة
1 - فصل فذ1
الباب الخامس: العقبات التي اعترضت سبل نفاذ الخطة
1 - الكوارث الطبيعية1
2 - الحملات المصرية المرسلة مساعدة لتركيا1
الجزء الرابع
1 - السحاب في السماء
2 - سفر في تاريخ مصر المالي1
الجزء الخامس
1 - نحو التوقف عن الدفع1
2 - انقلاب ظهر المجن1
3 - نكبة إسماعيل صديق باشا1
الجزء السادس
1 - تعقد حلقات الضيق1
2 - الكتابة على الحائط1
3 - بين يدي المندوبية1
4 - الوزارة المسئولة1
5 - بين الكاپيتول والصخرة الترپيئية1
الجزء السابع
1 - حيرة وارتباك1
2 - البروق تشق السحاب1
3 - قضي الأمر1
4 - فصل أخير1
ملحق
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
من سنة 1863 إلى سنة 1879
تأليف
إلياس الأيوبي
أهم مصادر الكتاب
اسم الكتاب
اسم المؤلف
مصر القديمة والحديثة
أود سكالكي
سورية ومصر في عهد سلاطين تركيا الخمسة الأخيرين
باركر
مصر اليوم من الخديو الأول إلى الخديو الثالث
فريزر
مصر في سنة 1798 إلى 1900
برهييه
التاريخ المصري من القدم إلى اليوم
ليدي أمهرست أوڨ هاكني
مذكرات إنجليزي عن مصر من سنة 1863 إلى 1887
البارون دكوزيل
تاريخ مصر تحت حكم محمد علي من سنة 1823 إلى 1838
مانچين
أحوال وعوائد المصريين الحديثين
لين
تقرير عن مصر وكنديا سنة 1840
باورنج
موجز تاريخ مصر سنة 1840
كلوت بك
مصر تحت حكم محمد علي
هامون
مصر بعد صلح سنة 1841
هامون
في بلد محمد علي (ترجمة إنجليزية)
باكلرموسكاو
مصر في سنة 1845
شلشر
مصر تحت حكم محمد علي
مارسيل
مصر تحت حكم عباس
بل سانت چون
مصر الحديثة من محمد علي إلى سعيد باشا
مريو
كشف الستار عن أسرار مصر
مدام أولمپ إدوار
مصر وإسماعيل باشا
سكريه وأوتريون
مصر القديمة والحديثة في معرض باريس العام 1867
تييرس
رسائل في مصر الحديثة
چليون دانجلار
مصر الخديو أو دار الرق القديمة في عهد أرباب حديثين
إدون دي ليون
مصر كما هي الآن سنة 1877
ماك كون
مصر وأوروبا بقلم قاض مختلط قديم
ڨان بمين
مصر في عهد إسماعيل
ماك كون
إسماعيل باشا من سنة 1830 إلى 1895
راڨس
مناظرة متغير أو تذكارات عن أناس عديدين في بلاد عديدة
سير إدورد مالت
الفرنساويون والإنجليز بمصر
بيوڨيس
مصر - الحكام الوطنيون والتدخل الأجنبي
فون مالورتي
وصف مصر - القاهرة وضواحيها
ڨوچاني
مصر الأخيرة
لپيك
خديويون وباشاوات
مو برلي بل
حياة البلاط بمصر
بتلر
مصر
ساندي إي كاسترو
المسألة المصرية
فريسينيه
مصر الحديثة
جڨين
مصر وتسليمها
فارمان
رحلة إلى سوريا ومصر في سنة 1783 و1784 و1785
ڨولني
رسائل مكتوبة من مصر
برتلمي سانت إلير
سياحة الماريشال دوق دي راجوزا في سوريا وفلسطين ومصر
مارمون
ليالي مصر
ديدييه
خمسمائة ميل على النيل
ديدييه
رحلة السلطان عبد العزيز من استامبول إلى القاهرة
جاردييه
رسائل من مصر من سنة 1863 إلى 1865
ليدي دف جوردون
رسائل من مصر سنة 1869
ليدي دف جوردون
الفلاح سنة 1869
آبو
حياة البؤساء بمصر سنة 1869
ماري واتلي
بين أكواخ مصر سنة 1871
ماري واتلي
الرسائل الأخيرة من مصر سنة 1877
ليدي دف جوردون
مصر مجتازة مراحل مراحل
رونيه
الكولرا بمصر سنة 1850 وسنة 1855
كولتشي
الإدارة الصحية العمومية بمصر من سنة 1860 إلى 1865
كولتشي
حوادث من التاريخ المعاصر
لوكوڨيتش
الملك العقاري بمصر
يعقوب أرتين باشا
مذكرات عن أهم الأشغال العمومية المفيدة التي عملت بالقطر المصري من أقصى القدم حتى يومنا هذا
لينان ده بلفون
النقود المصرية
فؤاد سلطان بك
حالة مصر المالية سنة 1874
أنونيم
فتح برزخ السويس: إيضاح ومستندات رسمية من سنة 1855 إلى 1860
فردينان دي لسبس
رسائل ويومية ومستندات ليؤخذ منها تاريخ ترعة السويس من سنة 1854 إلى 1870
فردينان دي لسبس
برزخ السويس وترعته
شارل رو
تاريخ مصر المالي من أيام سعيد باشا سنة 1854 إلى 1876
أنونيم
صاحب السعادة شريف باشا مصر سنة 1887
سانتير دي يوڨ
مصر تحت حكم إسماعيل باشا ميلانون سنة 1880
سانتي
بعض اعتبارات عن التعليم العام بمصر سنة 1894
يعقوب أرتين باشا
المعارف العمومية بمصر سنة 1890
يعقوب أرتين باشا
مصر الحديثة
لورد كرومر
تراجم مصرية : إسماعيل صديق باشا وموت المفتش مصر سنة 1879
پ.ل.ه.دي.س
تاريخ السودان
نعوم شقير بك
الفرمانات السلطانية والأوراق الرسمية الخاصة بمصر من سنة 1840 إلى 1879
فيليب جلاد
كيف يوزع القضاء بمصر سنة 1866
لوكوڨيتش
الإصلاح القضائي بمصر. المداولات والاجتماعات التي سبقته وأدت إليه (مكتبة الاستئناف المختلط) -
محاكم مصر المختلطة
هيريروس
إسماعيلية
بيكر باشا
الدارفور تحت إدارة جوردون باشا
مساداليا
تاريخ محمد علي
كلوت بك
تاريخ مصر في القرن التاسع عشر
جوين
مصر عملا بمعاهدات سنة 1840 وسنة 1841
بوردنيانو
حملة المصريين على الحبشة
سوتزارا
شراء أسهم ترعة السويس في نوفمبر سنة 1875
شارل. لساچ
رسائل الدكتوربرون محررة من مصر والإسكندرية إلى المسيو مول بباريس من سنة 1838 إلى 1854
أرتين باشا
مصر وضواحيها
لامپ لاو
في الطاعون الذي فتك بالقطر المصري سنة 1835
جائتاني
ترعة السويس إلخ
سرڨنسنت هورد
مصر المسلمة والحبشة المسيحية
داي
خراب مصر
روزستين
بيان عن حال التعليم الطبي إلخ في القطر المصري سنة 1849
كلوت بك
سبع سنوات في السودان المصري
چيسي باشا
التعليم في مصر
دور بك
ترجمة حياة علي مبارك باشا
الدكتور دري بك
قناة السويس
محمد طلعت حرب بك
تاريخ محمد علي
مورييه
تقدمة الكتاب
إلى حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر
نور ساطع ظهر حديثا في سماء الشرق.
إدون دي ليون
مولاي، هذه جملة حقة وصف بها المؤرخ إدون دي ليون والدك الجليل وكان يعرفه عن كثب، إذ كان على عهده قنصلا جنرالا لجمهورية الولايات المتحدة بالقطر المصري.
ولا يسع المرء، إذا أجال الطرف فيما كانت عليه مصر يوم ارتقى (إسماعيل) عرشه وما وصلت إليه من حضارة وتقدم يوم اعتزاله الأريكة الخديوية، إلا أن يعترف بأن إدون دي ليون السياسي المؤرخ لم يقل إلا الحقيقة الواقعة، فقد اعتلى (إسماعيل) أريكة مصر والبلاد لم تخلص بعد من ظلمات القرون الوسطى التي حاول جدكم الأكبر (محمد علي) أن ينتشلها منها، فحال الأجل بينه وبين إتمام عمله، فوقفت مشروعاته الجليلة، وتعطلت أنظمة العدل، وكادت تعفوا آثار العلم، وتخبو جذوة التطور الذي بدت بشائره في سبيل المدنية، أضف إلى ذلك صعابا، منها ما نشأ عن امتياز قناة السويس الذي منحه (سعيد باشا) للشركة المعروفة، فقد كان يلزم مصر بتعهدات من شأنها أن تمس سيادتها في جزء كبير من أراضيها، ومنها ما اشتملت عليه الفرمانات الصادرة في سنة 1841 من نصوص تجعل تبعية مصر للدولة العثمانية في حالة أقل ما توصف بها أنها غير مرضية، وأنها تعرض البلاد لطوارئ ليست في الحسبان، كما أن الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية لرعايا الدول الأجنبية في مصر كانت حملا ثقيلا على عاتق المصريين، اضطربت لها العدالة، وتعددت بسببها السلطات المختلفة في البلد الواحد، حتى كانت النظم الداخلية مختلة معتلة.
أما في الخارج فكانت مصر مفقودة المكانة لا يعرفها على حقيقتها إلا النفر القليل، ويظن أكثر العالم المتمدين أنها لا تمتاز عن بقية بلاد أفريقيا التي لا تزال تعيش عيشة همجية.
تلك كانت حال البلاد، ولكن بعد أن تولى (إسماعيل) العرش ست عشرة سنة ونصف السنة أصبحت لمصر حكومة منسقة تنسيق الأنظمة المتبعة في أرقى البلدان الأوروبية، من حيث نظامها النيابي والإداري والسياسي.
وزادت مساحة أرضها المزروعة نيفا وألف ألف فدان، وتقدم الري فيها تقدما عظيما: فشقت الترع التي لا يحصر عددها ولا تجحد فوائدها، نذكر منها ترعتي الإبراهيمية والإسماعيلية، وشيدت القناطر العديدة، وأقيم من الكباري نحو أربعمائة على النهر الأعظم وفروعه: منها كوبري قصر النيل الفخيم، وكوبري الإنجليز، وأنشئت الطرق الزراعية المترامية الأطراف في أنحاء البلاد، ومدت السكك الحديدية، والأسلاك البرقية على أبدع وضع حتى بلغت ديار السودان، وأنشئت المواصلات البريدية، وأصلح توزيع الضرائب على أرباب الأطيان، وأنشئت شركات الملاحة وغيرها من شركات المساهمة، وأصبحت موانئ الإسكندرية وبورسعيد والسويس، وهي أهم ثغور القطر، تضارع أحسن موانئ السواحل الأوروبية والبحر الأبيض المتوسط عملا وحركة، كما نصبت المنارات الجميلة على طول الشاطئ المصري حتى سواحل المحيط الهندي.
أما الفنون والمهن والحرف على تباينها، والصناعات على اختلاف أنواعها، فقد انتعشت انتعاشا عظيما، ونشطت المشروعات العامة نشاطا جديدا، وظهرت مدن القطر بمظهر غير مظهرها الأول، وعلى الأخص مدينتا الإسكندرية والقاهرة بعد أن رصفت طرقها وأضيئت بمصابيح الغاز ووزعت بهما المياه بطريقة محكمة، وأوجد فيها نظام خاص للكنس والرش، وقد غرست فيها الحدائق الغناء، وأنشئت الميادين والمتنزهات الفسيحة الجميلة على طراز حدائق باريس ومتنزهاتها وساحات السباق، وازداد بهاؤها بالمباني الفخمة، مثل بناء الأوبرا، ودور التمثيل الأخرى، وما أحدث فيها من الأحياء الجديدة على النسق الأوروبي، وما شيد من القصور والمساجد التي تضاهي أبدع ما أنتج فن البناء من عهد المماليك.
وقد زاد عمار البلاد في هذه الفترة وبنيت عدة مدن جديدة، أهمها الإسماعيلية وحلوان، واتخذت في هذا العهد جميع الوسائل اللازمة لحفظ الصحة العامة في القطر: فأعيد تنظيم الإدارة الخاصة بها، وأصبحت البلاد - على قدر المستطاع - في مأمن من غوائل الأوبئة والوافدات، وقد نفخت في التجارة روح جد زادت بها الواردات وضوعفت الصادرات حتى بلغت أربعة أضعاف ما كانت عليه من قبل، وألغي الالتزام الخاص بالجمارك، ونظمت إدارتها أحسن تنظيم.
أما التعليم فحدث عنه ولا حرج، لأنه دفع إلى الأمام دفعة كان من شأنها أن أنشئت المدارس على اختلاف أنواعها في جميع الأنحاء: منها مدارس الفتيات ومدارس العميان ومدارس الخادمات التي انفردت مصر دون الشرق كله بإيجادها، وزودت المدارس الخاصة والأجنبية بالتشجيع، ورتبت لها الإعانات، ونفحت من الهبات الجميلة الشيء الكثير، وظلت البعثات المدرسية للبلدان الخارجية تتوالى ويتسع نطاقها، وصارت العربية لغة رسمية في مصالح الحكومة والمدارس الأميرية بدل اللغة التركية.
كل هذا أدى إلى اتساع دائرة العلوم والمعارف والآداب الاجتماعية: فنبغ في مصر فطاحل الكتاب، ونطس الأطباء، ورجال الصحافة الأكفاء، والمفكرون الحكماء ذوو الرأي الصائب والفكر السديد، وأنشئت مدرسة العلوم المصرية القديمة، ودار الآثار العربية، ودار الكتب الخديوية الفخمة، فأصبحت كأنها حلقة وصلت مصر الفراعنة بمصر القرون الوسطى ومصر الحديثة.
كما أنه امتاز عهد والدكم الجليل بالتطور الاجتماعي السريع الذي نهض بعقلية القطر المصري وكاد يرفعها إلى مصاف بلاد الغرب. فارتقت العوائد وأنماط الحياة المنزلية والعمومية، ونظمت إدارة الحفظ والأمن على أسس جديدة، وانفصلت السلطات بعضها على بعض: فأصبحت السلطة التنفيذية مستقلة عن السلطة القضائية وحق (لإسماعيل) أن يفخر بما فعل قائلا: «انفصلت بلادي عن إفريقيا لأننا أصبحنا جزءا من أوروبا».
وفي ذلك العهد المجيد تخلصت مصر مما ترتب على امتياز قناة السويس من المساس بحقوق سيادتها، وتعاقبت الفرمانات التي نالتها بما بذلته من نفائس ثروتها مؤذنة برفع القيود التي كانت مصر راضخة لها بحكم التبعية للدولة العثمانية، فتفككت هذه القيود واحدا بعد واحد ولم يبق منها إلا أمر الخراج ، واتخذ العزيز لقب «الخديو» بدلا من لقب «ولي» الذي كان يشاركه فيه حكام الولايات العثمانية، ثم قرر التوارث في العرض على مبدأ الابن البكر من «أولاد صاحب العرش»، وأصبح استقلال مصر استقلالا حقيقيا - بالرغم من صلة التبعية الاسمية - بدليل اشتراكها كدولة مستقلة في المعرض العام الذي أقيم سنة 1867 في باريس، وترؤس مليكها حفلات افتتاح قناة السويس التي تعد من أبدع وأبهى صفحات عهده، وذلك بالرغم مما أبدته تركيا من الاحتجاجات على ترؤسه لها.
ولما كانت الامتيازات الأجنبية قد أدى الإفراط في تطبيقها إلى مساوئ عدة، فقد درئ ضررها على قدر الطاقة بإنشاء المحاكم المختلطة التي تعد صفحة أخرى مجيدة في تاريخ حكم (إسماعيل) وكان من شأنها أن تعيد إلى مصر كرامتها وحقوقها في السيادة الداخلية.
وبينما كان العمل سائرا بجد ونشاط في إنجاز هذه العجائب المدهشات، كان الفتح سائرا من جهة أخرى للقضاء على الرق والنخاسة، فنجم عن ذلك أن قضي على الرق والنخاسة قضاء لا رجوع فيه، وخضع السودان بأكمله لسيطرة مصر التي امتدت إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر والمحيط الهندي حتى بلغت رأس غاردافوي، فأصبحت مصر إمبراطورية عظيمة، ولما دخلت في عداد الأمم المتمدينة حازت بينها المكان اللائق بمجدها الأثيل وأعمالها الجليلة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شكلت البعثات العلمية التي تجاوز عددها الثلاثين بعثة لاستقصاء الجهات المجهولة في أواسط أفريقيا وشرقها، سعيا وراء خدمة العلم والمعارف، ورفع شأن القطر المصري، فأنشئت الجمعية الجغرافية الخديوية، وسارع أقطاب العلماء إلى الانخراط في سلكها لنوال شرف الانتساب لها.
فلم يك والدك الجليل نورا ساطعا فحسب، بل كان شمسا متألقة في سماء مصر، ولا غرو إذا اتجهت رغبتك يا مولاي - وأنت أبر أبناء هذا المصلح العظيم، الذي تمت على يديه جميع هذه المدهشات - إلى أن يفصل التاريخ وقائعها؛ لذلك تكرمت ووضعت تحت إشراف المجمع العلمي المصري المبارة التي أدت إلى ظهور هذا الكتاب، وتفضلت - مذ قررت اللجنة العلمية التي انتدبت لفحص مختلف مؤلفات المتبارين أفضليته على سواه - فشملته وشملت مؤلفه بتعطفاتك الملكية العالية.
فلتتفضل جلالتكم وتأذنني برفعه إلى سدتكم الملكية مقدما بين يدي من صادق إخلاصي وعظيم طاعتي وعبوديتي لكم خير شفيع.
العبد الخاضع
إلياس الأيوبي
رأي اللجنة العلمية المشكلة لفحص مؤلفات المتبارين في هذا الكتاب
كتاب إلياس الأيوبي، يتألف من مجلدين مجموع صفحاتهما 1084 صفحة، في كل صفحة عشرون سطرا كتابة.
وينقسم إلى سبعة أجزاء تشتمل على اثنين وثلاثين فصلا.
أقسام المؤلف معقولة وعملية. قص الحوادث مضبوط ولا تحيز فيه.
الإنشاء عصري وأنيق، ليس فيه كلمات بطل استعمالها، والكلمات المستحدثة قليلة فيه.
الكتاب المرسل من المجمع العلمي المصري إلى المؤلف
حضرة المحترم
بأمر جلالة الملك يتشرف المجمع العلمي بإعلانكم، فيما يخصكم، بنتيجة المباراة التي وضعها صاحب الجلالة تحت إشراف جمعيتنا لتأليف كتاب في تاريخ مصر مدة حكم سمو الخديو إسماعيل:
إن جائزة الثلاثمائة جنيه قد منحت لكم، وقد صرح لكم أن تتلقبوا بلقب «الفائز في المباراة»، وستدفع لكم نظارة خاصة جلالته المبلغ المذكور عند تقديمكم هذا الكتاب، هذا وإن صاحب الجلالة يضع تحت تصرفكم مبلغا آخر تكميليا إذا أردتم أن تترجموا مؤلفكم إلى اللغة الفرنساوية.
وإني بتبليغي هذه القرارات لكم أرجوكم أن تقبلوا مني خالص تهانئي وشعور احترامي الفائق.
عن رئيس المجمع العلمي المصري (الوكيل): ا.پيوبك
مصر في 8 مايو سنة 1922
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
بينما نحن مشتغلون في كتابة الجزء السادس من تاريخ مفصل خصصنا نفسنا لوضعه في شؤون مصر الإسلامية بين الفتح العربي والفتح العثماني، إذا بأحد الأدباء من أصدقائنا أشار علينا بالتنكب، مؤقتا، عن موضوعنا هذا إلى الاشتغال بتحرير تاريخ مصر في حكم (إسماعيل) قائلا: «إن أحوال مصر الحاضرة ربما كانت إلى إيقاف الناس على ما أدى إلى تشبك المصالح المختلفة في هذا البلد الأمين تشبكا غربيا، أدعى منها إلى إيقافهم على ما تم في عصور خلت، قد لا يهتم لها واحد في الألف، لا سيما وأن الأمير
1
فؤادا قد أقام مباراة تحت إشراف المجمع العلمي المصري، ووضع جائزة لمن يحرر أحسن تاريخ لمصر في عهد أبيه».
فرأينا أن نعمل بإشارة الصديق الأديب على ما في العمل بها من حرج ومشقة، فإننا، من جهة، نكاد نكون معاصرين لعهد (إسماعيل) - والحقائق التاريخية إنما يظهرها البعد، فقط، في حلتها أو صبغتها الحقيقية - ومن جهة أخرى، فإنا على ما أوجدته فينا معرفتنا بتاريخ (إسماعيل) السطحية السابقة من ميل فطري إلى الرجل وإعجاب به، كنا لتأثرنا بالأحاديث والروايات المتناقلة عنه، نعتقد - ولو اعتقادا غير راسخ ومصبوغا بصبغة مجرد الأخذ برأي الغير أخذا لا يبرره تحكيم عقل - أنه ربنا استفادت سمعة (إسماعيل) من عدم تعرض أحد لإزالة السدول عنها، ومن إبقائها ما بين النور والغسق، حيث أجمع على ذلك كتاب العربية، بدلا من إبرازها إلى نور النهار الساطع.
ولكننا فيما يختص بقرب معاصرتنا للأيام التي دعينا للتلكم عنها، قلنا في نفسنا: «إننا، إذا توخينا الحقيقة بإخلاص، وبحثنا عنها باعتناء، وقررناها بشجاعة وبدون هوى، قد لا نجد بأسا في إقدامنا على كتابة تاريخ (إسماعيل)، ولئن لم نستطع إيفاءه حقه - لأن المصادر التي سوف يستقي منها مؤرخو المستقبل غير موجودة الآن تحت تصرفنا - فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وربما قدمت كتابتنا بعض المادة المفيدة لمن سوف يتلونا في هذا المضمار».
وفيما يختص بما لدينا من فكرة غير مبنية على تحكيم عقل في شخصية (إسماعيل)، فإنا قلنا في نفسنا: «فوق أنه يعار علينا، بصفتنا من المفكرين، أن نقيم بناء اعتقادنا في الأشخاص التاريخيين على محض التعرف السطحي بهم، أو على مجرد آراء الغير فيهم، فإن إقدامنا على كتابة تاريخ الرجل يلزمنا، حتما، درس شخصيته وأعماله درسا تاما، فيغمر، في معارفنا، فراغا شائنا، وقد يؤدي بنا إلى تعديل فكرنا وفكر قرائنا الكرام في الخديو الأول تعديلا يوجبه تعرفنا بأخلاقه وخصاله تعرفا صحيحا، ووقوفنا على جميع أعماله وقوفا حقا».
فأقدمنا، إذا، على العمل، وأخذنا في مطالعة كل ما كتب عن (إسماعيل) وعصره، بل معظم ما كتب عن أسرته في العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية وما ترجم إلى هذه اللغات من اللغات الأجنبية الأخرى التي لا نعرفها، ودرس ذلك جميعه درسا تاما. •••
وإذا بنا كلما زادنا تعرفا بعمل (إسماعيل) المتنوع، وإدراكا لنتائجه الاجتماعية في القطر، زاد إعجابنا به وعلا قدره في نفسنا، وما فرغنا من البحث والتنقيب، والمطالعة والدرس، إلا وقد رسخ فينا الاعتقاد الثابت بأن (إسماعيل) كان رجلا عظيما ومصريا صميما، وأنه عمل لمصلحة مصر ورقيها وتقدمها ما لم يعمله عاهل تولى عرشها منذ قرون؛ وأنه - وإن لم يخل من نقائص: فكثر عليه، لذلك، عدد الطاعنين - قد كان أميرا شرقيا، جديرا بأن يوضع في مصاف عظماء الشرق، وجديرا بأن يقرن اسمه، بعد مماته، بصفات التمجيد والتبجيل التي كان يقرن بها وهو مستو على عرشه الساطع سنى. •••
فأقبلنا بارتياح، بل بابتهاج، على تدوين تاريخ مصر في أيامه، ولم نعد نخشى إلا شيئا واحدا، وهو: أن يحول عجزنا دون إيفائنا الموضوع حقه، وأن لا تخرج مينرڨا
2
من رأسنا إلا مجردة من سلاحها.
على أنه إذا كانت الأعمال إنما توزن بالنيات، فإنا نقدم عملنا هذا إلى الجمهور ونحن واثقون من أنه سيغتفر لنا كثيرا، لأن نيتنا في الحقيقة صالحة، ولم نبتغ سوى تقرير الأمور كما خيل إلينا أنها هي هي في الواقع، فإن أخطأنا النظر إليها، فلقصر طبيعي في العين، لا لأنا وضعنا عليها نظارة الغرض والتحيز.
إلياس الأيوبي
الإسكندرية في 25 يناير سنة 1923
شكر المؤلف من تفضلوا بمساعدته
قد تفضلت اللجنة العلمية في دار الكتب المصرية التي يرأسها حضرة العالم الكبير والفيلسوف المفكر صاحب العزة أحمد لطفي السيد بك بقبول طبع هذا الكتاب في مطبعة القسم الأدبي في تلك الدار، وحت إشرافها النافع، وهي لا تطبع فيها من الكتب إلا ما تحكم بأنه جدير بأن ينظم في عقد المؤلفات الفاخرة التي تعمل بنشرها على إحياء آداب اللغة العربية, فقلدتنا بذلك منة لم تقلد بها أحدا من المعاصرين لنا قبلنا، وجعلت لكتابنا قيمة ثمينة فوق القيمة التي أكسبه إياها حكم المجمع العلمي المصري والمندوبية العلمية الخاصة فيه بأنه أفضل المؤلفات المقدمة إلى تقديرها في المبارة العلمية التي وضعها صاحب الجلالة مولانا الملك (فؤاد الأول) إذ كان - حفظه الله - لا يزال الأمير المعظم فؤادا.
ومهما شكرنا، فإنا لن نوفي ما توجبه هذه المنة الفريدة من شكر علينا!
ومما زاد في مقدارها لدينا هو أن حضرة العالم الفاضل والحسيب النسيب السيد محمد علي الببلاوي، نقيب أشراف الديار المصرية وأحد أعضاء تلك اللجنة الجليلة ومراقب إحياء الآداب العربية، قد وقف بشخصه الكريم على طبع كتابنا هذا، مهذبا، مجهدا نفسه في جعله خلوا من كل شائبة.
ولا يسعنا هنا إلا شكر دار الكتب المصرية في المحروسة والمكتب البلدية بالإسكندرية على التسهيلات التي جادتا بها علينا بإعارتنا كل ما احتجنا إليه من كتب، وشكر أمنائهما، حضرات الأفاضل: علي فكري أفندي وخليفة قنديل أفندي وسيد عمر أفندي، أمناء دار الكتب المصرية، وحضرة الأستاذ العالم الشيخ أحمد أبي علي، أمين المكتبة البلدية بالإسكندرية، على حفاوتهم بنا، ولطفهم بالفائق نحونا، وآدابهم الجمة في معاملتنا.
ونحن في حاجة إلى أن نشكر، على الأخص، صاحب العزة والمروءة وسليل بيت المجد والحسب سليمان يسري بك، القاضي بمحكمة الإسكندرية الأهلية، الذي تفضل ووضع تحت تصرفنا مكتبته النفيسة، بلطف نفس، وكرم أخلاق، وسماحة شيم، زادت في جمال معروفه.
وبما أنا في مقام شكر من نرى شكرهم واجبا، فإنا نقدم هنا أجمل عبارات اعترافنا بالفضل والجدارة إلى حضرة صديقنا الفاضل وزميلنا الكريم بولص غانم أفندي، المترجم بمحكمة مصر المختلطة، الذي أمدنا بسعة اطلاعه على أصول البلاغة العربية، وقضى معنا ساعات طويلة في مراجعة هذا المؤلف.
وكذلك نشكر حضرة محمد عصمت أفندي رئيس القسم الأدبي بدار الكتب، وحضرات المصححين فيه فقد ساعدوا مساعدة ممدوحة، وأخص بجميل الشكر حضرة الشاب الفاضل الأديب عباس السيد أفندي ملاحظ مطبعة دار الكتب المصرية فإنه لم يدع مجهودا إلا وبذله في سبيل تصحيح الغلطات المطبعية، وإتقان العمل بسرعة وتيقظ تام، حتى تمكن من إبرازه في حلة قشيبة قبل الميعاد المتفق عليه. •••
فإن ظهرت - مع ذلك - في الكتاب شوائب، فإن الكمال لله وحده!
تمهيد
كانت مصر حتى سنة 1798م تحت حكم الأمراء المماليك الفعلي وحكم الدولة العثمانية الأسمي، فأتت في سنة 1798 حملة فرنساوية تحت قيادة الجنرال بونابرت فقضت على حكم المماليك، واحتلت القطر، فعز ذلك على إنجلترا، فما زالت بالدولة العثمانية حتى حملتها على إشهار الحرب على فرنسا وإرسال جيش زاخر إلى مصر لإخراج الجيش الفرنساوي منها، ولكن الجنرال بونابرت قضى على ذلك الجيش قضاء مبرما في واقعة أبي قير في 25 يولية سنة 1799.
غير أن أحوال فرنسا الداخلية والخارجية ما لبثت أن اضطرت الجنرال بونابرت إلى مغادرة القطر، فخابر خلفه الجنرال كليبر الإنجليز والأتراك في أمر انسحابه بجيشه من مصر والعود إلى فرنسا على مراكب إنجليزية، وأبرم معهم لهذا الغرض معاهدة العريش في أوائل سنة 1800 وسلم الصدر الأعظم يوسف باشا معظم البلاد.
ولكن الحكومة الإنجليزية لاعتقادها الوهن التام في الجيش الفرنساوي المعقود لواءه لكليبر أبت التصديق على معاهدة العريش، وأبت إلا أن يسلم الجيش الفرنساوي سلاحه فتنقله المراكب الإنجليزية أسيرا إلى إنجلترا.
فهاج هذا الأمر ثورة الغضب والحمية في صدر الجنرال كليبر، فأرسل إلى الصدر الأعظم يوسف باشا يأمره بإعادة البلاد إلى الفرنساويين والارتداد إلى سوريا - وكان يوسف باشا قد بلغ بجيشه العثماني المطرية وعسكر فيها - فأبى يوسف باشا إلا استمرار الزحف إلى القاهرة.
فخرج الجنرال كليبر إليه بعشرة آلاف فرنساوي وهزمه هزيمة مخجلة في عين شمس، وعاد واسترد القطر كله.
ولكن سليمان الحلبي ما لبث أن قتله في 14 يونية سنة 1800؛ فآلت القيادة إلى الجنرال منيو - وكان قد اعتنق الإسلام وتسمى عبد الله، ولم يكن من الدراية بأمور الحرب على شيء.
فاغتنمتها إنجلترا فرصة وأرسلت حملة إنجليزية تحت قيادة الجنرال آبر كرمبي لإخراج الفرنساويين من مصر، فتحارب الجيشان الغربيان في ضواحي الإسكندرية - ما بين سيدي جابر والمعمورة - وانجلت المعركة عن فوز الإنجليز وقتل قائدهم، فارتد الفرنساويون إلى الإسكندرية وتحصنوا فيها، وخلف الجنرال هتشنسن القائد المقتول، فغمر الأرض حول الإسكندرية بالمياه بكسره سد أبي قير، وزحف بمعظم جيشه إلى العاصمة، وبعد مناوشات ووقائع صغيرة وحصارات لا داعي إلى ذكرها في هذه النبذة، انتهى الأمر بانجلاء الجيش الفرنساوي عن مصر على قاعدة معاهدة العريش.
فأراد الأمراء المماليك - على ما أوجدته في طائفتهم من ضعف عظيم حروبهم مع الفرنساويين - العود إلى الاستقلال بأحكام البلاد، وأرادت الدولة العثمانية استئصال شأفتهم ليستقيم لها عود الحكم في مصر أسوة بباقي المماليك الشاهانية.
فقام إذا نزاع عنيف وقتال مخيف بين الولاة المعينين على مصر من لدن الدولة العثمانية والأمراء المماليك، ودارت الحرب بينهم سجالا.
وكان قد حضر إلى مصر الجيش العثماني المكلف بمهمة إخراج الفرنساويين منها رجل مكدوني من أهل قولة يقال له: (محمد علي)؛ فاغتنم فرصة ذلك النزاع وأخذ يتقدم على أكتاف الولاة تارة وطورا على أكتاف المماليك، حتى أصبح من كبار زعماء الجنود، فشرع حينذاك يعمل في الخفاء على إسقاط الولاة ويقاتل المماليك جهارا حتى آل به الأمر إلى تهشيم مراكز الفريقين وفل كلمتهم، فأجمع العلماء وشعب القاهرة على اختياره أميرا على مصر في 14 مايو سنة 1805؛ وعضدهم في ذلك الجنرال سيبستياني السفير الفرنساوي في الأستانة عملا بتوصية القنصل الفرنساوي بمصر المدعو ماتييه دي لسبس، والد فردينان دي لسبس صاحب قناة السويس.
فأقرت الأستانة محمدا عليا واليا على القطر في 9 يولية سنة 1805، فما تواني لحظة في تثبيت مركزه ضد دسائس تركيا، ومساعي الإنجليز وعدائهم، وتمردات الجنود وبأس المماليك، والاحتياج إلى المال حتى انتهى به الكفاح، بعد عناء شديد، إلى الفوز التام، فوطد قدميه نهائيا على السدة المصرية؛ وقهر الإنجليز وأجلى عن البلاد حملة أرسلوها إليها في سنة 1807؛ وأفنى الجنود غير النظامية في حروب أرسلها إليها في البلاد العربية لمقاتلة الوهابيين، وفي السودان للبحث عن مناجم ذهب وجلب السود؛ وفرغ من أمر المماليك بالمكيدة الهائلة التي دبرها لهم وجزرهم فيها بالقلعة يوم أول مارس سنة 1811؛ وعالج مسألة المال معالجة قطعية بأن استولى شيئا فشيئا على جميع موارد الرزق في البلاد وعلى أطيان القطر برمتها.
حينذاك أقبل ينشئ من مصر دولة حديثة وأمة شابة جديدة، ولكنه أدرك بأن ذلك لن يتسنى له إلا إذا جمع على ولائه عواطف العالم الإسلامي، وإلا إذا نقل البلاد - ولو بعنف - من البيئة التي بنت القرون المنصرمة جدرانها حولها، إلى بيئة جديدة تكون مصطبغة القاعدة والجدران بصبغة المدنية الغربية، اصطباغا متفقا مع روح الإسلام.
فلجمع عواطف الإسلام على ولائه هب يقضي على الوهابيين قضاء مبرما - والعالم الإسلامي كان يعتبرهم خوارج ومنشقين - وهب ينجد الدولة العثمانية المسلمة على إخماد ثورة اليونان المسيحيين، فأفلح في الأمرين.
ولنقل مصر إلى البيئة الجديدة المرغوب فيها عمل ما يأتي:
أولا:
نظم البلاد إداريا على النمط الغربي.
ثانيا:
أنشأ من أبناء البلاد جيشا زاهرا وبحرية عامرة مدربين على الطريقة الغربية، بالرغم من صعاب كانت الواحدة منها كافية لفل الحديد ودك الجبل.
ثالثا:
جدد بجدة المعارف، بتغييره برنامج التعليم وطريقته وفتح ميدانا جديدا للعلم أدخل الأمة فيه قسرا، فأنشأ المدارس المختلفة تترى: ابتدائية وثانوية وعالية متنوعة، وأدخل فيها التلامذة والطلبة رغم أنوفهم وأنوف أهلهم، وعلمهم فيها العلوم الوضعية الغربية على يد أساتذة أكفاء أتى بهم من بلاد الغرب، وأرسل البعثات تلو البعثات إلى المعاهد العلمية في أوروبا لا لكي تقتبس علوم الأمم الغربية وفنونها فحسب، بل ليتخرج منها أساتذة يعلمون تلك العلوم لمواطنيهم بعد عودتهم إلى بلادهم.
ثم أضاف إلى تجديد بجدة المعارف إقامة المعامل والمصانع في طول البلاد وعرضها ليتمكن القطر من ترويج المصنوعات على الطراز الغربي في داخليته - لاعتقاد (محمد علي) أن تغيير معالم المادية يساعد كثيرا على تغيير معالمها المعنوية - ومن الاستغناء عن الواردات الأجنبية .
رابعا:
غطى وجه القطر بالأشغال والأعمال المفيدة وسخر فيها الأيدي تسخيرا؛ ولولا ذلك ما اشتغلت ولا تمت تلك الأعمال، فأقام السدود وقوى الجسور وبنى ما رأى بناءه منها واجبا؛ وعزز القناطر واحتفر الترع العديدة وأقام عليها القناطر الحاجزة المسهلة للري؛ وابتنى الترسانة والأحواض لتصليح السفن؛ وشيد القناطر الخيرية الكبرى - وهي معجزة أعماله - وأقام الحصون والقلاع؛ وأنشأ القصور والسرايات، واختط الشوارع؛ وهلم جرا، من الأعمال العظيمة التي غيرت وجه القطر تغييرا محسوسا.
خامسا:
هدم الحواجز التي كانت العصور السالفة قد أقامتها بين تعامل الغرب والشرق؛ ومكن العالمين من الاختلاط معا، لا بالإتجار الواسع فقط، بل بالاحتكاك اليومي، وفي العادات والأخلاق والعقلية؛ ومنع كل تجاوز قد يجر ذلك الاحتكاك إليه.
سادسا:
سن قانونا للبلد كل مواده متشربة بالرغبة في فتح عصر جديد للأمة، عصر تكون المساواة فيه بين الأفراد تامة؛ ويكون الفرد فيه آمنا على حريته الشخصية من كل عبث، ما دام لا يرتكب جرما، ولا يأتي أمرا تؤاخذه عليه الشرائع.
سابعا:
فتح أذهان المصريين إلى أمرين لم يكونوا ليفكروا فيهما البتة: (الأول) أن مصر والسودان قطران توءمان أبوهما النيل، فإما أن يدوما ملتصقين كما ولدا، وإما أن يكونا متحالفين أبدا، وإلا فللقوي منهما أن يجبر الثاني على إحدى هاتين الخلتين، كما أجبرت ولايات الشمال الأمريكية ولايات الجنوب على البقاء متحدة معها، بحرب الانفصال بين سنة 1861 وسنة 1865؛ و(الثاني) أن لمصر قومية شخصية منفصلة تامة الانفصال عن قوميات الشعوب الأخرى القاطنة في الأقاليم التي كانت تتكون منها القومية العثمانية في ذلك العصر، وإنما فتح أذهان المصريين إلى هذين الأمرين بالحربين اللتين قام بهما في مجاهل السودان وفي سوريا والأناضول؛ وأفضتا إلى استتباب السلطة المصرية على السودان نهائيا وعلى سوريا وإقليم اضاليا، بضع سنين.
ولكن إنجلترا أبت أن تقوم على ضفاف النيل دولة مصرية قوية تجعل طريقها إلى الهند غير آمنة، فألبت على (محمد علي) روسيا وبروسيا والنمسا؛ وأرسلت ضد قواه في سوريا حملة؛ وبذلت في سبيل إثارة الأهلين عليه في تلك البلاد نقودا جمة، فاضطرته إلى الانسحاب من الأناضول والشام والاكتفاء بمصر، ثم استصدرت له من السلطان عبد المجيد، بالاتفاق مع الدول الأوروبية، فرماني 13 فبراير سنة 1841 اللذين بقيا دستور الحكومة المصرية، حتى أبطلت مساعي (إسماعيل الأول) معظم نصوصهما، وأوصلت القطر إلى استقلال تام لا يقيده سوى قيد الجزية السنوية.
فأقام (محمد علي)، بعد هذه الحوادث، أكثر من سبع سنوات على دست الأحكام يعمل بثبات على تنفيذ مراميه؛ ويحوط الدولة الحديثة التي أنشأها بعنايته اليقظة، حتى داهمه الخرف وهو في التاسعة والسبعين من عمره .
فخلفه ابنه الأكبر (إبراهيم باشا)، قائد الجيوش المصرية المنصورة في الملاحم والمعامع، وقاهر الوهابيين واليونان والأتراك، ولكن ولايته لم تدم إلا ثلاثة أشهر: لأن المنون اخترمته وهو في أجد سعيه إلى إسعاد البلاد، بينما أبوه لا يزال حيا.
فأعقبه (عباس الأول) ابن أخيه طوسن المتوفى سنة 1816 - وكان أرشد ذكور الأسرة - فملك حتى سنة 1854 ملكا حاول جهده، في السنين الست التي انتشر كابوسه فيها على الصدور، أن يتنكب بمصر عن الجادة الحديثة التي أدخلها فيها جده العظيم (محمد علي)، ليعود بها إلى دياجير العصور الوسطى المدلهمة.
ولكنه قتل، وهو في ريعان رجولته، وخلفه على العرش عمه (محمد سعيد باشا) ابن (محمد علي) العظيم، فملك تسع سنوات كانت كلها خيرا على البلاد وسعادة، ولولا أنه أثقل كاهل الحكومة المصرية ببعض نصوص تجاوزية في الامتياز الذي منحه لفردينان دي لسبس لإنشاء قناة السويس، وبالضائقة المالية التي جرها إسرافه على موظفيه ومستخدميه، بالدينين - السائر والمسجل - المركبين على عاتق البلاد والبالغين معا ما يقرب من أحد عشر مليونا ونصف مليون من الجنيهات، واللذين لم يكن لهما مقابل من أعمال عمومية نافعة، لعدت سنوات ملكه التسع العصر الذهبي في تاريخ مصر الحديث.
وكانت بنيته القوية لما ارتقى سدة الإمارة تبشر بعمر طويل؛ ولكن إسرافه في اللذات قتله، هو أيضا، وهو في الأربعين من سنه، فخلفه (إسماعيل الأول) ابن أخيه (إبراهيم) العظيم، وهو الذي يسرد كتابنا هذا تاريخ مصر في عهده!
الجزء الأول
السحر
الفصل الأول
وفاة محمد سعيد باشا1
توافق الناس والزمان
فحيث كان الزمان كانوا
عاد محمد سعيد باشا، والي مصر، من أوروبا، في أواخر سنة 1862 إلى الإسكندرية، والمرض الذي ذهب إلى بلاد الغرب، ليتطبب منه، على يد نطس أطبائها، قد تمكن من حياته، تمكنا، سمم كل ينابيعها، فبات ميئوسا من نجاته: وأخذ الموت ينسج أكفانه، ويسدل حوله ظله.
وكما أن الناس، حين تميل الشمس إلى الغروب، يأخذون في الشخوص إليها ويرقبون مغيبها، وتجيش العواطف في صدر كل منهم طبقا لميوله وآماله، فهكذا كان المصريون ومستوطنو مصر، والذين تربطهم بها مصالح، ينظرون إلى مغيب حياة محمد سعيد باشا، وتواريها وراء أفق هذا العالم المنظور، بأعين تختلج فيها عواطف القلوب المختلفة.
فالأفاقون الذين احتاطوا بالأمير المحتضر، أيام كانت زهرة حياته وصولته يانعة، فأثروا من إسرافه واعتزوا من هواه، كانوا ينظرون إلى دخوله في حشرجة الموت، وقلوبهم شاعرة بأن انقلاب ظهر المجن لهم بات قريبا، وأن الأوان آن ليقتلعوا خيامهم من الأرض المصرية ويقصدوا أقطارا غيرها.
والبطانة التي لم تحط به إلا لأنه الأمير والحاكم وولي النعم، ما رأته يحتضر وتأكدت من أنه، لا محالة، ميت إلا وولت وجهها شطر الشمس المنتظر شروقها؛ لأنها شمس من سيصبح الأمير والحاكم وولي النعم.
والذين أحاطوا بمحمد سعيد باشا، ليرتكنوا عليه في أعمال نافعة أقدموا عليها، ومشروعات جليلة أخرجوا بعضها إلى حيز الوجود، وتعلقت آمالهم في إخراج الباقي منها، إلى الحيز عينه، بحياة الرجل المائت، إنما كانوا ينظرون إلى زواله، وقلوبهم واجفة، وآمالهم مضطربة، لا يدرون ما المصير.
والشعب المصري، الذي رأى من الوالي المولى حبا خاصا له، واعتناء كبيرا بمصالحه، ورغبة حقيقية في تحسين أحواله؛ وتخفيف أثقاله؛ ورأى منه إقبالا على إحياء اللغة العربية وإحلالها في دوائر الحكومة محلا رسميا؛ والجيش المصري الذي كان محط انتباهه ومعزته، ووجد نعيم الحياة تحت لباس جنديته، كانا ينظران من بعيد إلى تصاعد أواخر أنفاس الأمير المحتضر، والقلب حزين مكتئب، والنفس ضارعة إلى الله أن يحذو الخلف حذو السلف؛ وأن تكون الأيام التالية ظهر الخير، إذا صح اعتبار الأيام المتصرمة فجره.
وأما الرجال المحافظون المتمسكون بالتقاليد العباسية، الراغبون عن كل عين تتفجر في مصر للمدنية الغربية، وعن كل طريق يمهد لها؛ الناقمون على محمد سعيد باشا تركه سياسة سلفه، للسير في خطوات (محمد علي) أبيه العظيم، فإنهم كانوا ينظرون إلى احتضار ذلك الأمير، نظرة القليل الصبر، ويرقبون عن كثب، ساعة لفظه نفسه الأخير، معللين الأنفس بعود العهد القديم إلى البزوغ من وراء سرير موته؛ لاعتقادهم أن مذهب الخلف مذهبهم، وأن (إسماعيل) يكره ما يكرهون ويحب ما يحبون.
وأما (إسماعيل) نفسه، فإنه منذ تأكد أن رقدة عمه لرقدة لا يعقبها قيام؛ وأن الموت بات محتما، بالرغم من أن شجرة العمر لم تثقلها السنون، ساورته الانفعالات الطبيعية التي تساور كل إنسان في مركزه، وأخذ ينتظر وهو في القاهرة، أن ترد عليه الأنباء المبشرة بارتقائه سدة جده. الباشا العظيم!
وكانت قد جرت العادة أن ينعم بلقب (بك) على أول من يحمل إلى الوالي الجديد خبر صيرورة العرش المصري إليه؛ وأن ينعم عليه بالباشوية إذا كان بيكا.
فلم يغادر (بسي بك) مدير المخابرات التلغرافية، عدته، ثمان وأربعين ساعة؛ لكي يكون أول المبشرين، فيصبح باشا؛ ولكن النعاس غلبه في نهاية الأمر؛ فاستدعى أحد صغار موظفي مصلحته؛ وأمره بالقيام بجانب العدة، ريثما يذهب، هو، إلى مخدعه وينام قليلا؛ وبالإسراع إلى إيقاظه حال ورود إشارة برقية من الإسكندرية تنبئ بانتقال محمد سعيد باشا إلى دار البقاء، ووعده بجائزة، قدرها خمسمائة فرنك مقابل ذلك، ثم ذهب إلى مخدعه، ونام على سريره وهو بلباس العمل.
ولم يكن الموظف الصغير الذي أنابه عنه، يجهل عادة الإنعام التي ذكرناها - فلما انتصف الليل بين اليوم السابع عشر واليوم الثامن عشر من شهر يناير سنة 1863، وردت من الإسكندرية الإشارة البرقية المنتظرة بفارغ الصبر، فتلقاها ذلك الموظف الصغير وأسرع بها إلى سراي الأمير (إسماعيل) وطلب المثول بين يديه.
وكان (إسماعيل) لا يزال جالسا في قاعة استقباله، سهران، يحيط به رجاله وتسامره هواجسه.
فلما رفع إليه طلب ذلك الموظف، أمر بإدخاله حالا، فأدخل، وأحدقت به أنظار الجميع.
فجثا الرجل أمامه وسلمه الإشارة البرقية الواردة، فقرأها (إسماعيل)، وما أتى على ما دون فيها، إلا ونهض والفرح منتشر على محياه - فوقعت الإشارة من يده - وشكر الله بصوت عال على ما أنعم به عليه من رفعه إلى سدة مصر السنية، ثم ترحم على عمه ترحما طويلا.
فشاركه رجاله المحيطون به في فرحه، وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء ودوام العز؛ وأخذوا يهنئونه ويهنئ بعضهم بعضا.
ثم نظر (إسماعيل) إلى الموظف الجاثي أمامه، (والذي كان قد التقط الإشارة البرقية حالما وقعت من يد مولاه، ووضعها في جيبه)، وتبسم وقال: «انهض يا بك!» وبعد أن حباه نفحة من المال أذن له بالانصراف.
فعاد الموظف مسرعا إلى مصلحة التلغرافات، لرغبته في الحصول على جائزة الخمسمائة فرنك التي وعد بها، زيادة على الذهب الذي أصابه؛ ودخل بتلك الإشارة على رئيسه، بسي بك، وأيقظه وسلمها إليه.
فتناولها بسي بك وقرأها، ثم فتح كيسه بسرعة وأعطى الرجل المبلغ الذي وعده به، ثم أسرع بالرسالة إلى سراي الأمير (إسماعيل)، وهو يرى أنه قد أصبح باشا، وتتلذذ نفسه بذلك.
فلما دخل على الأمير، وعرض عليه الإشارة، قابله (إسماعيل) بفتور وقال: «لقد أصبح هذا لدينا خبرا قديما!»
فأدرك الرجل أن موظفه خانه، وسبقه إلى استجلاء أنوار الشمس المشرقة ونعمها، ثم ضحك عليه واستخلص منه خمسمائة فرنك، فاستشاط غضبا ونقمة، وعاد إلى مصلحته، واستدعى ذلك المكير المائن، واندلث عليه.
فأوقفه الموظف عند حده، قائلا: «صه! فإني أصبحت بيكا مثلك!»
هكذا أضاع بسي بك ثمرة سهره ثمانيا وأربعين ساعة، بعدم تجلده على الاستمرار ساهرا. بضع سويعات أخرى!
2
وما نشرت المدافع، المطلقة من قلعة الجبل، الخبر في أنحاء العاصمة، وأعلمت سكانها بغروب شمس حياة محمد سعيد باشا، وشروق شمس حكم (إسماعيل باشا)، إلا وأسرع كبار القوم ووجوه البلد وقناصل الدول بمصر إلى سراي هذا الأمير وهنئوه، وتمنوا له ملكا طويلا سعيدا.
وما بزغ نهار الثامن عشر من شهر يناير، إلا وورد إلى العاصمة آخر من كان قد بقي حول سرير الوالي المحتضر في الإسكندرية، وفارقه حالما فارقته الروح، وأسرع هو أيضا إلى سراي الوالي الجديد، ليقدم له فروض عبوديته، ويتلمس من محظوظيته، نعمته.
ولم يبق بجانب جثة من كانت كلمته بالأمس حياة وموتا إلا فرنساوي يقال له: المسيو براڨيه، كان صديق المتوفى الحميم.
3
وبينما تعد في مصر معدات الاحتفال بارتقاء الوالي الجديد كرسي أبيه وجده، صدرت الأوامر إلى أولي الشأن في الإسكندرية، بالإسراع إلى مواراة محمد سعيد باشا التراب، لكيلا ينشر الناسور، الذي قتله، الفساد في جثته بسرعة فتذهب الرائحة الكريهة التي قد تنبعث عنه، بالمهابة الواجبة لمقامه السامي، وقضت تلك الأوامر بأن يكون مدفن الوالي المتوفى بجانب مدفن إسكندر المقدوني العظيم ومدافن البطالسة الكرام، إجلالا له، ولكي يكتسب، من ذلك الجوار الساطع، حقا أمام أعين الأجيال المقبلة، في أن تظلله سحابة الفخار المنتشرة حول قبور الصالحين من أولئك العواهل الأماجد.
4
فامتثل ذوو الشأن بالإسكندرية تلك الأوامر، ووريت جثة محمد سعيد باشا في مرقده الأبدي، في الروضة المسورة الكائنة في سفح قلعة الديماس بجوار المسجد المعروف بمسجد نبي الله دانيال - ونودي بالقلعة بمصر بولاية (إسماعيل) ابن أخيه.
فتزينت المدن والبنادر ثلاث ليال؛ وأقيمت الولائم والأفراح، وفرقت سمو الأميرة أم (إسماعيل) الهدايا النفيسة على أرباب الدولة والعلماء والمشايخ، وأقامت الأدعية في المساجد أياما: ورسمت بترميم بعض أضرحة الأولياء والصالحين من مالها الخاص.
5
الفصل الثاني
الأمير (إسماعيل)1
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
هو ثاني ثلاثة أنجال البطل المغوار، والقائد المقدام، إبراهيم باشا، ابن محيي الديار المصرية، الباشا العظيم والغازي المهيب، الأمير (محمد علي) المكدوني مولدا، والمصري قلبا ومطامع وجهادا.
ولد في 31 ديسمبر سنة 1830، على أصح تقدير، في قصر المسافرخانه، بمصر، ومن المؤرخين من يجعل مولده في 15 أو 27 ديسمبر سنة 1827 - من والدة غير والدتي أخويه الاثنين: البرنس أحمد رأفت والبرنس مصطفى فاضل: وتربى في حجر والده وبحياطة جده، في المدرسة الخصوصية التي أنشأها في القصر العيني (محمد علي باشا) لتربية الأمراء أولاده الصغار وأولاد أولاده.
فتعلم (إسماعيل) فيها، على يد نخبة من مهرة الأساتذة، مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية، ونزرا يسيرا من الرياضيات والطبيعيات.
ولكنه أصيب برمد صديدي، لم تفتأ آثاره، بعد زواله، تؤلم جفونه، وعجز الأطباء بمصر عن مداواته، فأرسل إلى ڨيينا، وهو في الرابعة عشرة من عمره، ليعالج فيها، ويربى، في الوقت عينه، تربية أوروبية.
فقضى هناك عامين تحسنت صحته فيهما تحسنا بينا، وفارق الألم جفونه، فأمر جده بانتقاله إلى المدرسة المصرية في باريس، وهي دار تربية أسسها في تلك العاصمة (محمد علي) عينه - عملا بنصائح فرنساوي يقال له: المسيو چومار - للنشأة المصرية اللبيبة، وأرسل إليها ولديه الأميرين حليم وحسين والأمير أحمد ولد إبراهيم ابنه مع نخبة من شبان مصر الأذكياء، منهم شريف باشا، ومراد باشا، وغيرهما، تحت رياسة وجيه أرمني اسمه اسطفان بك، وإدارة وكيل له اسمه خليل أفندي تشيراكيان.
فانتقل الأمير (إسماعيل) إليها، وهو في السادسة عشرة من عمره، وتبارى على مقاعدها، وفي مضمار تعليمها، مع أذكى أولئك الشبان وأكثرهم نشاطا، وبرع على الأخص في علم الهندسة وفي فني التخطيط والرسم؛ وأتقن، إتقانا تاما، اللغة الفرنساوية؛ والطبيعيات والرياضيات.
فلما أتم علومه المدرسية، عاد إلى القطر المصري؛ وكان والده الفارس المهيب قد استلم زمام الحكم فيه، وأخذ يظهر للملأ أن كفاءته الإدارية لا تقل عن كفاءته الحربية.
فشرع الأمير (إسماعيل) يتعلم، في مدرسة أبيه الحازم، ضروب الحكم وفنون الإدارة، ويعلل نفسه بالنبوغ فيها، نبوغه في سائر العلوم التي تلقاها، كما أنه أخذ يتشرب لبان الأحكام القائمة على قاعدة التطور طبقا لمقتضيات الأيام.
ولكن المرض، الذي كان قد أنشب أنيابه إنشابا أليما، في أحشاء إبراهيم باشا لم يمهله كثيرا؛ ولم يرحم القطر المصري الذي باتت آماله كلها في تحسين أحواله، وترقية شئونه، وسعادة أيامه، متعلقة بأذيال تلك الحياة الثمينة، فحصد الموت عمر قاهر (نزيب)، بعد عود ابنه الأمير (إسماعيل) إلى مصر بقليل؛ وغادر أولاد ذلك الرجل العظيم الثلاثة، حزانى، كسيري الفؤاد، بالرغم من الثروة الواسعة المخلفة لهم.
وإنما كان حزنهم وانكسار فؤادهم مسببين لهم، أولا: من فقدانهم أبا، قلما جادت بمثله لغيرهم الأيام؛ ثانيا: من تحكم الداء العضال في جسم (محمد علي) العظيم وعقله، بحيث أحرمهم مؤاساته في ذلك المصاب وأعوزهم تعضيده؛ وثالثا: لأن ارتقاء ابن عمهم (عباس الأول) السدة المصرية، مع ما اشتهر عنه من الجفاء لوالدهم جفاء حمل إبراهيم باشا في حياته على إبعاده إلى مكة المكرمة،
2
لم يكن من شأنه أن يلهمهم الصبر، ويحل من قلوبهم، محل بلسم العزاء الذي كانت قلوبهم محتاجة إليه.
غير أنهم تقووا وتجلدوا، وبذلوا مجهودهم ليكونوا مع الوالي الجديد على أتم ما يرام من الصفاء.
ولما كان الأمير (إسماعيل) لا يزال يافعا، وقليل الحنكة في الأشغال المالية، عهد النظر في شئون دائرته إلى إدارة خاصة، باشرتها برهة مباشرة لم ترضه الرضا كله، فشمر عن ساعد الحزم والجد وأخذ زمام تلك الإدارة بيده؛ فنجحت أموره نجاحا باهرا، وازدادت ثروته زيادة عظيمة.
وكانت له في الصعيد الأطيان الشاسعة، من التي يزرع فيها قصب السكر وتأتي بمحصول جيد منه، فأقبل على تحسين زراعتها تحسينا ضاعف محصولها، وأوجد في تلك الأصقاع معملا بخاريا لتكرير السكر، على مثال المعامل الإنجليزية الأولى.
وبينما هو موجه كل اهتمامه إلى أشغاله هذه الخصوصية، ومكب عليها بكل نشاط نفسه النشيطة، إذا بملك الموت نزل مرة أخرى، وقبض بالإسكندرية، بقصر رأس التين، روح (محمد علي) المنزوي عن العالم!
فما واروه التراب في مسجده الرخامي المرمري الذي أنشأه على جبين قلعة الجبل، إلا وقام نزاع بين (عباس) و(سعيد) مبني على اختلاف في تقسيم تركته.
ولما كان الحق في جانب (سعيد)، وكانت مصلحته مصلحة عموم الأسرة؛ وكانت دعاوى عباس من شأنها أن تذهب، فيما لو حققت، بمعظم ثروة البيت العلوي، انحاز سائر الأمراء، وفي جملتهم (إسماعيل)، إلى (سعيد) وأخذوا يقاومون مطامع (عباس) المقاومة كلها.
فكبر النفور بين الطرفين، وبات موقف المقاومين حرجا؛ لأن (العباس) لم يكن يحجم عن ارتكاب جريمة عائلية، والكل كان يعلم أنه حاول قتل عمته، الأميرة زهرة باشا ، الشهيرة بنازلي هانم، أرملة محمد بك الدفتردار. لولا أن أهل قصرها تمكنوا من تهريبها.
3
ولكن الأمراء، و(إسماعيل) في مقدمتهم، لم يكونوا ليرهبوا سطوة ذلك العاتي، وأخذوا يكاتبون في شأن دعواهم الباب العالي، ملحين عليه الإلحاح الوحيد المفهوم لديه، بإنصافهم.
فوقع في خلد (عباس) الإقدام على عمل يلقي الرعب في قلوبهم ويرعد فرائصهم ويجعلهم يعتبرون بما يجري لواحد منهم، فاتهم الأمير (إسماعيل) بقتل أحد خدمه؛ وأراد أخذه بجريرة تلك التهمة، كأنما قتل خادم كان أمرا ذا شأن في نظر عباس في تلك الأيام.
4
ولكن الأمير (إسماعيل) لم يجد صعوبة في دحض تلك التهمة والخروج منها سليما، على أنه اتخذ لنفسه عبرة، واعتبر بها الأمراء كذلك، فقر رأيهم جميعا، على مغادرة القطر المصري، والذهاب إلى الأستانة ليعرضوا أمرهم على السلطان ويستنصفوه من قريبهم المغتصب العاتي، وذهبوا إليها.
فصدرت إرادة السلطان عبد المجيد بإنفاذ فؤاد أفندي - وهو الذي أصبح فيما بعد فؤاد باشا الطائر الصيت - وجودت أفندي - الذي أصبح فيما بعد، جودت باشا، واشتهر بتآليفه التاريخية وغيرها - إلى مصر ليسويا الخلاف، ويصلحا بين أفراد الأسرة العلوية الكريمة.
فأتيا، ونجحا في مهمتهما، فعاد الأمراء إلى مصر إلا (إسماعيل)، فإنه فضل البقاء في الأستانة على الرجوع إلى قطر يحكمه (عباس)، قطر قد يجد فيه عقارب وحيات تحت قدميه.
فحفه عبد المجيد بعنايته، وأنعم عليه برتبة الباشوية الرفيعة، وعينه عضوا في مجلس أحكام الدولة العلية.
فاشتهر الأمير (إسماعيل) في وظيفته هذه، ببعد النظر وصائب النصيحة، ولبث فيها، والحرب قائمة بين تركيا وروسيا؛ ولم يعد إلى مصر إلا بعد أن قتل (عباسا) في سرايه ببنها العسل، المملوكان اللذان أرسلتهما بهذه المهمة إلى مصر الأميرة نازلي هانم عمته الناقمة عليه
5 - يوليو سنة 1854.
فولاه عمه محمد سعيد باشا رئاسة مجلس الأحكام المصري الأعلى، فاهتم بشأنه أعظم اهتمام ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة 1855، أوفده سعيد إلى أوروبا بمهمة سرية لا يعلم التاريخ ما هي، ولكنه يظنها مختصة بالسعي إلى توسيع نطاق الاستقلال المصري الداخلي، عقب فوز الجنود المتحالفة، التي منها الحملة المصرية، على جنود الروس، فوق ربى بحيث جزيرة القرم، وزوده بكتابين خاصين مرسلين منه إلى الإمبراطور نابليون الثالث وإلى البابا پيس التاسع، ليسلمهما إياهما يدا بيد.
6
فقام الأمير (إسماعيل) بتلك المهمة، قياما رفع شأنه في أعين العاهل الفرنساوي والحبر الروماني، وأوجب ممنونية محمد سعيد له.
أما العاهل الفرنساوي فإنه - بعد أن وقف منه على دقائق الإدارة المصرية وحركة تطور المدنية في القطر المصري بالنسبة لتزايد نزوح الجاليات الأجنبية إليه - وعده بالنظر فيما اقترحه عليه من توسيع نطاق الاستقلال الداخلي بمصر في مؤتمر الصلح المقبل، إذا ما وجد إلى ذلك سبيلا.
وأما الحبر الروماني - وكان لشخصه، في تلك الأيام، منزلة سامية: أولا بسبب مركزه؛ ثم للمشهور عن ميوله وفضائله؛ وأخيرا بسبب صداقة نابليون الثالث له - فإنه قبل هدايا ضيفه، بممنونية عظمى، واحتفى به حفاوة فائقة؛ ووعده بمساعدته جهد الطاقة والاستطاعة خيرا؛ ورجاه أن يرفع إلى سدة عمله السنية وصيته بالاكليرس الكاثوليكي والكاثوليكيين المصريين إحسانا.
فلما عاد الأمير (إسماعيل) إلى مصر، وجد من مظاهر شكر عمه له، ما أثلج صدره، وأنساه مشاق سفره.
وفي مايو سنة 1858، أقام محمد سعيد باشا حفلة حافلة في الإسكندرية - وكانت حفلات ذلك الوالي عديدة فخمة - ودعا إليها جميع أمراء بيته العالي؛ سواء في ذلك الذين كانوا في الإسكندرية، والذين كانوا بمصر أو غيرها من الجهات.
فلبى الأمراء الدعوة؛ وفي مقدمتهم أحمد باشا رأفت أكبر أولاد إبراهيم باشا؛ وحليم باشا أصغر أنجال (محمد علي) واعتذر الأمير (إسماعيل)؛ لأنه كان متوعك المزاج.
وقد كان توعك مزاجه في ذلك الظرف، أمرا ساقه إليه حسن الحظ: فإنه لما انقضت الحفلة عاد الأميران السابق ذكرهما إلى مصر بقطار خاص مع حاشيتهما ورجالهما، فوقعت العربة التي كانت تقلهما في النيل، عند كفر الزيات، فغرق الأمير أحمد باشا ونجا الأمير حليم باشا.
فأصبح الأمير (إسماعيل) ولي عهد السدة المصرية؛ لأنه بات أرشد رجال البيت العلوي بعد موت أحمد باشا أخيه الأكبر.
وقد اختلفت في سبب تلك الكارثة الروايات ، فمن قائل: إن الكوبري نسي مفتوحا سهوا فسقط القطار في النيل عندما بلغه؛ لأن السائق لم يتمكن من إيقافه؛ ومن قائل - وهو الأقرب إلى الصدق: لأن كوبري كفر الزيات لم يكن قد أنشئ بعد - إن القطارات كانت، في ذلك العهد، تجتاز النيل عند كفر الزيات، في معدية تنقل عرباتها، ثلاثا ثلاثا؛ مع ترك الخيار للركاب في النزول اتقاء للخطر، أو العبور فيها؛ وإن الأميرين - وكانا معا في عربة واحدة - خيرا فأبيا إلا البقاء في العربة وعبور النهر وهي تقلهما؛ وإن المنوط بهم أمر نقل العربات إلى المعدية دفعوا بعربتهما بقوة إليها إظهارا لنشاطهم وغيرتهم؛ فتدحرجت عنها إلى النهر وغرقت فيه. أما أحمد - وكان بدينا - فلم يستطع الوثوب من نافذة العربة إلى الماء، فأخرج ميتا مخنوقا؛ وأما حليم - وكان خفيف الجسم، متمرن العضلات - فإنه وثب من النافذة إلى الماء واجتازه سباحه.
7
ولكن النميمة - وكان ذلك بدء قيامها؛ ولكم حاولت، فيما بعد، تسوء سمعة (إسماعيل) وطمس معالم فخره ومجده - أبت إلا أن تغتنمها فرصة لتنفث عليه وعلى عمه سعيد سمومها وتحاول تعكير مياه الصفاء، والتوادد بينهما.
8
غير أن الأميرين لم يباليا، في نقاوة ضميرهما، بما أذاعته الألسنة الشريرة حولهما، وظهر ذلك جليا في أعمالهما.
فإن محمد سعيد باشا، حينما سافر إلى سوريا زائرا في سنة 1859 (ومكث في بيروت ثلاثة أيام، نزل فيها ضيفا كريما على وجهاء المدينة، وكان في أثناء مروره في الطرقات، ينثر الذهب على الناس)، عهد في قائمقامية الولاية: مدة غيابه إلى ابن أخيه الأمير (إسماعيل)، فدل ذلك على مقدار ثقته به وبإخلاصه.
9
كذلك حينما قصد البلاد الحجازية لتأدية فريضة الحج في أوائل سنة 1861، أقامه نائبا عنه وقائما مقامه، وسر جدا من الكيفية التي أدى بها الأمير (إسماعيل) واجبه، وأظهر له امتنانه حين عودته، بتقليده قيادة أربعة عشر ألف عسكري، وبتعيينه سردارا عاما للجيش المصري؛ وعهد إليه في إخماد ثورة بعض القبائل المتمردة على حدود السودان.
فقام الأمير (إسماعيل) بهذه المهمة خير قيام: لأنه تمكن بحسن دهائه وفطنته من تسكين نيران تلك الفتنة بدون سفك نقطة دم واحدة.
10
ولما أحس محمد سعيد باشا بأول وخزات الداء الأليم، الذي قضى فيما بعد على حياته، وشعر بأنامله تهدم بسرعة هيكل جسمه القوي، وعزم على السفر إلى أوروبا للتطبب منه، في أواخر صيف سنة 1861، عهد أيضا بالنيابة عنه في كرسي ولايته، إلى ابن أخيه الأمير (إسماعيل): كأنه كان شاعرا أن الموت بات قاب قوسين أو أدنى؛ وأنه يجدر به أن يقدم، لولي عهده، الفرص التي تمكنه من تعلم شئون الحكم، قبل التلبس، لنفسه، بواجبات أعبائه.
غير أن أطباء أوروبا لم يتمكنوا، أكثر من أطباء مصر، من التغلب على داء سعيد العضال، فعاد الرجل إلى مصر، وهو يائس من الحياة، وما لبث أن فارقها غير باك عليها، تاركا ثروته القليلة، نسبيا، لابنه الأمير طوسون وأرملته الأميرة أنجا هانم البديعة الجمال، ومخلفا ملكه لابن أخيه (إسماعيل باشا).
الفصل الثالث
سمو الوالي (إسماعيل1 باشا)
وإذا سألت عن الكرام وجدتني
كالشمس لا تخفى بكل مكان
وكان عمره، عند ارتقائه السدة المصرية، اثنين وثلاثين عاما وسبعة عشر يوما: أو ما يقرب من ثلاث وثلاثين سنة قمرية.
فكان، والحالة هذه، في ريعان حياته وظهر أيامه: ناضج الفكر والتصور؛ يانع الجسم؛ ممتلئه؛ زاهر البنية؛ قويها؛ ربعة القامة؛ عريض الجبهة؛ كثيث اللحية والشارب والحاجبين؛ متلألئهما، كأنهما من ذهب الجنيهات؛ وكانت عيناه تتقدان حدة وذكاء مع قليل ميل نحو الحول، من أثر الرمد الصديدي الذي مني به في حداثته، وانجلى عن إبقاء إحدى عينيه أصغر قليلا من الأخرى.
وكان، إذا حادث إنسانا، كسر على عينه اليمنى، وشخص إلى محدثه باليسرى، شخوصا مزعجا، لشدة تألقها: كأنه يريد أن يجتلي أعماق أفكاره، بالنور الساطع المنبعث عنها.
وبلغه، مرة، أن أحد القناصل العامة، قال، بعد مثوله بين يديه ومحادثته وانصرافه: «إنه إنما ينظر بعين ويسمع بالأخرى»، فقال: «وإني لأفكر بالاثنتين معا».
2
وكان عظيم الهيبة؛ جليل المقام، ولا غرابة: فإنه ابن (إبراهيم) وحفيد (محمد علي)، والهيبة كانت ميزة كل حركاتهما وسكناتهما، والجلال كان يحف بهما كأنه ظلهما الظليل.
وكان حسن الفراسة؛ يدرك، حالا، ما انطوت عليه سريرة محادثة، ولكنه كان أيضا حسن الظن بالناس، لا سيما بالأجانب وأفراد الجاليات الغربية: فأدى ذلك إلى جملة أضرار أصابته وأصابت بلاده؛ لأن عدد المخلصين إليه الولاء في خدمتهم، من أولئك الأجانب، لم يتجاوز - على كثرتهم - عدد الأصابع.
وكان كبير النفس، عالي الهمة؛ يشعر شعورا عميقا بأن كونه ابن (إبراهيم باشا) الأمير الذي قاتل في قارات العالم القديم الثلاث، ليوطد دعائم ملك مصر، ويوسع نطاقه؛ ثم تمنى، حينما آلت إليه أزمة الأحكام، لو يمن الله عليه بعمر طويل، ليتمكن من السير بمصر، بخطوات واسعة، في مضمار المدنية الغربية والرقي العصري؛ وكونه حفيد (محمد علي)، الباشا العظيم، الذي أخرج مصر من بطن العدم إلى عالم الحياة؛ ومن حضيض الذل إلى عرش السيادة؛ وسدد خطاها في سبيل العمل وميدان الفخار، نيفا وأربعين عاما، يجعلانه محط آمال تاريخية عظيمة يتحتم عليه تحقيقها؛ ويوجبان عليه أعمالا صاعدة، لا مندوحة له من الإقدام عليها.
فوضع نصب عينيه، حالما انفتح عصر ملكه أمامه، الجري على خطة تجعل التاريخ يضعه في صف جده وأبيه، وينعته بنعتهما، فيقول: (إسماعيل العظيم) ابن (إبراهيم العظيم) ابن (محمد علي العظيم).
وصمم على تنفيذ تلك الخطة، وعدم الحياد عنها، مهما تكاثرت في سبيله العقبات ومهما اضطرته صروف الأيام إلى اللين، مؤقتا؛ والتظاهر بعكس ما يرمي إليه من الأغراض البعيدة.
تلك الخطة كانت ترمي:
أولا:
إلى السير بمصر بصراحة تامة في سبيل المدنية الحديثة؛ والسير بها، بعزم ثابت وقدم راسخة، في جميع تشعبات ذلك السبيل.
ثانيا:
إلى الفوز بالاستقلال السياسي لها.
ثالثا:
إلى النهوض بها إلى مصاف الدول العظمى.
ولكنه كان يعلم أن تحقيق هذه المرامي عن سبيل القوة يكاد يكون محالا: (أولا) لعدم نضوج العقلية العامة في البلاد، نضوجا يساعده على إدراك متمنيات نفسه؛ و(ثانيا) لأن مركز مصر من الدولة العلية ومن الدول الغربية يجعلها أضعف بكثير من أن تحاول، مرة ثانية، تغليب سيفها على سيوف تلك الدول (وما أصاب جده في ذلك كان خير عبرة له). فصمم على تحقيقها عن سبيل الدهاء والإقناع، وبالارتكان على الدولة الغربية التي يتضح له رجحان كفتها في ميزان السياسة العمومية.
غير أن حزب الناقمين على محمد سعيد باشا ميوله إلى الأجانب، واستسلامه إليهم؛ المتوسمين في خلفه إقلاعا عن تلك الميول وعودة إلى المبادئ العباسية ومقتضياتها؛ والمنضمين في أهوائهم حول هذا الحلف، توهما منهم أنه رئيسهم وزعيم حزبهم المعارض لكل إصلاح، لم يكونوا يعلمون ما انطوى عليه ضميره، وصح عليه عزمه.
فظنوا، لما أغمض محمد سعيد جفونه الإغماض الأبدي، أن دورهم قد حل؛ وأن الأوان قد آن للحمل على الجالية الغربية، حملة تزعزع أركانها، وتفني شأنها.
فأضرموا نار الأحقاد والضغائن الدنيئة في قلوب زمرة من السوقة والزعانف ودفعوا بهؤلاء إلى نوع من الفتنة والقيام على الغربيين، وحرضوا ثلاثة من العساكر - ولعلهم كانوا ألبانيين من بقايا أجناد الأرناؤط الثمانية آلاف الذين اتخذهم (عباس الأول) حراسا له، وعزم على تسريح ما تبقى من الجيش المصري ليحلهم في قوة البلاد العسكرية مكانهم - على إهانة أحد الفرنساويين، والانهيال عليه ضربا بدون سبب، ثم على تطويقه بحبل في رقبته، وسحبه في الشوارع ومحاولة قتله؛ وهم يظنون أنهم يعملون عملا يقع من قلب الوالي الجديد موقعا حسنا.
فهب قنصل فرنسا العام بالإسكندرية مدافعا عن المهان من رعايا دولته، وطالب الحكومة المصرية بمعاقبة الجناة وتقديم المعذرة.
فترددت الحكومة قليلا؛ لأنها لم تكن قد وقفت بعد على نيات الأمير الجديد، ولكن (إسماعيل) أصدر الأوامر حالا بضرب المعتدين ضربة تكون عبرة لأمثالهم، ورادعا لمهيجيهم.
فجردت الحكومة الجناة من رتبهم؛ وأنزلتهم من درجاتهم؛ ونفتهم إلى أقاصي البلاد، ثم أمرت فرقة عسكرية بتقديم التحية إلى الراية الفرنسية،
3
فأدرك الرجعيون ساعتئذ خطأهم، وأخلدوا إلى السكينة، ريثما تتهيأ لهم فرص مناسبة، وأمسوا يعتقدون بأن (إسماعيل) ليس رجلهم؛ وأن آمالهم يجب أن تعقد بغيره.
الجزء الثاني
بزوغ الشمس
الفصل الأول
إيقاظ الآمال1
وما زلت تواقا إلى كل غاية
بلغت بها أعلى البناء المقوم
غير أنه لم يكن من مصلحة (إسماعيل) ولا من مصلحة البلاد أن ينفر رجال ذلك الحزب؛ لأنهم، وأن لم يكن يرجى منهم نفع مطلقا، لانغلاق عقولهم دون أشعة كل نور من أنوار التطور الاجتماعي، كانوا قادرين على تعكير مياه التفاهم بين مصر والأستانة، وذلك التعكير لم يكن مرغوبا فيه، بل كان المرغوب فيه عكسه لنجاح سياسة الدهاء التي عول (إسماعيل) على اتباعها في تحقيق أمنيات نفسه.
لذلك، فإنه، بعد أن انقضت مراسم التهاني بارتقائه سدة جده وأبيه، صرح بعزمه على السفر إلى الأستانة العلية لتناول فرمان التولية فيها، اقتداء بأبيه (إبراهيم) وعملا بنصوص فرمان سنة 1841.
فأقام حليم باشا عمه مقامه في غيبته؛ وسافر إليها، ومثل بين يدي السلطان عبد العزيز - وكان قد أخلف، منذ أقل من سنتين، أخاه عبد المجيد على عرش آل عثمان - فلقي منه كل حفاوة وإكرام وقلده السلطان بيده أفخر نياشين الدولة فوق تقليده إياه إمارة مصر.
فاغتنم (إسماعيل) فرصة فيض هذه التعطفات، والتمس من عبد العزيز التنازل إلى زيارة القطر المصري؛ فوعده السلطان بذلك عاجلا؛ فشكر وعاد راضيا محظوظا.
ولما وصل إلى الإسكندرية وقابله جميع قناصل الدول وكبار رجال الجاليات الغربية ليهنئوه بسلامة الإياب وفرمان التولية، ألقى على مسامعهم خطابا نفيسا، كان بمثابة إعلان للخطة التي رسمها لنفسه، فيما يختص بإدارة مصر الداخلية، وهاك نصه:
2
يا حضرات القناصل
إني أشعر شعورا عميقا بالواجب الذي وضعه الله سبحانه وتعالى على عاتقي باستدعائه المرحوم عمي إلى جواره وانتخابه إياي لتولي زمام الأحكام المصرية، وإني آمل في ظل صاحب الجلال الهمايوني السلطان الأعظم أن أقوم قياما حسنا بأداء ذلك الواجب.
وإني موطن العزم توطينا حقا، يا حضرات القناصل، على تخصيص كل ما أوتيت من ثبات وهمة لترقية شئون القطر الملقاة تقاليد حكمه إلي، وإنماء رخائه.
وبما أن أساس كل إدارة جيدة إنما هو النظام والاقتصاد في المالية فإني سأجعلهما نبراسي في كل أعمالي، وأعمل على توطيد أركانهما بكل ما في وسعي.
ولكي أقدم مثالا صالحا للجميع ودليلا محسوسا على إرادتي هذه الأكيدة فإني قد عزمت منذ الآن على ترك الطريقة المتبعة من أسلافي، وعلى تقرير مرتب سنوي لي، لن أتجاوزه أبدا، فأتمكن بذلك من تخصيص عموم إيرادات القطر لإنماء شئونه الزراعية وتحسينها.
وإني قررت أيضا إلغاء طريقة السخرة المشئومة، التي اتبعتها الحكومة دائما في أشغالها، والتي هي السبب الأهم، بل الأوحد، الحائل دون بلوغ القطر كل النجاح الذي هو جدير به.
وإني لمتيقن أن التجارة الحرة ستجد فائدتها ومصلحتها في هذه الإجراءات، فتنشر الرخاء وتعممه بين جميع الطبقات من الأهالي والسكان.
أما التعليم، وهو أس النجاح والرقي؛ وإقامة معالم العدالة بقسطاس حق، وهي محور كل أمن؛ فإني سأخصهما بفائق عنايتي، فينجم عن النظام في المالية والإدارة؛ وعن توزيع العدالة توزيعا لا تشوبه شائبة، زيادة في سهولة المعاملات، وضمانة لسلامتها بين الأوروبيين والقطر.
وإني آمل، يا حضرات القناصل، أن أجد منكم اقتناعا بهذه العواطف التي تملأ فؤادي، وإقبالا على وضع أيديكم في يدي بإخلاص، لنعمل معا في سبيل نير، على ما فيه خير البلاد وساكنيها.
3
فكان لهذا الخطاب وقع حسن، ليس فقط عند سامعيه، بل في عموم الأرض المصرية، وفي ذات البلاد الخارجية؛ وتيقن الجميع أن الملك الجديد البازغ فجره، يحمل في طيات مستقبله سعادة، قلما حلمت الأقطار الشرقية بمثلها.
وكان فرديناند دي لسيبس، صاحب مشروع ترعة السويس، خائفا على مشروعه انقلابا في الوالي الجديد، وانحرافا كان قد هول به كثيرون حوله، فرأى (إسماعيل) أن يسري عنه مخاوفه، ويسكن مخاوف الشركة العالمية القائمة بذلك المشروع مع إبقاء يديه حرتين في المستقبل.
فاغتنم فرصة وجود فرديناند في زمرة القناصل العامة المحيطين بشخصه في تلك الحفلة الرسمية التاريخية، وقال له على مسمع من الجميع: إني، يا مسيو دي لسيبس لأرى نفسي غير جدير بالملك إذا لم أكن قناليا أكثر منك، وإنك، لو كنت والي مصر، وأنت رئيس شركة القنال، لما فعلت في مصلحتها، بالأستانة، أكثر مما فعلت أنا.
4
فبدد، بذلك، سحابة الوهم التي كانت قد غشيت أفكارا كثيرة؛ وتمكن، بباكورة أعماله هذه التي سردنا تفاصيلها، من بلوغ غايتين معا: (الأولى) المحافظة على وداد الرجعيين ومحبيهم؛ و(الثانية) اكتساب ثقة الأوروبيين وإعجابهم به.
أما شعبه فكان فرحا به، فرحا بتوليته، ولا فرح الصبي بيوم العيد.
الفصل الثاني
زيارة السلطان عبد العزيز للديار المصرية1
كانت زيارتكم هذي لنا أملا
واليوم قد بلغ الآمال راجيها
وبينما الملأ في القطر لا يزالون يتحدثون بسفر سمو الوالي إلى القسطنطينية، والحفاوة التي قوبل بها هناك، والإكرام الذي ناله؛ وبما اشتملت عليه الخطبة الرسمية من بدور سعد تسطع في سماء البلاد؛ وبينما الكل يشاهدون بدء تحقيق الخطة التي رسمها لنفسه في ذلك الخطاب، فيما أصدره من الأوامر إلى وزارة المالية بتخصيص مبلغ ستين ألف كيس (أي: ما ينوف قليلا على سبعة عشر مليونا ونصف من الفرنكات) بصفة مرتب سنوي له، لن يتعداه، وصرف كل ما يزيد على ذلك في مصالح البلاد - إذا بخبر دوى في وادي النيل جعله يهتز طربا من أعلاه إلى أقصاه، وجعل عيون عموم العالم الإسلامي تتجه إليه، وتنظر نظرة إجلال وإعظام إلى العاهل الحاكم فيه. ذلك النبأ إنما كان تحرك الركاب السلطانية العثمانية إلى زيارة الديار المصرية، والبر بالوعد الذي وعد (عبد العزيز) تابعه به.
وإنما كان لذلك النبأ، ذلك الوقع العظيم؛ لأنه منذ أن فتح السلطان سليم خان الأول القطر المصري وأضافه إلى ممالكه الشاسعة الأرجاء، وبارحه بعد أن أقام فيه حكومته المملوكية المزدوجة، التي كانت من أكبر أسباب فقره وتعاسته، لم تطأه قدم سلطان عثماني مطلقا؛ ولا وقع في خلد أحد أن خليفة الإسلام يأتي إليه ليزوره، بعد أن فارقت الخلافة العباسية ربوعه؛ ولأنه منذ أن أغمض الموت جفون السلطان مراد خان الرابع في سنة 1630 لم يرو عن سلطان عثماني مطلقا أنه فارق عاصمة ملكه، لا لجهاد تقي ولا لتفقد أحوال رعيته، ولا لزيارة غيره من عواهل الدنيا وملوكها.
فلم يكد العالم يصدق ذلك النبأ، لولا أنه رأى من تحقيقه ما قطع قول كل متكهن وبدد الشك من جميع الصدور.
ففي يوم الجمعة، ثالث أبريل سنة 1863 - وكانت الجمعة المقدسة عند الطوائف الغربية - ركب السلطان عبد العزيز ومعه ابنه الأمير يوسف عز الدين، ووزيراه فؤاد باشا وزير الحربية ومحمد باشا وزير البحرية، وغيرهما من كبار موظفي الدولة والمابين والخاصة السلطانية، اليخت الفخم (فيض جهاد)، بعد أن تبرك بدعاء والدته السلطانة المعظمة؛ وركب كل من الأمراء الفخام مراد أفندي وحميد أفندي ورشاد أفندي أولاد أخيه المرحوم عبد المجيد، الفرقاطه (مجيدية)؛ وركب وراءهم جمهور عديد من الياوران والضباط والموظفين والجنود سفنا عثمانية أخرى؛ وأقلع الجميع من الأستانة إلى مصر.
فمروا بغليبولي في اليوم الرابع من أبريل - وكان يوم سبت النور - فأطلقت طوابي الشاطئ الأوربي وطوابي الشاطئ الأسيوي مائة مدفع ومدفعا، إجلالا وتعظيما لاجتياز الباديشاه العثماني وأمراء بيته السلطاني مياه الدردنيل.
وما بلغ اليوم السابع من أبريل ضحاه، إلا ووصل الأسطول المجيد إلى عرض بحر الإسكندرية، فتجلت لهم هذه المدينة، وهم في البعد، كأنها العروس المنتظرة ساعة الزفاف.
فدنوا منها في جهة مرفأ رأس التين، وأعين قاطني السراي شاخصة إليهم، وقلوبهم مختلجة سرورا؛ وروح (إسماعيل) تستمرئ لذة المطمع المحقق.
فلما أضحوا من البوغاز، بحيث يشرفون على جميع دائرته الشاسعة بأنظارهم، رأوا السفن مكتظة فيه، والأعلام العثمانية تخفق فوقها، وترفرف في جميع فضاء الساحل المنظور.
فما زالوا يتقدمون، حتى إذا بلغوا أقرب نقطة في البحر تستطيع السفن البخارية الرسو فيها، أطلقوا مدافع أسطولهم تسليما على الأرض المصرية.
فدوت المدافع من الطوابي المحيطة بالمدينة، إيجابا وإجلالا؛ وملأ الفضاء صدح الموسيقات العديدة من عسكرية وغيرها المصطفة على الشاطئ، وارتفعت أصوات الجم الغفير المحتشد المزدحمة أقدامه على الساحل، ضاجة. عاجة - وقد مزجت التحية السلطانية بالتحية الأميرية - وصائحة: «بادشاهمز چوق يشا» و«أفندمز چوق يشا» معا.
ونزل (إسماعيل) ومعه عمه حليم باشا وغيره من أكابر رجاله، في زورقة الفخم تحيط به انبعاثات ذلك الفرح العمومي، وسار قاصدا اليخت السلطاني لتهنئة متبوعة الأعظم بسلامة الوصول، وتقديم فروض الاحترام والأجلال له، وللسلام على ضيوفه الكرام واستقبالهم.
فقبل يد السلطان، وصافح باحترام وانحناء أمراء البيت العثماني؛ ثم حمد وشكر ودعا دعاء صالحا.
فوجد من لدن عبد العزيز حفاوة فائقة؛ وإكراما جديدا: فإن مدافع الأسطول العثماني أرسلت طلقاتها، مرة أخرى، إجلالا له، وأقبل السلطان عليه، وقلده بيده سيفا مرصعا، كأنه يريد تثبيت توليته الرسمية، عسكريا، ثم أبقاه في ضيافته ساعة وأكثر، أظهر له في خلالها ما ضاعف سروره وزاد إخلاصه.
ثم سار الجميع إلى الزوارق المعدة لهم، فتخلى السلطان عن زورقه الخاص إلى الأمراء حميد ورشاد وعز الدين، وركب هو زورق الوالي بمعية مراد و(إسماعيل).
ونزل الباقون في الزوارق الأخرى، والمدافع تدوي من البحر والبر؛ والموسيقات تصدح؛ والأصوات تضج؛ والدعوات تتعالى، وساروا قاصدين سراي رأس التين العامرة في وسط مظاهر ذلك الاختفاء العام المستمر.
وكان في انتظارهم، أمام باب السراي، فرقة كاملة من الجنود المصرية مصطفة على الرصيف، ومرتدية أفخر ملابسها العسكرية، فرفعت سلاحها حالما مست أقدامهم الأرض المصرية، وقدمت لهم تحيتها العسكرية؛ ونادى جنودها بأعلى أصواتهم، وسلاحهم يتصلصل: «بادشا همز چوق يشا» - وهي التحية التي كانت تدوي الآفاق بها في ذلك اليوم.
وكانت سراي رأس التين قد أعدت إعدادا فخما لنزول الركاب السلطانية فيها.
فوجد عبد العزيز من زخرفها ورياشها والبذخ المنتشر في جميع أثاثها، ومن أسباب الراحة والهناء كلية كانت أم جزئية، المتوفرة في كل جهاتها، ما أوجب إعجابه (بإسماعيل) وضاعف تقديره للثروة المصرية.
وبعد أن استراح، وتناول طعام الغداء - وكان شيئا فاخرا يفوق وصف كل واصف، وقدم باستمرار على مائدتين: إحداهما في السلاملك، للسلطان وأمراء بيته؛ والأخرى في دار الحريم، للحاشية والمعية والمابين؛ ثم استراح ثانية - أخذ يحدق بنظره، من نوافذ السلاملك المفتوحة، بالأعمال المدهشة التي خلقتها إرادة (محمد علي) الباشا العظيم، من العدم؛ ويعجب بها إعجابا عظيما، ثم طلب إلى (إسماعيل باشا) أن يقص عليه كيف تمكن ذلك الجد الكبير من إتمام ما تم على يديه.
فقص عليه (إسماعيل) كيف أن (محمد علي) - في بلد كانت تعوزه كل الوسائل ما عدا يد الإنسان، وكانت كل الآراء فيه مجمعة على معارضة آرائه؛ وسدول الجهل وشبح الهمجية مخيم على ربوعه - قد أنشأ كل تلك المعجزات في أقل من ثمان سنوات، كيف أنه - بعد أن أضاع أكثر من سنة، وأنفق مليونا ونيفا من النقود لإيجاد الترسانة - اتضح له من الأدلة التي أقامها أمامه سريزي بك المهندس الفرنساوي (بالرغم من أنه قدم إلى خدمته مصحوبا بتوصية ضئيلة) أن جميع مجهودات شاكر أفندي رئيس أعماله التركي، لن تجدي نفعا، لمخالفتها للأصول؛ فأوقف حالا سير تقدمها؛ وضرب صفحا عن المبالغ الطائلة التي صرفت سدى وشرع، بدون أدنى إبطاء، في تنفيذ تصميمات ذلك الفرنساوي الحكيم، وكيف أنه - بالرغم من كل الصعوبات القائمة في سبيله - حفر الحوض اللازم لترسانته؛ وأقام المخازن والمعامل فيها وحولها؛ وبنى أسطوله العظيم المؤلف مما يزيد على خمس وثلاثين قطعة مشتملة على أكثر من ألف وخمسمائة مدفع بالرغم من عدم وجود الخشب والحديد لديه، وكيف أنه أوصل ماء النيل إلى الإسكندرية، بحفر ترعة المحمودية التي يرى مصبها أمامه؛ وبحفره إياها بدون آلات ومعاول، بل بمجرد أيدي الفلاحين وأصابعهم، لعدم وجود تلك الآلات والمعاول في البلاد، وكيف أنشأ سراي رأس التين والطوابي الحصينة التي تدرأ عنها وعن الساحل تعديات كل عدو، والتي وضع رسمها وقام بتنفيذها المسيو دي سريزي عينه، وكيف أقام المنارة الشاهقة، هدى للسفن والجاريات، لئلا ترتطم بالصخور القائمة عند مدخل البوغاز.
وقص عليه أيضا كيف تم في عهد عباس، وبالرغم من إرادته، مد خط السكة الحديدية بين الإسكندرية ومصر على يد شركة إنجليزية فكرت في مده حالا بعد النجاز من مد السكة الحديدية بين لندن وليڨربول؛ إذ لم يكن قد مد من ذلك شيء في معظم البلاد الأوروبية الأكثر حضارة.
فارتاحت نفس عبد العزيز إلى أحاديثه وتاقت إلى استعادتها والتوسع فيها، لا سيما فيما كان منها خاصا بالمحمودية والسكة الحديدية؛ لتيقنه من أن الترع والسكك الحديدية، بصفتها أهم طرق المواصلات بين البشر، أهم ما يستطيع حاكم بار برعاياه وملكه الإقبال على الإكثار منها في دائرة بلاده.
ولما غربت الشمس وهبطت حرارة النهار، وانسدلت ظلال الغسق خرج البادشاه من سراي رأس التين، في أفخر عربات القصر المكشوفة، تجرها أربعة جياد مطهمة ناصعة البياض، ويتقدمها ثمانية عداءون بملابسهم المزركشة بالذهب، ونفر يسير من الحراس المرتدين ملابسهم الحمراء الساطعة؛ واجتاز - و(إسماعيل) على يساره، والعربات المقلة أمراء البيتين العثماني والعلوي تتلو عربته الفاخرة - شارع رأس التين، فشارع الميدان، فشارع نوبار، فالمنشية وباب رشيد، وقد اكتظت كلها بالمتفرجين وقوفا على جانبي الطريق، وتزينت بالرايات والأعلام الخفاقة، وازدانت بالأنوار المتألقة.
أما في الشوارع الآهلة بالسكان الوطنيين، فإن الرعايا كانوا واقفين على حافات حوانيتهم، المزينة بالبيارق، وقفة الخاشعين، يهتفون بملء أصواتهم «بادشا همز چوق يشا» وإذا ما دنا منهم الموكب يكادون يسجدون عبادة أمام جلالة الخليفة الفائت بينما أناس منهم ينثرون الورد والزهور في طريق الموكب، أو ينشرون في الهواء دخان البخور العطر ويحرقون العود والند، وجوقات موسيقية واقفة على بعد مائة متر الواحدة من الأخرى، تصدح بأطرب الأنغام فتشنف الأسماع وتشجي القلوب.
ولم يكن من نساء ولا أولاد إلا في نوافذ البيوت وعلى أسطحة المنازل، حيث كانت تزدحم الرءوس البيضاء والرءوس السوداء وتدوي الزغاريد والتهاليل.
وأما في الشوارع الآهلة بالأجانب، ولا سيما المنشية، فإن القبعات كانت تلوح في الهواء؛ وصيحات الابتهاج تملأ الفضاء؛ ويقتدي الأهالي بالغربيين فيصيحون معهم ويفوقونهم بأصواتهم، ويجتهدون في أن يظهروا لسلطانهم بحركاتهم وأنظارهم، مقدار الحب والإخلاص اللذين تكنهما قلوبهم له؛ بينما السيدات ينثرن من النوافذ باقات الزهور والرياحين أو يرفرفن بمناديلهن في الفضاء، وكانت الزينات يأخذ سناها بالأبصار، وعلى الأخص الزينة التي أقامها الكونت زيزينيا عند مدخل المنشية.
فلما فرغ السلطان من المرور عاد إلى سراي رأس التين من الطريق التي أتى منها بين مظاهر الإجلال والتعظيم.
وما استقر في قاعة جلوسه إلا وتألق حوله البر والبحر بالأنوار المختلفة الألوان البهية الأشكال؛ ودوت في الآفاق الألعاب النارية المتنوعة الأوضاع، وأخذت تتساقط، أمام نوافذه، بأشكال أهلة وبدور ونجوم، يأخذ سناها بالأبصار؛ واستمرت الحال كذلك حتى بعد منتصف الليل.
فلما كان اليوم التالي (يوم الأربعاء ثامن أبريل) حوالي الساعة العاشرة صباحا، استقبل السلطان، وبجانبه (إسماعيل باشا) وفؤاد باشا، قناصل الدول العامة القادمين للتهنئة بسلامة الوصول؛ وألقى عليهم خطبة جميلة، أعرب لهم فيها عن سروره بما رآه من أسباب العمران في القطر المصري الذي هو إحدى ممالكه الشاهانية؛ وعن نياته الطيبة، البارة برعاياه التي يرجو الله أن يمكنه من تحقيقها.
فترجم فؤاد باشا الخطبة لهم، فشكروا السلطان على ما تفضل به من مقابلتهم وخرجوا وألسنتهم تلهج بالثناء على مقاصده ونياته.
ولما كانت ساعات العصر، خرج عبد العزيز و(إسماعيل) وأمراء البيتين العثماني والعلوي وجميع رجال حاشيتهما للتفرج على قسم المدينة الغربي ، وساروا بعد ذلك بجانب ترعة المحمودية، وبعد أن استراح السلطان في بستان البرنس حليم (وهو الذي عرف، في أيامنا، بسراي نمرة 3 التي كانت مخصصة لسكنى الغازي أحمد مختار باشا قبل سنة 1914؛ إذ كان مندوبا ساميا للدولة العثمانية بالقطر المصري) ولقي من احتفاء البرنس حليم بجلالته ما استوجب محظوظيته منه ثم عاد إلى سراي رأس التين؛ وقضى ليلته في راحة وهناء كما قضى الليلة السابقة، والمدينة كلها حوله أنوار وأفراح وتهاليل وزغاريد.
وفي يوم الخميس (تاسع أبريل) اجتاز، بمركبته المفتوحة، المدينة مرة أخرى، فقابلته بما قابلته به المرة الأولى، وتوجه إلى المحطة، حيث كان في انتظاره القطار المعد لركوبه، ليقله إلى مصر عاصمة الديار، ولم يكن قد رأى قبل ذلك قطارا، فاستوقفت أنظاره آلاته وعدته؛ وأهاجت فيه عواطف حب الاستطلاع - وكانت قوية في قلبه.
فأخذ يستفهم ويستفسر عن كل ما يرى؛ فتقدم إليه ناظر المحطة ومهندس القاطرة بكل بيان شاء وإيضاح طلب والإيضاحات التي سأل عنها، حتى إذا أتت الساعة الحادية عشرة، صعد إلى صالونه الخاص، وجلس (إسماعيل) وفؤاد باشا في مقعد آخر مجاور ليكونا تحت طلبه، وركب باقي الأمراء العثمانيين والعلويين في عربات القطار الأخرى؛ وكذلك رجال الحاشيتين، فسار بهم القطار يقطع سهول الوجه البحري، والراكبون يتحادثون بما توجبه المناظر الممتدة أمامهم من مواضيع الحديث، حتى إذا بلغ بهم القطار كوبري كفر الزيات الفخم، أخذ الكل يعجبون ببنائه، ويعظمون من شأنه، ويبالغون في تقدير نفقاته، واستفهم السلطان عنه من (إسماعيل) فقال: إنه بلغ ما يزيد على السبعة ملايين من الفرنكات، وأخذ البرنس حليم يقص على من معه في المقعد حكاية نجاته من الموت في حادثة سقوط القطار في النيل، منذ خمس سنوات تقريبا.
ولما مروا على طنطا، ورأوا ازدحام الأقدام على محطتها، ونظروا مآذن الجامع الأحمدي تعلو في آفاقها؛ طلب عبد العزيز بعض إيضاحات عنها وعن أهميتها فأجابه (إسماعيل) إلى طلبه، وقص عليه ما يعمل فيها أيام المولدين الأحمديين الأصغر والأكبر.
وحكى له على سبيل الفكاهة كيف أن نساء الريف المجاور - حينما جعل (محمد سعيد باشا) الخدمة إجبارية على الجميع - تجمهرن حول سرايه بطنطا وأخذن يصحن ويصخبن وبلغ من بعضهن الحمق مبلغه، فأقبلن بعصي في أيديهن على جدران مسجد مجاور يضربنها صائحات: «خذ! هذا جزاؤك، أيها الظالم، الذي تريد انتزاع أولادنا منا!» بينما (سعيد باشا) - وكان مصابا برمد في عينيه، وقد استفهم عن سبب اللجاج والهرج الواصلين إلى أذنه، وعلمه - يقهقه ويكاد يستلقي على ظهره من كثرة الضحك؛ وكيف أن إحدى تلك النساء لمحت ناظر المحطة الفرنجي واقفا على رصيفها القريب من القصر فنادت زميلاتها وأشارت إليه قائلة: «هاكن النصراني الذي يسير أولادنا في عربات النار، هلم لننتقم منه!» فتحول تيار سخطهن صوب ذلك المسكين وهجمن عليه كمجنونات، غضابى، وهن يصحن: «لنقتلنه! لنقتلنه!» ففر الرجل من وجوههن، هائما خائفا؛ واقتفين أثره؛ وركبن خلفه كأنه الصيد وهن السلوقية، وما زال يجري وهن يطاردنه حتى وصل باب سراي الأمير، فاقتحمه خائفا منذعرا، وبعد أن أوصده وراءه صعد وسقط على قدمي سعيد هاتفا: «أنقذني يا مولاي» وأخبره الخبر، فكاد سعيد يغشى عليه من الضحك، ولم يعد يستطيع جمع أجزاء جسمه المترجرج.
2
ولما بلغ القطار براكبيه كوبري بنها، ورأوا، من خلال النوافذ، السراي الفريدة التي أقامها عباس باشا، عند أحد تعاريج النيل، في نقطة تجتلي عين الناظر منها مساحة من الأفق، قلما يضارع جمال أي منظر في العالم، جمالها الطبيعي، تمثلت أمام أعينهم الفاجعة الرهيبة التي قضت على حياة ذلك الوالي، في أعماق تلك السراي، المهملة منذ ذلك الحين - فسرت في أجسامهم قشعريرة كأنهم يرونها تمثل من جديد؛ وتخيلوا الألفي بك، محافظ مصر، آتيا منها مرة أخرى؛ داخلا ذلك القصر الدامي؛ مخرجا منه الجثة الهامدة، مرتدية ملابس الجسم الحي: مجلسا لها في صدر العربة - كأن عباسا لا يزال العاهل الحاكم، وكأنه لم يمت - آمرا الحوذي، الذي كان يجهل كل شيء، أن يسير إلى مصر؛ داخلا العاصمة، وهو جالس في تلك العربة على يسار جثة الوالي القائمة - كأن الموت لم ينزل على عرش مصر منذ سويعات؛ متخذا كل استعداد وحيطة لحرمان محمد سعيد باشا ولي العهد الحقيقي من ميراثه وإقامة إلهامي باشا الغائب في الأستانة مكان عباس أبيه.
وقص (إسماعيل) على عبد العزيز كيف أن قناصل الدول عارضوا الألفي بك فيما أراد فعله واحتجوا عليه، فلم يتم له ما نوى، واستتب الأمر لمحمد سعيد، فبلغ من رعب ذلك الرجل، بالرغم من تأكيدات الوالي الجديد الطيب القلب له، بأنه قد صفح عنه وغفر له زلته، أنه، حالما دوت في أفق مصر، أول طلقة من المدافع المؤذنة بتولية سعيد، وقع مغشيا عليه وفارق الحياة.
3
وبينما القطار واقف بالمسارفين ببنها، لمحوا على أحد أرصفتها، القطار القائم إلى الزقازيق.
فسأل السلطان (إسماعيل) عن الوجهة التي يقصدها ذلك القطار، فأجابه بإيضاح واف، واستطرد الحديث إلى التكلم عن السويس وترعتها، واغتنمها فرصة ليبذر بذور أغراضه الخفية في الأذن السلطانية، حتى إذا ما جاءت الأيام، التي يرى إظهار تلك الأغراض فيها، يكون السلطان مستعدا لتعضيده في إنجاحها.
وبعد ما فارقوا بنها وأخذوا يقتربون من مصر؛ وبدأت قمم الأهرام العظيمة تبدو في البعد كأنها تناطح السحاب، مجللة بثوب العثير الدقيق الذي تلحفها به الرياح الهابة على الصحراء حولها، دارت الأحاديث على ماضي مصر المكنون وعلى الأعمال القديرة المعجزة، التي تمت فيها على أيدي فراعنتها الأماجد، وأحس (إسماعيل) في تلك الحظة، بأن هاجسا قام في قلبه يحدثه بأن ملكه معد ليعيد مجد العصور الفرعونية التي دالت ؛ ويسر له قائلا: «إن التاريخ سيقيمك في مصاف أكبر أولئك الفراعنة مجدا وفخارا».
ولما قارب القطار طوخ، تحول الحديث إلى القناطر الخيرية التي أنشأها الباشا العظيم على مفرقي النيل: فأجمع الكل على اعتبارها مضارعة، في العظمة، لأعظم ما خلقته إرادة فراعنة القدم؛ وزائدة، في الفائدة، على كل ما أوجده أولئك القديرون، ولم يكن (مرييت) و(بروجن) و(ماسبيرو) قد أماطوا، بعد، حجاب السر عن تاريخ الأسرة الثانية عشرة الرفيعة الشأن، أسرة أزرتسن وأمنمحعت، بانية اللابرنت، ومحتفرة خزان ميريس.
وهكذا مرت على المسافرين الساعات، وهم لا يشعرون بمرورها، حتى وقف القطار بهم أخيرا بالقرب من قصر النيل.
فنزل السلطان، واستراح هنيهة، في المحل الفخم المعد له؛ وكذلك أمراء بيته الكرام؛ وأقام الجميع هناك إلى أن تجهزت المعدات التي صدرت الأوامر بها.
فلما سدل المساء سدوله، سار الموكب السلطاني من قصر النيل إلى سراي القلعة عن طريق شارع كوبري قصر النيل؛ فباب اللوق؛ فحسن الأكبر؛ فغيط العدة؛ فباب الخلق؛ فتحت الربع؛ فالدرب الأحمر - وهذه الشوارع بحاراتها ودروبها وسككها وعطفاتها مزينة بأبهى زينة؛ متألقة بأجمل الأنوار؛ مكتظة بأناس من مختلف الأمم والملل والنحل؛ ممتزجين، امتزاجا يقر العين، ويشرح الصدر؛ هاتفين بالتحية السلطانية - وكان قد تقرر أن لا يهتف بغيرها، إجلالا لصاحبها، على طول الطريق؛ ومظهرين من عواطف الولاء والإخلاص والعبودية ما تحار له العقول والألباب؛ ناثرين الزهور؛ حارقين البخور؛ مكبرين؛ مهللين؛ وقد انتشرت بينهم الچوقات الموسيقية على أبعاد قليلة بعضها من بعض صادحة بالسلام السلطاني، بينما النساء والأولاد قد انعقدت عناقيدهم فوق السطوح وفي النوافذ وعلى درجات الجوامع والمساجد والزوايا الخارجية وفي نوافذها، والجميع يدعون للسلطان كل بلسانه، وكيفيته الخاصة وعلى طريقته المعتادة.
وكان السلطان شيقا، وكذلك من معه، إلى رؤية تلك القلعة الشهيرة، وسرايها التاريخية؛ لازدحام تذكارات التاريخ حولهما من أيام صلاح الدين وبيبرس وقلاوون وبرقوق وقايتباي إلى أيام سليم خان وبونابرت ومحمد علي؛ لا سيما ما كان من تلك التذكارات لا يزال حاضرا بالأذهان.
وكانت سراي القلعة قد أعدت لنزول الضيوف الكرام فيها، إعدادا شبيها بما يروى عن مثله في كتاب ألف ليلة وليلة، مما لم يكن يستطيع القيام به إلا سلاطين الجن.
فما ارتاح السلطان في مخادعه، ومرت أمام عيني مخيلته، أشخاص العظماء الذين سبق وجودهم في تلك الأماكن وجوده فيها؛ ثم تناول طعام العشاء، وكان أفخر ما تتلذذ به الأذواق، وتستمرئه الألسنة؛ كثيرا وفيرا؛ ممدودا على عدة موائد للآكلين، إلا ودوت حوله الآفاق بالمدافع المؤذنة بصلاة العشاء - وكان (إسماعيل) قد أمر أن تضرب عند حلول كل وقت من مواقيت الصلاة، لكي يكون الشعور عاما بأن أيام إقامة الخليفة بمصر لأيام أعياد مباركة - وعلت ضجة المدينة العظيمة، حافلة بالدعوات الصالحات؛ عاجة بالهتاف: «باديشا همز چوق يشا».
وما هي إلا لحظة، وتألقت الزينات، وأشعلت ألعاب النار، وشقت السواريخ كبد السماء؛ وانتثرت الأهلة والنجوم منها متباينة الألوان في الفضاء؛ وبرزت المدينة كلها تسطع في جميع جهاتها بالأشعة المنبعثة إليها من كل صوب.
فتقدم السلطان إلى حيث استجلت أنظاره أرجاء القاهرة بأسرها، هذه القاهرة الثملة فرحا بتشريفه أرضها، فمتع عينيه بذلك المنظر الشائق - وكان الليل قد كساه ثوبا خياليا يلعب باللب ويسكره - وأحس في صميمه بلذة سماع كل تلك الأصوات، المصعدة إلى أذنيه الدعوات التي ترسلها الرعية المخلصة لسلطانها نحو قدمي العرش الإلهي.
ففاض صدره بالحبور المتدفق إليه من كل حدب وصوب؛ وأراد إظهار امتنانه ومحظوظيته (لإسماعيل)، فنزع وسام «المجيدية» المرصع المتدلي على صدره السلطاني، وعلقه بيده على صدر (إسماعيل)؛ وقال له: «إني لا أدري كيف أشكرك على كل ما بذلته لتملأ نفسي سرورا»، فأجابه (إسماعيل): «إنما قدمت لمولاي ما هو له»، فزاد هذا الجواب في سروره.
وبعد أن استجلى من موقفه السامي جمال المناظر المبسوطة تحت قدميه، دخل إلى مخادعه ونام نوما هادئا هنيئا.
وكان الغد يوم جمعة، فتقرر أن يصلي الخليفة صلاته الجامعة في مسجد (محمد علي) بالقلعة عينها، وأن يذهب إليه من السراي التي بات فيها راكبا على جواد مطهم في موكب يكون كل من فيه فارسا.
فلما آذنت ساعة الصلاة، امتطى عبد العزيز الحصان الذي قدم له؛ واقتدى به أمراء بيته السلطاني وأمراء البيت العلوي والوزراء العثمانيون والمصريون وكبار رجال المابين والمعية، وكوكبة من الفرسان، وسار جمعهم في موكبهم الحافل المهيب، داخل القلعة، من السراي إلى الساحة الفسيحة الأرجاء المنبسطة أمام مسجد (محمد علي) حيث كانت جميع الأعالي المحيطة، المطلة على تلك الساحة، غاصة بالمتفرجين، وداوية بدعائهم.
وبعد أن انقضت الصلاة، توجه السلطان إلى زيارة قبر الباشا العظيم، الراقد رقدته الأبدية، في ذلك الجامع المرمري البناء، المطل من علاه على القاهرة كلها، كأنه روح (محمد علي) تشرف على جسم القطر الذي أعادت إليه الحياة، لتتعهده وترعاه.
فوقف إليه، برهة، خاشعا، ثم التفت إلى من حوله وقال على مسمع من الملأ: «لقد كان رجلا عظيما، وإن ذكره ليخلد».
ثم عاد إلى سراي القلعة حيث استقبله وفود المهنئين من الأعاظم والعلماء والبطاركة والرؤساء الروحانيين، والوجهاء والأعيان والتجار، ولكي يظهر لهم بجملة واحدة مقدار انشراحه من زيارته للقطر المصري، قال لهم: «إني ضيف إسماعيل وضيفكم»، فكان لقوله هذا وقع عظيم في القلوب؛ لأنه كان بمثابة إعلان رسمي لاستقلال مصر!
لذلك كانت الزينات، التي أقيمت في مساء ذلك اليوم، أجمل بكثير من زينات الليلة السابقة، وكان أبدعها شكلا ما أقيم منها أمام قصري (إسماعيل باشا) وحليم باشا وسراي عابدين، وبلغ من تفنن صانعي الألعاب النارية ومن إعجاب السلطان بها أنه طلب بعضهم من (إسماعيل) ليأخذهم معه إلى القسطنطينية.
ومما يحسن ذكره في مقابلة السلطان للعلماء، اللطيفة الآتية وهي: أن (إسماعيل) كان يعتقد في علماء الأزهر الأجلاء عدم خبرة ودراية بواجبات الرسميات في موقف كهذا - وكان هذا هو الواقع - فحسن لديه أن يختار أربعة منهم فقط ليتشرفوا بالمثول بين يدي الحضرة السلطانية، وهم: السيد مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ السقاء، والشيخ عليش، والشيخ العدوي من كبار علمائه، وأولهم وثانيهم من دواهي الرجال وأوسعهم صدرا؛ وثالثهم من المتصوفين؛ وأما الرابع فكان من الورع والتوكل على الله، بحيث لا تهمه ولا ترهبه العظمات البشرية.
ثم وكل إلى قاضي القضاة التركي أمر تعليمهم آداب المثول بين يدي الخليفة، فأفهمهم فضيلته أن المقابلة ستكون في قاعة يقف السلطان في صدرها، على منصة مرتفعة عن الأرض قليلا، بينها وبين باقي القاعة حاجز، مفتوح من وسطه؛ وأنه ينبغي لهم إذا ما بلغوا الباب ووقعت أعينهم على جلالته أن ينحنوا انحناء عظيما، ويسلموا بكلتا اليدين، حتى تمسا الأرض؛ ثم يتقدم كل منهم نحو فتحة الحاجز، بخطوات موزونة حتى إذا صار أمامها، كرر الانحناء والتسليم، ووقف أو يرد السلطان عليه تحيته، فيعيد؛ حينئذ الانحناء والتسليم مرة أخرى، ثم يرجع متقهقرا ووجهه إلى السلطان إلى أن يبلغ باب الدخول؛ فيكرر الانحناء والتسليم عينهما؛ ثم ينصرف مثل ما دخل، حتى يتوارى عن نظر السلطان.
فاستغرب العلماء أن تنحصر المقابلة في تلك الصور من الانحناء والاحترام، ولكن قاضي القضاة أكد لهم أن الأمر كذلك، فقالوا: «قد فهمنا».
فلما جاء دورهم في المقابلات، دخل الشيخ العروسي أولا، فالشيخ السقاء بعده، فالشيخ عليش، وفعل كل منهم ما علمه القاضي أن يفعل.
وكان (إسماعيل) واقفا وراء السلطان بمسافة، وعينه تراقب كل حركاتهم، فأعجب من إتقانهم الدرس الذي ألقي عليهم إتقانا محكما.
فلما أتى دور الشيخ العدوي، دخل هذا الأستاذ الفاضل، وانحنى عند الباب كزملائه؛ ثم أسرع، بعد ذلك، نحو السلطان بمشيته الاعتيادية، ولم يعاود الانحناء ولا التسليم فبدأ قلب (إسماعيل) يخفق - ثم تقدم بقدم ثابتة حتى وصل إلى الحاجز، وجاوزه، وصعد إلى المنصة، التي كان السلطان واقفا عليها - وقلب إسماعيل يجف ونظر إليه بعين ثابتة وقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله»، فوثب قلب (إسماعيل) في صدره، ولولا مهابة السلطان لركل الرجل وأخرجه.
ولكن السلطان ابتسم ابتسامة لطيفة، ورد على الشيخ العدوي تحيته وأحسن منها، وانحنى أمامه انحناء خفيفا.
فخاطبه الشيخ فيما يجب على السلطان نحو رعاياه، بصفته كبير الحكام؛ لأن الحكام خلفاء الأنبياء في الناس؛ وفيما يجب على أمير المؤمنين، بصفته خليفة الرسول، نحو المؤمنين؛ وهول في المسئولية الملقاة على عبد العزيز؛ وأكد له أن ثوابه عند الله سيكون بمقدار ثقل المسئولية، وحسن نفاذه فيها؛ كما أن عقابه عند الله تعالى سيكون على قدر إهماله واجباتها.
فامتقع لون (إسماعيل)، ولعن الساعة التي اختار فيها ذلك الشيخ الأبله، ومن أشار عليه به، وأخذ يحسب لغضب السلطان ألف حساب.
ولكنه لم ير على وجه السطان علامات الغضب مطلقا، بل وجد ملامح عبد العزيز مرتاحة إلى كلام ذلك الأستاذ؛ لا سيما أنه لم يفهم منه شيئا لجهله اللغة العربية.
أما العدوي فلما فرغ من خطبته، ختمها بالسلام الذي بدأها به ثم انحنى أمام السلطان، وأقفل خارجا بوجهه لا بظهره كسابقيه، وسبحته بيده فوجد هؤلاء في انتظاره على الباب يلومونه على فعلته التي كانت على زعمهم «قذى في العيون».
فقال لهم: «أما أنا فقد قابلت أمير المؤمنين، وأما أنتم فكأنكم قابلتم صنما، وكأنكم عبدتم وثنا».
ثم سأل السلطان عبد العزيز (إسماعيل): «من الشيخ؟» فأجابه: «هذا شيخ من أفاضل العلماء، ولكنه مجذوب، وأستميح جلالتكم عفوا عن سقطته»، فقال السلطان «كلا. بل إني لم أنشرح لمقابلة أحد انشراحي إلى مقابلته» وأمر للشيخ العدوي بخلعة سنية وألف جنيه.
4
وكان يوم السبت التالي حادي عشر أبريل، يوم تشييع المحمل المصري إلى الأقطار الحجازية، فتقرر أن يرأس جلالة السلطان نفسه الحفلة السنوية المعتادة، واتخذت جميع الوسائل لكي تكون، بسبب وجوده على رأسها، يتيمة الحفلات التي من نوعها؛ لأنه لم يسبق لسلطان عثماني أن ترأس مثلها منذ الفتح السليمي، ولم يكن أحد يتوقع أن تجود الأيام بزيارة سلطانية أخرى في العصر ذاته.
فلما كانت الساعة العاشرة، نزل السلطان من القلعة، وسار نحو الكشك الذي أقامه محمد علي خصيصا لذلك تحت السور إلى جنوب باب العزب، وهو قريب من المكان الذي يروى أن الأمير المملوك أمين بك وثب منه وثبته المشهورة في حادثة ذبح المماليك.
فلفت بعض الحضور نظر السلطان إلى ذلك، فرغب عبد العزيز في أن تلقى على مسامعه الرواية، بينما تتم حوله مراسم الاحتفال.
وكانت تفاصيل تلك الرواية مختلفا فيها، فما حكي للسلطان منها هو أن أمين بك، لما قذف بحصانه من فوق السور، وانكسرت أرجل الجواد حينما مست الأرض، فسقط ميتا، وقع هو أيضا عن صهوته وأصيب برضوض أفقدته رشده، فبصر به بعض البدو، فأسرعوا إليه واحتزوا ثلاثة أرباع عنقه، لكي يسرقوا سلاحه ونقوده؛ غير أنه لم يمت، وتمكن - وحده، على قول بعضهم؛ وبمساعدة بعض ذوي الرحمة، على قول آخرين - من النهوض والاختفاء في مكان أمين تعالج فيه إلى أن شفي واستطاع الالتجاء إلى سوريا.
وبعد الفراغ من حفلة المحمل، توجه السلطان للتنزه في المدينة، فزار مساجد آل البيت الكرام وغيرها وكان الناس من السوقة والعامة، كلما مر بجموعهم المحتشدة، صاحوا: «الفاتحة لمولانا السلطان!» فينظر إليهم كأنه يحييهم، وهو إنما يستغرب لذلك، ويقارن في سره بينه وبين خشوع الأستانة وسكوتها؛ وإطراق العيون فيها إلى الأرض حينما يمر في شوارعها ذاهبا إلى صلاة الجمعة.
5
ثم عاد من طوافه، فتناول طعام الغداء في سراي الجزيرة، ولما كان الأصيل، أبدى رغبته في رؤية أنجال (إسماعيل)، فأرسل (إسماعيل) من أحضرهم من قصرهم بالمنيل في جزيرة الروضة، حيث كانوا منقطعين إلى علومهم تحت عناية المسيو چاكليه؛ بعيدين عن كل المؤثرات الخارجية، لا سيما مؤثرات الحريم، فأعجب السلطان بهم وبنباهتهم وذكائهم؛ وشجعهم بأقوال حكيمة على الاستمرار في دروسهم بنشاط وهمة ورغبة صادقة، ليكونوا قرة عين أبيهم الكريم، وفخر مصر، وخير أحفاد للرجلين العظيمين (إبراهيم باشا) و(محمد علي).
ثم عاد إلى القلعة، ولما أسدل الغسق ظلاله، بدت مصر، مرة ثالثة، في حلل زينتها البهية؛ وأخذت نجوم الألعاب النارية وأهلتها تباري مرة أخرى نجوم السماء، وبدورها في السطوع واللألأة والجمال.
فأظهر عبد العزيز (لإسماعيل) نيته في الإقامة بمصر عدة أيام؛ ورجاه الاكتفاء بما عمل من الزينات والألعاب، والامتناع عنها في الليالي التالية؛ حثا براحة القائمين بها، وراحة السكان معا.
وكان قد أرسل من الإسكندرية باخرة تحمل البريد إلى القسطنطينية، فأوفد إليها، أيضا، في تلك الليلة، المصاحب عبد الكريم أغا، ليبلغ جلالة السلطانة والدته، أنباء صحته الجيدة؛ ويحمل إلى بابه العالي ، الأوراق الدولية الخاصة بالإدارة اليومية.
ثم كلف رامز أغا، أحد خصيانه، بالذهاب ببطاقة زيارته إلى أربعة عشر «حريما» بمصر، ليبلغ «تحياته وتسليماته السلطانية» إلى أرامل محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وعباس باشا، ومحمد سعيد باشا وغيرهن.
وفي يوم الأحد ثاني عشر أبريل - وكان عيد الفصح عند الطوائف الشرقية - ذهب لزيارة قصر النزهة، في طريق شبرا؛ وكان (لإسماعيل)، وهو الوحيد الذي تفننت الهندسة المعمارية في تجميله وتزيينه، على صغر حجمه، فأعجب به أيما إعجاب، وأمر بعض الرسامين الذين بمعيته أن يأخذوا رسمه - ولكنه لم يمكث فيه طويلا وغادره إلى قصر شبرا ذاتها - وكان لحليم باشا، الذي أراد السلطان أن ينزل في ذلك اليوم ضيفا عليه.
فاستقبله حليم باشا في تلك الروضة الغناء، التي أنشأها لوالده، أبدع الخيالات الشعرية، وكانت مزدهية بالزهور والرياحين، المغروسة على أبدع نظام وأجمل تنسيق؛ حافلة بالطيور المغردة المختلفة الأجناس والأنواع والأشكال - وكانت الزهور والطيور أحب المخلوقات إلى قلب عبد العزيز، وأعز ما ترتاح إليه نفسه بعد ربات الخدور.
فقضى بقية نهاره، وبعض مسائه في تلك الجنة الأرضية، متجولا بين رياحينها وأزاهرها طورا، وطورا جالسا أمام بحيرتها، المحيطة بها، المظلة الرخامية البديعة الصنع، العديمة المثيل في العالم بأسره، أو جالسا في القاعة العظمى الكائنة في الزاوية على يمين الداخل، والتي قلما بذلت في تشييد سواها الأموال التي بذلت في تشييدها؛ وقلما ازدهت غيرها، بالصنعة الدقيقة المواد الثمينة التي ازدهت، هي، بها: كأن (محمد علي) أراد أن يجعلها قصرا من قصور الجنان، بجانب تلك المظال الرخامية، المتتابعة صفوفها على شكل دائرة بيضاوية حول تلك البحيرة المعدة لمسابحة جواريه فيها، وقد أقيم في وسطها بناء مرمري على شاكلة باقة أزهار، تجلت الدقة كلها في صنعه وتكوينه، وأعد لجلوسه، هو، على أريكة حريرية فيه لكي يتسنى له في شيخوخته - والمياه تجري من تحته، والجواري يسبحن حوله، ويتداعبن أمامه، والروائح العطرية تتأرج من الأزاهير النابتة في كل مكان، وداخل كل مظلة من هاتيك المظال، والمتدلية إلى حافة البحيرة بشكل من أبدع الأشكال - أن يتخيل أنه انتقل إلى جنة الفردوس التي أعدها ربه للصالحين والمحسنين من عباده، وأن يتمتع، وهو حي في هذه الدار، ببعض لذات الدار الأخرى التي بات منها على أدنى من قاب قوسين.
6
أسفا على تلك!
آه لتلك الروضة الفيحاء الغناء! كيف عبثت بها أيدي الإهمال، وكيف جردها من محاسنها الفريدة تغيب أيدي الصيانة عنها!
وأسفا على ذلك!
وآه ثم آه! لذلك الإيوان البديع الأكبر المكون من مجموع هاتيك المظال الصغيرة الكلية الجمال، المزرية الواحدة منها بجمال إيوان كسرى المشهور! كيف تناولتها أيدي الدمار: فأتلفت رخامها البديع؛ وذهبت ببهجة صنعها المدهش؛ وباتت تهددها بخراب عاجل!
وقضى عبد العزيز وقته فيها يتحادث مع حليم باشا وفؤاد باشا عن زراعة البساتين والزراعة على العموم؛ ثم عن القناطر الخيرية - وكان الأمير مراد أفندي، ولي العهد، قد ذهب في ذلك اليوم عينه لزيارتها في مركب بخارية والتفرج عليها. وأرسلت هناك أورطتان مصريتان للقيام بفروض استقباله، ولكنه لم يفارق المركب؛ وتفقد، وهو فيها، القناطر: الأمر الذي لم يرتح له ضباط تينك الأورطتين والذي لم يمكنهم من التفرج على القلعة السعيدية - وهي حصن أنفق محمد سعيد باشا على إقامته عند نقطة انقسام فرعي النيل، مبلغا طائلا من المال، بدون جدوى، كان الأجدر به إنفاقه على إتمام عمل القناطر الخيرية الضخم، الجليل، الذي أقبل عليه أبوه، الباشا العظيم، بضع سنوات فقط قبل أن يوافيه الأجل المحتوم.
ولما توغل المساء في الليل، عاد السلطان إلى القلعة فلم يفارقه الانشراح من شبرا وبستانها وإيوانها!
وفي يوم الإثنين ثالث عشر أبريل - ووافق وقوع عيد شم النسيم، احتفلت القاهرة به احتفالها المعهود ولكن زاده بهجة وجود السلطان - قصد عبد العزيز المتحف المصري - وكان مديره حينذاك مرييت بك، الاچيبتولوچي الشهير - فتفقد جميع غرفه ومحتوياته، واستفسر عن كل ما رآه فيه، وارتاح إلى البيانات التي استطاع مرييت أن يبديها له.
ثم ذهب من هناك لزيارة معامل القطن والحرير ببولاق - وكانت أعمالها ناجحة تبشر بفلاح باهر في المستقبل، لم يحقق، وا أسفاه المستقبل شيئا منه - فسره ما رآه فيها من حسن الترتيب والنظام وانشرح صدره لعلامات النجابة والذكاء، البادية على وجوه الشبان المشتغلين فيها.
ولما كانت المحادثة بالأمس عن القناطر الخيرية قد شوقته إلى رؤيتها، ركب زورقا بخاريا من زوارق (إسماعيل باشا)، أعد خصيصا لذلك الغرض، وتوجه فيه من بولاق إليها، فتفقدها بعناية؛ وأعجب بها إعجابا عظيما: وأكبر من إقدام وهمة الباشا العظيم الذي باشر إنشاءها بالرغم من طعنه في الشيخوخة، وحكم بأنها لمن أجل أعمال الدنيا فائدة، وأن محمد علي قد استحق ببنائها شكر الأرض المصرية إلى الأبد.
ثم عاد إلى قصر النيل وتناول طعام الغداء فيه.
وفي يوم الثلاثاء، رابع عشر أبريل، ذهب إلى زيارة الأهرام، ومعه أمراء البيت العثماني، وأمراء البيت العلوي، وجمهور كبار رجال البلاطين.
وبعد أن عبروا النيل إلى شاطئه الغربي، عند الجيزة، ركب السلطان عربة مفتوحة تجرها أربعة جياد، وركب وراءه (إسماعيل باشا) و(فؤاد باشا) في عربة أخرى يجرها جوادان فقط، وامتطى الباقون خيولا.
ولما تكن الطريق إلى الأهرام قد مهدت بعد، فكثيرا ما كانت تجتاز حقولا مزروعة أو تمر في أرض تربة، ترفع حوافز الخيول الواقعة عليها، سحابات عثير كثيف منها تملأ بها الفضاء.
وكانت عربة السلطان سائرة في طليعة الموكب اتقاء للغبار، وخيولها القوية العفية تتخطى بها المنحدرات في المرتفعات، ولأنها كانت أربعة صافنات، تمكنت من الاستمرار مقلة راكبها الكريم، حتى مدخل الصيوان الذي أعد له في ظل الهرم الأكبر، وعند قاعدته.
وأما عربة (إسماعيل باشا) وفؤاد باشا، فإن الجوادين فيها أجهدا تعبا، أدى بهما إلى التوقف عن المسير، بالرغم من كل حث وتحريض، فاضطر الراكبان الكريمان أن ينزلا منها ويمتطيا جوادين آخرين.
وهكذا سار الموكب، والعثير وراءه يتناول عنان السماء، حتى بلغ الأهرام، حيث كانت موائد الطعام قد مدت في الصواوين المعدة لذلك كأنها في أكبر القصور اشتمالا على معداتها.
فاستراح القوم ثم أكلوا، وبعد ذلك أقبل عبد العزيز يسرح الطرف ويستفهم متخطيا من جوار هرم خوفو، إلى الرابية البارز من قمتها أبو الهول ، والمعبد المصري القديم الذي بجواره، ومقبرته، وامتطى جوادا إلى هرم منقورا الذي كان لا يزال معظم جزئه الأعلى مكسوا بطلائه العجيب، فإلى هرم نيتوكريس الأحمر الجميل!
ألا ليت شعري! من ينبئني بما جال في مخيلة سلالة سلاطين آل عثمان، وهم يتجولون حول آثار الفراعنة الخالدة، الدالة على عظمتهم الزائلة، والقائمة على مدخل الصحراء الشاسعة، معالم ماض كان قصيا، وقتما خط التاريخ أول صفحاته! من ينبئني بما قالت لهم - لا سيما لعبد الحميد - عينا أبي الهول السريتان الشاخصتان بصفاء أبدي أمامهما، كأنهما تريدان أن تحجبا مكنونات الأيام وراءه؛ وتشعران الحاضر، مهما كان فخما عظيما، بضآلته، تجاه مجموعة المفاخر البشرية، التي حركتها القرون بالتتابع (من خوفو إلى أوزورتسن، وآمنمحهت؛ ومن أحمس إلى توطمس وآمن هوتب؛ ومن راع مسيس إلى نيخاؤ وبتامتك؛ ومن كمبيز إلى إسكندر الأعظم والبطالسة الأماجد؛ ومن قيصر الأكبر إلى هدريان وديوكليسيان؛ ومن عمرو بن العاص إلى أحمد بن طولون والمعز لدين الله؛ ومن صلاح الدين إلى بيبرس وقلاوون وبرقوق وبرسباي وقايتباي؛ ومن سليم الرهيب إلى پونابرت العجيب) كسينما توغراف أمام تينك العينين؛ ثم وارتها في طيات الدهور!
ولما مالت الشمس إلى الغروب عاد الموكب السلطاني إلى الجيزة وتناول الجميع طعام العشاء في سرايها البديعة - ولم يكن (إسماعيل) قد أجرى فيها التحسينات التي صيرتها فيما بعد لؤلؤة قصوره، ودرة منتزهاته الخصوصية. ثم رجع السلطان إلى القلعة وما استقر فيها برهة إلا وحانت صلاة العشاء، فقام ينادي بها، بعد إطلاق المدافع، خمسة عشر مؤذنا اختيروا اختيارا دقيقا لجمال أصواتهم وأخذوا يتبارون في التلحين والإنشاد مباراة حملت كل من سمعهم على الظن بأنهم بلابل الفضاء برزت من خلواتها تشجي بأنغامها المطربة، في ذلك المساء المجلوة سماؤه، ضيوف مصر وواليها.
وكان الغد يوم الأربعاء، خامس عشر أبريل، فجعل يوم راحة عامة وخصص لتجهيز معدات السفر إلى الإسكندرية.
فلما بزغت شمس يوم الخميس، سادس عشر أبريل، ازدحمت شوارع العاصمة وساحاتها وظهور منازلها ودرجات سلالم جوامعها، بجماهير الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأجناسهم، انتظارا لمرور السلطان وموكبه العظيم - وحالما وافت الساعة التاسعة صباحا، أخذت المدافع ترمي طلقاتها بين كل دقيقة وأخرى إيذانا بالرحيل، لغاية الساعة العاشرة، حتى إذا دقت هذه، نزل السلطان من القلعة بموكب فخم، مهيب؛ فمر على تلك الجماهير محييا مسلما، وأمر بأن توزع مبالغ طائلة من المال على فقراء العاصمة وخدمة مساجدها.
فانطلقت ألسن تلك الجماهير بالدعاء لجلالته؛ وذرفت عيون كثيرة دموعا سخينة في توديعه، وما زالت أصوات الدعاء ترتفع من كل فم، إلى أن بلغ الموكب القطار المعد له، فأقله، فشخصت إليه الأبصار، وشيعته القلوب حتى توارى.
وكان السلطان قد أبدى عزمه على زيارة المقام الأحمدي بطنطا، فأقيم له صيوان فخم بجوار محطتها، ولكنه رجع عن عزمه في آخر لحظة، واكتفى بإيقاف القطار قليلا قبالة ذلك الصيوان، لكي تتمكن الجماهير الغفيرة، المزدحمة هناك، من استجلاء منظر وجهه البهي، والقيام بفروض الدعاء له.
ثم سار إلى الإسكندرية ونزل في سلاملك رأس التين الذي كان قد أقام فيه.
وفي اليوم التالي، وكان يوم الجمعة سابع عشر أبريل، صلى السلطان الصلاة الجامعة، بأبهة وجلال عظيمين، خارجا وراجعا منها، ممتطيا فرسا ضليعا أصيلا، في موكب تحف به فخامة وعظمة، يزيد في كمال مظهرهما ما في لباس عبد العزيز من البساطة، وكان عبارة عن كسوة إفرنجية تزين صدرها أنسجة حمراء فقط؛ وليس على طربوشه أية علامة تميزه عن غيره؛ بينما ملابس أمراء بيته ووزرائه وكبار رجال حاشيته موشاة بالمذهبات الساطعة؛ محلاة بالنياشين اللامعة.
وبعد الفراغ من صلاة الجمعة، والإحسان بجانب عظيم من النقود على فقراء الإسكندرية، وخدمة مساجدها، عاد عبد العزيز إلى سراي رأس التين، وتناول طعام الغداء، ثم استراح قليلا، ريثما انتصفت الساعة الثالثة بعد الظهر.
حينذاك نزل هو وأمراء بيته وكبار دولته ورجال مابينه، يرافقهم (إسماعيل باشا) وأمراء بيته وكبار دولته، في الزوارق المعدة لهم، فذهبت بهم إلى اليخت السلطاني «فيض جهاد» وسفن الأسطول المرافقة له، بينما كانت الطوابي والبواخر الراسية في البوغاز (ومن ضمنها المركب الإيطالية المسماة ڨيكتور عمانويل، المرسلة من قبل ملك إيطاليا الملقب بالملك الحلو الشمائل، لتشترك في تعظيم الخاقان العثماني) وقلاع الساحل لغاية المكس والعجمي من جهة؛ ولغاية سيدي بشر وأبي قير من الجهة الأخرى، تطلق مدافعها تحية وإجلالا؛ وبينما الجماهير يكتظ بها الشاطئ وهي هاتفة مهللة! فصعد السلطان إلى يخته يصحبه (إسماعيل) وصعد باقي الأمراء إلى سفنهم؛ وأخذت المراكب تستعد للرحيل.
فتقدم (إسماعيل) إلى توديع عبد العزيز، فقال له السلطان: «إني أعيد لك تشكراتي القلبية على ضيافتك البهية لي ولآل بيتي، وأؤكد لك أني لن أنسى زيارتي لهذه الديار ما حييت؛ وأؤمل أن الشعب المصري، بفضل عنايتك واهتمامك وغيرتك على مصالحه، سيزداد رخاء وسعادة، وإني في كل سانحة سأشمله بتعطفاتي هو وأميره الجدير بها».
فانحنى (إسماعيل) وشكر وأثنى، ثم أذن له السلطان بالانصراف، فنزل إلى زورقه، وأخذت السفن العثمانية تبتعد رويدا رويدا عن الأرض المصرية، والأرض المصرية ترتج ارتجاجا في توديعها، حتى توارت عن الأبصار!
هكذا انقضت الزيارة السلطانية للقطر المصري! وهكذا مرت أيامها العشرة البهية! ولم يبق أثر منها في البلاد، بعد ذكراها، سوى اسم (عبد العزيز) الذي أطلق على أحد شوارع العاصمة، إحياء لتلك الذكرى؛ وسوى النياشين؛ والألقاب والرتب التي فاضت بها التعطفات السلطانية على كبار الموظفين المصريين!
أسفا! هل كان يدور في خلد الأمراء، عائشى تلك الأيام وأعيادها، أن الأقدار ستنسج، لكل منهم، خيوط مأساة سوداء: فلا تمضي أربع عشرة سنة إلا ويتدهور عبد العزيز عن عرشه الرفيع إلى سجن ضيق، لا تلبث أيدي الإثم، أياما، إلا وتسلبه الحياة فيه، بقص شرايين ذراعيه واستصفاء دمه - ولا يرفع مراد على الأكف سلطانا، إلا ليزج به في حبس انفرادي، يوافيه الموت الخفي فيه بعد ثلاثين سنة، وليس بين الرفع والسقوط إلا ما يوشك أن يكون طرفة عين! - ثم لا تمضي ست عشرة سنة وبضعة أشهر إلا ويصدر أمر عبد الحميد بخلع الخديو الأول (إسماعيل) عن عرش مصر السني؛ فيخرجه إلى منفى، مر مذاقه؛ وحياة معكرة أيامها، بعد الإقامة على أوج العز الأقعس، وفي نعيم الحكم المطلق، والرخاء غير المحدود! ولا تمضي خمس وأربعون سنة إلا وتثل ثورة عسكرية عرش عبد الحميد عينه وتخرجه بدوره ليذوق حرقة السجن ومرارة المنفى، وألم التسيير، قسرا، من حبس إلى حبس؛ ومن اعتقال سري إلى اعتقال سري؛ ويموت، أخيرا، موت صعلوك، لا يكاد أحد يلتفت إليه، كأنه لم يكن السلطان الرهيب، الذي لبثت ترتعد الفرائص، ثلاثة وثلاثين عاما، لدى ذكر اسمه! ولا تمضي إحدى وخمسون سنة إلا ويرى رشاد نفسه وقد كان سجنه أخوه عبد الحميد ثلاثا وثلاثين سنة، بعيدا عن كل مظاهر العالم، لا يدري ما فيه، حتى إذا جاءت الثورة العسكرية، وجدته شيخا هرما؛ فأخرجته من حبسه وهو لا يكاد يصدق؛ وأجلسته على عرش أجداده، وهو كأنه في منام، أميرا للمؤمنين مدخلا رغم أنفه في الحرب العالمية العظمى بعد أن داهمته، مرغما أيضا، الحرب الطرابلسية وحرب البلقان: فيرى أنه لم يرتق عرش أجداده إلا وقد جرد هذا العرش من كل ديباج وخز؛ وأصبح سريرا خشبيا، كله شظايا تجرح الجسم، وأشواك هموم واخزة تحيط بالجالس عليه، بدلا من أزهار اللذات السالفة! ولا تمضي اثنان وخمسون سنة إلا وتقتل يد أثيمة، صبرا وغدرا، يوسف عز الدين، ذلك الذي كان في تلك الأيام شابا في مقتبل ربيع حياته، وكانت الدنيا تبتسم له ابتساماتها كلها في ظل سلطة أبية العليا ومقامه الأرفع! ...
ألا أف للدنيا! ما أكذب مظاهرها! وما أقصر حياة سرورها ولذاتها!
على أن (إسماعيل) لم يدع فرصة تلك الزيارة السلطانية تمر، دون أن يحاول الانتفاع منها لتقديم أمنياته في سبيل تحقيقها.
فاستهواء لنفس عبد العزيز وحملا لها على مساعدته في المستقبل، كل المساعدة الممكن توقعها، لم يكتف بما بذله له بسخاء فائق، من مسببات الارتياح والسرور، وبأخذه على نفقات جيبه الخاص، كل المصاريف التي عن لضيوفه صرفها، وهم في ضيافته؛ بل بالغ في تقديم الهدايا والتحف الفاخرة وتنويعها، حتى ملأ بها سفينة برمتها، لعبد العزيز عينه، ولأمراء بيته السلطاني، وكبار رجال دولته، وزود فؤاد باشا، الصدر الأعظم، وقت فراقه، بمبلغ ستين ألف جنيه ليجعله عونا له، وطوع بنانه.
فسافر السلطان من مصر، وهو في حال نفسية تجعله مستعدا لقبول أي طلب يقدمه (إسماعيل) إليه، إذا كان مشفوعا بما يجعل الطلبات كلها مقبولة في الأستانة، ومثل (إسماعيل) لم يكن ليجهل الوسيلة.
فما أقلع الأسطول العثماني من ثغر الإسكندرية، وعاد الوالي إلى عاصمة دياره، إلا وأقبل بكل ما في وسعه على تحقيق الخطة التي رسمها لنفسه.
الجزء الثالث
رابعة النهار
الباب الأول
تحقيق الشطر الأول منها1
العمل على تحقيق الخطة المرسومة
إجمال
فليدخل مصر بصراحة في مضمار المدنية الحديثة، ويسير بها، بعزم ثابت وقدم راسخة ، في طريقها، وفي جميع تشعبات هذا الطريق، أوجد في أعمال القطر، على اختلاف أنواعها، روحا جديدة، أصلحت إدارته، وكيفتها تكييفا، من شأنه ضمانة دوام تطور البلاد الاجتماعي - ووسعت نطاق الزراعة بتوسيع نطاق الري، وتنظيمه، وتكثير طرق المواصلات، وترتيبها وتوزيع الضرائب توزيعا عادلا - وفتحت أبواب التجارة والصناعة والعمل واسعة، أمام مجهودات الجميع: فأحيت، بذلك كله، مالية البلاد؛ وضاعفت إيراداتها وصادراتها - وأنعشت التعليم بعد مواته؛ وعممته؛ ونوعته؛ ورقته، حتى جعلته كفيلا بأن يكون التطور الاجتماعي المستمر، متجها على الدوام، نحو الحسن والمفيد، بالرغم من كل عقبة تعترضه وعثرة تعتور سبيله - وأدخلت، في نهاية الأمر، على الحياة الاجتماعية المصرية، تغييرات أساسية، جعلت بقاءها على جمودها القديم أمرا في منتهى التعذر؛ وأوجبت تحركها من عقالاتها القرنية نحو بيئات جديدة وعقلية حديثة.
وبما أن هذا الإجمال قد يقع لدى جاهلي تاريخ (إسماعيل) ولدى المتحاملين عليه تحاملا مبنيا على مجرد ما سمعوا عنه من أفواه قادحيه، موقع الاستنكار، إن لم نقل موقع السخرية، فإنا لا نرى بدا من تفصيل ما أجملنا تفصيلا تاما، إظهارا للحقائق.
الفصل الأول
إصلاح الإدارة1
مصر بلد، إذا حسنت الإدارة فيه، أكل العامر الصحراء.
وإذا ساءت الإدارة فيه، أكلت الصحراء الأرض العامرة!
نابليون الأول
كانت مصر، في مدة المماليك الأخيرة، تنقسم إلى خمسة عشر إقليما: تسعة منها في الوجه البحري وهي: البحيرة، ورشيد، والغربية، ومنوف، ودمياط، والمنصورة، والشرقية، وقليوب، والجيزة، وثلاثة في مصر الوسطى وهي: إطفيح، والفيوم، وبني سويف، وثلاثة في مصر العليا وهي: أسيوط، وجرجا، وقوص (طيبة).
وكان على رأس كل إقليم أمير مملوك يقال له: الكاشف، ومرجع الكل إلى الأمير المملوك المدعو «شيخ البلد» المقيم في القاهرة، والذي كان حاكم القطر الحقيقي، بالرغم من وجود وال عثماني بالقلعة، يرسل من لدن القسطنطينية كلما عن لرجال الحكم هناك أن يعزلوا سلفه، أو كلما أرسل «شيخ البلد» إليه رسوله، المعروف عند أهل مصر بلقب «أبي طبق» لينذره بعزله بأن يقول له: «انزل يا باشا».
وقد حافظ بونابرت على هذا التقسيم.
فلما استتب الأمر لمحمد علي عدله، وروى كلوت بك أن القطر المصري كان في سنة 1840 منقسما إلى سبع مديريات فقط؛ منها أربع في الوجه البحري وهي: البحيرة، والمنوفية، والدقهلية، والشرقية، علاوة على محافظتي الإسكندرية ومصر، وواحدة في مصر الوسطى وهي: بني سويف والفيوم معا؛ واثنتان في الصعيد وهما: المنيا، وإسنا.
وقسم (محمد علي) كل مديرية إلى عدة مراكز، وكل مركز إلى عدة أقسام، وكل قسم إلى عدة نواح، فبلغ عدد المراكز في تلك السنة أربعة وستين، وعدد الأقسام ثلاثمائة ونيفا، وعدد النواحي ثلاثة آلاف وخمسمائة.
وأغرب ما في التقسيم، الذي قال عنه كلوت بك أن الجيزة كانت جزءا من البحيرة؛ والغربية جزءا من المنوفية؛ وأن العريش كان تابعا للدقهلية؛ والقليوبية تابعة لمصر.
و(محمد علي) أول من سمى رئيس المديرية «مديرا»، ورئيس المركز «مأمورا» ورئيس القسم «ناظرا»، وأما رئيس الناحية فما فتئ اسمه «شيخ بلد» منذ القدم.
وأوجد في كل ناحية، بجانب شيخها، مستخدما سماه «الخولي» وظيفته مراقبة الزراعة ومسح الطين؛ وآخر يقال له: «صراف» لجمع الأموال وتوريدها للمأمور؛ وثالثا يقال له: «الشاهد» وهو المأذون من قبل القاضي للحكم في قضايا الأحوال الشخصية، وتحرير عقود الزوجية وغيرها.
وكان مرجع شيخ البلد إلى الناظر؛ ومرجع الناظر إلى المأمور؛ ومرجع المأمور إلى المدير؛ ومرجع المدير إلى ديوان الداخلية. على أن كل مأمور كان مكلفا ككل مدير برفع تقرير أسبوعي عن أعماله وإجراءاته إلى ذلك الديوان عينه ليقف هذا على مجريات الأمور.
أما المديرون فكانوا كلهم أتراكا أو مماليك من مماليك الباشا العظيم، وأما المأمورون فقد اجتهد (محمد علي) في جعل معظمهم من أبناء مصر دون أن يبالي بكونهم مسلمين أو أقباطا، وكذلك نظار الأقسام.
لكن التجربة لم تفلح، لسببين:
الأول: هو أن المصريين، في تلك الأيام، بالنسبة لوجود معايب الشعوب المستعبدة زمنا طويلا، ونقائصها فيهم، لم تكن لهم ذاتية، ولم يكونوا أكفاء للإمرة، فكان المقلد منهم سلطة يستبد بمن كانوا إخوانه بالأمس استبدادا فاحشا، مع خنوعه أمام رؤسائه خنوعا شائنا.
والثاني: هو أن هيبة الأتراك ، بالرغم من أن الجيش المصري كسر أولئك العتاة الذين استعبدوا المصريين أجيالا وقرونا، كانت لا تزال متأصلة في نفوسهم تأصلا عظيما: فكان مأمور المركز، أو ناظر القسم المصري يقف محتشما أمام قواصه التركي ذاته احتشاما فائقا؛ فما بالك في حضرة ملتزم من الملتزمين الأتراك، أو حضرة ذي حيثية من رجال ذلك العنصر القاهر؟
وكان (محمد علي) عينه، بالرغم من كل مجهوداته لرفع درجة العنصر الفلاح المصري إلى مستوى درجة العنصر التركي، لا يستطيع - لأن تربيته الأصلية تركية وشعوره تركي محض - أن يحمل نفسه على تقدير فلاحي مصر أكثر من الأتراك، والركون إليهم في المهمات أكثر من ركونه إلى أبناء جنسه، ولا أدل على استمرار الشعور التركي حيا فيه حياة قوية، بالرغم من تعشقه مصر وامتلاء قلبه بحبها، وبالرغم من اشتباكه مع تركيا في حرب كان يلعب فيها بعرشه، بل بذات حياته وحياة أولاده، من الجواب الذي أجاب به ذات يوم وجيها من الغربيين أقبل يهنئه بالانتصارات التي أحرزها جيشه المصري على الجيوش التركية، ويكيل الثناء جزافا لأبناء مصر البواسل، المقاتلين بفوز مستمر، فوق ربوع الشام وبطاح الأناضول، فإن (محمد علي) قطع عليه كلامه قائلا: «لا تنس، يا صديقي. أن الذين يفوزون في المعارك إنما هم الضباط لا الجنود، وأن ضباط الجيش المصري كلهم أتراك».
2
وأما مشايخ البلاد فكانوا من الفلاحين، طبعا، وكذلك الخوليون، والصيارفة - وهؤلاء كانوا كلهم أقباطا - والشهاد .
وكان الكل مأجورين تتناسب مرتباتهم مع أهمية وظائفهم، ويرتدون ملابس عليها شارات تلك الوظائف، فشيوخ البلاد كانوا يتقلدون وساما من فضة، ونظار الأقسام وساما ذهبيا، والمأمورون وساما من ماس، وأما المديرون فكانوا بكوات أو باشاوات من أصحاب الرتب العسكرية السامية يتقلد كل منهم كسوة رتبته.
وجعل (محمد علي)، على رأس الإدارة، عدة دواوين للنظر في شئونها المختلفة، كديوان الداخلية وديوان الحربية، وديوان البحرية، وديوان الخارجية، وديوان التجارة، وديوان المعارف العمومية، وديوان الزراعة، وديوان الصحة، وهلم جرا، وجعل فوقها كلها المجلس الخاص، الذي كان هو نفسه يرأسه، تعرض عليه كل الأمور، صغيرها وكبيرها، ليطلع عليها ويبدي رأيه فيها، وكان يدعى «ديوان المعونة» للدلالة على ماهيته.
وكان، إذا أراد الإقدام على أعمال كبرى في الزراعة، أو على أشغال ذات منفعة عمومية هامة، يجمع المديرين في أحد تلك الدواوين ويعرض المشروع عليهم ويأخذ رأيهم فيه، فإذا وافقت أغلبيتهم عليه نفذه؛ وإلا انتدب مخصصين يعيدون بحثه، ويستصفون خلاصته.
فلما آلت الأحكام إلى عباس باشا، أغمض عينيه عن سير الإدارة في الطريق الذي اختطه (محمد علي) لها؛ ورأى، مع تجرده عن الرغبة في فحص الأمور بنفسه، أن يحل هواه محل نظر الدواوين: ففتح أمام الجاسوسية مجالا تطرق منه الخلل إلى العمل؛ وأدى، بعد زمن قليل، إلى تعطيله، واستتباب استبداد الحكام، لا سيما كبارهم، بالرعية استبدادا فاحشا.
فهال الأمر محمد سعيد باشا، بعد توليته بقليل؛ وكبر عليه شقاء الأهلين! ولكنه لم ير إصلاحا يقدم عليه، خيرا من إلغاء وظائف المديرين - لأنهم كانوا، في نظره، جرثومة ذلك الاستبداد وقرومته - وجعل ديوان الداخلية يشرف رأسا على أعمال المأمورين ونظار الأقسام: فزاد الطين بذلك بلة، وأضر، بالرغم من حسن نياته، من حيث أراد أن يفيد.
فلما استلم (إسماعيل) زمام الأمور، وتجلى أمام ذكائه الاختلال الشائن الذي أوجدته في نظام الإدارة روح عباس الظنانة شرا وروح سعيد المتطلبة خيرا من غير تبصر، رأى أنه لا بد له من إصلاح عام يدخله على ذلك النظام سريعا، ليكون قاعدة لكل إصلاح تال .
فقسم القطر إلى ثلاثة أقسام كبرى: البحري، والمتوسط، والصعيد، وقسم هذه الأقسام الثلاثة إلى أربع عشرة مديرية وثمان محافظات.
3
فمن المديريات سبع في الوجه البحري وهي: الجيزة، والبحيرة، والقليوبية، والشرقية، والمنوفية، والغربية، والدقهلية، وثلاث في الإقليم المتوسط وهي: بني سويف، والفيوم، والمنيا، وخمس في الصعيد وهي: أسيوط، وجرجا، وقنا، والقصير، وإسنا.
أما المحافظات الثمان فهي: العاصمة، والإسكندرية، ودمياط، ورشيد، والعريش، وبورسعيد، والسويس، وسواكن.
وحافظ على تقسيم المديريات إلى مراكز، والمراكز إلى أقسام، والأقسام إلى نواح، وقسم محافظتي العاصمة والإسكندرية إلى أقسام، جعل كل قسم منها يضاهي مركزا في المديريات، وأنشأ وظائف مفتشين ورؤساء مفتشين للأقاليم، كان، فيما بعد، أعظمهم شهرة وأكبرهم شأنا إسماعيل باشا الذي عرف «بالصغير» و«المفتش»، وسلطان باشا، وعمر باشا لطفي.
وعهد برياسة النواحي إلى عمد بدلا منها إلى مشايخ، وجعل هؤلاء مساعدين لأولئك في أعمالهم، وفوض إلى أهالي كل ناحية أمر انتخاب عمدتها ومشايخها، وأبقى الصيارفة والمأذونين، ولكنه ألغى وظائف الخوليين: لأنه لم يعد من سبب لوجودها، بعد أن منح محمد سعيد باشا حق امتلاك أترية الأطيان، وحق زراعتها كما يشاءون، وأبقى مرجع الإدارة كلها إلى وزارة الداخلية.
وكان محمد سعيد باشا قد حول بعض دواوين أبيه كالداخلية والمالية والحربية إلى وزارات؛ وعهد في الأولى إلى الأمير أحمد باشا رأفت؛ وفي الثانية إلى مصطفى باشا فاضل؛ وفي الثالثة إلى الأمير حليم باشا، فحول (إسماعيل) باقي الدواوين الكبرى - كالبحرية، والخارجية، والأشغال، والمعارف - إلى وزارات كذلك، وأنشأ في أوائل سنة 1865 وزارة جديدة دعاها «وزارة الزراعة» ضمها إلى وزارة الأشغال، وعهد فيهما، معا، إلى نوبار باشا، مكافأة له على فوزه في مسألة قناة السويس التي سيأتي الكلام عنها.
غير أن أعظم تحسين أدخله على الإدارة إنشاؤه هيئات نيابية في المراكز والمديريات قصد منها أن يعلم الأمة، بإشراك وجوهها ونوابغها مع حكامها في أعمالهم الإدارية، كيفية الوصول إلى حكم نفسها بنفسها.
فأقام، لهذا الغرض، في كل مركز، مجلسا إداريا يستشير المأمور أعضاءه في إنجاز الأعمال المركزية؛ وأقام، حول كل مدير ، مجلسا محليا ينتخب الأهلون أعضاءه ليكونوا أعين المدير ومستشاريه، وليضربوا على تجاوزات مشايخ البلاد وعمدها.
4
وكان قد اضطر، في بادئ الأمر، إلى اتخاذ المديرين كلهم من العنصر التركي، لعدم وجود أكفاء من أولاد العرب للقيام بمهام تلك الوظائف الخطيرة، ولكنه - مع تقادم أيام ملكه، وإخراج المدارس المصرية وسلوك الإدارة رجالا يعتمد عليهم من أبناء البلاد، وبما أن الحوادث التي تلت أظهرت عدم كفاءة الأتراك للإدارة، بالرغم من كفاءتهم غير المنكورة للإمرة والحكم - أخذ يستبدل المديرين الأتراك بمديرين من المصريين الصميمين، رويدا رويدا، حتى أصبحت معظم مديريات القطر مرءوسة في سنة 1877 بمديرين من أبناء البلاد، بالرغم من أن هيبة الأتراك، من جهة، كانت لا تزال كبيرة في نفوسهم؛ وأنه كان يخشى أن تحملهم هذه الهيبة في معاملاتهم الإدارية مع كبار رجال العنصر التركي الخاضع لحكمهم، على خور في العزائم، قد تنجم عنه مضار للمصلحة العامة؛ وبالرغم من أن هيبة الحاكم المصري، من جهة أخرى، لم يكن لها أصل في نفوس إخوانه المصريين، لا سيما أهله وذويه وبلدييه؛ وكان يخشى أن تحمله ألفتهم على تهاون في واجباته، يخل إخلالا بالغا في تلك المصلحة العامة عينها.
ويروى، للدلالة على هذين الأمرين معا، أن وجيها من وجهاء الصعيد عين مديرا للمديرية التي فيها بلده؛ فوجد من ملازمة أهله ومعارفه له وجلوسهم معه، بدون أقل تكلف، في حجرته الرسمية الخاصة به، وتضييعهم وقته عليه في محادثات لا طائل تحتها، أو لا تهم سواهم من الناس، ما رأى، معه، مهابته مفقودة في أعين مرءوسيه والأهالي معا، وما غصت به روحه، ولكنه لم يجد من نفسه القوة الأدبية الكافية لإيقافهم عند حدهم، فأوعز إلى قواصه التركي - وكان ألبانيا، عالي القامة ضخم الجثة، ذا شاربين كشاربي عنترة وأبي زيد في صورتيهما المتداولتين بين أيدي الناس - أن يدخل يوما، فجأة، على أولئك الأهل والمعارف، عندما يراهم جالسين في حجرته الخاصة؛ ويزجرهم ويطردهم من حضرته، عساهم يرتدعون.
فامتثل القواص للأمر من الغد؛ ودخل على جمع بلديي المدير الملازمين له في غرفته، وقد فتل شاربيه الكثيفين حتى مس طرفاهما أذنيه؛ وحملق عينيه حملقة مروعة، وهجم عليهم صارخا بصوت مخيف: «يلا! سكتر! كرتا! فلاح أدپسيز!» فذعر الجمع وارتعدت فرائصهم، وما هي إلا لحظة وقد أخلوا المكان مهرولين يتسابقون ويتدافعون إلى الباب؛ ولكن المدير كان أولهم هروبا، لشدة ما وقع في نفسه من هيبة قواصه وهول منظره وصورته.
5
وتوج (إسماعيل) إصلاحه الإداري بإقدامه على إشراك الأمة المصرية معه في الحكم وتحقيقه، في إنشاء مجلس نيابي، الفكرة التي دارت في خلد جده، الباشا العظيم، ولم تمكنه الأيام من إخراجها إلى حيز العمل.
6
فبسط في أواخر سنة 1864، رغبته في استدعاء أكابر التجار والأعيان والمزارعين إلى جمعية عمومية، تطلع على حال البلد المالية، ويناط بها أمر المناقشة في الضرائب وتحديدها وتقريرها ثم توزيعها توزيعا عادلا.
وفي أوائل سنة 1866 نفذ تلك الرغبة، ومنح القطر هيئة نيابية، وضع لها قانون انتخاب في منتهى الحكمة والسماحة؛ حتى لقد قال فيه بعض كتاب الفرنج «إنه يصلح لأن يكون نموذجا وقدوة لعموم الأقطار بلا استثناء؛ وإنه لخليق بأن يحسد العالم المتمدين مصر عليه»، وجعل اختصاصات تلك الهيئة واسعة؛ ومداولاتها نافذة في الأمور المالية والإدارية؛ واستشارية، خليقة بالعمل بها، متى كانت صائبة، في الأمور التشريعية.
وفي 25 نوفمبر من السنة عينها افتتح أول جلساتها بحفلة شائقة، تلا فيها بنفسه خطابا وجيزا فصيحا، أظهر فيه للنواب الغرض من اجتماعهم؛ وطلب إليهم مساعدة حكومته على تنفيذ الأشغال العمومية المفيدة الجارية في البلاد؛ وتحديد مواعيد سنوية لجباية الأموال؛ وأحاطهم علما بما تم، في ذلك العام، من تعديل نظام إرث العرش المصري، والموجبات التي ألزمته، والنفقات والتعهدات التي استلزمها وسيأتي بيان كل ذلك في حينه.
فكان - مع أنه شرقي - أول عاهل، بعد كارلو البرتو دي ساڨويا، ملك سردينيا، روى التاريخ عنه، أنه تنازل، عن طيبة خاطر وبمجرد إرادته، عن جزء من سلطته المطلقة، ومن ميزات تاجه الملكي؛ وأول عاهل أعاد إلى أمته جانبا من السلطة التشريعية المستمدة، في الحقيقة، منها، فسبق، في هذا المضمار، موتسو هيتو، ميكادو اليابان المجيد الطائر الصيت؛ ومظفر الدين خان، شاه العجم الممدوح الذكر!
وإنا، إذا وعينا تماما أن إنجلترا نفسها، العريقة في الأحكام الدستورية، لم تنل مزية هذه الأحكام إلا بعد أن قاتلت عليها، مدة ملكها (يوحنا العديم الأرض)، أخا ريكاردوس قلب الأسد؛ وأنها أضرمت، لاستعادتها والمحافظة عليها، نيران ثورتين؛ وثلث عرشين، أغرقت قوائم أولهما في دم تشارلز الأول الستيورتي الجالس عليه؛ وأنه ما من أمة في أوروبا، إلا وكابدت في سبيل الحصول على تلك المزية أجسم المشاق، وأهرقت أزكى دماء نبلاء الشعور والأفهام من أولادها؛ وأن الصحافة العالمية استنفدت كل كلمات الشكر والثناء ، في تحبيذ عمل ميكادو اليابان وشاه العجم المذكورين حينما تم، أدركنا مقدار ما يستحق عمل (إسماعيل) من إعجاب؛ وما هو خليق به من مدح جزيل!
ولا يضيره ما أخذه عليه بعض الكتاب من أن الهيئة النيابية التي جاد بها على بلاده لم تكن - لجهل معظم أعضائها المطبق، ولثقل ظلم ستين قرنا على عواتقهم - تستطيع تقدير المنحة المجود بها حق قدرها، ولا استخدام الآلة الموضوعة بين يديها استخداما حسنا؛ وأنها اعتقدت من واجباتها أن ترى أنها ملتئمة للتصديق، فقط، على رغائب «ولي النعم».
فإنه إذا صدقت الرواية الزاعمة أن النواب - حينما أفهمهم شريف باشا وزير الداخلية في تلك السنة، أن المجالس النيابية الأوروبية منقسمة دائما إلى حزبين: حزب يعضد الحكومة، وحزب يعارضها ويقاومها؛ وأنه يجدر بهم، والحالة هذه، أن ينقسموا أيضا إلى حزبين: حزب مع الحكومة، وحزب عليها، فيجلس رجال حزب الحكومة على مقاعد اليمين، ورجال حزب المعارضين لها على مقاعد اليسار - تسابقوا جميعهم إلى مقاعد اليمين، هاتفين: «إنا كلنا عبيد أفندينا، فكيف نكون مقاومين لحكومته؟»
7
وإذا صح ما تزعمه الليدي (دف جوردون) في مراسلاتها من أن أحد المنتخبين قال لها: «إنا، معشر النواب، إنما نحن ذاهبون إلى مصر، وقلوبنا في جزمنا؛ لأنه، إذا كان أحدنا لا يستطيع أن يجاوب المدير، على أي أمر يصدره إليه، مهما كان جائرا، سوى بعبارة «حاضر! على عيني ورأسي!» أفتريدين أن نجسر على مقاومة إرادة أفندينا، الذي يملك أعناقنا؛ وحق التصرف في أعمارنا؛ ويستطيع في أي وقت يشاء أن يخسف الأرض تحت أقدامنا، ويقطع خبرنا في أقاصي الفازوغلي؟»
8
وإذا صح أن خوف الأهلين من المديرين ومن معاداتهم جعلهم يفرون من الانتخابات؛ وأن هذه - بالرغم من القانون الجميل الموضوع لها - لم تجر إلا بالقوة القاهرة، وطبقا لرغائب أولئك الحكام؛ وإذا صح أخيرا أن النواب كانوا، في أول جلوسهم على كراسيهم، متهيبين لا يدرون ماهي واجباتهم؛ فإنه يجب أن لا يغيب عن الأذهان ثلاثة أمور:
الأول:
أن (إسماعيل) كان يعلم حق العلم أن هناك أقلاما أوقفها أعداؤه على تسوئة سمعته وتسويد صحيفة أعماله؛ وإظهار كل الإصلاحات التي يقدم عليها كأنها مجراة لا لرغبة حقيقية فيها، وابتغاء للفائدة التي تعود منها على البلاد؛ ولكن لذر الرماد في أعين الدول الغربية؛ وحمل العالم المتمدين، على الاغترار بالطلاء واعتباره مجرى تلك الإصلاحات من أعاظم رجال القرون و«أكبر حاكم وجد على رأس مصر الإسلامية منذ الفتح العربي»؛ كما كان يقول محبوه والمغمورون بأفضاله من أصحاب الجرائد الفرنساوية والإنجليزية والإيطالية الكبرى في بلادهم، وكان يعلم أن الواقفين على نوع عقلية الأمة المصرية وماهيتها، في تلك الأيام، قد يسخرون بمنحته، ويستنكرونها، حتى فيما لو اعتبروها صادرة عن إخلاص حقيقي في حب البلاد، ورغبة صادقة في رقيها؛ وأنه، مع ذلك، لم يخف طعن الطاعنين المتحاملين؛ ولم يخش استهزاء المستهزئين، في سبيل السير بأمته في معارج المدنية الحديثة، والنهوض بها إلى مستواها بأية وسيلة يراها مجدية نفعا.
الثاني:
أن أي عمل إنساني كان يراه الوقت الحاضر سخيفا هزأة، قد لا يلبث، مع مرور الأيام عليه وهو قائم، أن يكسبه الزمان حلة من الكمال، ويحوطه بهالة من الجلال، لا تجعلانه كبيرا في العيون، فقط، بل مثمرا ثمرا شهيا، وأن خير معبر عن هذه الحقيقة، ما قاله ذلك النبيل الفرنساوي الذي منحه نابليون الثالث لقب شرف كان لأعرق الأسرات الفرنساوية قدما، واندثر باندثارها، وهو: «إنه ليخجلني، حقا، أن يلقبني عارفي بالدوق دي مونمورانسي: لأنهم يعلمون أني لست من هذه الأسرة، ولكني متأكد أنه لن تمضي خمسون سنة إلا ويكون الملأ قد نسي من منح بيتي هذا اللقب ومتى منحه؛ فيعتبرونه، في أحفادي، إرثا عن أسرته القديمة؛ ويصبح مصدر فخار لهم: لأن الزمان يقدس كل شيء».
9
ومن يعلم أن شريف باشا ذاته - الذي رأى النواب الأولين يتسابقون إلى مقاعد اليمين، لكيلا يعتبروا من حزب المعارضين للحكومة - أصبح، فيما بعد، من أشد الناس تمكسا بالهيئة النيابية بمصر، ومن أكبر أنصار الحكم الدستوري، حتى إنه فضل اعتزال الأحكام في أوائل حكم توفيق على توليها، ولا هيئة نيابية فيها
10
من يراجع، بعد ذلك، تاريخ الحركة الفكرية النيابية بالقطر المصري في نصف القرن الذي تلا افتتاح أول مجلس نيابي فيه، ويقف على مقدار تطور العقلية فيها، يدرك إدراكا تاما مقدار الحكمة المستكنة في قول ذلك النبيل الفرنساوي؛ ويتمكن من الوقوف على التطور الاجتماعي الذي أوجبته، على ممر الأيام، منحة (إسماعيل): فيقدرها تقديرها الحق، ولا يبخل على صاحبها بالثناء والشكر اللذين يستحقهما.
الثالث:
أنه لم يمض على تشكيل ذلك المجلس بضعة أعوام، إلا وأنجب نوابا عن مصالح الأمة حقيقين بهذا الاسم؛ ولو أن عددهم لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة؛ نوابا لم يروا أن مهمتهم تنحصر كلها في التصديق على أعمال الحكومة وتحبيذها، لم يخافوا التصدي لمعارضتها ومناقشتها الحساب؛ بالرغم من علمهم أنها إنما تنطق بلسان الأمير وتعبر عن إرادته، ومع ذلك، فإن التاريخ لا يذكر أنهم أصيبوا بسوء بسبب حرية ضمائرهم وألسنتهم، ولو أن بعض ذوي الأمر امتعضوا منها، وهددوا أصحابها بضر إن لم يصمتوا.
الفصل الثاني
توسيع نطاق الزراعة والري والمواصلات1
الزراعة حياة مصر؛ والري روح الزراعة؛ والمواصلات من البلد كالشرايين من الجسد.
كهنوت مصري قديم
من المعلوم أن (محمد علي)، في أوائل سني ملكه، أي ما بين سنة 1808 وسنة 1814، مقابل ترتيبه إيراد سنوي، لحاملي حجج الأطيان المصرية، يوازي إيرادها السنوي المعتاد، استولى على جميع هذه الأطيان، بما فيها أطيان ديوان الأوقاف ورزق المساجد - ما عدا «الوسيات» - وهي أطيان تخلفت للنواحي عن فلاحين ماتوا بدون وريث؛ أو تنازل عنها أصحابها الفقراء، لعدمهم، إلى ملتزم الناحية مقابل مبلغ يسير من النقود؛ فأصبح الملتزم يزرعها لحسابه، نظير دفعه مالا سنويا للميري، ليمكنه من القيام ببعض نفقات في المصلحة العامة كتطهير الترع وصيانة السواقي، وما لبث الملتزم، بعد عهد قليل، أن امتنع عن دفع ذلك المال، مع احتفاظه بالوسية؛ كما فعل البطريقيون «بالأجر العام» في جمهورية روما القديمة، فحقق (محمد علي)، بذلك التملك، الحلم الذي رآه في صباه، وهو في قوله، إذ نظر نفسه يشرب كل ماء النيل، ليروي ظمأ اعتراه، ولا يرتوي.
ومن المفهوم ، بداهة، أنه إنما استولى على جميع أطيان القطر، لا لطمع أو جشع في أملاك الغير؛ ولكن لسببين: الأول رغبته في إدخال أصناف مزروعات جديدة على الزراعة المصرية المعاصرة له (كالقطن، والكتان، والأفيون، والنيلة والتوت إلخ)، من شأنها زيادة الثروة العمومية، وإنماء رخاء البلاد؛ وعلمه أن جمود الفلاحين المصريين في الاقتصار على أنواع المحصولات القديمة يحول دون تحقيق رغبته. والثاني تصميمه على احتكار تجارة القطر عامة، ظنا منه أن في ذلك مصلحة البلاد؛ لاعتقاده أنه يدري من أساليب التجارة وضروبها ما لا يدريه الفلاحون؛ وإراداته، والحالة هذه، أن يتمكن من زرع ما يشاء، أنى يشاء، وبأية كمية يشاء.
فأدخل، الأصناف الجديدة، التي كان راغبا فيها، على زراعة البلاد؛ وتصرف في زرعها التصرف الذي رآه مناسبا لمصلحته ومفيدا لتجارة القطر، فأكثر، مثلا، من زراعة أصناف المستعمرات (كالقطن وأمثاله) في الوجه البحري، حتى كاد يجعل زراعة هذا الإقليم كلها قاصرة عليها، وخص الصعيد بزراعة الغلال والحبوب.
وكيلا تحرم مصر الاستفادة حتى من الأطيان البائرة، أنعم بعد سنة 1830 بأكثر من مائتي ألف فدان منها على كبار أتراكه؛ وأعفاهم من دفع ضريبة ما عليها مدة تتراوح بين ست وعشر سنين؛ على شرط أن يحيوها ويزرعوها، وقد عرفت هذه الأطيان باسم «الأبعاديات» أو «الأباعد»، وأكثر (محمد علي) فيما بعد من الإنعام بها على المخلصين في خدمته من رجاله الأمناء، بصفة مكافآت لهم على أعمالهم التي أحرزوا بها رضاه؛ ورغبة منه في إنماء المساحة الصالحة للزرع في القطر المصري.
وقد اقتدى به في الاعتناء بالزراعة، بل فاقه تفننا في أساليبها، ابنه إبراهيم باشا: فإنه، على كونه جنديا أكثر منه رجل زراعة، ما كاد يقتني الأطيان الشاسعة بالقطر إلا وأدرك، أكثر من كل مزارع، مقدار الخيرات التي يمكن للأرض المصرية أن تدرها، إذا بوشرت زراعتها على حسب الأصول الفنية.
فأقبل يشتغل بمنتهى الذكاء والتفنن؛ وأدخل تحسينات جمة على الطرق الزراعية القديمة المتبعة؛ واستنبط طرقا أخرى؛ وباشر زراعة نباتات غير النباتات المعروفة (كشجر الزيتون) مثلا: فإنه غرس منه ما ينيف على ثمانين ألفا، ثم أصلح جملة أطيان بائرة، وحولها إلى أطيان زراعية في غاية الجودة. ناهيك بالإصلاحات التي أدخلها على فن إقامة الحدائق والبساتين، وتحويله جزيرة الروضة إلى اسم على مسمى حقا، وقد قال عنه البرنس پكلر مسكاو في كتابه المعنون «مصر تحت حكم محمد علي»: «إن إبراهيم باشا معجب به في مصر كمحسن عظيم، فما هو بالغراس والمزارع على مقياس شاسع فحسب؛ بل إنه قد مد ظل إصلاحاته فوق أرجاء الصحراء الشرقية التي ما وراء القاهرة، والمسلم أمر تحويلها إلى جنة غناء للمسيو بونفور، وهو رجل لا يعرف الملل ويشغل تحت إدارته عشرة آلاف عامل بأجرة تتراواح ما بين قرش ونصف إلى ثلاثة قروش يوميا تدفع، لهم كل يوم جمعة بانتظام مستمر».
2
ولم يكن ليغيب عن ذهن (محمد علي) أن روح الزراعة بمصر إنما هي حسن توزيع مياه الري وأن توسيع نطاق الفلاحة فيها لن يدرك إلا بتوسيع نطاق الري عينه، ونطاق طرق المواصلات؛ وأن خير ضمان لاستمرار الفلاحين مقدمين بنشاط وحب على الزراعة إنما هو استفادتهم وإثراؤهم منها ورؤيتهم أنفسهم غير مرهقين بالضرائب وطرق تحصيلها.
فما وضع يده على الأرض المصرية، للغرضين الذين قلنا عنهما، إلا وأقبل بهمته الفائقة على الاعتناء بذلك جميعه:
فلم يترك جزءا من الأطيان التي كان يمكن ريها بالوسائل الموجودة منذ زمن المماليك، إلا وضمن له وصول المياه إليه بكيفية ثابتة، وربما كانت رغبة تمكنه من القيام بهذا العمل سببا ثالثا في إقدامه على نزع الأطيان من أيدي أصحابها؛ لأن هؤلاء كانوا لا يفترون يتنازعون على الري. يقاتل أهالي الجهة أحيانا جيرانهم أهالي الجهة الأخرى على فتح ترعة أو سدها. مثال ذلك ما كان يقع دائما من المنازعات بسبب ترعة الفرعونية، هذه الترعة كانت تصل بين فرعي النيل، وبين عين شمس ونضير، مارة بمنوف، وبما أنها كانت تحول جانبا عظيما من مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد، فتسبب - لا سيما في أيام التحاريق - شرقا جسيما لمزروعات الأرز في شمال الدلتا والدقهلية، من المنصورة إلى دمياط؛ كان المزارعون الذين في جوار فرسكور وبعض جهات الدلتا الشمالية، والمزارعون الذين على فرع رشيد في نزاع مستمر بعضهم مع بعض: أولئك يرغبون في سد الترعة ومنع تحويل مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد؛ وهؤلاء يرغبون بالعكس في فتحها وتحويل المياه إلى فرعهم، وقد رفع كلا الطرفين شكوى في هذا الشأن إلى الجنرال بونابرت في سنة 1799 فكان أحد الأوامر الأخيرة التي أصدرها ذلك الرجل العظيم وهو بمصر خاصا بإجراء تحقيق في المسألة أمام لجنة من المهندسين المرافقين لحملته، ثم حدث، بعد ذلك بسنوات، أن مياه النيل، إما بفعلها الطبيعي وإما بفعل بعض ذوي المصلحة، ذهبت بالجسر الساد للفرعونية، وأحيت المنازعات القديمة بين أولئك المزارعين، فرأى (محمد علي) أن يفض الخلاف بينهم فضا نهائيا: فسد الفرعونية بحاجز من البناء الثابت المتين؛ وعوض على أهل مديرية البحيرة والجانب من الدلتا، الذين كانوا يطالبون بفتح تلك الترعة، خسائرهم الناجمة عن ذلك السد بإنشاء عدة ترع في فرع رشيد أفادتهم أكثر مما كانوا يستفيدون من ترعة الفرعونية.
3
ولكن وسائل الري المخلفة عن المماليك كانت قليلة، ولم يكن في القطر من ترع هامة سوى بحر يوسف، وبحر مويس، وبحر شبين الكوم، والجعفرية، فرأى (محمد علي) أنه، رغم كل اعتناء يبذله في الانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من مياه هذه الترع، فإن جانبا عظيما من الأطيان ذات التربة الخصبة يستمر بورا لعدم وصول مياه النيل إليه.
فعلى الرغم من اشتباكه في حروب عظمى - اضطر إلى الدخول فيها إما لحفظ الأمن في البلاد؛ وإما امتثالا لأوامر سلطان تركيا؛ أو لرغبة في التوسع وفي إحياء شأن الأمة العربية - أقبل على إنشاء وسائل ري، يعتبرها التاريخ أسطع ماسة في تاج مجده، وخير وسام على ثوب فخره. أهمها: ترعتا المحمودية والخطاطبة في البحيرة؛ ومد ترعة الجعفرية؛ وترعتا مسد الخضراء، والبقيدي في الغربية؛ والنعناعية، والسرساوية، والباجورية في المنوفية؛ والبوهية، والمنصورية، وترعة دوده، والشرقاوية في الدقهلية - وقد أنشأ هذه الترعة الأخيرة، لأن مزارعي الأطيان التي على الفرع الدمياطي، على الرغم من سد الفرعونية، لم يفتروا يشتكون من قلة المياه وعدم كفايتها لمقاومة دخول البحر الملح في النيل بالقرب من المنصورة، وأنشأهما في جهة أعلى بكثير من النقطة التي يصل عندها امتزاج الماء العذب بالماء الملح: فجعل مزارع الأرز ضامنة الحصول على الماء الجيد طوال العام - ومصرف بلبيس، وترعة الوادي في الشرقية؛ والزعفرانية، والباسوسية، والشرقاوة في القليوبية؛ وبضع جداول أخرى في الصعيد، لا نأتي على ذكرها؛ لأن الوجه القبلي ما فتئ قليل الري وغير منتظمه لغاية أيام (إسماعيل).
ولم يقتصر (محمد علي) على إنشاء هذه الترع؛ ولكنه أقام على معظمها قناطر حاجزة، مسهلة للري: لأنها بحفظها المياه في مستوى موافق من العلو تمكن من تسريبها إلى الأرض بمجرد قطع يعمل في هذه؛ أو من توصيلها إليها بواسطة آلات رافعة كالسواقي والتوابيت والشواديف، وقد أنشأ (محمد علي) منها في القطر عامة ما يزيد على خمسين ألفا، وبعض تلك القناطر على جانب عظيم من الأهمية.
وتوج كل ما عمله في هذا الباب المفيد بشروعه في إنشاء القناطر الخيرية الجليلة، الشاسعة الأطراف، البديعة الصنعة الهندسية، على فرعي النيل، في الموضع الذي أشار نابليون الأول في مذكراته بوجوب إقامتها عنده.
ولم يهمل في الوقت عينه، توسيع نطاق المواصلات؛ لعلمه أنه إذا تعذر نقل حاصلات الزراعة إلى حيث يسهل بيعها بأثمان موافقة، فإنها لا تلبث أن تتلف أو تباع بأثمان بخسة: فلا يعود الاشتغال في إنمائها يجدي؛ وتبور الفلاحة مع تمادي الأيام، ولو بلغت وسائل الري درجة الكمال، واتسع نطاقه إلى أقصى ما يتصوره الفكر؛ اللهم إلا إذا كانت تلك الوسائل طرق مواصلات أيضا.
فاجتهد أولا في جعل معظم ترع القطر الكبرى صالحة للملاحة كالنيل بتطهير مجراها بين حين وحين، ثم زاد عدد المراكب الماخرة فيها زيادة مطردة: فبينما كان الموجود منها على النيل، في أيام الاحتلال الفرنساوي، سبعمائة من أسوان إلى القاهرة؛ وتسعمائة من القاهرة إلى البحر الأبيض المتوسط، أصبح في سنة 1839 ثلاثة آلاف وثلاثمائة؛ منها ثمانمائة للحكومة خاصة، وذلك غير مراكب الصيد التي كانت تمخر في بحيرات البرلس والمنزلة وإدكو ومريوط.
ولما انتشر اختراع فلتن الأمريكي، وبنيت السفن البخارية أسرع (محمد علي) وبنى لنفسه واحدة منها كلها من حديد؛ ظنها الأهالي، أول ما رأوها، حيوانا بحريا ضخما ولد في مياه النيل حديثا، ولكنه لم يستطع تعميم استعمال ذلك الاختراع في النيل لعدم وجود مناجم فحم حجري في القطر.
ولم يكن، قبله، طرق في البلاد، بالرغم من أن جسور الترع كانت تصلح لهذا الغرض، لو خصت بشيء من العناية، ولكن حكام مصر الذين سبقوه على سدتها، كانوا، كلهم، من رأي ذلك التركي القائل بضرر إنشاء الطرق السلطانية؛ ووجوب تعطيل الموجود منها؛ لأنها بتسهيلها نقل المدافع من مكان إلى مكان، تمكن الأجانب من غزو البلاد، وأما عدمها، فيحول دون توغل أي جيش فاتح فيها.
4
فجعل (محمد علي) جسر ترعة المحمودية التي أنشأها، طريقا للمرور، واختط عدة طرق سلطانية أخرى، أهمها السكة التي بين مصر وقصره في شبرا، وهي من أجمل ما يكون، تظلل الأشجار الباسقة جانبيها، وفائدتها، لنقل حاصلات الأطيان المجاورة لها إلى العاصمة، لا تنكر.
على أن أهم طريق للمواصلات أوجدت في أيام الباشا العظيم، هي الطريق التي أنشأها الملازم الإنجليزي (واجهورن) ما بين الغرب والشرق الأقصى، وعرفت باسم «ذي أوڨر لاندروت»؛ وكانت، ما بين السويس والقاهرة والإسكندرية، ذات محطات ونظام وأدوات جعلتها مصلحة تامة المعنى، أطلق عليها اسم مصلحة «الترانزيت »، وكانت في بادئ أمرها إنجليزية محضة، وكل عمالها من الإنجليز، ولكن (محمد علي) تربص حتى تذرع بغلطة ارتكبها مديرها: فدفع تعويضات كافية لعمالها، وصرفهم، وأحل محلهم عمالا من لدنه، فصير المصلحة مصرية سنة 1845.
وكانت إنجلترا منذ سنة 1837، أي حالما فرغ من مد الخط الحديدي بين لندن وليڨربول - وهو أول خطوط العالم الحديدية - وقبل أن تمد غيره البلاد البريطانية عينها، قد فاتحته في أمر إنشاء سكة حديدية بين مصر والسويس؛ وراق المشروع في عينه، فبعث من استحضر من أوربا الأدوات والمواد اللازمة له، وهب إلى نفاذه، ولكن فرنسا خافت أن يئول الأمر، إذا ما تم على يد شركة إنجليزية، إلى استيلاء بريطانيا العظمى على القطر المصري، فعارضت في المشروع - ولم يكن (محمد علي) في تلك الأيام يعتمد في الملمات إلا عليها - فأبى إغضابها؛ ورأى، من جهة أخرى، أن نفقات تلك السكة قد تربو على خمسة وعشرين مليونا من الفرنكات، بين أن إيراداتها قد لا تأتي بأرباح مطلقا، لاقتصار منافع الخط المرغوب في إنشائه على المواصلات مع الهند، وعدم استفادة الزراعة منه بشيء، فأهمل المشروع وطرحه في زوايا النسيان.
أما أمر إثراء الفلاحين من زراعتهم وعدم إرهاقهم بالضرائب وطرق جبايتها، فإن الأيام السوداء التي آل فيها عرش مصر إليه، والمصاعب الكبيرة الجمة، من كل نوع، التي أحاقت به، لم تمكنه من تحقيقهما، على كثرة رغبته في ذلك - ولا أدل على هذه الرغبة من إرساله شبانا كثيرين إلى أوروبا ليتلقوا علم الزراعة الفني؛ ومن ابتنائه في شبرا عزبة أحب أن تكون نموذجا للمعيشة الفلاحية السعيدة - فمات وفي نفسه من ذلك غصة: (أولا) لشعوره بحقيقة قول الشاعر الفرنساوي: «إني أريد، ولكن، يا للشقاء الأكبر! فإني لا أصنع الخير الذي أحب، وأعمل الشر الذي أكره.»
5
و(ثانيا) لعلمه بأن أعداء اسمه ومجده سيجدون، في عدم تحقيقه ذينك الأمرين، متسعا للطعن عليه، وتشويه وجه شمس حياته الساطعة!
وبما أن المشهور عن عباس الأول، هو أنه عامل القطر المصري كأنه بلد فتحه بحد السيف، فمن البديهي أنه لم يكن ينتظر منه الالتفات إلى ما يعود على أهله وساكنيه بالرفاهية والخير.
فاستمر الفلاح المصري، إذا، مقيما على أطيان لا يملك منها شيئا، واستمر يزرع وينمي ما لا نصيب له في اختياره؛ ويجني محصولا لا يستطيع التصرف فيه، ولما رأى أن الحكومة أصبح يعوزها شيء كثير من الحكمة والرأفة النسبيتين اللتين امتازت بهما أيام الباشا العظيم وإبراهيم الهمام؛ وأن عباسا لا يهمه من أمره إلا أن يملأ خزائنه بالنقود التي يعصر جسمه للحصول عليها؛ وأنه، فيما عدا لذاته، غير مشتغل في شأن من الشئون العامة، اللهم إلا في إحلال الجنود الألبانيين وغيرهم من الأتراك محل الجنود المصريين، وتسليحهم بمسدسات أميريكية - كأن الشر المندلع من طبنجاتهم لا يكفي لإلقاء الرعب في القلوب - ورأى أن مشروع مد سكة حديدية بين الإسكندرية ومصر لم ينفذ إلا رغم إرادة ذلك الوالي، أخذت عنايته بالحقول تقل، واهتمامه بريها، ودفع طوارئ الحدثان عنها، وتطهير الترع الصغرى الموكول أمر صيانتها إلى القرى، يزول، وبات الخراب يهدد الزراعة المصرية بأسرها.
فلما آل زمام الحكم إلى (سعيد) هاله الأمر؛ وكبر عليه أن تصبح معظم نواحي القطر، بسبب إهمال الري والمواصلات ورزوح الفلاحين تحت ثقل الضرائب الفادحة وغلظة طرق جبايتها الوحشية، قاعا صفصفا وقفرا بلقعا، وأدرك أن ما كان صالحا ومفيدا في أول عهد أبيه، لم يعد له في عهده من موجب؛ بل إن ضرره الفاحش بات يرى بالعين ويلمس باليد.
6
فأصدر أمرا بتوزيع الأطيان، في كل ناحية، على القائمين بزراعتها ليتصرفوا في زرعها كما يشاءون، وأمر بتقييد ذلك التوزيع في سجلات خاصة، تكون بمثابة حجج ملكية لأولئك المزارعين، ولئن لم يمنحهم حق امتلاك الأرض بالمعنى الذي يفهم من هذا التعبير (لأن ذلك لم يكن ممكنا بسبب الاعتقاد السائد من أن ملكية الأرض حق من حقوق السلطان دون غيره)، فإنه أباح لهم حق التصرف فيها بيعا ورهنا، على أن تكون «أثريتها» - كما كانوا واستمروا يسمونها لغاية عهد غير بعيد - لا هي بعينها، موضوع ذلك التصرف، فأنعش بذلك الزراعة المصرية وجعلها تترعرع وتشتد.
وتوصلا إلى استئصال كل الأشواك من سبيلها دفعة واحدة، أقبل على الضرائب، وعدل طريقتي ربطها وجبايتها: فأبطل النظام التضامني الذي كان قاعدتها؛ وهو نظام - بما كان يوجبه من التضامن في دفع الأموال، بين أهل الناحية الواحدة، وأهل نواحي القسم الواحد، وأهل أقسام المركز الواحد، وأهل مراكز المديرية الواحدة - كان يلزم العامل النجيب النشيط بسد العجز الناجم عن كسل رفاقه، وتهاونهم، أو جهلهم؛ والعجز الناتج عن الفراغ الذي يحدثه الموت، أو أي طارئ كان في عدد سكان الناحية أو القسم أو المركز أو المديرية: وفي ذلك من الغبن والظلم ما لا يسلم به عقل.
ثم أسقط، جملة واحدة، كل المتأخرات التي كانت على النواحي - وكانت تبلغ ثمانين مليونا من القروش؛ أي: سدس الأموال جميعها في عهد (محمد علي) أبيه - والمتأخرات نتيجة طبيعية لسوء ربط الضرائب وسوء جبايتها.
وتنازل أخيرا عن الاحتكار التجاري الذي كان لأسلافه، فعدل، بإذنه عن أخذ الضرائب فعلا: وأطلق الحرية للمزارعين في بيع محصولاتهم، أنى يشاءون ولمن يشاءون، وطالبهم بدفع الأموال الأميرية نقدا.
ورغبة منه في تسهيل الانتقال عليهم من طور إلى طور وجعله أمين العواقب، قسط تلك الأموال على اثني عشر قسطا شهريا؛ ونظم طريقة تحصيلها، طبقا لما كان متبعا في فرنسا حينذاك، ومنح مهلا للدفع، ريثما يتاح لدى المزارعين مال كاف، وتجاوز، في بعض الأحيان ولبعض النواحي المشتدة عضة الفقر على ساعدها عن ضرائب سنة برمتها.
ثم أضاف إلى جميع هذه النعم نعمة أخرى وهي: رفع الضرائب سنويا، عن كل أرض لا تبلغها مياه النيل، إما لقلة في الفيضان، أو لأي سبب كان - مقتفيا في ذلك أثر أسلافه عن عواهل مصر الصالحين: كأحمد بن طولون، والمعز لدين الله، والعزيز بالله، وصلاح الدين.
وتوج كل ما فعل في هذا الباب، بإنشاء قرية للفلاحين على نظام قرى الغرب الريفية؛ جعل فيها جميع أسباب النظافة والراحة متوفرة، لتكون نموذجا يبني فلاحو القطر قراهم على مثاله؛ ولكن الفلاحين أبوا إلا البقاء على معيشتهم القذرة، ولم تمض مدة يسيرة حتى أهمل ساكنوا القرية الأنموذجية منازلها الجميلة، وابتنوا لأنفسهم عششا كالتي اعتادوا، من صغرهم، سكناها، فاندثرت قرية سعيد.
7
غير أن إصلاحاته لم تكن لتجدي الزراعة النفع المرغوب فيه، لو لم تقترن باعتناء تام بوسائل الري وطرق المواصلات.
فأقبل عليهما، ولكنه ما ألقى نظره على الواجب عليه عمله في شأن الري، حتى هالته جسامته؛ وذلك لأن الأوحال كادت تطمر الترع التي أنشأها أبوه، بما فيها المحمودية؛ لقلة الاعتناء بها وقلة صيانتها؛ ولأن أمر تطهيرها فقط - ناهيك بحفر ترع غيرها - كان من شأنه استنفاد همة رجل مقدام في عدة سنوات، فأحجم.
ولكنه - حينما أفهمه موچيل بك أن المحمودية التي كلفت أموالا وأعمارا ثمينة، والتي تستقي الإسكندرية منها ماءها، إن لم تتدارك حالا بالتطهير، انطمرت بعد قليل، وباتت غير صالحة للملاحة بتاتا، حتى ولا للشرب - شمر عن ساعد الجد والنشاط، وأصدر إلى المديريات الأوامر بتسيير العدد اللازم من الأنفار إلى ضفاف تلك الترعة ليشتغلوا في تطهيرها، فأرسلت النواحي مائة وخمسة عشر ألف عامل؛ وخصص لكل منهم عمل يؤديه؛ ووعد وعدا صريحا بتسريحه حالما ينجزه، فجدوا، وتباروا؛ وبالرغم من أنه لم يعط إلا فأسا واحدة لكل خمسة منهم، أتموا العمل على ما يرام في ظرف اثنين وعشرين يوما فقط؛ دون أن يموت أحد منهم، بل دون أن يمرض أكثر من خمسة في كل ألف، بفضل الاحتياطات والوقايات الصحية التي اتخذت.
فإذا تذكرنا أن أكثر من اثني عشر ألف عامل من الذين حفروا المحمودية في سنة 1818 ماتوا في خلال عشرة شهور، ودفنوا تحت أتربة الجسرين المقامين على ضفتيها، أدركنا مقدار تقدم الأيام نحو الأحسن في غضون بضع وأربعين سنة من وجود مصر تحت أحكام الأسرة العلوية.
8
غير أن إقدام سعيد على تتميم مد السكة الحديدية بين الإسكندرية ومصر - وهي سكة افتتحها في أول يناير سنة 1856 - وإنشاء خط آخر بين القاهرة والسويس؛ وانشغال فكره في الإصلاحات التي عزم على إدخالها في حكومة السودان؛ وفي الامتياز الذي منحه المسيو دي لسبس لأجل حفر ترعة السويس؛ ثم في عقد القرض الذي أورث خلفه عبأه؛ ومداهمة المرض له، على أثر ذلك، مداهمة هدمت بناء جسمه الشديد؛ كل ذلك حال دون مثابرته على عمل تطهير الترع التي أنشأها والده، ودون التفكير في إنشاء غيرها.
فلما مات ترك الزراعة في أزمة، كان لا بد لحلها من همة شماء، ونشاط فائق، يبذلان بسخاء في سبيل ذلك.
تلك الهمة وذلك النشاط وجدا، لحسن حظ مصر، في (إسماعيل) خليفته، فإنه وقد رأيناه وهو أمير، وولي عهد فقط، يقبل على تحسين مزروعاته الخاصة تحسينا ضاعف محصولها - صمم أن يعمل للقطر، بشكل كبير واسع، ما عمل في أملاكه بشكل صغير ذي دائرة ضيقة.
فأقدم، أولا، على إنماء مساحة الأطيان المنزوعة قطنا بمصر، لا سيما في الصعيد، إنماء كبيرا، وذلك لأن الحرب الأهلية بالولايات المتحدة كانت حينذاك في أشد استعارها، ونشأ عنها بوار مزارع أميركا القطنية بوارا عظيما، فتحولت أنظار المعامل النسجية البريطانية وغيرها إلى القطن المصري؛ وأخذت تقبل على ابتياعه أيما إقبال، بأثمان عالية علوا لم يكن يحلم أحد به.
فلكي ينال غرضه سريعا أعلن في عموم مديريات مصر العليا على ألسنة كبار موظفي الإدارة والعمد والمشايخ عن استعداده لإعطاء المزارعين، مجانا، كل البذرة التي يحتاجون إليها، مهما بلغت مقاديرها وقيمتها، فبينما كانت مساحة الأطيان المنزرعة قطنا في الصعيد تقرب من أربعة آلاف فدان فقط، إذا بها قد أصبحت، بفضل سعيه ودأبه، مائة ألف فدان في نهاية سنة 1864؛ أي: بعد مرور أقل من سنتين على تبوئه سدة الإمارة.
وكان كثيرون من الفلاحين يزرعون أطيانا، وجدوها مهملة، فوضعوا أيديهم عليها واستغلوها، دون أن يكون عندهم حجج ملكية بها؛ فيحدث كثيرا أن أهواء أصحاب الأمر أو الجاه في نواحيهم، تغتنم ذلك لتنزعها من بين أيديهم متذرعين بأية وسيلة كانت أو ترهقهم في مطالبات مالية عليها، تحملهم على تركها والإقلاع عن زراعتها؛ فتعود بورا، فتنقص بذلك المساحة المنزرعة في القطر؛ وتضيع على المالية الضرائب التي كانت تلك الأطيان تدفعها، فخول (إسماعيل) لأولئك الفلاحين حق استخراج حجج ملكية لتلك الأطيان، على أن يدفعوا جانبا يسيرا من النقود بصفة رسوم عليها، فتهافتوا على الانتفاع بالحق المخول لهم؛ وأصبحت الأطيان التي كانوا يزرعونها وهم متخوفون، ملكا حرا لهم، لا يستطيع أحد منازعتهم فيه، وباتت فلاحتها مضمونة؛ والأموال المربوطة عليها، كذلك؛ بعد أن كان تحصيلها موكولا إمكانه إلى طوارئ الحدثان.
على أن إنماء (إسماعيل) كمية الأطيان المزروعة في القطر إنماء كبيرا لم يكن إلا باكورة أعماله في مضمار، كان يهمه أن يجري شوطا بعيدا فيه، بقدر ما تهمه الفائدة التي تعود عليه منه، بصفته أكبر مزارع في القطر.
فإنه ما لبث أن استقدم من أوروبا عددا عظيما من ماكينات الري البخارية - وكان استعمالها قد شاع هناك، وحل محل معظم الآلات الرافعة - وأقامها في أطيانه الخاصة، فاقتدى به كبار الملاك وصغارهم، من الباشا والبك، إلى العمدة والشيخ، واستوردوا من تلك الماكينات ما كاد يجعل، بسبب الدخان المنبعث عنها والمخيم في الأفق، ضفاف النيل شبيهة بضفاف التيمس.
وتسهيلا لمهمة هذه الماكينات من جهة؛ ولكي يزيل من جهة أخرى الخطر الذي كان يهدد زراعة البلاد كلها بسبب انطمار ترع القطر بالطمي المتراكم في قاعها، أقبل، بكل همة ونشاط، على تطهير الكبري من تلك الترع - وكان أمر تطهيرها منوطا بالحكومة رأسا - وأصدر الأوامر إلى المديريات بإلزام النواحي والكفور بتطهير صغرياتها المارة بها والملقى أمر صيانتها إليها، وشدد في تلك الأوامر تشديدا كفل نفاذها، وما فتئ كل سنة يكلف المديرين بالإسراع، أيام التحاريق، في إنجاز الأشغال اللازمة لحفظ جسور النيل، حفظا فعالا، حتى تكون على أتم ما يرام، في أوان الفيضان - لأنه كان قد علم بنفسه، وهو أمير، أن الهيئات الحاكمة، كثيرا ما تهمل تلك الأشغال، أو لا توفيها حقها من العناية؛ فتصاب الزراعة والقرى بمضار جسيمة، حتى في السنوات التي يكون فيضان النيل فيها عاديا.
وما كاد يمضي على تبوئه العرش ثلاثون شهرا حتى أنشأ، للدلالة على مقدار اهتمامه بالزراعة، خمسة مجالس زراعية: اثنين منها في الوجه البحري، وثلاثة في مصر الوسطى والصعيد؛ شكل كل منها من رئيس ومهندس تعينهما الحكومة، وأعضاء على قدر عدد المراكز في كل مديرية تنتخبهم المجالس المحلية من الأعيان.
9
وجعل اختصاص تلك المجالس:
أولا:
الاطلاع على مشاريع كل ترميم تقتضيه الأشغال العمومية الجارية.
ثانيا:
درس كل مشروع خاص بإنشاء أشغال جديدة تستلزمها المنفعة العامة، فإذا وافق الأعضاء على شيء من ذلك، وزعت الأموال اللازمة لنفاذه على الجهات بنسبة مقدار استفادتها منه ومقدار نصيبها في إجرائه.
ثالثا:
وعلى الأخص الاهتمام في تحسين الشئون الزراعية سواء أكان ذلك بالنصائح والإرشادات والتعليمات التي تلقيها على الفلاحين، أم بتشجيع كل ما من شأنه أن يوجد رقيا في أصناف المزروعات ويزيدها جودة، فأدى ذلك الاهتمام إلى اكتشاف أحد اليونانيين نوع القطن المدعو «يوانوڨيتش» ورواجه في القطر: وهو صنف قطن كان له، في أيامه، الشأن الذي بلغه في أيامنا الصنف المعروف باسم «ساكلاريدس»، ومكتشفه؛ وأدى، في سنة 1873، إلى اكتشاف أحد الأقباط، بالقرب من بركة السبع، شجيرة قطن دعاها «قطن البامية» لمشابهتها لشجيرة الباميا؛ وأتت، إذ اعتنى بزراعتها، بثلاثة أضعاف محصول شجيرات القطن العادية، وبيع إردب بذرتها بثمن تراوح بين خمسة وعشرين وثلاثين جنيها؛ بينما أن إردب البذرة الأخرى لم يكن يباع إلا بجنيه فقط.
وأنشأ فوق تلك المجالس، وزارة الزراعة التي أشرنا إليها؛ وعهد بها إلى أكفأ رجاله وهو نوبار باشا، ليكون مرجع تلك المجالس إليها: فتجد من حكمة الوزير الذي على رأسها خير مسدد لآرائها وأعمالها.
ولكن إنماء عدد الأطيان الزراعية؛ وإحضار ماكينات بخارية، بمصاريف كثيرة، من البلاد الأوروبية؛ وإدارتها بمصاريف تكاد لا تقل عن جملة أثمانها الأصلية؛ وتوسيع نطاق الإدارة الزراعية؛ كل ذلك كان يوجد لكي ينطبق الكنه على المظهر ويكون الصيد في جوف الفرا حقا، ألا يكتفي بتطهير الترع القديمة وصيانتها، والاعتناء بوسائل المواصلات الموجودة وحفظها، بل أن يوجه الجهد إلى الاستفادة من مخترعات العصر، لإنشاء ترع جديدة، ووسائل مواصلات حديثة، تكون وافية بالحاجة.
ولم يكن (إسماعيل) الرجل الذي يفوته ذلك، لا سيما وأنه - مذ جعل لنفسه مرتبا سنويا، وفصل، بذلك، بين ماله الخاص ومال الخزينة المصرية - أقبل إقبالا عظيما على إنماء ثروته العقارية؛ وأخذ نظار مزارعه ومفتشوها - لا سيما إسماعيل المعروف «بالمفتش» - في جميع أنحاء القطر، يبذلون من المجهود، وتفتيق الذهن، والتفنن في حمل الفلاحين على بيع أطيانهم إلى سموه، ما صير، في أقل من ثلاث سنوات، خمس أطيان القطر الجيدة ملكا له.
ولما كان معظم تلك الأطيان في مصر العليا؛ وكان هذا الجزء من القطر قد أعوزه جانب عظيم من العناية التي أحاط (محمد علي) الوجه البحري بها - وأن يكن قد عهد، في أواخر سني حياته إلى لينان بك رئيس مهندسي ديوان أشغاله، أمر تحسين وسائل الري فيه - فما فتئ أهلوه ومزارعوه متألمين من قلة تلك الوسائل، فإن (إسماعيل) بدأ في الصعيد بتنفيذ الخطة التي وضعها لنفسه بخصوص الإكثار من حفر ترع وجداول جديدة في القطر، وأنشأ، غربي النيل، الترعة العظمى التي سماها «الإبراهيمية» إكراما لذكر أبيه: وهي ترعة تخرج من النيل بالقرب من أسيوط؛ وعرضها، من مبدأها لغاية ثلث مجراها، ثلاثمائة قدم؛ وأما عرض الثلثين الباقيين فخمسون قدما، فتسير ما بين ديروط وما فوق الواسطة بقليل، أي مسافة تسعين ميلا، على موازاة بحر يوسف، راوية مديريتي أسيوط والمنيا، وجميع الأطيان ما بين البهنسة والسلسلة العربية، ثم تستمر متجهة نحو الشمال حتى تصب في فرع رشيد.
ولما كان الحكم، الذي أصدره نابليون الثالث في مسألة الخلاف القائم بين الحكومة المصرية وشركة ترعة السويس، قضى بتخلي هذه الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في مد الترعة ذات الماء العذب من مصر إلى السويس وبورسعيد، التي كانت الشركة مباشرة حفرها؛ وإلزام الحكومة المصرية بمدها، هم (إسماعيل) في الوقت عينه، بنفاذ ذلك الحكم؛ لا سيما أنه كان شديد الرغبة في إحياء ما يستطيع إحياءه من أرجاء الصحراء العربية الشمالية: فلم يمض إلا زمن يسير وسارت مياه النيل تتهادى في مجرى الترعة، المحفورة ما بين بولاق والسويس، والمدعوة بالإسماعيلية إكراما لمنشئها، وأصبحت الملاحة ميسورة فيها حتى للسفن التي حمولتها أربعمائة طن فانتعشت أرجاء شاسعة من الصحراء العربية ما بين مصر والسويس؛ وعلى الأخص ما عرف منها، فيما بعد، باسم «تفتيش الوادي» - وهو أرض «جسان» التي أقطعها يوسف بني اسرائيل، على ما جاء في التوراة، وبوصول ماء النيل العذب باستمرار إلى مدينة السويس، لأول مرة منذ نشأتها، أمكن هذا الثغر أن يكبر بسرعة عجيبة ويزداد سكانا وأهمية تجارية.
وكانت القناطر الخيرية أوشكت أن تتخرب؛ تلك القناطر التي أنفق الباشا العظيم على تشييدها بمعرفة لينان بك أولا، وموچيل بك بعده، أموالا طائلة وزمنا مديدا؛ وحدثته نفسه، يوما، لتشهيل بنائها، بهدم الأهرام الأبدية واستخدام حجارتها الضخمة فيه،
10
بل أصدر أمره بذلك فعلا إلى لينان بك ؛ وصمم على نفاذه؛ لولا أن هذا المهندس أقنعه بالأرقام، بأن ثمن المتر المكعب من الحجر الذي يستخرج من هدم تلك الآثار الفرعونية، يكلف عشرة قروش ونصفا، بين أن المتر المكعب المستخرج من المحاجر، لا يكلف أكثر من ثمانية قروش وخمسة وسبعين فضة؛
11
تلك القناطر، التي مات ذلك الباشا العظيم، وهي بعيدة عن التمام؛ وما زال موچيل بك، بعده، يلح على عباس خليفته بنجازها، لإدراك فائدتها، وكيلا تضيع ثمرة الأموال الكثيرة التي أنفقت والمتاعب الجسيمة التي كوبدت، حتى أعيا صبره وحمله على أن يقول له ذات يوم، هو أيضا، وهو يشير إلى الأهرام: «إني لا أدري ما الفائدة من وجود تلك الجبال من الصخور المرصوصة فوق بعضها، فاذهب واهدمها واستخدم حجارتها في تتميم عمل القناطر!» فاضطر موچيل - لكي يتخلص من تنفيذ أمر، كان مجرد التصور أنه المنفذ له، وأن اسمه سيمر، إذا، إلى العصور التالية، ونعت «هادم الأهرام» مقرون به، يوقف شعر رأسه رعبا - إلى إعادة عمل لينان، وعرض تقرير تفصيلي بالنفقات اللازمة على ذلك الوالي الظنان، ولما لم يكن عباس يدري من الأرقام شيئا، افتكرها خدعة من المهندس الغربي، قصد بها الفرار من تنفيذ أمره: فألقى نظره شزرا، على ذلك التقرير؛ وقال لموچيل: «ما هذا؟» فأفهمه موچيل مضمونه بدقة، حتى حمله على الاقتناع بأن هدم الأهرام يكلف أكثر من استخراج الحجارة من محاجرها بكثير ؛ فقال له عباس حينئذ: «دعني، إذا، من شأن تتميم قناطرك».
12
تلك القناطر؛ التي كان أقل ما فيها من فائدة إغناؤها عن خمسة وعشرين ألف ساقية وشادوف، وري أربعة ملايين من الأفدنة؛ فكيف بها، وهي، بمنعها استمرار انصراف مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد، لانخفاض مجرى هذا عن مجرى ذاك، تمنع الشرق عن كل الأطيان الواقعة شرقي ذلك الفرع؟
تلك القناطر؛ التي بالحال التي هي عليها، وبالرغم من نقصها، كانت محط الإعجاب وموضع الفخار الأبدي.
هذه بالنسبة لمرور كل حكم عباس وسعيد عليها دون أن تنجز أو ترمم، كانت قد أخذت تئول إلى السقوط، وكما قلنا، فاستدعى (إسماعيل) المستر فولر، أكبر مهندسيه، وكلفه بإتمام عملها، حتى يبلغ درجة الكمال؛ وألا يألوا في ذلك جهدا حتى يفرغ منه، مهما كلفه من نفقات، أو استدعى من عمال.
فاشتغل المستر فولر في ذلك العمل ثلاث سنوات، حتى تمكن من إنهائه، وأبرز في سنة 1878 القناطر الخيرية في حلتها القشيبة التي كان (محمد علي) يود أن يراها فيها لتقر بها عيناه.
فقلد (إسماعيل) بذلك، الوجه البحري عامة، منة ليس بعدها منة؛ وأولى البلاد خيرا لو لم يولها غيره، لكفى!
ولكنه لم يقف في عمله عند ذلك الحد، بل ما فتئ يفحر مجاري ترع وينشئ جداول، حتى إنه لم تنقض أيام ملكه إلا وقد خدد منها في الأرض المصرية أكثر من مائتين استدعت حفرا زاد 65٪ على ما أوجبته ترعة السويس، على قول المستر فولر؛ وبلغت نفقاتها ما يقرب من ثلاثة عشر مليونا من الجنيهات؛ وطولها ما يزيد على ثمانية آلاف وأربعمائة ميل؛ كما أثبت المستر ملهل في «الكنتمبورري رڨيو» (أكتوبر سنة 1882)؛ وبلغت مساحتها المائية مائة ألف ميل مربع.
ناهيك بزيادة الآلات الرافعة عما كانت عليه في أيام (محمد علي) زيادة هائلة؛ حتى بلغ عدد السواقي في سنة 1877 ثلاثين ألفا وأربعا وثمانين؛ والشواديف سبعين ألفا ومائة وثمانية وخمسين؛ والتوابيت ستة آلاف وتسعمائة وستة وعشرين؛ والماكينات البخارية أربعمائة وستا وسبعين؛ واشتغل فيها أكثر من ستين ألف حيوان، ومائة وثمانية وخمسين ألف رجل كل مائة وثمانين يوما.
وناهيك بالكباري التي أقامها على تلك الترع وعددها أربعمائة وستة وعشرون كبريا: منها مائة وخمسون في مصر العليا، ومائتان وستة وسبعون في الوجه البحري. علاوة على ثمانية كباري ضخمة أهمها كوبري قصر النيل الفخم، الذي قلما كان له مثيل في تلك الأيام، في العالمين الغربي والشرقي معا؛ وعد من أفخر أعمال العالم الهندسية، وقد بلغ ما أنفق على تشييدها كلها مليونين ومائة وخمسين ألف جنيه!
فأدى هذا جمعيه إلى زيادة ما يقرب من مليون ونصف مليون من الأفدنة، على مساحة الأرض المزروعة في القطر، يربو إيرادها السنوي على أحد عشر مليونا من الجنيهات، ثمن محصولات؛ وتزيد إيجاراتها، في ذلك الوقت، على مليونين.
ولعلمه أن تحسين طرق المواصلات يجب أن يقترن دائما بتحسين وسائل الري، مهد أكثر من ستة آلاف ميل من السكك الزراعية، في القطر عامة، ولا سيما في الوجه البحري، ولمناسبة زيارة الإمبراطورة أوچيني للبلاد المصرية في سنة 1869 أنشأ، في أقل من ثلاثة أسابيع، السكة الجميلة الموصلة من بر الجيزة المقابل مصر إلى الأهرام؛ والمغروسة، على جانبيها، بالأشجار الباسقة التي جعلتها أهم متنزهات سكان القاهرة وأبهاها.
ولما كانت السكك الحديدية والتلغرافات أكبر وسائل للمواصلات أوجدها العلم الحديث، كان من البديهي أن يخصها (إسماعيل) بأكبر جانب من عنايته في سبيل إحياء الزراعة من مواتها.
فلما ارتقى العرش المصري، لم يكن في القطر كله سوى الخط الحديدي الواصل ما بين الإسكندرية ومصر وطوله مائة وثلاثون ميلا؛ والخط الواصل ما بين بنها والزقازيق وطوله أربعة وعشرون ميلا؛ والخط الواصل ما بين مصر والسويس عن طريق بلبيس وطوله تسعون ميلا؛ أي ما كان مجموعه مائتين وأربعة وأربعين ميلا.
فزاد، هو، على ذلك أكثر من ألف ومائة ميل، فإنه هو الذي أنشأ الخطوط: من بولاق إلى اتياي البارود؛ ومن الإسكندرية إلى رشيد؛ ومن طنطا إلى دسوق، وإلى زفتى، وإلى دمياط، وإلى شبين الكوم؛ ومن الزقازيق إلى المنصورة؛ ومن بنها إلى ميت بره؛ ومن قليوب إلى القناطر؛ ومن الزقازيق إلى الإسماعيلية والسويس على محاذاة الترعة البحرية؛ ومن أبو كبير إلى الصالحية؛ ومن مصر إلى حلوان، وإلى المرج؛ ومن بولاق الدكرور إلى أسيوط؛ ومن الواسطى إلى الفيوم؛ ومن أسوان إلى الشلال الأول؛ علاوة على ستين م يلا تحويلات، وإذا عرفنا أن النفقات اللازمة لمد ميل واحد من هذه السكك كانت تبلغ، عادة، نيفا وأحد عشر ألف جنيه، فإنا لن نستغرب أن يكون ما صرف على إنشاء جميع هذه الخطوط قد تجاوز الثلاثة عشر مليونا من الجنيهات.
على أن ما هو أهم من أمر إنشاء السكك الحديدية، أمر إصلاح إدارتها؛ فقد كانت في أيام عباس، بل في أيام سعيد عينها، فوضى لا ضوابط لها: يركب المسافر في قطاراتها، وهو غير متأكد من صدق مواعيد قيامها، ولا من بلوغه المكان الذي يقصده، لكثرة ما يعتور القيام والطريق من عراقيل وموانع، فقد يكون القطار على أهبة السفر من محطة الإسكندرية مثلا، فيأتي ناظر المحطة رسول من قبل قنصل من القناصل العامة، أو خصي من لدن أحد الباشاوات، أو البيكوات الأتراك، ويأمره بتأجيل ميعاد قيام القطار ريثما يأتي القنصل أو الباشا أو البيك، أو حرم أحدهما، فيؤجل الناظر الميعاد، ويقيم المسافرون على أحر من الجمر في انتظار مجيء حضرة القنصل أو سعادة السري التركي وحرمه؛ وربما طال انتظارهم ساعات، وقد يكون القطار مسافرا، فتتعطل عدته؛ أو يخرج عن الخط لجهل السواق؛ أو يصادفه مانع آخر، كإرسال أحد باشاوات الريف رسولا إلى إحدى المحطات ينبئها بحجز القطار لحين تشريفه، فيقف في الطريق ساعات وساعات؛ وأحيانا، أياما، ريثما يزول أو يزال ذلك المانع.
ويحكى، في هذا الموضوع، أن القطار تعطل مرة في محطة طنطا وفيه تجار من الإنجليز قادمون من الهند وذاهبون ببضائعهم إلى الإسكندرية؛ فبعد أن عيل صبرهم من طول الانتظار، ذهبوا ليبثوا شكواهم من التأخير إلى ناظر المحطة، وكان إنجليزيا؛ ولكنه تزيا بزي البلاد وتقمص في عوائدها؛ وتظاهر بعدم معرفة غير التركية والعربية فرارا من شكاوى الأجانب - لا سيما من بني جنسه - الكثيرة ؛ وابتغاء للتمتع بقلة الاهتمام بالأمور وعدم المبالاة بتضييع الوقت، الخصيصتين بنا، معشر الشرقيين، في تلك الأيام؛ واتخذ لنفسه مترجما بينه وبين الغربيين - فوجدوه في حجرته، جالسا على أريكة، يدخن شيشة عجمية، ولا يعنيه من الدنيا إلا التلذذ بها والنظر إلى الدخان المتصاعد منها في الفضاء، على هيئة أنصاف دوائر، فأفرغوا جعبة تشكياتهم أمامه بالإنجليزية؛ ومترجمه المصري يترجمها له بالعربية، وهو لا يبالي بها ولا يزداد إلا تدخينا، كأنه لا يفهم الإنجليزية ولا العربية؛ أو كأن الحديث غير موجه إليه، فاحتدم غيظ أولئك التجار، وقالوا للمترجم: «قل لشيخك هذا الأبله أن يبطل جعل نفسه مدخنة، ويلتفت إلى ما نحن فيه؛ وإلا شكوناه إلى قنصلنا العام بالإسكندرية، ورجوناه أن يطلب من سمو الوالي، أن يركله من وظيفته ركلا!» فضحك الناظر، بين أسنانه، لما سمع ذلك؛ ولكنه استمر متظاهرا بعدم فهمه الإنجليزية، واستمر على عدم مبالاته بقولهم، بعد أن ترجمه مترجمه له، ولم يتنازل إلى إجابتهم عن لسانه إلا بعد مدة، ليقول لهم: «على رسلكم! تمهلوا فالأمور مرهونة بأوقاتها!» وأضاف، لكي يثبت لهم أنه شرقي تماما، التعبير الشرقي المتداول، عادة، على الألسن، لحمل قليل صبر على الصبر؛ وهو: «إن الله خلق العالم في ستة أيام!» فخرجوا من حضرته وهم يلعنونه ويحرقون الأرم.
وكان (سعيد)، بعد إعراضه عن نوبار مدة ثم إقباله عليه، قد عهد إلى ذلك الرجل الحازم - ولم يكن، حينذاك، إلا بيكا - أمر إدخال الإصلاح في تلك الإدارة المختلفة،
13
فبذل نوبار جهده، ولكن الخلل كان متأصلا أيما تأصل، فلم يستطع تلافيه تماما، لا سيما أن السكك الحديدية كانت ملكا للوالي، وكان تقلب أهواء (سعيد) السريع، من جهة؛ وميله، من جهة أخرى، إلى إرضاء ذوي الدالة من التجار الغربيين، والذوات، ومهزاريه، والقناصل العامة خاصة، ولا سيما ساباتييه، القنصل الفرنساوي الذي كان سعيد يقول عنه، هو نفسه، إنه لم يكن يستطيع مقابلته إلا ويشعر بوجف غريب في قلبه وتهيب يحمله على الرضوخ لطلباته، أية كانت
14 - يحولان دون استتباب قدمي إصلاح قطعي عام.
واستمرت الحال كذلك في أيام (إسماعيل) الأولى: لأن مفتشي مزارعه وكبار مستخدمي دائرته الخاصة، لعلمهم أن السكك الحديدية، بالرغم من كونها مصلحة عامة، ملك خاص به، كثيرا ما كانوا يتجاوزون حدود الاعتدال في تصرفاتهم مع إدارتها، لا سيما في مواسم القطن، فيحتكرون القطارات، ويعطلون سفر بضائع التجار عامة، حتى يفرغوا من شحن بضائع مولاهم الخاصة وتسفيرها؛ فيصيب التجار، من جراء ذلك، خسائر جسيمة، لتأخرهم الاضطراري عن تسليم بضائعهم في الأوقات المحددة لتسليمها، ويحمل الغيظ بعضهم أحيانا، على ارتكاب أعمال قحة، يعضدهم قناصلهم فيما بعد، على الخروج منها بدون أذى. مثال ذلك ما فعله أحد تجار اليونان، فإنه، لما أيقن أنه، بسكوته على تصرفات أولئك المفتشين والمستخدمين، وتأخره عن تسليم الأقطان التي اشتراها إلى المحلات التجارية التي باعها لها، قد تصيبه خسائر فادحة ربما ذهبت بكل ثروته، استأجر عدة أشخاص من بني جنسه، وأقامهم على المحطة المكدسة أكياسه فيها؛ ولما وصل قطار البضاعة المحمل أقطان سمو الوالي، أوقفه، بواسطتهم عنوة؛ وأفرغ مشحونه؛ وشحن أقطانه فيه بدله؛ وأجبر سواق القطار، إرهابا، على السير بها إلى الإسكندرية.
على أنه ما تقدمت الأيام بملك (إسماعيل)، إلا وقد تناول ظل الإصلاح جميع فروع إدارة السكك الحديدية؛ لا سيما بعد أن اتخذ (إسماعيل) سواقا لقاطراته الخاصة السواق الذي كان لنابليون الثالث؛ وسمع ثناء جميلا على محافظة ذلك العاهل على مواعيد أسفاره بدقة؛
15
ووقف بنفسه، عقب رحلاته الأوروبية، على نظام السكك الحديدية في أوروبا، فترتبت مواعيد سفر القطارات ووصولها، ترتيبا، لم تدخل عليه الأعوام التاليات إلا تعديلات طفيفة؛ وانتظمت انتظاما لم يعد للخلل إليه من سبيل إلا نادرا.
حينذاك أخذ (إسماعيل) يفكر في إنشاء سكك حديدية في السودان، ترويجا للزراعة فيه، وللتجارة بينه وبين القطر المصري.
فكلف المستر فولر بدرس الموضوع درسا دقيقا وتقديم تقرير واف عنه - وكانت طبيعة الأرض بين أسوان والخرطوم قد درست قبل ذلك في سنة 1865 درسا حسنا - فذهب ذلك المهندس الإنجليزي إلى وادي حلفا، وقضى عدة أسابيع، متجولا في ربوع النوبة والسودان الشرقي وبطاحهما، يقيس ، ويبحث، ويحسب ويفحص مباحث أسلافه، ثم عاد وقدم تقريره إلى الأمير، مشيرا بعمل سكة حديدية من وادي حلفا إلى المتمة - وطولها خمسمائة وخمسون ميلا - وأخرى من شندي إلى كسلا، فمصوع - وطولها خمسمائة ميل - وقدر نفقات الأولى بأربعة ملايين من الجنيهات، منها مليونان ونصف، أجرة المهندسين والعمال من الفرنج وثمن الأدوات اللازمة؛ والباقي أجرة العمال المحليين وثمن المباني الواجب إقامتها، وقدر نفقات السكة الثانية بأربعة ملايين مثلها، ولو أنها أقصر طولا من الأولى، لزيادة الابتعاد عن مصادر الأدوات، ووعورة المسالك.
16
فاعتمد (إسماعيل) تقريره وبدئ في العمل سنة 1873 وبعد أن سير فيه أكثر من ثلاث سنوات؛ وأنفق عليه ما يزيد على أربعمائة ألف جنيه؛ وأخذت بشائر الخير العميم تبدو من خلال الخطوط الموضوعة؛ اضطر الدائنون الأجانب الحكومة المصرية إلى توقيفه وإبطاله ضنا منهم بالنقود، فلم يقضوا بذلك على مصلحة تجارية وزراعية عظيمة فحسب، بل على حياة السودان عينها، مدة تنيف على ربع قرن؛ ومكنوا الثورة المهدية من الانتشار فيما بعد فوق ربوعه وتخريبها، ونشر ظل الموت عليها؛ لأنه لا يختلف اثنان في أنه لو كانت السكة الحديدية مجتازة جهات السودان، بعد قيام المهدي محمد أحمد، لتمكنت الحكومة المصرية من القضاء على دعوته، ولما نسجت الأيام أكفان حملة هكس باشا، ولا ذهبت روح جوردون ضحية تباطؤ الحكومة الإنجليزية في إرسال النجدات إليه، وتباطؤ (ولسلي) الاضطراري في السير بتلك النجدات إلى الخرطوم لإنقاذه.
17
وتلا انتشار السكك الحديدية، انتشارها العظيم، تشعب مد الأسلاك البرقية في البلاد. (فمحمد علي) كان قد أنشأ ما يقوم مقامها، على ما هي عليه الآن، أبنية مرتفعة ممتدة على خط واحد بين المدن الكبيرة، وبين البناء والبناء من المسافة ما لا يحجب نظر قمة كل منهما من قمة الآخر، وأقام على كل بناء آلة على طريقة (شاپ) تلغرافي حكومة الكنڨنسيون الفرنساوية الرهيبة، ترسل الأنباء إلى آلة البناء التالي؛ وهذه توصلها إلى التي بعدها؛ وهلم جرا.
18
فلما انتشر في أميركا وأوروبا اختراع المستر سامويل مورس الأمريكي - وهو التلغراف الحالي - أدخله (سعيد) إلى القطر، ولكنه لم يمد من أسلاكه إلا شيئا يسيرا.
فلما استلم (إسماعيل) زمام الحكم بيده القديرة، أقبل على هذا الفرع أيضا من طرق المواصلات العمومية، ونفخ فيه من روحه: فتشعبت الأسلاك التلغرافية في البلاد تشعبا مدهشا في مدة وجيزة حتى بلغ طولها خمسة آلاف وخمسمائة ميل؛ فيها من السلوك ما طوله عشرة آلاف وخمسمائة ميل، موزعة كالآتي:
من مصر إلى الإسكندرية
142 ميلا على سبعة أسلاك
من مصر إلى ضواحيها
32 ميلا على سلكين
من مصر إلى حلوان
18 ميلا على سلك واحد
من مصر إلى قليوب والقناطر
17 ميلا على سلكين
من مصر إلى إتياي البارود
71 ميلا على سلك واحد
من مصر إلى السويس عن طريق بلبيس
154 ميلا على سلك واحد
من مصر إلى المنصورة عن طريق قليوب
96 ميلا على سلكين
من أبي كبير للصالحية
25 ميلا على سلكين
من بنها إلى ميت بره
9 أميال على سلكين
من بنها إلى الزقازيق والسويس
123 ميلا على سلكين
من طنطا إلى طلخا ودمياط
73 ميلا على سلكين
من طنطا إلى زفتى
33 ميلا على سلكين
من طنطا إلى دسوق
47 ميلا على سلكين
من طنطا إلى شبين الكوم
19 ميلا على سلكين
من نشرت إلى كفر الشيخ
10 أميال على سلكين
من الإسكندرية إلى ضواحيها
12 ميلا على سلكين
من الإسكندرية إلى رشيد
46 ميلا على سلكين
من دمنهور إلى العطف ورشيد
50 ميلا على سلكين
من بورسعيد إلى السويس
96 ميلا على سلك واحد
من بورسعيد إلى القنطرة
26 ميلا على سلك واحد
من مصر إلى غزة عن طريق بنها
288 ميلا على سلكين
من مصر إلى أسيوط
239 ميلا على ثلاثة أسلاك
من الواسطى إلى الفيوم
25 ميلا على سلكين
من ببا إلى الروضة
91 ميلا على سلكين
من أسيوط إلى أبي تيج
5 أميال على سلكين
من أسيوط إلى أسوان
300 ميل على سلكين
من قنا إلى القصير
164 ميلا على سلكين
من أسوان إلى الخرطوم
1012 ميلا على سلكين
من بربر إلى كسلا
407 أميال على سلك واحد
من كسلا إلى مصوع
447 ميلا على سلك واحد
من كسلا إلى سواكن
300 ميل على سلك واحد
من الخرطوم إلى الأبيض
407 أميال على سلك واحد
من الخرطوم إلى المسلمية وسنار
162 ميلا على سلك واحد
وأنشأ مكاتب لهذه الأسلاك البرقية في كل مدينة وبندر وناحية كبيرة على طول مسافات امتدادها؛ وقسمها إلى ثمانية أقسام، وهي: (1)
محطات الوجه البحري. (2)
ما بين مصر وأسيوط. (3)
ما بين أسيوط وإسنا. (4)
ما بين إسنا ووادي حلفا ودنقلا. (5)
ما بين دنقلا وبربر. (6)
ما بين بربر والخرطوم. (7)
ما بين الخرطوم ومصوع. (8)
ما بين مصر وسوريا.
وجعل ثمن الإشارة البرقية ذات العشرين كلمة علاوة على العنوان عشرة قروش صحيحة في كل قسم، وجعل لغة التراسل: جنوبي مصر، عربية؛ وشماليها، عربية أو فرنساوية أو إنجليزية أو تليانية أو تركية، وأقام على إدارتها المستر جورج الإنجليزي وأناط أمر هندستها بالمستر هوز بورن الذي أنشأ أسلاك السودان.
وفي عهده، وبتصريح منه، أنشأت الشركة الإنجليزية الشرقية خطا بين الإسكندرية والسويس وما وراء البحر الأحمر؛ وآخر عن طريق صحراء شبه جزيرة سينا إلى سوريا والأناضول، وأنشأت شركة ترعة السويس خطا خاصا بها على طول الترعة ما بين بورسعيد والسويس، وأصبح الاتصال بأوربا والقارات الأخرى ميسورا إما عن طريق غزة وإما بواسطة الشركة الإنجليزية الشرقية كالآتي:
من الإسكندرية إلى الأستانة عن طريق كريت ورودس وأزمير.
من الإسكندرية إلى أوترنتو عن طريق كريت وزانتي.
من الإسكندرية إلى إيطاليا عن طريق مالطة وسقاليا.
من الإسكندرية إلى إنجلترا عن طريق مالطة وجبل طارق واشبونه.
من الإسكندرية إلى فرنسا عن طريق مالطة وبونا ومرسيليا.
أما الاتصال بين القطر المصري والشرق الأقصى وأستراليا ونيوزيلانده فعن طريق البحر الأحمر.
19
وبلغت نفقات إنشاء كل هذه الخطوط ما يقرب من مليون من الجنيهات.
ومن ألطف ما يروى في شأن ربط القطر المصري، بالأسلاك التلغرافية، بالأستانة أن موظفي الحكومة المصرية لم يكونوا ليصدقوا في بادئ الأمر أن الكلام ممكن بين القاهرة ودار السعادة بواسطة تلك الأسلاك؛ فأقبلوا يتخاطبون مع رجال الباب العالي، ولا غاية لهم إلا التحقق من صحة الزعم، فلما تيقنوا من صحته، ذاقوا من التكلم لذة فائقة ؛ فقضوا أكثر من ثلاث ساعات وهم يخاطبون الأستانة، بكلام لا طائل تحته ويسألون أسئلة عن صحة رجالها وعن حال الطقس فيها حتى أفقدوا الخزينة المصرية ما يزيد على خمسين ألف جنيه ثمن كلام فارغ.
وبما أننا في سياق الكلام عن طرق المواصلات على أنواعها، فيجدر بنا التكلم هنا عن المواصلات البريدية أيضا؛ ولو أن علاقتها بتحسين الزراعة قليلة لا سيما في ذلك العهد؛ وأنها إلى موضوع ترقية الشئون التجارية والاجتماعية أقرب منها إلى غيره من المواضيع. (فمحمد علي) كان قد رتب بريدا رسميا يحمل على أيدي السعاة برا وفي السفن بحرا، واكتفى خلفاؤه (إبراهيم وعباس وسعيد) به: فلم يزيدوا عليه شيئا، ولولا إقدام الدول الأجنبية وبعض أفراد من الجاليات الغربية على إنشاء مكاتب بريدية في الإسكندرية ومصر وغيرها، لاستمرت البلاد المصرية محرومة من التواصل البريدي كما كانت في عهد المماليك.
وأشهر أولئك الأفراد السنيور موتسي الإيطالي - وكان، لغاية سنة 1865، قائما لحسابه الخاص بأعمال بريدية عامة في العاصمتين؛ يساعده جملة مستخدمين بأجور يدفعها إليهم على استلام الخطابات والمراسلات حتى الرسمية منها وتصديرها إلى جهاتها وتسليمها إلى أربابها.
فرأى (إسماعيل) أن استمرار مهمة كهذه من وسائل المواصلات في يد إدارة فردية، مع احتياج الحكومة نفسها إليها، لأمر يشين الحكومة المصرية كثيرا لأنه ينم عن تأخرها في المضمار الجارية فيه الدول المتمدينة، فاشترى مصلحة البريد من ذلك الإيطالي النشيط بمبلغ ستة وأربعين ألف جنيه؛ وأنعم عليه بلقب بك، وأبقاه مديرا لها؛ وخصص له، في ميزانية حكومته، مبلغا وفيرا لينفقه على تحسين نظامها وترقية شئونها.
فأبقى موتسي بك مستخدميه القدماء فيها - وكان معظمهم من الإيطاليين، وباقيهم خليطا من السوريين والفرنسيين والجريك والنمساويين والروس والمصريين - واجتهد في إنماء عدد المكاتب وحركة التراسل، بجملة إصلاحات أدخلها على مصلحته تباعا.
وفي سنة 1876 طلب إقالته منها، فمنحه (إسماعيل) مكافأة سنية؛ وعين خلفا له إنجليزيا يقال له: المستر كليار (وهو الذي أصبح فيما بعد، كليار باشا؛ وعين مديرا عاما للجمارك المصرية؛ وترك لنفسه أثرا جميلا في قلوب المصريين) ولما رأى المدير الجديد أن عدد المستخدمين أكثر مما يستدعيه العمل؛ وأن معظمهم لا موجب لوجودهم في المصلحة إلا دالتهم على بعض كبار موظفيها، صرف ربعهم وأبدل بكثيرين من الباقين غيرهم من الأكفاء؛ وبالخليط، أولاد عرب بالتدريج.
وبعد أن نظم أقلام الإدارة العامة، أقبل ينشئ مكاتب جديدة في القطر حتى أبلغ عددها إلى مائتي مكتب وعشرة، فيها ثمانمائة وثلاثون مستخدما، عدا عن ثلاثمائة واثنين وأربعين جمالا وبربريا، وجعل توزيع المراسلات يوميا بين مصر والإسكندرية وجميع الجهات المهمة، بعد أن كان أسبوعيا أولا؛ فمرتين، ثم ثلاثا في الأسبوع، وما فتئ يحسن فيه حتى صيره إلى ثلاثة وأربعة وخمسة توزيعات في النهار على محطات السكك الحديدية الكبرى، ولما كان عدم انتظام الشوارع وعدم تنمير المنازل في المدن والبنادر يحولان دون توزيع المراسلات على أبواب البيوت، ويوجبان حصرها في شبابيك المكاتب، أنشأ في العاصمتين صناديق خاصة لمراسلات من شاء الاشتراك فيها من التجار والأعيان.
فبلغ عدد المراسلات في سنة 1878 مليونين ونصفا، معظمها تجاري، وبلغت قيمة النقود التي تصدرت، صرا، من عموم المكاتب، عشرة ملايين من الجنيهات، وما من شيء أبلغ من هذه الأرقام في بيان مقدار الخدمات الجليلة التي قامت بها مصلحة البريد بعد أن جعلها (إسماعيل) مصرية.
على أننا، إذا علمنا أنها قامت بها، ومصالح بريد أوروبية بجانبها في الإسكندرية ومصر والسويس، تزاحمها في أعمالها، وتستدعي إلى نفسها، طبعا، لا سيما في أوائل قيام المصلحة المصرية، ثقة التراسلين الغربي والشرقي على السواء؛ وإذا علمنا أن البريد لم يكن يستطيع السفر بين أسيوط وأسوان، وبين أسوان والسودان، إلا كل خمسة عشر يوما على سفن تجارية، ازداد في أعيننا قدر تلك الخدمات وازددنا ثناء على مسديها.
بقي علينا أن نرى ما الذي عمله (إسماعيل) في آخر سبيل من سبل توسيع نطاق الزراعة؛ وأعني به كيفية ربط الضرائب على الأطيان وتوزيعها توزيعا حسنا.
فلا مشاحة في أن القاعدة التي يجب لكل حكومة أن تقيم عليها أمر فرض الأموال على العقارات، إنما هي ثمن هذه الحقيقي، ومقدار ما يجنى منها من ثمار؛ ولا خلاف في أن أثمان الأطيان المصرية ارتفعت في أوائل عهد (إسماعيل) ارتفاعا عظيما؛ وبيعت حاصلاتها، لا سيما القطنية، بأثمان تكاد تكون منامية: وذلك بسبب الحرب الأمريكية الأهلية، وبوار زراعة الولايات المتحدة ومزارعها.
وليس من ينكر أن اتساع نطاق الري وطرق المواصلات، الاتساع الذي بيناه، كان من شأنه أن يجعل ارتفاع أثمان الأطيان، وزيادة حاصلاتها، مطردين.
فلا غرابة، والحالة هذه، في أن تكون الضرائب في عهد (إسماعيل) قد زادت على ما كانت عليه في عهد سلفه؛ وأن يكون قد أدخل على فئاتها شيء من التعديل، في مصلحة «الميري».
ولكن (إسماعيل)، قبل زيادة أي شيء فيها أو تعديله، رأى أن يعيد فك زمام القطر كله، ويروكه روكا جديدا؛ لكيلا يقع على أحد حيف بسبب ربط الضرائب الجديدة؛ لأنه كان يحدث كثيرا، في تلك الأيام، أن ذوي الجشع من القابضين على القوة الإدارية، وسواهم من ذوي الجاه كانوا يغتصبون أملاك صغار المزارعين، ويضعون أيديهم عليها، ولكن بدون نقل تكليفها إلى أسمائهم: فيستمتعون بغلائها، ويستمر الفلاحون، أصحابها الأصليون، يطالبون بأموالها ويجبرون على دفعها.
فصدرت الأوامر، إذا، إلى مشايخ البلاد وعمدها، بالاجتماع في المراكز، وتعيين مندوبين من قبلهم يكلفون بتقديم بيان واف إلى المديرين عن زمام الأطيان التابعة لدائرة نواحيهم، وكشف بأسماء ملاكها الحقيقيين، لكي تتمكن الحكومة من ربط الضرائب عليها، على نسبة ما هي عليه من الجودة، وتحصيلها ممن هو ملزم بدفعها في الواقع.
وكانت الأطيان المزروعة كلها تنقسم إلى قسمين: «خراجية» و«عشورية».
أما «الخراجية»، فهي التي آلت ملكيتها إلى أصحابها بموجب الأمر الذي قلنا إن (سعيد باشا) أصدره بأن تكلف الأطيان على أسماء المشتغلين فيها.
وأما «العشورية»، فهي الأطيان المعروفة بالأباعد والوسيات، وهي التي أنعم بها على أصحابها ليفلحوها في مقابل إعفائهم من دفع أموال عليها، مدة معينة؛ ومقابل ربط أموال يسيرة عليها، بعد انقضاء تلك المدة - وكان المنعمون بها يشترطون، في بادئ الأمر، نظير هذا الإعفاء، عودتها إلى الحكومة عند موت من وهبت إليهم، ولكن هذا الشرط أهمل فيما بعد؛ وأصبحت الأطيان العشورية تورث كالأطيان الخراجية، وقد بلغ مقدارها في أواخر أيام (إسماعيل) مليونا ومائتين وخمسين ألف فدان.
فلما تم روك البلاد، جعل متوسط ما ربط على الفدان من الطين الخراجي مائة قرش وعشرة؛ ومتوسط ما ربط على الفدان من الطين العشوري خمسة وثلاثين قرشا؛ علاوة على ريال أضيف إلى مال كلا الصنفين من الأطيان للقيام بأعمال الري وحفظ الترع والجسور.
فلا نزاع في أن هذه الفئات لم تكن لتتعب الفلاحة أو ترهقها؛ وأن أقصى ما كان يؤخذ عليها هو عدم مساواة الأطيان العشورية بالأطيان الخراجية فيها، مع أن معظم الأطيان العشورية كان لا يقل جودة عن مثله من الأطيان الخراجية.
ولكنه يجب ألا يغيب عن الأذهان:
أولا:
أن الفرق في المعاملة كان نتيجة تعهدات سابقة بين طرفين، لم يكن إلى نقضها من سبيل إلا باتفاق هذين الطرفين معا، أي الحكومة وأصحاب الأطيان العشورية عينها.
ثانيا:
أن معظم أصحابها، إن لم نقل كلهم، كانوا من الأغنياء الجهلاء الذين يرون في عدم مساواتهم بالفلاحين البسطاء، رفعة لشأنهم وإجلالا لقدرهم؛ ويهمهم أن يحافظوا عليها أكثر مما تهمهم مبادئ العدالة والإنصاف؛ وأنه لم يكن في الاستطاعة، والحالة هذه، مساواتهم بالفلاحين، قسرا، إلا بإحداث ثورة قد تتحول من اقتصادية إلى فتنة سيئة العواقب، كانت البلاد في غنى عنها.
ولكن الذي أتعب الفلاحة وأرهقها، هو أن طريقة جباية الأموال ما فتئت، منذ أنشئت حكومات في الشرق، حتى الحلقة التاسعة من القرن التاسع عشر لمصر، آفة من الآفات الكبرى التي بليت بها البلاد؛ وأن المنوط بهم أمر تحصيل الأموال كانوا يسيئون طريقة تحصيلها، ويتجاوزون حد المعقول في المواعيد التي يطالبون الفلاحين بدفعها فيها: إما لأن عين صاحب الأمر الأعلى لا تراهم، لانشغاله في تحقيق أمنيات نفسه السامية؛ وإما لأنهم، بالنسبة لدنوهم من قلبه، كانوا متأكدين من أنه لا يشك في إخلاصهم وأمانتهم.
20
فمن المشهور، مثلا، عن إسماعيل صديق باشا، المعروف «بالمفتش» و«الصغير»، وزير المالية، أنه كان يتبجح علانية، ويفتخر بأنه يحصل عادة من الفلاحة المصرية مليونين من الجنيهات سنويا أكثر من الظاهر في حساباته.
ومن المعلوم أيضا أن المديرين والحكام الآخرين المتولين شأن التحصيل - لا سيما في المديريات البعيدة عن العاصمة - كانوا يغتنمونها فرصة ليبتزوا من الفلاح التعيس، بوسيلة الكرباج، ما يزيدون به رخاءهم وثروتهم؛ وأنهم لكي يتمكنوا من حمل الصيارفة على الثبات في تحصيل ما يستطيعون تحصيله من الفلاح، تحت أسماء متنوعة، كانوا يأنفون من تعريفة المواعيد المقررة لدفع الأموال؛ بالرغم من أن الإرادة العليا، وقرارات مجلس شورى النواب جعلتها في الأوقات المناسبة؛ أي: بعيد جناء كل محصول هام.
وأما أن (إسماعيل) نفسه كان يرغب في ألا يصاب المزارع المصري بضيم؛ وأنه كان يفضل مصلحة الفلاحين من رعاياه على مصلحته الخصوصية ذاتها، فذلك واضح:
أولا:
من أنه - لما وضعت الحرب الأهلية الأمريكية أوزارها في أوائل سنة 1865؛ وتسبب عن انتهائها غير المنتظر نزول أسعار القطن في بورصة ليڨربول نزولا فاحشا وإصابة سوق الإسكندرية بخسائر جسيمة؛ وارتجاج الأرياف المصرية ارتجاجا سيئا فائقا؛ لأن المزارعين، ارتكانا على أن أثمان القطن ستستمر، حتما، غالية وأسعاره متمسكة، كانوا قد توسعوا في زراعته توسعا كبيرا، واستلفوا، لذلك، أموالا طائلة برهون عقارية، فأدى سقوط أسعاره فجأة إلى اختلال التوازن بين قيمة الأقراض وقيمات ضمانات سدادها العقارية، اختلالا نجمت عنه توقفات عديدة عن الدفع، أوجبت شكاوى ودعاوى، هددت بيوتا كثيرة بالخراب والمحق - تداخل (إسماعيل) في الأمر وتلافاه، فأصدر، وهو في ڨيشي يتطبب بمياهها المعدنية، أمره إلى ماليته، بفحص طلبات دائني المزارعين المصريين، وتحقيقها، وتسديد ما يثبت صحته منها، مقابل إصدار أذونات بالمبالغ المدفوعة تدعى «أذونات القرى»، يسدد أصحاب الأملاك المدينون قيماتها إلى المالية على ثمانية أقساط، ابتداء من سنة 1869؛ أي: بعد الأزمة بأربع سنوات، فصدعت المالية بالأمر؛ وسددت من ديون المزارعين المصريين ما أصدرت به أذونات قيمتها خمسة وثلاثون مليونا من الفرنكات.
21
ولعل الذي حمل (إسماعيل) على إنقاذ مزارعي بلاده من هذه الورطة التي وقعوا فيها، علاوة على رغبته في رفع الضيم عنهم، رغبته في عدم تحويل ثقة رءوس الأموال الغربية عن الأرض المصرية، لاعتباره هذه الثقة من عوامل تقدم البلاد في سبيل الحضارة، ومن أكبر أسباب إحياء روح العمل والنشاط فيها - وإلا، فإن المقرضين الغربيين الذين باتت أموالهم، بسبب هبوط أسعار القطن الفجائي، عرضة للضياع، أو إنها ضاعت بالفعل، لم يكونوا ليلوموا في ذلك إلا سوء تبصرهم، وشدة مطامعهم؛ ولم يكونوا جديرين بمواساة ما، فضلا عن العناية بهم؛ لأن معظمهم كانوا يقرضون المزارعين بفوائد معدلها ثلاثة أو أربعة، وأحيانا، خمسة في المائة شهريا!
ثانيا:
من أنه لما زاد النيل في سنة 1870 زيادة عظيمة هددت بالغرق، ثلاثا من قرى مصر، وبالخراب التام أهلها، ونما الخبر إلى (إسماعيل )، أمر بكسر الجسور فوق تلك القرى، في وسط أطيانه الخصوصية، لتتحول إليها وتغمرها المياه المتدفقة المهددة: فتنجو قرى الفلاحين البائسين ومزارعهم، فكسرت الجسور؛ وغرقت أطيان الأمير بالفعل، فأصابته، من جراء ذلك، خسائر قدرت بأربعة ملايين من الفرنكات، ولكن قرى المزارعين ومحصولاتهم نجت وأبعد، عنهم وعنها، البؤس والشقاء، فأعلن (إسماعيل) أن هذا يسره سرورا يجعل خسارته لا قيمة لها عنده بالمرة.
22
فأمير هذه عنايته بمزارعي بلاده وفلاحيها، حتى وهو في بلاد الغربة يتطبب وهذا شعوره، لم يكن ليرضى أن تثقل كاهلهم جباية الأموال المقررة على أطيانهم منهم ولئن أوخذ على شيء من المظالم والمغارم التي أحاقت بهم، في هذا الباب، فإنه إنما يؤاخذ بحق، على عدم تنزيله العقاب الصارم بموظفيه المجرمين المتجاوزين الحدود في ذلك، مثلما أنزله بإسماعيل صديق باشا كبيرهم، وعلى سماحه لنفسه بأن تغيب تلك المظالم والمغارم عن نظره وهو يتطلع إلى آفاق كان من شأن شرور الحاضر أن تتضاءل فيها، وتتوارى أمام عظمة المستقبل وزهوه وخيراته الجمة، التي كان يسعى إلى تحقيقها!
على أن عذره في ذلك، هو أنه لا بد، لجاني الورد، من وخز الشوك؛ ولا مفر، لقاطف العسل، من إبر النحل!
الفصل الثالث
فتح أبواب التجارة والصناعة والعمل1
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور .
قرآن شريف
إن التجارة أصبحت حرة، منذ تنكب محمد سعيد باشا جادة الاحتكار؛ وشاد حرية الأخذ والعطاء على القوائم الأربع الآتية:
الأولى:
أن كل فلاح مصري حر في إنماء المحصول الذي يراه أكبر فائدة له من سواه.
الثانية:
أنه حر في بيع محصوله نقدا لأي مشتر يشاء وبالثمن الذي يريده.
الثالثة:
أن التجار أحرار في نقل المحصولات التي يشترونها، بجميع الوسائل، برا وبحرا كما يشاءون.
الرابعة:
أن عموم الدخوليات والجمارك الداخلية تلغى، منعا لتحمل البضائع مصاريف تضاعف أثمانها.
2
وكانت الحكومة المصرية قد قررت في عهد عباس - ولا ندري لماذا - ألا تخرج السفن من ميناء السويس إلا بالترتيب، فما دامت السفينة التي عليها رقم 1، مثلا لم تنته من مشحونها، أو لا تزال غير مستعدة للسفر، فإن السفينة التي عليها رقم 2 تضطر إلى الانتظار وعدم الخروج، ولو أنها قد انتهت من شحن مشحونها وباتت على غاية الاستعداد للرحيل؛ وهلم جرا.
3
فشاحنو البضائع إلى موانئ البحر الأحمر كانوا يضطرون، مهما استدعت إرسالياتهم من إسراع، إلى الانتظار، ريثما يروق الإقلاع لصاحب السفينة السابق رقمها رقم سفنهم، فإن لم يرق له، ورغبوا، هم في السفر، تحتم عليهم الخضوع لكل الشروط التي يوحي بها الطمع، فينجم عن ذلك أحد أمرين: إما أن تزيد مصاريف الشحن زيادة فاحشة، وإما أن تتأخر البضائع في السويس تأخرا ضارا.
فألغى محمد سعيد باشا هذا النظام؛ واستبعد من قوانين الموانئ كل ما من شأنه إيجاد عراقيل في سبيل الإتجار.
فنزل سعر الشحن نزولا محسوسا جدا وراجت الأسواق التجارية رواجا عظيما؛ كانت نتيجته، من جهة، أن التجارة الخارجية سارت في طريق الصعود سيرا حثيثا؛ وارتفعت حركة الثغر الإسكندري - وكان المصدر العام لها تقريبا - من 81173050 فرنكا في سنة 1841 إلى 183902000 فرنك في سنة 1856 وإلى نحو مائتي مليون فرنك؛ أي: ما يقرب من ثمانية ملايين من الجنيهات في سنة 1862.
وتلا ارتفاعها أن اتخذ النشاط التجاري في الإسكندرية شكلا لم تعهده القرون الأولى فيها، منذ الفتح العربي؛ وأنشأ بورصة مالية انتشرت المضاربات فيها، على أثر صعود أسعار القطن في سنة 1862، بسبب الحرب الأهلية الأمريكية، انتشارا مروعا، ضارع في شدته وعنفه المشاهد منه في العواصم الأوروبية؛ وأدى إلى ثروات عظيمة زالت بسرعة فجائية عظيمة أيضا، لقيامها على بيع وشراء يعقد بالكلام لا بالتسليم، وتتحول إلى الغير بمكاسب طائلة أو بخسائر فاحشة.
وكانت نتيجة الرواج، من جهة أخرى، أن التجارة الداخلية انتقلت إلى أيدي الأهلين؛ وانحصرت فيهم شيئا فشيئا، لتفوقهم على عمال التجار الأجانب في معرفة عادات البلد وتقاليده ولغته وأساليبه؛ ولا سيما لقناعتهم في المأكل والمكسب، وأصبحت المراكب والسفن الشراعية التي تجتاز المحمودية، على الأخص، ومجاري النيل، على العموم، مشحونة، إن لم يكن كلها، فجلها، ببضائع لتجار من الأهلين، اشتروها من المزارعين مباشرة، في داخلية البلاد، ليبيعوها في الإسكندرية إلى التجار الأجانب نقدا وعدا.
وقد قال يومئذ أحد كبار التجار الغربيين لكاتب فرنساوي بليغ كان قد زار البلاد في أواخر سنة 1856، وهو يشير إلى امرأة مصرية، حافية القدمين، ومرتدية لباسا يكاد يكون رثا: «أتراني إذا قلت لك إني دفعت الآن إلى هذه المصرية، ذات المظهر الحقير المبتعدة أمامك، أربعمائة جنيه إنجليزي ثمن بضائع أتتني بها، أتصدقني؟»
4
وحمل اتساع التجارتين الخارجية والداخلية سعيد باشا على إنشاء شركتين للملاحة: إحداهما بحرية، والثانية نيلية.
فالأولى، ودعيت «المجيدية»، إكراما للسلطان العثماني عبد المجيد، تأسست بفرمان همايوني استصدره محمد سعيد باشا في أواخر ربيع الأول سنة 1273 من السلطان المذكور؛ وبرأس مال قدره عشرون مليونا من الفرنكات، مقسم إلى أربعين ألف سهم، قيمة السهم الواحد خمسمائة فرنك، وغرضها استغلال شواطئ القلزم لغاية الخليج الفارسي استغلالا تجاريا؛ ونقل الحجاج الذاهبين، سنويا، إلى الأقطار الحجازية، لتأدية الفريضة المقدسة، نقلا سريعا منظما؛ وربط نظام الملاحة في البحر الأحمر، بنظام سفن بخارية تمخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وتقوم بخدمة سواحل السلطنة العثمانية.
وقد وضعت هذه الشركة تحت رياسة الأمير مصطفى فاضل، أصغر أنجال إبراهيم باشا الكبير؛ وعين لها بطريقة استثنائية، مجلس إدارة مؤلف من نوبار بك وكيلا للرئيس ومراقبا لعموم أعمال الشركة في حال تغيب سموه؛ وكان من كبار الموظفين المصريين والتجار الأجانب.
والثانية، ودعيت «الشركة المصرية لقيادة السفن بالبخار على النيل والترع المصرية»؛ تأسست برأس مال قدره خمسة ملايين من الفرنكات؛ وبامتياز من محمد سعيد باشا في 9 محرم سنة 1271 /2 أكتوبر سنة 1854 إلى مؤسسيها، وهم زمرة من كبار التجار الغربيين؛ أشهرهم ذكرا السنيور پوپولاني؛ وبعض كبار موظفي الحكومة المصرية كذي الفقار باشا، المشرف العام على المالية المصرية؛ وكوينج بك سكرتير سمو الأمير الخاص؛ وموچيل بك كبير مهندسيه، وغرضها الانفراد بقوة البخار لجر بضائع الوارد والصادر في عموم دائرة القطر المصري، على النيل والترع المصرية بطلب من أصحاب المراكب المشحونة فيها تلك البضائع، وبالأسعار التي تضعها الحكومة المصرية لكل صنف منها، وذلك الانفراد مقابل إنشائها طلمبات نارية في العطف تكون قوتها كافية لحفظ المحمودية دائما في حال صالحة للملاحة ولري عشرين ألف فدان ريا صيفيا؛ وتزويد الإسكندرية بالماء اللازم لها، حتى فيما لو غيرت الحكومة طريقة المجارير المائية فيها.
غير أن هاتين الشركتين المساهمتين - وكانتا أول ما تأسس من نوعهما في القطر المصري، ولذلك توسعنا قليلا في ذكرهما - بالرغم من أن مدة أولاهما جعلت ثلاثين سنة، ومدة ثانيتهما خمس عشرة سنة لم تقوما بأعمالهما، أعواما قليلة، حتى تطرق الخلل الناجم عن الإهمال وعدم الاعتناء؛ لا سيما بعد أن أخذ المرض من (سعيد) مأخذه، فخسرتا جانبا كبيرا من رأسي مالهما؛ وبات الخراب التام يهددهما حينما آل الأمر إلى خلفه.
فشمر (إسماعيل) عن ساعد الجد في هذا الباب من المصلحة العامة، ومد يده إلى الشركة المجيدية، فجمع ما بقي من حطامها؛ ثم صفاها؛ وأنشأ، محلها، شركة جديدة، دعاها «العزيزية» إجلالا للسلطان عبد العزيز، كان جل رأس مالها من جيبه الخاص وساعده على ذلك ثروته الشخصية حينما ارتقى عرش مصر فقد كان إيراده لا يقل عن مائة وستين ألف جنيه سنويا ولم يكن عليه دين ما؛ وجعل مهمتها القيام بالشأن الذي أسست المجيدية من أجله.
ولما رأى أعمال الملاحة سائرة على أتم ما يرام في البحر الأحمر وعلى سواحل البحر المتوسط العثمانية، وريح اليسر والرخاء نافخة في قلوع «العزيزية» تاقت نفسه إلى توسيع نطاقها وجعل سفنها تمخر في المياه الأوروبية، حاملة في مرافئها الجنوبية، الراية المصرية وهي خافقة فوق بضائع مصرية.
فأرسل اثنين من أخصائه ومن كبار رجال الجاليتين الإيطالية والفرنسية، يدعى أحدهما السنيور فرنشسكو ييني بك، والثاني المسيو چورنو بك إلى البندقية ومرسيليا، ليمهدا له سبل العمل والنجاح فيهما، فعقدا اتفاقا في إيطاليا وفرنسا، ولكنهما صادفا، من منافسه ومن حسد الملاحة الأجنبية هناك في إيطاليا وفرنسا، لا سيما من شركتي البننسيولر والأورنيتل الإنجليزية، والمساچيري امپريال ماريتيم الفرنساوية، ما اضطر الأمير إلى العدول عن فكرته، والاقتصار على ملاحتي القلزم وسواحل البحر الأبيض الجنوبية، وتحويل جهوده في إنماء تجارة بلاده إلى وجهات أخرى.
5
فطفق، من جهة، يعضد، بأمواله الخصوصية، رءوس الأموال الفردية، لتكوين شركات مساهمة عديدة، بدون نظر إلى جنسية المساهمين فيها، أو دينهم: فتأسست، بحضه، وتحت تأثير موحيات رغائبه، وبرءوس أموال كان ما يخصه فيها أهم رءوس الأموال الفردية المكتتب بها، شركة اعتمادات مالية زراعية مساهمة، غرضها تسليف المزارعين، ولا سيما أصاغرهم، نقودا بفوائد خفيفة لإنقاذهم من أيدي المرابين اليونانيين واليهود وغيرهم؛ وشركة مساهمة لاستيراد الماكينات البخارية من أوروبا، وبيعها إلى المزارعين المصريين بأقساط تناسب درجة ثرواتهم، وتركيبها في الأماكن التي تعين لها؛ وشركة مساهمة ثالثة للقيام بنفاذ مشاريع الري والطرق الزراعية التي تقرها المجالس المحلية وتعتمدها الحكومة؛ وشركة رابعة لاستغلال السودان والإتجار بحاصلاته المتنوعة، وعمد فيما بعد إلى تأسيس شركات اعتمادات مالية لتعزيز مركز مصر المالي وتحريره من الاحتياج إلى رءوس الأموال الغربية، كمصرف أهلي أو مصرف عقاري، يكون هو أكبر مساهميها وأهم عملائها، وأنشأ، أثناء وجوده في باريس سنة 1869 بالاشتراك مع الخواجات ا.دي.چيراردين وأعوانه الماليين الشهيرين الذين عرفه بهم نوبار باشا «الشركة العمومية المصرية» للإتجار والاستغلال، لحفر ترعة كبرى لري جزء الوجه البحري الشمالي الغربي - فدفع، هو، معظم رأس مالها وكل مصاريف تأسيسها - وأسس كذلك المصرف (البنك) الفرنساوي المصري، بالاشتراك مع المسيو ليڨي كريميي اليهودي الذي ربط بين سموه وبينه وثاق صداقة متينة رجل مالي كان مخصصا لخدمته في تلك العاصمة.
6
وطفق، من جهة أخرى، وهو يعمل على توسيع نطاق السكك الحديدية - أساس رقي كل تجارة في العالم، بل كل رقي على الإطلاق - يفكر في جعل ميناءي الإسكندرية والسويس - وهما أكبر الثغور المصرية على البحرين الأبيض والأحمر - على درجة من الاتساع والأمن يتسنى لهما أن يباريا أكبر الموانئ العالمية في أهمية حركتهما التجارية.
أما السويس، فإن شركة البنسيو لراند أورينتل الإنجليزية كانت قد طلبت في سنة 1842 من (محمد علي) أن يأذن لها بإجراء أعمال هامة فيها، تجعلها فرضة فسيحة أمينة، وإنشاء حوض عام لتصليح السفن؛ فأبى.
فلما آلت الأحكام إلى محمد سعيد باشا رفعت إليه شركة المساچيري امپريال ماريتيم طلبا في المعنى عينه؛ وتوسمت منه قبولا لما اشتهر عنه من الميل إلى فرنسا وحبه للفرنساويين، فعضد طلبها المسيو براڨيه - وكان أخص أخصاء محمد سعيد باشا. فأجابها إليه في سنة 1861؛ واتفق معها على أن يدفع لها سبعة ملايين من الفرنكات على أن تقوم هي بعمل الحوض العائم، فقط؛ علاوة على تقديمه يد السخرة المصرية إليها لتستعين بها على نجازه.
فكلفت الشركة بالعمل محل دوسو اخوان
Dussan - وهو الذي بنى فيما بعد ميناء بورسعيد - وشرع ذلك المحل في سنة 1862 ولكن الحكومة المصرية رأت، بعد ذلك، لأسباب لا داعي إلى بيانها هنا، أن تمنع يد السخرة، وتعوض الشركة منها بإعطائها مليونا ونصفا من الفرنكات، علاوة على السبعة المتفق عليها، ولم يقف سخاؤها عند هذا الحد بل تجاوزه حتى وصل المبلغ إلى تسعة ملايين. على أن العمل لم يتم إلا في عهد (إسماعيل)؛ ولم يفتح الحوض المذكور إلا في سنة 1866.
فأراد (إسماعيل) أن تعمل ميناء واسعة هناك؛ لا سيما بعد الفراغ من عمل ترعة السويس وفتحها، فأمر؛ فشرع في العمل في سنة 1870 وأنشئ حوض خارجي دعاه (إسماعيل) «بور إبراهيم»، إكراما لاسم أبيه الهمام، وربطه بالسويس بسكة حديدية، أنشأ إلى جانبها سكة عربات؛ وما زال يعمل ويحسن لتأمين السفن وراحتها حتى بلغ مجموع ما أنفقه في هذا السبيل، مليونا وخمسمائة ألف وعشرة آلاف جنيه.
أما ميناء الإسكندرية - وطولها ستة أميال وعرضها ميلان بين رأس التين ورأس العجم من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وهي مقفلة من كل جانب إلا من هذا الجانب الأخير - فإن (إسماعيل) كان قد أحس بوجوب تصليحها منذ ارتقائه سدة جده، للمسه، بيده، المضار الناجمة عن قيام الصخور متشعبة في مدخلها ومجراها، ولكن ذلك الإحساس زاد فيه، بعد فتح ترعة السويس، زيادة لم يعد يستطيع معها صبرا على بقاء الحال كما هي، لا سيما بعد أن رأى تحول جانب عظيم من تجارة الإسكندرية بسبب صعوبة مدخل مينائها إلى مجرى تلك الترعة البحرية.
فعقد، قبل نهاية سنة 1870، عقدا مع محل جرينفلد وشركائه الهندسي بلندن، كلفه بمقتضاه بإقامة حاجز ضخم خارجي؛ وإنشاء ميناء داخلية؛ وبناء أرصفة فيها للسفن، تكفل لها وللمسافرين الراحة التامة، نظير تقاضيه مبلغ مليونين من الجنيهات الإنجليزية.
فبعد بضعة أشهر صرفت في تجهيزات لم يكن منها بد (ووجد المهندسون الإنجليز، في خلالها، سبيلا إلى جعل المليونين المتفق عليهما - بالرغم من احتوائهما على زيادة في التقدير تبلغ ثمانين في المائة، أسوة بجميع الأشغال العمومية والخصوصية التي قام بها مهندسون غربيون في عهد (إسماعيل) - مليونين ونصفا، وذلك بإضافتهم بعض تعديلات إلى التصميمات والرسوم الأصلية) شرع في العمل في بدء ربيع سنة 1871، بعد حفلة شائقة وضع الخديو فيها بيده أول حجر في ذلك الميناء الفخم.
فسير بالحاجز، أولا، جنوب منارة رأس التين الغربي، وعلى بعد خمسين مترا منها، مسافة قدرها ألف متر، ثم ميل به نحو الجنوب الجنوبي الغربي مسافة قدرها ثلاثمائة وخمسون مترا: واجتيز به الثغر كله، فإذا به ميلان يشتملان على ألف وأربعمائة فدان مياها هادئة تستطيع أكبر مراكب العالم وعمارات الدول كلها الرسو باطمئنان والاجتماع براحة فيها، وإذا بالمدخل الأهم دائر خلف الحاجز الجنوبي الغربي على بعد 1500 متر من الشاطئ، والممر الضيق لدخول المراكب الصغيرة وخروجها، إلى جهة رأس التين، وإذا بالبناء قد برز على علو سبعة أقدام فوق كل علو قد تبلغ إليه أمواج البحر في أشد ارتفاعها، وشمل، من جهة الشاطئ الحاجز “Mole”
الواسع، على مسافة تسعمائة متر من فم المحمودية، لجهة رأس التين، واشتمل على أرصفة طولها 1440 مترا في منتهى المتانة والجودة.
ثم أوصل ذلك جميعه بسكة حديد القباري، بخط حديدي أنشئ لهذا الغرض خصيصا، فأصبحت القطارات تستطيع تفريغ مشحونها على الأرصفة الراسية البواخر بجانبها مباشرة؛ وتستطيع البواخر تفريغ مشحونها مباشرة أيضا، في القطارات العاجة التي تملأ صغار قاطراتها تلك الأرصفة! وبلغت قيمة ما تقاضته الحكومة من الرسوم سنويا من السفن الداخلة إلى ذلك المرفأ لغاية سنة 1877 مائة وثلاثين ألف جنيه.
7
على أن همة (إسماعيل) لم تقتصر على توسيع ميناءي السويس والإسكندرية؛ ولكنها تناولت موانئ البحر الأحمر القصية عنها، من القصير إلى زيلع وبربرة، وأدخلت عليها من التحسينات ما كان متناسبا مع انتعاش حركة السودان التجارية في عهده، ونموها.
ولعلم (إسماعيل) أنه لا بد للموانئ، لكي تقوم بعملها قياما نافعا في النهار والليل، من منارات فيها، ترشد السفن إلى أحواضها الداخلية الأمينة، وتدرأ عنها أخطار الشعاب الصخرية، أكثر من إنشاء هذه السرج الجزيلة النفع على جميع شواطئ مملكته المترامية الأطراف.
فإنه، حين أدركت (سعيدا) منيته، لم يكن من تلك المنائر سوى منارة الإسكندرية ونور عائم في خليج السويس، فما ابتعدت الأيام بملك (إسماعيل) إلا وقد قامت سبع منارات عظيمة على ساحل البحر الأبيض، غير الصغرى منها، وسبع أخرى على سواحل البحر الأحمر، وواحدة على ساحل الأوقيانوس الهندي، وإليك بيانها:
أولا:
على ساحل البحر الأبيض: أربع بالإسكندرية وهي: منارة رأس التين تبعث أنوارها المتألقة إلى بعد عشرين ميلا، ومنارة طرف الحاجز، تبعث أنوارها إلى بعد ستة أميال؛ ومنارة العجمي؛ ومنارة الخليج الغربي؛ ثم منارة رشيد، ونورها الأبيض والأحمر جميل للغاية؛ ومنارة رأس البرلس، ونورها أبيض ثابت؛ ومنارة دمياط، ونورها أبيض كذلك؛ ومنارة بورسعيد الكبرى، وهي مثيلة منارة الإسكندرية، وتبعث أنوارها الجميلة إلى بعد عشرين ميلا.
ثانيا:
على ساحل البحر الأحمر، منارة السويس الكبرى، تبعث أنوارها على بعد ثمانية عشر ميلا؛ أنشئت في الميناء، علاوة على النور العائم في الخليج والنور الأبيض المقام على مدخل الثغر؛ ومنارة أخرى دون الكبرى بقليل، تبعث أنوارها إلى مدى أربعة عشر ميلا، من قمة رأس الزعفران، الواقع على بعد خمسين ميلا جنوبي السويس؛ ومنارة ثالثة مثلها يرى نورها من بعد أربعة عشر ميلا كذلك، على قمة رأس غريب، ويبعد عن رأس الزعفران جنوبا خمسين ميلا أخرى؛ ورابعة، أقوى منها، في جزيرة الجبل، على مدخل الخليج، تبعث أنوارها إلى بعد ثمانية عشر ميلا؛ وخامسة قائمة على صخور ديدلوس في وسط البحر الأحمر في خط 24 و55 شمالا، تبعث أنوارها إلى بعد أربعة عشر ميلا؛ وسادسة مثلها في سواكن؛ وسابعة في الوجه بمحطة الأربعينيات (الكورنتينات).
وأما التي على ساحل الأوقيانوس الهندي، فواحدة في بربرة، قائمة هناك، دليلا ساطعا على نور المدينة والحضارة المنبعث عن (إسماعيل) إلى أقصى أطراف مملكته، والمنبئ بشروق شمس أيامه في شرق القارة السوداء، لتبدد غياهب ظلماتها الهمجية وتخترق حجب دياجيرها المدلهمة.
وقد بلغ ما أنفق في إقامة هذه المنارات الشاهقة التي كان معظم حراسها من الإنجليز الخبيرين بعملها، نيفا ومائة وتسعين ألف جنيه؛ وقد اعتنى بها وبتنظيمها اعتناء جعلها في مقدمة مثيلاتها في البلاد الغربية عينها، وجعل ما يتقاضى من الرسوم على السفن المنتفعة بها يزيد على ما تستدعيه صيانتها من نفقات - والفضل في ذلك إلى مديرها العام ماك كيلوب باشا.
8
وكانت السفن التي تجتاز قنال السويس إلى الشرق الأقصى تدفع رسوما في ذهابها وإيابها؛ وأما التي تقف في السويس ثم تعود إلى بورسعيد فلم تكن تدفع سوى رسوم الذهاب؛ والسفن الحربية لا تدفع شيئا؛ وأما السفن البريدية فكان يعمل خصم قدره 5٪.
ولعلم (إسماعيل)، أيضا، أن نفخ روح الحياة في أصناف الصناعات والفنون وأبواب العمل، من شأنه أن يضاعف الحركة التجارية بإكثار مستورداتها وصادراتها أكب على الأمرين معا بكل نشاط نفسه النشيطة.
أما الصناعات والفنون - وقد كانت مصر في أيام الفاطميين والأيوبيين، بل في ذات أيام السلاطين المماليك من بحريين وبرچيين، مهبطها وكعبتها - فإن الحكم التركي المملوكي - الذي أنشأه في الديار السلطان العثماني سليم خان الأول عقب انتصاره على جنود طومان باي البواسل، في واقعة الريدانية، وذبحه نيفا وخمسين ألفا من سكان القاهرة، وسلبه كنوزها ونفائسها وتسييره صناعها ومشاهير رجال فنونها إلى الأستانة، مع الزمرة من أعيانها التي اعتقلها فيها صحبة المتوكل على الله آخر خليفة عباسي بمصر - كان قد قضى عليها قضاء مبرما؛ كما قضى على كل حركة حيوية غيرها: فبت ترتاد البلاد من الإسكندرية إلى أسوان فلا تجد مصنعا واحدا من المصانع العديدة التي كانت تعمل فيها النفائس والطرف من أنواع ما تحفظه دار آثارنا العربية بمصر، اليوم.
فلما استلم (محمد علي) زمام الحكم بيده القوية، وصفا له الجو بزوال أيام معارضيه من مماليك وغيرهم؛ ووقع في خلده أن ينشئ في مصر، ومن مصر، دولة شابة يقيمها على جبهة الشرق، ساطعة السنا، رأى أنه لا بد له من إحياء الصناعات والفنون فيها، ليتمكن من نيل أغراضه وقضاء أوطاره.
فأقبل ينشئ المعامل والمصانع في كل جهة؛ منها ما هو لصنع الأشياء الشرقية التي كانت البلاد تصنعها في أيام عزها السابق - ونرى بعضها الآن مما صنع في عهده في قصور أفراد أسرته الكريمة و«سراياتهم»؛ ومنها ما هو لصنع الأشياء الغربية المستوردة من الخارج.
تلك المعامل والمصانع أقيمت، في الوجه البحري: بمصر، وقليوب وميت غمر وزفتى والمحلة الكبرى وسمنود والمنصورة ودمياط وفوة وشبراخيت إلخ، وفي الوجه القبلي: في بني سويف والمنيا ومنفلوط وأسيوط وطهطا وجرجا وسوهاج وإخميم وإسنا إلخ؛ واشتغل فيها نيف وعشرون ألف عامل.
ولكنها، بالرغم من وجود الرؤساء المستقدمين من أوروبا حتى من أميركا بكثرة فيها، لتعليم الصناع المصريين المشتغلين تحت إدارتهم، ما لبثت كلها أن تعطلت وأقفلت في عهد (محمد علي) عينه، ما عدا معمل الطرابيش بفوة، فإنه بقي قائما بفضل استيراد جميع أفراد الجيش والهيئة الإدارية طرابيشهم منه.
9
والمرجع في هذا البوار والتعطيل إلى سببين رئيسيين: (الأول) عدم وجود المواد الأولية كالحديد والفحم، في البلاد، وضرورة استحضارها من الخارج بأثمان باهظة كان من شأنها جعل مجاراة المصنوعات المصرية للمصنوعات الأجنبية، في أثمانها، ومساواتها فيها، أمرا متعذرا؛ و(الثاني) أخذ الحكومة المصرية بمبدأ الاحتكار التجاري، وهو مبدأ من شأنه قتل كل همة فردية والقضاء على روح كل إقدام.
ولم تجد الصناعة تعضيدا من خلفاء (محمد علي) الثلاثة الأول، فإبراهيم لم يعش؛ وعباس لم يهتم؛ وانصرفت الأمة في مدة سعيد بكلياتها وجزئياتها إلى الفلاحة، عقب التسهيلات التي قدمت لها، ولم تكن قد اعتادتها. على أن تهافت الأجانب على القطر في مدة سعيد، أوجب توسع العمارة بالإسكندرية، مع ما توجبه شيئا فشيئا من تغيير معالم ونشوء مصانع ميكانيكية؛ ولكنه لم يدخل تغييرا محسوسا، حتى ولا تعديل على نظام الصناعات والفنون البلدية.
فبقي هذا النظام معمولا به كما كان منذ قديم الزمان: أثرا للماضي الفرعوني؛ واتخذ من العصر التركي اسما جديدا لم تعهده مصر العربية وهو «الطوائف».
فكل صناعة أو حرفة كان يقال لها: «طائفة» وكان لكل طائفة شيخ ينتخبه كبار رجاله، وتصدق الحكومة على تعيينه مقابل رسم يدفعه إليها، ويختلف مقداره مع اختلاف الأيام.
فمتى تعين الشيخ رسميا، أصبح حاكم «الطائفة» المطلق والمسئول الوحيد عن كل شئونه، فهو الذي يحدد أثمان العمل؛ ويرتب درجات الأجور؛ ويقبل دخول أعضاء جديدين في الطائفة؛ ويرشد إلى كيفية إنجاز الاتفاقات؛ وينتدب الصناع الذين ينجزونها؛ ويجمع العوائد المفروضة على رجال الطائفة؛ ويمنح الأعضاء، ساعة قبولهم، الشهادات التي تثبت كفاءتهم وتبين مقدار الأجرة اليومية الواجبة لهم؛ لأنه إذا جاز لرجل الطائفة أن يقاول على الشغل بالقطعة، لم يكن يجوز له أن يقاول عليه باليومية؛ لأن يوميته كانت معلومة ومبينة في شهادته، ولا سبيل له إلى زيادتها ولا إلى تنقيصها، فكانت المزاحمة، والحالة هذه، معدومة بالمرة؛ وكان العمل على العموم تحت رحمة شيوخ «الطوائف»؛ فإذا بلغهم أن أحد رجال الطائفة اشتغل بأجرة زائدة على المبينة في شهادته أو ناقصة عنها جاز لهم أن يطلبوا عقابه من الحكومة وحبسه وينالونهما.
على أنه كان يباح للصانع أن يشتغل في فرعين من فروع فنه بشرط دفع ضريبة مضاعفة؛ كذلك إذا احترف بحرفتين - وهو ما كان نادرا - إلا إذا اتفق سرا مع الشيخ، وحمله برشوة على غض نظره.
10
أما الصناعة الغربية المستوطنة، فلم تكن خاضعة لهذا النظام، ولكنها لقلتها، لم يكن في استطاعتها أن تزاحم الصناعة المحلية، مزاحمة محسوسة، ومن المعلوم أن قلة المزاحمة تعود الخمول، وتحول، عادة، دون تحسين العمل ورقيه وبلوغه درجة الكمال.
فلا عجب، والحالة هذه، من بقاء الصناعات والفنون المحلية في مستوى واحد، طوال المدة ما بين سنة 1800 وسنة 1863.
فلما نفخ (إسماعيل) فيها، من روحه، أخرجت الأرض المصرية أولا، برأس مال قدره ستة ملايين من الجنيهات، معامل سكر في مصر الوسطى، تمتد على طول تسعين ميلا على شاطئ النيل الأيسر، من بني سويف إلى برج أسيوط؛ وتستغل محصول 257000 فدان بمعاصرها القائمة بالفشن، ومغاغة، وآبا، وبني مزار، ومطاي، وسمالوط، والمنيا، وفرشوط؛ ومعامل سكر أخرى في الصعيد، تمتد ما بين أرمنت، والضبعة والمطاعنة وتستغل أربعين ألف فدان؛ ومعامل سكر ثالثة في واحة الفيوم، تستغل حاصلات ديميرس، وسليكس، والفيوم، وأبو كساه، ومعصرة دودا؛ وكل معمل منها يشغل نيفا وألفي عامل، كلهم مصريون ما عدا المهندسين - فإنهم كانوا إنجليز - ويخرج، علاوة على السكر، عسلا أسود (دبسا) أجود من عسل جزر الهند الغربية، وروما من أطيب المشروب، بثمن إجمالي قدره سنويا مائة وسبعون ألف جنيه.
وأخرجت، ثانيا، معامل نسيج عديدة، اشتغل فيها من الصانعين ما ربا عددهم على عدد صناع كل حرفة أخرى: فألف وستمائة منهم كانوا يشتغلون في معامل دوائر الوالدة باشا، بفوة، وبولاق، وشبرا، والمعمل الأول كان يخرج خمسين ألف طربوش، في السنة، يباع معظمها إلى رجال الجندية والبحرية، وباقيها للعموم؛ والأخرى تخرج 315 ألف ثوب من الصوف، معظمها للجنود أيضا.
وأقام بمصر ستين معملا لنسج القطن والتيل؛ وعشرين لنسج الصوف؛ وأحد عشر لعمل الأبسطة؛ ومائة وسبعة للحياكة ونسج البفتة.
وأقيم بالإسكندرية ثمانية وثلاثون محلا لنسج القطن؛ وواحد وثلاثون محلا لعمل الأبسطة.
ونشأ في دمياط مائة وستة وستون دكانا لنسج الحرير واثنان وستون لصناعته، وقام المجتهدون ، في بني سويف، يكثرون من عمل البساط الصعيدي المعروف بالكليم والأنسجة التيلية الخشنة للبس الفلاحين؛ وكان في كل دكان من دكاكينهم من منوال إلى اثني عشر منوالا.
وأخرجت، ثالثا، معامل لصنع المعادن؛ منها ثلاثة للحكومة، وهي: مسبك مدافع، ومعمل بنادق - وفيه ماكينات لتصليح البنادق من أحدث طراز رمنجتن - وعنابرهما ببولاق؛ ومعمل خرطوش بالإسكندرية؛ علاوة على معمل سلاح، وعنابر للبواخر والسفن الحربية - وهو ما أنشئ فيما بعد نظير له في السويس.
أما معامل شغل المعادن الخاصة بالأهلين فكانت بمصر: خمسة وثمانين مسبك حديد، و73 معملا للنحاس، و80 محلا للتبييض، عدا 240 محل صائغ، وعدة معامل سلحدارية وحدادين، تخرج من الأسلحة أنفسها وأجملها، ومن الأدوات الحديدية الصغرى، ما تدعو إليه الحاجة؛ وبالإسكندرية: 6 مسابك حديد، و43 محل حدادة، و20 معمل نحاس، و93 محل صياغة.
ثم أنشأت الحكومة، بقليوب، معملا لضرب اللبن كان يخرج 4700000 لبنة حمراء كل عام؛ ثمن الألف منها تسعون قرشا صاغا - وكان معظم البناء حينذاك بالأجر والقليل منه جدا بالحجر. وكانوا يستخرجون الحجر، بمصر، من المقطم؛ وبالإسكندرية، من المكس كما هو شأنهم اليوم، بعد أن كانوا، قبل سنوات قليلة من ذلك العهد، ينهبون المعابد القديمة كلما أرادوا إنشاء بناء بالحجر.
وبدت الدباغة وصناعة الجلود فأنشأت الحكومة، لهذا الغرض، مصنعا بالإسكندرية، كانت تدبغ فيه من ثلاثين إلى أربعين ألف جلد سنويا، ما بين جلود بقر وجاموس وخراف وماعز.
وأنشأ الأفراد نيفا وثلاثين مصنعا بمصر والإسكندرية، تجهز وتدبغ أكثر من مائتي ألف جلد سنويا، فكثر تصدير الجلود المصرية إلى الخارج، وراجت صناعة السروجية في داخل القطر رواجا عظيما.
ولسنا نقول شيئا عن صناعة الخزف؛ لأنه من المعلوم أن صنع القلل والزلع والأباريق والأزيار، وما على شاكلة ذلك جميعه، والتفنن في صنعه، قديمان بمصر قدما تكاد الذاكرة لا تدركه؛ ومن المعلوم أيضا أن هذه الصنعة بلغت في مصر القديمة شأوا لم تبلغه في مصر الحديثة، ولكنا نقول إن أفضل أدوات حرفته إنما كانت تخرجها مصانع قنا وبلاص وأسيوط ومنفلوط وملوي؛ وتنزل إلى المراكب في النيل منها، سنويا، خمسمائة ألف قطعة، كما كانت تفعل في أيام طوطمس العظيم، وأيام أن أكره بنو إسرائيل على مغادرة مصر.
وأخرجت هذه الأرض المصرية أيضا من ثمانية إلى عشرة معامل زجاج - واسم أحدها لا يزال مطلقا على إحدى المحطات بين الإسكندرية ودمنهور - كانت تصنع للأسواق نيفا وعشرة آلاف قطعة متنوعة سنويا؛ عدا عشرين ألف زجاجة مصباح. نذكر هذا: والألم ملء الفؤاد، في هذه الأيام التي لا معمل زجاج لنا فيها حتى أصبحت زجاجة المصباح البسيطة ذات العشرين الفضة دارجة، سابقا، تباع بنصف ريال، منذ أن حالت الحرب العالمية الكبرى دون أن ترسل مصانع الغرب شيئا منها إلينا.
11
وماذا نقول عن معامل الورق التي أقامتها الدائرة السنية - أي: دائرة (إسماعيل ) - ببولاق سنة 1870، وكان يشتغل فيها 220 عاملا وطنيا تحت رقابة مهندسين ورؤساء أعمال من الإنجليز؛ فيخرجون 18 طنا من الورق المستعمل للف السكر، وسبعين ألف فريدة ورق طباعة وكتابة، من أنواع مختلفة، يصنع أوطؤها قيمة من الحلفاء وقشر القصب، وكانت تكفي كل الحاجة إليها بمصر، ويصدر الزائد على الحاجة منها بالات بالات إلى الحجاز، بل إلى الهند؟
نحن لا نتوسع في ذكرها، خشية إيلام النفوس؛ لأن عدمها الآن بمصر، مع انعدام الوارد من الخارج أصبح يهدد المدارس، بالإقفال، لا الصحافة والتأليف فقط بالتعطيل، ومصالح الحكومة بالارتباك.
أما المطبعة الأميرية التي أنشأها (محمد علي) فإن (إسماعيل) وسعها توسيعا أصبحت معه تستطيع أن تطبع كل ما تحتاج إليه مصالح الحكومة، وجميع كتب التدريس التي تقررها وزارة المعارف العمومية باللغتين العربية والتركية، وفي كل لغة من اللغات الأوروبية الكبرى، كالفرنساوية والإنجليزية والطليانية، طبعا نظيفا متقنا، خليقا بأي مطبعة بباريس ولندن، مهما كانت كبيرة، ومعتنى بها، أن تفتخر به؛ مع أن عمالها - وكانوا أكثر من مائة - كانوا جميعا من المصريين.
على أن الإقدام الشخصي شرع، مع ذلك في مزاحمتها مزاحمة كبيرة منذ ذلك الحين، فالدائرة السنية أنشأت محل ليتوغرافيا لها ببولاق؛ وأنشأ بعض الفرنج والأهلين خمس مطابع وخمسة محال ليتوغرافيا بمصر، وأربعة بالإسكندرية؛ ولكن العمال فيها كانوا إفرنج كلهم.
وازداد عدد المشتغلين في باقي الحرف، فالطحانون والفرانون أصبحوا طائفة كبيرة؛ وبلغ عدد الخبازين في المدن والبنادر وحدها - خلاف الفلاحين والبدو - 2300 خباز منهم 1000 بمصر و490 بالإسكندرية، وبلغ عدد صانعي الفطير والحلوى ألفا ومائتين، منهم 800 بمصر، و200 بالإسكندرية، والباقي في البنادر، وبلغ عدد الطواحين البخارية 27 بمصر و21 بالإسكندرية؛ وما يدار منها بالخيل 575 بمصر و127 بالإسكندرية، علاوة على 37 طاحونة هوائية بهذا الثغر، وجملة طواحين بطنطا والزقازيق والمنصورة، وكان للحكومة طاحنة بخارية عظمى، تقوم بطحن الغلال اللازمة للجيش والبحرية؛ ومخبزان عظيمان بمصر والإسكندرية، لتوزيع الخبز على الجنود والنوتية، وعلى جهات البر والمدارس والحجاج العابرين.
وزاد عدد البنائين وصانعي الأحذية والسمكريين، وازدادوا اتقانا لصنائعهم، حيال المزاحمة الأجنبية؛ كذلك كان شأن التطريز والصياغة، ولو أنهما استمرا يشتغلان على النماذج القديمة المصرية.
غير أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئا فشيئا، وتحل محلهما الصنعة على الطراز الغربي؛ حتى أصبح ثمن «العينة» فقط من الصنعة القديمة أغلى مما كان ثمن الشباك كله في عهد علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وكذلك بات شأن التزويق والتنميق في داخل المنازل والقصور: فإن الذوق والصنعة القديمين زالا منهما، وحل مكانهما الذوق والصنعة الألمانيان.
أما التفريخ فبقي كما كان قديما، ووصفه هيرودوتس المؤرخ اليوناني، غير أن معامله - وكان عددها 600 في القطر - ازدادت نشاطا وطفقت تخرج نيفا واثني عشر مليون دجاجة سنويا.
وأدت الحرب الأميركية الأهلية إلى إنشاء معامل قطن في البلاد، منها ستة بخارية، بتسعة مكابس بالإسكندرية؛ ومعملان في داخلية القطر، أحدهما بالمنصورة، خاصة و«تورت اخوان»، كان أكبر المعامل قاطبة، لاشتماله على ثمانين محلجا وسبعين مكبسا وآلات لتنظيف الذرة وطواحين زيت وطواحين دقيق عظمى وآلات لفرز الكتان.
وأحيت روح (إسماعيل) العمل في مناجم الزمرد، بجبل زبارا ووادي سقيط، بين إدفو والبحر الأحمر؛ وفي مناجم الرصاص، بجبل الرصاص، في الجهة عينها؛ وفي مناجم الذهب في بلاد البشاريين؛ وفي مناجم الفيروز بمغاور شبه جزيرة سينا؛ وفي محاجر المقطم وأسوان الغرانيتية، ومحاجر وادي عمرحوب المرمرية، وجبلي الدخان الأبيض والأحمر الرخامية؛ وحثث: فأوجد البحث قليلا من الحديد والرصاص والنحاس في بعض الصخور بشلال أسوان وجبل زبارا.
ونشط استخراج النطرون من مديرية البحيرة، واستخراج النترات والأملاح من البحيرات ومن الصخور، حوالي شواطئ البحر الأحمر.
أما النطرون فأصبح له ثمانية أحواض كبيرة، وبركتان صغيرتان تجفان في الصيف، استغلت الحكومة جانبا منها، واستغل الأهالي الباقي؛ واشتغل فيها ثلاثمائة عامل، منهم مائة راهب قبطي مقيمون في أربعة أديرة.
وأما النترات، فإنه أضحى يستخرج منه 650 كيلو من أنقاض المدن القديمة، وينظف في المعامل المصرية، فيؤدي 560 كيلو من نترات البوتاسا.
وأما الملح، فإنه أصبح يشتغل في استخراجه ألف شخص وثلاثمائة حيوان من اثنتي عشرة حفرة؛ فيستخرجون منه 72000 إردب سنويا.
ووجد زيت حجر (بترول) على بعد مائة ميل جنوب السويس؛ فأحضرت الماكينات لاستغلال ينابيعه، وبوشر العمل؛ وما لبث أن أخذ يبشر بنجاح قريب.
وراج صيد الأسماك في المصايد والنيل والبحر فاشتغل نيف و3700 صياد، في نيف وثمانمائة قارب، على النيل وفي البحر؛ وما يزيد على ستة آلاف صياد، في أربعة آلاف قارب، على بحيرة المنزلة؛ حتى بلغت العوائد المربوطة على هذه البحيرة فقط ستين ألف جنيه؛ وراجت كذلك الملاحة النيلية: فبلغ عدد المشتغلين فيها ستة وثلاثين ألفا؛ وكانوا أكثر الناس بسطة في السرور، وأشدهم ميلا إلى الابتهاج والغناء، وكثيرا ما كانت الحكومة، ساعة احتياجها إلى نوتية في سفنها الحربية أو التجارية، تستدعيهم إليها وتنظمهم في سلكها بأجور جيدة. أما المراكب النيلية التي كانوا يعملون فيها، فكانت على ستين نوعا من الدهبية الفخمة إلى الصندل البسيط.
وقد وضع بعضهم تعدادا لأرباب الحرف والصنائع في القطر، سنة 1877، فإذا بهم كالآتي: 371 صانع أسلحة؛ 2605 حداد؛ 434 صانع لبن؛ 6473 نشارا ونجارا؛ 320 فحاما؛ 770 صانع ملابس؛ 1296 نحاسا؛ 5109 صائغ؛ 1871 مطرزا، 320 حفارا؛ 86 قمرياتيا؛ 2630 جوهرجيا؛ 2482 حراق جير؛ 285 مرخماتي؛ 4113 بناء؛ 1463 حصريا؛ 686 نقاشا؛ 257 عامل شباك؛ 540 طوانيا؛ 834 فخرانيا؛ 190 خيالا؛ 770 سروجيا؛ 2235 صانع أحذية؛ 589 مغربلا؛ 1404 حجارا؛ 2520 خياطا؛ 971 دباغا؛ 510 قصديري؛ 4360 سمكريا؛ 582 منجدا؛ 300 مطبعي؛ 200 صانعي ورق؛ 250 صانع زجاج؛ 10000 نساج؛ 9600 صائد سمك؛ 36000 مراكبي (نوتي)؛ 910 قلفاطي؛ 350 مركب مزاريب.
فكان، والحالة هذه، مجموع المشتغلين في الحرف والصنائع مائة ألف وأكثر، أي بنسبة 1 إلى 12 من مجموع الذكور البالغين في القطر جميعه، وهذه نسبة تدل على مقدار الحركة والعمل في مضماري الصناعة والفن.
وكانت الأشغال الهندسية، في كل ما تستدعي الحرف المذكورة منها، معهودا بها في بادئ الأمر إلى رجال من الإنجليز بمرتبات تتراوح بين 8 و25 جنيها شهريا، ولكن الحركة التعليمية ما لبثت أن أحلت المصريين، لا سيما المتخرجين من مدرسة الفنون والصنائع ببولاق، محلهم بمرتبات من 8 إلى 10 جنيهات شهريا.
غير أن هذه الصنائع والحرف كلها، ولو أنها كانت بحركتها الحثيثة، والنشاط الذي أوجبته، تجعل مصر شبيهة بخلية نحل، الكل فيها يشتغل، لم تكن سوى وجه من وجهي الحياة العملية التي دبت في جسم القطر إذ نفخ (إسماعيل) فيه من روحه.
وأما الوجه الثاني فالأعمال والمنشآت الخصوصية والعمومية، التي أشغل فيها ذلك الأمير المقدام الهمم والمجهودات.
فإنه ما ارتقى العرش، إلا ووضع نصب عينيه، لا سيما فيما يختص بعمارة الإسكندرية ومصر، الاقتداء بأغسطس قيصر الروماني، القائل: «وجدت روما مبنية باللبن، فتركتها مبنية بالرخام»؛ أو بالإمبراطور نابليون الثالث، الذي وطن عزمه على تغيير شكل باريس، من حسن إلى أحسن؛ وما فتئ ينفذه حتى صير العاصمة الفرنساوية عروس مدائن العالم طرا.
أما الإسكندرية، فإنها بعد عزها الأقعس في أيام البطالسة والرومان والبيزنطيين أنفسهم، إذ كانت ثانية عواصم المسكونة، وكان عدد سكانها يربو على ستمائة ألف آلت إلى الخراب والدمار، شيئا فشيئا على توالي القرون، لتخلي السياسة عنها.
أولا:
مذ اتخذ عمرو مدينة الفسطاط عاصمة له (عملا برغبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ألا يكون بينه وبين المسلمين بمصر ماء)، فالمعسكر، فالقطائع، فالقاهرة، وابتعاد التجارة عن شواطئها.
ثانيا:
منذ أن أنشأ الطولونيون مدينة رشيد، وبعد أن ابتنى الظاهر بيبرس دمياط الحديثة على أنقاض دمياط القديمة؛ وما زالت مبانيها تتهدم، وأكوام المهدوم تكتنف المعمور، وتزاحمه على قواعده، وتحصره فيما عرف، لغاية عهد (محمد علي) الكبير، بالجزيرة الخضراء؛ وما فتئ عدد سكانها يتضاءل، حتى باتت ضيعة حقيرة، لا يؤبه بها؛ وبات سكانها لا يزيدون، إلا قليلا، على ستة آلاف، حينما احتلها الفرنساويون في سنة 1798.
فلما استخلص (محمد علي) الحكم لنفسه من أيدي الباشوات المرسلين من لدن الأستانة وأيدي المماليك، ومن مطامع الدول المستعمرة؛ وعن له أن يتخذ الإسكندرية عاصمة لدولته الحديثة، ومقرا ومرجعا لتجارتها؛ وأقبل يعمرها، ويحسنها، ويجملها، لا سيما بعد أن أوصل مياه المحمودية إليها: فأنشأ حولها الحدائق والبساتين، وأقام، على ضفاف تلك الترعة، القصور والمنازل الخلوية البديعة؛ ومد ما بين باب رشيد وسرايه الفخمة برأس التين، شارعا جميلا مرصوفا بحجر مستخرج من الجبل الأحمر فوق مصر، ومكسوا بمسحوق الجير والبتسولانة الصناعية، لتمتزج أجزاء ذلك الحجر معا، وتبرز متجانسة لا نتوء فيها؛ وبنى الترسانة على يد سير يزي بك مشيد عمارته البحرية، التي خلفت أسطوله المدمر في واقعة ناڨارينو؛ وأنشأ الحوض الحديدي العائم لتصليح سفنه التجارية والحربية، على يد موچيل بك؛ فصنع بفرنسا، وأتى به، جاهزا، إلى الإسكندرية، فوضع في المحل المعد له، وكلف 127 ألف جنيه؛ وأصلح الميناء الجديدة؛ وصرح للفرنج بالخروج من وكالتهم المدعوة «فندق» التي كانت متاجرهم فيها، ويأوون إليها ليلا وتقفل عليهم أبوابها، لئلا يمتزجوا بالأهلين أو يمتزج الأهلون بهم، وأذن لهم بالانتشار في المدينة: فأقبلوا ينشئون لأنفسهم الحي الذي عرف فيما بعد باسمهم؛ وقد اقتدى به ابنه إبراهيم، وأنشأ الميدان المعروف بالمنشية، وشيد حوله المنازل الفخمة التي شرع يؤجرها بأجور عالية إلى قناصل الدول العامة، حتى دعي ذلك الميدان باللغة الأجنبية «ميدان القناصل»؛ وأقدم زعماء التجارة، المتعاملون مع (محمد علي) مباشرة، كزيزينيا، وأنسطاسي، وجباره، وغيرهم، على بناء قصور لهم ومنازل لا يأنف الملوك أنفسهم السكنى فيها؛ حينذاك أخذت الإسكندرية تنمو شيئا فشيئا وتتسع، فتتلاشى أكوام الخراب أمام تقدم خطوات العمار؛ وتتكون الأحياء الجديدة فوق رفات الأحياء الميتة؛ وتختط الشوارع الحديثة فوق خطوط شوارع الإسكندرية، الراقدة تحت تراب القرون؛ إسكندرية البطالسة والرومان؛ حتى أصبحت مدينة مساحتها خمسة أضعاف ما كانت عليه، يوم أن فتحها بونابرت، وجرح كليبير في رأسه وهو يهاجمها من جهة باب رشيد؛ وأصبح عدد سكانها نيفا وستين ألفا، وما زالت تنمو، بعد ذلك، وتزداد بتدفق حياة القطر وتجارته كلها إليها، ونزوح الريف العامل للسكنى فيها، وحب سعيد لها، وتفضيله إياها على العاصمة، مقتديا في ذلك بأبيه المجيد، حتى أصبحت في عهده مدينة ذات مائة ألف نفس تقريبا تزدهي بالقصور والبساتين والمنتديات العامة، ما تزدهي به المدن الغربية التي هي من درجتها.
ولكن نموها لم يكن منظما ولا مطابقا لروح العصر الجديد، فإنها بقيت قليلة الشوارع الواسعة المسلوكة؛ كثيرة الأزقة والدروب الضيقة، المعوجة، القذرة؛ كثيرة الحفر والنقر، في ذات الشوارع المهمة؛ فما بالك بالحارات والمسالك الصغيرة؟ لا تنظيم فيها، ولا اعتناء بنظافة ورش وصيانة؛ تتكوم الأتربة والأقذار في طرقاتها وسككها التربة، التي لا بلاط يغطيها؛ إذا هبت ريح عليها، انتشرت، عثيرا شريرا ضارا ، في الفضاء، وأصابت المارة بأمراض في أعينهم؛ أو ضربتهم بأوبئة في أحشائهم؛ وإذا سقط مطر، تحولت إلى وحول، بعيدة الغور، تغرق فيها الأرجل حتى الركب، والعربات حتى ما فوق نصف العجل؛ فيبيت المرور منها متعذرا، وتنقطع حركة الأخذ والعطاء، إلا إذا استخدمت الجمال والهجن لنقل البضائع من الجمرك إلى الأسواق، ومن الأسواق إلى الجمرك، بأجور باهظة؛ وإذا ما جن الليل، وانسدلت سدول ظلماته البهيمة، انباعت الأخطار والأهوال في تلك الشوارع والأزقة والدروب، لعدم وجود تنوير عام فيها؛ وانقطع مرور الأقدام منها، إلا أقدام من لم يخف التعرض لشر اللصوص وقطاع الطرق، أو اضطرته أشغاله للتغرير بنفسه؛ وباتت الضواحي، حتى عند أبواب المدينة عينها، محطا للإثم والإجرام، وبما أن استقاء أغلبية الأهالي، بالرغم من توصيل مياه النيل إليهم في ترعة المحمودية، استمر من الصهاريج، كما كان قديما؛ أو إذا تحول إلى مياه المحمودية، قلما اعتنى بتقطيرها أو ترويقها؛ وبما أن الوقايات الصحية لم تكن مألوفة، وكان ذبح المواشي اللازمة للغذاء، مثلا، يتم على قوارع الطرق أو في داخل حوانيت الجزارة؛ وكان دفن الموتى يباح في جوار المنازل وداخل المدينة، حتى في المساجد والبيوت، ما فتئت الأوبئة، ولا سيما الطاعون، تهاجم الإسكندرية الجديدة وتفتك بأهلها، بين حين وحين، فتكا ذريعا.
فأقبل (إسماعيل) يغير ذلك جميعه؛ ولو أنه لم يكن يحب مدينة الإسكندرية ولا الإقامة بها، لتطيره منها، بعد أن قال له منجم: إنه سيلقى منيته فيها، وإذا بالسائح الذي زار تلك المدينة في أوائل سنة 1863، يكاد لا يعرفها لدى عودته إليها في سنة 1869؛ ويكاد لا يعرفها، من جديد، لدى عودته إليها مرة أخرى في سنة 1878.
12
فشوارعها وسعت بالتدريج توسيعا مستمرا؛ وانتزعت منها أكوام الأقذار والأتربة؛ وطمرت الحفر والنقر؛ ومهدت تمهيدا حسنا؛ وبلطت بلاطا جميلا أتى به من تريستي، بمصاريف كبيرة؛ وغرس بعضها، على جانبيه، بالأشجار الباسقة: فأصبحت حركة التجارة فيها آمنة مطمئنة؛ وحركة النقل والتنقل سهلة تتم بمصاريف قليلة من الجمرك وإليه، وبين أنحاء المدينة قاطبة.
وحاراتها وأزقتها وسعت بالمثل؛ ونظفت؛ وأبعد عنها كل مسببات الأمراض والأوبئة؛ وفصلت أحياؤها بعضها عن بعض بقواعد تنظيمية، ما فتئ مفعولها يزيد، بين أقسام المدينة، فراغا جميلا، أضحى يملأ حدائق وبساتين؛ وأنشئت أحياء جديدة، أهمها حي للعمال، بني على الأراضي الواقعة بجوار عامود الصواري - وكانت ملكا للمسيو براڨيه السابق ذكره، فاشتراها (إسماعيل) منه ووهبها للحكومة - وأمر بأن تنفق أجور المساكن التي يدفعها العمال في سبيل إنشاء مستشفى لهم يتطببون فيه مجانا، واختطت شوارع جديدة، منها ما هو للنزهة المحضة كشارع المحمودية وسكة الرمل - وهما من أجمل متنزهات القطر؛ وتجليا، حين تما، عروسي السكك المصرية قاطبة - ومنها ما قضت به الحاجة في الأحياء الجديدة.
وأنيرت جميع هذه الشوارع والأحياء والضواحي بالأنوار الغازية، إنارة بديعة، على مثال المدن الأوروبية الكبرى، فزالت الأخطار والأهوال منها؛ وولت أقدام الإثم مدبرة؛ وسادت الطمأنينة وانتشر الأمن في كل جهة بعد مغيب غزالة النهار.
وأنشئت بلدية للاعتناء بأمور التنظيم، والصيانة، والنظافة: فأبطل الذبح داخل البيوت والحوانيت، وجعل له محل خاص، وأبطل دفن الأموات في المدافن الخاصة بجوار المنازل وداخل المساجد؛ وغيرت طرق الاستقاء، ووزعت المياه على البيوت مروقة جهد الاستطاعة؛ وأقيمت الوقايات الصحية، على يد الإدارة الصحية المعروفة إذ ذاك باسم «الانتندانس سانيتير»؛ فخفت وطأة الأمراض والأوبئة ، وأخذت تتلاشى جراثيمها شيئا فشيئا.
وخرج بالعمار خارج الحدود والأبواب القديمة؛ وسيرته شرقا وجنوبا وشمالا، سيرا حثيثا، وقامت القصور في وسط الرياض الفيحاء والغياض الزاهرة، تمتد، حلقة متصلة، على شاطئ البحر، من طابية الرومان إلى سيدي جابر، وما فوقها؛ وأجملها كلها وأكبرها حجما القصور التي شادها (إسماعيل) لنفسه ولأبنائه وبناته، ابتغاء تشغيل العمال ومساعدتهم على القيام بشئون حياتهم، واتفق أن أحد تلك القصور - وهو الذي شاده لنفسه خاصة، وكان أوسع الكل أرجاء - احترق بعد الفراغ من بنائه؛ فأمر بإعادته أحسن مما كان.
ناهيك بالأعمال والأشغال العظمى التي عملت في الميناء واستوقفت إعجاب الكل، مما سبق لنا بيانه.
فزاد ذلك جميعه في مساحة البلد المبنية، حتى أصبحت أربعة أضعاف ما كانت عليه في عهد سعيد؛ وزاد في عدد سكانها حتى أضحى، في أقل من خمسة عشر عاما، نيفا و240 ألفا، منهم 48 ألفا غربيون، بعد أن كانوا 7 آلاف فقط، عند ممات الباشا العظيم! ولكي يبرهن أن عصره عصر رقي فكري صحيح، وعهد تقدم حق في مسالك الحضارة، أقام في شهر أغسطس من سنة 1874 في ميدان المنشية الذي أنشأه (إبراهيم) أبوه، تمثالا نحاسيا لجده العظيم، تجلى فيه (محمد علي)، فارسا مهيبا، يشرف على الساحة الفسيحة، ويده الثابتة على خاصرته القوية، تدل على أن النصر بات طوع بنانه وأنه نشر مجده في الفضاء الحاف به!
وأما مصر القاهرة
13
فإنها، بعكس الإسكندرية، ما فتئت تزداد عمارا واتساعا، منذ أن أنشأها جوهر قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي، حتى انقراض دولة الأمراء المماليك، وقيام الأسرة المحمدية العلوية، ولكنها بالرغم من كل بناء قام فيها، ما فتئت محصورة بين بابي الفتوح والنصر شمالا، والخليج المصري غربا، والجبل وقرافة المماليك وسلاطينهم شرقا، وخرائب الفسطاط جنوبا، وكان كل حد من هذه الحدود يمتاز بتلال سوداء من الخرابات والأقذار تعلو عنده حتى يبلغ ارتفاع بعضها من خمسين إلى مائة قدم، كالتلال التي لا تزال نراها جنوب مسجد أحمد بن طولون إلى يومنا هذا وهي أطلال مدينة القطائع، عاصمة الطولونيين، الواقعة بين فسطاط عمرو وقاهرة المعز، وكان سكان كل حد، ما عدا الحد الغربي، لا يفتأون يزيدون تلك الآكام القذرة ارتفاعا، بما يرمونه عليها، يوميا، من أقذار منازلهم، وأما الحد الغربي، وهو الخليج، فكما أنه كان - أيام الفيضان - مستقى المنازل المقامة على شاطئه، والمتدلية منها الأدلاء فيه، كان - أيام التحاريق - مصب مجارير كل تلك المنازل. إلا أنه كان، في وسطه، عند بركة أوجدها هناك الفيضان، يتكيف تكيفا يقر العين، بما أنشئ فيه من بساتين منذ عهد الأمير أزبك، قائد جنود (قايتباي) التي قهرت عثمانيي (بايازيد الثاني)، في ربوع سوريا القصية، حتى عهد الاحتلال الفرنساوي، وأطلق على مجموعها اسم الأزبكية، إكراما لذلك الأمير.
فكان القادم إلى مصر، من أية جهة يصل إليها، حتى من جهة الغرب - لأن تلال الأقذار كانت تفصل الأزبكية عن بولاق - يرتد نظره عند وقوعه على تلك الدمن؛ ويود لو أن في الاستطاعة إزالتها وملاشاتها؛ ولكنه لا يلبث أن يسلم بأن ذلك محال، بعدما يتأمل جسامة الأكوام، ويقدر الهمة الواجبة للإقدام على ذلك العمل الشاق فوق كل تصور، والذي يعد بجانبه ما قام به هرقل، البطل اليوناني من تنظيف إسطبلات أوچياس الملك، لعب أطفال؛ حتى جادت الأيام لمصر (بإبراهيم) الهمام.
فبينما (محمد علي) أبوه يكلف برهان بك رئيس إدارة الأشغال العمومية، وأحد تلامذة البعثة المصرية الأولى إلى باريس، بوضع مشروع لتحويل الأزبكية ببركتها إلى بستان عام، يشتمل من الخضرة السندسية والظل والماء على ما تنشرح له الصدور، وبينما برهان بك يصدع بالأمر، ويضع مشروعه، ويقدمه إلى الأمير، فيعتمده ويأخذ من وقف الأسرة البكرية الأربعين فدانا المتكونة جهة الأزبكية منها، ويعطيهم - بدلا عنها - أطيانا ببلدة بهتيم قدرها عشرة أضعاف المأخوذ منهم؛ بينما يقدم برهان بك على نفاذ المشروع، ويحول الأزبكية إلى المتنزه المرغوب فيه، سنة 1837، أمر (إبراهيم باشا) المسيو بونفور مهندسه بإزالة الأكوام كلها الواقعة ما بين النيل وبولاق، ومصر القاهرة، والفسطاط (مصر العتيقة)؛ وإنشاء متنزهات خاصة مكانها، تمتد مدى البصر، ووضع تحت تصرفه ما شاء من الأموال والرجال، فأقدم المسيو بونفور بهمة على تنفيذ ما أمر به؛ ولم تمض ثمان سنوات إلا وتم ثلثا المهمة، وتجلت الرياض والغياض الفيحاء تزينها الأشجار الباسقة - لا سيما الجميز واللبخ - حيث كانت تعلو الأكوام الجارحة للنظر.
ولما عاد (إبراهيم) من حروبه بسوريا، سهل الأعمال الجارية وأتم بونفور ما كلف به، فزالت الأكوام كلها من باب الحديد إلى مصر القديمة، غربي القاهرة بأسرها.
14
حينذاك أقبل (إبراهيم) على إزالة ما كان منها بحريها أيضا؛ أي: ما بين بابي الفتوح والنصر، من جهة؛ والعباسية والظاهر والفجالة الحالية، حتى باب الحديد، من الجهة الأخرى، ولم يكن في استطاعة غير المنصور في (نزيب) تتميم ذلك العمل التيتاني، فأقبلت الأيدي بتأثير إرادته القوية وهمته الشماء، تعمل، بكثرة واستمرار، معاول القطع والجرف، في تلك الدمن المتكدسة، فتنزعها وتطرحها في البرك المجاورة - وأخصها بركة الرطلي، وبركة طبالة المستنصر الفاطمي - فتطمها، حتى نظفت منها الجهة ما بين بابي القاهرة الشماليين والفجالة؛ وجففت، في ذات الوقت، تلك البرك التي كثيرا ما كان الفيضان وعدم الاعتناء يحولانها إلى مستنقعات، تتولد فيها جراثيم الأمراض.
وإذا بالموت داهم أبا (إسماعيل) الهمام، وقطع شجرة حياته، وهي في إبان إثمارها فوقف العمل، وفرحت الأوبئة.
وكان حي الأزبكية في أثناء ذلك قد تغيرت معالمه مرتين: فبرهان بك حاطه، أولا، بسد كان من شأنه أن الأرض داخله تتحول كلها إلى بحيرة عظيمة تمخر فيها المراكب، أيام الفيضان؛ وتصير، في باقي السنة، إلى حقل، بساطه السندسي من البرسيم العطر، والأشجار المغروسة فيه مظال خضراء كمظال الجنان، تغرد على أويكاتها الطيور ويهدل الحمام، وحفر، خارج ذلك السد، ترعة عرضها عشرون قدما تجري في طوله وتتصل - بفتحات - بالبحيرة، فتوصل إليها الماء اللازم لري أرضها أيام جفاف فرشها؛ وتفصل السد عن الشارع الدائر حول ذلك الحي - هو شارع كان عرضه مائة قدم تحف به من خارجه البيوت، ومن داخله صفوف من شجر اللبخ الزكي الشذا - فكنت، وأنت مستظل بها، تمتع نظرك بماء البحيرة وزمرد أوراق الشجر، أو بالبساط السندسي السابق ذكره، وتلذذ سمعك بخرير مياه الترعة. أما الوجه الحسن فلا تعدمكه الصدف في ساعات النهار، وقد كان يحيط بحي الأزبكية، من جهاته الثلاث، قصور فخمة مشيدة على النسق الشرقي، ووقف التاريخ في بعضها، مفكرا أنى يجري مجاريه، فمنها القصر الذي شاده محمد بك الألفي بعد هدم ثلاثة غيره لم تقم طبقا لذوقه، فلما أتم بناءه وجاء وفق مرامه، داهمت الحملة الفرنساوية الحكم المملوكي وبددت شمله شذر مذر، فذهب الألفي بك، بعد كسرة إمبابة، يهيم على وجهه خلف مراد بك زعيمه، وحلت قدما بونابرت، رجل الأقدار، في ذلك القصر: فكان كأنه بني له، ومنها القصر الذي اتخذه كليبير مقرا لأركان حربه؛ فوافاه في البستان المحيط به سليمان الحلبي وقتله - وكان والي دمشق قد وعد ذلك اليافع المتحمس دينيا، بإطلاق سبيل أبيه من السجن الذي كان قد زجه فيه، إذا هو أقدم على الفتك بقاهر الصدر الأعظم يوسف باشا، في ساحة وغى هليوبوليس، فبر سليمان بوعده غير أن أباه لم يفز بالنجاة وخوزق؛
15
وجعل (محمد علي) في ذلك القصر عينه ديوان معارفه العمومية، ولكنه ألحق بستانه - حيث ذهبت المأساة المفجعة، بطالع فرنسا في مصر - بالسراي الفاخرة التي كانت لابنته زهرة هانم، زوجة الدفتردار الشهير بقسوته الطبيعية المتناهية؛ ومنها القصر الذي كان لخسرو باشا، عدو (محمد علي) اللدود، والذي أراد اغتياله، مرة، تحت ستار الليل البهيم، ولم يفلح؛ والقصر الذي كان (لمحمد علي) عينه، يوم كان لا يزال يرتقي درجات سلم طالعه العجيب، وحمل فيه زعماء جنده على أن يقسموا على حسامه بطاعته طاعة عمياء في كل ما يأمرهم به، وألا يتخلوا عنه ما دام حيا، كيفما دارت حوادث الزمان؛ وأما الجهة الرابعة، فكان يشغلها صف بيوت خشبية عالية مظلمة وغريبة الشكل يملكها ويسكن فيها جماعة من الأقباط.
ثم تمادت الأيام وأساء بعض سكان تلك القصور، لا سيما القناصل الأجانب، استعمال الترعة ذات العشرة الأمتار عرضا، وحولوا مجراها - في أيام التحاريق - إلى إسطبلات لدوابهم وزرائب لطيورهم ودجاجهم؛ ثم لم يلبثوا، لكيلا تضيع منهم هذه المزية، أن طلبوا ردمها زاعمين أن حميات خبيثة تنبعث منها.
فردمت؛ وفقدت الأزبكية بذلك خير جزء من أسباب بهجتها؛ فأهملت؛ وما مضى إلا زمن يسير حتى تحولت إلى دمنة؛ ثم باتت مكانا ترتكب فيه أعمال عربدة وسكر، في القهوات والحانات المنتشرة في جنباتها، وأعمال سرقة وتهتك تحت ظل أشجارها، حملت أقدام الكرام على هجرها والابتعاد عنها، بعد أن كانت تؤمها كوكبات الفرسان الفاخري الملابس للتنزه فيها، وسياسهم في ركابهم يحملون لهم شبكاتهم.
ومع أن القاهرة واقعة على مقربة من النيل، فإن الاستقاء كان متعذرا فيها لبعد النهر في الحقيقة عنها، وعدم صلاحية مياه الخليج للشرب معظم أيام السنة، ولم يخف هذا العيب الأساسي في موقع المدينة العظيمة، على الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، سيد جوهر الصقلي بانيها؛ فيروى أنه قال له ؛ إذ قدم إليها من المهدية في المغرب: «لقد بنيتها، يا جوهر، في بقعة لا هي على قمة الجبل، فتتحصن بها، ولا هي على شاطئ النهر فتنتفع به.» ولذلك فكر هو وخلفاؤه من بعده في تحصينها من جهة الصحراء الشرقية، وفي جلب مياه النيل إليها من الجهة الغربية، فاحتفر المعز، الخندق الذي قاتل القرامطة عنده، شرقيها؛ ووفق حفيده، الحاكم بأمر الله، إلى احتفار الخليج المصري، الذي عرف مدة باسم الخليج الحاكمي، والذي بات يروي عطش القاهرة دهرا، ولكنه لم يكن وافيا بالغرض، لا سيما بعد أن تراخت المحافظة على نظافته، في عهد الحكم العثماني، وبات مستودع أقذار ومصرفها، وعاد الأهالي إلى الاستقاء رأسا من النيل على أيدي سقائين.
فوجه (محمد علي) اهتمامه بنوع خاص إلى هذه المسألة الحيوية، مسألة تموين القاهرة بماء للشرب، وفكر، في بادئ الأمر، في تعميق فرش الخليج المصري ذاته، بحيث يصبح ترعة صيفية تستمد مياهها لري الأطيان الواقعة شمالي العاصمة، فوق انتفاع أهل القاهرة بها لشربهم.
ولكن عقبات كثيرة حالت دون ذلك، أهمها أن أساسات جدران معظم المباني القائمة على ضفة ذلك الخليج أقل غورا في الأرض من العمق المنوي إبلاغ قاعه إليه، فلو عمق الخليج لتداعت.
ففكر، إذا ، في طرق أخرى كإيجاد آلات رافعة عند فم الخليج، أو إنشاء مصرف جامع في وسطه؛ أو احتفار ترعة يكون فمها على بعد كاف، فوق القاهرة، بحيث إن مياهها، إذا انصبت في الخليج، كفته ماءه طول السنة؛ وفكر في تسيير تلك الترعة بين أكوام الفسطاط، أو من وراء القلعة، والذهاب بمصبها في الخليج إلى شمالي مصر.
ولكن المصاعب التي قامت دون تحقيق كل ذلك أدت إلى الإحجام عن المشروع بتاتا.
فلما شاد (عباس الأول) قصره المشهور في الصحراء الشمالية فوق الظاهر - فتسمت تلك الصحراء العباسية، باسمه - فكر، هو أيضا، في توزيع المياه على القاهرة، وتسيير فرع كبير منها إلى ذلك القصر، وكلف بالعمل لينان بك، ثم ضم إليه لامبير بك والمسيو بوديسو، فوضعوا المشروع وأفاضوا في تفصيلاته، وقدروا نفقات تنفيذه بمبلغ 3669334 فرنكا؛ وبدءوا يسوون الأرض، ويخطون تصميمات الشوارع التي عزموا على تسيير مواسير المياه تحتها، ولكن العمل لم يخط إلى الأمام خطوة، ووقف حيثما ابتدأ.
فأراد (سعيد) أن يبدي هو أيضا اهتماما فيه، فأجاز، على فم ساباتييه، القنصل الفرنساوي العام، لفرنساوي يقال له: الميسو كردييه، بوضع مشروع جديد للغاية عينها غير الذي سبق لعباس باشا المصادقة عليه، فأسس كردييه هذا شركة لذلك الغرض وباشر الأعمال التمهيدية لتمام المشروع، ولكن الاهتمام لم يتعد هذا الحد؛ لأن صعوبة التنفيذ كانت جسيمة.
ولا يخفى أن تعذر وجود الماء يوجب تراكم القذارة، حتما، وعدم التمكن من رش الأحياء إلا نادرا، وأمام منازل الموسرين، فقط على أيدي الرجال المعروفين بالسقائين.
فشوارع القاهرة - قاهرة عهد المماليك وعهدي الفرنساويين و(محمد علي) وقد كانت ضيقة ضيقا جعل سير العربات فيها أمرا مجهولا إلى اليوم الذي قدمت فيه لإبراهيم بك الكبير عربة من فرنسا على سبيل الهدية (ومع ذلك فإن القوم هناك لما رأوا، بعدها بقليل، الجنرال بونابرت يتجول في أحياء مصر وبولاق بعربة تجرها ستة جياد استغربوا الأمر جدا ودهشوا له) - وكانت معوجة، قليلة التمهد، تزدحم الأخطار فيها بسبب ازدحام الأقدام في مضايقها - كانت، إذا، تربة كثيرة الغبار ، وتنجم عن انعقاد ذلك الغبار، الكثير المكروبات، في الهواء، نفس المضار الناجمة عن انعقاد نظيره في الإسكندرية، وبما أن ما كان يجري في الثغر من أمور مخالفة للقواعد الصحية ومسببة للأوبئة وداعية لانتشارها، كان يجري بكيفية أوسع، وعلى قياس أكبر في مصر القاهرة، لزيادة اتساع هذه عن ذاك، وبعدها عن البحر الملح؛ أي: عن أعظم مصادر الهواء النقي، كان انتشار الأمراض والحميات الخبيثة والأوبئة سهلا فيها؛ وفتكها بالأهالي ذريعا، وقد ترقب بعضهم حركتها؛ فاتضح له أن الطاعون على الأخص، كان يعاود العاصمتين كل عشر سنوات، ويجتاح عددا عظيما من سكانهما.
فلما وطن (إسماعيل) عزمه على الاقتداء بأغسطس قيصر وناپليون الثالث، وأقبل على تنفيذ ذلك العزم بهمته المعتادة التي لم تعرف الملل ولا الكلل، يزيدها نشاطا، ما كان يعتقده من صحة في قول أحد أولياء الله في عهد جده، وهو «إن هذه الأسرة المحمدية العلوية، ما دامت مقبلة على التشييد والبناء كان الملك والعز مضمونين لها، فإذا أقلعت عنهما أو توانت فيهما، تلاشت أو اضمحلت» رمى إلى إصابة غرضين: (الأول) إدخال ما يمكن إدخاله من الإصلاحين الاجتماعي والصحي على قاهرة المعز لدين الله، مع إبقائها على ما هي عليه من ذاتية تجعل العصور الوسطى، بفروسيتها، وتقواها الخشنة الخالصة واتجاه الصناعة والفن فيها نحو ما يلعب بالتصور، مع استمراء الذوق لذاته الحقيقية: وتجعل موصوفات روايات ألف ليلة وليلة، أيضا حاضرة أمام المخيلة، كأن الأجيال لم تمر وتتوال، وكأن تلك العصور لا تزال حية حاضرة؛ و(الثاني) إنشاء قاهرة أخرى غربيها يدعوها العصران، الحاضر والمستقبل «قاهرة إسماعيل» وتختص دون الأولى، بإعجاب القلوب، وتلذذ الأعين، بشوارعها الفسيحة، الظليلة، ذات الأرصفة الأمينة؛ وميادينها الواسعة، الجميلة ذات الفسقيات الزاهرة؛ وقصورها الفخمة، النبيلة، المقامة على أحدث طراز عصري؛ وبساتينها الزاهية، المتنوعة فيها النباتات الغريبة، وملاعبها الفاخرة، المتلألئة بالأنوار ليلا؛ وأحيائها الطلقة الصقيلة، القائمة الصحة على حراستها، بدل الأبواب القديمة.
فأقبل، أولا، يزيل ما بقي شمالي قاهرة المعز من أكوام قذرة؛ ويطمر ما لم يزل غير مطمور من مستنقعات وبرك تبعث كريه الروائح؛ وينظف ما بين بابي الفتوح والنصر، وقلعة الكبش، والسيدة زينب، من شوارع وأزقة ودروب وأسواق، بتعميم الكنس والرش فيها، ومنع ثورة الغبار وكل مخالف للقواعد الصحية ثم اختط ما بين الظاهر وباب الحديد، الشارع المدعو الآن بشارع الفجالة؛ واختط ما بين باب الحديد والأزبكية الشارع الذي أطلق عليه اسم كلوت بك؛ لا لتكريم الطبيب الفرنساوي عالي الهمة، منشئ مدرستي أبي زعبل والقصر العيني الطبيتين، والذي يعد بحق أبا الطب الحديث بمصر فحسب، ولكن للدلالة، بنوع أخص، على أن الإصلاح الصحي سيسير من شمالي المدينة إلى جنوبها؛ ويتناول بذراعيه شرقها وغربها، ثم اختط جنوب الأزبكية بشرق، إلى القلعة، الشارع الفخم الذي أطلق عليه اسم جده العظيم، إشعارا بأن القلعة، وإن بناها صلاح الدين، فإنما أصبحت تعرف بمحمد علي؛ لأن دولته قامت فيها، وشمس حياته توارت في المقام المشيد على جبينها، فأصبح السبيل إلى ذلك الحصن سهلا أمينا، بعد أن كان الوصول إليه عن الطريق، التي يتبعها المحمل سنويا، منه إلى الحسينية، وعرا كثير التعرجات، والمنعطفات، والمضايق.
ولما عاد سنة 1867 من زيارته لمعرض باريس، وقد أخذت بلبه التحسينات الجارية في العاصمة الفرنسية على طريقة هوسمن الشهير، أقدم على الأزبكية؛ فقلبها رأسا على عقب؛ وطلب من بستاني فرنساوي، أن يعملها له على شاكلة حدائق تلك العاصمة فكيفها ذلك البستاني تكييفا بديعا، وتصرف في الترعة التي كانت دائرة حولها والبحيرة التي كانت داخل السد الذي بناه (محمد علي) تصرفا جميلا؛ وإذا بما كان مجرى لمياه راكدة، وصفوف أشجار لا نظام لها، وبحيرة أقرب إلى المستنقع منها إلى بساط يقر العين النظر إليه، قد تحول إلى بستان على مثال الپرك منسو بباريس وخرج إلى الوجود، نزهة من أنزه المنتزهات، ومكانا بديعا يخلب الألباب، تنيره الأنوار الغازية، وتزينه الفسقيات الناثرة الماء في الأعالي، لؤلؤا ساطعا، والمغائر الصناعية، المنحدر منها الماء بخرير تلذ به الأسماع، إلى بحيرة صافية، تجري الأسماك فيها ملونة.
وأقبل على الحي المحيط به؛ فجعل ينتزع ملكية منازله الخشبية التي كانت للأقباط مقابل تعويضات يدفعها إليهم، ويزيل تلك المساكن العتمة، ويهب الأرض التي كانت قائمة عليها هبة إلى من شاء التعهد بإقامة مبان فخمة عليها، تتفق مع عظمة القاهرة الجديدة المراد إنشاؤها.
فكان أكبر أولئك المتعهدين شأنا، وأكثرهم مالا وإقداما، الدوق أوف سيوذرلاند فإنه ما فتئ يقيم، في حي الأزبكية هذا، القصور والفنادق؛ ويعدل، ويكيف الموجود منها فيه حتى بلغ به إلى ما نراه الآن عليه، من العظمة والرونق والجمال.
فاتخذه (إسماعيل) محورا لعظمته؛ وبعد أن أوصله بالموسكي شرقا، تحول إلى غربية؛ فأزال ما كان يعرف بباب الجنينة - وهو باب كان قائما على مدخل ذلك الحي، في منتهى الطريق الواصلة ما بينه وبين بولاق - واختط إلى جنوبيه بميل نحو الغرب الأحياء البديعة المعروفة الآن بأحياء التوفيقية وعابدين والإسماعيلية؛ بعد أن أقام، في طرف الأزبكية الجنوبي، المسرحين الفخمين المضارعين في الجمال، والجلال والأبهة، مسارح أوروبا وهما المسرح الجديد والأوبرا، وأنشأ، أمام هذه، الميدان الفسيح الأرجاء المنظم الزوايا، المزري بميدان ڨندم ذاته الشهير في باريس: وفي هذا الميدان الآن تمثال لأبيه البطل الهمام؛ تجلى (إبراهيم) فيه، فارسا صنديدا، يتطاير البرق من عينيه، وقائدا بصيرا، تكسوه المهابة ويظلله الجلال؛ كما تجلى، حقا، لعسكره المصري المعجب به، وللعسكر العثماني المأخوذ رعبا منه، يومي قنية ونزيب، وقد كان هذا التمثال في عهد (إسماعيل) بميدان العتبة الخضراء أنزله العرابيون أيام الحوادث العرابية، ثم بعد أن سكنت تلك الفتنة نصب في ميدان الأوبرا حيث هو الآن.
ثم اختط، في تلك الأحياء، الشوارع العريضة، الظليلة، الواصلة بين جهاتها المختلفة؛ الشوارع، التي، بالرغم من كل ما حدث بعدها، لا تزال من أفخر مسالك القاهرة، وأكبر شرايين مواصلاتها، وأهمها: شارع عبد العزيز، والشارع الذي أقام نوبار باشا فيه قصره الفخم فسمي باسمه، شمالا؛ وشارع كوبري قصر النيل، وشارع سراي الإسماعيلية، غربا: وغيرها وغيرها مما امتازت به القاهرة الإسماعيلية.
أما جنوبا، فإن كل ما اختط من سكك فقد انتهى إلى رحبة فسيحة الأرجاء، مترامية الأطراف، تركت بين الشوارع والأحياء الجديدة ، وبين الدروب والأزقة، الموصلة من عابدين إلى السيدة زينب، لتمتد أمام السراي المنشأة بعابدين، مقرا للملك، بدل سراي القلعة؛ كما تمتد ساحة الكونكرد، في باريس أمام قصر التويلري الإمبراطوري!
ألا كم أبدع التفنن والتنسيق في سراي عابدين هذه، وفي تزيينها بالرياش والأثاث الفاخر! وكم أنفق من مال في سبيل ذلك، وفي سبيل جعل الحديقة الداخلية، في تلك السراي، قطعة من جنان الفردوس!
وأما غربا، فإنه لما بلغ العمار النيل - وكان العمل من جهة أخرى، قائما على قدم وساق لإنشاء سراي الجزيرة الفذة - لم يعد يحسن إبقاء العبور، من شاطئ إلى شاطئ، على كوبري من المراكب المصفوفة بعضها بجانب بعض، والممدودة عليها ألواح الخشب، أو في معديات بسيطة؛ وبات من المحتم إقامة كوبري يتناسب في فخامته وجماله مع أبهة الأحياء المجاورة له، فعهد (إسماعيل) إلى شركة فرنساوية أمر إنشائه، فأنجزته في سنة 1872 وبلغت نفقاته مائة ألف وثمانية آلاف من الجنيهات.
وبينما هو يقام، شعر (إسماعيل) بالحاجة إلى ربط الجزيرة ببر الجيزة أيضا؛ فكلف محلا إنجليزيا بإنشاء كوبري، يصل بينهما، فأنجز في السنة عينها، وبلغت تكاليفه نيفا وأربعين ألف جنيه.
وفي أثناء السير في هذه المنشئات العظيمة، وبينما القصور الباذخة تقام في كل جهة يصلح أن يقام فيها قصر، ويبلغ عددها عشرات العشرات، أهمها: قصر الجزيرة ببستانه الساحر، وقصر النزهة على سكة شبرا، وقصر حلوان، وقصر القبة، وقصر الإسماعيلية، وقصر الزعفران؛ بينما قصور أخرى قديمة تجدد تجديدا لا يعيد إليها بجدتها فقط، بل يزيدها رونقا وبهجة: كالقصر العالي، وقصر المسافرخانه، وقصر النيل، وسراي القلعة؛ بينما المساجد، لا سيما مسجد الرفاعي، والمدارس توضع قواعدها الجرانيتية، وتنشأ في كل جهة من جهات المدينة العظيمة - منها ما يشيده (إسماعيل)، ومنها ما يشيده البر؛ وبينما وزراء مصر ووجهاؤها وأعاظم سراتها، كشريف ونوبار، وإسماعيل صديق، وعلي شريف، وغيرهم، كطلعت ورياض، يقتدون بالأمير ويقيمون في الأحياء المنشأة حديثا أو في الأحياء العتيقة؛ المزدانة بقصور المماليك القدماء، كحي الدرب الأحمر، وحي الحلمية القديمة، وغيرهما، المنازل الفاخرة، والبيوت العامرة، ذات الرياض والبساتين الداخلية - كان العمل قائما على قدم وساق، وبكيفية لا تدري ما هو الملل أو الكلل، لإنجاز ما لم تتمكن العزائم السالفة من إنجازه، وأعني به توزيع المياه على أحياء القاهرة توزيعا منظما مستمرا، فحثت همم الشركات، وحملت الجهود على المباراة؛ ولم يمض زمن إلا وأقيمت المباني اللازمة لرفع المياه وتخزينها؛ ومدت المواسير تحت الشوارع وفي الحارات والدروب، وسير ماء النيل مقطرا من خزاناته إليها، فتسرب منها إلى الحنفيات في البيوت، وحلت مشكلة قديمة العهد، بفضل إرادة (إسماعيل) الحديدية.
ولما بات الماء ميسورا غزيرا، توسع القوم في وسائل النظافة والصيانة، وطفق طل الرش يهطل على الشوارع في الصباح والعصر بانتظام؛ وأخذت المنازل، حتي الحقيرة منها، تغسل مرارا في الأسبوع وبغزارة: فقلت الأمراض، وتحسنت الصحة العمومية.
وكان العمل قائما ، كذلك، على قدم وساق، بالكيفية عينها، وفي عموم الأحياء، قديمها وجديدها، لتعميم الإنارة بالغاز، فكانت مواسير السائل المنير توضع بجانب مواسير الماء المحيي؛ حتى إذا تمت الأحياء البديعة، وشيدت القصور الرفيعة، وغرست البساتين الجميلة، وتجلت الشوارع الفسيحة، ناصعة النظافة، ظليلة الجانبين، تدفقت إليها في وقت معا المياه، وسطعت فيها الأنوار: فتجلت المدينة، كلها، المعتادة الظلام ليلا، منذ نشأتها - وقد تكيف قديمها، وبرز جديدها يرفل في حلله البهية - عروس الشرق قاطبة ويتيمة عواصمه.
وبلغت نفقات هذه المباني والمنشئات، والتحسينات، وتوزيع المياه والنور على العاصمتين، وفي السويس بعدهما، ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف جنيه.
فإذا تمثلنا مقدار ما اقتضته كل هذه الأعمال المختلفة من حركة تجارية متنوعة، وأضفنا إلى ذلك جميعه ما نجم، في سني ملك (إسماعيل) الأخيرة، من مضاعفته لتلك الحركة عينها، عن انضمام بواخر الأسطول المصري إلى سفن الشركة العزيزية في أعمالها، وتكوينها معها ما عرف فيما بعد باسم «الوابورات الخديوية»، لم نستغرب اطراد الزيادة في الواردات والصادرات على العموم، ولا سيما في عامي 1872 و1873 وهما السنتان اللتان بلغ العمل فيهما أقصاه، والجهود غايتها، كما يتضح ذلك من الجدول التالي:
16
سنة
جنيه
سنة
جنيه
حركة الواردات
1866
4662210
1871
4512143
1867
4399097
1872
5505995
1868
3582969
1873
6127564
1869
4021601
1874
5322400
1870
4512969
1875
5694820
حركة الصادرات
1866
9723564
1871
10192021
1867
8623974
1872
13317825
1868
8094974
1873
14208882
1869
9089866
1874
14801448
1870
8680072
1875
12730195
وأدركنا صدق قول السير بارتل فرير في محاضرة ألقاها في «الادنبرج فيلوز فيكل انستتيوش» وهو: «إن التجارة والسكك الحديدية عملت بمصر عملها في كل قطر أوروبي تقريبا»؛ وأدركنا كذلك صدق قول القنصل المؤلف الأمريكي إدون دي ليون القائل في سنة 1875: «الحقيقة هي أن التصليحات والتحسينات والأشغال العمومية التي شرع فيها وأنجزت في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة، في القطر المصري، كانت مدهشة عجيبة لا مثيل لها في أي قطر مساحته أربعة أضعاف مساحة القطر المصري؛ وسكانه أربعة أضعاف سكانه».
17
وإذا عرفنا أن ثمن مجموع الواردات، ما بين سنة 1865 وسنة 1875، زاد على ثمن مجموعها، ما بين سنة 1855 وسنة 1865، خمسة عشر مليونا وستمائة ألف جنيه؛ وأن ثمن مجموع الصادرات، ما بين سنة 1865 وسنة 1875، زاد على ثمن مثيله، ما بين سنة 1855 وسنة 1865، واحدا وستين مليونا وستمائة وواحدا وثلاثين ألفا وخمسمائة وستة من الجنيهات؛ أدركنا بسهولة مقدار الثروة الضخمة التي دخلت القطر زيادة على الثروة الهائلة التي أصابها أهله في الاثنتي عشرة سنة الأولى من ملك (إسماعيل)
18
وكبرت حركة القطر الزراعية التجارية العملية في عيوننا؛ وبتنا أقرب إلى النظر، بلا تحيز، إلى ما يهول به من جسامة الضرائب وفداحة الديون.
هذا إذا صح الاعتماد على صدق الأرقام المبينة أعلاه، ولكن المعلوم أنها دون الحقيقة بكثير، وذلك لأن مصلحة الجمارك لم يدخلها الإصلاح، بمعانيه كلها، إلا في سنة 1877 فإنها كانت، في أيام (محمد علي) التزاما يمنح، مقابل جعل سنوي معلوم، إلى أفراد يستغلونه لحسابهم الخاص، أسوة بأبواب إيراد أخرى كانت حكومة (محمد علي) تعطيها التزاما لمن يرسو عليه آخر عطاء.
وكانت الجمارك نوعين: جمارك الثغور والحدود والجمارك الداخلية، فكانت الرسوم في جمارك الثغور تؤخذ على الواردات والصادرات؛ وتؤخذ في جمارك الحدود على الواردات فقط سواء أكانت من السودان أم من الغرب والشرق، وأما الجمارك الداخلية فكانت رسوما تدفع على البضائع لدى إدخالها في أي بلد من بلاد القطر الهامة، وكان يقال لها في مصر وطنطا وغيرها: «دخوليات» وفي أسوان وإسنا وباقي الصعيد حتى أسيوط «جمارك»، والاختلاف في التسمية نتيجة الاختلاف في الواردات، فمن أسوان لغاية أسيوط كانت تتقاضى، على الأخص، من الجلابين، على الرقيق المجلوب؛ وأما فيما عداها من المدن فكانت تؤخذ على البضائع، ولا سيما مواد الطعام، كالخضر والفواكه والأسمان واللحوم.
وقد رأينا أن محمد سعيد باشا ألغى جميع الجمارك الداخلية والدخوليات، كما أنه أبطل أن تكون جمارك الحدود والثغور التزامات، وأنه جعلها مصلحة أميرية مستقلة.
غير أنها لم تنتظم: (أولا) لأن وظائفها كانت تباع بيعا كما كانت تباع مناصب القضاء في فرنسا قبل الثورة العظمى فيها سنة 1789؛ (ثانيا) لأن المرتبات كانت قليلة، وغير وافية بالحاجة، فتلزم متقاضيها بالركون إلى «البقشيش» والرشوة ليعيشوا فكانوا يأخذون جنيها، مثلا، على صندوق البضائع الحريرية، الملزم بدفع رسوم قدرها ثلاثة وعشرون جنيها وثمانية عشر شلنا للحكومة، ويسمحون له بالخروج من الجمرك؛ أو يعتبرون البضائع الحريرية بضائع قطنية، ويتقاضون عليها الرسوم المفروضة على البضائع القطنية؛ أو كانوا، أيضا، لا يراعون حقوق الأولية: فيمكنون من يزيد بقشيشه من التجار على بقشيش سواه من تخليص بضائعه والخروج بها قبل غيره، ولو كان آخر القادمين، غير تبخيس أثمانها الحقيقية ساعة التثمين؛ و(ثالثا) وأخيرا لأن التهريب كان كثيرا ومنظما؛ ومعظم المهربين يونانيون في منتهى الجسارة؛ ونظام الامتيازات يحميهم، فيمكنهم من الاستهزاء بالحكومة المصرية عمالها، ولا أدل على ذلك مما رواه موريس بك، أحد كبار رجال خفر السواحل ضبطوا ذات يوم كمية كبيرة من تبغ وتمباك كان بعض المهربين اليونانيين يحاولون تهريبها، فلما نمى خبر الضبط إلى القنصل اليوناني - وكان يشاطر المهربين أرباحهم - جمع في الحال خمسمائة «جريكي» من حرافيش القوم وزعانفهم وأوباشهم، علاوة على جماعة المهربين أنفسهم؛ وهاجم، بجمهورهم الغفير، خفراء السواحل، في عقر مقرهم، ليستخلص منهم المضبوط، فدارت بين الطرفين معركة فظيعة، عض القنصل فيها بأسنانه ذراع أحد العساكر عض كلب، رأى موريس بك أثره بعدئذ، في ذراع الرجل، وعرف أن القنصل هو العاض، لأن سنا من أسنان هذا الموظف الأمثل الأمامية كانت ناقصة في فكه، وظهر أثر نقصها في دائرة العضة، فلما رفع الأمر إلى الحكومة، أتدري أيها القارئ اللبيب، ماذا كانت نتيجة الشكوى؟ أن السياسة تداخلت في الأمر: فعوقب خفراء السواحل ولم يصب المهربين أذى.
19
فعهد (إسماعيل) إلى موظف إنجليزي في جمرك لندن، يقال له: المستر سكر يڨنور، بتنظيم مصلحة الجمارك المصرية وترتيبها، وكان الرجل خبيرا في العمل، لاشتغاله زمنا طويلا فيه، وتقلده عدة مناصب إدارية جمركية في البرتغال والبرازيل.
فأدخل إصلاحات جمة على المصلحة المعهودة أمورها إليه، لا سيما على حساباتها، التي وصفها لي كبير من موظفي الحكومة المحالين على المعاش ممن كانوا في الجمرك في ذلك العهد البعيد، فلم يجد تعبيرا عن حالتها أظهر للخلل السائد فيها من قوله لي: «إنها كانت بطن حمار».
ولكن خللا كبيرا استمر، بالرغم من مساعي المستر سكر يڨنور ومجهوداته، منتشرا في عدة أفرع من مصلحة الجمارك؛ ولم يعمها الإصلاح تماما إلا في عصرنا هذا وعلى أيدي حكومتنا الحالية بفضل مجهودات مديريها كليار باشا وشيتي بك والمستر كنج لويس خليفتهما.
فلو كان نظامها الحالي نظامها سنة 1875، لأمكن لنا أن نقف، تماما، على حقيقة الثروة التي دخلت القطر ما بين سنة 1865 وسنة 1875؛ ولتجلى لنا أن مقدارها ضعفا ما أثبتته الإحصائية الجمركية في تلك الأيام، مذ أوجب إنشاء وزارة تجارة مستقلة سنة 1876.
الفصل الرابع
إحياء مالية القطر1
المال! المال! فكل شيء بدون المال - على ما يقال - جدوب.
بوالو
إن عنوان هذا الفصل وحده، متى وقع عليه نظر بعض القراء، قد يجعلهم يبتسمون ابتسامة الازدراء، ويقفونها بسؤال يمتزج فيه الاستغراب والاستنكار معا امتزاجا تاما، كالسؤال الآتي: «أوكيف؟ (إسماعيل)، الذي أثقل مالية القطر بالدين الباهظ، الذي لا يزال القطر يئن تحت فداحة ثقله، (إسماعيل) أحيا مالية مصر؟ إنك يا هذا تمزح!» ولكنا لا نمزح مطلقا، بل نقول، ونحن نزن الكلام في ميزان التعقل التام: نعم إن (إسماعيل) أحيا مالية القطر، وإليكم الدليل بل الأدلة.
مات (سعيد)، وعلى الخزينة المصرية - غير القرض الذي عقده وقدره مليونان وسبعمائة وخمسة وخمسون ألفا وخمسمائة جنيه إنجليزي - دين سائر يربو على عشرة ملايين جنيه، لا تبرره أعمال عمومية نافعة مطلقا؛ وإنما أوجبه:
أولا:
أن سعيدا كان لا يعرف للنقود قيمة. يدل على ذلك أن المسيو براڨيه، صديقه الحميم، الذي سبق لنا الكلام عنه، شكا له، يوما، أن تقدير ثمن أحد الأشغال، التي كلف بعملها، بليرات إيطالية، مجحف بحقوقه إجحافا كبيرا، فقال له (سعيد): «دعهم يقدرونه، إذا، بليرات إنجليزية!» غير مبال بأن الليرة الإنجليزية تساوي الليرة الطليانية خمسا وعشرين مرة.
2
ثانيا:
أنه كان متلافا، لا يعرف تبذيره حدا يقف عنده، حتى لقد أنفق مرة على زخرفة حجرة في أحد قصوره نيفا وسبعة ملايين من الفرنكات؛
3
وكان معطاء للهي، لا يعرف سخاؤه أن يميز بين من يصح أن يكون موضع إنعام، ومن لا يصح، حتى لقد أهداه، مرة، مالي أجنبي من المقيمين بالإسكندرية سل فاكهة، ثم طلب منه نفحة بخمسة عشر ألف جنيه، ففعل.
ثالثا:
أن المتعهدين بتوريد ما تحتاج إليه حكومته أو ما يحتاج إليه هو، لا سيما الأجانب منهم، لعلمهم بقلة تقديره للنقود، كانوا لا ينفكون يغشونه ويسرقونه، وهو لا يبالي بأعمالهم، إما تعاليا، وإما لعدم اهتمام منه بهم.
رابعا:
أن مطالبات الغربيين على ألسنة قناصلهم بتعويضات عن أضرار وهمية، يزعمون أنهم أصيبوا بها، في اتفاقات أبرموها مع الحكومة المصرية، كثرت جدا في عهده وبلغت، في خروجها عن طور المعقول، حدا جاوز كل احتمال، وضاقت، دونه، رحبة تسامح (سعيد) على سعتها: لأنه بات لا يعمل، أو لا يهمل عملا، تعاقد عليه مع إفرنجي، إلا وتكون نتيجته مطالبة ذلك الإفرنجي إياه بتعويض، وأي تعويض! يكاد يتضاءل بجانبه مبلغ الستة والخمسين ألف جنيه إسترليني، الذي تقاضاه من عباس الأول، المهندس الإنجليزي مخطط سير السكة الحديدية من إسكندرية إلى مصر، أجرة على تخطيطه؛ ومبلغ الستة عشر ألف جنيه الذي طالب به لتعديل ذلك السير، بعد أن اتضح تعذر تنفيذه كما خططه - على أنه لم ينل منه سوى ستة آلاف، عملا بما حكم به المستر بروس القنصل البريطاني العام، المحكم في الموضوع!
4
وقد أشار (سعيد) ذات اليوم، بنكتة لطيفة، إلى ما كانت تغص به نفسه من تلك المطالبات الجائرة الحمقاء، فإنه كان يستقبل أحد قناصل الدول الكبرى، في سلاملك رأس التين، في قاعة تطل شبابيكها الواسعة على البحر؛ وكان الزمن صيفا، وتلك الشبابيك مفتوحة، ونسيم البحر العليل يدخل منها، كأنه نسمة من الجنان، فجلس القنصل مكشوف الرأس، بجانب (سعيد) أمام أحد تلك الشبابيك، وما لبث أن عطس؛ فأسرع (سعيد) وقال له باهتمام، وهو يبتسم: «تفضل يا جناب القنصل، تفضل والبس قبعتك! فقد يصيبك زكام، وأنت عندي فتهب دولتك إلى مطالبتي بتعويض».
5
وكان سعيد يقول في هذا الصدد: «إني لأخشى أن ينظر جوادي شذرا في طرقات الإسكندرية إلى إفرنجي، فيهب ويطالبني بتعويض».
6
وتذكرنا هاتان النكتتان بما كان عليه (سعيد) من خفة الروح وظريف الملح، بسبب تربيته الفرنساوية، ومنبته الفرنساوي البحت، فقد ذهب إلى زيارة لندن مرة، أيام إقامة أول معرض فيها، فإذا بطقسها لم ينفك مغيما، ماطرا، طوال مدة إقامته هناك، فبينما هو، ذات يوم، يتفقد إحدى حجر ذلك المعرض، رأى شعاع شمس نافذا من السقف الزجاجي إلى الداخل، ومنتشرا فوق مكان من المعروضات، كأنه وضع فيه خصيصا، فالتفت (سعيد) إلى ذي الفقار باشا، مراقب عموم ماليته، ونديم سفره، وقال له باسما: «ألا ترى ما أندر الشمس هنا! فقد بلغ من ندرتها لديهم أنهم أصبحوا يعرضونها ضمن نفائسهم».
7
ولكن (سعيد) المسكين كان كفرنساويي أيام الكردينال مازارين: إذا تململوا من ضريبة، وضعوا فيها أغنية سخرية، ورددوها مدة، دون أن يمنعهم ذلك من دفع الضريبة، حتى كانت عادة الكردينال أن يقول عنهم بفرنساويته المشوبة بإيطالية: «إل كانتارون ما إل پاجرون» أي: سيغنون؛ ولكنهم سيدفعون.
و(سعيد) كان، إذا تململ من جور طلبات التعويضات، انتقم لنفسه بنكتة كالتي ذكرناها، ثم أفضى به الأمر إلى دفع المطلوب.
فأدى ضغط ذلك الدين السائر الباهظ على عاتق الخزينة المصرية إلى ضائقة مالية شديدة باتت معها مرتبات الموظفين والمستخدمين، في سني حكمه الأخيرة، لا تصرف لهم إلا نادرا؛ وإن صرفت، فبمطل وبطء، ونجم عن عدم صرفها أن أوراقا مالية من نوع جديد، لم يرو عن مثلها أبدا، برزت إلى عالم الوجود في الأسواق المصرية، وكانت عبارة عن تحاويل على المالية المصرية أخذ يحررها أولئك المستخدمون والموظفون ويسلمونها إلى ممونيهم، سدادا لمطلوباتهم.
فبات يحيط بأبواب المالية جيش من البدالين والقصابين وخلافهم، لا تستطيع الحكومة التخلص منه ومن طلباته: (أولا) لندرة النقود في خزائنها؛ و(ثانيا) لعدم تمكنها - بسبب أن معظم أولئك المطالبين أجانب، يحميهم نظام الامتيازات - من فض جموعهم بكرابيج رجال الشرطة، كما كانت تفض تجمهر الدائنين الوطنيين من أرباب الحرف والصناعات ورجال المقاولات، الذين اشتغلوا لحسابها وداينوها؛ فإن مطالب هؤلاء الأهالي كانت تدفع إليهم لكما وركلا وسياطا، في نهاية الأمر، ولو استعملت الحكومة طريقة الضرب هذه مع أولئك الأجانب، لفتحت على نفسها أبواب ويلات لا فراغ منها إلا بدفع تعويضات مالية جسيمة ، وتقديم ترضيات أدبية تحط من شأنها حطا كبيرا.
فكانت تلجأ، إذا، إلى المماطلة والمراوغة؛ ولكنها تضطر إلى الدفع بعد استنفاد كل وسائل التعطيل والتأجيل والتسويف.
وباتت تلك الحال السيئة نظامية إلى حد أنه أصبح لتلك التحاويل سوق خاصة بها ومعدل خصم جار؛ وكان معدلا يتجاوز حدود الاعتدال، بقدر تجاوز فرص الدفع دائرة الاحتمال؛ أو على قدر ما تتجاوز صعوبات التحصيل حد المألوف.
غير أن ضغط الاحتياج أدى إلى تداول تلك التحاويل تداولا أثرى منه عدة صيارفة بمصر والإسكندرية وغيرهما من البنادر التي كانت مقرا لموظفي الحكومة ومستخدميها.
فلما آل الحكم إلى (إسماعيل)، أمر: (أولا) بصرف جميع المتأخرات، سواء أكانت للمستخدمين والموظفين، أم لرجال الجيش؛ و(ثانيا) بصرف المرتبات لمستحقيها في أوقاتها بانتظام، فاختفت تلك التحاويل من السوق؛ وزالت عن عنق المالية المصرية للمطالبة اللحوحة بسدادها، التي كانت ناشبة أظفارها فيه.
ولما كان إقبال المعامل الغزلية والنسجية الأوروبية على ابتياع القطن المصري بكثرة، بسبب الحرب الأمريكية الأهلية، قد أوجب تحسينا فجائيا في أسعاره، ورفعها رفعا مطردا إلى حد منتظر أو محلوم به؛ ونجم عن غزارة النقود في البلد، أن التوازن بين قيمتها وقيمات مواد الغذاء والترف، أصبح مختلا اختلالا جسيما - كما هي الحال في أيامنا هذه بسبب الحرب العالمية واحتياج السلطة العسكرية إلى محصولات البلاد وأيدي العملة - أمر (إسماعيل) بزيادة رواتب موظفي حكومته، ولا سيما كبارهم، زيادة مناسبة، تساعدهم على حفظ كرامتهم، وتحول دون تدنيهم إلى المال الحرام.
8
فاكتسب بهذين العملين ثقتهم بحكومته وولاءهم لشخصه.
ولعلمه أنه لا يستطيع الاستمرار على دفع المرتبات في حينها، فضلا عن دفع العلاوات التي جاد بها، إلا إذا كانت خزينة المالية ممتلئة دائما؛ ولعلمه أن لا شيء يملؤها أكثر من توسيع موارد إيراداتها؛ وأنه لا سبيل إلى ذلك التوسيع إلا بإنماء مساحة أرض القطر الصالحة للزراعة وتنويع مزروعاتها، وإنماء تجارة البلاد وتكبير دائرة العمل فيها، أقدم على ذلك جميعه بما سبق لنا بيانه من الهمة والنتائج، ونجم عن إقدامه هذا أنه بينما كانت إيرادات الحكومة في سنة 1835 مليونين وستمائة ألف جنيه، وفي سنة 1862 أربعة ملايين وتسعمائة وتسعة وعشرين ألف جنيه، يقابلها مصروف قدره مليونان وثلاثمائة جنيه، في سنة 1835 - أي: باقتصاد ثلاثمائة ألف جنيه، وأربعة ملايين وثلاثمائة وثلاثون ألف جنيه، في سنة 1862 - أي: باقتصاد نحو ستمائة ألف جنيه - أصبحت إيراداتها، في سنة 1876، عشرة ملايين وسبعمائة واثنين وسبعين ألفا وستمائة وأحد عشر جنيها، تقابلها مصروفات قدرها ثمانية ملايين وتسعمائة وواحد وثمانون ألفا وثمانمائة واثنان وخمسون جنيها - أي باقتصاد ما يقرب من مليوني جنيه، وذلك بعد دفع الفوائد المطلوبة على الديون المسجلة وستمائة وخمسة وثمانين ألفا وثلاثمائة وثمانية عشر جنيها، مقدار الجزية السنوية للأستانة.
وإنما نذكر سنة 1876؛ لأنها السنة الأخيرة من حكم (إسماعيل) وهو مستقل عن كل رقابة أوروبية، ولأن عظمته بلغت أوجها فيها.
ومصادر تلك الإيرادات: الأموال، والرسوم، والسكك الحديدية، ومختلفات.
أما الأموال، فأربعة ملايين وثلاثمائة ألف جنيه وخمسة آلاف جنيه من الأطيان الزراعية، ومساحتها أربعة ملايين وثمانمائة وخمسة آلاف وثمانمائة وسبعة أفدنة بين خراجية وعشورية؛ و189000 جنيه من النخيل وعدده 4467000 نخلة و422000 جنيه من الرخص الحرفية.
وأما الرسوم، فسبعمائة وتسعة وثلاثون ألف جنيه من الجمارك، و264000 جنيه من الدخان.
وأما إيراد السكك الحديدية، فبعد أن كان 361300 جنيه، في سنة 1863، أصبح 990200 جنيه في سنة 1876.
وأما المختلفات، فبلغت 2100000 جنيه، وليس بين أبوابها في عهد (إسماعيل) باب واحد لم يكن في عهد (محمد علي) بين أن كثيرا من الضرائب المفروضة في عهد (محمد علي) لم تكن مفروضة في عهد (إسماعيل)، ومن شاء المقارنة بين ضرائب العهدين فما عليه إلا مراجعة كتاب هامون «مصر تحت حكم محمد علي» وكتاب ماك كون «مصر تحت حكم إسماعيل»؛ فيرى أن الخراج في أيام (إسماعيل) كان ستة شلنات ونصفا على كل ذكر من سن عشرة فما فوق، ما عدا المستخدمين والجنود؛ وأنه كان مربوطا على كل بيت من بيوت الريف - وعددها ثمانمائة وثلاثون ألفا - أربعة قروش صحيحة سنويا؛ وأن المربوط على الرخص التي كانت تعطى للتجار والصناع والمحترفين، كان يتراوح بين تسعة شلنات ونصف، وسبعة جنيهات وخمسة عشر شلنا على الفرد؛ وأنه كان هناك ضرائب على المواد الأولية المستعملة في الصناعة؛ وضرائب على المصنوعات بمصر وإسكندرية ورشيد ودمياط؛ ودخوليات قدرها 25٪ على المأكولات والأتبان، ومواد الوقود والبناء؛ وضريبة قدرها 10٪ على كل ما يعرض للبيع في الأسواق، سواء أوزن أم لم يوزن فوق 10٪ أخرى كانت تتقاضى على البضائع عينها لمصلحة الجيش؛ وأنه كانت هناك ضرائب على العربات وحيوانات النقل كلها، والبقر والثيران، تختلف من ثلاثة إلى أربعة جنيهات عن كل عربة، وإلى سبعة شلنات ونصف على حمار الفلاح أو الحمار. غير رسم آخر يتقاضونه منها جميعا، ويتراوح بين ثلاثة قروش، وعشرين فضة صاغ، كلما دخلت تلك العربات والحيوانات مدينة من المدن؛ وأنه كان هناك ضرائب على الملح، وعلى الدخان، وعلى الخرفان المذبوحة، وعلى المعديات؛ وضريبة على الملاحة عموما وقدرها واحد وعشرون شلنا سنويا عن كل مركب؛ وقرشان ونصف عن كل إردب من الحمولة، علاوة على رسوم المرور، تحت الكباري، و50٪ على المصايد؛ وأنه كان هناك ضريبة على الزواج، وأخرى قدرها خمسة شلنات ونصف على كل ميت يدفن، سواء كان رجلا أم امرأة أم طفلا، وأن البدل العسكري كان 112 جنيها، ويرى أن هذا جميعه كان موجودا في عهد (محمد علي)، ما عدا البدل العسكري، وما لم يكن يمكن وجوده، لعدم وجود موجبه، كرسوم المرور تحت الكباري؛ لأن الكباري في أيام الباشا العظيم لم تكن معروفة.
9
فالزيادة الكبيرة في الإيرادات في سنة 1876، كانت، والحالة هذه، نتيجة اتساع نطاق الزراعة اتساعا عظيما، ونتيجة اتساع نطاق التجارة والصناعة والعمل اتساعا لم تعهده أيام (محمد علي)، ونتيجة تعديل طريقة ربط الضرائب وطريقة تحصيلها؛ لا نتيجة إرهاق الأهالي بالضرائب إرهاقا فاحشا غير معهود، كما قيل كثيرا.
ولولا أن البلد، لما استلمه (إسماعيل)، كان خاليا من كل أسباب الحضارة وأقرب إلى الخراب والهمجية منه إلى العمران والمدنية؛ لولا أنه كان يجب أن ينشأ كل شيء فيه، مع قيام رغائب أهله في عكس تيار كل إصلاح على العموم؛ ولولا أن كل شيء خلق فيه بسرعة لم تترك للنمو الطبيعي مجالا - وذلك لشدة الشوق إلى قطف ثمر الغراس المغروس؛ فاقتضت الحال عدم النظر إلى كمية المنفق، وقلة الاكتراث بالديون، مهما بلغت، وأنى وصلت، في سبيل نيل بغية النفس السامية، وتحقيق الخطة النبيلة الموضوعة، لولا ذلك جميعه، لأدى ازدياد الإيرادات في الخزينة المصرية ازديادا مطردا إلى إبراز عجائب في عالم الوجود، مزرية بعجائب أيام الباشا العظيم ومعجزاتها، على سطوعها.
على أن التاريخ لن يغمط (إسماعيل) فضله في أنه عمل على إفادة بلاده من ذلك الازدياد كل الإفادة، التي كان مركزها السياسي والاجتماعي يمكنها من نيلها على يديه؛ وأنه لم يترك ميدانا من ميادين الإصلاح والعمران والرقي إلا وأدخلها فيه بهمته، وعدا بها في حلبته بغيرة ملتهبة لا تعمل حسابا للصعوبات، ولا تبالي بثمن إزالة العقبات من السبيل.
أما وقد تكلمنا عن نجاحه في مضمار الماديات، فإنه لم يبق لنا إلا التكلم عن نجاحه في مضمار التعليم والحركة الفكرية، وفي مضمار ترقية شئون حياة أمته الاجتماعية.
الفصل الخامس
انتعاش التعليم والحركة الفكرية1
تعلم: فليس المرء يولد عالما
وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
عمر بن عبد العزيز
لما دخل الفرنساويون مصر سنة 1798، لم يكن في القطر كله إلا مدرسة الأزهر ومكتبتها الحاوية لكتب علوم الدين وكتب لغة وآداب، ومع أن الأساتذة المدرسين في تلك الكلية كانوا عديدين فإن عدد الطلبة كان قليلا بالنسبة لما هو الآن، ومع أنه كان يوجد سبعة أروقة للعلوم، فإنه لم يكن التعليم يتجاوز تجويد القرآن، ومعرفة الحديث؛ وتعدد الأروقة إنما كان لسبب تعدد أنواع الطلبة وجنسياتهم، كما هي الحال الآن؛ غير أنه كان في القاهرة عينها عدد يعتد به من الكتاتيب المخصص لها أوقاف خيرية لتعليم الأولاد مبادئ القراءة والكتابة، والقرآن الكريم.
فلما بدأ حكم (محمد علي) يستقر في القطر، نجم - عن القليل من النظام والأمن اللذين أدخلهما على الحياة القومية، وعن إعفاء طلاب العلم من الخدمة العسكرية - رقي محسوس لعدد المتعلمين في الأزهر والبيئات العلمية الأخرى، ولكنه لم ينجم عنها رقي في طرق التعليم إلا بعدما عن لمحمد علي باشا فتح ميدان جديد للعلم وإدخال الأمة فيه قسرا.
وتفضيل ذلك أن هذا الأمير، بعد أن قتل المماليك في مجزرة القلعة الشهيرة، امتلك الصبيان والشبان من مماليكهم، فأدخل هؤلاء في حرسه، وجميع الآخرين في مدرسة بالقلعة ليتعلموا فيها القرآن، والكتابة، واللغة التركية، وضروب العسكرية العملية، وفن الفروسية بفروعه: مقتديا في ذلك بالسلاطين المماليك البرچيين وبعض كبار الأمراء المماليك أنفسهم الذين استأصل شأفتهم من الأرض المصرية.
ولما فكر في سنة 1816 في تشكيل جيش على النظام الغربي، ولم يفلح في بادئ الأمر بسبب الثورة التي قام بها الجنود غير النظاميين حوله، أرسل أكبر الشبان من مماليكه القائمين بالقلعة إلى مصر العليا، ليكون منهم مدرسة عسكرية تحت إدارة معلمين غربيين، ثم لكي يملأ الفراغ الذي قد يحدثه في هذه المدرسة، إنشاء الأورط، أسس بمصر، في القصر العيني، مدرسة أخرى تحضيرية للدخول في المدرسة الأولى؛ وذلك حوالي سنة 1825 ووضع فيها 500 ولد من الشراكسة، والكرج، والأتراك، والأكراد، والأرناؤط، والأرمن، واليونان - ليس فيهم مصري واحد - ليتعلموا القرآن، والكتابة، والقواعد اللغوية، والآداب التركية، والفارسية ، ومبادئ اللغة العربية، والحساب والهندسة، والجبر، والرسم، واللغة التليانية - لأنها كانت لغة معظم معلمي العسكرية الناشئة - وجعل اللغة التركية أساس التعليم كله.
ولكنه، لإدراكه أن تعليم أولئك الشبان لم يتم بالسرعة والمتانة اللتين يريدهما، ولرغبته في سرعة تكوين هيئة أركان حرب مصرية، أرسل، منذ سنة 1826، إلى ليڨرنو، وميلانو، وفلورنسا، وروما، بعض المماليك الشبان، ليتعلموا صناعة بناء السفن، والفنون الحربية، والطباعة، والهندسة العسكرية والمدنية، وهلم جرا، ثم أرسل، بعد سنتين، طلبة آخرين إلى إنجلترا، ليتعلموا الهندسة المدنية، وهندسة الآلات المائية، والميكانيكا، وفن الملاحة.
ولما كان الباعث له على كل هذا الاهتمام الفرعي اهتمامه الأصلي بتكوين جيش، فكر في إنشاء مدرسة للطب، وفي الواقع أنشأها منذ سنة 1825، ولكن الذي يستوقف الانتباه هنا هو أنه عدل، في اختيار الطلبة لها، عن طريقته في اختيار الطلبة لمدرستيه الحربيتين التحضيرية والعسكرية؛ وجعل كل تلامذتها من المصريين، لا سيما من شبان الطلبة الأزهريين.
وفي سنة 1826 أرسل إلى فرنسا أول بعثة تلميذية أرسلت إليها؛ وكانت مؤلفة من 40 شابا، معظمهم من تلامذة القصر العيني، وبعضهم من طلبة مدرسة الطب وأمرهم بتعلم الفنون العسكرية، والقوانين الإدارية، والهندسة المدنية والحربية، وعلى الإجمال جميع العلوم التي كان الباشا مضطرا، من أجلها، إلى استخدام الغربيين، لعدم وجود مصريين خبيرين فيها.
فنجحت تلك البعثة نجاحا حمل الباشا العظيم في سنة 1834، تقريبا، على إيجاد نيف ومائة طالب في باريس، وعلى إبطال البعثات إلى إيطاليا، وإنجلترا، والبلاد الأخرى.
ولم يقتصر غرض (محمد علي)، من هذه البعثات المتوالية ومن المدارس الأولى التي أنشأها، على محض تعليم بعض الأفراد من المصريين وساكني مصر فقط؛ بل إنه رمى إلى تكوين أساتذة منهم، يتمكن بواسطتهم، بعد نبوغهم، من نشر ظل العلوم الوارف على القطر كله؛ والنهوض به من هاوية الجهل السحيق التي طرحته فيها من حالق حكومة الأتراك العثمانيين والأمراء المماليك.
ولا أدل على ذلك من أنه في سنة 1834، لما عاد طلبة البعثة الأولى الأربعون إلى مصر، قابلهم الأمير بنفسه، وسلم إلى كل منهم كتابا فرنساويا في العلم الذي تعلمه، وكلفه بترجمته إلى التركية.
وأمر بهم، بعد خروجهم من حضرته، فأغلقت عليهم أبواب القلعة ثلاثة أشهر بأكملها ليترجموا تلك الكتب؛ ولم يفرج عنهم إلا عند فراغهم من ترجمتها، وبعد أن طبعت تلك الترجمات بالمطبعة الأهلية التي أسسها الباشا ببولاق، وزعت على أساتذة وطلبة المدارس التي كانت الأصول الفرنساوية قد أحضرت لأجلها.
ثم أنشأ حوالي سنة 1836 مجلسا أعلى للمعارف، مؤلفا من نخبة من أولئك الطلبة وبعض علماء الفرنساويين؛ ووضع على رأس إدارته وزيرا اسمه مصطفى بك مختار، كان أول وزير معارف عين في مصر على ممر سني تاريخها، وجعل أهم أغراض ذلك المجلس تقديم العدد الكافي من الضباط الأكفاء لجيشه النامي على ممر السنين، والذي لم يعد يمكن ملء الفراغات التي يحدثها الموت في صفوفه بشبيبة جديدة من المماليك الشراكسة، لصعوبة جلبهم من بلادهم؛ ولا بأولاد خدام (محمد علي) الأمناء من الأسيويين والأتراك، لظهور نسل هؤلاء الموظفين في مظاهر أجسام ضعيفة يعوزها الذكاء والصحة، فضلا عن قلة عدده.
وبما أن كل أعضاء ذلك المجلس الأعلى كانوا قد تربوا بفرنسا تربيتهم كلها، سواء في ذلك الفرنساويون منهم وغير الفرنساويين، فإن نزعاتهم كانت فرنساوية محضة، ولا غرابة في كونهم أدخلوا على القطر طرق التعليم الفرنساوية، وأنهم حاولوا تطبيقها على احتياجاته بقدر ما استطاعوا.
على أن تربيتهم الفرنساوية كانت قد غذتهم بلبان آمال لمستقبل البلاد، لم يكن لهم بد من السعي إلى تحقيقها، ومنها أمل إنشاء دولة عربية جديدة تجاه الدولة التركية المتداعية، المشتبكة مصر في حرب معها، لتحل من العالم الإسلامي محلها.
ولا شك في أن هذا الأمل كان يدور، في ذلك الحين المضطرب، في مخيلة الكثيرين من أبناء البلاد، بل الكثيرين من الأتراك المتمصرين أنفسهم، ولم يكن (محمد علي) يرى مصلحة في اجتثاث جذوره، بالرغم من أن ميوله كانت كلها تركية؛ لأنه كان، هو نفسه، يحلم بدولة عربية تكون أسرته مالكة لها، كما كانت الأسرة العباسية العربية مالكة لدولة أركانها فارسية.
فاستصدر المجلس الأعلى، لذلك إذنا منه بإدخال العنصر المصري في المدارس بكثرة، بعد أن كان إدخاله فيها قاصرا، حتى ذلك الحين، على عدد معلوم قليل جدا، وفتح، لنيل الغرض المقصود، عدة مدارس ابتدائية وثانوية في القطر عامة، يعلم فيها، في مدة ثماني سنوات، على نسق الليسيهات الفرنساوية، العلوم الآتية وهي: القرآن؛ الكتابة؛ اللغة العربية؛ اللغة التركية؛ اللغة الفرنساوية؛ مبادئ الرياضيات؛ مبادئ التاريخ؛ مبادئ الجغرافيا؛ الرسم.
ونجم عن تغلب العنصر المصري على عدد طلبة هذه المدارس، وعن الرغبة في تحقيق أمنية إنشاء دولة عربية، أن اللغة العربية أصبحت لغة التعليم العام، وأن اللغة التركية لم يعد يعتنى بها، إلا من حيث هي لغة إضافية فقط، منزلتها من الأهمية تكاد تكون أقل من منزلة اللغة الفرنساوية.
أما المدارس الابتدائية التي أسست، في ذلك العهد، فهي:
في الغربية، مدارس: أبيار، والمحلة الكبرى، وزفتى، وشربين، وفوه، وميت غمر، والجعفرية، ونبروه.
وفي المنوفية، مدارس: أشمون جريس، وشبين الكوم، ومنوف.
وفي الدقهلية، مدارس: المنصورة، والمنزلة، وصهرجت، وفارسكور، ومحلة دمنة، والعزيزية.
وفي الشرقية، مدارس: الزقازيق، وبلبيس، وكفور نجم، وميت العز.
وفي القليوبية، مدارس: الخانقاه، وأبي زعبل، وبنها، وقامولا، وقليوب.
وفي الجيزة، مدرستا: الجيزة، وحلوان.
وفي الفيوم، مدرسة الفيوم.
وفي بني سويف، مدرستا: بني سويف، وبوش.
وفي المنيا، مدارس: الفشن، والمنيا، وبني مزار.
وفي أسيوط، مدارس: أسيوط، وأبي تيج، والساحل، وساقية موسى، وسنبو، ومنفلوط.
وفي جرجا، مدارس: جرجا، وسوهاج، وطهطا.
وفي قنا، مدرستا: فرشوط، وقنا.
وفي إسنا، مدرسة إسنا.
وأنشئت كلها في فبراير سنة 1837، ما عدا مدرسة أبي زعبل، فإنها أنشئت في أكتوبر سنة 1836، ومدرسة ساقية موسى، فإنها أنشئت في نوفمبر سنة 1838.
وكان قد أسس في الصعيد، في شهر مايو سنة 1833، مدارس في: أسيوط، وملوي، ومنفلوط، وأبي تيج، والساحل، وإخميم، وجرجا، وسوهاج، وطهطا؛ ولكنها أقفلت كلها في أبريل سنة 1835.
وأما المدارس الثانوية والعالية والخصوصية التي أسست في عهد (محمد علي) فهي: مدرسة الخانقاه العليا في سنة 1836؛ مدرسة أبي زعبل الإعدادية في أكتوبر سنة 1836؛ مدرسة القصر العيني العسكرية في سنة 1825؛ مدرسة البيادة بالخانقاه في سبتمبر سنة 1832؛ مدرسة البيادة بدمياط في يونيو سنة 1834؛ مدرسة البيادة بأبي زعبل في فبراير سنة 1841؛ مدرسة البيادة بأباض في يوليو سنة 1832؛ مدرسة اللغات بالأزبكية في يونيو سنة 1836؛ المدرسة البوليتكنيكية ببولاق في مايو سنة 1834؛ مدرسة المصانع العسكرية بمصر في يوليو سنة 1833؛ المدرسة المعدنية بمصر العتيقة في مايو سنة 1834؛ مدرسة المدفعية بطره في يونيو سنة 1831؛ مدرسة الخيالة بالجيزة في أبريل سنة 1831؛ مدرسة الصيدلية بالقلعة في نوفمبر سنة 1829؛ مدرسة الطب البيطري بأبي زعبل في يونيو سنة 1831؛ مدرسة الحسابات بالسيدة زينب في فبراير سنة 1837؛ مدرسة الطب والتوليد بمصر في فبراير سنة 1837؛ مدرسة العمليات (الصنائع والفنون) بمصر في مارس سنة 1839؛ مدرسة البحرية بمصر في سبتمبر سنة 1831؛ مدرسة الموسيقى في الخانقاه بمصر في أغسطس سنة 1827؛ مدرسة الطبول والأصوات بمصر في سنة 1824؛ مدرسة الطبول بمصر في أغسطس سنة 1824؛ مدرسة العزف بالنخيلة في أبريل سنة 1829؛ مدرسة الآلاتية بمصر في نوفمبر سنة 1834.
غير أن معظم هذه المدارس سواء أكانت ابتدائية أم ثانوية أم عالية لم تعمر طويلا، وأقفل معظمها، بعد أن وضعت الحرب بين مصر وتركيا أوزارها، فاضطر (محمد علي) إلى القعود عن الفتح والتوسع، وإلى تخفيض عدد جيشه من مائة وخمسين ألف مقاتل إلى ثمانية عشر ألفا.
والباقي أقفل، إما قبل ذلك العهد، وإما بعده، فمدارس: الرحمانية، والنجيلة، وشبراخيت، وإبيار، والمحلة الكبرى، وزفتى، وطنطا، وفوه، والجعفرية، ونبروه، وأشمون جريس، وشبين الكوم، والمنصورة، والمنزلة، والعزيزية، وبلبيس، وكفور نجم، وميت العز، وقموله، وقليوب، وبوش، والمنيا، وأسيوط، وأبي تيج، والساحل، وساقية موسى، ومنفلوط، وجرجا، وسوهاج، وطهطا، وقنا، وإسنا، ومدرسة البيادة بدمياط، أقفلت في سنة 1841؛ ومدارس: دمنهور، ومنوف، وصهرجت، ومحلة دمنة، وبني مزار، أقفلت في سنة 1837 عينها؛ ومدارس: شربين، وبنها، والفيوم، والفشن، في سنة 1838؛ ومدرسة ميت غمر في سنة 1846؛ ومدرسة الخانقاه الابتدائية في سنة 1839؛ وكذلك مدارس: سنبو، وإخميم، وفرشوط، وفي هذه السنة أقفلت أيضا مدرسة الزراعة، وكانت قد تأسست بشبرا في سنة 1836؛ وأبطلت في سنة 1837، مدرسة القصر العيني العسكرية المؤسسة في سنة 1825؛ وفي سنة 1834، مدرسة البيادة بالخانقاه المؤسسة في سنة 1832؛ وفي سنة 1849، مدرسة البيادة بأبي زعبل المؤسسة سنة 1841؛ وفي سنة 1836، المدرسة المعدنية بمصر العتيقة المؤسسة في سنة 1834؛ وفي سنة 1838، مدرسة الحسابات بالسيدة زينب؛ وفي سنة 1849، مدرسة البحرية.
ولما أصبحت اللغة العربية أساس التعليم كله، دعت الحال إلى الاستعانة بالعلماء الأزهريين، ليقوموا بشئون تعليمها في جميع هذه المدارس؛ فجعل معظم الابتدائية منها تحت إدارة نخبة منهم كالشيخ خليل الخوانكي، ناظر مدرسة الرحمانية؛ والشيخ غنيم سالم، ناظر مدرسة شبراخيت؛ والحاج أحمد عصافير، ناظر مدرسة دمنهور؛ والشيخ يوسف البرادعي؛ والشيخ محمد حسن، ناظري مدرسة أبيار؛ والشيخ مصطفى النبراوي؛ والشيخ حسن الطويل؛ والشيخ محمد أبو النجا؛ والشيخ رضوان بالي، نظار مدرسة المحلة الكبرى؛ والشيخ وهبة مصطفى، ناظر مدرسة بندر زفتى؛ والشيخ محمد كفافي، ناظر مدرسة شربين؛ والشيخ سليمان الخطيب، ناظر مدرسة فوه؛ والشيخ عبد الرحمن الغمري، ناظر مدرسة ميت غمر؛ والشيخ أحمد الشيخ، ناظر مدرسة فارسكور؛ والشيخ علي القهتيم؛ والشيخ جوده مصطفى، ناظري مدرسة العزيزية؛ والشيخ محمد عبد الرحمن، ناظر مدرسة الزقازيق؛ وهلم جرا.
ومن البديهي أنه لم يكن بد للتعليم الملقن على أيدي مثل هؤلاء الأساتذة من التأثر بقلة معارفهم، وعدم سعة عقولهم، ووقوف حركة التطور في عقلياتهم؛ لأن الأزهر، في ذلك العصر، كان قد بلغ من الاقتصار على العلوم اللغوية والدينية، ما لم يكن معه مندوحة عن الانحطاط في ميادين العلوم العقلية الاجتماعية، وفي ذات القوة المتعقلة، ولو اقتصر التعليم على أولئك الأساتذة، لما استفاد طلاب تلك المدارس، أكثر مما كان يستفيد الطلاب الأزهريون، في سني مجاورتهم الأولى.
ولكنه كان قد وجد في القطر، لحسن طالعه، عنصر آخر لم تغفل وزارة المعارف العمومية الحديثة استخدامه، ذلك العنصر كان مكونا من الأشخاص الذين تخرجوا من المدارس المؤسسة منذ سنة 1816، والتي كانت تعلم فيها العلوم الدنيوية، كالتاريخ والرياضيات والجغرافيا والهندسة والرسم إلخ.
هؤلاء الأشخاص، إما لعدم تمكنهم من الدخول في الجيش والإدارات، وإما لإحالتهم على المعاش، أو لأية أسباب أخرى، كانوا قد كونوا هيئة تعليمية في القطر فيها الكفاية لسد احتياجات ذلك الوقت؛ ولو أنهم كانوا بعيدين عن درجة الكفاءة التامة بمراحل.
غير أن طلبة البعثات العلمية إلى الديار الأوروبية أخذوا، مع تمادي الأيام، يعودون إلى القطر وينضمون إلى تلك الهيئة المعلمة، ويساعدون، إما بترجماتهم، وإما بمؤلفاتهم على رفع مستواها وتحسين قيمتها.
والتلامذة لغاية سنة 1836، كانوا جميعا من المماليك القفقاسيين، أو من أولاد موظفي الوالي وضباطه الأجانب، فكانوا يعتبرون كأنهم ملكه الخاص، أو بالحري ملك حكومته، فيربون على نفقته؛ ولما عدل نظام انتقاء الطلبة، وحل أولاد المصريين، في المدارس، محل أولئك الشبان، الأجانب، ربوا، هم أيضا، على نفقة الحكومة، وبالكيفية والشروط، التي كان أولئك يربون بها.
ولم يكن خلاف ذلك ممكنا: لأن الكره الذي أبداه الفلاحون المصريون، في أول أمرهم، للتعلم ودخول المدارس، بالرغم من المزايا العديدة المرتبطة بالأمرين والناجمة عنهما، كان كالكره الذي أبدوه للخدمة العسكرية، فاضطر (محمد علي) إلى استعمال الوسائل القهرية معهم لتعليمهم وتربيتهم، كما استعمل الوسائل القهرية لتكوين جيش منهم، فكان أعوانه يهاجمون القرى مهاجمة، وينتزعون الأولاد من أحضان أهاليهم قسرا، ويوزعونهم على المدارس بحسب سنهم وبنيتهم وقامتهم فعندما تظهر الأيام ميولهم، كانوا ينقلونهم إلى المدارس التي يمكن فيها لتلك الميول أن تسير بهم إلى ذروة النبوغ، وأما من أثبتت الخبرة تجرده من كل ذكاء، كان يعاد إلى فلاحة آبائه.
تلك كانت حال التعليم في أيام (محمد علي)؛ ولم يدخل على نظامها تعديل، إلا ما أشارت به الخبرة، أو جاد به هوى المنوط بهم الأمر، أو أوجبته احتياجات الحكومة.
فلما استلم (إبراهيم باشا) زمام الأحكام، عن له إدخال إصلاحات شتى على تلك الحال؛ ولكن قصر مدة ملكه لم يمكنه من نفاذ شيء مما رغب، وأهم ما وقع في خلده في هذا الموضوع تعديل كيفية تشكيل البعثات العلمية إلى أوروبا، وتغيير شكل إقامتها هناك.
فالمندوبية المشكلة في سنة 1936 رأت أن الحكومة عاجزة عن تعليم الناشئة العلوم الوضعية والفنية العليا، لسببين: (الأول) قلة الأساتذة الأكفاء، للقيام بتدريسها؛ و(الثاني) عجز اللغة العربية واللغات الشرقية على العموم، عجزا مطلقا عن التعبير عن مضموناتها، لعدم وجود الكلمات الدالة عليها فيها.
فرأت ، والحالة هذه، وجوب الاستمرار على إرسال البعثات المدرسية، لكي يستتم التلامذة العلوم، التي لم يكن في استطاعتهم تعلم بعضها، بكيفية كافية، ولا التقرب من غيرها، ما داموا بمصر، وما دام تعلمهم باللغة العربية.
وقد قال المسيو چومار - وهو أول من حبب إلى (محمد علي) البعثات المدرسية إلى الخارج، وأحد الأعاظم الذين ساعدوا على النمو العقلي والعلمي في القطر المصري - «هل يكفي إنشاء مداس فخمة عظيمة على الطراز الأوروبي، برجال يؤتى بهم من ميلانو وباريس ولندره بمصاريف جمة، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى بلادهم حالما يبلغون الغرض الذي رضوا بالمجيء لأجله؟ كلا ثم كلا، وبما أن عدد الذين يختارون الإقامة إلى الأبد في وطن غير وطنهم قليل جدا، ولا يزيد على واحد في عشرين ألفا، فالواجب، إذا، تعليم الأهالي أنفسهم في أوروبا، بإحدى اللغات الأوروبية، علوم الأوروبيين وفنونهم، فيدخلون بذلك في صميمها، ويتمكنون من أسرارها، وتتجانس عقليتهم بعقلية متعلميها من الغربيين؛ ولو أمكن لمحمد علي أن يرسل إلى أوروبا منذ سنة 1815 مائة أو مائتين من الطلبة المصريين، لتقدم رقي البلاد وتمدنها عما هو عليه الآن».
ولكن تلك المندوبية رأت أن تعدل الطريقة المتبعة، حتى ذلك الحين، بأن تؤهل، أولا، في المدارس المصرية، الطلبة الذين تقرر إرسالهم إلى المدارس الأوروبية، كيلا يضيعوا من وقتهم هناك، في تلقن العلوم الممهدة لهم سبيل تلقي العلوم الخاصة، المقصودة بالذات من إرسالهم إلى تلك المدارس.
فلم تعد تبعث إلى أوروبا إلا المتخرجين من المدارس المصرية الخاصة، بعد تتميمهم علومهم فيها، وتمكنهم من لغة البلد الأجنبي المعدين للذهاب إليه.
ولنيل هذا الغرض، أنشئت مدرسة مصرية بباريس، جعلت إدارتها تحت رئاسة مصري، يقال له: استفان بك، وأسندت وكالتها إلى نائب، اسمه خليل أفندي تشيراكيان؛ وكلف ضباط معينون من لدن وزارة الحربية الفرنساوية بمراقبة سير الدروس فيها؛ وأرسل إليها، في بادئ الأمر، أربعون تلميذا؛ منهم حليم وحسين ولدا (محمد علي) وأحمد وإسماعيل ولدا (إبراهيم) - وقد سبق لنا ذكر هذا جميعه.
فلما زار (إبراهيم باشا) هذه المدرسة أثناء إحدى سياحاته في أوروبا استوقف انتباهه عدم الضبط المدرسي، وقلة نجاح الطلبة، وفداحة المصاريف التي تستدعيها مدرسة، أصبح كل واحد من تلامذتها (سلطانا صغيرا) حسبما قال هو نفسه.
ووجه نوبار باشا - وكان يومئذ كاتب أسراره (سكرتيره) - فكره إلى المضار وفقدان المزايا، الناجمة عن الطريقة المتبعة، سواء أكان من جهة التربية، على الأخص، أم من جهة التعليم على العموم، وقال له: «إن جمع أربعين طالبا مصريا في مدرسة واحدة ليعيشوا دائما طبقا لعاداتهم وطبائعهم وبدون اختلاط، أو باختلاط قليل، مع خلافهم، من غير جنسهم ودينهم؛ أو إبقاءهم في بلادهم وبيئاتهم الأصلية، سيان، فإما الامتناع عن إرسال طلبة بهذا الشكل؛ وإما الاقتصار على إرسال أحداث ما بين الثامنة والتاسعة من عمرهم، وتوزيعهم على المدارس والمآهل (بنسيون) الغربية، بحيث لا يكون أكثر من اثنين في مدرسة واحدة أو مأهل واحد: فيستفيدون في تعلمهم؛ ويستفيدون ، على الأخص، في تربيتهم».
فوافق (إبراهيم باشا) على رأي سريره (سكرتيره) وعزم على اتباعه، ولكن الموت حال دون تمكنه من ذلك: فاستمرت الطريقة العقيمة التي ندد بها نوبار متبعة، حتى أقفلت ثورة سنة 1848 الباريسية تلك المدرسة المصرية؛ وما فتئت، بعد ذلك، متغلبة على أفكار القائمين بشئون التعليم في هذا القطر، حتى في عهد الاحتلال الإنجليزي، بالرغم من جدب محصولها.
ولم يقطن إلى المزايا الجمة الناجمة عن العمل برأي (إبراهيم باشا) إلا حفيده الكريم عظمة السلطان فؤاد الأول
2
فإنه - حفظه الله - أيام أن كان رئيسا للجامعة المصرية، أدخل، بجانب نظام بعثاتها العلمية، نظام بعثات أحداث، ناعمي الأظفار، إلى بلاد أوروبية مختلفة، ليعيشوا في بيئات تغاير تمام المغايرة بيئاتهم المصرية: فيكونون نشأة جديدة، وإنسانية مصرية عصرية، متشربتين ومتشبعتين بغير المبادئ، والعادات، العقلية، المدينة مصر لمجموعها بذلها القرني.
ووقع في خلد (إبراهيم باشا)، علاوة على ما ذكر، إلزام جميع الموظفين والضباط المصريين بإرسال أولادهم الصغار إلى المدارس والمآهل الأوروبية، على نفقاتهم الخصوصية، بدلا من إرسالهم إليها على نفقة الحكومة؛ وذلك لاعتقاده أن الأهالي إنما يهتمون بتربية أولادهم وتعليمهم على نسبة التضحية المادية والأدبية التي يحملون أنفسهم أعباءها في هذا السبيل؛ وأن الاهتمام الذي تكون التضحية العائلية أسه، لا يلبث أن ينتشر بين جميع طبقات الأمة، ويشترك فيه كل أفراد الهيئة الاجتماعية.
ولا يختلف اثنان عاقلان في سداد آراء (إبراهيم باشا) هذه؛ فلا يسع أحدا إلا التأسف تأسفا عميقا على قطع المنون شجرة حياته الكثيرة الثمار قبل نضوج هذه الثمرة عليها أيضا.
ويزيد لدي التفكير بأن خليفته (عباس باشا الأول) لم يكتف بعدم مجاراته في أفكاره ونياته فحسب؛ بل إنه قلب نظام التعليم والمدارس رأسا على عقب، بعد امتحان أجراه بأبي زعبل للأساتذة والطلبة معا، وكانت نتيجته سيئة للغاية؛ لأن الأساتذة - وكان معظمهم من الأزهريين الذين سبق لنا ذكرهم - ظهروا فيه بمظهر الجهلاء النوكى الحمقى فأمر بإقفال عموم المدارس وطرد الطلبة والأساتذة منها؛ ما عدا مدرسة واحدة، أبقاها ودعاها بالمفروزة، للدلالة على أنها المختارة من بين الكل؛ وأعدها لتخريج ضباط للبرية والبحرية ومهندسين عسكريين ومدنيين.
غير أنه عاد إلى فتح مدرسة الطب وتنظيمها على أسس جديدة تؤهلها لتخريج أطباء للجيش، ولما كان شديد الكراهة للعناصر الأجنبية، ولا سيما الغربية منها، وكان لا يرى متى تأتي الساعة التي يمكنه فيها الاستغناء عن غربي متقلد وظيفة في القطر؛ وكان، من جهة أخرى، يكره من صميم فؤاده أن يتخلى الشرق عن عقليته وعاداته وأخلاقه، حتى السقيمة منها، فإنه ارتآى أن يرسل إلى أوروبا، بدلا من الصبيان، الناعمي الأظفار، والأحداث، الذين رغب عمه (إبراهيم) في إرسالهم إليها، شبانا في الخامسة والعشرين من عمرهم، على الأقل، أتموا كل دروسهم بمصر؛ وأن يفضل على هؤلاء أيضا، الشبان الذين يكون قد سبق لهم تدريس في المدارس العليا الملغاة، لكي يتقنوا في ردح يسير العلوم التي يرسلهم لتلقيها، ويعودوا فيحلون محل الغربيين في دوائر التعليم والإدارة عامة.
وكان (سعيد باشا) خليفته، بالرغم من ميله الكثير إلى الغربيين وعقليتهم، قليل الرغبة في تعليم الفتيان من رعيته؛ حتى إنه قال ذات يوم لكونج بك، مربيه السويسري الذي أصبح سريره الخاص، بعدما تولى العرش، وكان يحضه على إعادة فتح المدارس التي أقفلها عباس، سلفه:
3 «لم نعلم الشعب؟ لكي يصبح الحكم عليه والتصرف فيه أعسر مما هما عليه؟ دعهم في جهلهم! فالأمة الجاهلة أسلس قيادا في يدي حاكمها.» فألغى إذا وزارة المعارف العمومية، كما ألغى معظم الوزارات، وألحق إدارة التعليم بدائرته الخاصة، أو بوزارة الحربية.
ولكنه عاد فأظهر اهتماما عظيما بمدرسة الطب دون غيرها: فوضع لها نظاما جديدا، واحتفل بافتتاحها، على هذا النظام، احتفالا شائقا تحت رياسة أدهم باشا وزير الداخلية، وبحضور شيخ الإسلام وعلماء الدين والهيئات الرسمية الغربية في 10 سبتمبر سنة 1856.
وأظهر أيضا اهتماما يعتد به بالمدارس الأجنبية المؤسسة في البلاد بمعرفة الإرساليات المذهبية، ومما يؤثر عنه أن راهبات الراعي الصالح - وكن قائمات، في مدرستيهما بمصر والإسكندرية، بتربية ستين يتيمة من بنات البلاد، على اختلاف أديانهن، زيادة عن البنات الأخرى، الدافعات قيمة زهيدة، أجرة تعليمهن وتربيتهن - وجدن العبء ثقيلا عليهن؛ فالتجأن إليه، ورفعن إلى مكارمه عرضا، طلبن به منحهن إردب بر، سنويا، عن كل واحدة من تلك اليتيمات؛ فأجاب طلبهن في الحال، وجاد عليهن بما التمسن، وأن راهبات المحبة بالإسكندرية - وكن قد فتحن صيدلية لتوزيع الأدوية مجانا على المرضى، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، شأنهن اليوم - وجدن أنهن في احتياج إلى مبلغ خمسة آلاف فرنك، سنويا، ليتمكن من الاستمرار على عملهن البار؛ فالتمسنه من مكارم (سعيد)؛ ففاضت عليهن به، ولو التمسن خمسمائة ألف فرنك، لما تأخر عنهن.
ووهب (سعيد) أيضا بناية بمصر للإرسالية الأميركية في سنة 1855 - وهي سنة قدومها إلى الديار المصرية؛ ثم ساعد على توطيد أقدامها في القطر ونشر لواء معارفها فيه، وجاد، كذلك، على أول مدرسة إيطالية حكومية تأسست في القطر، في عهده، بمبلغ ألفين وأربعمائة جنيه، ووهبها ثمانية آلاف ذراع في نقطة من أحسن جهات الإسكندرية.
وبما أنه كان مغرما بالجيش والفنون الحربية، لم يكن يسعه أن يهمل التعليم العسكري في جملة ما أهمله من أنواع التعليم المصري. لذلك رتب ونظم بكيفية نهائية مدرسة القلعة الإعدادية في أغسطس سنة 1856؛ ووضع، على رأسها، الشيخ العالم الفاضل رفاعه بك رافع، الذي لا يختلف في جدارته وسعة معارفه اثنان؛ واعتمد برنامج سيرها ودروسها المشتمل على 17 مادة، أهمها: (1)
أن عدد الطلبة مائتان. (2)
أنهم يقبلون فيها من سن 12 إلى سن 18، مشترطا أن يحسنوا القراءة والكتابة، لكي يتمكنوا من اتباع سير الدروس منذ السنة الأولى، ويكون لهم الخيار، فيما بعد بانتخاب المضمار الذي يريدون أن يجروا شوط حياتهم فيه - ولو أن تربيتهم عسكرية محضة - فيدرسون العلوم التي تؤهلهم لأن يكونوا مهندسين أو أطباء أو ضباطا إلخ. (3)
أنهم يتعلمون كلهم العربية بأفرعها بلا استثناء؛ ويتعلم التركية والفارسية من يرغب منهم؛ ويتعلم كلهم لغة، على اختيار كل منهم، من اللغات الأجنبية الآتية، وهي: الإنجليزية، والألمانية، والفرنساوية؛ كما أنهم يتعلمون الخط، والحساب، والهندسة، والجبر لغاية معادلة الدرجة الثانية، وحساب المثلثات المستقيمة الخطوط، والرسم الخطي، والتصميمات العسكرية، والجغرافيا العامة، والتاريخ، والتمارين، والحركات الحربية ، وفن التحصين - كل ذلك في ظرف خمس سنوات أو أربع، حسبما يرى الأساتذة المدرسون (4)
أن يعطى كل طالب مائة قرش صاغ شهريا، زيادة على غذائه وملبسه وسكناه وتعليمه والأدوات التي تلزمه.
وفيما عدا ذلك؛ فإن حالة التعليم، على العموم، ساءت في أيام (سعيد) عما كانت عليه في أيام (عباس)، وآلت إلى البوار، فبينما كان عدد الطلبة، المتعلمين على نفقة الحكومة في أيام (محمد علي) الزاهرة، نيفا وعشرين ألفا، ونزل عند موت الباشا العظيم إلى أحد عشر ألفا، فإنه استمر يتناقص ويقل، حتى لم يعد في أواخر حكم (سعيد)، إلا بضع مئات؛ وتضاءلت ميزانية التعليم حتى انحطت في سنة 1862 إلى ستة آلاف جنيه فقط سنويا!
فحق والحالة هذه ليعقوب أرتين باشا أن يقول: «إنه يمكن اعتبار المدة ما بين سنة 1848 وسنة 1863، فيما يختص بالتعليم العام والمعارف العمومية، كأنها معدومة.»
4
وحق لماك كون أن يقول: «إن ميدان العمل في هذه الوجهة، كان مفتوحا وخاليا على سعته، أمام (إسماعيل باشا) عندما تبوأ عرش أبيه وجده».
5
فدأب يعمل فيه، ويعمل، لا لمجرد إنشاء جيش قوي يركن إليه في الملمات، بل لمصلحة الأهالي وترقية مستوى البلاد العقلي، حتى حركت همته الشماء الهمم، وحق للتاريخ أن يدعو عهده «عهد إحياء العلوم والمعارف بمصر»، فبينما الليل مخيم دامس، إذا بنور سطع وبدد غياهب الجهل.
وتنقسم حركة التعليم في عهده إلى خمسة أقسام:
الأول:
ما كان منها في المدارس التي أنشأتها الحكومة، وقامت بالإنفاق عليها.
الثاني:
ما كان منها في مدارس المساجد والأوقاف والكتاتيب القديمة.
الثالث:
ما كان منها في مدارس أفراد من الهيئة الاجتماعية الإسلامية.
الرابع:
ما كان منها في مدارس الطوائف الشرقية غير المسلمة.
الخامس:
ما كان منها في مدارس الجاليات الأجنبية.
على أن عناية المليك، الساهر على الرقي العام، أشرفت عليها من عل وأظلتها كلها بظل وارف. (1) المدارس التي أنشأتها الحكومة
لما تبوأ (إسماعيل) سدته لم يكن في القطر من مدارس سوى مدرسة ابتدائية، ومدرسة تجهيزية، والمدرسة الحربية في القلعة، ومدرسة الطب والصيدلة والولادة التي أنشأها كلوت بك - وكلها بالعاصمة - ومدرسة بحرية بالإسكندرية؛ وكانت جميعها في حالة سيئة من حيث كيانها ونظامها والتعليم والتربية فيها.
فعهد (إسماعيل) بأمر إصلاحها إلى أدهم باشا - وهو ثاني من تولى وزارة المعارف بالقطر المصري في عهد (محمد علي) الكبير، واستمر على دفتها، بعد وفاة مصطفى بك مختار، أول وزير لها، عشر سنوات؛ أي: من سنة 1839 إلى سنة 1849 - وأقبل ينشئ خلافها بهمته العالية، فتأسست في سنة 1864 مدرسة رأس التين، بجوار السراي الخديوية بالإسكندرية؛ ومدرسة الناصرية بمصر، في الشارع الموصل من عابدين إلى مسجد السيدة زينب، مكان القصرين اللذين كانا للأميرين المملوكين حسن كاشف وقاسم بك، في أيام الحملة الفرنساوية، وخصصا بالجمعية العلمية المعروفة باسم «الانستتنيوت» حيث كان يجتمع بونابرت وكليبر وفوربي ومونج والتسعون عالما الآخرون، الذين رافقوا تلك الحملة، وأنشأوا مجموعة الكتب العلمية الخصيصة بمصر، التي كانت من أكبر أسباب إعادة الحياة إليها.
وظهرت المدرستان المذكورتان بمظهر جديد لم يعهده معهد علمي مطلقا من المعاهد السابقة وتجلتا - الأولى تحت إدارة ناظرها أحمد بك فتحي، والثانية تحت إدارة ناظرها برعي أفندي - عنوان النظافة التامة والنظام الكامل، وعلمت فيهما العربية، والفرنساوية، والإنجليزية ، والألمانية، والجغرافيا، والرسم الخطي، والحساب العادي، والحساب العالي، والقرآن لغاية الفرقة الرابعة، والتركية بدله من الفرقة الرابعة فما فوق.
وانتظم الطلبة في سلكيهما، قسمين: داخلية وخارجية. على أنهم كانوا يتغدون جميعا في غرفتي طعام عظيمتين، عدا أبناء البيكوات والباشاوات في مدرسة الناصرية فإنهم كانوا يأكلون على حدة.
وفي سنة 1865 تأسست ببنها، في سراي (عباس الأول)، مدرسة عظيمة حوت ثلاثمائة طالب يعلمهم أحد عشر أستاذا؛ ومدرسة أخرى ببني سويف؛ وغيرها بالمنيا، وسادسة بأسيوط، وحوت كلها نيفا وستمائة وواحد وثلاثين طالبا، منهم 502 داخلية.
وبسبب الاتساع الرائع، الذي اتخذته الصناعة المصرية على أثر ارتفاع الأسعار القطنية الناجم عن الحرب الأهلية الأمريكية، قرر (إسماعيل) في سنة 1865 عينها إنشاء مدرسة للفنون والصنائع، فوضع نوبار باشا نظامها بمساعدة فني فرنساوي، يقال له: المسيو مونييه: ولكن الكوليرا أوقف نموها وحال دون انتظامها، ثم شغلت الأفكار عنها بالمشاغل السياسية التي أفعمت بها سنة 1866 بيد أنه ما وافت السنة التالية إلا وعاد شريف باشا - وكان ناظرا للمعارف - إلى موضوعها، ووفاه حقه.
ففتحت المدرسة أبوابها في سنة 1867 تحت إدارة فرنساوي خبير يقال له: المسيو إلواجي جون؛ ودرس فيها أحد عشر أستاذا وعريفا؛ وجعلت مدة التعليم فيها ثلاث سنوات، أولا، ثم خمسا، وشمل البرنامج: الرياضة، والكيمياء، والرسم، والتوپوغرافيا، والفرنساوي، والإنجليزي، والهندسة، وكل صنعة وحرفة.
ولما كانت الألفاظ الفرنجية الإصلاحية، الخاصة بالفنون والصنائع، غير متداولة على الألسن إلا قليلا، ولا يعرف إلا القليلون جدا مقابلاتها العربية، ألف المدير، الواجي جون المذكور، قاموسا فرنساويا إنجليزيا عربيا لها، يجدر بمكتبة كل ذي فن وصناعة الازديان به.
وفي سنة 1876 أنشئت ثلاث مدارس صناعية غيرها، ليحول إليها التلامذة البلداء في المدارس الابتدائية، بدلا من تحويلهم إلى المدارس الحربية، فيتعلمون فيها، مدة خمس سنوات، صنائع يتعيشون منها في مستقبل حياتهم، وكانت تباع المصنوعات، التي يصنعونها في مدة دراستهم، ويحفظ ثمنها على ذمتهم، ثم يشترى بها أدوات صناعية، وآلات لكل منهم تصرف إليه حين مغادرته المدرسة، ليدخل ميدان الحياة وهو متسلح بها.
وأنشئت في هذه المدة عينها، في العباسية، مدرسة أولية، ومدرسة إعدادية، خلاف جملة مدارس عسكرية وحربية سيأتي الكلام عليها في غير هذا المكان، وتلا ذلك إنشاء مدرسة هندسية ملكية كبرى، عرفت باسم «المدرسة البوليتكنيك» وأحضرت إليها الأساتذة من فرنسا ومن ضمنهم المسيو چليون دانجلار، صاحب الرسالات الممتعة عن مصر ما بين سنة 1865 وسنة 1875 وعهد بمساعدتهم إلى أساتذة مصريين، من الذين تعلموا بفرنسا على نفقة الحكومة.
وكانت المجانية أساس التعليم، في هذه المدارس كافة، وتشمل الكسوة والطعام أيضا.
غير أن هذا جميعه لم يكن سوى باكورة العمل، فسرعان ما أدرك الخديوي أن إنشاء بضع مدارس، مستقلة الواحدة عن الأخرى، قليلا أو كثيرا، ومشتغلة كل منها على حدة، بدون ارتباط بغيرها، وببرنامج خصيص بها، لا يؤدي إلى ما يرمي إليه من تعميم التعليم ونشره بين أفراد أمته، فكلف لجنة تحت إدارة علي باشا مبارك ناظر المعارف والأشغال العمومية ، منذ 15 أبريل سنة 1868 بوضع قانون أساسي للتعليم العام، تكون المدارس، بموجبه، كلا منظما ذا أجزاء مندمج بعضها في بعض.
فاشتغلت تلك اللجنة بهمة وعزيمة صادقة، وأخرجت، إلى حيز الوجود، اللائحة المعروفة باسم «لائحة 10 رجب سنة 1284» وهي لائحة ذات أربعين بندا مبنية على مبدأين أساسيين، هما: تضامن جميع المدارس في نظامها وتعليمها؛ ومساواة المعاهد التي من درجة واحدة مساواة تامة في جميع الأمور.
فقسمت المدارس إلى ثلاثة أقسام: ابتدائية - وهي الكتاتيب ومدارس المديريات - وثانوية، وعالية؛ خلاف المدارس الخاصة.
أما الكتاتيب - وقد كانت نيفا وخمسة آلاف، وبقيت لسنة 1874 مستقلة عن الحكومة، بطلابها الزائد عددهم على المائة والعشرين ألفا، وفقهائها الذين كان معظمهم من العميان - فإن اللائحة لم تدخل، على المنتشرة منها في القرى، تعديلات محسوسة، غير إلزامها بتعليم الحساب، ولكنها شددت على ذات المركز المهم منها، برفع مستوى التلامذة العقلي، لكي تؤهلهم للدخول في مدارس أعلى منها درجة؛ كما أنها شددت عليها بالصيرورة إلى مدارس ابتدائية حقيقية؛ وذلك بما وضعت من تعليمات وإرشادات للفقهاء فيها، وبما قررته لها من كتب، وأدوات مدرسية، وإدخال تعليم لغة أجنبية ومبادئ الجغرافيا والتاريخ على برنامجها.
وأما مدارس المديريات - وهي مدارس ابتدائية حقة - فإن اللائحة المذكورة قررت تعميم إنشائها في بنادر المديريات كافة، على نظام مثيلاتها في أوروبا؛ وجعلت برنامج التعليم فيها كالآتي؛ القرآن، العربي، الفرنساوي أو الإنجليزي، الحساب، التاريخ، الهندسة، الرسم؛ وجعلت الأصل فيه المجانية المطلقة، سواء في ذلك الطلبة الداخلية والطلبة الخارجية.
وأما المدارس الثانوية، فتقرر أن تكون سبعا: ثلاثا في مديريات الوجه البحري، وأربعا في مديريات الوجه القبلي؛ وأن تكون المجانية المطلقة الأصل في التعليم فيها أيضا.
وأما المدارس العالية، فجعلت تسعا: ثمان منها في مصر، وواحدة بالإسكندرية، وكانت أهمها كلها مدرسة الپوليتكنيك ومدرسة الطب.
أما الپوليتكنيك - وكان يقال لها أيضا مدرسة المهندسخانة - فقد أنشئت أولا في العباسية، ثم نقلت إلى درب الجماميز، في سراي الأمير مصطفى فاضل، أخي الخديو، حيث كان مقر وزارة المعارف؛ وكان تلامذتها الستون كلهم داخلية، ويتعلمون، في ست سنوات : الرياضة العليا، والكيميا، والطبيعة، والچيولوجيا، والميكانيكية، والعربي، والفرنساوي أو الإنجليزي، والجغرافيا، والتاريخ، والرسم، وكان النابغون في الرسم كثيرين، ولا غرابة: فمصري اليوم إنما هو حفيد مصري العهد الفرعوني.
ولما كانت تلك السراي واسعة جدا، فقد نقلت إليها مدرسة الإدارة، وعدد طلبتها خمسون، ومدرسة المحاسبة والمساحة، ومدرسة اللغات، والمدرسة التجهيزية وطلبتها خمسمائة وخمسون، معظمهم خارجية.
ووجد، مع ذلك، متسع لمسرح فسيح، كانت تقام فيه الامتحانات العامة السنوية العلنية؛ ولمكتبة نفيسة، أنشأها في سنة 1871 علي باشا مبارك، ورتبها في ست حجر؛ وكانت فيها طائفة من كتب مكتوبة بخط اليد في لغات متعددة لا سيما العربية؛ وأهمها نسخ قرآنية وجدت على قبور مؤسسي المساجد من سلاطين مصر السالفين، وكانت ذات أهمية تاريخية عظيمة؛ لأن الواحدة منها كتبت ووضعت على قبر مؤسس المسجد في بحر السنة التالية لموته؛ فكانت تدل على تطور الخط العربي، على ممر الأيام؛ وتساعد على تحقيق عصر بناء تلك المساجد، والتثبت من مواقيت التاريخ العربي.
وأنشئ، في تلك السراي، أيضا في 12 يوليو سنة 1871 معمل طبيعيات، تام الأدوات، يضاهي أكبر المعامل الأوروبية التي من نوعه.
وإنما ذكرنا المعمل والمكتبة والمسرح، عند كلامنا على مدرسة الپوليتكنيك، لاقترانها بها في فكر عموم مصريي ذلك العهد، بسبب وجودها معا في محل واحد.
وأما مدرسة الطب - وقد قلنا كيف تأسست وألغيت ثم أعيدت إلى الوجود - فلم يكن لها من مثيلة في الشرق كله؛ وكانت تنقسم إلى قسمين: قسم الطب والجراحة، وقسم الصيدلة، ومدة التدريس في كل منهما خمس سنوات: منها سنتان لإعادة العلوم الأدبية، المعلمة في المدارس الثانوية وإتمامها؛ والثلاث السنوات الباقية، للطب والصيدلة، وكان عدد طلبتها، في سنة 1876 مائة وخمسون وتسعين طالبا، كلهم داخلية ما عدا عشرين، وبما أن تعليم التلامذة الداخلية، وطعامهم، ولبسهم، ومقامهم، كتعليم الخارجية، كان مجانا، فإن تخريج الطبيب الواحد كان يكلف الحكومة ثلاثة عشر ألف فرنك، وتخريج الصيدلي الواحد أربعة عشر ألف وخمسمائة فرنك؛ ولذا فإن الداخلية كانوا يلزمون بالاستخدام في الحكومة، بعد نيلهم دبلوم الطب أو الصيدلة، وأما الخارجية فكانوا أحرارا.
وكان معظم الأساتذة، في القسمين، من المصريين الذين تعلموا بأوروبا؛ فلم تكن مرتباتهم، والحالة هذه، ضخمة كما لو كانوا يحضرون خصيصا، من أوروبا.
وكان، في المدرسة، مستشفى مدني وعسكري على أحسن شكل؛ ومعمل كيماوي خاص بقسم الصيدلة تحت إدارة جستنيل بك، ليس له مثيل؛ وبستان نباتي؛ ومكتبة شاملة؛ ومجموعات تجهيزات تشريحية؛ ومجموعات تاريخ طبيعي؛ وكلها مختارة اختيارا حكيما.
ثم استدعى (إسماعيل) من سويسرا أستاذا خصيصا في التعليم وحركته، يقال له: المسيو دور؛ وبعد أن أنعم عليه برتبة البكوية، عينه مفتشا عاما للمعارف، وكلفه بتنظيمها، وتوسيع نطاقها على النمط الفرنجي؛ ورتب مجلسا أعلى للإشراف على شئون المدارس؛ وخص وزارة المعارف بميزانية سنوية، تراوحت بين سبعين وثمانين ألف جنيه، ولما اضطره، فيما بعد، انفاقه على المنافع العمومية الأخرى، والشئون السياسية المختلفة، إلى الاقتصاد من ذلك المبلغ قليلا، وهب تلك الميزانية إيراد تفتيش الوادي - بعد أن استرده من شركة قنال السويس، مقابل مبلغ عشرة ملايين من الفرنكات - وكان مجموع ذلك الإيراد ستمائة ألف فرنك سنويا. على أن مصروفات إدارة التفتيش كانت تستغرق جزءا كبيرا من هذا المبلغ؛ فأخذها (إسماعيل) على عاتقه الشخصي، وقرر ستمائة ألف فرنك سنويا للمعارف بكيفية ثابتة.
فقام دور بك بمهمته، بعزم صادق وهمة عالية؛ وبعد أن درس موضوعها درسا عميقا، وأجرى بعض تعديلات في المدارس الموجودة - كتحويله مدرسة الإدارة إلى مدرسة حقوق، (شرع ناظرها المسيو ڨيدال يعلم القانون الروماني والقانون الفرنساوي فيها؛ ويقارن بينهما وبين باقي الشرائع، توطئة وتمهيدا لتخريج رجال حقوقيين تكون فيهم الكفاءة للجلوس على منصات القضاء المختلط الذي كانت المخابرات دائرة في أمر إنشائه مع الدول صاحبات الامتيازات)؛ وكجعله مدرسة اللغات معهدا لتخريج مترجمين ومنشئين، يشتغلون في الإدارات، أو في إخراج ما يلزم من الكتب للمعاهد العلمية؛ وكإضافة قسم طب بيطري إلى مدرسة الطب انتظم في سلكه خمسون طالبا؛ وإنشاء قسم فلكي في سراي الأمير مصطفى فاضل السابق ذكرها - ووضع، للمدارس عامة، المناهج الوافية، الكافلة بلوغ الأماني ونيل المنى، فيما لو نفذت برمتها.
ولكن تنفيذها التام كان متعسرا؛ وجل مجهودات الخديو ووزراء معارف أمته ومساعديه كان ضائعا في مجموعه لسببين: (الأول) قلة المال، بالرغم من تعاقب النفحات الخديوية؛ و(الثاني) قلة الرجال، بالرغم من استحضار الأساتذة من أوروبا، وحف إرسالية الطلبة المصريين فيها بكل صنوف العناية.
أما قلة المال، فلأن الحركة التمدينية التي قام بها (إسماعيل)، تناولت كل مظاهر الحياة القومية، والحياة الاجتماعية، ومكنوناتهما؛ واستنفدت معظم إيرادات البلاد وإيراداته الشخصية، وما لم تستنفده تلك الحركة، ابتلعته المساعي إلى الاستقلال وإلى إحلال الدولة المصرية من مصاف الدول العظمى في المحل اللائق بماضيها الفرعوني وحاضرها العلوي، كما سنرى في البابين التاليين: فلم يعد في حيز الإمكان الإنفاق على التعليم، أكثر مما كان ينفق عليه، بالرغم من شدة الرغبة في توسيع دائرة الإنفاق.
على أنه لا يجب أن يستنتج من ذلك فكرة تحط من قدر المجهود المبذول في هذا السبيل: فإنه بينما كانت ميزانية التعليم بمصر تتراوح بين السبعين والثمانين ألف جنيه سنويا، ولا تقل عن الستين ألفا حتى في أسوأ سني العسر المالي - وذلك غير المنفق على المدارس الحربية والبحرية التابعة لميزانيتي وزارتي الحربية والبحرية، وغير ما كانت تنفقه إدارة الأوقاف على عموم مدارس المساجد والكتاتيب - لم تكن ميزانيته في تركيا تزيد أبدا على الخمسين ألفا حتى في أجود سني الرخاء - وذلك بالرغم من أن سكان تركيا كانوا سبعة أضعاف سكان مصر؛ وبالرغم من أنه لم تقم في تركيا حركة تمدينية البتة كالحركة التي أثارها (إسماعيل) بمصر؛ ولا ألزمها مركزها السياسي بنفقات في غير أبواب الإدارة الداخلية، كما ألزم مركز مصر السياسي الحكومة المصرية بها.
على أن مبدأ المجانية المطلقة في المدارس المصرية - وقد كان مبدأ معدوما كلية في تركيا - هو الذي كان يجعل المبلغ المخصص لميزانية التعليم غير واف بالمراد ولا مساعدا على القيام بالمقصود، وذلك لأن مصاريف طعام التلامذة وكسوتهم ومسكنهم، ناهيك بما كان يتقاضاه بعضهم من المرتبات الشهرية، على زهادتها، كانت تبتلع ثلاثة أرباع الميزانية، ولم تكن مرتبات المعلمين تستنفد أكثر من الربع الباقي ؛ وكانت، لهذا السبب، زهيدة حتما، وغير مشجعة على العمل، فمرتبات معلمي المدارس الثانوية، مثلا، كانت تتراوح بين مائتي قرش وسبعمائة وخمسين قرشا شهريا!
ونجم عن جعل المجانية أساسا للتعليم ضرران عظيمان: (الأول) اضطرار الحكومة، مع تقدم الأيام وتغير عقلية الأمة فيما يختص بإرسال أولادها إلى المدارس، إلى حصر عدد التلاميذ، الممكن قبولهم في المدارس الأميرية، ضمن دائرة محددة؛ وحرمان الكثيرين من الراغبين في التعلم من ثمرات العلم الشهية؛ لأنه لما كانت نفقات التلميذ الواحد يكلف الحكومة ستة وعشرين جنيها سنويا، بين تعليم وأدوات تعليم ولبس وأكل ونوم، لم يعد في الاستطاعة إجابة طلبات جميع الراغبين في الالتحاق بالمدارس بل ولا جلها؛ وبات من المحتم الاقتصار على محلات معدودة في كل مدرسة بالرغم من أن الدفعة القوية التي صدرت عن (إسماعيل) للشئون العلمية، أدت، في ظرف عشر سنوات، إلى إنشاء المدارس الأولية على النظام الأوروبي في المديريات، وإلى تشجيع التعليم الابتدائي في الكتاتيب ومدارس المساجد وغيرها، مما سيأتي بيانه.
وإلى مثل هذه النتيجة، وهي الاقتصار على محلات معدودة في المدارس وحرمان الكثيرين من الراغبين في التعلم من ثمرة العلم الشهية ، وصلت حكومتنا اليوم، بسبب مغالاتها في الإنفاق على تشييد معاهد التعليم، وإفراطها في المرتبات الضخمة الممنوحة للأساتذة الأجانب.
والضرر الثاني فقدان الطلبة حرية اختيار المدرسة الثانوية أو العليا، التي يميلون إليها ميلا طبيعيا، بعد فراغهم من تلقي دورسهم الابتدائية؛ لأن الحكومة المتولية الإنفاق عليهم، كانت ترى نفسها أحق منهم بذلك الاختيار: فتتصرف فيهم كما تشاء، تصرفا كثيرا ما كان غير الحكمة رائده؛ لأن الصدف والظروف تجعله في يد وزير ربما تعوزه الحكمة.
مثال ذلك ما حدث حينما خلف قاسم باشا في ديسمبر سنة 1872 شاهين باشا على دست وزارة الحربية، فإنه رأى في 11 فبراير من السنة التالية أن يعزز هيئة الضباط، ويضاعف عدد تلامذة المدارس العسكرية؛ فطلب إلى بهجت باشا وزير المعارف أن يسمح له بأن يختار من مدارس الحكومة المدنية، الشبان الذين يحتاج إليهم؛ ولم يسع بهجت باشا إلا موافقته، لئلا يرمى بأنه يريد إضعاف قوة مصر المدافعة عنها، فاختار قاسم باشا 144 طالبا من التحضيرية، و65 من التجهيزية، و96 من المهندسخانة، بحيث لم يعد في الفرقة الأولى منها سوى تلميذين من الثلاثين الذين كانوا فيها.
ولولا تداخل بعض العقلاء، وإلفاتهم نظر الخديو إلى ذلك الخلل - فتلاقاه (إسماعيل) - لنفذ قاسم باشا مرامه وأحل الخراب بجملة بالمعاهد العلمية.
6
ومثال ذلك أيضا، ما كان يتبع، عادة، في أمر الأذكياء والبلداء من طلبة المدارس الأولية: فإنهم كانوا يرسلون الأذكياء إلى المدارس المدنية العالية، ويرسلون البلداء إلى المدارس الحربية، فيتخرج الأذكياء من مدارسهم المدنية، وأعلى مرتب شهري يمكن أحدهم الطمع فيها، عشرة جنيهات مصرية، بينما البلداء يتخرجون من المدارس العسكرية، ضباطا؛ أقل مرتب شهري، يربط للواحد منهم، أعلى من أقصى مرتب يطمع فيه الذكي الملكي؛ فتثبط بذلك همة كل ذكي، ويصبح مرتاحا إلى التظاهر بالبلادة والغباوة، حرصا على سعادته المستقبلة، وتمثلا بقول ابن الراوندي:
رزق التيوس يجيئها بسهولة
وذوو الفصاحة رزقهم مسجون
إن كان حرماني لأجل فصاحتي
فامنن علي من التيوس أكون
ومثال ذلك، أخيرا، ما كان يعمل سنويا، في إلحاق الطلبة بهذه المدرسة العالية أو تلك؛ فإنهم كانوا يجمعون المتخرجين من المدارس التجهيزية ويقسمونهم إلى عدة مجاميع، يوزعونها بطريقة الاقتراع، على مدرسة الطب، والمدارس المجتمعة في سراي الأمير مصطفى فاضل؛ ثم يعودون فيدخلون مدرسة الطب، بطريق الاقتراع أيضا، ثلاثة أرباع المجموع الذي يكون قد أصابها، ويدخلون الربع الباقي في مدرسة الصيدلة؛ ثم يعملون العملية عينها فيما يختص بمدرسة المهندسخانة، ومدرسة الحقوق، ومدرسة اللغات، وهلم جرا، بدون مبالاة بما ينجم عن ذلك من إجحاف بميول التلامذة، وقهر للكفاءات على الانتشار في ميادين غير التي خلقت من أجلها.
ودام مبدأ الاقتراع هذا بمضاره معمولا به حتى سنة 1876؛ إذ ألغاه رياض باشا وزير المعارف في ذلك العام، وصاحب الأيادي البيضاء على التعليم الابتدائي، بما بذله من مجهودات في سبيل تحسين حال الكتاتيب، وترقية معلومات الفقهاء.
وهكذا كانت المجانية - التي كثيرا ما حبذها في الأيام السالفة قصيرو النظر من الأميين وغيرهم ، وما زال يحبذها بعض الكتاب الاجتماعيين لغاية أيامنا هذه - أعظم مانع لانتشار المعارف والتعليم بمصر في ذلك العصر!
ونجم عنها زيادة على ما ذكر، تغلب النظام العسكري على معظم المدارس، ولا نستطيع أن نجزم أكان تغلبه هذا خيرا أم شرا عليها، لأسباب لا تخفى على القارئ اللبيب: فإن البلاد كانت في حاجة إلى روح الشدة في حفظ النظام، بقدر ما كانت في حاجة إلى انبثاث روح الحرية والاستقلال فيها، ففقدانها الروح الأول كان من شأنه أن يحرمها فائدة التعليم؛ وفقدانها الروح الثاني كان من شأنه أن يديم استكانتها إلى الذل الموروث عن القرون السالفة، وبما أنا لسنا من مذهب القائل بتفضيل الجهل، مع الاستقلال، على العلم، مع عدمه؛ لأننا على ثقة تامة من أن الجهل جار، حتما، في نهاية الأمر، إلى الاستعباد والذل، والعلم مفض، حتما، في نهاية الأمر أيضا، إلى الاستقلال والعز، إلا إذا اعترض خور في الأخلاق سبيله؛ فإنا نتردد في إبداء حكم بات في الشأن الذي نحن في صدده.
وأما قلة الرجال فلسببين:
الأول:
أن الفترة المشئومة ما بين سنة 1848 وسنة 1863 أنقصت كثيرا عدد المصريين أولي الكفاءة لمباشرة شئون التعليم، وأضاعت ممن تبقوا، الثقة في أنفسهم والاعتماد عليها، فنجم عن ذلك أن وزارة المعارف كانت في اضطرار دائم إلى استدعاء نظار المدارس للتعاون بهم على الأعمال الإدارية والفنية فتعطلهم عن أشغالهم؛ وأن نظار المدارس باتوا يستشيرون الوزارة في جميع أمورهم حتى التافهة منها - فتتعرقل حركة إدارتهم - ونتيجة الأمرين اختلال النظام في طرق التعليم وفي نفاذها.
الثاني:
هو أن ازدياد عدد الطلبة، لا سيما الداخلية، ازديادا مطردا في السنوات الأولى من حكم (إسماعيل) أدى حتما إلى ازدياد الشعور بالحاجة إلى معلمين، وإلى وجود عدم الكفاية منهم، فإن الأهالي، بعد أن كانوا في أيام (محمد علي) وخلفائه الأولين، يمانعون في تعليم أولادهم ممانعتهم في تجنيدهم - لارتباط الأمرين معا في ذلك العهد - فيضطرون (محمد علي) إلى استعمال القوة والتعسف في أخذهم منهم وإرسالهم، قسرا، إلى المدارس التي أنشأها، ما لبثوا أن رأوا الفوائد الجمة العائدة على المتعلمين من أبنائهم، ورأوا ولد هذا الفلاح الحقير، وابن ذلك الصانع الوضيع يبلغان، بفضل العلم الذي تلقياه، أعلى مراتب التوظف، ويتحليان برتبة البيكوية بل برتبة الباشوية الرفيعتين؛ ثم رأوا أن التعليم ليس مجانيا فقط، بل مكافأ عليه، ومحوطا بجميع صنوف العناية والهناء، أقبلوا بكل انشراح، يتزاحمون على أبواب المدارس، كل يلتمس لابنه فيها محلا، ويرجو له نصيبا في المستقبل، كنصيب الذين أسعدهم الحظ من أولاد أقرانه، بل من أولاد الأحط منه قدرا.
فأخذت الحكومة منهم، في الأول، ما كان في استطاعتها أخذه؛ ولكنها ما لبثت أن رأت نفسها أمام المعضلتين، اللتين ذكرناهما: معضلة المال ومعضلة الرجال، إلا واضطرت إلى الوقوف عند حد معلوم، والبحث عن طرق لحلهما.
أما معضلة المال، فإن الوزير الحكيم علي مبارك باشا رأى أن خير حل لها هو السير على الخطة المتبعة، إذ ذاك، في المدارس الأوروبية؛ أي: إبطال مبدأ المجانية البحتة، وتكليف الأهالي بالإنفاق على تعليم أولادهم، ولو إنفاقا يسيرا في بادئ الأمر، فأنشأ مدرستي ماريستان قلاوون والقربية، وفرض فيهما دفع مصاريف شهرية على الراغبين من الأهالي في إلحاق أولادهم بهما، ولما كانت تلك المصاريف زهيدة جدا، على كفايتها للإنفاق على الأساتذة القائمين بشئون التدريس في كلتا المدرستين، أقبل التلامذة عليهما إقبالا عظيما، وبلغ عددهم فيهما، في مدة قصيرة مائتين وخمسين طالبا فباتتا مثالين لجميع المدارس الابتدائية التي أنشئت بعدهما.
وأما معضلة الرجال، فإن دور بك رأى أن حلها لا يكون إلا بإنشاء المعاهد لتخريج مدرسين للمدارس الابتدائية والمدارس الثانوية، فأنشأ مدرسة دار العلوم، ثم أنشئت بعدها المدرسة المدعوة بالنورمال: (الأولى) لتخريج أساتذة يقومون بتدريس كل ما كانت اللغة العربية أساسا لتعليمه؛ و(الثانية) لتعلية مستوى التعليم في المدارس الابتدائية، وتخريج أساتذة يقومون، على الأخص، بتدريس اللغات الأجنبية، والرياضيات والعلوم الأخرى.
ولكنه، لما كان لا بد من الالتجاء إلى الأزهر، لأخذ الطلبة المتقدمين فيه إلى مدرسة دار العلوم، وتخريجهم فيها مدة سنتين، ليرسلوا بعدها إلى مدارس الريف، ليدرسوا فيها ، كان على الأساتذة، المتخرجين من هذه المدرسة، شيء من المسحة الأزهرية، جعلهم لا يرون قاعدة للتعليم خيرا من التي شبوا عليها في ذلك المعهد الديني العظيم.
ولم يدرك دور بك تمام الغرض الذي رمى إليه من إنشاء دار العلوم، وهو تخريج أساتذة متشبعين بمبادئ التدريس على النمط الأوروبي، وميالين إلى العمل بقواعد الپيداجوجيا الحديثة، ولكن البلاد نالت، من إنشائها، فائدة أعظم من التي رجاها ذلك الأستاذ السويسري؛ لأنها، لما رأت إقبال المتعممين على تلقن علوم كان سواد الأمة الأعظم يعتقدها من بدع الشيطان، لاعتقاده إياها من غرس عالم غير إسلامي، من غرس عالم ما فتئ العالم الإسلامي يظن السوء في نياته نحو الإسلام - وهو الاعتقاد الذي أدى بالأزهر إلى مقاومة (محمد علي) مقاومة شديدة، بالرغم من كونها خفية وصماء، حينما أقبل يأخذ أولاد الفلاحين المصريين، ويزجهم في مدارسه، أو يرسلهم إلى مدارس بلاد الكفار (الفرنج)، مع أنه لم يقاومه مطلقا، لما كان مقتصرا في بادئ أمره، على تعليم مماليكه وغيرهم من أولاد الشرقيين الأجانب عن مصر - ورأت أولئك المتعممين يحبذون ما يتلقونه من تلك العلوم، ويعظمون من شأنها، ويبالغون في فوائدها، أخذت تتحول عن اعتقادها أنها علوم من بدع الشيطان، وأخذت الرغبة في تحصيلها تنتشر في المجموع، رويدا رويدا، وتعم جميع الطبقات، ومن المعلوم أن رقي البلاد برمته، ماديا كان أو أدبيا، مربوط، في نهاية الأمر، بتشبع الأمة بمبادئ العلوم الوضعية؛ وعملها على اقتباسها؛ واقتباسها إياها، في الواقع.
ثم أنشئت معاهد، خلاف مدرستي دار العلوم والنورمال، لتثقيف أساتذة للمدارس الابتدائية، غير من ذكروا، ممن كانوا يرغبون في تحسين معارفهم، وترقية درجة معلوماتهم العامة، وجعل التعليم فيها ليس مجانيا، فقط، بل ربط جنيه لكل طالب حتى يتبين نجاحه، أو تظهر خيبته.
على أنه لا قلة المال ولا قلة الرجال حالتا دون قيام (إسماعيل) بعمل تعليمي لم يسبقه إليه أحد في الشرق، وكان من أنصع الأدلة على حسن نوايا ذلك الأمير، وبرها برعاياه ذلك العمل هو إنشاؤه في سنتي 1875 و1877 مدرستين للعميان على الطريقة الغربية المعروفة، وهما مدرستان كان القطر المصري ولا يزال في أشد الاحتياج إليهما وإلى مثيلاتهما، لكثرة عدد العميان فيه، وكثرة فتك الرمد الصديدي بعيون سكانه!
وليس أوقع في النفوس من الوصف الذي يصف به دور بك في كتابه المعنون «التعليم في مصر» الحجرة المخصصة في الأزهر الشريف لتعلم أولئك البؤساء، وقيام معلميهم بأمر تعليمهم بطول أناة وحسن صبر يستمطران المدامع من الأعين!
7
على أن التعليم فيها، إنما كان بتحميل الذاكرة أعباء الحفظ، لا بتعليم اليد القراءة والكتابة لمسا؛ بخلاف المدرستين اللتين أنشأهما (إسماعيل)، فإنهما كانتا تستخدمان الكتب ذات الأحرف البارزة، الخصيصة بالعميان، لتعليمهم القراءة، والكتابة، والحساب، باللمس، فوق تعليمهم صناعة الحصر، والخراطة، والكراسي، وغيرها، وما لبثتا أن جمعتا عددا عديدا من أولئك البؤساء، الذين كانوا لا يفترون لحظة عن الابتهال إلى الله أن يحف من أحسن إليهم صنعا بجميع صنوف عطاياه ونعمه، وإبقاء حياته وملكه.
وتناول الإصلاح المدرسي ذات المعاهد الدينية، لا سيما الكبرى منها، كالأزهر بمصر والجامع الأحمدي بطنطا، والدسوقي، وجامع إبراهيم باشا بالإسكندرية، فألزم الشيوخ المتخرجون فيها بتأدية امتحانات، لنيل إجازة التعليم، واعتراف الحكومة بهم أنهم معلمون.
وكان عدد المجاورين بالأزهر في سنة 1876 أحد عشر ألف طالب وخمسة وتسعين؛ وعدد المجاورين في الجامع الأحمدي ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وعشرين؛ وعدد المجاورين في المسجد الدسوقي مثلهم تقريبا، وأما عدد طالبي العلم في جامع الشيخ إبراهيم باشا، فلم يكن سوى أربعمائة وثلاثة عشر. (2) مدارس المساجد والأوقاف والكتاتيب القديمة التابعة للأوقاف
بما أن إدارة هذه المدارس والكتاتيب، طوال مدة حكم (إسماعيل)، تقريبا، بقيت مسندة إلى أيدي وزراء المعارف، فإن حظ حركة التعليم في المعاهد التابعة لها، والمتولية هي الإنفاق عليها، كان كحظ مدارس الحكومة وكتاتيبها، وأدخلت عليها النظامات والتحسينات التي أدخلت على هذه فلا داعي لزيادة التكلم عنها. (3) المدارس التي أسسها أفراد من الهيئة الاجتماعية الإسلامية
إن أهمها ما تجلى في مدرسة راتب باشا بالإسكندرية؛ وفي مدرسة السيوفية للبنات بمصر؛ وفي مدرسة القبة للأولاد.
فراتب باشا، مؤسس رواق الحنفية في الأزهر، أنشأ بالثغر الإسكندري، مدرسته المجانية المشهورة، وحبس عليها أوقافا، وأجرى أرزاقا تكفل بقاءها إلى ما شاء الله، فأمها، حين نشأتها، نيف وستون طالبا؛ ولكن عددهم ما فتئ يتزايد حتى جاوز المائة، وقد كانوا يتعلمون فيها، في مبدأ الأمر - أسوة بالمدرسة المؤسسة من الأوقاف في الثغر عينه، والحاوية مائة طالب - القرآن، والعربية، والتركية، والحساب، ثم تطورت الأيام، فأضيف إلى تعليم ذلك الفرنساوية؛ وما لبثت تقلبات الزمان أن ذهبت بالتركية أدراج الرياح؛ ثم ذهبت بالفرنساوية أيضا، وأحلت الإنجليزية محلهما معا.
أما مدرسة السيوفية للبنات، فقد كانت الأولى من نوعها في العالم الإسلامي. أنشأتها الأميرة تشسما آفت خانم أفندي زوجة (إسماعيل) الثالثة، بإيعاز وتشجيع فعلي من بعلها الجليل، على نفقتها الخاصة، وبشجاعة أدبية نادرة؛ لاعتبار العالم الإسلامي عملها هذا بدعة غير ممدوحة.
نعم إنه كان في البلاد مدارس للبنات، أسستها الأخويات والإرساليات المسيحية، والطوائف غير الإسلامية، والجاليات الغربية، كما سيأتي بيان ذلك، وكانت بعض بنات المسلمين تؤمها؛ ولكن الرأي العام الإسلامي لم يكن راضيا عنها؛ وكان وجوه القوم وكل من يظن في نفسه أنه ذو حيثية يأنف من إرسال بناته إليها لمخالفة ذلك للعادات المتبعة، مخالفة تنفر الشعور والأوهام المسلم بها بدون مناقشة.
وقد كان ذلك الرأي العام شديد التأثير إلى درجة أن (محمد علي) الكبير - الذي لم يكن لينحني بسهولة أمام ضجته، ولا يهاب سخطه - أبى الموافقة على ما أشار به مجلس معارفه الأعلى، المتشرب بالمبادئ الغربية، والمقتنع بعظم تأثير المرأة المتعلمة في الهيئة الاجتماعية، من وجوب تعليم البنات، وإنشاء مدارس لهن، أسوة بمدارس الصبيان؛ واكتفى بتعليم بنات أسرته وجواريهن على يد المسز ليدر زوجة أحد مبشري الإنجليز، التي أنشأت في سنة 1835 أول مدرسة إفرنجية للبنات في القطر المصري؛ بتشجيع من تلميذتها الخانم بنت (محمد علي) الكبرى، زوجة محرم بك أمير الأسطول المصري، ومحافظ ثغر الإسكندرية، المسمى باسمه الحي الكبير المشهور في هذه المدينة.
ولما كان الناس - لا سيما الكبراء - على دين ملوكهم، اقتدى بالعزيز الذوات والوجوه، وبدأت تنتشر في البلاد عادة استخدام السراة معلمات أجنبيات، لتهذيب بناتهم، وتثقيف عقولهن.
غير أن (محمد علي) لم يكن بالرجل الذي يهمل، بتاتا، أمرا يعتقده هاما ومفيدا، لمجرد مخالفته للرأي العام؛ وإذا لم يكن يرى صلاحية نفاذه وإجرائه مباشرة، كان ينفذه من وجه غير محسوس.
فلكي يهز جمود الأمة عن تربية بناتها، هزا يوقظها من نومها، أتاها من طريق سوي؛ وأنشأ بمساعدة كلوت بك، مدرسة قابلات؛ كانت كل تلميذاتها، في بادئ الأمر، عشر جواري حبشيات من سراي الخاصة، ولما لم يكن الرأي العام يرى في الأمر بأسا بل يرى بالعكس تعليم النساء فن القبالة شيئا مستحبا؛ ورأى القوم، بعد ذلك من عمل تلك الجواري عقب خروجهن من المدرسة، ما نهض بهن إلى مقام محمود وأغنى الأسرات التي طلبت مساعدتهن، عن عمل الجاهلات من القوابل، طفق الفقراء يرسلون بناتهم إلى مدرسة كلوت بك بالقصر العيني، حتى توطدت دعائمها، وباتت مع مضي الزمان، من المنشئات الثابتة، التي لا يخشى انهيارها، وآلت النظارة عليها في أيام (إسماعيل) إلى مدام ڨيال، فغصت مقاعدها بأربع وأربعين طالبة داخلية، وعشر خارجيات؛ والذي كان يلفت منها الأنظار هو أن جميع تلك الصبايا كن يتلقن العلوم، وهن مكشوفات الرءوس، لا طرح عليها، كأنهن غربيات: لا شرقيات، بدون أن ينفر ذلك أحدا من الزائرين - إلى مثل هذا الحد يتغلب الشعور بالمصلحة على الشعور بالعادات الموروثة!
ولم تكن المتخرجات من تلك المدرسة قوابل فقط، بل كن طبيبات أيضا، انتشرن بمصر، والإسكندرية، وبرزخ السويس، ودمياط، ورشيد، والمديريات الأربع عشرة، انتشار ملائك الرحمة، يخففن البؤس عن المريضات، ويواسين العليلات، فمهد ذلك السبيل إلى تعليم البنات وكسر من حدة الشعور العام النافر من تعليمهن.
وكان (إسماعيل) الراغب في إطلاق بلاده في مضمار الحضارة الغربية، بهمة تكاد تكون عنفا، لاعتقاده أن لا سلامة لها إلا بجريها شوطها الطبيعي فيه، يقظا كل اليقظة للصغيرة قبل الكبيرة من تحركات الرأي العام فيها، فلم يفته الالتفات إلى تزحزحه القليل عن مقره، وعزم حالا، على اغتنامها فرصة، لتنفيذ أمنيته في التعليم العام كانت من أعز أماني قلبه، ولعلمه بما انطوت عليه النفوس لا سيما الجاهلة، من إحاطة أجل المشاريع نفعا بسحابة من ريب وظنون؛ ولرغبته في أن تقوم، مقام تلك السحابة، هالة من الشعر ساطعة السنا، أوعز إلى ثالثة زوجاته، الأميرة تشسما آفت خانم بأن تكون أول مدرسة إسلامية تفتح في القطر المصري لتعليم البنات على الطريقة الغربية شعاعا من أشعة شمسها.
فاشترت الأميرة سراي قديمة بالسيوفية، وهي حي من أكثر أحياء العاصمة سكانا وجددت بناءها، فصيرتها مدرسة، وفتحت أبوابها للطالبات في ربيع سنة 1873 وهي السنة التي أشرقت على البلاد بأفراح الأعياد التي أقيمت لتزويج الأمراء الثلاثة توفيق وحسين وحسن، أبناء (إسماعيل) الكبار.
ولكنه بالرغم من أن تلك المدرسة جعلت داخلية مجانية، وأن البنات استدعيت إليها من جميع طبقات الأمة، بلا تمييز مذهبي أو اجتماعي، وأن الجميع كانوا يعلمون أنهم يرضون ولي النعم بإرسال بناتهم إليها؛ بالرغم من أن المعيشة فيها جعلت هنيئة، فاخرة، كأن المقيمات فيها بنات أرباب قصور من ذات العيش الرغيد؛ وأن المعلمات الخمس عشرة اللاتي اخترن لها، ومنهن الناظرة واثنتان إفرنجيات، كن من خيرة المدرسات، لم يقع في خلد أحد من الأهالي، في بادئ الأمر أن يبعث بابنته إليها، لشدة تسلط الأوهام الموروثة، المقبولة بلا تمحيص كنهها على العقول.
فلم تجد الأميرة عدد التلميذات اللازم لمدرستها، واضطرت إلى أخذ فتيات الجواري البيض من بيتها وبيوت أميرات الأسرة المالكة وأمرائها، وإدخالهن فيها.
غير أن السحر ما لبث أن زال، والغشاوة التي كانت على العيون ما لبثت أن انقشعت فأدرك القوم حقيقة النعمة التي أسديت إليهم، على يد أميرتهم الجليلة الفاضلة من لدن خديوهم الحازم البار بمصالحهم العقلية والقلبية؛ وفقهوا إلى لذة الطعام الأدبي الذي مد (إسماعيل) به المائدة أمامهم، فأقبلوا، من كل ملة ونحلة - أولاد عرب، ونوبيون، وأقباط، ويهود، وشرقيون، من كل الطوائف والأجناس - وتزاحموا ببناتهم، وسنهن من سبع إلى اثنتي عشرة سنة، على أبواب مدرسة السيوفية، ليدخلوهن فيها، فامتلأت بالداخليات المحلات المعدة لهن، وعددها مائتان؛ واضطر الإقبال الإدارة إلى إنشاء مائة محل أخرى - ولكن خارجية - لمن لم يمكن قبولهن في مصاف الداخليات.
فأصدر (إسماعيل)، حينذاك، أمره، إلى إدارة الأوقاف، بإنشاء مدرسة أخرى للبنات على نظام مدرسة السيوفية، فصدعت الإدارة به، وأسست في جهة القربية، المدرسة المرغوب فيها، فتقاطرت إليها الطالبات، لا سيما بنات الوجهاء وموظفي الحكومة ومستخدميها، واكتظت بهن المقاعد، وزادت الطالبات، مئات مئات عن المطلوب، فدل الإقبال على المدرستين، دلالة قاطعة، على سرعة تطور المصري إلى مقتضيات العصر، حينما يأتيه الإيعاز من علي.
وكان التعليم، في كلتا المدرستين - ومدته خمس سنوات - مثله في مدارس أوروبا التي من نوعهما، أي القراءة العربية، والكتابة، والحساب، والرسم، والجغرافيا، والموسيقى، وأشغال الإبرة، والطبخ، والغسيل، والتدبير المنزلي، زيادة على تعلم التركية والفرنساوية، وتلقين القرآن للمسلمات.
ولكن مصروفات التعليم كانت تفوق مثيلاتها في أوروبا؛ لأن المظاهر، هنا، كانت فخمة، سنية كمظاهر كل ما كان يصدر عن (إسماعيل)؛ وأما هناك، فكانت بسيطة، عادية.
غير أن إقبال بنات الوجهاء والكبراء عليهما، ومزاحمتهن بنات الشعب على مائدتيهما، حملا الخديو على الرغبة في تشييد مدرسة ثالثة، تكون من العظمة والبهاء في أقصى درجتيهما ، وتجعل خصيصة بتربية بنات العائلات الرفيعة، والبيوتات السنية، أو المصرية الشريفة، القديمة.
فصدرت إرادته بتشييدها، وبوشر ذلك حالا، وإنك لترى في خريطة القاهرة، المعمولة بمعرفة جران بك سنة 1878، الموقع الذي خصص لإقامة تلك المدرسة عليه.
ولما كانت عزيمة (إسماعيل) قد توطنت على إبطال الرق، نهائيا، كما سنبينه في محله، وكان لا بد من خادمات تقمن بخدمة المنازل، بدل الرقيقات المرغوب في عتقهن - ولم يكن من وجود لتلك الخادمات بين أهل البلاد ومنهم، لعدم استدعاء نظامات القطر الاجتماعية السالفة وجودهن - رأى (إسماعيل) أن ينشئ مدرسة، غير ما ذكر، تعلم فيها بنات ريفيات فقيرات شئون الخدمة المنزلية على أنواعها، فأسسها في العاصمة على نفقة الأميرة زوجته الأولى، وتحت رعايتها السامية، ورعاية وزارة المعارف؛ وعهد بالنظارة عليها إلى سيدة أوروبية، وضع تحت إدارتها ثماني معلمات، منهن واحدة إفرنجية، وأدخل فيها ستا وسبعين طالبة داخلية، وإحدى وسبعين خارجية، فبرزت إلى الوجود، من أحسن المدارس المصرية وأكثرها فائدة - وليت لها من مثيلة في أيامنا!
ومما يستوقف النظر من أمر هذه المدارس، أنه كان يقام فيها يانصيبات على أشغال التلميذات اليدوية، يخصص صافي المتحصل منها بتكوين مال للطالبات الفقيرات، يصرف لهن عند زواجهن!
ولكن الضائقة المالية ما عتمت أن اشتدت، وازدادت حلقاتها تصلبا، فصرف البناء الفخم، الذي أنشئ ليكون مدرسة لبنات الوجهاء، عما قصد به منه؛ واضطرت الأميرة تشسما آفت خانم، بل إدارة الأوقاف ذاتها، إلى الاقتصاد في الإنفاق على مدرستيهما، ثم، لما سارت تلك الأميرة السنية إلى المنفى، بصحبة بعلها الجليل، سنة 1879 ضمت المدرستان الواحدة إلى الأخرى؛ وبلغ، في السنوات التالية، من تضاؤل الإنفاق عليهما، ما آل بهما، إلى الخروج عن دائرة الغاية التي أنشئتا من أجلها، وصيرورتهما، ملجأ المعوزين، يذهبن إليه ليصبن منه قليلا من الطعام المادي على سبيل الإحسان، وأما مدرسة تربية الخادمات، فألغيت، كذلك، بعد تنازل (إسماعيل) عن العرش، بالرغم من شدة الاحتياج إليها، إرضاء لتحتيمات أصحاب الديون.
ألا، قاتل الله دائني مصر في ذلك العهد، قدر ما أساءوا إلى البلاد ونهبوا من أموالها، ووقفوا في سبيل خيرها! وأغدق سحائب رضوانه على أرواح (إسماعيل) وأزواجه عداد ما نووا من عمل خيري لبنات مصر وغاداتها في بابي تعليمهن وتربيتهن!
أما مدرسة القبة، وكانت ابتدائية وثانوية معا، فقد أنشأها الأمير محمد توفيق باشا، ولي العهد، على نفقته الخاصة، وجعلها قسمين: داخلية وخارجية، فبلغ عدد الطلبة الداخلية خمسين، والخارجية أربعين، وامتازت عن سائر المدارس التي من نوعها بالعناية الخاصة التي حاطها الأمير بها، والتي جعلت الطلبة بمأمن من كل عوز. (4) المدارس التي أنشأتها الطوائف الشرقية غير المسلمة
إليك بيانها:
مدارس الأقباط الأورثوذكس
دبت في الأقباط الأورثوذكس روح التعلم، بما بذله من مجهودات في هذا السبيل بطريركهم الأنبار كيرلس الرابع المشهور عندهم بلقب «الأنبا كيرلس الأكبر محيي العلوم والمدارس»، فما فتئوا يسلكون الطريق التي اختطها لهم، حتى أصبحت مدارسهم في عهد (إسماعيل): اثنتي عشرة مدرسة بالقاهرة، وواحدة بمصر العتيقة، وواحدة بالجيزة ، ومدرستان بالإسكندرية؛ يتعلم الطلبة فيها: القبطية، والعربية، والفرنساوية أو الإنجليزية أو الطليانية، والحساب، ومبادئ الهندسة، والتاريخ، والجغرافيا، وبعض منطق، والأناشيد الكنيسية.
وذلك خلاف مدرسة إكليريكية بالعاصمة، يتعلم فيها اثنا عشر طالبا من راغبي الكهنوت، اللاهوت، واللغة القبطية، والعربية، والغناء الكنيسي.
وكانت أهم هذه المدارس، ولا تزال، المدرسة الكبرى البطريركية، فقد بلغ عدد الطلبة فيها سنة 1876 ثلاثمائة وتسعة وسبعين: منهم 302 أقباطا أرثوذكسيون - 40 منهم داخلية، والباقون خارجيون - و16 مسلما، ويهودي واحد، وثمانية أرمن، وخمسة يونانيون، وسوري واحد، وكان عدد أساتذتها ثلاثة عشر، لهم ستة مساعدون، وعليهم ناظر، رجل فاضل يقال له: المسيو ادوار زار.
وكانت هذه المدرسة تمتاز عن مثيلاتها بالامتحانات العامة، التي كانت تعملها، سنويا، في حفلة فخمة، يرأسها عادة وزير المعارف - وكان في الغالب علي مبارك باشا - ويحضرها شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية وجم غفير من الأكابر والأعيان والسراة ووجوه البلد؛ ولم يكن يشوبها سوى الجزء منها، الذي كان يقوم فيه خمسة من التلامذة، وهم مرتدون ملابس كهنوتية، ببعض شعائر طقسهم الكنسي، فيوجبون فتورا في نفوس الحاضرين من غير بني مذهبهم، ويذهبون عن الحفلة، بشكلها المدرسي البحت، المرتاحة أفئدة الجميع إليه، ليصبغوها بصبغة دينية لا يرتاح إليها إلا قلوب البعض، وكانت الحفلة في غنى عنها.
وكانت مدرسة حارة السقايين، بتلامذتها البالغ عددهم 174 - أي 171 قبطيا، ومسلمان، وأرمني كاثوليكي - تلي المدرسة البطريركية في الأهمية بمصر.
على أن الذي امتاز به الأقباط دون المسلمين، هو أنهم، قبل إقدام الأميرة تشسما آفت خانم على تأسيس مدرسة السيوفية، أنشأوا مدرستين للبنات: إحداهما في حارة السقايين؛ وكان فيها 45 بنتا قبطية يتعلمن على يد معلمات سوريات، اللغة العربية والأشغال اليدوية، وقد وقعن من قلب دور بك، حين زيارته لهن موقع الاستحسان، بعيونهن النبيهات، وهيأتهن الظاهر عليها الاهتمام الكلي بالدروس؛
8
والأخرى بجانب الأزبكية؛ وكان فيها 80 بنتا في سنة 1876 يتعلمن ما يتعلمه بنات مدرسة حارة السقايين.
أما باقي المدارس القبطية، فلم يكن يتعلم فيها غير أقباط، وكانت جملتهم 250 طالبا.
غير أنه، بالرغم من مجهودات ذوي الفضل من رجال الطائفة، وبالرغم من أن أغنياءها لم يكونوا بالنفر القليل، لم يكن الأقباط يستطيعوا القيام بنفقات المدارس التي أنشأوها، لولا بر (إسماعيل) الجليل بهم، وموالاته إياهم، فإنه - فوق تشجيعه الأدبي لكل جهودهم، ووضعه سفنه البخارية النيلية بكل المؤن اللازمة، والخدمة الواجبة، تحت تصرف بطريركهم في رحلاته الرعوية إلى الصعيد - قد وهب مدارسهم ألفا وخمسمائة فدان من أطيان القطر الجيدة، لينفقوا من ريعها على تعليمهم، وبما أن مقدار ذلك الريع كان نيفا وألفي جنيه سنويا - وكانت ميزانية المدارس القبطية بأسرها لا تتجاوز 201518 قرشا صاغا - فإنه كان يكفيها تقريبا، أو يكاد، بخلاف النفحات التي كانت يده الكريمة تدر بها عليهم، بين حين وحين.
فإذا حق لهم أن يدعوا الأنبار كيرلس الرابع بطريركهم «محيي العلوم والمدارس» في أمتهم، حق لهم أيضا، بل وجب عليهم أن يدعوا (إسماعيل) «حافظ تلك العلوم والمدارس»؛ ويقيموا له تمثالا في صحن مدرستهم الكبرى، بدار البطريركية المرقصية، اعترافا منهم بفضله العميم!
الأقباط الكاثوليك
هؤلاء - بسبب اتصالهم بروما، وبالتالي، بجمعية انتشار الإيمان الكاثوليكي المسماة «پروپاجندافيدي» صاحبة المدارس الجمة الشهيرة في البلاد الشرقية - كانوا أسبق إخوانهم المصريين على الإطلاق، في مضمار التعليم والتعلم، وأعرقهم فيه، وكانت مدارسهم الابتدائية والثانوية منتشرة، على الأخص، في الصعيد؛ أي: بأسيوط، وطهطا، وأخميم، وجرجا، وقنا، ونقاده، وكانت حافلة في سنة 1876 بنيف وثلاثمائة طالب.
والذي يستوقف الأنظار، في المدارس الثلاث الأولى منها، أنها كانت مختلطة؛ أي: للبنين والبنات معا، وهو أمر غريب في ذاته، لشذوذه عن مبدأ فصل الذكور عن الإناث، المعمول به في عموم مدارس الكثلكة على الإطلاق.
الروم الأورثوذكس
والكلام هنا على الرعايا المحليين - فقد أصبح لهم، في عهد (إسماعيل)، مدرستان للبنات والبنين بمصر؛ يتعلم في إحداهما 140 ولدا: اليونانية، والفرنساوية، والعربية، والحساب، والرياضة، والجغرافيا، والتاريخ؛ وتتعلم في الأخرى 120 بنتا: اليونانية، والفرنساوية، والتاريخ، والجغرافيا، والحساب، وأشغال الإبرة، والموسيقى، وأصبح لهم بالإسكندرية - وكان عددهم فيها يربو عليه في مصر - مدرستان أيضا: واحدة للذكور، وواحدة للإناث؛ يؤم الأولى 430 ولدا، ويؤم الثانية 222 بنتا؛ وبين المتعلمين فيهما طلبة كثيرون من ملل أخرى، وكان برنامج التعليم في كلتيهما ما كان في مدرستي مصر.
الروم الكاثوليك
تأخروا عن إخوانهم، الروم الأورثوذكس، في هذا المضمار؛ وربما كان السبب في ذلك قلة عددهم في تلك الأيام، أو قلة ذوي اليسار بينهم، أو أنهم اكتفوا، دهرا، بمدارس الأخويات الكاثوليكية.
ومهما تكن الحال، فإنه لم يكن لهم سوى مدرسة واحدة، فيها ثلاثون طالبا فقط، بالإسكندرية بمنشية إبراهيم باشا المعروفة اليوم «بالمنشية الصغرى»؛ وكان نصيبهم من الحركة التعليمية في عهد (إسماعيل) ضئيلا جدا.
الموارنة
كان شأنهم أكبر قليلا من شأن الروم الكاثوليك، ولا ندري هل السبب في ذلك هو أنهم كانوا أكثر عددا منهم، أو أن أرباب اليسار فيهم كانوا أكثر منهم في الروم الكاثوليك، أو لما اشتهر عنهم من جد ونشاط وإقبال على العلوم والمعارف، أو أن المنافسة المشهورة بين الطائفتين تناولت مضمار التعليم أيضا - مهما يكن من الأمر، فإنه كان للموارنة ثلاث مدارس ابتدائية بمصر: واحدة بدرب الجنينة؛ وثانية بقنطرة الدكة بالأزبكية؛ وثالثة بشبرا، والثلاث من نوع الكتاتيب البلدية، ولكنها كانت أرقى منها ماديا: لأن الطلبة كانوا يجلسون فيها على تخوت، بدل جلوسهم فوق حصير على الأرض، كما كانت الحال في الكتاتيب.
الأرمن
لم يكن لهم سوى مدرسة واحدة، فيها عشرون تلميذا، ولكنها كانت غريبة في بابها؛ لأن ناظرها، وكان المعلم الوحيد فيها - الپاپاز؛ أي: القس ميجرديتش - لم يكن يعرف غير الأرمنية، والعشرين تلميذا، المثقفين على يديه، لم يكونوا يعرفون غير العربية، فكان الأستاذ والتلامذة، والحالة هذه، يتفاهمون بالإشارات وتعبير العيون و(السيمياء)، أكثر منهم بالتكلم والمحادثة. على أن البطريركية الأرمنية أخذت تعمل على تأسيس مدرسة للطائفة جديرة بها، في دارها في سنة 1872.
اليهود
هذه الأمة الصغيرة بعددها، الكبيرة بتأثيرها على ماجريات الأمور، ما فتئت، على شرقيتها، أول من تيقظت إلى مقتضيات الأيام، فما رأت لواء العلم منشورا في القطر، إلا وهبت للانضواء تحته؛ وقام البررة من أبنائها كبنيامين أدزي، ومبارك ملكي، وإبراهيم كوهين، وشموئيل أشير، وپروسپر أوزيما، وعلى الأخص صموئيل روبينو، ينشئون الكتاتيب والمدارس بمصر والإسكندرية للأولاد والبنات، ويعلمونهم فيها الإيطالية على أصولها، والعبرية، والفرنسية، والحساب، والتاريخ، والجغرافيا، والكزموجرافيا؛ ويعلمون المتقدمين منهم التلمود - كتاب اليهود الشارح للتشريع شرحا يعتبر تشريعا جديدا، وهو أعز عليهم من التوراة عينها - مرة في الأسبوع.
وكانت سن التلامذة المندمجين في تلك الكتاتيب والمدارس تختلف ما بين ثلاث سنين وست عشرة سنة.
على أن تلك المعاهد، ما عدا مدرسة حارة اليهود بمصر، المؤسسة في سنة 1860، بهمة صموئيل روبينو، برأس مال قدره ألف جنيه، تبرع به هذا السري وحده، كانت مشهورة بالقذارة الضاربة أطنابها فيها، أكثر منها بحسن التعليم وانتظام طرقه، فقامت الطائفة برمتها، وتضافرت، وأسست مدرستين حرتين لأولادها وبناتها، إحداهما وهي أكبرهما بمصر، أمها 175 طالبا؛ والثانية بالإسكندرية وأمها 145 بنتا - وكان سبعون من الذكور، وسبعون من الإناث يهودا مصريين؛ والباقون يهودا من جنسيات مختلفة، وعلمتهم فيهما العبرية، والعربية، والفرنساوية، والإيطالية، والخط، والحساب.
ثم أنشأت، بالإسكندرية، مدرسة أخرى كان عشر التلامذة فيها مجانيين، والباقون بمصروفات أسبوعية زهيدة. غير أن معظم أولاد اليهود وبناتهم كانوا يذهبون إلى المدارس المنشأة من الغربيين، أكثر من ذهابهم إلى المدارس المؤسسة من طائفتهم، وبما أنهم كانوا يعتبرون العلوم محض أسلحة اجتماعية، لا يحتاجون إليها إلا ليضربوا بها في معترك الحياة، كانوا يتسرعون في اقتباسها، ويكتفون بقشور معظمها أو طلائها، غير صارفين عنايتهم أو جلها إلا للحساب والحساب التجاري على الأخص، ويخرجون من المعاهد العلمية، وهم في أول يفعهم، ببضاعة قليلة، واعتداد بالنفس كبير، وجسارة أكبر، ليندفعوا في ميادين العمل والكسب، فكنت لهذا السبب، قلما ترى بينهم فردا راقيا حقيقيا، على قلة عدد الأميين بينهم. (5) المدارس التي أنشأتها الجاليات الغربية
إن ما دار من حركة التعليم في مدارس هذه الجاليات ينقسم إلى قسمين: قسم خاص بمعاهد الأخويات والرهبنات والإرساليات المسيحية، كاثوليكية كانت أم بروتستانتية؛ وقسم خاص بالمعاهد المدنية البحتة. (أ)
أما القسم الأول، فقد سبق لنا قول وجيز فيه، ولكنا نرى أن نوفيه، هنا، حقه؛ فنقول: إن أقدم مدارس أنشأتها الرهبانيات المسيحية الكاثوليكية بالقطر هي مدارس الآباء الفرنشسكيين المعروفين بآباء الأرض المقدسة، وكانت تعلم الإيطالية على الأخص، والتعليم المسيحي الديني.
فلما كانت سنة 1844، استدعى (محمد علي الكبير) راهبات المحبة والآباء العازاريين إلى الإسكندرية، ووهبهم محلا فخما، مكان برج عربي قديم، وأجاز لهم الانتفاع بأنقاضه لبناء المحلات اللازمة لهم، على أن ينشئوا مدرستين لأبناء المدينة، فقامت الراهبات بالشرط، وفتحن مدرسة للبنات، ما فتئت، مع تقادم الأيام، تكبر وتتسع حتى صارت إلى ما نراها عليه الآن من الكمال والإتقان في أول الشارع المدعو باسمهن «شارع السبع البنات» أو «شارع الراهبات»؛ وأصبح عدد المتعلمين والمتعلمات فيها على عهد (إسماعيل) نيفا وألفا وثلاثين؛ منهم 880 بنتا و150 ولدا؛ وكان (إسماعيل) يهبها، سنويا، إردبا من البر عن كل بنت تتعلم فيها.
وأما الغازاريون فبنوا بيتا، وكنيسة، إزاء تلك المدرسة، وأحلوا الاهتمام بإدارة دير الراهبات المذكورات محل الاهتمام بتربية الناشئة، ولكنهم ما لبثوا، أن رأوا أن عملهم هذا مخل بالشرط الذي اشترطه الوالي، وأن مثل ذلك الإخلال قد يؤدي إلى استعادته الموهوب إليهم منهم.
فاستدعوا إخوة التعليم المسيحي الشهيرين «بالفرير»، وكلفوهم ببناء مدرسة مجانية بالقرب من بيتهم، فلبى الفرير الدعوة؛ وأنشأوا المدرسة المطلوبة؛ وعاشوا مع العازاريين مدة ست سنوات، باتفاق تام، وعلى غاية ما يرام من الوئام.
ثم تغيرت مجاري القلوب، وما لبث العازاريون إلا ورأوا، أو تخيلوا، افتياتا من الفرير على ما كانوا يعتقدونه حقوقا لهم، دون سواهم، فهبوا إلى إنشاء مدرسة خصيصة بهم؛ ولما تم بناؤها، تقدموا إلى الفرير، وأفهموهم أن الضيافة لها حدود تقف عندها، ورجوهم أن يبحثوا لأنفسهم عن محل غير الذي هم فيه نازلون، وذلك في أواخر سنة 1852.
فحار الفرير في أمرهم، وتخبطوا؛ ولكنهم اضطروا إلى الرحيل، فتقدم إليهم آباء الأرض المقدسة (الفرنشسكيون)، وعرضوا عليهم أن يضيفوهم في المنازل الكبيرة المجاورة لكنيستهم الكاتدرائية الرعوية، بمنشية إبراهيم باشا؛ فقبلوا، شاكرين؛ ونقلوا مدرستهم إلى تلك المنازل؛ وما عتمت أن اكتظت بالطلبة، لما اشتهر عنهم من الاعتناء الخاص بأمر التعليم.
فشجعهم ذلك على فتح مدرسة بالعاصمة في 15 فبراير سنة 1854 فراجت، أيضا، رواجا عظيما، ولما كانت سنة 1859، وهبهم (محمد سعيد باشا) محلهم الحالي بالخرنفش - في أهم الأحياء الوطنية - ونفحهم بثلاثين ألف فرنك، فأدى ذلك إلى نجاحهم، النجاح الذي ما فتئ في ازدياد مطرد، عاما عن عام، لغاية أيامنا هذه.
وكانت مدارسهم، في عهد (إسماعيل)، تضم بين جدرانها، بالإسكندرية، نيفا وستمائة طالب، منهم 230 مجانيون؛ وبمصر، نيفا وثلاثمائة طالب، نصفهم مجانيون؛ وكانت تعلم، مع الفرنساوية، الإيطالية، والعربية، والموسيقى، وأهم العلوم الوضعية.
وكانت مصروفات الداخلية بمدرسة مصر مائة فرنك شهريا؛ وبالإسكندرية ستين فرنكا؛ ومصروفات نصف الداخلية 50 فرنكا شهريا بمصر، و30 بالإسكندرية.
والذي كان يميز المجانية في مدارسهم عنها في مدارس الحكومة، أنها كانت خصيصة بالطلبة الكاثوليكيين دون سواهم، في حال أنها كانت، في الحكومة، عامة، لا تمييز للمذاهب فيها.
أما العازاريون، فبعد أن انفصل الفرير عنهم، طفقوا يعلمون في مدارسهم تعليما قاعدته الطريقة الشهيرة عند الغربيين باسم «كلاسيك» وهي التي قوامها اليونانية القديمة واللاتينية، والآداب المقتبسة من مؤلفات أشهر الكتاب اليونان واللاتين والفرنساويين؛ وأصبحوا يفاخرون ما سواهم بأن ما يتقنه طلبة مدرستهم من اليونانية القديمة لا تباريهم فيه طلبة مدارس أوروبا ذاتها، واشتركوا مع راهبات المحبة، في إنشاء ملجأ للأيتام - كان الأول من نوعه في القطر المصري - حوى اثنين وخمسين يتيما.
واقتدت براهبات المحبة القديسة تريزادي رمپت منشئة «أخوية الراعي الصالح»، وأسست بمصر في 6 يناير سنة 1846 - وهو يوم عيد الغطاس عند الطوائف الغربية، وكان لغاية سنة 1900 يوم عيد الميلاد عند الطوائف الشرقية - بيتا لراهباتها، ليقمن فيه بتربية البنات المصريات، وعلى الأخص اليتيمات والفقيرات منهن، مجانا، فبتن موضوع عناية (محمد علي) وأمراء بيته الرفيع العماد.
فتمكن من التوسع، وفتح مدرسة فخمة، داخلية، بشبرا لبنات الأسرات الغنية، خلاف المدرسة الداخلية المجانية لرغبتهن في المحافظة على شعور الفقيرات من أن ينجرحن باختلاطهن مع الغنيات، ورؤيتهن الهناء في الماديات المحيط بهذه والذي هن محرومات منه.
وحذت الراهبات الكلاريسات؛ أي: الفرنشسكيات، حذو سابقاتهن؛ وأنشأن، في سنة 1859، مدرسة بمصر، بجهة درب رياش، بالقرب من الأزبكية؛ طفقن يعلمن فيها، بنات الطائفة اللاتينية على الأخص؛ وذلك لأن هذه الطائفة كانت ، ولا تزال، تحت رعوية الآباء الفرنشسكيين الروحية؛ وكان من الطبيعي أن ترسل بناتها إلى مدرستهن، لانتمائهن، هن أيضا، إلى ماري فرنسيس دسيزي، مؤسس الرهبنة الفرنشسكية.
فضاقت المدرسة بالمائة والسبع والثلاثين طالبة ويتيمة اللائي ملأنها؛ وحال فقر تلك الراهبات دون التوسع فيها أو إنشاء غيرها، وكان (إسماعيل)، وهو لا يزال ولي عهد السدة المصرية، واقفا على سر حالهن، معجبا بغيرتهن وإقدامهن، فلما آل إليه العرش، نفحهن، في يوم جلوسه عليه، بخمسين ألف فرنك، وقرر لهن تسعين إردبا قمحا، سنويا، فتمكن بذلك من وفاء ديونهن، وتوسيع دائرة مدرستهن بدرب رياش، وفتح مدرسة أخرى ببولاق سنة 1868 ثم غيرها بالمنصورة بعد أربع سنوات؛ أي: في 20 مارس سنة 1872.
ومع أن الغرض الأول المقصود من تأسيس هذه الرهبنات والأخويات مدارسها بالقطر المصري، إنما كان ولا يزال السعي إلى نشر الدين الكاثوليكي الروماني، إلا أن الإنصاف يقضي علينا بأن نعترف مع المستر ماك كون بأنها عملت عملا محمودا على تقدم العلوم في البلاد، وبين طبقات الأمة؛ وأنها وضعت، نصب عينها، التعليم الجيد أولا، ثم السعي إلى نشر الدين، فكان في هذا سر نجاحها، وتوافد الطلبة عليها من كل ملة ونحلة وجنس، وبلوغ عددهم في مدارسها في سنة 1876 نيفا وثلاثة آلاف ومائة وخمسين!
9
أما المدارس والمعاهد البروتستانتية، فقامت على أيدي الإرساليات الأميريكية والإنجليزية والسكتلندية.
فالإرسالية الأميريكية وفدت على القطر في سنة 1855 كما سبق فقلنا، ووهبها (سعيد باشا) بناية بمصر، أسست فيها أول مدرسة لها، فكانت بمثابة موقف وثبت منه إلى أنحاء القطر، عامة، وأسست في السنوات العشر التالية، مدارس غيرها: بالإسكندرية، والفيوم، وأسيوط، وقوص، والمنصورة، وفي ثلاثة عشر بندرا من بنادر الريف بمصر الوسطى والصعيد؛ منها ما هو للأولاد؛ ومنها ما هو للبنات؛ ومنها ما هو مختلط بين الجنسين؛ ومنها ما هو للشبان لتعلم اللاهوت، والاستعداد للكهنوت؛ ومنها ما هو لتخريج معلمات؛ ومنها مدرسة أيضا، للعميان؛ ومعظمها مجانية؛ وما فتئوا ينشئون غيرها، حتى بلغ عدد مدارسهم في سنة 1876 ثمانيا وعشرين، فيها ما يزيد على 1244 طالبا وطالبة، بينهم بعض مسلمين ومسلمات، ومعظمهم من الأقباط!
وكانت مدرستهم الكبرى للصبيان بمصر، في بادئ الأمر، في يد أقباط اعتنقوا البروتستانتية، ولم يكونوا يحسنون الإدارة ولا التعليم: فكان كلاهما مختلا، بخلاف مدرستي البنات، في حارة السقايين والأزبكية، فإنهما كانتا من خيرة معاهد ذلك العصر.
على أن أرض مدرسة الصبيان احتيج إليها للمنافع العمومية في سنة 1876 فنزع (إسماعيل) مليكتها من الإرسالية مقابل ثمن دفعه إليها، ولم يكتف به، بل عوضها منها أرضا واسعة في أحسن بقعة من الأزبكية؛ ثم نفحها بسبعة آلاف جنيه لبناء مدرسة جديدة عليها، تسع 150 طالبا، وتشتمل على مساكن للمعلمين وعائلاتهم،
10
فأنشئت المدرسة الفخمة الحالية، المزدان بها حي الأزبكية؛ ولكنه لم يفتكر أحد في وضع أي مظهر كان فيها يذكر الداخل إليها بأنها من نعم الخديو الفخيم صاحب اليد الذهبية!
والإرسالية الإنجليزية وفدت على القطر في سنة 1862 تحت رياسة الآنسة الأديبة المس واتلي، بنت رئيس أساقفة دبلين التي أوقفت حياتها وثروتها على تربية البنت المصرية، لا سيما الفلاحة، وأسست، في السنة عينها، مدرسة مختلطة بمصر، صادفت من العناء أشده في سبيل جلب التلميذات إليها، لا سيما المسلمات، وتعليمهن، بالرغم من أن التعليم كان مجانيا، وأنه كان يشمل العربية، والإنجليزية، والفرنساوية، والجغرافيا، والتاريخ، والخط، وأشغال الإبرة للبنات.
وإن القلب ليتقطع أسفا، لدى مطالعة وصف المس واتلي، في الكتب التي ألفتها عن الحياة المصرية الحقيرة، للمشاق التي تكبدتها بصبر جميل، وهي دائبة بثبات نادر على الطريق التي اختطتها
11
لحياتها! ولكنه، لما كان لا بد للمثابر من نيل مناه، فإن المس واتلي ما لبثت أن جنت ثمرة ثباتها؛ وبعد مضي عشر سنوات عليها، وهي عاملة في مدرستها المذكورة، لا تعرف الملل، كلل النجاح مسعاها: فامتلأ معهدها بنيف ومائة وستين صبيا وستين بنتا، ضاقت بهم حجر فرقه.
فأنعم (إسماعيل) عليها بأرض واسعة، في جهة الفجالة، وساعدها بمبلغ وفير على بناء مدرسة جديدة عليها، فبرزت من أحسن المدارس بالقطر، ولما كانت البنت المصرية هي المقصودة على الأخص، منها، زاد عدد الطالبات فيها، حتى بلغ المائة والستين ، معظمهن فلاحات، والبعض من الطبقتين: الوسطى والعليا، ولا شك في أنه كان لاهتمام الأميرة الجليلة زوجة (إسماعيل) الثالثة في أمر تربية البنات وتعليمهن، دخل في ازدياد إقبال الفتيات الراغبات في التعلم.
أما الإرسالية السكتلندية، فإنها قصرت عملها على مدينة الإسكندرية، حيث فتحت بجانب كنيستها مدرستين: إحداهما للذكور، والثانية للإناث في المنشية، بجوار البحر، وجعلت التعليم فيهما مجانيا للفقراء، فأمهما 95 تلميذا و92 تلميذة، علموا العربية، والإنجليزية، والفرنساوية، والإيطالية، والكتابة، والحساب، والتاريخ.
وقد امتازت عموم مدارس الإرساليات البروتستانتية، بالمساواة التامة، التي نشر لواؤها فيها بين الطلبة والطالبات المجانيين، والمتعلمين بمصروفات، بحيث لم يكن أحد ليستطيع أن يميز مطلقا أيهن المجانيات.
ويجدر بنا أن لا نختم الكلام عن معاهد هذه الإرساليات دون أن نخص بالذكر رجال الدين الذين قاموا بتأسيس المدرسة الألمانية بالإسكندرية، فإنهم على اصطباغهم بالصبغة الاكليروسية، فتحوا لمدرستهم هذه طريقا نحو الأهمية العظمى بين مدارس الإرساليات الأخرى، بما قرروا من أن يكون التعليم فيها مدنيا بحتا، لا مسحة دينية عليه مطلقا. (ب)
وأما القسم الثاني الخاص بالمعاهد المدنية البحتة، فإن السبب الذي دعا الجاليات الأجنبية إلى إنشائه هو أن بعضها لم يكن مرتاحا لانحصار التعليم في المعاهد الدينية، فقام الإخوان الحلبيان روفائيل وحنانيا عبيد في سنة 1860
12
وأسسا المدرسة اليونانية بمصر وآليا على نفسيهما دفع مبلغ يتراوح بين خمسة وعشرين ألفا وثلاثين ألفا من الفرنكات سنويا للمساعدة على القيام بشئونها، فأمها الطلبة من أولاد الجالية اليونانية، يتعلمون فيها اليونانية القديمة، واليونانية الحديثة، والإيطالية، والفرنساوية، والعربية، والحساب، والجغرافيا، والتاريخ، ويتغدون فيها على نفقتها.
ولما كان اليونان بالإسكندرية أكثر منهم بمصر، أسسوا مدرسة تحت إدارة رجل يقال له: المسيو تمباس ضمت إليها 51 تلميذا، وعلم فيها فوق ما ذكر من تعليم مدرسة الأخوين عبيد، التاريخ المقدس، ومبادئ الاعتقادات المسيحية، ثم هب الكيريس عمانوئيل ساماريپا، وأسس مدرسة أخرى يونانية جمع فيها 28 تلميذا، يعلمهم خمسة أساتذة التعليم عينه السابق ذكره.
ولم يهمل اليونان تعليم البنات، بل سبقوا إليه الجاليات الأخرى؛ لأنهم أنشأوا في 20 مايو سنة 1843، أول مدرسة من هذا النوع بالعاصمة؛ ثم أسسوا بالإسكندرية، مدرسة ثانية للبنات، انتظم في سلكها، حالا، ما يزيد على خمس وتسعين طالبة.
وهب إيطالي، يقال له: المسيو كرلو تمازي، فأنشأ مدرسة إيطالية بمصر، قصدها أولاد الجالية الإيطالية؛ ولكنها ضاقت دون عددهم رحبا، ولم يتمكن أولاد الفقراء من الانتظام فيها لعدم مقدرتهم على دفع مصروفاتها.
فنهض المسيو فيجري، وأنشأ في سنة 1870 مدرسة إيطالية مجانية، أهم ما امتازت به عن سواها، أنهم كانوا يمرنون الطلبة فيها على الترجمة من الفرنساوية إلى التليانية والعربية، وبالعكس، في آن واحد، وشفويا على مسمع من الفرقة برمتها: فتتربى، عند التلامذة، المقدرة على تحويل الفكر، بسرعة، من إحدى هذه اللغات إلى الأخرى، وعلى إبرازه مرتديا بالحلة التي تقتضيها طبيعة كل منها.
غير أن أهم عمل تعليمي قامت به الجاليات الأجنبية بمصر، هو الذي تم بمساعي المسيو دوفين ومجهوداته، وأعني به إنشاء معاهد تعليمية مجانية، لا صبغة جنسية أو دينية عليها؛ ولا غرض منها سوى تثقيف العقول، وتنوير الأذهان، وتخفيف عبء مشقات الحياة على العاملين في ميدانها، دعيت «المدارس الحرة المجانية العمومية ».
ففي أول سبتمبر سنة 1868، فتحت مدرسة هذا شأنها في الإسكندرية، ولكي يكون النجاح قرين سيرها، وامتثالا لرغبة (إسماعيل)، الذي كان أكبر معضد للقائمين بأمرها، وضعت تحت رعاية سمو ولي عهده، الأمير محمد توفيق باشا - وكان له من العمر، حينذاك، ست عشرة سنة، فقط - فخصها باثني عشر ألف فرنك سنويا، وحفها بكل صنوف العناية، فبرزت إلى الوجود، علمية، حرفية، عروس المدارس وأفيدها، وأمها القاصدون من كل مذهب وجنس، وليس فيها مظهر البتة يذكر أحدهم بأن هناك فارقا بينه وبين الجالس بجانبه؛ بل يشعر الجميع بأنهم إخوة في الإنسانية المحضة، وأن هذه الأخوة هي الرابطة الوحيدة بينهم، وشرعوا يتعلمون فيها العربية، والإنجليزية، والفرنساوية، والتليانية، ومبادئ الرياضة، والهندسة، والتاريخ؛ ويتعلم من شاء منهم الحرفة التي يختارها، فنجحت نجاحا عظيما، ذهب مداه إلى أبعد ما كان ينتظر ويرجى، ومن شاء الوقوف على حقيقته، فليطالع التقرير الذي رفعه مجلس إدارتها إلى سمو الأمير محمد توفيق باشا، الموجود نسخة مطبوعة منه في المكتبة السلطانية بمصر.
13
ذلك النجاح السار حدا بالمسيو دوفين وزمرة الرجال الكرام العواطف، الذين وضعوا أيديهم في يده، إلى إنشاء مدرسة مثلها بمصر، فتأسست في سنة 1873، بمساعدة مالية كبرى من (إسماعيل)، وتحت رعاية سمو ولي عهده، أيضا، وبالنفحات السنوية عينها التي لشقيقتها بالإسكندرية، وفي الوقت الذي لم يقصد فيه هذه سوى 256 طالبا - منهم 90 فقط مصريون - قصد مدرسة مصر وانتظم في سلكها 486 طالبا - منهم 262 مصريون، من كل ملة وطائفة ونحلة، و15 إنجليزيا، و62 فرنساويا، و73 إيطاليا، و26 يونانيا، و21 نمساويا، و5 بروسيان، و3 أتراك، و3 روس، و3 إسبانيول، و13 من جنسيات غير محددة - ويتضح من الأرقام التي ذكرناها أن نجاح مدرسة مصر كان أعظم من نجاح مدرسة الإسكندرية.
ولم يقتصر المسيو دوفين ومساعدوه على فكرة إنشاء هاتين المدرستين، بل إنهم، منذ استطعموا لذة نجاح مسعاهم، وقطفوا ثماره بالإسكندرية، هبوا، في عامي 1869 و1870 إلى فتح فرق ليلية، لتعليم الشبان والرجال بالثغر، وساعدهم (إسماعيل) مساعدته المعهودة، فأخرجوا مشروعهم إلى حيز الوجود، واندمج في سلك تلك الفرق 450 طالبا ، منهم 273 من رعايا الحكومة المحلية.
هكذا تناولت الحركة التعليمية بمصر، في عهد (إسماعيل)، جميع المظاهر، من التعليم الديني المحض في المعاهد الدينية المحضة، كالأزهر وغيره، إلى التعليم، المتخذ دثارا لترويج التعليم الديني، في معاهد الإرساليات المسيحية، إلى التعليم الممزوج بشيء من الدين، عملا بمؤثرات الوسط والبيئة، في مدارس الطوائف الشرقية المختلفة، ومدارس الجالية اليونانية، إلى التعليم المدني البحت الخاص بجنس دون جنس، في مدارس الجالية التليانية، إلى التعليم المدني البحت، المجرد عن كل صبغة دينية وجنسية، في المعاهد المنشأة بمساعي المسيو دوفين ومن معه، وفي ذلك أوضح صورة لما كانت عليه الأفكار والأخلاق في تلك الأيام، وأكبر دليل على سعة صدر (إسماعيل) ورجحان عقله العظيم، في أمر قلما اتفق لعاهل شرقي، غيره، أن لا يبدي فيه تعصبا لهذا الفريق أو ذاك.
ولا يسعنا أن نختم هذا الفصل عن حركة التعليم بمصر، في أيامه، بدون أن نذكر ما لاقت من عنايته المدرسة التي أنشأتها الحكومة الإيطالية بالإسكندرية في عهد (سعيد باشا ) وتولت أمر الإنفاق عليها، وبدون أن نذكر ما كان من شأن الإرساليات المدرسية إلى البلاد الأوروبية ما بين سنة 1863 وسنة 1879.
أما مدرسة الحكومة الإيطالية بالإسكندرية، فقد سبق لنا القول أن (سعيدا) نفحها بستين ألف فرنك، ووهبها ثمانية آلاف ذراع في نقطة من أحسن جهات المدينة، ونقول الآن إن حركة التحسينات، التي أدخلها (إسماعيل) على أحياء الإسكندرية وشوارعها، اقتضت نزع ملكية جزء من تلك الأرض، فبالنسبة للصداقة المتينة التي كانت بين (إسماعيل) وڨيكتور عمانوئيل، ملك إيطاليا، ولتقدير العاهل المصري التعليم الملقن في تلك المدرسة حق قدره، دفع للحكومة الإيطالية ثمن ذلك الجزء وحده أربعين ألف جنيه، فاستعانت بها على تجديد بناء مدرستها، وترقية شئونها، وعهدت بإدارتها إلى أستاذ فاضل، يقال له: السنيور پاجاني، كان رأي دور بك فيه، «أنه أخير نظار المدارس بمصر بمبادئ الپيداجوجيا، وأحكمهم تطبيقا لأحدث طرق التعليم على مقتضياته بالقطر في تلك الأيام».
وكانت تلك المدرسة تعلم الإيطالية، والعربية، والإنجليزية لمن يرغب فيها، والفرنساوية، والرياضيات، ومسك الدفاتر، والفلسفة الطبيعية، والتاريخ، والجغرافيا، والرسم على نوعيه، وكان معظم تلامذتها من اليهود، وليس بينهم سوى عشرين تلميذا مسلما.
وأما ما كان من شأن الإرساليات المدرسية، إلى البلاد الأوروبية ما بين سنة 1863 وسنة 1879 فقد بلغ عدد الطلبة الذين تألفت منهم نيفا ومائة واثنين وسبعين وزعوا كالآتي: مائة وعشرون أرسلوا إلى مدرسة الطب والمدرسة الحربية، بباريس؛ وخمسون، إلى مدارس طورينو العسكرية والملكية؛ وثلاثة فقط، إلى مدارس لندن الهندسية، وبلغ المنفق عليهم في تلك السنوات الست عشرة 163057 جنيها.
فمن شاء أن يقارن بين ما عمل في هذا المضمار في عهد (إسماعيل)، وما عمل في عهد أسلافه، فليعلم أن عدد طلبة الإرساليات المصرية إلى أوروبا بلغ في مدة حكم (محمد علي الكبير) و(إبراهيم الهمام)؛ أي: ما بين سنة 1816 وسنة 1848: 319 طالبا؛ وفي مدة حكم (عباس)؛ أي: ما بين سنة 1848 وسنة 1853: 19 طالبا؛ وفي أيام (سعيد)؛ أي: ما بين سنة 1854 وسنة 1862: 14 طالبا فقط؛ وأن جملة ما أنفق عليهم قد بلغ في عهدي الباشا الكبير وابنه 223233 جنيها؛ وفي عهد (عباس) 49675 جنيها؛ وفي أيام (سعيد) 69083 جنيها.
فإذا وجد قلة نسبية في المنصرف على أولئك الطلبة تحت حكم (إسماعيل) بالنسبة إلى المنصرف عليهم تحت حكم (سعيد)، فليعلم أن ذلك لسببين:
الأول: هو أن (سعيدا) لم يكن، من جهة، يعرف للنقود من قيمة، كما سبق لنا القول؛ وكان، من جهة أخرى، كأسلافه، يعتقد أنه كلما زاد إنفاقه على طلبة إرساليته، كلما حق له أن يطالبهم، لدى عودتهم، بمعرفة كل فن وحرفة، لا بمعرفة ما تخصصوا له وأتقنوه فقط.
والثاني: هو أنه اتضح (لإسماعيل) أن طلبة الإرساليات، بالرغم من بقائهم زمنا في المعاهد الأوروبية، واقتباسهم العلوم المعلمة فيها، وإتقانهم إياها، في أغلب الأحيان، إتقانا يجعلهم متفوقين، في مضمارها النظري، على أقرانهم الغربيين، لم يكونوا يكتسبون إقدام هؤلاء، ولا روح الاعتماد على النفس، المتقوية به هممهم في معاركة مصاعب الحياة؛ بل كانوا لا ينفكون متمسكين بأذيال الحكومة، متنكبين عن العمل في ميدان الاستقلال الشخصي، إلا إذا أخذت هي بيدهم. من ذلك أن الأطباء المصريين الذين تخرجوا من مدرسة باريس لغاية سنة 1870 بالرغم من نيلهم شهاداتهم العليا فيها، وتمرنهم على العمل، تمرنا مفيدا، في المستشفيات العسكرية والملكية، أثناء الحرب المشهورة بين فرنسا وألمانيا، لم يقع في خلدهم، مطلقا، لدى عودتهم إلى مصر، أن يفتحوا عيادات خصوصية، ويزاحموا زملاءهم الغربيين في أعمالهم، مزاحمة، كان من المحتم أن يفوزوا عليهم فيها، لكونهم أبناء البلاد، العارفين لغتها وعوائدها، والمتخلقين بأخلاقها، ولأنهم أقرب، طبعا، إلى قلوب مواطنيهم من أولئك الأجانب؛ وأقبلوا يضايقون الحكومة بطلبات استخدام متتابعة، في مصالحها، كأنهم لا يستطيعون، بدونها، معاشا؛ أو كأنه لا قدرة لهم، ولا سلاح في أيديهم يضربون به في مناكب الأرض، ابتغاء للرزق!
فرأى، والحالة هذه، أن يقلل من مصروفاتهم، عسى أن تجبرهم قلة السعة في الإنفاق على التخلق بخلقي الهمة والإقدام.
وامتاز عهده عن عهد أسلافه، في أمر طلبة تلك الإرساليات، بأنه كان، إذا استخدم أحدا منهم في مصالح حكومته، بعد عودته إلى مصر، فإنما كان يعهد إليه القيام بشئون من النوع الذي تؤهله شهاداته للقيام به، وأما أسلافه، فقلما كانوا يراعون ذلك، وكثيرا ما تطالع في ما كتبه مؤرخو (محمد علي) الغربيون أنه كان يكلف المهندس، مثلا، بأعمال من اختصاصات طبيب بيطري، أو يكلف الطبيب البيطري بعمل طاه من الطهاة، وهلم جرا.
وقد سمعت من صديق لي، نقلا عن لسان عثمان باشا غالب - ولست أضمن صحة الرواية، بل أراني بما لدي من المعلومات التاريخية، مائلا إلى تكذيبها - أنه لما عاد إلى مصر ثلاثة من الذين أتموا دروسهم بأوروبا، ونبغوا فيها - وهم من أصبحوا فيما بعد، علي باشا إبراهيم، وعلي باشا مبارك، وحماد بك، ومثلوا بين يدي (عباس)، ليقدموا له واجب عبوديتهم، ويضعوا أنفسهم تحت تصرفه، كان فكره منصرفا إلى إنشاء معمل شمع؛ فسألهم: «أيمكنكم أن تصنعوا لي شمعا؟» فأجابوا: «إننا، يا أفندينا، لم نتعلم ذلك!» فاحتدم غيظا وقال: «إني، إذا، لقد أنفقت نقودي على تعليمكم سدى!» وأمر بهم، فطرحوا أرضا، وضربوا خمسين سوطا، فخرجوا من لدنه في حال انفعال لا مزيد عليه، وهم ناقمون على عقله وعقليته، ولاعنون الساعة التي عادوا فيها من أوروبا.
14
وإنما أراني مائلا إلى تكذيب هذه الرواية: (أولا) لأني لست أرى لها من أثر في مرويات علي مبارك باشا عن نفسه؛ و(ثانيا) لأني أعلم حق العلم أن حماد بك تعلم في أوروبا كيف يصنع الشمع، فيما تعلمه في دروسه الكيماوية!
تلك كانت الحركة التعليمية بمصر، في عهد (إسماعيل)، وتلك المجهودات التي بذلت لترقية مستوى الأمة العقلي، حتى أصبح عدد المتعلمين فيها 4٪ من عامة ذكورها، بعد أن كان أقل من واحد في المائة منهم؛ وذلك في عهد كانت أرقى نسبة المتعلمين في أكثر البلاد الأوروبية تعليما 15٪ فقط، وكانت في روسيا 2٪ لا غير!
فلا غرابة إذا أن إدون دي ليون، المؤرخ الأمريكي المعاصر لها، قال عنها: «إن ما عمله (إسماعيل) في سبيل التعليم العام بمصر كان عظيما، ويعتبر عظيما في أي قطر من الأقطار.»
15
ولا غرابة في بلوغ الأشعة المنبعثة عنها إلى سر أعماق الأمة، وأكن مكنوناتها - وأبناء الخديو أنفسهم كانوا يتعلمون، مع أبنائها، ذات العلوم الملقنة إليهم، ويشاركونهم في جميع مظاهر حياتهم؛ لا يختلفون عنهم في شيء منها، ولا يمتازون إلا بنومهم في حجر مخصوصة، وقد أثار ذلك رغبة التعلم في جميع أفراد طبقاتها، إلى حد أن رجلين من عامة الناس ودا الالتحاق بالأزهر، فلما رأيا من فقرهما المدقع ما يحول دون إدراك مبتغاهما، اتفقا على أن أحدهما يشتغل نهارا في تكسير الحجر الذي تبلط به الشوارع، وأن ثانيهما يجاور في الأزهر، ليقتبس ما يلقى فيه من علوم؛ وأنهما يجتمعان بعد المغيب في الحجرة التي استأجراها معا؛ فيطعم مكسر الحجر مقتبس العلم مما كسبت يداه؛ ويغذي مقتبس العلم مكسر الحجر مما اكتنزه عقله، فتيسر لهما، هكذا، أن يدركا، معا، ما ابتغيا إدراكه، كما تيسر نيل القوت للأعمى والمقعد، فيما يروى عنهما؛ إذ سارت رجلا الضرير بالمقعد، وأرشدت عينا المقعد الضرير إلى السبيل السوي.
16
ولا غرابة - وقد رأينا (إسماعيل) يظلل، بعنايته في التعليم، جميع القائمين بشئونه، بلا تمييز بين جنس ومذهب ودين - في أن تلك الحركة التعليمية، المتنوعة المسالك والمشارب، والمتحدة المرمى والمقصود والنتيجة، فيما يختص بالعلوم، أدت مع تراخي الزمن، إلى إزالة جزء عظيم من الفوارق، التي كانت بين الملل، والنحل، والأجناس المختلفة، الضاربة في وادي النيل؛ وجعلت الصدور أوسع احتمالا للاختلافات المذهبية، والقلوب أقرب جدا، مما كانت، إلى التسامح في الدين، وهما احتمال وتسامح، لن تستطيع أمة، تختلف معتقدات أفرادها؛ من التكون بدونهما!
ولا غرابة أخيرا أن يكون قد تولد، عن تلك الحركة التعليمية، نهضة معارف وأفكار كانت من أكبر مسببات تطورات المستقبل، ومن أدعى مكونات نظامات الأيام التالية.
نعم، إن مثلها كان قد نشأ، أيضا، عن جهود (محمد علي الكبير) التعليمية، وإرسالياته المدرسية إلى أوروبا - ولكنهما، من جهة، كانت فردية أكثر منها اجتماعية، فلم تؤثر في مجموع الأمة إلا قليلا، ولا تناولت طبقاتها الدنية؛ ومن جهة أخرى، فإن ملكي (عباس) و(سعيد) كانا قد أوقفاها في تطورها، وأعاداها إلى الجمود؛ ولولا إقدام (إسماعيل)، لظل الأفراد القليلون المتخلفون بعد موت من كانت أنفاس تلك النهضة قائمة به، في ظل النسيان، في أية جهة كانت من جهات القطر المعاد إلى النوم.
لتلك النهضة الإسماعيلية، ثلاثة مظاهر: (1)
المظهر الرسمي. (2)
المظهر الفردي. (3)
المظهر الاجتماعي.
17
أما المظهر الرسمي، فقد تجلى، على الأخص، فيما بذلته الحكومة من مجهودات، لإعادة الاتصال بين حلقات تاريخ مصر في القدم، وتاريخها في الأعصر الوسطى، وتاريخها في الأيام الحالية.
أما الاتصال بين تاريخها القديم، وتاريخها في الأعصر الوسطى، فإن المسيحية، أولا، فالإسلام كانا قد قطعاه بتاتا، على توالي القرون، بما حملا مصر الفرعونية والبطليموسية على الإقلاع عنه من دين، ومعتقدات، ولغة وعادات، وعقلية سابقة.
وأما الاتصال بين تاريخها في الأعصر الوسطى، وتاريخها الحالي، فقد قضت عليه قضاء مبرما، قرون الحكم العثماني الثلاثة على وادي النيل، فبتأسيس مدرسة للاچپتولوچيا (علم الآثار المصرية)، أولا، ثم بإنشاء المتحف المصري، أعيد الاتصال الأول؛ وبإنشاء المكتبة الخديوية، وتزيين قاعاتها بكل ما أمكن العثور عليه من مكتوبات مصر الإسلامية في الأعصر الوسطى - أعصر الخلفاء الراشدين، والأمويين والعباسيين؛ أعصر الطولونيين والإخشيديين؛ أعصر الفاطميين والأيوبيين، وأعصر السلاطين المماليك البحريين والبرچيين؛ ثم كل ما أمكن العثور عليه، أيضا، من مكتوبات القرون العثمانية؛ ويإنشاء دار الآثار العربية، أعيد الاتصال الثاني.
أما مدرسة الاچپتولوچيا - والاچپتولوچيا علم نشأ في العالم الغربي، عقيب العثور على الأثر القديم المعروف «بحجر رشيد»، وتمكن شمپوليون من فك طلاسمه الهيروغليفية، والتوصل إلى معرفة هذه اللغة المقدسة المصرية القديمة، المنقوش بعلاماتها ورسومها التاريخ الفرعوني برمته، على آثار العهد العتيق وتشييداته - فقد عهد بإدارتها، وتعلم الطلبة فيها، إلى العالم الألماني بروجش - وكان من فحول رجال الفن، وله فيه المؤلفات الشيقة الممتعة - فما زال بالطلبة المتعلمين على يده، حتى أوجد فيهم روح الاهتمام بالماضي المصري السحيق، بالرغم من الهاوية التي حفرتها العقائد بين عقليتهم، وعقلية أجدادهم البعيدين؛ وحتى تمكن من إنشاء قنطرة على تلك الهاوية، بين عصر الفراعنة وعصر (إسماعيل)، وأشهر من نبغ من تلامذته، العالم الاچپتولوچي الوديع أحمد بك كمال، وأهم ما ينتج عن اشتغال طلبته في حل الكتابات الهيروغليفية زوال نفور مصريي اليوم المسلمين والكتابيين، بالتدريج، من قومية مصريي عصور الوثنية، وتاريخهم وأعمالهم؛ والإقبال شيئا فشيئا، على مطالعة أخبارهم، والاعتبار بآثارهم، والدنو من الحنو إليهم، والتفاخر بهم، بالرغم من مؤثرات المعتقدات. «وإذا لم يكن للأمة مجد سالف وأثر باق، فلا تدوم سلطتها ولا تتأصل حضارتها!»
وأما المتحف المصري، فقد عهد (إسماعيل) بإبرازه إلى حيز الوجود، إلى الفرنساوي الشهم الكبير، مارييت باشا، ووضع تحت تصرفه العمال والنقود على قدر ما يريد.
وكان الرجل من فطاحل المشتغلين بالعلم الاچپتولوچي، ومن المغرمين بكشف النقاب، وإماطة اللثام عما درس أو توارى من المفاخر المصرية القديمة، غراما يجمع إلى ذاته قوى النفس، ويحصرها فيها؛ فما زال ينقب ويبحث هنا، وهناك، تحت الرمال، وفي كهوف الجبال - لا سيما حيث كانت «منف» القديمة - حتى تسنى له، في سنة 1851 اكتشاف «السيرابيم»؛ أي: معبد الإله «سيراپيس» وإذا فيه قبور 64 عجلا من العجول المعروفة باسم «أپيس» دفنت هناك، من القرن السابع عشر قبل المسيح، لغاية القرن الأول بعده؛ وتسنى له العثور في ذلك المكان، على كتابات تثبت أن الديانة المصرية القديمة إنما آلت في نهاية أمرها، إلى التثليث والتوحيد، على فرض أنها كانت في البدء اشتراكية - فأوزيريس هو الإله الأكبر ومبدع كل الكائنات؛ وأپيس تجسد في عجلة أصبحت أما، وهي لا تزال عذراء، بفعل پتاه، روح القدس، وعليه فأوزيريس وأپيس وپتاه ثلاثة أقانيم في إله واحد، أوزيريس يقيم في السماء؛ وأپيس يعيش على الأرض، ولا بد له عند بلوغه سنا محددا من الموت موتا عنيفا، على أنه يقوم بعد ذلك من بين الأموات ويصعد إلى السماء ليقيم في حضن أبيه باسم سيراپيس؛ وپتاه روحهما المرفرف بينهما - ثم تسنى له اكتشاف نيف وألفي أبي هول، وما يقرب من خمسة آلاف تمثال ونقش خلاف ثمانية تماثيل في منتهى الجسامة، تعد، من جهة كبرها، معجزة فن الحفر المصري، فكان والحالة هذه، خير من يعهد إليه إبراز المتحف المرغوب فيه، وما لبث أن دل نجاحه الباهر، على أن القوس إنما أعطيت باريها.
فإنه أقدم بهمة لا تعرف الملل، وشجاعة لا تبالي بالأخطار، على جمع ما لم يكن يتيسر جمعه لغيره. لم يحز علمه، من نفائس الآثار القديمة، حتى كون في بولاق متحفا لا مثيل له في العالم، ادخر فيه من الذخائر والأعلاق، والأصنام، والتماثيل، والمكتوبات البردية، والنقوش، وموميات كبار الفراعنة؛ ما لا يعرف له قيمة، ولا يمكن لكنوز الدنيا بأسرها مشتراه، ولو بذلت في سبيل ذلك بالتدقيق - ومعرفة أحمد عرابي باشا هذا هو الذي حمله أيام أن آلت إليه الدكتاتورية بمصر، على الرغبة في بيع ذلك المتحف دفعة واحدة، ليسدد الديون المصرية الرسمية كلها بما يدفع له من ثمن فيه.
18
ولا مشاحة فإن قيام الحكومة المصرية بالبحث عن آثار حياة البلاد المنقضية قبل ظهور المسيحية والإسلام، والتنقيب عليها، واكتنازها وإجلالها، وإقدام (إسماعيل) كثيرا على دعوة ذوي المنزلة الرفيعة من زائريه، خمسة خمسة، وستة ستة، إلى تناول الطعام معه في سركوفاج (نادى) من السركوفاجات المكتشفة مع وقوف الأهالي على ما كان يبدو من السائحين الغربيين القادمين إلى بلادهم من الاهتمام بزيارة التشييدات الفرعونية والبطليموسية، زيارة تدقيقية؛ واقتناء ولو القليل والتافه، من آثار أولئك العواهل بأثمان باهظة، كل ذلك أدى إلى تيقظ عدة عوامل في القلوب لم يكن لها في الأجيال السابقة من أثر:
أولها:
الاهتمام باقتناء أي شيء يكون من تلك الآثار، لبيعه بثمن يرضي النفس إلى الراغبين فيه من أولئك الأجانب؛ والمزاحمة على ذلك الاقتناء مزاحمة شديدة، يدل عليها ما يقصه الكونت لپيك عن الرجل الذي اغتصب من ولدي مهزار قردا ذهبيا من أبدع المصنوعات واختص به بعد أن أشبعهما ضربا.
19
ثانيها:
الاجتهاد في تقليد تلك الآثار تقليدا متقنا، عند عدم التمكن من العثور على الصحيح منها، كما فعل بعضهم في الأقصر: فإنه اشترى من أحد السائحين الفرنساويين، بمبلغ مائة فرنك كتابا فيه خراطيش الفراعنة المختلفة، وشرع يصنع جعرانات وينقش عليها ما يشاء من تلك الخراطيش، نقشا جميلا، ويبيعها كأنها صحيحة وقديمة، بأثمان عالية لذات الخبيرين بها، ومن ضمنهم عالم ألماني اچپتولوچي مشهور، وهم لا يفقهون إلى التقليد، ويظنون، لا سيما ذلك العالم، أنهم بحيازتهم لها، إنما حازوا يتيمات بفاخرون بها مزاحميهم عليها.
20
ثالثها:
نظر العامة نفسها نظر الإكبار، والإجلال، والتعظيم، إلى بقايا ذلك الماضي الخصيب المجيدة؛ وتحولهم، شيئا فشيئا عن شعور الاحتقار، الذي كان متأصلا في قلوبهم لأهل تلك العصور، المدعوة عندهم «كفرية» لرغبتهم في الدلالة على مبلغ ازدرائهم إياها.
غير أن هذا التحول كان بطيئا؛ وكثيرا ما كان يقع للعملة أنفسهم المشتغلين تحت إدارة مارييت باشا أن يبدوا امتنانهم لنفس بقايا من كانوا ملوك أجدادهم في سالف الأيام.
فيروى من هذا القبيل أن مارييت باشا لما عثر على مومياء الفرعون «مري إن را» من الأسرة السادسة، في جهة إهرام دهشور، كلف بعض أولئك العملة بنقلها إلى متحف بولاق؛ ولما كان لا بد لهم من الذهاب بها، في بادئ الأمر، إلى البدرشين، لاستقلال القطار الحديدي في محطتها، لم يجدوا طريقة لاجتياز المسافة بين المكانين خيرا من وضع جثة ذلك الفرعون على ظهر حمار، عرضا، وسوق الحيوان بها، وأطرافها متدلية من كلا جانبيه بشكل مهين - ولما بلغوا بها محطة البدرشين، وأرادوا أن «يخلصوا» عليها، ليسافروا بها إلى بولاق، وقع ناظر تلك المحطة في حيرة عميقة؛ لأنه لم يكن قد سمع بكلمة «مومياء» في عمره؛ فلم يعرف ما هي حينما سموها له، ولم يجد لها تسعيرة، بل ولا ذكرا ضمن الأشياء التي تشحن الواردة في تعريفته. أخيرا قطع لهم جميعا تذاكر في الدرجة الأولى، واعتبر مومياهم فردا منهم، فلما وصل بها حاملوها إلى كوبري بولاق وأرادوا أن يجتازوه بها أوقفهم رجال الدخولية، ليحصلوا منهم رسما عليها، ولكنهم لم يدروا ما هي، ولا في أي صنف من الأصناف تقع؛ حتى فتح الله على أحدهم، فقال: «ألا ترون أنها فسيخة؟» فقال رفاقه: «حقا! هي فسيخة!» وأخذوا عليها مكس فسيخة.
21
فلتنفخ العظمة البشرية، أية كانت بعد ذا، أوداجها! فما أحراها بالدرس الذي ألقاه المسيو ماسبيرو خلف مارييت باشا على الأمير الألماني الصغير والمتغطرس غطرسة إمبراطورية، افتخارا يحسبه البالغ من السن حوالي المائة والخمسين عاما، أمام موميا ذلك الفرعون الراقدة عليها آلاف السنين! إذ قص عليه ما أصابها من امتهان، لا في بلاد غريبة، يعذر فيها الناس على جهلهم إياها، بل في البلاد ذاتها، التي كان صاحبها حاكمها المطلق، حيث كانت الحياة تعنو لجلاله؛ والقلوب، قبل الأبصار، توجف خشوعا لهيبته؛ والركب تخر أمامه ساجدة! وعلى أيدي أحقر الملأ من سلالة أولئك الخاشعين الساجدين!
وربما كان للخنزير الذي كان أليف مارييت باشا في مسكنه بصحراء سقارة ودهشور دخل في بطء سير التحول عن احتقار العصور الفرعونية «الجاهلية» في نفوس مجاوريه وفعلته، فإنه كان من شأن ذلك الحيوان «النجس» في عرفهم أن يحملهم على الاشمئزاز، وعلى مزج صاحبه ومواضيع بحثه في عاطفة النفور عينها التي كانت توجبها نجاسته، لا سيما، بعد أن وقع له، يوما، شديد القيظ، أنه خرج يلتمس فيئا؛ فسارت به قدماه إلى رحبة مسجد مجاور، فرأى فيه «الميضا»؛ فحسن لديه الاستحمام فيها، فخاضها بلذة، وأبطأ في التمتع ببرودتها اللطيفة، حتى جاء المصلون، ساعة العصر، ليتوضأوا؛ فوجدوه منفردا بمياهها، فحملوا عليه حملة منكرة، وأخرجوه مهينا مضروبا، واضطر مارييت إلى نقض بناء تلك «الميضا» لأنها نجست، وإعادته ثانية، بحجارة غير التي احتك فيها خنزيره الأليف.
22
وكان من لطائف ذلك الخنزير، أيضا، أن لوردا إنجليزيا ذهب، مرة، مع اللادي قرينته، لزيارة مارييت باشا في مقامه الصحراوي؛ فأمسكهم على الغداء، فما جلسوا على المائدة إلا وأتى الخنزير، كأنه كلب ظريف، وأخذ يحتك بالجالسين، طالبا منهم نصيبه في الطعام، فثارت عوامل الاشمئزاز العميق في صدر اللادي، وأبدت استغرابها من «أن رجلا كمارييت يتخذ مثل ذلك الحيوان القذر أليفا له، دون غيره من الحيوانات الجديرة بذلك»، ولإظهار اشمئزازها، عمليا، غرست أسنة شكوها في ظهر ذلك المسكين، فما كان منه إلا أنه دخل تحت المائدة، وصدمها بظهره، فقلبها بصحونها وطعامها على حضرة اللادي، فأتلف لها ملابسها.
23
وبلغ من غيره مارييت باشا على ادخار الآثار الفرعونية واكتنازها، والضن بها على غير المتحف الذي أنشأه، أنه استصدر من الحكومة المصرية أمرا ساميا يحظر تحظيرا باتا، التنقيب عليها وبيع أي شيء كان منها إلى الأجانب؛ ونقل أي أثر يكون من مكانه، إلا بمعرفة رجال الآثار؛ وتصدير أي بقية من بقايا الماضي بمصر إلى أي قطر من الأقطار الخارجية - وكان نهب الآثار القديمة، قبل ذلك، مباحا: فملأ بها سارقوها المتاحف الغربية الكبرى - فضمن بذلك بقاء الكنوز المصرية التاريخية لمصر والمصريين، دون سواهم؛ ولم يعد في استطاعة أحد أن يزين ببعض منها غير المتحف المصري، والميادين المصرية، إلا تهريبا وتحايلا. كما وقع للكونت لپيك وهو في الصعيد، فإن بعضهم عرض عليه مشتري موميا في سركوفاچها، كان قد عثر عليها، بدون اطلاع رجال الآثار، في أحد مدافن الملوك، التي كانت لا تزال تحت التنقيب، فتعرفها لپيك من الرسومات التي عليها، ولإدراكه قيمتها التاريخية، اشتراها بثمن جيد، ولكن الصعوبة كلها كانت في التمكن من تصديرها إلى فرنسا، مع تيقظ عيني مارييت ولا كأنهما أعين (أرجس ) حارس بستان (الهسپريد) في الميثولوچيا اليونانية، وزادت تلك الصعوبة، بعد أن فشا خبر المشتري وبلغ أذني «الأجرس» المصري، وصدرت أوامره إلى ذوي الشأن بمديرية قنا، بمنع لپيك - ولو أنه فرنساوي مثله - من مقتناه، وإعادة الثمن الذي دفعه به إليه - وكان عشرين ألف فرنك، على ما أظن - وإرسال الموميا بسركوفاچها إلى المتحف، فعمد لپيك إلى من صنع له سركوفاچا كالذي فيه الموميا، برسوماته وألوانه، ولو أنها غير متقنة، ووضع فيه جذع شجرة، وسمر عليه غطاءه، ثم سلمه - كأنه يصدع بالأمر، ومقابل إعادة العشرين ألف فرنك إليه - إلى رجال السلطة في المديرية - وكانوا من الجهل في ذلك الموضوع بمكان عظيم - ورجاهم، فقط، ألا يرسلوه إلا بصحبته، حينما يئوب إلى مصر، عساه أن يتمكن من نيل تصريح من الحكومة المصرية بتصديره إلى فرنسا، فوعدوه - وكان هو في الأثناء قد سفر، سرا، السركوفاچ والموميا الحقيقيين إلى القصير، برا، ومنها إلى السويس، بحرا، فإلى بورسعيد ومرسيليا - فلما تيقن أن ما اقتناه أصبح في فرنسا، قام من الأقصر إلى مصر، ومعه السركوفاچ الكاذب، فاستلمه مارييت أمامه، مبتهجا، ولكن نظره ما لبث أن وقع على غطائه، إلا وقطب حاجبيه؛ لأن عينه الخبيرة أدركت التقليد، حالا، ففتح السركوفاچ بيد مضطربة، وإذا به يرى جذع الشجرة داخله بدل جثة محنطة! فالتفت إلى لپيك وعوامل الاستغراب والغيظ والاستهزاء تتناوبه، وهو لا يدري أيها يبدي، فقابل لپيك نظره بقهقهة ضحك عالية؛ وقال: «لم يعد، يا صديقي، من وسيلة، سوى أني أرد إليك العشرين ألف فرنك التي دفعت إلي؛ فهاكها؛ لأن ما اشتري بها، حقا، أصبح في فرنسا!» فأدرك مارييت أن مواطنه ضحك عليه، ولما كان ممن يستطعمون ملح السخرية الظريفة أكثر مما تستفزهم السخرية إلى الغضب، انضم إلى لپيك في ضحكه، وانقضى الأمر بينهما على سلام!
24
وأما المكتبة الخديوية، فيعزو بعضهم إنشاءها إلى إشارة بذلك صدرت من السلطان عبد العزيز إلى (إسماعيل) ويقولون: إن هذا العاهل، لما زار مصر، وشاهد مساجدها وآثارها، ورأى الكتب العديدة من مخطوطات ومطبوعات، مبعثرة في خزاناتها ، أشار على (إسماعيل) بإنشاء مكتبة عامة تجمع شتاتها، ليستفيد الناس بمطالعتها، وإن هذه الإشارة الهمايونية وقعت وقعا جميلا من نفس (إسماعيل).
على أننا، مع عدم ميلنا إلى تكذيب حكاية هذا الإيعاز، نرى أنه كان من طبيعة الاهتمام الذي أبداه (إسماعيل) بإحياء العلوم والمعارف في بلاده، ومن شأن رغبته في تكوين نهضة علمية أدبية فيها، أن يولدا في نفسه فكرة إنشاء تلك المكتبة، وكان جده (محمد علي الكبير) قد أوجد مستودعا في بيت المال القديم، خلف المسجد الحسيني، لبيع مطبوعات الحكومة من كتب وغيرها، فأضاف (إسماعيل) إلى ما فيه من كتب، نحو ألفي مجلد من مخطوطات بالعربية والتركية والفارسية، ابتاعها من تركة حسن باشا الموناسترلي أحد كبار رجال (عباس الأول)، ولما كانت سنة 1869 - وهي سنة الاحتفال بفتح القناة السويسية، وتوافد أصحاب التيجان وأرباب الأقلام إلى القطر - أوعز إلى علي باشا مبارك - وكان مدير ديوان المدارس؛ أي: ناظر المعارف - أن يتخذ محلا، من سراي درب الجماميز، بجانب ديوانه، ويجعله دار كتب خديوية، وينقل إليه ذلك المستودع برمته، وأهم ما يجد من كتب في المساجد والتكايا بمصر وغيرها من مدن القطر؛ ففعل، وأضاف إليها الكتب التي كانت في خزانة الأوقاف الخيرية، وكثيرا من الآلات الهندسية والرسومات ونحوها.
فلما كانت سنة 1870، أصدر (إسماعيل) أمرا رسميا بإنشاء المكتبة، وأمر علي مبارك باشا بتنظيمها ووضع قانون لها؛ ففعل، وفي سنة 1876 توفي الأمير مصطفى فاضل باشا شقيق (إسماعيل) - وكان كلفا بالكتب، عربية وغيرها، حريصا على اقتنائها، وعنده منها خزانة نفيسة فيها نيف و3500 كتاب، فابتاعها (إسماعيل) بثلاثة عشر ألفا من الجنيهات، وأهداها إلى مكتبة الخديوية؛ وما زال يجد في اقتناء الكتب العربية وغيرها، وهو لا يبالي بالإنفاق، حتى صير تلك الدار تضارع مثيلاتها التي من درجتها في العواصم الأوروبية، وأعاد إلى الشرق الأدنى، مثالا من مفاخره العلمية، التي ازدهت بها العصور العباسية والفاطمية؛ وأخرج إلى الأيام الحاضرة، في ثوب قشيب، تحفا من تلك المفاخر، جعلتنا نشاهد عيانا ما كنا نسمع عنه من خطوط متقنة، كخطوط ابن مقلة ، ورسوم بهية بهجة ومكن ظمأنا إلى العلم والبحث والمذاكرة، من ينابيع حية يلجأ إليها، فيرتوي.
وأما دار الآثار العربية، فإن (إسماعيل) أصدر أمره بإنشائها في سنة 1869 وكلف بذلك فرنس باشا، رئيس هندسة الأوقاف، وكان غرضه منها جمع ما كان مبعثرا في المساجد وغيرها، من الآثار العربية والإسلامية، على أنواعها، لتكون تلك الدار ضوءا للمتحف المصري، المجموعة فيه الآثار الفرعونية والبطليموسية والرومانية والبيزنطية، فيكون الاثنان معا، هيكلا فخما للتاريخ المصري برمته، ينتقل فيه المطالع الباحث، أو المتفرج البسيط، من مرحلة إلى مرحلة، في حياة مصرنا هذه، على ممر العصور، وهو مأخوذ اللب دهشة، وإعجابا وإعظاما ولكن عللا كثيرة، منها اشتغال المكان المطلوب لجمع تلك الآثار فيه بما سواها، حالت دون تنفيذ فرنس باشا أمر (إسماعيل) في عهده فلم تخرج فكرة «الخديو العظيم» إلى الوجود إلا في أيام ابنه وخليفته، المرحوم محمد توفيق باشا؛ وقد أنبأ علي بهجت بك، مدير دار الآثار العربية الآن، المؤرخ المحقق الكبير المرحوم جورجي زيدان بك «أن عدد ما كان في تلك الدار من التحف الأثرية، في سنة 1913، نحو 4000 قطعة، بينها آثار عربية إسلامية من بقايا التمدن الإسلامي على اختلاف عصوره؛ ومصنوعات حجرية وزجاجية، وخشبية، ونحاسية على الطرز العربي الجميل، تستحق العناية والدرس، وأكثرها من عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين!»
25
غير أن مظهر النهضة العلمية الرسمي بمصر لم يقتصر، مطلقا، على ما ذكر، ولو أنه تجلى فيه، على الأخص، فدار الطباعة، مثلا، وجدت من (إسماعيل) عناية كبرى جعلتها أكبر مطبعة عربية في العالم، حتى بلغ متوسط المؤلفات المطبوعة فيها، سنويا، على عهده، نيفا وعشرين مؤلفا، فضلا عن الكتب المترجمة وخلافها.
ثم إنه نشط الصحافة والجمعيات العلمية، والخيرية، والأدب على أنواعه، في سائر الأمصار العربية، تنشيطا عظيما، بتشجيعه المعروف للعلم.
أما الصحافة، فهو الذي سهل الاشتغال بها على أدباء السوريين المتقاطرين في أيامه إلى مصر، طمعا في كرمه؛ وأشهرهم آل تقلا، وأديب إسحق، وسليم النقاش، وسليم حموى، وغيرهم، ولم يكن يقاوم حريتها في أي موضوع تخوض فيه، ما عدا موضوع الطعن عليه؛ وعدم مراعاة جانبه، فإن الخوض فيه كان يؤلمه ويؤذيه، لا سيما في أيام ضيقه، وتنازعه على البقاء مع دائنيه وحماتهم، ولا غرابة، فما من عاهل، لا سيما في أيامه، ولا سيما من كان منبته وتربيته كمنبته وتربيته، كان يستطيع أو يريد أن يروض نفسه على احتمال انتقاد ألسنة الرعايا لأعماله، وما من رجل يحسن إليك ويرعاك، إلا ويستفزه أن تكون مع عدوه عليه، في وقت شدته.
أما الجمعيات، من علمية وخيرية، فقد أمدها بعنايته وماله، وشجع الناس على الاشتغال فيها، فإليه مرجع الفضل في تأسيس الجمعية الجغرافية الخديوية في سنة 1875 - وكان من أهم أعضائها محمود باشا الفلكي، وستون باشا الأميريكي، وكلاهما من موظفي الحكومة المصرية - والجمعية العلمية الشرقية - وكان من أهم أعضائها أرتين باشا وفخري باشا، ثم انضم إليها سليمان أباظة باشا، وإلياس حبالين، والدكتور مهدي خان التبريزي - وساعدت حكومته على إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية الأولى في سنة 1878، وأمدتها بالنقود؛ ولما كان الباعث على إنشائها روحا سياسية اجتماعية دبت في نفوس المصريين في ذلك العهد، على أثرها شاهدوه من استئثار الأجانب بمرافق البلاد الاقتصادية، فحملتهم على فتح المدارس لتعليم البنين والبنات، وتهذيب أخلاقهم، في ميدان حرية مطلقة، فإن الحكومة اشترطت عليها لكي يسمح لها بذلك، ألا تكون خاصة بالمسلمين، وألا تصطبغ بصبغة دينية خاصة، فغيرت الجمعية اسمها، وتسمت «بالجمعية الخيرية»، فاعتبرت رسميا وصدق على قانونها.
وأما الأدب، فقد نشطه (إسماعيل) بما سهل لرجاله من أسباب الرزق في خدمة حكومته، وخدمته الشخصية، وغيرها، فقد قرب إلى ذاته الشاعرين المجيدين عليا أبا النصر المنفلوطي والشيخ علي الليثي، والكاتب الفريد عبد الله فكري باشا؛ وألحق بمعيته عبده الحمولي الموسيقي المغني الشهير، وعهد بتثقيف أبنائه إلى الأستاذ الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، ووهب إبراهيم المويلحي، بعد أن خسر ثروته في التجارة، مالا استرجعها به، ووظف نقولا بك توما في حكومته، حينا، وأدنى من نفسه الدكتور أحمد حسن الرشيدي، وأوعز إليه أن يشتغل؛ فألف كتاب «عمدة المحتاج لعلمي الأدوية والعلاج»، ولما انتقل يوسف الخياط بجوقه التمثيلي من الإسكندرية إلى مصر في سنة 1878، أمر (إسماعيل) أن تفتح له أبواب الأوبرا لتمثيل رواياته فيها، ووعد أن يحضر التمثيل بنفسه، ولكن ذلك الغبي لم يجد رواية في متعلماته يفتتح بتمثيلها الفصل إلا رواية «الظلوم»؛ وكان (إسماعيل) حاضرا: فغضب لما تخللها من ذكر الظلم والظالمين في تلك الأيام العصيبة، التي كانت الحرب فيها، بينه وبين الدائنين الغشومين، عوانا؛ وتوهم بحق أن أولئك الممثلين، بالرغم من أنه غمرهم بفضله، يعرضون به وبأحكامه، انقيادا لإيعازات أعدائه، فاستنقصهم جدا، وحكم بأنهم غير جديرين بالنعمة التي أسبغها عليهم، وأمر بإخراجهم من مصر، فباءوا بعار وخزي عظيمين.
وأما العلم، فلا أدل على اهتمام (إسماعيل) به، وجهاده في سبيل ترقية شئونه من البضع والعشرين بعثة علمية التي سيرها إلى مجاهل إفريقيا الوسطى والشرقية، لاكتشافات علمية متنوعة، سيأتي ذكرها، بالتفصيل، في كلامنا على تحقيقه الشطر الثالث من الخطة التي رسمها لمجهوداته.
وأما المظهر الفردي لتلك النهضة، فتجلى في مجهودات النابغين من المدارس المصرية والسورية على اختلاف أنواعها ومذاهبها، ومن الإرساليات المدرسية إلى البلاد الأجنبية، منذ أيام (محمد علي)، ومباحثهم وأعمالهم وتآليفهم.
فحسين حسني باشا - الذي بدأ حياته العملية بصفة مصحح وكاتب بالتركية في الوقائع الرسمية سنة 1851، وآلت إليه، في نهاية أمره، النظارة على مطبعة بولاق الأميرية سنة 1880 - كان من نوابغ الرجال في الهمة والإقدام، فضلا عن سعة اطلاعه على الرياضيات والميكانيكيات، (علوم الحيل)، وإليه يرجع الفضل في استجلاب معمل الورق لمصر.
ومحمد علي باشا الحكيم، وإبراهيم الدسوقي، كانا أول من أنشأ مجلة طبية في اللغة العربية سنة 1865، دعواها «اليعسوب» وضمناها من المباحث الجليلة، ما ترتوي منه الألباب، وترتاح إليه العقول - ألا ليتها عاشت طويلا!
وأبو السعود أفندي، الذي ترجم عدة كتب تاريخية وغيرها، كان أول من أنشأ جريدة سياسية مصرية، فدعاها «وادي النيل» واستمر يصدرها مرتين في الأسبوع طافحة بالمقالات السياسية والأدبية والعلمية، إلى أن وافته المنية سنة 1878.
وإبراهيم المويلحي، ومحمد عثمان جلال، تلياه في هذا المضمار، وأنشأ في القاهرة في سنة 1869 «جريدة نزهة الأفكار» - وكانت أسبوعية، شديدة اللهجة، فاضطرت الحكومة إلى تعطيلها.
وسعيد صالح بك، ناظر المدارس، أصدر في سنة 1870 مجلة دعاها «روضة المدارس» أخذ يطبعها في مطبعة «وادي النيل» ويوزعها على الطلبة مجانا - وكانت علمية، أدبية، يحررها نخبة من العلماء والأدباء، منهم عبد الله فكري باشا السابق ذكره، وإسماعيل باشا الفلكي، وبدر بك الحكيم، وعلي مبارك باشا، ورفاعة بك، وقدري بك - وهو الذي أصبح، فيما بعد، قدري باشا المشهور بمؤلفاته، وكان كل منهم ينشر فيها مقالات متسلسلة في موضوع واحد كالكتاب المستقل.
وميخائيل عبد السيد أفندي أصدر جريدة «الوطن» في سنة 1877 - وهي أقدم الصحف القبطية - وسليم حموي باشا السوري أصدر جريدة «الكوكب الشرقي» في الإسكندرية سنة 1873؛ ولكنها لم تعش طويلا، وسليم تقلا بك، وبشارة أخوه، السوريان، أصدرا بالإسكندرية في سنة 1876 جريدة «الأهرام»، فنالت حظا وافرا من الرواج والنفوذ؛ ولا تزال تنشر لغاية يومنا هذا، وربما كان لها من اسمها الحظ في البقاء الذي أتعبت الدهور جهودها في حرمان مسماها منه، ولم تفلح .
وأحمد حسن الرشيدي - وهو من كبار نوابغ مدرسة الطب المصرية، وقد سبق الكلام عنه - جاهد في خدمة النهضة التي نحن في شأنها جهاد الأبطال، ترجمة وتأليفا؛ فكان من أكبر أركانها ومن أكثر الأطباء عملا في سبيلها، وهو، وإن يكن من نابغي عصر (محمد علي) إلا أنه قد أدرك زمن (إسماعيل) وألف، في أكثر فنون الطب والطبيعيات والأقرباذين، التآليف الوافية الممتعة.
ومحمد علي باشا البقلي، الجراح الطائر الصيت - وهو من زاوية البقلي بالمنوفية، وقد سبق ذكره أيضا - قد ألف في الجراحة جملة كتب مفيدة، منها: «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى» و«غرر النجاح في أعمال الجراح» و«غاية الفلاح في فن الجراح» و«نشر الكلام في جراحة الأقسام»، علاوة على إصداره «اليعسوب» المجلة الطبية العربية البادي ذكرها.
وحسن عبد الرحمن بك - وكان من أساتذة مدرسة الطب في أيام نظارة محمد علي باشا البقلي عليها - ألف، بأمر رئيسه هذا، كتاب «القول الصحيح في علم التشريح»، لكي يدرس في المدرسة المذكورة.
وأحمد ندا بك، الصيدلي الشهير، المتوفى سنة 1877، كان هماما، كثير العمل والبحث، محبا للتأليف ونشر العلم، وله مؤلفات جزيلة الفائدة، أهمها: «الآيات البينات في علم النباتات» و«حسن البراعة في فن الزراعة» (مترجم عن الفرنساوية) و«حسن الصناعة في فن الزراعة»، وضعه للتعليم في مدرسة الزراعة التي أحيل إليه التدريس فيها بعد إنشائها، و«الأقوال المرضية في علم الطبقات الأرضية» (چيولوچيا)، وهلم جرا.
وحسين عوف بك الكحال، المتوفى سنة 1883 - وكان، في عصره، ركنا من أركان العلم الأربعة، وهم: أحمد ندا بك في التاريخ الطبيعي، ومحمد علي باشا البقلي في الجراحة، وحسن عبد الرحمن بك في التشريح، والمتكلم عنه في الرمد - ألف في فنه هذا كتابا ذا سبعة أجزاء من خير ما دبجه يراع الكاتب.
ومحمد حافظ بك، المتوفى سنة 1887 - وكان أستاذ الرمد في مدرسة الطب - ألف كتاب «مطمح الأنظار في تشخيص أمراض العين بالبحث بالمنظار».
وسالم سالم باشا، المتوفى سنة 1893، صاحب الشهرة الواسعة، ألف كتاب «وسائل الابتهاج إلى الطب الباطني والعلاج» و«دليل المحتاج في الطب والعلاج»، وأكثر مصادره ألمانيه؛ لأنه تمم اختباراته الطبية في ڨيينا، بعد خروجه من مدرسة القصر العيني سنة 1848.
وعلي رياض بك، الصيدلي، نشر في عهد (إسماعيل) كتاب «النفحة الرياضية في الأعمال الأقرباذينية».
وعبد الهادي إسماعيل، معلم البيطرة في المدارس الحربية، ألف كتاب «العجالة البيطرية لإرشاد الضباط والسوارى والطوبجية».
ومنصور أحمد، مدرس الكيمياء بمدرسة المهندسخانة المصرية، ألف كتابه «عمدة المتطببين في فن الصيدلة والأقرباذين».
ألا يخيل لك، أيها القارئ، أنك في أيام الرشيد والمأمون؛ وهلا تتمثل أمامك شخصيات آل بختشوع وآل حنين، وأنت تقرأ أسماء كل هؤلاء النوابغ المصريين في علمي الطب والصيدلة؟
وبهجت باشا - وهو أرناؤطي الأصل - خلف خرائط طوبوغرافية يعتد بها.
وعلي عزت، المدرس للعلوم الرياضية في المهندسخانه، ألف «الخلاصة العزية في تهذيب الأصول الحسابية».
وأحمد فائد بك، وهو من كبار أساتذة المهنسدخانة الخديوية، وضع المؤلفات الجمة في الهندسة والسوائل، أهمها: «الأقوال المرضية في علم بنية الكرة الأرضية» و«تحرك السوائل» و «الدرة السنية في الحسابات الهندسية».
وعامر سعد، مدرس الرياضيات بالمدارس الحربية، ألف «المنحة الزهرية في الأعمال الجبرية» و«أحسن الوسائل لتصريف السوائل».
وأحمد نجيب، مدرس الرياضة بمدرستي أركان الحرب والطوبجية، ألف «التحفة البهية في الهندسة الوصفية».
وحسين علي الديك، ألف كتاب «عدة الحاسب وعمدة الكاتب» في الحساب ومسك الدفاتر والديوانية.
ومحمود باشا الفلكي، المذكور مرارا والمتوفى سنة 1885، عن ثمانين عاما، ألف بالفرنساوية والعربية مؤلفات جمة ممتعة.
ومختار باشا المصري، وكان كثير الاشتغال في الرياضيات والفلك، ألف «التوفيقات الإلهامية لمقارنة السنين الهجرية بالإفرنجية والقبطية» و«المجموعة الشافية في علم الجغرافية» و«جداول تحويل المسطحات المترية»، وهلم جرا.
وإسماعيل باشا الفلكي، ألف «الآيات الباهرة في النجوم الزاهرة» وتقاويم فلكية سنوية.
والسيد صالح مجدي بك، المحالة إليه ترجمة الكتب في الفنون العسكرية، ألف «الدر المنثور في الظل والمنظور» و«بغية الطلاب في قطع الأحجار والأخشاب» و«الروضة السندسية في الحسابات المثلثية» و«تذكير المرسل بتحرير المفصل والمجمل» و«ميادين الحصون والقلاع ورمي القنابل باليد والمقلاع» وكتاب «الترع والأنهر»، وهلم جرا.
ومحمد صفوت المشهور باسم «الساعاتي المصري»، وعلي أبو النصر المنفلوطي، والشيخ علي الليثي، أطربوا العام والخاص والسوقة والأمراء بأشعارهم الجميلة.
ومن نكات الشيخ علي الليثي المستظرفة أنه دخل يوما هو والشيخ علي أبو النصر المنفلوطي على (إسماعيل)، والخديو منقبض النفس، وكان الرجلان - على خفة روحهما التي كانت كأنها خطرة نسيم عطر - طويلي القامة جدا، دميمي الخلقة، وأسودين سوادا يكادان يكونان زنجيين.
فلما وقعت عين (إسماعيل) عليهما أخذ يجيلها في طولهما وعرضهما، ويرفعهما بها ويضعهما، فلما رأى الشيخ علي الليثي منه ذلك، شرع يقلب كفا على كف، فقال (إسماعيل) له: «ما بالك تفعل هذا؟» قال: «أفكر في أمر أقوله إذا صفح عنه مولاي مقدما». قال: «لقد صفحت، فقل». قال: «أراني أستغرب ما الذي أعجب به مولاي في مدخنتين مثلنا أنا وزميلي هذا!» فضحك (إسماعيل) وسري عنه.
وقد كان الشيخ علي الليثي هذا - على ما به من خفة روح وعلى ما في شعره من الإبداع والرواء - على جانب متين مع الله، فمن أجمل ما يحكى عنه أن رجلا يقال له: محمود فوزي أفندي (كان ناظرا لدار العلوم فأنزله علي مبارك باشا إلى وظيفة أستاذ الكيمياء والطبيعة في إحدى المدارس الثانوية، ثم ما زال به حتى رفته بتاتا، مع أنه كان ابن زميل له في التلمذة بفرنسا) قصده وسأله أن يتوسط له لدى الباشا لكي يعيده إلى منصبه، لعدم تمكنه من استخدام علمه في الكيمياء والجغرافيا الطبيعية إلا في التدريس، فقال له الشيخ علي الليثي: «أعفني، يا ولدي، من هذه المهمة؛ فإنها شاقة على نفسي، فعلي مبارك باشا هذا رجل سيئ الأخلاق وأخشى إذا أنا كلمته في هذا الشأن أن لا ينالني منه إلا إراقة ماء وجهي!» ولكن محمود أفندي تشدد في التماسه، فتظاهر الشيخ علي بأنه يروم قضاء حاجة فاستدعى خادمه وقال له: «ضع لي إبريق الماء في بيت الراحة»، وكانت هذه جملة مصطلحا عليها بينه وبين خادمه، يعني «أحضر لي عربتي!» ثم قلع جبته وخرج واضطر محمود أفندي إلى انتظاره حتى يعود.
ولكن الشيخ علي ما بارح الحجرة إلا وارتدى جبة خلاف الجبة التي تركها فيها وسار توا إلى علي مبارك باشا في ديوانه ودخل عليه وبادره بالكلام هكذا: «أنت يا رجل أوقع في خلدك أن بيتي تكية لك ترسل إليها من تشاء؟» فدهش علي باشا وقال: «ماذا تعني يا شيخ علي؟» قال: «أعني أن كل من ترفته أنت من موظفيك يأتي فيحل في بيتي»، وها محمود فوزي أفندي خوجا الكيمياء والطبيعة في المدارس الثانوية، الذي رفته منذ أيام، أتاني بأمه وزوجه وأولاده وأخواته ونزل عندي، وأراني مضطرا إلى الإنفاق عليه؛ أفترى أن أولادي قليلون علي فترهقني بالإنفاق على كل هذه العائلة. قال علي باشا: «ولكن محمود أفندي هذا رجل شرس الأخلاق، قليل الأناة، كثير المخالفة للأوامر!» فقال الشيخ علي: «وأنا ما شأني حتى تنكبني به وبأولاده؟ إني سأرسله إليك من غد، فأعده إلى وظيفته وزد في مرتبه!» قال علي باشا: «وتريد أيضا أن أزيد في مرتبه؟» قال: «نعم» وخرج عائدا إلى منزله، فوجد محمود أفندي هناك في انتظاره، فما رآه هذا استوى على مقعهده إلا وأعاد الكرة وكرر الالتماس، فقال له الشيخ علي: «يا بني إني، بعد ما قلته لك عن أخلاق علي مبارك باشا، أرى أن الأوفق أن تكتب له عرضا تسترحمه فيه وتطلب إعادتك إلى وظيفتك!» ثم قدم له ورقة وقلما، وقال: «خذ واكتب!» وأملاه عرضا لطيفا وصرفه موصيا إياه بأن يذهب به إلى علي مبارك باشا من صباح غد.
ففعل محمود أفندي كما أمر، ولما أدخل العرض إلى علي مبارك باشا أمر بكاتبه فمثل بين يديه، فقال له الباشا: «أأنت كاتب هذا العرض؟» قال: «نعم». قال: «وأنت من الذي عرفك بالشيخ علي الليثي؟ حقيقة إنكم أناس لا تختشون!»
ثم استدعى باشكاتب الديوان وأمره بأن يكتب إذنا بإعادة محمود أفندي إلى وظيفته، وبزيادة جنيه على مرتبه الأصلي وصرفهما.
فخرج محمود أفندي وهو لا يدري أفي يقظة هو أم في منام، ولما كان العصر وفرغ من عمله، ذهب إلى الشيخ علي الليثي ليشكره، وقال له: «حفظ الله مولاي الأستاذ، فإنه لم يعلمني البتة أنه قابل علي مبارك باشا البارحة وأوصاه بي خيرا!» فأجاب الشيخ علي: «إني يا بني إنما أردت أن يكون اعتمادك على الله، لا على الشيخ علي، وقد خرجت أنت من عندي ولا اعتماد في قلبك إلا على الله، وها قد تحققت بنفسك أن من يعتمد على الله لا يخيب».
26
وعائشة التيمورية، ومعلمتاها فاطمة الأزهرية وستيتة الطبلاوية، فتحن بأناملهن العنابية باب أفق جديد أمام الأعين المعاصرة لهن، المبتهجة بعملهن الشعري والنثري البديع.
وعبد الهادي نجا الأبياري، السابق ذكره، صاحب كتاب «سعود المطالع» وكتاب «نفحة الأكمام في مثلثات الكلام» و«الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية» و«الكواكب الدرية في نظم الضوابط العلمية» وكتاب «باب الفتوح لمعرفة أحوال الروح»، وغيرها.
والشيخ حسين المرصفي المصري، صاحب «الكلم الثمان» و«الوسيلة الأدبية في العلوم العربية» جعلا لعلوم اللغة بمصر مقاما كالذي رفعها إليه في سوريا الشيخ ناصيف اليازجي، صاحب «مجمع البحرين» و«فصل الخطاب» وأحمد فارس الشدياق، صاحب «سر الليال في القلب والإبدال» و«غنية الطالب».
وعبد الله أبو السعود، صاحب جريدة «وادي النيل»، وحسن حسني باشا الطويراني، وعلي مبارك باشا، ورفاعة رافع بك، أعادوا عصور ابن الأثير وابن خلدون والمقريزي بما كتبوه من المؤلفات التاريخية والجغرافية المفيدة، فأبو السعود، وضع كتاب «الدرس التام في التاريخ العام» وكتاب «منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ مصر»؛ وحسن حسني الطويراني، وضع كتبا في العربية والتركية في تاريخ الدولة العثمانية، تعد بالعشرات؛ وعلي مبارك باشا، ألف كتاب «الخطط التوفيقية» في عشرين جزءا، تحدى فيه أسلوب المقريزي في «خططه»؛ ورفاعة رافع بك، من رجال عهد الأسرة العلوية لغاية (إسماعيل)، وضع في التاريخ سفرا جليلا، دعاه «أنوار التوفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل» حال المنون بينه وبين إتمامه، فلم يطبع منه سوى الجزء الأول، وذلك فوق ما كتب من الأسفار الهامة في غير عهد (إسماعيل).
ومحمد عليش المغربي، صاحب «فتح العلي المالك، في الفتوى على مذهب الإمام مالك»؛ وقدري باشا، صاحب «مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان» وغيره؛ ومحمد العباسي المهدي، صاحب «الفتاوى المهدية»، أعادوا إلى الشرع والقضاء، شيئا من سنا الأنوار التي أشرقت عليهما، على أيدي أبي حنيفة النعمان وأبي يوسف والإمام مالك وغيرهم.
وجمال الدين الأفغاني - ولو أنه غير مصري، وأنه لم يخلف كتبا تستحق الذكر - قد أحيا بمقامه بمصر مدة في زمن (إسماعيل) روحا في نفوس المسلمين من أهالي البلاد، كان لتحركاتها، ومساعيها، وجهودها التالية شأن خطير، اصطبغ به الربع الأخير من القرن التاسع عشر، اصطباغا أزعج الكثيرين من أرباب السياسة.
وأما مظهر النهضة الاجتماعي، فتجلى في الجمعيات على أنواعها التي قامت في ظل (إسماعيل) أو في عهده، تفتح للهمم سبل أعمال جديدة، من خيرية، وعلمية، وخطابية، وأدبية، وسياسية.
فالجمعية الخيرية الإسلامية، وقد سبق الكلام عنها؛ وجمعية المقاصد الخيرية، وقد تأسست في سنة 1878، تحت رياسة سلطان باشا، وبعضوية مقبل باشا، وكثيرين من أعيان مصر، نزعتا إلى أعمال البر والتعليم، ففتحتا المدارس، وأمدتا عدة أسر فقيرة.
ومجلس المعارف المصري - وهو «الانستييوت» أو المعهد العلمي المصري، الذي أنشأه بونابرت، حين قدم بحملته إلى مصر، بعث من رمسه في سنة 1859، على يد جماعة من رجال العلم الغربيين - قام ينشر المدنية والعلم بمصر، وتوالى على رياسته نخبة من العلماء، في جملتهم مارييت باشا، ودشامبور، وكولوتشي، وغيرهم.
وجمعية المعارف - وقد تأسست في سنة 1868 بمساعي محمد عارف باشا، أحد أعضاء مجلس الأحكام لنشر الكتب النافعة، وبرزت في شكل شركة مساهمة، ثمن السهم فيها خمسة جنيهات، فلقيت إقبالا كثيرا حتى بلغ عدد المساهمين أو الأعضاء بضع مئات، مزيتهم الوحيدة الحق في اقتناء مطبوعات الجمعية بثمن أقل مما تعطى به لسواهم - شرعت تطبع الكتب الهامة في التاريخ واللغة والأدب والفقه، منها: «أسد الغابة» لابن الأثير و«ألف باء» و«الفتح الوهبي» و«تاج العروس» وغيرها، وما زالت عاملة حتى حدث التنازع السياسي الذي سيأتي بيانه في حينه، بين (إسماعيل) وحليم باشا، على مبدأ الوراثة؛ وكان محمد عارف باشا من مروجي آراء حليم، فلم تعد تطيب له الإقامة بمصر؛ ورأى أن سكناه الأستانة أوفق للمصلحة التي قام يدافع عنها، فذهب إلى القسطنطينية، وتوفي فيها، وانحلت الجمعية، وكان عارف باشا هذا من أهل الأدب، له مؤلفات في التركية، ويحسن اللغة العربية، ويروون من نظمه بيتين يفتخر بهما، ويدلان على عقليته، وهما:
ألم تعلم بأن سماء فكري
تلوح بأفقها شمس المعارف؟
تفرس والدي في المزايا
فيوم ولدت، لقبني بعارف!
وجمعية رواق الشوام بالأزهر، وقد أنشأها طلبة الأزهر السوريون سنة 1873، أخذت، كلما عزم طالب سوري على الرجوع إلى الشام نهائيا، تحدد ليلة للاجتماع، تعلنها إلى أهل الرواق، فيعد الشعراء قصائد الوداع، ويتلونها ليلة السفر بمحضر من علماء الأزهر وأدبائه، وكانوا يبتدئون القصيدة بالغزل، ثم يتخلصون إلى المديح والوداع، ويتبارون ويتنافسون فيها أيما تنافس، ولم يكن الشعراء من السوريين فقط، بل كل من أراد أن ينظم قصيدة، أيا كان، تقبل منه، ويؤذن له بتلاوتها.
27
وجمعية الآداب، وأنشئت بمصر سنة 1871، وتولى رياستها الشيخ محمد الخشاب الفلكي؛ والجمعية العلمية الشرقية، وقد سبق ذكرها، قامتا مشتهرتين باسمي علم، ترميان إلى أغراض سياسية في طي الخفاء.
وأما جمعية «مصر الفتاة» فقد كانت سياسية، جوهرا ومظهرا؛ وذكروا أن من أعضائها جمال الدين الأفغاني، وأديب إسحق، وسليم النقاش، وعبد الله نديم، ونقولا توما، وغيرهم من أرباب الأقلام في ذلك العهد، وذلك لصدور جريدة سميت «مصر الفتاة» باسم الجمعية عينها، دبج أعمدتها بالعربية والفرنساوية معا أقلام أولئك المفكرين، على أن بعض الثقات أكدوا لجورجي زيدان بك، أن هذه الجمعية كانت اسما بلا مسمى؛ وأن أصحاب جريدة «مصر الفتاة» أرادوا إيهام أولي الأمر بوجود جمعية سرية يخشى بأسها، فيعتدلون.
غير أن أهم ما تجلى فيه مظهر النهضة الاجتماعية، هو مجموع التغييرات الأساسية التي أدخلها عصر (إسماعيل) على الحياة الاجتماعية المصرية، فجعلت بقاءها على جمودها القديم أمرا في منتهى التعذر، وسيرتها باستمرار نحو بيئات جديدة، وعقلية حديثة، وهو ما توخينا في الفصل التالي.
على أننا، قبل الخوض في هذا الموضوع ، نرانا مضطرين أن نلفت نظر القارئ إلى أننا لا نقصد، من قولنا هذا، الحكم بصلاحية تلك التغييرات الأساسية، واستنكار ما كانت عليه البلاد من جمود قديم؛ أو الحكم بالعكس: لأن ذلك، في كلا الأمرين، يستدعي بحثا ليس له هنا من موضع، وإنما نقصد إثبات واقع، ترك في تاريخ القطر أثرا عميقا، ندع الحكم في صلاحيته من عدمها إلى ذكاء القارئ وتحقيقات الأيام.
الفصل السادس
التغييرات التي أدخلت على الحياة الاجتماعية المصرية فأوجبت تطورها المستمر1
إنما تحمل الشعوب على تغيير نظامها الصحي، وعاداتها، وطرق معيشتها، بتغيير حال مساكنها، وتجديد صميم بيوتها تجديدا كليا.
كاتب عصري (فإسماعيل) وإن لم يغير حال المساكن، ولم يجدد صميم البيوت، بمعنى هذين التعبيرين الحرفي - لأن ذلك كان يقتضي هدم المساكن والبيوت - فقد أقام طوال مدة حكمة عاملا على تغيير عقلية رعاياه: فكريا، وإداريا، وقضائيا، ومنزليا، وسياسيا، واجتماعيا، مع إقدامه على تغيير بيئة المساكن والبيوت، بما جدد من الشوارع القائمة تلك المساكن والبيوت عليها ؛ وما أنشأ من شوارع جديدة مشجرة وعمارات جديدة فخمة على الطراز الغربي بجانب الشوارع والسكك والمباني القديمة، أو على مقربة منها، كما سبق لنا بيانه، وإقدامه، في الآن عينه، على تعديل صميم المساكن والبيوت بما أدخله إلى عقرها من تعليم، وتهذيب، وأفكار، وطرق معيشة جديدة.
أما فكريا، فإن (إسماعيل)، برفع مستوى عقلية أمته، بواسطة المدارس التي أنشأها، والتعليم المتنوع الذي مد موائده الفاخرة فيها، وبإقدامه على عموم الأعمال التي سبق لنا بيانها في الفصول الخمسة السابقة، والتي كان إذا نظر إليها يقول بحق: «إن بلادي لم تعد إفريقية، ولكنها أصبحت بقعة من أوروبا»؛ بل بإقدامه على الاعتناء الفائق بضيوفه الأجانب، اجتهد في أن يطمر الهاوية التي حفرتها الأيام بين المسلمين وغيرهم، بما غير من فكر الغربيين في بلاده وقومه، وبما غير من أفكار قومه في الغربيين؛ فحمل بذلك الغربيين على احترام المصريين وتقديرهم المصري قدره، وتجنب إيذائه لما هو عليه من حضارة وعلم، وحمل المصريين على احترام الغربيين لما يدركونه فيهم من علم وفضل ، ولما يرونه من أمير البلاد، من بذل الحفاوة والإكرام لهم.
ولعلمه أن أحكام الناس على الناس تتكون بالسماع وبالمطالعة، أكثر منها بالامتحان والاختبار الشخصي لم يأل جهدا في حمل كتاب الغرب على مدح التطور المتنوع، الملائم لروح العصر، السائر بمصر في أيامه، باستمرار وسرعة، نحو العقلية الغربية، والحضارة الأوروبية، ولم يكن يستنكف بذل المال في هذا السبيل، بسخاء ملكي، ذهب ببعض المؤلفين إلى المغالاة، وتقدير ما أعطاه للجرائد والكتاب، بنيف وخمسة ملايين من الجنيهات.
ثم إنه، من جهة ثالثة، بما بذله من مساع في سبيل تقييد الامتيازات الأجنبية، ووضع حد لتعديات الأوباش والزعانف من الجاليات الغربية، لا سيما اليونانيين مما سيأتي بيانه في حينه، اجتهد في إزالة حاجز آخر من الحواجز العديدة الكبرى القائمة دون تعديل العلائق بين رعاياه والأجانب، لاختلاف شكل العقلية بينهم.
ولا شك في أن النجاح، إن لم يكن كله، فجله، كلل في نهاية الأمر جهوده هذه، ولئن لم يظهر ذلك جليا في أيامه، فالأسباب لعدم ظهوره خمسة رئيسية: (الأول): وقوف «الشراقوة»، وهم الذين يدعوهم الفرنج «ليڨنتيين» - ومعظمهم يهود - أمام المصريين في زي الغربيين، وادعاؤهم أنهم غربيون، فقد كانوا ينتمون إلى الجنسيات التي توافق هواهم، ولم يكونوا من الانتساب إليها في شيء. كل ما هنالك أن أسراتهم - وقد أثرت من الربا - كانت قد أرسلتهم إلى أوروبا، ليقتبسوا شيئا من معارفها وحضارتها، فلم يقتبسوا إلا «غندرة المتغندرين»، وهم يظنونها منتهى المدنية والرقي؛ وعادوا، فوجدوا ما عليه ذووهم من احتكار المالية المصرية والربا؛ فساروا على خطواتهم؛ وجمعوا من دم الفلاح المصري القناطير المقنطرة من الأموال؛ ونالوا، بواسطتها أو من وراء خدمتهم أهواء العواهل، ألقاب النبل والشرف، فاعتقدوا أنهم عظاميون وعصاميون؛ بينما هم في منتهى الضعة أمام الأقوياء، ويتلسمون من طريق التذلل والمسكنة والتملق الوصول إلى إفراغ جيوب أصحاب النقود في جيوبهم - هم - ولو بفتح محلات للدعارة أو لمجرد الخلاعة، كانوا مملوئين عجرفة وخيلاء أمام الأهالي، لا سيما بعد أن تتكون لهم في صناديقهم الثروات الفاحشة؛ فلا يسيرون إلى أحياء أولاد العرب أو القرى إلا والكرباج في أيديهم، يرفعونه على الفلاح واليومي، لأقل سبب؛ ويستعملونه بقسوة من بلغ الثروة من ذل؛ أي: من لا قلب له، والمصريون، وقد غشهم زيهم، وخدعتهم برانيطهم ورطانتهم، يعتقدون أنهم غربيون، ويحولون إلى الغربيين تيار الكره والاحتقار المثار في قلوبهم من أولئك الليڨنتيين.
2
و(الثاني): هو أن التجار الغربيين أنفسهم - إلا في بعض استثناءات نادرة وشريفة - كانوا في الحقيقة، حسب تعريف چليون دنجلار، حثالة أممهم وثفالتها، وأبعد الناس افتكارا عن إيجاد منزلة لأنفسهم كريمة في قلوب المصريين، فهم لم يقدموا إلى القطر إلا لغرض الإثراء السريع، سواء أكان ذلك من سبيل ما يحبذ أم من سبيل ما يستنكر، ولو خيروا بين السبيلين لفضلوا الثاني، وأناس هذه صفتهم لم يكن من شأنهم طبعا أن يجملوا فكر المسلمين في الغربيين، ويحملوهم على تحسين علاقاتهم بهم.
و(الثالث) هو أن المصريين، منذ ارتقى (إسماعيل) سدة البلاد، ما فتئوا يرون عرشه محاطا بجيش عرمرم من الجراد الزاحف إليه، من كل أنحاء أوروبا، لامتصاص الثروة العمومية، فكانوا يضعون في إحدى كفتي الميزان اندفاع أميرهم في سبيل تكريم الغربيين، وإدناءهم من نفسه، ووضعه يده في أيديهم، بكل إخلاص ليستعين بهم على بلوغ أغراضه السامية؛ ويضعون في الكفة الأخرى عدم اهتمام ذلك الجراد بما سوى امتصاص موارد الخزينة المصرية، وعدم مبالاته بشيء إلا بجعل كل خطوة من خطوات الأمير، في طريقه إلى العلاء، تفي قنطارا من الذهب يتحول إلى فمه الشره، ثم يزنون الكفتين، فيرون من أنفسهم امتعاضا من الغربيين، على الإطلاق، وإحجاما عن التعدية إلى حبهم واحترامهم.
و(الرابع): هو أن المصريين أنفسهم - وكانوا قد رأوا تهافت «الشراقوة» والتجار الغربيين على مدح (إسماعيل)، والترنم بالثناء عليه، آناء الليل وأطراف النهار، وتعظيم أعماله ونياته، وتمجيدها بكل لسان، وفي كل مكان، وعلى صفحات الجرائد المتنوعة، طوال ما كانوا يرجون منه ربحا، لا سيما غير مشروع، وطوال ما تمكنوا من امتصاص ثروته، وثروة البلاد بالتكاتف والتضامن - رأوهم، أول ما أناخت الصعوبات المالية بكلكلها على البلاد، يقلبون لذلك الأمير ظهر المجن، ويتطاولون على مقامه السامي، ويشتمونه ويمرغون اسمه في الأوحال، لا لسبب، إلا لأنه أراد التوقف على شفا الجرف الفظيع الذي جروه إليه، ورغب في منع شيء من فريستهم عن أفواههم المفغورة.
و(الخامس): وهو الأهم، هو أن المصريين أيضا - وقد ذكروا ما كان من أميرهم في بسط بساط الهناء لعواهل الغرب وكبرائه، وفي جمع أنواع السرور والملذات حول سياحاتهم في قطره؛ وذكروا أن جانبا عظيما من ثروته وثروة بلاده أنفق في إقامة معالم الأفراح لقدومهم، ونشر موائد الاحتفالات بإقامتهم في قصوره، وتنقلاتهم بين منتزهاته وجناته؛ فاعتقدوا، دهرا، أن أولئك العواهل والكبراء باتوا من أعظم المخلصين له، ومن أميل الناس إلى تعضيده في مشروعاته، وشد أزره في مهماته، وأقربهم إلى الأخذ بيده في ساعات شدته والدفاع عن مصالحه في أوقات حرجه - رأوا أولئك العواهل والكبراء أنفسهم - لأن الشرقيين لا يعرفون الدول وإنما يعرفون ملوكها - يتكالبون عليه في عسره؛ ويتألبون عليه في ضيقه، وبينما هم لا يحركون ساكنا للدفاع عن رءوس أموال دائني دول أخرى كتركيا وجواتيمالا ونيكاراجوا وغيرها - مع إيقان أصحاب تلك الأموال من ضياعها - يقلبون صفحة السماء على بطن الأرض في سبيل الدفاع عن دائنيه، هو، مع علمهم أنهم استوفوا فوائد ما أقرضوه إياه، وأصله؛ وأنه، هو وفلاحيه، باتوا أحق بأن يدافع عنهم من أولئك المرابين الشرهين؛ وسيطلع قراؤنا على تفاصيل ذلك جميعه في سياق كلامنا التالي.
على أن هذه الأسباب الخمسة الرئيسية، وإن قامت دون ميل قلوب المصريين إلى الغربيين، وأوجبت نفور شعورهم منهم، لم تحل دون تطور العقلية المصرية في وجهة النظر إلى أفاضل الغربيين، نظرة الإكبار والإجلال، وعدم تنقيص شيء من الاحترام الواجب لهم، لداعي كونهم غير مسلمين؛ وأخذهم عنهم ما هم في حاجة إليه من المعارف النافعة لهم في حياتهم برغبة صادقة وهمة عرفت قيمة الحياة الجديدة.
فنحن مدينون (لإسماعيل) بهذا التطور؛ مدينون له بتمكننا من السير في مضمار الحياة المدنية حسب مقتضيات الظروف، ولا قيود على أيدينا وأرجلنا، ولا حاجة بنا إلى استئذان علماء الدين في ذلك، كما كان أولا.
إن (إسماعيل) لما أقدم على تحقيق الشطر الأول من الخطة التي رسمها لنفسه، ووجد أنه ملاق حتما في تنفيذها عقبات جمة عند كل خطوة يريد أن يخطوها، ضرب بذلك جميعه عرض الحائط، إلا ما كان منها متعلقا بالدين أو الشرع ووطن نفسه على السير في طريقه، مطلق الذراعين، حر الحركات غير متقيد بما فطرت عليه الأمم من التمسك بعاداتها، وتقاليدها، وآدابها المتوارثة كيفما كانت: فغير شكل عاصمتيه، وألبسهما لباسا غربيا، وأدخل إليهما الملاهي الأوروبية، كالأوبرا، والتمثيل، والمراقص؛ وشيد المدارس على النظام الغربي؛ وأنشأ معاهد تربية وتعليم للبنات؛ وأجبر فقهاء الكتاتيب على ترقية مداركهم ومعلوماتهم؛ وأدخل على العلوم الأزهرية عينها، وعلى طرق تعيين الأساتذة في ذلك المعهد العظيم، تحسينات وتعديلات هامة؛ ومنح الأراضي والمنازل للمدارس الأجنبية بل لذات الإرساليات المسيحية؛ ونفحها ببدر من المال؛ وغير نظام الوراثة؛ ومنح شعبه حكومة نيابية؛ وما هو أكثر من ذلك جميعه، عقد القروض بفوائد، لتنفيذ أعمال الحضارة والعمران التي استوجبها تحقيق ذلك الشطر من خطته وأقام التماثيل، دون أن يقع في خلده مرة أن يقيد بقيد أو أن يستفتي في أي شيء مما عمله.
وربما شجعه على استمراره في الانطلاق من القيود، التي تقيد بها جده نفسه، أنه، في المرة التي طلب فيها رأي أرباب الدين - أي قبيل تعاقده مع دولة الإنجليز على منع تجارة الرقيق منعا باتا، وجد منهم تعنتا وجمودا أثارا غضبه في صميم كيانه، فشيخ الإسلام ومفتي الديار عارضا في ذلك؛ زاعمين أنه مخالف للأصول الدينية، وانضمت إليهما في المعارضة هيئة العلماء بأسرها، فعزل (إسماعيل) الشيخين؛ وأنذر بإلغاء عموم هيئة العلماء، إذا استمروا على معارضتهم.
ولم يبال (إسماعيل) بهم ووقع تلك المعاهدة، وقوى عزيمته على إلغاء الرق بطريقه المعروف في زمنه أن الدين الإسلامي شديد الرغبة في منع الاسترقاق متشوف دائما إلى الحرية وإطلاق الأنفس من قيود العبودية.
فلما رأى الناس منه ذلك - والناس على دين ملوكهم - أخذوا، رويدا رويدا، يغيرون أفكارهم الأولى ؛ ويفقهون معنى الجهاد في هذه الحياة الدنيا.
ومع أنه كان يخالف العلماء فيما يراه مصلحة، كان يغار على دينه أن يلصق به ما ليس منه من البدع فيجتهد في محوها. من تلك البدع: «الدوسة» و«الأذكار» و«السحر» و«التنجيم».
أما الأذكار، فأمرها معروف؛ لأنها لا تزال معاصرة لنا، ولم تجد مجهودات عهد (إسماعيل) في إبطالها، أو على الأقل حصرها في دائرتها العبادية المعقولة، شيئا.
وأما «الدوسة»، فقد كانت حفلة تقام في آخر أيام المولد النبوي، حيثما كانت تقام أعلام هذا المولد؛ أي: في الأزبكية، أولا، لما كانت على حالها القديمة؛ ثم بعد ما أدخل الإصلاح والعمار عليها، في جهة القصر العالي.
فكانت جماهير الدراويش والآخذين على المشايخ عهودا - بعد إقدامهم على إقامة الأذكار، حتى يعتورهم الخور - يأتون إلى متسع من الأرض متروك أمام صواوين المولد وخيامه، ويستلقون مرصوصين، كأنهم الحجارة، الواحد بجانب الآخر؛ ثم يأتي الشيخ الخضري، شيخ السعدية، وقد تجلت عليه الجلالة فأسكرته؛ ووضع على رأسه عمامة واسعة ثقيلة؛ وركب جوادا مطهما، أخذ يترنح على ظهره، ذات اليمين وذات الشمال، وحركات رأسه، صوب الجهتين، تقترن بذلك الترنح؛ وأقام اثنان من أصحاب العهود على جانبيه، يسندانه، لئلا يزداد خور قواه من ذلك الترنح، فيقع على الأرض؛ ويسير بجواده، وهو على تلك الكيفية، فوق صفوف الدراويش المنطرحين أرضا، وقد فرغ المنوط به أمر ملاحظتهم من تصييرهم تماما إلى حال الشارع المرصوف، الذي لا يبرز فيه حجر عن المستوى العام، فيدوسهم بلا مبالاة، تطقطق أعضاء من تطقطق أعضاؤه، وتنخلع عظام من تنخلع عظامه، ويتهشم من يتهشم: فما يصاب بأذى إلا من قل إيمانه، أو ثقلت كفة آثامه
3
على ما هو في اعتقادهم الذي ورثوه عن الجاهلين.
غير أن هذه الحفلة الفظيعة لم تكن تقام إلا في العاصمة؛ وأما في الأرياف، فكانت مجهولة، لا يسمع الفلاحون بذات اسمها.
فبذل (إسماعيل) ما في وسعه لإبطال بدعة الدوسة الشنيعة؛ وكثيرا ما حدث زائريه من الغربيين عن رغبته في إبطالها؛ ولكنها كانت متأصلة في العادات ، تأصلا عميقا، كادت تكون معه جزءا من العقائد، فلم يتمكن من تحقيق رغبته في إبطالها لمعارضة مشايخ الطرق في ذلك، وما فتئ يظهر لرعاياه اشمئزازه من الدوسة، واستنكاره إياها، إما بالامتناع غالبا عن حضور حفلتها، وإما بالتأفف منها جهارا حين حضوره إياها.
على أن مجهوداته في هذا السبيل إن لم تثمر في عهده الثمرة التي كان يروم قطفها، فقد كيفت عقلية قومه وعدلتها، تكييفا وتعديلا مكنا من إنضاج تلك الثمرة في عهد خلفه، وجعلا إلغاء بدعة الدوسة، الشائنة للإسلام، أمرا ميسورا.
أما «السحر والتنجيم»، فقد كانا رائجين بمصر رواجا حمل (عباس الأول) نفسه على إصدار أمره بأن ينفي من العاصمة إلى أقاصي الصعيد السحرة والمنجمين، وقد كانوا انتشروا في جميع أحيائها وشوارعها وحاراتها، جلوسا أمام رملهم المبسوط.
وكثيرا ما كان اعتقاد الناس بالتنجيم والمنجمين يؤدي بهم إلى تمكين أولئك النصابين من نقودهم، إما احتيالا - وهو ما كان الغالب - وإما بطرق جنائية خفية، كما كان يفعل، ما بين عابدين والسيدة زينب، ذلك المنجم الشرير، الذي أغوى أكثر من مائة سيدة على أن يأتين إليه بحلاهن كلها لضرورة وجودها معهن أثناء عمليات التنجيم، وقتلهن واحدة واحدة، ليستولي على تلك الجواهر.
4
فكان يتحتم على (إسماعيل)، في سعيه إلى تغيير عقلية قومه، أن يجتث جذور اعتقادهم بالسحرة والمنجمين، ولكن هل كان ذلك في الإمكان، واعتقاد القوم فيهم يرجع إلى زمان بعيد جدا.
إن ذلك لم يكن ممكنا إلا بنشر أنوار العلم الصحيح، وتعميمها بين طبقات الأمة كافة؛ وهو ما بذل (إسماعيل) جهده في سبيله، كما سبق لنا بيانه، ولا شك في أنه صدم قواعد ذلك الاعتقاد، صدمة زعزعت بنيانها، وجعلتها أضعف من أن تستطيع مقاومة تيار التنور السائر نحو العقول باستمرار، في مجرى التعليم الموجه إليها.
على أن العقبات القائمة دون تحقيق الرغائب لم تكن متولدة عن موروثات الماضي فقط؛ بل إن بعضها كان ناجما عن شبهات حاضرة؛ ومعززا بضعف في دروع القائمين بحركة الإصلاح أنفسهم.
فمن الشبهات المائلة بالعقول إلى الاعتقاد بصدق التنجيم والمنجمين، ما صدر عن منجم تركي وفد إلى القطر ومعه خاتم كان فصه الأحمر ينقلب إلى لون أبيض أثناء الاختبارات؛ فيرى طالبو هذه ظل ما يسألون عنه كأنهم يرونه في مرآه مياه صافية، وقد قام ذلك التركي بتجربة تحول حمار ذلك الفص إلى بياض في سراي الإسماعيلية عينها أمام الأمير محمد توفيق باشا ولي العهد.
5
ومنها ما صدر عن منجم آخر أنبأ ولي العهد هذا نفسه، بحضرة وزير الحربية، بما سيصيب الجيش المصري من انكسار في حملته على الحبشة، أيام كان ذلك الجيش يستعد للمسير إلى محاربتها.
6
نعم إن ميل عقل الأمير محمد توفيق نحو التصديق بمثل هذه الأمور كان مشهورا، وحاملا على إضعاف الثقة بكل ما يروى عن التجارب المعمولة من أي منجم أمامه، ولكنه يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن ميل معظم العقول، في ذلك العهد، كان كميل عقل ولي العهد؛ وأن تناقل الألسنة الأنباء عن إجراء التجارب والاختبارات أمامه، واعتقاده بصحتها، كان من شأنه أن يوطد دعائم التصديق بالتنجيم والمنجمين في ألباب العامة.
ومن أدهش مظاهر الضعف في درع (إسماعيل) عينه - وهو العامل على تقويم عقلية رعاياه - الشعور الغريب الذي كان، من جهة، يحمله على كره الإقامة بالإسكندرية؛ لأن منجما أنبأه في حداثته أنه يموت فيها - ونحن نعلم الآن أنه أنبأه بكذب! - وكان، من جهة أخرى، يحمله على الإحجام عن أي عمل ذي بال في يوم الخميس.
ويحكى، للدلالة على ذلك، أنه كان مرة عائدا من الأستانة إلى مصر، على ظهر المحروسة، فقيل له إن الوصول إلى الإسكندرية يكون يوم خميس، فأصدر أمره إلى رجال الآلات بالوصول يوم الأربعاء، فأجابوا: «هذا محال»، فاستدعى (إسماعيل) الميكانيكي الإنجليزي، وقال له: «أريد، حتما، أن نصل إلى الإسكندرية يوم الأربعاء»، فأجابه: «هذا لا يمكن يا مولاي!» فقال (إسماعيل): «يجب!» قال الميكانيكي: «إني إذا حاولت ذلك قد أنسف المركب!» فقال (إسماعيل): «إذا وصلت بنا يوم الأربعاء جعلتك بيكا، وإن لم تصل طردتك من خدمتي!»
فأوشك الميكانيكي أن يحرق المراجل، ولكنه وصل يوم الأربعاء؛ وكان، بعد ذلك، يقول: «لم أدن، في حياتي، من الموت، بقدر ما دنوت منه في ذلك الظرف!»
7
ولكن هذا الضعف في (إسماعيل) لم يمنعه عن مقاومة تيار السحر والتنجيم في أمته، لعلمه بمقدار ضررهما عليها، ولعلمه بأنه إذا صح أن يقال لمربيي الأخلاق من الأفراد:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فهذا قول لا يصح، إذا وجه للمصلحين من قادة الأمم، أن يقعد بهم عن الإصلاح!
وأما إداريا وقضائيا، فقد عمل (إسماعيل) على تغيير عقلية رعاياه، بإقدامه، من جهة، على إنشاء شرطة مختلطة منظمة في البلاد؛ ونزعه، من جهة أخرى، السلطة القضائية من أيدي رجال الإدارة، لحصرها في هيئات قضائية خاصة.
أما الشرطة، فقد كانت، حتى أوائل حكمه، محصورة فيمن كانوا يدعونهم «القواصة» وواحدهم «قواص»، وكانوا، في الغالب، رجالا من جهلاء الأتراك أو مردة الأرناءوط، لا يدرون من أمور الضبط والربط سوى مصادرة الأفراد، والاعتداء عليهم بالضرب والإهانة، ومهاجمة البيوت وارتكاب المنكر، إذا ما كلفوا بضبط واقعة؛ وسوى المطالبة بالبقشيش والرشوة، إذا ما سلم إلى عهدتهم سجناء، فإذا ما كلفوا بالمساعدة في نكبة كحريق أو خلافه، اغتنموها فرصة للنهب والسلب؛ كالقواص الذي استدعي لإطفاء حريق، فدخل المنزل المشتعلة فيه النيران وضبط وهو يبدل قميصه المرقع من أحد قمصان صاحب البيت الفاخرة، فلما سئل عن السبب الذي حمله على ذلك أجاب: «ألم يكن ذاهبا طعمة للحريق؟ أفألام إذا استخلصته لنفسي؟»
8
وكان قد بلغ من سوء سمعة أولئك القواصة أن الناس، لا سيما الفلاحين، باتوا يخوفون بهم، أو بمجرد ذكر اسمهم، أولادهم، فيقولون لهم حينما يريدونهم أن يكفوا عن عمل غير مستحسن: «الجندي جاء»؛ كأنهم يقولون لهم: «جاء البعبع!»
على أن هؤلاء القواصة كانوا يجبنون أمام الفرنج، ولا يجسرون على مطاردة مجرميهم، لا سيما بعد تمادي القناصل في الإساءة إلى الأمن العام، بمد ظل الامتيازات فوق أولئك المجرمين، لحمايتهم من طائلة الشرائع، لذلك اضطر أولئك القناصل إلى اتخاذ قواصة لأنفسهم، يستخدمونهم في شئونهم الإدارية والقضائية مع رعايا حكوماتهم، بالرغم من علمهم بأنهم قلما يصلحون لأن يعتمد عليهم في مهم أو ملم، لشدة حبهم للبقشيش، وميلهم إلى الرشوة.
فقد كان يحكى عن قواص من قواصة أحد قناصل فرنسا في القطر، أنه قاد ذات يوم إلى سجن القنصلية فرنساويا حكم عليه بالحبس، وبعد أن أدخله فيه، مد يده إليه، وطالبه ببقشيش على الخدمة التي أداها له، بمرافقته إياه إلى ذلك السجن.
9
فنشأ عن ذلك وجود نظامي ضبط في البلاد، بجانب أنظمتها الإدارية المتعددة، كان من شأنهما الذهاب بالمرة بهيبة هيئة الشرطة، وجلب ويلات على القطر لا توصف.
فعهد (إسماعيل) إلى الإيطالي تمستكلي صوليرا، بإنشاء هيئة ضبط مختلفة، يركن إليها في عمل المحاضر؛ وكلفه بتنظيمها بحيث تغني البلاد عن القواصة كلهم، سواء أكانوا قواصة الحكومة أم قواصة القناصل - وهو يرمي، بإيجادها، علاوة على رغبته في توطيد الأمن، إلى نزع عقبة من العقبات العديدة المعترضة سبيل قضائه على الامتيازات.
فقام ذلك الإيطالي بالمهمة التي كلف بها؛ وأنشأ الشرطة المختلطة المطلوبة في العاصمة والثغور والبنادر، من خيرة رجال هيئة الضبط القديمة، ومن رجال خبيرين بالعمل، مدربين عليه، أتى بهم من أوروبا، لا سيما من إيطاليا - وهذا هو السبب فيما نجده، في ذات أيامنا هذه، من كثرة عدد الإيطاليين في رجال بوليسنا، لا سيما بالعاصمتين، وبورسعيد، والسويس.
فبرزت هذه الهيئة الجديدة أمام أعين المصريين في مظهر الساهر، حقيقة على الراحة والطمأنينة العامتين، الكالئ الأمن العام، حقيقة بعين لا تنام.
وقد كان كبار رجال الإدارة - كالمديرين في الأقاليم، والضابط في العاصمة والإسكندرية - يحملون عصا الإدارة بيد، وسيف القضاء بالأخرى، فكانوا في وقت واحد رجال الحفظ، ورجال الحكم، ورجال التنفيذ؛ فيؤدي بهم ذلك إلى الاستبداد والتجاوز، حتى إذا كانوا غير مجبولين على شيء منهما؛ فكيف بهم وهم مجبولون على الظلم، مولعون بالشر.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
فيحكى عن عبد الرحمن بك مدير الدقهلية في أيام (محمد علي) الأخيرة أنه صادر رجلا من المنصورة كان له في عاصمة الديار قريب يدلي بمحسوبية إلى (عباس باشا الأول) - وكان، في تلك الأيام، والي القاهرة - واغتصب منه أملاكه، فذهب الرجل إلى قريبه، واشتكى له من تصرفات المدير؛ فبلغ قريبه شكواه إلى (عباس باشا)، فكتب حفيد الباشا العظيم خطابا إلى عبد الرحمن بك، شديد اللهجة، هدده فيه بالعزل، وما هو أوعر منه؛ وأمره برد ممتلكات الرجل إليه؛ ثم بعث بذلك الكتاب إلى المدير مع نفس المشتكي، فما كان من عبد الرحمن بك، حينما استلمه وقرأه، إلا أنه استدعى الجلاد في الحال، وأمره بضرب عنق الرجل؛ ففعل، ولم ينتطح في أمره عنزان، ثم مضت أيام، واتفق لعباس باشا أنه زار مدينة المنصورة، فاغتنم أهل المقتول فرصة وجوده بين ظهرانيهم، وأعلموه بواسطة محسوبه بما كان من أمر اعتناء المدير بخطابه، واحترامه لمضمونه، فاحتدم (عباس) غيظا، واستدعى عبد الرحمن بك، وانهال عليه شتما وسبا، وأوشك أن يأمر بقتله، لولا أن عبد الرحمن بك تدارك الأمر، وألقى تبعة قتل الرجل على الجلاد؛ وبعث وراء هذا وأحضره، وباغته زجرا وإهانة لكيلا يدع له سبيلا إلى الكلام، وزعم «أنه قتل ذلك المسكين من تلقاء نفسه، لظنه أنه بذلك يرضيه، مع أنه لم يكلف إلا بتوصيله إلى الباشكاتب ليرد أملاكه إليه»، وقبل أن يفيق الجلاد إلى نفسه، ويفهم من المقصود بالكلام، أمر عبد الرحمن به فضربت رقبته بين يديه، فهدأ غضب (عباس)، وذهب دم الرجلين هدرا.
10
ويحكى عن أحد نظار الأقسام في الوجه البحري، أنه شدد على فلاح في إحدى القرى، في دفع أموال عليه، تبلغ قيمتها ستين قرشا، ولما لم يتمكن الفلاح من دفعها، ضبط الناظر بقرته الوحيدة، وعرضها للبيع، نظير المبلغ المطلوب، فلم يقدم أحد من القرويين على مشتراها، لعدم وجود مبلغ الستين قرشا عند أحد منهم، فأحضر الناظر جزار الناحية وأمره بجزر البقرة، وتقطيعها إربا إربا، ستين عدا؛ ففعل، فأجبر الناظر القرويين على أن يشتري كل واحد منهم قطعة بقرش، وأعطى الجزار رأس البقرة، مقابل تعبه، فرفع الفلاح تظلمه من عمل الناظر إلى أحمد الدفتردار بك، المخيف، زوج زهرة هانم بنت (محمد علي) - وكان، في تلك الأيام، مفتش الوجه البحري - فأحضر الدفتردار الناظر، وأنبه بعنف، لا على جزره البقرة فقط، بل على بيعه إياها بستين قرشا، في حال أنها كانت تساوي مائة وعشرين قرشا، كما دلت الاستعلامات التي أخذها في ذلك الشأن، ثم أحضر القروبين، وزجرهم بشدة على كونهم اشتروا القطعة بقرش، بينما هم يعلمون أنها تساوي قرشين، وأحضر أخيرا الجزار، ووبخه على جزره بقرة ذلك الفلاح التعيس، مع أنها كانت كل ما يمتلكه من الحطام الدنيوي، فقال الجزار: «إني، يا مولاي، عبد مأمور، ولم أفعل سوى ما أمرت به»، فقطب الدفتردار حاجبيه وقال: «أولو أمرتك بأن تفعل، في هذا الناظر، ما فعلت بالبقرة، أتفعل؟» فأجاب الجزار: «قد قلت لمولاي إني عبد مأمور، أطيع الأوامر التي تصدر إلي!» فقال الدفتردار: «هلم، إذا، واجزر هذا الناظر كما جزرت البقرة!» ففعل، فقال له الدفتردار، وقد جمد الدم في عروق جميع الحاضرين : «والآن، قطعه ستين قطعة، ما عدا الرأس!» ففعل، فأمر الدفتردار، حينئذ، القرويين المجتمعين بأن يشتري كل واحد منهم قطعة من تلك القطع الفظيعة، بقرشين، فتكون لديه مبلغ قدره مائة وعشرون قرشا سلمه إلى الفلاح، قائلا: «خذ، هذا ثمن بقرتك، فاذهب واشتر غيرها!» ثم التفت إلى الجزار، وقال له: «كما أنك أخذت رأس البقرة جزاء لك على تعبك، خذ بالمثل، رأس الناظر جزاء لك على تعبك في جزره وتقطيعه!» وضحك ضحكا فظيعا، وانصرف.
ويروى عن ضابط القاهرة - وكان بمثابة حكمدارها ومحافظها معا - في أيام (عباس) الحكاية المزعجة الآتية: اقترن تركي، من أعيان الدرب الأحمر، بفتاة يقال لها: خديجة، كانت من أجمل النساء رواء، وأكملهن قواما، وأبدعهن محاسن، فجن فيها إلى درجة، هجر معها، كل نسائه الأخريات وسراريه، وسكن إلى خديجة، وحدها، يعبدها ويتمتع بها، ولما كان الرجل على غنى مفرط، ومشهورا بالطيبة، وكرم الأخلاق، علاوة على أنه لم يكن دميم الخلقة، فما وجدت في الحي امرأة إلا وحسدت خديجة على حسن بختها، وصعود حظها؛ كما أنه لم يوجد في الحي رجل، إلا وغبط ذلك التركي على النعم الجمة التي من الله عليه بها، وكان الكل يعتقد أن عيش الزوجين هنيء رغيد؛ وأن كليهما ممتع بقرينه تمتعا تقر به العين، ويرتاح إليه الفؤاد.
فاتفق، ذات ليلة، أن ضابط القاهرة، في تلك الأيام، خرج يتعسس تحت أجنحة الدجى، متدججا بسلاحه، ومصطحبا معه قواصين من رجال الشرطة، مسلحين أيضا، والجلاد وسيفه معه، فجاس بهم خلال الحارات والأزقة، يستطلع أحوال الأمن، ويجس نبضه، فوجد المدينة نائمة، هادئة، لا يقلق جسمها عارض مطلقا.
فعن له أن يجوس، أيضا، خلال الخرائب والأطلال القائمة على أنقاض الماضي، بين ميدان الرميلة والإمامين؛ وبين القلعة والسيدة نفيسة؛ لعلمه أنها الملجأ الذي يؤمه، عادة، قطاع الطرق، ومرتكبو الجرائم، فرادها، الواحدة بعد الأخرى، ولم يجد فيها ما يستوقف الانتباه، وبينما هو يستعد للرجوع، إذا ببصيص نور في أبعد تلك الخرائب موقعا، يتسرب من فتحة صغيرة إلى الظلام الحالك الخارجي، فاستوقف نظره، فسار الضابط نحو منبعثه، ودخل الخربة، بقدم ثابتة صامتة، ومعه الجلاد فقط، وأما القواصان، فأوقفهما خارجا، وما لبث أن أصبح على مقربة من الحجرة المنبعث منها النور، وإذا بعبد أسود يتكلم بصوت مسموع مع فلاحين، تفرس الجلاد في أحدهما، فعرف أنه أخوه، وتفرس الضابط في العبد، فعرف أنه عبد السري التركي في الدرب الأحمر، المتحدثة الألسن بسعادته وحبه لزوجته، وحب زوجته له.
فأصغى إلى المحادثة الدائرة بينهم؛ وإذا بالعبد، وقد اتضح أنه مرسل من قبل سيدته، يتفق مع الفلاحين على أنهما، مقابل مبلغ من النقود، عينه لهما، يقصدان في الليلة التالية، منزل ذلك السرى، إذ يكون، هو (العبد) في انتظارهما، عند باب البستان المحيط بالمنزل؛ فيفتحه لهما، ويدخلهما منه؛ فينقض الثلاثة على التركي، وهو يتناول طعام العشاء مع زوجته، في كشك في البستان؛ فيقتلونه بمساعدة الزوجة، الراغبة في التخلص منه، لكراهتها إياه، وغرامها بشاب من الجيرة، يدعى سليم أغا، كانت ترغب الاقتران به واتفقت معه على أن يحضر قبلهما، ويشترك معهم في ارتكاب الجريمة.
فأول ما بدا للضابط، لدى سماعه تلك المحادثة، أن ينقض على أولئك المجرمين، ويقبض عليهم، ويحاكمهم، ويعدمهم في الحال، بمساعدة قواصيه والجلاد، ولكن ترويه المعتاد عاد إليه، وحمله على تعديل ذلك الفكر، ورسم خطة للسير تضمن القبض على جميع المجرمين، وهم على وشك ارتكابهم الجريمة، حتى يقتنع نفس الزوج باشتراك زوجته معهم فيها، فخرج بسكوت تام، وعاد إلى الضابطة، وشرع يتأهب للعمل الذي نوى عليه.
وكان قد آنس من الجلاد انفعالا غريبا، ورآه يتفرس في أحد الفلاحين؛ فأدرك، من حينه، أنه لا بد يعرفه، بل قد تكون بينهما قرابة، فكلف أحد رجال الضابطة بمراقبته، بدقة، طوال تلك الليلة، وطوال النهار التالي لها، فراقبه القواص، وإذا بالجلاد قد شرع، منذ أن بزغت أنوار الفجر، يفتش على أخيه في جميع الأماكن التي يظن تردده عليها ممكنا؛ وفي كل مخابئ الخرائب القائمة حول البلد، فأحاط القواص الضابط علما بذلك؛ فتيقن الضابط أن حدسه قد أصاب؛ وأخذ يتصور الليلة محفوفة بحوادث مفجعة أكثر مما تصوره في بادئ الأمر.
فلما غربت الشمس، أخذ عشرة قواصة والجلاد، وسار بهم، وكمن في جوار منزل التركي؛ ثم تقدم نحو باب البستان المقابل للباب الذي اتفق العبد مع الفلاحين على إدخالهما منه، ولما كان معه من آلات فتح الأبواب ما لا يستغني عنه رئيس شرطة مطلقا، فتحه بهدوء وأدخل رجاله، وهم كأنهم أشباح، وأقامهم في ظل الأشجار يتربصون.
وكان يعتقد أن أول القادمين سيكون سليم أغا؛ وذلك لتيقنه من أنه متفق، حتما، مع الزوجة الخائنة، وكان سليم أغا هذا شابا من ذوي اليسار، شديد الميل إلى مداعبة السيدات وإغوائهن، كثير الحوادث الغرامية، الموجبة، أحيانا، تداخل رجال الضبط فيها، ولذلك كان ضابط العاصمة يود أن يكون شريك خديجة فيما دبرته لزوجها، لكي يقضي عليه، ويعيد الطمأنينة إلى أرباب عائلات كثيرة، كانت حركات ذلك الشاب تقلقهم على بناتهم وعقيلاتهم.
غير أن سليم أغا - ولو أنه أفسد، بلحاظه، قلب خديجة على زوجها، وأخرجها عن جادة الأمانة المطلوبة منها له، بل واتفق معها على أن يقترن بها، فيما لو طلقت من بعلها - كان أبعد من أن يقترف إثما فظيعا كالمنوي اقترافه، أو يشترك مع مقترفيه في اقترافه، فكان يجهل كل التدبير؛ ولكنه كان مصمما على الذهاب، في تلك الليلة، إلى بستان خديجة، إجابة لدعوتها، وهو يظن أنه إنما يذهب إلى الملتقى لغرامه ولذته، ولو ذهب، للقي حتفه. غير أن امرأة أخرى، في ذلك الدرب عينه، كانت هي أيضا مغرمة به، بالرغم من اطلاعها على مقابلاته لخديجة - وكانت قد نظرت، من نوافذ بيتها، تجمع رجال الشرطة بالقرب من منزل التركي، فانسلالهم إلى بستانه - فما رأته سائرا نحوه، إلا وتدلت من شباكها، وأنذرته بوقوعه بين مخالب خطر مميت، إن هو لم يعدل عن السير إلى خديجة، في تلك الليلة، فعدل سليم أغا عن الذهاب؛ ورجع إلى بيته، بتأثير عامل خفي لم يدر ما هو، وقضى ليلته، وهو مشغول البال، مبلبله.
فلم يمض على تربص رجال الحفظ زمن، إلا ورأوا السرى التركي وزوجه خارجين من المنزل، وسائرين نحو الكشك، الذي كانا يتعشيان فيه - وكانت الليلة مقمرة - ثم رأوهما يجلسان الواحد بجانب الآخر، ويبديان لبعضهما من مظاهر الغرام ما أشعل نيران الشهوة في ظهور الشبان من أولئك الرجال، وأهاج الشجون في صدر الضابط.
ومضت، وتلك المظاهر قائمة، فترة من الزمان؛ وإذا بباب البستان المتفق عليه بين الأوغاد انفتح، ودخل الفلاحان وراء العبد ينسلان.
فدنا الضابط من الجلاد، ووضع رأس خنجره على قلبه، وقال له، وهو ينظر إليه بعينين، كأنهما الفولاذ القاطع: «إن تبد حركة، أية كانت، ومهما خفت، اتخذتها علامة منك لأحد الفلاحين - وأظنه أخاك - تقصد بها إيقافه على ما هو فيه من خطر، قتلتك في الحال!» فارتعدت فرائص الجلاد، وجمد كصنم.
وكان القتلة قد اقتربوا رويدا رويدا من الكشك، وأحست خديجة بدنوهم، فانقلبت بغتة إلى حية ملتوية، وقدحت عيناها نارا؛ وشرعت، والكلام يخرج من فيها بصفير، توجه إلى بعلها أشد الكلام قرصا وتوجيعا، وتظهر له كراهتها وبغضها، وشماتتها بحتفه الذي أصبح قيد شبر.
وبينما هي لا تزال تتكلم، والتركي مأخوذ، مصعوق، لا يدري أفي منام فظيع هو أم في يقظة، انقض القتلة الثلاثة عليه، وسكاكينهم مشهرة، فصاحت الزوجة الخائنة: «اقتلوه! اقتلوه!» ورأى الرجل الموت بعينيه.
ولكنها ما هي إلا لحظة، وإذا بالسكاكين قد أطيرت من أيدي حامليها، ووقعت على الأرض؛ وإذا برجال الشرطة قد أطبقوا على المجرمين وكبلوهم بالحديد، وشدوا وثاق الزوجة الخائنة.
ففتح التركي عينيه واسعتين، وازداد غيبوبة بينما الضابط، والسيف في يده مشهر، يأمر الجلاد بالاقتراب، وضرب أعناق الفلاحين والعبد؛ والجلاد يطيع، صاغرا، ويضرب عنق أخيه، والدموع تنحدر سخية من عينيه.
ولكن زوج خديجة، لما سمع الضابط، يأمر بضرب عنقها أيضا، أفاق من دهشته، وتقدم إلى زوجه، واحتضنها، ومانع في قتلها، بالرغم من تحققه جريمتها. غير أن الضابط ألفت نظره إلى أنها باتت مفضوحة، علاوة على كونها مجرمة؛ لأن نيفا واثني عشر رجلا رأوها مكشوفة الحجاب، فأقلع الرجل عن ممانعته، وتخلى عن زوجه إلى ما قدر لها.
فضرب عنقها؛ وغمس الضابط منديل رأسها في دمها المتدفق، وأرسله في أول ساعات الصباح إلى سليم أغا - هدية دامية من محبوبته إليه - وكان سليم أغا قد قضى ليله كله، هاجسا، فلما ألقي إليه المنديل، علم بأن مأساة وقعت؛ وأن خديجة باتت رهينة القبور!
11
تلك كانت سلطة المديرين ورؤساء الضبط في العاصمتين والثغور؛ وإلى هذا الحد كانت أعمار الناس رهينة إشاراتهم وأهوائهم.
فانتزع (إسماعيل) منهم هذه السلطة، ولئن لم يفصل بين وظائف القضاء والإدارة فصلا تاما إلا في أواخر حكمه، وبعد إنشاء المحاكم المختلطة، إلا أنه من جهة، منع رجال الإدارة من توقيع عقوبات إعدامية لم تصدر بها أحكام؛ وخص رجال القضاء، دون سواهم، بإصدار تلك الأحكام، فكانت النتيجة أن القسوة والفظاعة اللتين اشتهرت بهما عصور الحكم المصري السالفة، إن لم تبطلا في عهده بطلانا تاما، فقد قلتا إلى درجة كادتا تدخلان معها في حيز العدم؛ ومن جهة أخرى، فإن جهوده منذ تبوأ العرش في سبيل إنشاء محاكم نظامية في البلاد، تقبض على كل السلطة القضائية وفروعها فيها - وهي جهود ما فتئ الرأي العام واقفا عليها - أدت إلى تطور فكري في اختصاصات القضاء ووجوب فصله عن الإدارة، لا يزال يتقوى وينضج حتى أيامنا هذه؛ ولو أن تلك الجهود لم تثمر سريعا بسبب مقاومة الدول الغربية، لا سيما فرنسا، لها؛ ولا تمكنت من تكييف ثمرها، التكييف المرغوب فيه، بسبب تلك المقاومة عينها، وسنرى ذلك جليا في الباب الخاص به.
وأما منزليا، فقد عمل (إسماعيل) على تغيير عقلية رعاياه: (أولا) بما أدخله إلى حياتهم البيتية من عادات معيشة غربية، حملت الكثيرين منهم، لا سيما سراتهم، على أن يستبدلوا ما كانوا عليه - كأجدادهم - من طرق جلوس وأكل ونوم واستقبال ضيوف، بطرق جلوس الغربيين وأكلهم ونومهم واستقبالهم لضيوفهم، عملا بالقول المألوف: «إن الناس على دين ملوكهم!»
فإن (إسماعيل) طلق، بتاتا، النظام الشرقي في ذلك جميعه؛ وأقبل يجلس ويأكل وينام ويستقبل ضيوفه، على الطريقة الغربية المحضة. أما جلوسه، فكان دائما على أرائك مرتفعة، فإذا ما شاء الكلام، مدد رجليه على مقعده، حسب عادة الشرقيين، أو نهض وشرع يخطر في الحجرة، ذهابا وإيابا، كجده العظيم، مكثرا من الإشارات اليدوية. أما أكله، فكان على الطريقة الفرنجية البحتة، يدعو إليه، عادة، وزراءه وبعض ضيوف أوربيين؛ ويقدر المدعوون الدعوة جدا؛ لأنه كان لمطبخه شهرة كبيرة في محلها، فالأصناف المقدمة كانت من ألذ المأكولات وأشهاها، وكانت أنبذته من خيرة الخمور الفرنساوية وأشهرها، ولا سيما من النوع المعروف باسم «شاتوايكيم». أما آنية مائدته، فكانت من أفخر ما يكون، مذهبة الحافة تذهيبا خفيفا، ومنقوش عليها حرف «أ» بالذهب الخالص، وكان كثير المحادثة أثناء تناوله الطعام، عملا بالحديث المأثور. على أن محادثته كانت بالفرنساوية دائما، بسبب الضيوف المدعوين إلى مائدته، وكان هو مركز المحادثة؛ لأن وزراءه لم يكونوا - معظمهم - يفهمون الفرنسية إلا قليلا، وكان كلامهم أقل من فهمهم.
12
وأما نومه، فكان دائما على أسرة متخذة من المعادن الثمينة، في حجر يدل رياشها على أنها معدة للنوم، فقط، وأما مقابلاته، فإنها كانت سهلة وبسيطة. يدخل الناس إليها، جماهير، ويجلسون على أرائك، فيحادثهم في مختلف المواضيع ، ويقدم لهم السجاير بدل الشبكات، والقهوة بدل الشربات. على أنه كان يتضايق من المقابلات الرسمية، لا سيما في أخريات أيامه.
لذلك، بعد أن كان الرقاد، في مصر، على طراحات أو على فرش الأرائك، أصبح على أسرة متنوعة، من السرير الحديد إلى السرير البرونز والنحاس الأبيض والأصفر إلى السرير الفضة.
قال إدون دي ليون، بعد أن زار سرايات إسماعيل باشا المفتش، عقب سقوطه: «لاحظت دليلا جديدا على تحول العادات الشرقية إلى المجاري الغربية في هذا القطر، حتى عند الذين لم يتفرنجوا في عقليتهم وأخلاقهم. ذلك الدليل هو إبدال الأرائك بأسرة النوم».
13
وبعد أن كان الأكل على «الصواني» والطبليات، تمد حيثما يتفق، أصبح على موائد مرتبة، في حجر خاصة، مجهزة تجهيزا تدل كل مظاهره على أن تلك الحجر خصيصة بالأكل دون غيره.
وبعد أن كان الجلوس على فرش فوق الأرض، يمد على طول الحيطان، بوسائد مسندة إلى هذه، أو على أرائك مصنوعة طبقا للطراز الإسلامبولي، أصبح على أرائك مرتفعة، تجلب رأسا من بلاد الغرب، أو تصنع في نفس القطر، ولكن على طراز الوارد من الخارج؛ وعلى كراسي من الخيزران، ومقاعد أخرى متنوعة الصنع لم يكن الجيل السابق يستعملها البتة.
وبعدما كان رب البيت، إذا ما أتاه زائر أو ضيف، يقدم له الشربات، فالشبك الطويل، فالقهوة في فناجين ذات ظروف خاصة، أصبح يقدم له، بعد الشربات، السجاير، ثم القهوة في فناجين ذات آذان، قائمة على صحون صغيرة، من جنسها.
وعمل (إسماعيل) ثانيا، على تغيير عقلية رعاياه، منزليا، بما حببه إليهم من استبدال الطرق المعمارية القديمة، بالطرق المعمارية الحديثة، فبينما كانت البيوت في السابق تفصل من الداخل، تفصيلا غريبا، بحوش ومنادر ذات خزاين مرتفعة، ومقاعد غير مستوية السطح، يخرج منها إلى درك قليلة الاتساع، تنتهي إلى سلم ببضع درجات يوصل إلى مقاعد أخرى، منفصلة عن بعضها ومرتفعة عن الأولى ارتفاعا بسيطا، وهكذا، حتى يبلغ إلى أعلى البيت، حيث يوجد ما كانوا يدعونه بالقصر - وهو مقعد يشرف على كل ما تحته، وتنظر السماء من نوافذه دون سواها؛ وبينما كانت أبواب المدخل تجعل إما واطئة، لا يلجها الإنسان إلا إذا أحنى قامته؛ أو واسعة جدا، وفي هذه الحالة، إما أن تكون أبوابها حديدية، أو خشبية ضخمة، كأبواب الحصون؛ وإما أن تفتح في وسطها فتحة صغيرة تستعمل دون غيرها للدخول، ويضطر الداخل منها، أيضا، إلى إحناء رأسه وقامته، إحناء كبيرا؛ وبينما كان خارج البيوت يتعدى، في الغالب، على الهواء والفراغ، فتقوم الأدوار العليا على كتل بارزة عن حائط الدور الأرضي إلى فضاء الشارع، وليس في ذلك الخارج ما يستلفت النظر، سوى المشربيات - وكانت تارة صغيرة، بحيث لا يستطيع أن ينظر منها أكثر من شخص واحد، أو يضع فيها غير قلة واحدة؛ وطورا كبيرة، واسعة وذات «خارجات» من نوعها تكاد تلامس مقابلاتها في الصف الآخر للمباني، أصبحت البيوت تفصل، أدوارا أدوارا، على الطريقة الغربية، كل دور مستوف لوازمه، ومشتمل على حجر يعرف الغرض المعدة له كل منها؛ وأصبحت المداخل تكسى أبهة وجلالا ، فيلج الإنسان منها إلى صحن الدار، وهو رافع الرأس والجبين، مستوي القامة؛ وأصبحت الصنعة تتفنن في خارج البيوت، فتزين الوجهات بالشرفات الرخامية، وبمظاهر هندسة معمارية بديعة، وبالنسبة لاتساع الشوارع الجديدة، وقيام الأشجار على جانبيها، والاستغناء بالتالي عن الحيشان الداخلية، لم تعد تلك الوجهات تجور على الفضاء، ولم تعد أخطار تداعيها وسقوطها بالكثرة التي كانت عليها في السابق.
وعمل (إسماعيل)، ثالثا، على تغيير عقلية رعاياه، منزليا، بما حمل عليه الغربيين والسراة الوطنيين من تشييد القصور والوكالات الفخمة، فوق الأراضي التي وهبها لهم، على شرط أن يقيموا عليها مباني تتناسب أبهتها مع أثمان تلك الأراضي، ولما كان ثمن بعض القطع فيها يربو على الألفي جنيه، فإن رمنجتن والديوك أوڨ سيوذرلند، والكلوب الإنجليزي، وغيرهم، أنشاؤا عليها قصورا بلغ ثمن الواحد منها عشرين ألف جنيه، فنجم عن ذلك أمران: (الأول) أن حب التقليد أخذ يدفع بالأهالي في العاصمتين والبنادر، بل في ذات القرى، إلى تشييد بيوت وقصور على مثال تلك السرايات والمنازل الفخمة؛ وفرشها بالرياش الفاخر، على الطراز الغربي؛ و(الثاني ) أن الحياة المنزلية الأهلية المجاورة للحياة المنزلية الغربية، المقتضية في هذه التشييدات الجديدة، شرعت تزداد بها احتكاكا، وتقتبس منها خصالا من شأنها أن تستبدل، من قديم كثير، جديدا يروق في العين، وأهم ما ظهر ذلك في إقدام الشرقيين على الاقتداء بالغربيين في إقبالهم على التصور شمسيا، وعلى تزيين حجر بيوتهم بإطارات صورهم وصور أصدقائهم الفوتوغرافية.
فإذا أضفنا إلى هذه الأمور الثلاثة، ما أدخله (إسماعيل) إلى صميم البيوت من تغيير في وسائل الشرب والتنوير المادي، ومن تعليم وتهذيب أدبيين، وأفكار جديدة، بواسطة المدارس التي أنشأها والشبيبة التي رباها فيها والجواري المتربيات في سراياته التي كان يزوجهن من وجهاء البلد فيدخلن إلى بيوت أزواجهن نظام تلك السرايات ونظافتها وترتيبها؛ وبواسطة مظاهر الحياة الغربية التي نشر معالمها في عاصمتيه، فإنا لا نرى مندوحة عن الاعتراف بأنه، وإن لم يهدم كل المساكن والبيوت، ليجددها - مع أنه، في الحقيقة، هدم وجدد كثيرا منها - فقد غير حالها في الواقع ، وعدل صميمها حقا، تعديلا يصح أن يعتبر تجديدا محضا، فأصبح ينطبق عليه القول الذي صدرنا به هذا الفصل من كتابنا؛ وبتنا نستطيع أن نحكم بأنه غير، حقيقة، عادات أمته، وطرق معيشتها.
ولا أدل على صحة ذلك من التغييرين اللذين طرآ عليها سياسيا واجتماعيا من وراء جميع ما ذكر.
فأما سياسيا، فإن انتشار المعارف والعلوم في البلاد انتشارا واسعا، وتمكن مقتبسيها العديدين من تهذيب عقلياتهم بأفكار مؤلفي الغرب السياسيين والاجتماعيين، من جهة؛ واحتكاك الحياة المصرية، من جهة أخرى، بالحياة الغربية، على ما كانت عليه هذه الحياة من استقلال في مظهرها الجدي، ومن فوضى في مظهرها المعيب؛ فآثاره ذلك الاحتكاك للانفعالات المختلفة في النفوس؛ أكان الباعث إلى إثارتها مظهر تلك الحياة الجدي، أم مظهرها المعيب؛ ومجهودات (إسماعيل) الذاهبة به إلى الفوز بالاستقلال لبلاده، وإلى إقامتها في مصاف الدول الشرقية الكبرى، من جهة ثالثة - وهي المجهودات التي سيأتي بيانها في حينه - وقد كانت بمثابة نار اشتعلت في الأفئدة والعقول؛ وتنازل (إسماعيل) رسميا، من جهة رابعة، عن جانب عظيم من سلطته المطلقة في ميدان التشريع وربط الضرائب، بإنشائه مجلس النواب؛ وفي ميدان القضاء بتأسيسه المحاكم المختلطة، وخضوعه لأحكامها وقراراتها، راضيا أو مكرها، وتضافر الجاليات الأجنبية بمصر، من جهة خامسة، على الإثراء من أسلاب أمير البلد وفلاحيه «بمساعدة المحاكم المختلطة لهم مساعدة عجيبة» كتعبير القاضي الهولندي فيها المسيو ڨان بملن في كتابه المعنون «أوربا ومصر»
14
زيادة على تضافر الدائنين الأجانب بتعضيد دولهم، لا سيما إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وتعنتهم في أن تدفع لهم فوائد الديون المطلوبة لهم، ولو بإرهاق الفلاح المسكين، وتحصيل الأموال منه سلفا؛ أو بحرمان موظفي الحكومة ومستخدميها من صرف مرتباتهم لهم، أشهرا متوالية؛
15
وقدوم جملة مفكرين شرقيين إلى مصر، وأخصهم بالذكر جمال الدين الأفغاني، وأديب إسحق السوري، وقيامهم يبثون تعاليمهم الحارة في المجتمعات والجوامع والكتب والصحف، من جهة سادسة وأخيرة - كل هذا أوجب تطورا هائلا في الأفكار، وأنجب قيام عدة آمال سياسية في القلوب، ظهر وجودها جليا: (أولا): بما سبق لنا ذكره من جميعات سياسية. (ثانيا): بالفتنة العسكرية التي أدت إلى سقوط الوزارة النوبارية. (ثالثا): بالحركة القومية التي أعقبت إلغاء قانون المقابلة. (رابعا وأخيرا): بالعريضة التي قدمتها الشبيبة المصرية إلى الخديو (محمد توفيق) في أوائل أيام ملكة، والتمست فيها، بلهجة عدائية للغربيين، منح القطر جملة إصلاحات، دعتها «حيوية» له.
وأما اجتماعيا، فإن الملابس والأزياء تغيرت. أولا فترك النساء، في المدن والبنادر، اليلك، والسلطة، والحزام الكاشميري، والطاقية الحمراء الصوف، الموضوعة عدة مناديل عليها، والقرص بما كان يتجلى عليه من حلي ومجوهرات؛ بل ترك معظمهن ذات الضفائر والصفا؛ وتركن الخف والبابوج؛ وأقبلن يلبسن، في داخل منازلهن، الجلابيب والفساتين، مفصلة، لسيدات الطبقة العليا، على المودات الغربية؛ ويضعن الطرح البسيطة على رءوسهن؛ ويلبسن الجوربات في أرجلهن، وفوقها الشباشب، فإذا خرجن لبسن لباسا إفرنجيا من فوقه السبلة، والحبرة واليشمك؛ وأحذية غربية من ذات الكعوب العالية؛ وأقدمن - علامة محسوسة ظاهرة للتطور الحثيث السائر - على أن يصورن، تصويرا فوتوغرافيا، وهن أيضا بملابس إفرنجية؛ وعلى تكبير صورهن الفوتوغرافية، بل على التصور تصورا زيتيا، بوقوفهن أمام مهرة المصورين من الغربيين ، بعد أن كن أضن على غير أزواجهن برؤية وجوههن وقوامهن، من البخيل بديناره العزيز، على السائل.
قال إدون دي ليون: من أغرب الأشياء في موجودات سرايات المفتش «صورة كبيرة جدا، موضوعة في إطار ثقيل مذهب، تمثل ابن المفتش وعروسه - وكانت ربيبة زوجة الخديو الثانية - في قديهما وقامتيهما، فإنها كانت من النوع الذي ينتظر المرء وجوده في قصور الملوك، وبما أن كلا المتصورين لم يكن في لباس شرقي، فإن المشابهة كانت أتم. أما هو، فكان جالسا، مرتديا لباسا إفرنجيا ومكشوف الرأس، وأما هي، فكانت واقفة في كساء غربي من المحتمل الأزرق الثمين، مفصل ومطرز على آخر اختراع الجيل، وعلى رأسها إكليل من ماس يشبه تاجا، يظنها رائيها من صميمات الفرنجيات!»
16
وترك الرجال في المدن والبنادر، أيضا، لا سيما الموظفون، اللباس المغربي والطربوش المغربي، اللذين نراهما على (محمد علي باشا) و(إبراهيم باشا) و(سعيد باشا) في صورهم الرسمية المرسومة في المكتبة المصرية وغيرها ، ولبسوا اللباس الغربي، المرتدي به رجال تركيا في ذلك الحين، وأعني به الإسطمبولية، من تحتها القميص المكوي، والصديري والبنطلون؛ وانتشر، مع شيوع هذه الملابس، استعمال الفرش لتفريشها، وقد كانت مكروهة، لكونها مصطنعة من وبر الخنازير؛ وتركوا المز والمركوب، واحتذوا بأحذية غربية، من تحتها الجورابات، فزال، بذلك، فارق كان يميز المسلمين عن غيرهم من بني وطنهم، ليسوا يدينون بدينهم، فإن مزوز المسلمين ومراكيبهم كانت صفراء؛ وأما النصارى واليهود فقد كان الأصل في لون لبسهم - عامة - ومراكيبهم - خاصة - أن يكون أسود، على جواز استعمالهم اللون الأحمر - إذا شاءوا - وأقلع المتمدينون منهم عن عادة حلق رءوسهم، مع إبقاء شوشة في قمتها، كما كانت العادة المتبعة في الأجيال السابقة؛ وأخذوا يعفون عن شواربهم، وقد كانوا يبالغون في قصها، كما لا يزال يفعل بعض المتعممين في أيامنا هذه، لا كما يفعل المقتدون بالإنجليز من حلق طرفي جانبيها وقص الباقي فيها على سواء الشفة؛ وأخذوا يقصون لحاهم على شكل مستدير، كشكل لحية (إسماعيل) في صوره، وتجاوز البعض ذلك؛ فقلدوا الفرنج، وحلقوا لحاهم بالمرة، وقد كان الإعفاء عن اللحى أمرا راسخا في النفوس، لما كان ولا يزال للحية من احترام عند بعض الشرقيين، لا سيما البدو.
وما زلت أذكر اشمئزاز بعض مشايخ من العربان، زرتهم منذ نيف وخمس وعشرين سنة، إذ رأوا في يدي كتاب سيرة نابليون الأول، وعرفتهم من هو، وما كانت أعماله، فتشوقوا إلى رؤية صورته؛ فأريتها لهم، فوجدوه حليقا! كما أني لا أزال أذكر ما قاله لي بعض مبشري الكنيسة الكاثوليكية الرومانية - وكان قد جاب جهات السلط والكرك، في الصحراء السورية - من أن العربان، هناك، لما رأوا بين يديه صورة حبر المسيحية الأكبر وكان في تلك الأيام لاوون الثالث عشر، ووجدوا أن رئيس الدين الذي يدعوهم إليه، رجل حليق الذقن والشارب، نفروا منه نفورا عظيما وانفضوا من حوله.
ولعل هذا هو السبب في أن مبشري الكثلكة ورهبانها، من الغربيين، يعفون عن لحاهم وشواربهم في الشرق، بينا هم يحلقونها بتاتا في الغرب.
ويذكر، للدلالة على احترام مصريي (محمد علي) أنفسهم للحية، أن أحد مشايخ البلاد في الشرقية لكي يكيد رجلا من ناحيته كان قد اختصمه، قيده في عداد المدعوين للجندية، بالرغم من كونه جاوز السن، وجعل مزين الناحية يحلق له لحيته: لأن قانون (محمد علي) العسكري كان يقضي بحلق ذقون الجنود؛ وأرسله إلى المركز ضمن المرسلين إليه لتوقيع الكشف الطبي عليهم، فوجد كلوت بك - وكان هو الطبيب المكلف بالكشف، وهو الراوي لهذه الحكاية - أن الرجل غير لائق للخدمة، لداعي تجاوزه السن، فأمر بتخليته وإعادته إلى بلده، ولكن الرجل أبى إلا أن ينصفه المأمور، أولا، من خصمه، الذي تسبب له بإهانة عظمى بحلق لحيته، فاستحضر ذاك الخصم، وخير الرجل في أمر مجازاته، فطلب أن يعاملوه مثلما عامله، وأن يحلقوا له لحيته مثلما حلق، هو، لحيته، فطفق الشيخ يرجو ويتوسل، ويعرض كل ما يشاء خصمه أن يطلبه من عوض مالي، ويحاول أن يقنعه بأن حلق لحيته لن يجديه نفعا، ولن يعيد لحيته إليه، فأصر الرجل على طلبه، ولولا أن كلوت بك تداخل بينهما، وأقنع الفلاح بقبول عوض مالي جسيم من الشيخ، لما وجد هذا مفرا من جز لحيته، ولاضطر إلى مغادرة بلده، لكيلا يكون موضع سخرية أهلها، كما فعل غريمه، فإنه أقام في ناحية أخرى، ولم يعد إلى قريته إلا بعد أن رجعت لحيته إلى ما كانت عليه.
17
ويروي بلتزوني، الرحالة البحاثة الإيطالي الشهير، عن أحد مهزاري (محمد علي) أنه أراد التنكر يوما، للمزاح؛ فحلق لحيته وحضر إلى مجلس مولاه، فلم يعرفه في بادئ الأمر؛ ولكنه لما عرفه، أغرق في الضحك، حتى كاد يستلقي على ظهره؛ وجاد عليه ببعض المال. على أن المهزارين رفاقه، أبوا بعد ذلك أن يجالسوه على مائدة أو يخالطوه مطلقا، لزعمهم أنه بحلقه لحيته ارتكب شيئا بات لا يؤهله لأن يكون واحدا منهم، وذلك لأنهم كانوا يعتبرون مخنثا كل من حلق لحيته وشاربيه.
18
وتغيرت ثانيا، كيفية حياة الأغنياء اليومية، فإنهم كانوا، حتى أيام (إسماعيل) الأولى، ينهضون من النوم مبكرين، فيصلون صلاة الصبح، ثم يفطرون ويشربون القهوة، ويدخنون الشبك؛ فيهبون، بعد ذلك، ويلبسون ملابسهم، ويركبون جيادهم، ويخرجون إما للزيارات أو للتسوق؛ وإما لمجالسة صديق حتى تأتي ساعة الغداء، وهي الثانية عشرة صباحا: فيعودون إلى منازلهم، ويتغدون؛ ثم يشربون القهوة، ويدخنون الشبك؛ ويدخلون بعد ذلك إلى دوائر حريمهم، فينامون ساعة أو ساعتين؛ ثم ينهضون، فيغسلون وجوههم أو يستحمون، ويتوضأون، ويصلون صلاة الظهر؛ وبعدها، يتكيفون - والتكيف عبارة عن غيبوبة المرء عن العالم المحسوس، ليعيش برهة غير قصيرة في عالم الأحلام والأماني، معيشة من يرى هذه الأماني والأحلام حقائق، ويستمرئ لذتها استمراء عميقا - فعندما ينتهون من التكيف، يشربون قهوة العصر، ويدخنون شبكا آخر؛ ثم يلعبون دور ضامة أو شطرنج مع أحد أصدقائهم أو أخصائهم، وبعدها، يصلون العصر، ويخرجون للتنزه، أحيانا، مشيا على الأقدام، وفي الغالب ممتطين جيادهم، وفي ركابهم حاملو شبكاتهم، وأمامهم سواسهم، فتزدحم بمواكبهم الأزبكية، فإذا عن لهم، نزلوا ودخنوا تحت أشجارها الباسقة؛ وإلا استمروا في تنزههم، يتفرج بعضهم على بعض؛ وتختلط، أحيانا، بموكبهم، عربة أحد كبار الباشوات المقربين؛ فيتفرجون عليها، ويتفرج الباشا عليهم منها، وكثيرا ما كانت تمر بهم الحمير والجمال، عليها السيدات، جالسات كما كنا نراهن، قبل عهد الترامواي؛ أي: مؤتزرات بحبرهن، وواضعات أرجلهن في ركاب قصير، بحيث تداني ركبهن بطونهن، ويهب الهواء عليهن، فينفخ في حبرهن، فيصرن كالبلونات، ولما تقرب الشمس من مغيبها؛ أي: حوالي الساعة الحادية عشرة، على الحساب العربي، يعودون إلى بيوتهم، فيصلون صلاة المغرب في وقتها؛ ثم يتعشون ويذهبون إلى القهوة التي يميلون إليها، لسماع الراوي يقص سيرة بني هلال وحروب أبي زيد ودياب والزناتي خليفة؛ أو أعمال فروسية عنترة بن شداد، والزير المهلهل وحرب البسوس؛ أو فعال سيف بن ذي يزن، وحيل علي الزيبق وأخاديعه أو يذهبون للسهر، ساعة أو ساعتين، عند بعض الأصدقاء، ويعودون فينامون مبكرين إلا إذا سهروا في فرح أو أقاموا يتمتعون بطراوة الليل، حينما يكسو القمر بأنواره أجنحة الدجى، فضة.
ولكن، بعد انتشار ملاهي المدنية الغربية وأسبابها؛ بعد تشييد الكوميديا والأوپرا الخديوية، واستقدام أكبر الممثلين والممثلات إليهما، وإقامة المراقص فيهما، علاوة على إدخال عادة الليالي الراقصة السنوية إلى الحياة القومية المصرية؛ بعد استيراد العربات بكثرة من أوروبا، حتى غصت بها شوارع القاهرة والإسكندرية، واقتناها معظم السراة فيهما؛ وبعد إقامة حفلات السباق للخيل والهجن في هاتين العاصمتين، وإنشاء حمامات حلوان، اندفع الأغنياء مع تيار الحياة الجديدة التي أوجدتها كل هذه المظاهر الحضرية، واتخذوا خلالا غير التي كانوا عليها.
أما الملاهي، فمن نوع الكازينات والقهوات الغنائية، المنشدة فيها غادات متفننات في سلب العقول والجيوب، كالتي أقيمت على سكة شبرا، وفي بعض نقط من ذلك الشارع، الذي أصبح - لا سيما في أيام العطلة والأعياد، وإلى أن أنشئ الشارع الموصل إلى الأهرام، ووصل بين بري الجيزة والجزيرة ومصر بالكوبريين الجميلين المنشأين في سنة 1872 - ملتقى كل من كان في العاصمة من ممثل للوجاهة، وكرم المحتد، ورفعة المركز، والجمال، والترف.
وأما الكوميديا والأوپرا، فإن الأولى شيدت بالأزبكية في 22 نوفمبر سنة 1867، وقد كان يوجد مكانها، ومكان الأوپرا أختها، بيوت صغيرة حقيرة، فاقترح (إسماعيل) على أصحابها أن يبيعوها له، فرضي بعضهم وأبى آخرون، ولكنه حدث أن حريقا التهم فيما بعد بيوت الرافضين، فاشترى الخديو منهم الأرض بالثمن عينه الذي كان عرضه عليهم في البيوت وهي قائمة وشرع يبني مسرحية فوقها، واحتفل بافتتاح الكوميديا في مساء 4 يناير سنة 1868، فكأن إنشاءها، وتأسيسها، وتجهيزها، وإقامة أول تمثيل فيها - كل ذلك تم في ظرف شهر واثني عشر يوما،
19
ومع أنها كانت، في بادئ أمرها، عبارة عن بناء خشبي، فإن إبرازها إلى الوجود بمثل هذه السرعة لم يكن يخلو من شيء، يعجب له، إعجابا كبيرا، فزيادة على ما استوجبه من الدقة المدخلان اللذان عملا فيها: (أحدهما) حديدي، على الشمال، للخديو؛ و(الآخر) حديدي، كذلك، على اليمين، للحرم المصون، وأميرات البيت المالك، فإن داخل ذلك المسرح كان فخما جدا، مزينا بأبهى الرسوم، وباديا على كل شيء فيه بذخ فائق، لا سيما في كل ما كان يتعلق بلوج الخديو والألواج الثلاثة المغطاة المعدة لأميرات أسرته.
وأما الثانية؛ أي: الأوپرا، فقد بنيت في السنة التالية، في ظرف خمسة شهور؛ وبلغت تكاليفها 160 ألف جنيه، فظهرت، من الخارج ومن الداخل، في المظهر الفخم الذي لا تزال تتجلى لنا فيه، وكلف (إسماعيل) ڨردي، المؤلف الموسيقي الإيطالي، الطائر الصيت، بوضع رواية تناسب المكان والمقام، للاحتفال بافتتاحها، بحضور الإمبراطورة أوچيني، القادمة لترأس حفلات فتح ترعة السويس، فنظم ڨردي روايته الشهيرة المسماة «بعائدة»، وقامت مدام پوطسوني، المغنية البديعة الجمال الأسمر، بتمثيل دور الأميرة الحبشية، فيها، باختيار ڨردي نفسه، وبلغ من إتقانهم المظاهر التمثيلية، أنهم أنفقوا نيفا وخمسمائة وخمسين ألف فرنك؛ منها 12 ألفا للشعر الصناعي، فقط؛ وذلك خلاف ما أعطي لجوقة آلات الطرب (الأركستر) والممثلين (الأرتست)؛ وخلاف ما جاد به كرم (إسماعيل) على الأستاذ ڨردي، وقدره 150 ألف فرنك.
20
فكانت نتيجة ذلك جميعه، أن الجمهور القاهري، وعلى رأسه الخديو وأمراء بيته وأميراته، والباشوات، والسراة، أصبحوا يرون لذة حضور التمثيل المعروف بالميلودرام - أي المقترن التشخيص فيه بالغناء - من أشهى لذات الوجود؛ وأنهم أصبحوا يستقدمون، سنويا، جوقة أوروبية، خصيصا لهذا الغرض، وينفقون عليها مبالغ طائلة، تتجاوز حد المعقول، فقد قدر بعضهم ما صرف على أفراد إحدى تلك الجوقات في شتاء سنة من السنين بمبلغ 120 ألف جنيه، وليس في تقديره من مبالغة؛ فإن الممثلة الواحدة، من جهة، كانت تتقاضى، أحيانا، ألفا ومائة جنيه في الشهر، خلاف الجواهر والهدايا المقدمة لها.
ولا غرو: فالمستقدمون من أولئك الفنيين كانوا ملوك التمثيل والغناء في أوروبا، في تلك الأيام، وملكاتهما؛ كالتينور نودين والآنسة سارولتا، اللذين فتحت الأوپرا بهما؛ وكالمسيو لاروز، والمسيو تسييه والمسيو پيجوري، والمدامات پوطسوني ومديني، ومتس فرار، وبرت چيراردين، والآنسات دورتيه ولورنس وجيرار، ولا سيما مدام ماري صاص، التي كانت، علاوة على تفوقها في الفن، من أبدع النساء حسنا؛ وكالآنسة روسيل الممثلة المأساتية، التي مثلت في سنة 72 رواية «البند 47» ورواية «الفوميناچ» ورواية «أدريين ليكوڨرير» وروايتي «لادام أو كاملياه» و«السيد»؛ وكديلانوا، الذي مثل في السنة عينها رواية «الفوبونزوم» ورواية «نوزنتم» ورواية «الريڨليون»، ومن جهة أخرى، فإن كل جوقة كانت تشتمل عادة، على ثمانين راقصة ، معظمهن، ميلانيات، من أجمل نجوم المسارح.
وبلغ من تفنن مديري الكوميديا والأوپرا في إرضاء الجمهور، أنهم أخذوا يستقدمون، أيضا، نقادين فنيين، ليكتبوا المقالات الانتقادية الجميلة في التمثيل والممثلين، فيعملوا على تحسين الفن وترقية كفاءة القائمين به.
واشتهر، من بين أولئك النقادين، المدعو فيلپي، ذو الشعر الطويل المسترسل؛ لا لأنه كان أكفأهم، ولكن لما حمله الطمع عليه من وقاحة سمجة، فمع أنه منح 20 ألف فرنك، أجرة لسفره، فقط، وتحملت الأوپرا مصاريف إقامته كلها، بالغة ما بلغت، فقد أبى إلا استغلال الممثلات، وحملهن على شراء سكوته عن هجوهن بمال يدفعنه إليه، ولما وجد منهن إعراضا، وعدم مبالاة، تحول إلى زمرة آلات الطرب (الكوريست)؛ وأخذ يطعن عليهم طعنا مرا، فما كان منهم، ذات ليلة، إلا أنهم هاجموه، وقطعوا شعره المسترسل - وكان شعرا كاذبا - وقذفوه ببياض البيض وصفاره، وقشر البرتقال؛ وأهانوه إهانة لم يجد معها بدا من الرحيل إلى بلاده.
21
وأما مديرو المسرحين - أي الكوميديا والأوپرا - المتفننون في سبيل إرضاء الجمهور القاهري فأولهم درانيت باشا، المعروف باسم پاولينو - وقد أطلق اسمه هذا على شارع وحي من شوارع قسم محرم بك بالإسكندرية، وأحيائه - كان صيدليا يونانيا في خدمة الدكتور تينارد الفرنساوي، فأدناه هذا من (محمد سعيد باشا) وأدخله في خدمته، فما لبث أن أنعم عليه بلقب بك، فقلب پاولينو اسم الدكتور أستاذه، وجعله «درانيت» وتسمى به؛ وظل في خدمة (سعيد) حتى آخر لحظة من حياته.
يقول المسيو كارل دي پريير في كتابه «باريسي في مصر»: «إن قوة درانيت الكبرى، بجانب ذكائه الذي لا ينكر، هي أنه عالج المرحوم (محمد سعيد باشا) عم الخديو وسلفه، في احتضاره، ولم يفارقه حتى آخر لحظة من حياته، ولم يكن أحد غيره يقدر على الدنو منه».
22
فعينه (إسماعيل) مديرا لمصلحة السكة الحديدية، مكافأة له على ذلك، ولما تأسس المسرحان، عينه مديرا لهما، وقلما كنت تراه، أو كان يقابلك، إلا باسما باشا، مهما كانت مهمتك لديه، فبات لا يستطيع أحد قراءة ما في ضميره، وتمكن، بذلك، من اقتناء ثروة طائلة.
وأخلفه على وظيفته منسه بك - وسوف يأتيك نبأ عنه - ومنادييه بك، وغيرهما دونهما شهرة.
وأما المراقص التي أقيمت في المسرحين، وابتهج بها الجمهور، فأهمها المعروفة بأسماء «براهما» و«جزيرة الغرام» و«الجيوكولييرا» و«فليك وفلوك».
وأما الليالي الراقصة التي أدخلت عادتها السنوية إلى نظام الحياة القومية المصرية، فقد كان الخديو يحييها عادة في سراي عابدين، في منتصف فصل الشتاء، ويدعو إليها، علاوة على رجال معيته وكبار موظفيه، نيفا ومائة وخمسين من وجوه العاصمة وسراتها، وذوي الحيثيات من رجال الجاليات الغربية، فكنت تجد جميع طبقات الهيئة الاجتماعية المصرية الرفيعة وجميع الأمم الأوروبية ممثلة في أولئك المدعوين.
وكان (إسماعيل) يستقبل وفودهم، ابتداء من الساعة التاسعة مساء، في أحد أجنحة السراي، بلطفه المعتاد، وبشاشته المألوفة، ويحادثهم فيما يهمهم، أو يرتاحون إليه، حتى الساعة العاشرة، فيقدم، حينذاك، ذراعه إلى عقيلة أقدم القناصل عهدا، أو أكبر المدعوين مقاما، ويسير بها وبالجمع إلى قاعة فسيحة، معدة لسماع نوبة العزف، فيسير الأمراء، أولاده الثلاثة، وراءه، وعلى ذراع كل منهم سيدة، ويتبعهم الملأ، كل مع السيدة التي تسمح له المألوفات القومية باختيارها، فيحضر الجميع النوبة ساعة، ثم ينتشرون في الحجر الأخرى، زرافات زرافات، وأزواجا أزواجا، ويغتنم الخدم فرصة خلو القاعة، لنزع معالم نوبة العزف منها، وتحويلها إلى قاعة رقص فخمة، وعندما يفرغون من ذلك، تصدح الموسيقى، فيعود المدعوون إلى القاعة، ويبدأ الرقص ويستمر، حتى بعد نصف الليل، في حضرة الخديو والموظفين الخديويين المرتدين ملابسهم الرسمية الساطعة، والمتلألئة صدورهم بالنياشين، التي حلتهم بها كفاءاتهم، أو الإنعامات العالية. على أن ما من أحد منهم كان يرقص، سوى الأمراء الثلاثة توفيق وحسين وحسن، أولاد الخديو؛ لأنهم كانوا، دون غيرهم، متعلمين ضروب الفن، وكان حسين أكثرهم غراما به، وأكبرهم اندفاعا مع تياره، وأقلهم تأثرا بالتعب الناجم عن المجهود المبذول فيه.
فإذا انتصفت أول ساعة بعد نصف الليل، فتح الخديو المقصف، فيسير إليه المدعوون، زرافات زرافات، ويأكلون أشهى الطعام، ويشربون ألذ المدام، مريئا هنيئا، والموسيقى تعزف حولهم، حتى ساعات الفجر الأولى؛ فينصرفون حينذاك، مودعين من الخديو ورجاله، بما قابلوهم به من بشاشة وإكرام.
ولم يكن (إسماعيل)، لا سيما في أيام ملكه الأخيرة، يحب هذه الحفلات أو يميل إلى إحيائها، لمجرد لذاتها، فإنه كان يعتبر أوقاته أثمن من أن يصرفها في الأخذ بأسباب تلك الملاهي، ولكنه كان يحبها عملا برأي رجل السياسة الشهير القائل: «إن البطن خير طريق إلى القلب!» ورغبة منه في أن تكون تلك الليالي مواسم تستفيد رعيته منها بما تلزمه احتفالاتها من حركة في ميداني التجارة والصناعة.
وأما السباقات، فإن الخديو كان يحييها، في عاصمتي ملكه، على نفقة جيبه الخاصة، ويدعو إليها من شاء من الوجهاء والأعيان والنزلاء الأجانب، فيقدم لهم المرطبات والحلوى والفواكه المتنوعة، فكانت الدعوة إليها تعتبر منة وشرفا يرفعان من قدر المدعو؛ ولذا، فإن السراة كانوا يتسابقون إليها، فضلا عن السوقة والعامة، للتفرج عليها من بعيد، ولما كانت المقامرة أساسها - وطبع الإنسان مقامرا - فإن ازدحام الأقدام في تلك السباقات كان شديدا، غير مألوف إلا في الاحتفالات الدينية؛ بالرغم من أنها كانت تقام، من العاصمتين، على بعد يلزم قاصدها باحتمال مشقة، فسباقات مصر كانت تحيا في العباسية؛ وسباقات الإسكندرية في القباري، أولا، ثم ما بين الحضرة وسيدي جابر، حيث أقيم، فيما بعد، ناديها الحالي، على الأرض التي باعتها له دائرة الأمير إبراهيم باشا، زوج الأميرة زينب هانم بنت (إسماعيل) العزيزة المفضلة، وكلتا الجهتين، بالنسبة لعدم وجود خطوط ترامواي أو سكة حديدية توصلهما بالعاصمتين، كانتا قصيتين، علاوة على كونهما رمليتين، وأن الطريق إليهما كانت تربة عثيرية.
وكثر اقتناء السراة الخيول، لتدريبها على الجري، عساها تفوز في تلك السباقات؛ وبلغ من اهتمامهم بها أن علي شريف باشا، صاحب السراي الكبيرة المشهورة بشارع عبد العزيز، المؤجرة الآن إلى راهبات المحبة، ورئيس محكمة مصر التجارية في ذلك العهد - وكان من أكبر غواة تلك الخيول - لم يكد ذات صباح يفتح جلسة محكمته إلا وأتاه سائسه، وهمس في أذنه أن جواده الفلاني - وكان من أحسن خيوله - مريض جدا، يخشى عليه، فنهض علي باشا مذعورا، وأعلن رفع الجلسة، وترك القضاة والمتقاضين، وذهب ليعول جواده المريض!
23
وكانت السباقات تقام، عادة، كل خمسة عشر يوما؛ ومعظم «الجوكز» أي: راكبي الخيول، فيها من السودانيين، وإلا فإنجليز، وأهم سباقات عهد (إسماعيل) السباق المقام في اليوم السادس عشر من أيام الأفراح، التي أحييت مهرجاناتها أربعين يوما، احتفالا بزواج الأمراء محمد توفيق وحسين وحسن والأميرة فاطمة هانم، أولاد الخديو في سنة 1873 فإن «الجوكز» فيه، كانوا مرتدين ملابس حريرية، وفاز منهم راكب جواد للخديو عينه، يقال له: «قباري» وراكبو جياد نظير أغا، وعلي شريف باشا، وإسماعيل بك، وامتاز ذلك السباق عن غيره، بأن هجنا جرت شوطا فيه؛ وبأن مقصفه كان من أفخر ما يقع في خلد بشر أو تراه عين؛ وأن المدعوين إليه كادوا يغطون بعددهم وعديدهم صحراء العباسية على اتساعها.
وأما حلوان، فإن الخديو - بعدما ظهرت مزايا مياهها المعدنية الكبريتية، ومنافعها للمستحمين بها - وطن نفسه على جعلها «إكس لي بن» مصرية شتائية، يؤمها رعاياه والسائحون (التوريست) للاستفادة منها، فما فتئ يشجع على إقامة المباني والفنادق فيها، بهمة لا تعرف الملل؛ ويقدم، هو نفسه، المثل الصالح في ذلك ، بإنشاء قصر فخم في تلك الضاحية العاصمية، للأميرة والدته سنة 1877 إلى أن تم له مرغوبه؛ وبرزت حلوان في حلة من الترغيب حملت الكثيرين من السراة على اتخاذها مقرا لهم، وكثيرين من الغربيين على قصدها، في فصل الشتاء، لتمضيته فيها.
وبلغ من إعجاب الناس بهوائها ومياهها أن المسيو بلان
Blane
صاحب كازينو منتي كارلو، الشهير بإمارة مونكو، وكازينو همبرج بألمانيا، عرض على الخديو مبلغا جسيما من المال ليصرح له بفتح كازينو فيها للمقامرة، على شاكلة ذينك الكازينين؛ فاعتبر (إسماعيل) مليا، عواقب إقامة مثل ذلك المحل؛ ونظر إلى المستقبل نظرة من يستطلع أسراره، فرأى أموال أسرته ورعاياه تذهب إلى غمرات ذلك المكان؛ فتنباع منه مأساآت تلبس العائلات لباس السواد والحداد؛ فرفض، ورفض كذلك، للأسباب عينها، مبلغا أكبر، عرضه عليه الرجل ذاته، ليصرح له بفتح كرسال للمقامرة في القاهرة.
فلو كان (إسماعيل) الأمير المتعطش إلى المال، الذي يصفه أعداؤه، الراغب في الحصول على النقود من أي باب ولو ضارا برعاياه، لما أحجم عن قبول المبلغين الكبيرين اللذين عرضا عليه، ولبرر نفسه بحجة رغبته في صرفهما فيما يعود على مصر بالخير، سابقا في تبرره بهذه الوسيلة، المستر سسل رودز المشهور، الذي يروى عنه أن الظروف جمعته، يوما، في حفلة مع الكولونيل جوردن، عقب عودة هذا الرجل الپوريتاني المذهب من الصين، حيث كان قد أخمد ثورة النايپنج، فقص جوردن على الحاضرين كيف أن إمبراطور الصين، لكي يكافئه على خدماته العديدة الجليلة، لا سيما في إخماده نيران تلك الثورة الهائلة، التي كادت تذهب بعرشه، أخذه إلى حجرة ملأى ذهبا، وقال له: «خذ كل ما فيها، فإنه مكافأتي لك على ما فعلت!» فرفض جوردن قائلا: «إني لم أعمل إلا الواجب علي، ولست أستحق على أدائي واجبي مكافأة ما!» فأظهر سسل رودز تأففا من ذلك، واستنكارا له، فالتفت جوردن إليه وسأله: «ترى، لو كنت مكاني، أكنت تقبل؟» فأجاب سسل رودز: «بلا شك! وكنت استخدمت ذلك الذهب في اكتساب إمبراطورية جديدة لبريطانيا العظمى!»
على أن أكبر تعديل اجتماعي أدخله (إسماعيل ) على حياة أمته المصرية القومية، وأكبر هزة، بالتالي، هز بها عقليتها، في صميمها، إنما هو عمله على إبطال النخاسة والرق وتحرير العبيد.
24
فإن الرق ما فتئ رفيق الحروب الإسلامية، حيثما دارت رحاها، وأليف الحياة العائلية الإسلامية، حيثما قامت معالمها. لا لأنه أصل من أصول الدين والحشمة الإسلامية، كما كان يعتقد الأوروبيون؛ ولكن لأنه - من الوجهة الحربية - موروث عن القرون التي سبقت الإسلام، وقد عمل الإسلام على محو هذا الإرث من نفوس المسلمين فأوصى النبي
صلى الله عليه وسلم
كثيرا بالرقيق خيرا وحض على عتق من وقع في الرق ووعد بالثواب الجزيل من الله تعالى على هذا العتق حتى أصبح من قواعد الإسلام تشوف الشارع للحرية الشخصية، ولكن المسلمين بعد القرون الأولى انغمسوا في أسباب الترف، واندفعوا في تيار اللذات؛ فأدى ذلك بهم إلى الخمول والكسل اللذين أصبحا - فيما بعد - من أكبر أسباب انحطاطنا في مضمار الحياة العملية، وعدم أخذنا بما قيل لنا من أن «نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا»؛ وأدى بنا من جهة أخرى، إلى حمل قول الكتاب العزيز
وما ملكت أيمانكم
على إباحة استرقاق المرأة المسلمة من طريق البيع والشراء.
فأقبل فقراء المسلمين، لا سيما في الكرج والقوقاز، يبيعون أولادهم، باختيارهم، وهم يرمون بذلك إلى التخلص من عبء تقويم أود معاشهم، من جهة؛ وإلى التطويح بهم في بحر الحدثان، من جهة أخرى، عسى أن تذهب أمواجه بهم إلى شواطئ السعادة والعز، فإن كانوا إناثا، ربما تزوجن من بيك أو باشا أو وال أو من السلطان؛ وإن كانوا ذكورا، ربما ترقوا إلى أعلى المراتب، فأصبحوا أمراء جيوش؛ كحافظ باشا صاري عسكر آخر جيش عثماني قاتل (إبراهيم) الهمام؛ أو رؤساء دولة، كخسرو باشا كبير وزراء السلطان عبد المجيد، وألد أعداء (محمد علي) العظيم.
وأقبل أغنياء المسلمين يقتنون أولئك الفتيان والفتيات، ويختصون بالفتيات لقضاء لذاتهم وأوطارهم، وهم لا يعتقدون أنهم، بذلك، يرتكبون إثما، أو يأتون نكرا؛ جهلا منهم بأصول دينهم، فاضطرهم إكثارهم من ابتياع الجواري واقتنائهم لهن في بيوتهم إلى الاستمرار على اقتناء الخصيان لحراستهن، وإلى الإكثار من شراء الإماء السود لخدمتهن.
ولكن إغلاق باب الحروب أدى إلى تعذر الحصول على الطلبين، فنشأت من ذلك النخاسة وترعرعت، وفشت فشوا عظيما! والنخاسة هي صيد السود، صيدا، وتقييدهم بالحديد، وسوقهم إلى أسواق بيع الرقيق، كالأنعام، حتى لقد يموت كثيرون منهم في الطريق!
ولم يكن العالم المسيحي الغربي أقل تمسكا بمبدأ الاسترقاق من العالم الإسلامي في الزمان المتأخر ولكن لدواع غير دواعيه، فالمسلمون كانوا يبتغون من الرق، على العموم، التسري والترف؛ وأما العالم المسيحي فكان يبتغي منه الاستغلال والنفع، فكانت نتيجة اختلاف الغرض بينهما أن العالم الإسلامي، على العموم، كان يعتني بالرقيق اعتناء المرء بوسائل لذاته، ويعامله معاملة العضو في عائلاته؛ بل كثيرا ما يزوج الأرقاء من بناته والرقيقات من أولاده، ولو أن هناك استثناءات نادرة قد تؤخذ حجة على خلاف ذلك: كإقدام أحمد الجزار باشا، والي عكا، في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مثلا، على قطع أنوف جواريه، وآذانهن، ونهودهن، وألسنتهن على سبيل التسلية والتفكهة؛ وإقدام (إبراهيم) الهمام نفسه، في ساعة غضب شديد، على قتل مملوكه المفضل عثمان، لذهابه إلى الحمام بدمشق بدون إذن منه، وأمره بدفنه، بحيث تظهر قدماه خارج الأرض فتأتي الكلاب وتنهش جثته؛
25
أو إقدامه يوما، شرب فيه أحد أولاده، وهو طفل، لبنا، فاعتراه ألم، فاضطربت والدته واتهمت أربعا من جواريها بأنهن سممنه، على إصدار أمره بالقائهن حالا في النيل، قبل التثبت من صحة التهمة - وقد كانت كاذبة؛
26
أو كإقدام (عباس) على الأمر بخياطة شفتي جارية من جواري قصره صادفها تدخن في إحدى طرقاته - وكان التدخين محظورا على أمثالها وغير مسموح به في القصور إلا لرباتها، أزواج أربابها الشرعيات.
على أن هذه، كما قلنا، كانت استثناءات نادرة، ولذا فإن الرقيق في الإسلام لم يكن يشعر بأنه تعس، أو ممتهن ومحقر، بل كان يفتخر بانتسابه إلى مواليه، ولا يبغي عن الحال التي هو فيها عوجا.
وأما العالم المسيحي الغربي، فكان يعامل الرقيق، على العموم، معاملة غلظة وقسوة؛ فيتعبه ويشقيه على نسبة الفائدة التي كان ينتظر أن تعود عليه من زيادة أتعابه وإشقائه، وكان الرقيق فيه يشعر، شعورا لا مزيد عليه، بذله وحقارته وبؤسه، ويرغب، من صميم فؤاده، في أن يتخلص، ولو بالموت، من المصيبة التي هو فيها. اقرأ كتاب «خص العم طم» الشهير لمؤلفته الست هنرييت بيتشرستو.
فأدى ذلك إلى نشوء حركة في العواطف والأفكار، أخذت تعمل عملا حثيثا على إبطال الرق، واجتثاث جذوره.
تلك الحركة بدت، على الأخص، في إنجلترا، في أواخر القرن الثامن عشر، بهمة نفر من رجال الفضل، أشهرهم جرانڨل شرب، الذي ما فتئ، مدة نصف قرن برمته، يجاهد في سبيل إبطال الرق؛ وبمساعي الرجال الإنجيليين المعروفين باسم «الكويكرز» أي: (الراجفون) الذين قدموا إلى البرلمان البريطاني طلبا بإبطاله.
ثم أقبل كلاركش ينشر مؤلفاته، ويبذل همته للغرض عينه؛ وانضم إليه ويلبر فرس بعد ذلك بقليل، ولا مقصد له من الحياة سوى حمل البرلمان على إصدار قانون يبطل الرق والاسترقاق، فجاهدا معا، جهادا طويلا، أقامهما في مصاف أكبر المحسنين إلى الإنسانية قاطبة.
فتأسست في يونية سنة 1787 لجنة مؤلفة من اثني عشر عضوا، معظمهم من «الكويكرز» لإبطال الإتجار بالرقيق، ولكنها صادفت مقاومة عنيفة من أجل رجال العصر، وعداء شديدا، فلم تبال، وقدمت على لسان ويلبر فرس طلبها إلى البرلمان في سنة 1788؛ وما زالت تنشر مجهوداتها، ويبذل ويلبر فرس أمواله وجهوده، حتى فاز بمرامه؛ واستصدر من البرلمان الإنجليزي في سنة 1808 قانونا بإبطال الإتجار بالرقيق.
فاقتدت الحكومة الفرنساوية بالبرلمان البريطاني، وأصدرت في سنة 1815 أمرا قضى بما قضى به ذلك القانون. على أنه كان قد سبق للجمعية الدستورية الفرنساوية أن اعترفت بقرارها الصادر في 15 مايو سنة 1791 بمساواة عموم البشر في الحقوق الشخصية، والمدنية، والاجتماعية، بضرب الصفح عن جنسهم، وملتهم، ولونهم.
وسار مؤتمر ڨيينا في سنة 1815 في الطريق ذاتها، فمنع هو أيضا الإتجار بالرق.
على أن الاسترقاق لم يزل، مع ذلك، جاريا: لأن مبدأ الرق نفسه لم يحظر وإن حظر الإتجار بالرقيق، وقضت على النخاسة قرارات مؤتمري إكس لاشاپل سنة 1818 وڨيرونا سنة 1822 الدوليين.
فتأسست في سنة 1823 جمعية تحت رياسة كلاركش، وويلبر فرس، وبكستن، في إنجلترا، غرضها العمل على تخفيف ويلات الأرقاء، وإبطال الرق تدريجيا في الممتلكات الإنجليزية، ولكن الكويكرة اليصابات جريك أذاعت نشرة عنوانها: «وجوب إبطال الرق حالا، لا بالتدريج» حملت بها تلك الجمعية على التخلي عن مبدأ الإبطال التدريجي، والانضمام إليها في المطالبة بالإبطال السريع، وكانت الأفكار والقلوب قد تنبهت إلى خطورة المسألة، ومنزلتها من الرقي البشري الحقيقي، فوجدت الحركة، التي قامت بها تلك الجمعية، أرضا صالحة، نمت فيها بذور تعاليمها بسرعة عجيبة؛ وهب الرأي العام كله يؤيدها ويعضدها.
فأصدر البرلمان البريطاني قانونا في آخر سنة 1832 حدد بمقتضاه يوم أول أغسطس سنة 1834 لتحرير عموم الأرقاء في دائرة الممتلكات البريطانية؛ وخصص مبلغ عشرين مليونا من الجنيهات لدفع تعويضات منه إلى موالي الأرقاء المحررين.
فما أتى عام 1841 إلا وكانت بريطانيا العظمى قد حررت نيفا واثني عشر مليون رقيق في أملاكها الهندية الشرقية وحدها.
فلم تشأ الدول الأوروبية أن تتأخر عنها في ذلك المضمار الشريف، فأبطلت حكومة السويد الرق في سنة 1846 وسنة 1847؛ وأبطلته حكومتا فرنسا والدانيمرك في سنة 1848؛ وحكومة هولندا في سنة 1862 بدون تعويض لموالي الأرقاء؛ وأبطلته باقي الدول، بالتدريج، حتى إسبانيا نفسها؛ ومع أن الولايات المتحدة الأميريكية قررت إبطال النخاسة منذ سنة 1808 وأصدرت قانونا في سنة 1820 اعتبرتها، بموجبه، ضربا من ضروب القرصنة، فإن مبدأ الرق لم يبطل فيها، تماما، والعمل به لم ينقطع كلية، إلا بعد أن قامت الحرب الأهلية عليه بين ولايات الشمال وولايات الجنوب، وفازت الأولى - وكانت ضد مبدأ الرق - على الثانية المتحيزة له، فأجبرتها على الرضوخ لإرادتها.
ولما لم يعد يبقى من رق في العالم إلا في البلاد الإسلامية، للأسباب التي سبق لنا ذكرها، تحولت مجهودات مبطليه والمطالبين بإبطاله، إلى تلك البلاد؛ وكان قد غاب عن أنظارهم أن الرق في الإسلام غيره في النصرانية، وأن پسكال كان قد قال، منذ نيف ومائتي سنة: «ما هو صواب في هذه الجهة من جبال الپيرنيات قد يكون غلطا في الجهة الأخرى منها!»
فشرعوا يؤلفون الجمعيات لإبطال الرق في الدول الإسلامية، وينتدبون الوفود لمقابلة عواهلها، ومفاتحتهم في هذا الشأن؛ ويحضون دولهم على التداخل في الأمر، ووضع حد «لذلك العار الإنساني الذي لا يطاق».
فحملت الحكومة الإنجليزية السلطان عبد المجيد، بما كان لها عليه من أياد، بسبب تداخلها بينه وبين تابعه (محمد علي)، وإذلالها هذا بين يديه، على وضع فقرة في الفرمان الذي أصدره إليه في سنة 1841 مؤداها: «أن أبطل صيد السود، فإنه عمل لا يتفق مع مبادئ العدالة والإنسانية!»
على أن لا إنجلترا ولا عبد المجيد كانا يقصدان، من مثل هذا القول، حض (محمد علي) على إبطال النخاسة. أما إنجلترا، فإنها، من جهة، كانت تجهل فظاعة النخاسة في السودان - لأن تلك الفظائع لم تعرف في أوروبا إلا بعد رحلات ليڨنجستن، وبيكر، وستانلي؛ ونشر هؤلاء الرحالين الأفاضل البيانات التفصيلية عنها - ولأنها، من جهة أخرى، كانت تشعر بأنه لا يحسن أن يخاطب بإبطال النخاسة أمير مسلم، بينما أن معظم الدول الأوروبية والأميركية المسيحية لا تزال مجيزة لها، وأما عبد المجيد، فلأنه كان يعلم أن إبطال صيد السود يقضي، حتما، بإبطال الخصيان، ولم يكن في وسعه الاستغناء عنهم.
فغاية ما فهمه (محمد علي) من الفقرة التي زيدت في فرمان سنة 1841 هو أن إنجلترا والسلطان يخشيان منه عودا إلى صيد السود لتجنيدهم على غير علم منهما، في جوف البلاد، وأنهما يأبيان عليه ذلك، ولا يبعد أن فهمه كان في محله. غير أنه كان قد صمم تصميما باتا على عدم إعادة الكرة على الدولة العثمانية، وكان قد اختبر، من جهة أخرى، قلة صلاحية السود للجندية في غير السودان، فلم يكن يهمه البتة، قنص السود، لاتخاذ جيش منهم؛ ولا همه، يوما في حياته، اقتناصهم لاسترقاقهم، واتخاذ خصيان منهم. بل كان يهمه، بالعكس، عمار السودان وتقدمه، كما دل سفره إليه في سنة 1839، وزيارته لأبعد أصقاعه، حتى الفازوغلي، بالرغم من أن سنه كانت فوق السبعين؛ وإقامته محطات عسكرية على ضفتي النيل؛ وإنشاؤه مدينة الخرطوم عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق؛ وإعلانه حرية الملاحة على النيل الأبيض؛ وإبطال تجارة الرقيق؛ وكما دل، أيضا، تشجيعه رجال العلم كسپيك، وجرانت، وبلتزوني، وغيرهم، على جوب البلاد واستكشاف أسرارها.
ولكن رجال الحكومة المصرية وموظفيها، في أيامه، وأيام خلفائه الثلاثة الأول، بل في أيام (إسماعيل) ذاتها كانوا يدبرون الغزوات في أعالي النوبة والسودان، ويشنون الغارات على قبائل السود، فيصطادون منها ما يمكنهم صيده، ويبيعونه في أسواق الرقيق بالخرطوم والقاهرة وغيرهما، فيصيبون، من ورائه، أرباحا طائلة.
فحدا ذلك (بسعيد باشا) إلى السفر بنفسه إلى السودان في نوفمبر سنة 1857 بصحبة جيش عدده خمسة آلاف رجل، تخلى عن معظمه حالما جاوز الحدود المصرية، ولم يصطحب منه، إلى بربر، سوى خمسمائة فارس - فقابل في بربر وجهاء البلاد، وأظهر لهم نياته في تحسين أحوال السودان وتشجيع وسائل العمران فيه؛ وأعلن رغبته في إبطال تجارة الرقيق، ثم قام إلى الخرطوم، فبلغها في 10 فبراير سنة 1858؛ وبعد أن أوشك أن يعزم على التخلي عن السودان برمته، ليأسه من إصلاحه، قبل رجاء من رجاه في تغيير عزمه هذا، من الوجهاء، وأمر بإجراء عدة تعديلات إدارية، كجعل كل مديرية مستقلة عن الأخرى، لا ترجع في أحكامها إلا إلى مصر؛ وعدة إصلاحات، كتنظيم البريد بين الخرطوم ومصر على الهجن بطريق كروسكو؛ وكتخفيض الضرائب على الأطيان والسواقي، ومنع الجند من جمعها، وإناطة ذلك بمشايخ البلاد على أن لا يجمعوها إلا بعد الحصاد؛ وكترتيب عقد ناد من الأعيان في الخرطوم، كل سنة، للنظر في راحة البلاد؛ وإنشاء محطة عسكرية على نهر سوبت لمراقبة تجار الرقيق، وقطع دابر النخاسين، ولما عاد إلى مصر، فكر في إنشاء سكة حديدية تجمع بين القطرين، وتسهل مراقبة سير الأحكام واعتدالها، مهما بعدت الشقة، بين الولايات ولكنه لم يتمكن من إبراز فكره هذا إلى حيز الوجود، كما أن إعلانه إبطال الرقيق لم يجد نفعا ولا أفادت المحطة العسكرية على نهر السوبت شيئا؛ لأن البلاد لم تكن ناضجة لإبطاله، ولا راضية به؛ ولأن الحياة الاجتماعية لم تكن لتستغني عنه.
27
فعاد المطالبون بإبطاله من الغربيين إلى النفخ في أبواقهم، وهم لا يدرون من الملوم في إبقائه.
فلما آل العرش إلى (إسماعيل)، وصمم هذا العاهل، كما قلنا، على إدخال بلاده، بصراحة، في مضمار المدنية الغربية، وطن نفسه على إبطال الرقيق، توطينه إياها على إلغاء العونة والسخرة كقول فون ستيفان في كتابه «داس هوتجي إجپتن ص153».
وكانت النخاسة، إذ ذاك، في أشدها، بالرغم من مقاومة (محمد علي) و(سعيد) لها، وبالرغم من عمل الحكومة المصرية على تقليل توريد الأرقاء، نيلا، وإبطالها أسواق الرقيق الرسمية بمصر والإسكندرية وطنطا وغيرها من البنادر! «فالبحارة» في جهات النيل الأبيض، و«النهاضة» في جبال النوبة وجبال فازوغلي، وفي جهات كردوفان الجنوبية، كانوا لا يفتأون عاكفين على صيد السود بقوة السلاح، كأنهم وحوش برية، وسبيهم والسير بهم إلى أسواق الرقيق في الأبيض وفاشوده، والقلابات، حيث كان الجلابون يشترونهم منهم؛ وبعد أن يبيعوا أقلهم قيمة في أسواق الخرطوم، والمسلمية، وود مدني، وسنار، والقضارف، وكسلا، وبربر، وشندي ، ينزلون بأقواهم وأجملهم إلى مصر، إما عن طريق النيل، في مراكب يرفعون عليها رايات دول غربية، ليحتموا بها؛ وإما عن طريق الصحراء، إلى أسيوط، حيث كان يوجد معمل للخصي، يديره قسوس من الأقباط حازوا، في أنهم من أمهر الناس في إجراء ذلك العمل الفظيع، شهرة شائنة، وينسلون منها سرا إلى مصر والإسكندرية، وأهم بنادر القطر، ويعرضون بضائعهم البشرية على الراغبين فيها، إما باطلاع رجال الحكومة، وموافقتهم الصامتة؛ وإما خفية وخلسة بمساعدة شركاء لهم معلومين.
وكان ثمن الولد الأسود أو البنت السوداء التي من عمره، ما بين عشرة جنيهات، واثني عشر جنيها؛ وثمن الصبي الحبشي، ما بين 20 و30 إلى 90 جنيها ومائة جنيها؛ وثمن البنت الحبشية التي سنها ما بين الثانية عشرة والسابعة أو الثامنة عشرة، من 70 جنيها إلى 100 جنيه؛ وكان ثمن الرقيقات التي سبق استخدامهن أرخص من غيرهن، إلا إذا كن من صاحبات الحرف، كأن تكن طاهيات أو ما شاكل ذلك، فإنهن، في مثل هذه الحال، كن يبعن بثمن أعلى، وأما الخصيان، فكانوا أعلى ثمنا من الجميع، لندرتهم، والسبب في ندرتهم قلة نجاح عملية الخصي، وموت تسعين في المائة من الذين كانت تعمل لهم.
وكان يوافي جلابو الرقيق الأبيض جلابي الرقيق الأسود إلى تلك الأسواق، والفرق بين الرقيقين جسيم جدا: لأن الرقيق الأبيض كان اختياريا؛ وأما الأسود، فكان مجلوبا قسرا، وكان ثمن الجارية البيضاء يختلف بين 200 جنيه وخمسمائة، ويتراوح، أحيانا، تبعا لجمال الجارية المبيعة، ما بين 800 جنيه وألف جنيه.
وكان الراغبون في الشراء كثيرين، إما لسد فراغ أحدثه الموت في عدد الأرقاء الموجودين في بيوتهم - والموت كان كثير الزيارة للأرقاء، وأغلب ما كانت أعمار هؤلاء البؤساء قصيرة! - وإما للمغالاة في مظاهر الأبهة والترف، فقد كانت توجد بيوت غاصة بالمئات من الجواري، ولا يعرف أربابها منهن إلا القليلات، فيقبلون، أفرادا أفرادا، على محلات الجلابين، ويشترون ما يطيب لهم من الرقيق المعروض، وهم أبعد من أن يفتكروا، حتى ولا في المنام، بالفظائع والآثام والجرائم التي ارتكبت في سبيل تموين بيوتهم، وسد حاجة معيشتهم القومية؛ أبعد من أن يفتكروا بأن النخاسة كانت تنتزع، سنويا، أكثر من خمسين ألف أسود من حقولهم ورباهم ومراعيهم، فلا يبقى منهم، حيا، كل سنة، بعد المشقات التي يقاسونها، سوى عشرة في المائة؛ وأن النخاسين كانوا، حتى بعد وصول الرقيق إلى مصر، يحتقرون حياة أولئك البؤساء إلى درجة أن اثنين منهم تخاصما، مرة، على ملكية بنت سوداء، فطعنها أحدهما بخنجر، لكيلا يأخذها خصمه.
هكذا تشتري موسرات الغرب، وعقائل كبار سراته وذواته الدنتلات والتطريزات والأشغال اليدوية النسائية الأخرى بثمن صغر أو عظم، وهن لا يفتكرن، لحظة، بأن أيدي فتيات بائسات ربما أمضين غالب أيامهن بدون عشاء، هي التي اشتغلت، في سهرات الليالي الشتائية الطويلة، وعلى نور الزيت الضئيل، تلك الحاجيات التي يتطلبها الظرف، وتوجبها الكياسة.
وكان الجلابون يتحاشون بيع رقيق إلى أوروبيين؛ ولا يقدمون على ذلك، إلا بحيطة كبرى؛ لعلمهم بأن معظم الفرنج ميالون إلى إظهار نقمتهم على تجارتهم البشرية، أو التظاهر بها، رغبة منهم في وقوفهم موقف المرء ذي الشعور الرقيق والإحساس الشفيق!
فما مضت على تبوء (إسماعيل) عرش أبيه بضعة أشهر إلا وأصدر أوامره المشددة إلى موسى حمدي باشا ، المعين من قبله حاكما عاما على السودان، بتعقب تجار الرقيق وقطع دابرهم، فألقى موسى باشا في تلك السنة عينها سنة 1863 القبض على سبعين مركبا مشحونة بالأرقاء بين كاكا وفاشودة، وأتى بالمسبيين إلى الخرطوم، ثم أحضر ملك، «الشلك» من فاشودة؛ فسلمه الرقيق الذي أخذ من بلاده، ورجعه بالهدايا إليها، ووزع الباقين على التجار والموظفين لتربيتهم، وأما النخاسون، فإنه زجهم في السجن، ولم يخرجهم منه حتى تعهدوا بعدم العودة إلى مثل تلك التجارة - وعود عرقوبية باطلة!
على أن (إسماعيل) كان يعلم علم اليقين بأن إبطال النخاسة يستدعي، أولا، إبطال الرق بصفته حالة اجتماعية؛ لأنه علتها، ولكن أنى يتأتى إبطاله، وتقاليد شعبه، ومصالح جانب عظيم من رعاياه واقفة بجانبه، للدفاع عنه؟
ولكن عزيمته لم تكن لتنثني أمام عقبات، مهما كان نوعها، ومهما كانت جسامتها؛ وما لم يكن يستطيع مصادمته، جبهة لجبهة، كان يصادمه جنبا لجنب، فتسلح، إذا، بالمبدأ الديني القاضي بجواز تحرير كل عبد يسيء مولاه معاملته؛ وأصدر حالا بعد ارتقائه العرش أمرا بتحرير كل عبد أو أمة يثبت على سيدهما أنه أساء معاملتهما.
28
فشعر العالم المصري بأنه هوجم في عقر داره؛ وأحس بسنان الرمح الموجه إليه، يمس صميمه، فهب لدفع الهجمة والاعتصام منها، وراء حصن مبدأ ديني آخر، وهو المبيح للسيد أن يعاقب عبده أو أمته، المرتكبين سرقة، وشرع كل سيد يدفع تهمة الإساءة إلى عبده، المرتكن عليها لتجويز عتقه من ربقته، بتهمة سرقة يرمي عبده بها.
وبما أن شعور القضاة، قاطبة، كان في جانب السادة، فما من عبد نجح مطلقا في إثبات دعواه ولا نجح أحد في تحرير عبد أراد تحريره بهذه الوسيلة؛ وكاد الأمر الذي أصدره (إسماعيل) يئول إلى مجرد البقاء حبرا على ورق، لتحزب المطلوب منهم تنفيذه على عدم تنفيذه.
فعدل (إسماعيل) وجهة هجمته، وحول السلطة في الحكم في دعاوى الأرقاء الطالبين التحرير من القضاة الشرعيين إلى قناصل الدول الأجنبية، وأمر الهيئات الأهلية الحاكمة بإصدار العتق وقيده؛ كلما طالبهم قنصل بذلك.
29
فكان كأنه تجنب «شلا» للارتطام «بكاردي»
30
أو، كما يقول المثل العربي، «كالمستجير من الرمضاء بالنار» فإن القناصل لكي يرضوا الرأي الأوروبي المطالب بإلغاء الرق وإبطال الإتجار به، أخذوا يحكمون بتحرير كل مشتك، بدون تحقيق شكواه، والتثبت من صحتها، وبلغ من المتولي أعمال القنصلية البريطانية بالمنصورة سنة 1873 - ولم يكن، حتى، نائب قنصل! - أنه في ظرف شهر واحد حرر نيفا و1700 رقيق، ولولا أن ضجة أرباب العائلات ارتفعت حتى تناولت عنان السماء، فأوجبت تداخل ذوي الشأن، لحرر ذلك المحترم كل أرقاء المديرية.
فضرب (إسماعيل) أخماسا في أسداس، لما رأى رغائبه يعاكس تحقيقها خصومها وأصدقاؤها؛ واضطر إلى تعويض عموم أصحاب الأرقاء الذين حررهم ذلك المتولي بدون حق؛ كما أنه اضطر إلى تضييق سلطة القناصل وإشراك الهيئات المحلية الحاكمة معهم في تحقيق الشكاوى التي يقدمها الأرقاء ضد مواليهم.
ولشعوره باضطراب الرأي العام حوله، بحق، بسبب التطرف الذي حصل من العنصر الأجنبي، كلف نوبار باشا، وزير خارجيته، فكتب إلى قنصل إنجلترا العام كتابا أذيع للملأ، أوقفه فيه على حقيقة نيات الخديو، وذكره «بأن الدول الأجنبية لا سيما إنجلترا، لما حررت الأرقاء عوضت أصحابهم؛ وأن الخديو، بصفته أميرا مسلما، لم يمكنه، فيما أصدر من أوامر متعلقة بتحرير الأرقاء، أن ينسى أن واجب عرشه يقضي عليه بحماية ما يقره الدين، وتوجب العادات والتقاليد القومية احترامه، ولذلك اقتضت إرادته أن يحرر المساءة معاملتهم من الأرقاء لا كل من طلب العتق منهم».
31
والذي زاد في امتعاض (إسماعيل) في هذا الشأن، هو أن الغربيين أنفسهم الذين كانت بلادهم وحضارتها تطالبه بإلحاح بالعمل على إبطال النخاسة والرق في بلاده، كانوا أكبر عقبة تصادفها مساعيه المبذولة في السبيل الموصل إلى ذلك بما كانت امتيازاتهم تضمن لهم من سلامة في متاجرهم غير الجائزة، وتحميهم من عقاب في إقدامهم على مخالفة أوامره؛ وقد أظهر امتعاضه هذا بقوة لهجة يعجب بها، فيما أجاب به، بلندن، رجال وفد الجمعيات الإنجليزية والفرنساوية لمقاومة النخاسة والرق، الذين اغتنموا فرصة وجوده في تلك العاصمة في سنة 1867، وطلبوا مقابلته ليرفعوا إليه رغبة تلك الجمعيات في أن يحقق خديو مصر أمنية الحضارة الغربية، وأمل الإنسانية الراقية فيه.
فإنه أذن لنوبار باشا بإدخالهم عليه، والقيام بأمر الترجمة بينه وبينهم، عملا بمقتضيات الرسميات، ولو أن (إسماعيل) كان يتكلم الفرنساوية كأحسن متكلم بها فيهم، فقابلهم بلطفه المعهود الخلاب، الذي كان يسحر به كل من يحادثه، فيميل بعواطفه إليه كيفما شاء، وقال لهم بالتركية، فترجم نوبار كلامه بالفرنساوية: «إنه منشرح تمام الانشراح لمقابلة حضرات أعضاء الوفد، بصفتهم نوابا عن الجمعيات الإنسانية الموقرة العاملة على إبطال النخاسة والرق؛ لأنه، هو نفسه، يرغب جدا في إبطالهما، واتخذ أقوى الوسائل لذلك، ولكنه يرى بالأسف، أنه إذا كان في وسعه أن يرغم شعبه على الامتثال لأوامره بالرغم مما في الامتثال لها في موضوع الإقلاع عن النخاسة والرق، من مضاضة على نفوسهم وإضرار بمصالحهم، ومخالفة لتقاليدهم، فإنه لا يستطيع عملا مطلقا ضد الأوروبيين أنفسهم، المقيمين في بلاده، والذين هم أكبر المجرمين، فإنهم يتجرون بالعاج وريش النعام والصمغ، اسما وحجة، ولكنهم في الحقيقة إنما يتجرون بالرقيق في مراكبهم النازلة في النيل، فلو أن تلك المراكب لا راية لها، أو كانت الراية المصرية هي الخافقة عليها، لأمكن تفتيشها: فإذا وجد فيها رقيق صودرت وضبطت، فأعتق الأرقاء وعوقب المجرمون، كما وقع في بحر الستة الأشهر الأخيرة من السنة الماضية، فإن كومندانا وأميرالا مصريين رميا بالرصاص، لإقدامها على مخالفة أوامره، ومساعدة النخاسة وتهريب الرقيق، ولكن المراكب الآتية برقيق ترفع، عادة، راية إحدى الدول الغربية، لكون أصحابها أوروبيين، فإذا تعرض لها رجال حكومته ونشأ بينهم وبين أصحابها جدال بخصوص المشحون والحمولة البشريين، فالجواب المفحم هو أن الرجال نوتية والنساء أزواجهم أو سراريهم، والصغار أولادهم، فتغل، بذلك، أيدي السلطة المصرية. ألا فليعلموا أن النفوذ الأوروبي، في مدة السنين الثلاثين الأخيرة، قد غير مصر تغييرا كليا، فلو كانت الحكومة المصرية حرة في معاملة النخاسين الأوروبيين معاملتها للنخاسين الخاضعين لسلطانها، لبطلت النخاسة، وبطل بالتالي الرق بعد مدة يسيرة، ولكن حكومته غير حرة في ذلك، والواجب يقضي أن تمنحه الدول الأروبية السلطة الكافية لاستعمال حق التفتيش في المراكب التي تخفق عليها راية غربية. أما إبطال الرق، فمسألة أخرى، فالرق موجود في القطر منذ نيف و1283 سنة، ويكاد يكون ممزوجا بدينه، ولا شك في أنه نظام فظيع، ويود، هو، إبطاله: لأن المدنية والرق بمصر يستدعيان ذلك، ولكنه لا يتيسر عمل هذا في يوم واحد. على أنه لو بطلت النخاسة، بطل الرق في ظرف 15 أو 20 سنة على الأكثر، أو لما بقي إلا أثر قليل منه، فرأيه، والحالة هذه، مخالف لرأي حضرات زائريه؛ لأنه يعتقد أن النخاسة أس الرق في بلاده، وأنه يجب إبطالها، لكي يمكن إبطاله؛ فإلغاء القنصلية البريطانية في الخرطوم، مثلا، مكنه من العمل ضد النخاسين بنجاح؛ ولذا فإن الطريقة الوحيدة الفعالة في معاملة التجارة الرقية هي أن تسلحه الدول الغربية بسلطة منع الأوروبيين من الإقدام عليها، ومباشرتها».
32
ولكن امتعاض (إسماعيل) من النخاسين الغربيين لم يكن ليقعد بهمته عن تتميم مشروع إبطال النخاسة والرق الذي وطن نفسه على نفاذه؛ لأنه كان يعلم أنه بمثابة حجر الزاوية من بناء الحضارة الغربية الذي صمم على إقامته في البلاد؛ وأنه إن أهمله فقد ينهار ذلك البناء بكيفية لا يعود معها من سبيل إعادة الكرة ومحاولة تشييده.
وهو - ولو أنه بعامل تربيته العائلية الأولى، وتأثير منبته الأصلي - كان مكثرا من اقتناء الحسان من الجواري على الأخص، والجواري على العموم، حتى لقد قال بعضهم: إن سراياته كانت تحتوي على ألفي جارية؛ وإنه كان شديد الحرص عليهن، لا يسمح لأحد برؤيتهن، ويعاقب أشد العقاب حتى من تجاسر على استراق النظر إليهن.
33
إلا أنه كان مقتنعا بأن تقلبات الأيام كانت قد بلغت بمصر في عهده إلى موقف لم يعد معه بد لحياتها القومية من أن تحل في جسمها الحضارة الغربية محل الروح القديم؛ وإلا تفككت وانحلت كما يتفكك وينحل الجسم الهرم، القائمة فيه روح هرمة، وكان يعتقد أن أهم مميزات الحضارة الغربية إنما هي علاقة المرأة الغربية بالرجل، ومركزها في الحياة العائلية منه؛ وهما علاقة ومركز نجما، حتما، عما يعتقده الرأي العام الأدبي الغربي في وظيفة المرأة في الوجود، فبينما الحضارات، التي دالت، كانت تعتبر المرأة متاعا، ومتى كانت تحسن الرأي فيها تعتبرها آلة تناسل؛ أي: أم أولاد، فإن الحضارة الغربية الحديثة أبت عليها إلا أن تكون رفيقة الرجل وشريكته في حياته، تشاطره أتعابها وهمومها؛ وأفراحها ولذاتها، فدعتها، لذلك، قرينته؛ أي: المرتبطة به، ارتباط الند بالند، بينما الحضارات الأخرى كانت تدعوها «حرمه» أي «متاعه» و«الشيء الخاص به المحرم على غيره»، فكان يود، إذا، إبطال الرق، ليتوصل من إبطاله إلى إبطال حياة الحريم، وجعل المرأة بالتربية الجديدة، التي تعطى لها في المدارس الحديثة، رفيقة الرجل وشريكته في حياته؛ أي: جسم جسمه، وروح روحه.
وكثيرا ما كان يقول في محادثاته في هذا الموضوع الخطير: «إن تعدد الزوجات وعيشة الحريم يبطلان يوم تمكن تربية بنات الفلاحين التربية المنزلية من إحلالهن في البيوت محل الرقيقات، اللاتي هن مصروف كبير، وضرر أكبر؛ ويوم تجعل، التربية المدرسية المرأة رفيقة الرجل وشريكة حياته، أما الآن، فما هي عادة إلا مادة ترف!»
وللدلالة على أن رأيه هذا كان رأيه الحقيقي، لا رأيا يتصنع به إرضاء الخواطر الغربيين المحيطين به، أو رغبة منه في اكتساب ثناء الرأي العام الغربي والظهور أمامه، كذبا، في مظهر الأمير المتحضر الراقي، أبى إلا أن يكون أولاده الثلاثة الكبار أزواج قرينة واحدة؛ وأبى أن يكون لبناته ضرائر عند أزواجهن.
ولئن اعترض على صحة إخلاص شعوره، في ذلك، بأنه لم يحجم، هو نفسه، عن الإكثار من الزوجات، والاستكثار من الجواري، فالجواب على الاعتراض هو أن مثله في شغفه بالإصلاح، وفي عزمه على إدخال بلاده في مضمار المدنية الغربية الحديثة، كمثل بطرس الأكبر الروسي في ذلك جميعه، فكما أن بطرس، مع بقائه على نقائصه الشخصية، قد بذل أقصى جهوده لتحرير شعبه من عيوبه القومية؛ وكما أن بقاءه، هو نفسه، على نقائصه الشخصية، وشعوره بعدم تمكنه من إرغام قوتها، وهو الرجل صاحب الإرادة الحديدية، ربما كان الدافع الأكبر له إلى الثبات في خطة الإصلاح القومي التي رسمها لنفسه، هكذا (إسماعيل) - وقد وجد، باختباره الشخصي، الذي أرغمه عليه تكييف ماضي جدوده، مضار إحلال المرأة من الرجل محل المتاع المحض - أبى إلا أن يتخذ من حاله الشخصية باعثا جديدا على بذل أقصى جهوده في سبيل تغيير حال قومه.
على أنه لو لم يكن له من نفسه هذا الباعث، ولو لم يشعر، من تلقاء ذاته، بوجوب القضاء على النخاسة والرق، للتمكن من تغيير حياة الحريم وإبطال التسري، وتعدد الزوجات، فقد كان يجد من احتكام أفكاره بأفكار الغرب، ومن الحوادث الجارية حوله، ما يولد في نفسه ذلك الباعث.
فإن ألبرت إدورد، برنس أوڨ ويلز، وولي عهد المملكة البريطانية - وهو الذي عرفناه، في أيامنا هذه، الملك إدورد السابع - لما كان في ضيافته في أوائل سنة 1869 كثيرا ما كان يحبذ تشديده في إبطال النخاسة والرق، ويختلق المناسبات ليحبب إليه فكرة إرسال حملة عسكرية إلى عقر دار النخاسين في أقاصي السودان، تضرب على أيديهم، وتقطع دابرهم، فيحمله على استمراء لذة المجد الذي تتوج أجيال المستقبل بهالته، ذكره، إذ تقرن باسمه، في تاريخ قومه، لقب «مبطل الرق» في السودان، وكانت البرنسيس أوڨ ويلز قرينة البرنس ألبرت إدورد - وهي الملكة ألكسندرا البارة أم الملك چورچ الخامس البريطاني إمبراطور الهند - تنضم إلى بعلها في التحبيذ والتحبيب؛ وتضفر بيديها الجميلتين بعضا من الأشعة المتكونة منها تلك الهالة!
فتأمل، يا رعاك الله! في مقدار تأثير ذلك في نفس (إسماعيل) الكرمية!
ومن جهة أخرى، فإن كبار النخاسين في السودان - وأشهرهم الزبير رحمت باشا - كانوا بسبب إغضاء موظفي الحكومة المصرية عنهم، بل وضلعهم معهم - وذلك «لأن كل موظف في السودان، سواء أكان تركيا أم مصريا، كان لا يستطيع اجتثاث ميله إلى النخاسة والنخاسين» حسب قول شڨاينفرت، الرحالة الألماني - وذلك بسبب تقوي سواعدهم من النخاسة عينها؛ لتكوينهم، من الشبان السود، الذين كانوا يصطادونهم، وأباق الأعبد، كتائب شعواء يبثونها في الأصقاع، فتنشر مهابتهم، وتكتسح لهم، كانوا قد بلغوا بذلك إلى درجة من القحة والطمع، حملت معظمهم على الطموح إلى الإمارة والملك، فالاستقلال بالجهات المنتشر ظل هيبتهم فوقها.
فكان لا بد (لإسماعيل) من تشديد عزيمته على كسر شكوتهم، والبطش بهم، والحيلولة بين زمرهم وبين بؤساء تلك الربوع، التي كانوا يشنون غاراتهم عليها.
فانتدب، أولا، لهذه المهمة، السير صموئيل بيكر، مستكشف بحيرة ألبرت نيانزا، بناء على توصية البرنس أوڨ ويلز نفسه؛ وأنعم عليه برتبة فريق مع لقب باشا، وسماه حاكما على البلاد الاستوائية لمدة أربع سنين، تبتدئ من أول أبريل سنة 1869 براتب قدره عشرة آلاف جنيه سنويا؛ وسيره إليها على رأس جيش مؤلف من 1700 رجل، معهم ثلاث بطاريات مدافع جبلية، وبطارية ساروخ، بعد أن زوده بفرمان من لدنه، يعهد إليه، بمقتضاه، في فتح تلك البلاد، وإبطال تجارة الرقيق فيها، وتنشيط زراعتها.
فقام بيكر، ومعه امرأته، من السويس في 5 ديسمبر سنة 1869؛ وذهب عن طريق سواكن وبربر إلى الخرطوم؛ وفي السابع من شهر فبراير سنة 1870 قام منها بثلاثين مركبا؛ فنزل بالقرب من ملتقى نهر صوبت بالنيل الأبيض، وبنى محطة سماها «التوفيقية»، تيمنا باسم ولي العهد، أقام فيها سبعة أشهر، ثم سار في بحر الزراف إلى جندوكورو، فبلغها في 21 أبريل سنة 1871؛ وبعد أن أقام فيها شهرا، رفع عليها العلم المصري، وسماها «الإسماعيلية»؛ وجعلها مركزا لحكومته، وفي 23 يناير سنة 1872 سار منها ببعض الجند، جنوبا، فأنشأ عدة نقط عسكرية، وتقدم إلى بلاد يونيورو، فخلع ملكها «كبريقه»، لأنه خاتله؛ وولى بدله مزاحما له يدعى «ريونجا»، وفي 14 مايو سنة 1872 أعلن ضم بلاد يونيورو إلى المملكة المصرية، رسميا، وأنشأ نقطة عسكرية في عاصمتها «مسندي»، وهي على 50 ميلا من بحيرة ألبرت نيانزا، وعقد شروطا ودية مع متاسي أومتيزا، ملك أوجندا؛ وبذلك تدرج إلى بسط نفوذ الحكومة المصرية من الصوبت إلى بحيرة ڨكتوريا نيانزا، ولكن هذا النفوذ لم يدم طويلا في يونيورو، فإن كبريقا الملك المخلوع جمع جموعه وهاجم بيكر في «مسندي» ولم يكن معه إلا مائة رجل؛ فأخلاها، مضطرا، في 14 يونية سنة 1872، وسار إلى فاتيكو، ومنها إلى جندوكورو؛ فبلغها في أول أبريل سنة 1873 أي: يوم نهاية مدة حكمه على خط الاستواء، فترك عسكره فيها، وقام في 26 مايو سنة 1873 إلى الخرطوم، ومنها إلى مصر، فوصل إليها في 24 أغسطس سنة 1873؛ واستعفي من وظيفته، فقبل استعفاؤه، وقد كتب عن قيامه بمهمته هذه كتابا سماه «الإسماعيلية» سرد فيه وقائعها وحوادثها؛ وبين المصاعب التي لاقاها، والأهوال التي اعترضته في سعيه إلى إبطال الرق، وعمله على البطش بالنخاسين في تلك البلاد القصية، وهو كتاب تلذ مطالعته وتفيد جدا.
34
وندب (إسماعيل)، بعد استعفاء بيكر، إلى نفس المهمة، الكولونيل جوردن؛ وجعل العساكر الموجودة في جندوكورو وما والاها، حتى البحيرات الكبرى تحت إمرته؛ وزوده بفرمان حضه فيه على تنظيم تلك البلاد، والسعي إلى عمارتها، ومعاملة أهلها بالرفق واللين والتأليف.
فسار جوردن من مصر في 21 فبراير سنة 1874 إلى الخرطوم، ومعه نفر من تجار الرقيق جعلهم في خدمته، ليمنعهم عن تعاطي تجارتهم، من جهة، وليستعين بهم، من جهة أخرى، على تعقب تجار الرقيق، أخذا بالقول المأثور «لا يفل الحديد إلا الحديد»، ولما قام من الخرطوم أخذ معه بعض جنود وسار بهم قاصدا جهات خط الاستواء، فوصل إلى جندوكورو في 15 أبريل سنة 1874، وشرع يباشر شئون المهمة التي أتى من أجلها.
ولكن، بما أن أعماله يدخل معظمها في دائرة المجهود الذي بذله (إسماعيل) لتحقيق الشطر الثالث من خطته، فإنا نرى الأولى إرجاء بيان تفاصيلها إلى الباب المخصص لذكر ذلك المجهود.
على أن الرأي العام المصري - وآراؤه وميوله في أمر النخاسة والرق عرفت منها ما عرفت - كان ساخطا على حملتي هذين الإنجليزيين، طاعنا على المجهودات المبذولة، باكيا على الأموال المنفقة في سبيل نجاحهما، ولم يكن في القطر كله من مصري معضد للخديو في جهوده ومساعيه سوى أولاده الأمراء الثلاثة، لا سيما أكبرهم محمد توفيق، ولي عهده، الذي قال يوما للبارون دي مالورتي: «إني أكره فكرة الرق ذاتها!» ووزيريه نوبار باشا وشريف باشا؛ لا بل قام أوروبيون كثيرون يتخذونها فرصة لكسب الأموال: إما مكافأة على مدح مأجور؛ أو أجرا على امتناعهم عن مطاعن كاذبة؛ كذلك الألماني البارد، الذي روى عنه رياض باشا أنه طلب منه ألف جنيه مصري، ليمسك قلمه عن الكتابة في مسألة الرق ضد الخديو وحكومته؛ ولما رفض ذلك الوزير إعطاءه ما طلب، انبرى يطعن في حسن نوايا الحكام المصريين، ويشنع عليهم.
35
ومع ذلك، فإن «إسماعيل» استمر يجاهد جهاد الأبطال، غير مبال برضى أم بسخط حتى آل الأمر إلى عقد معاهدة 4 أغسطس سنة 1877 مع بريطانيا العظمى لمنع الإتجار بالرقيق، وإبطال الرق، قضت موادها:
أولا:
أن يبطل، بعد التوقيع عليها، إدخال الأرقاء إلى الأراضي المصرية، ومرورهم بها أو ببحارها.
ثانيا:
بأن لا يسمح، في المستقبل للسود والحبشان العائشين بمصر، بمغادرتها بدون أن يثبتوا أنهم أحرار.
ثالثا:
أن جميع النخاسين والمتجرين بالرقيق، في أية بقعة كانوا من الأرض المصرية، يحاكمون أمام مجالس عسكرية.
رابعا:
أن الحكومة المصرية تستعمل نفوذها على قبائل إفريقيا الوسطى، لكي تحملها على وضع حد ونهاية لاقتناص الرقيق.
خامسا:
أن السفن البحرية البريطانية في البحر الأحمر، وفي المياه المصرية الأخرى يكون لها حق تفتيش كل المراكب المصرية.
سادسا:
أن بيع الرقيق من عائلة إلى عائلة يبطل بالقطر المصري بعد مضي سبع سنوات، ويبطل في السودان بعد مضي اثنتي عشرة سنة.
36
وتلا تلك المعاهدة القراران الوزاريان الصادران في 23 أغسطس و15 أكتوبر سنة 1877، والدكريتو الصادر في أول يناير سنة 1878 تقنينا لشئون الموضوع، ورغبة في الوصول إلى إبطال الرق.
فحق لرسل، الكاتب الإنجليزي، أن يقول عن (إسماعيل) في يوميته في الشرق ص456: «إن عمله في إبطال تجارة الرقيق جدير بالإعجاب الشديد، لا سيما أنه أقدم عليه، وتقاليد شعبه، ومصالح جانب عظيم من رعاياه ضده.»
37
وحق للكاتب الإنجليزي الآخر بياتسا سميث، أن يكتب بملء قلمه: «إن يكن التحرير الإنجليزي عظيما، والتحرير الروسي أعظم، والتحرير الأميريكاني أعظم من الاثنين، فالتحرير المصري أعظم الكل، بلا جدال».
38
كما أنه حق للورد هدو أن يهتف بملء فيه في مجلس العموم البريطاني في أول يونية سنة 1878: «لا شك في أن حاكم مصر الحالي عمل على إبطال الرقيق في بلاده، وتحسين حال رعاياه، أكثر من كل حاكم مسلم، بل ربما أكثر من كل حاكم مسيحي في مدة من الزمان مساوية لمدة عمله».
39
على أن كل هذا التعديل المتنوع، الذي أدخله (إسماعيل) على حياة أمته المصرية، وفصلناه تفصيلا وافيا في الصفحات السابقة، إن أوجب تطورها المستمر، وإن غير مجاري العقلية في بعض طبقاتها، لم يكن يستطيع أن ينتج ثمره إلا مع توالي الأيام.
لذلك استمرت معظم ظواهر الحياة القومية تتجلى هي هي أمام من لا يرون إلا الظواهر، ولكن الذين كانوا يتمكنون من أن يخترقوا بنظرهم حجب الظواهر، ويتبينوا، بين طيات دجى الليالي بصيص نور الفجر، كما يتبين سليم العين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، في بصيص الشفق البعيد، أولئك لم يكونوا ليغتروا بتلك الظواهر، وكانوا يعلمون يقينا أن الحركة التي صدرت، بقوة، عن يد (إسماعيل)، فدفعت بالحياة المصرية إلى مرافق الحياة الغربية، وأدخلت المصالح الغربية إلى صميم مرافق الحياة المصرية، أوجبت حتما تطورا مستمرا، وجعلت البقاء على الجمود، أو الرجوع القهقري أمرين خارجين عن دائرة الإمكان.
فلم يكن ليسعهم إلا أن يرددوا القول التالي المأثور عن صاحب كتاب «المسألة المصرية» وهو: «إنما القطر المصري مدين بكل عنصر تقدم ورقي نجده اليوم فيه لسني ملك (إسماعيل) الست عشرة».
40
الباب الثاني
تحقيق الشطر الثاني
أي السعي إلى الفوز بالاستقلال التام للبلاد
إجمال
كانت مصر، لما ارتقى (إسماعيل) عرشها السني، مقيدة بثلاثة قيود كبيرة، تقعدها عن السير إلى مكانها الطبيعي في مصاف الأمم المستقلة. (فالقيد الأول): حق الامتياز الذي منحه (محمد سعيد باشا) سلفه لشركة القناة العالمية، وأصبحت هذه الشركة، بمقتضاه، تشاطر حكومة مصر صولتها، وإدارتها، وماليتها، في جزء عظيم من بلادها.
و(القيد الثاني): السيادة العثمانية بما يتبعها من التصنيفات المذلة، والإلزامات المصغرة، والتوريث بالأرشدية وهلم جرا.
و(القيد الثالث): الامتيازات الأجنبية بما تستلزمه من إدخال القناصل عصيهم في دولاب أعمال الإدارة المصرية، وإيقافهم حركته؛ ومناهضتهم الحكومة في كل مشروع لا يروق في أعينهم وكل إجراء يزعمونه أو يزعمه تابعوهم، ماسا بمصالحهم: دول عديدة تزاحم الدولة صاحبة الشأن على دفة الأحكام، وعلى منصة التشريع والعدالة!
فصمم (إسماعيل) على كسر هذه القيود الثلاثة كسرا باتا، وإزالتها، وما فتئ يعمل على ذلك، عملا حثيثا، نيفا وثلاثة عشر عاما، حتى تسنى له نيل معظم مرامه، وتحقيق جل أمانيه، بالرغم من صعوبات لا تحصى، وعراقيل لا تعد، ومقاومة ظروف الدهر وصروفه له، مقاومة مدهشة؛ ولبيان ذلك نقول ...
الفصل الأول
إزالة القيد الأول1
قيد ما كان جائرا على حقوق العرش المصري، في الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس العالمية من (محمد سعيد باشا). ***
سكتنا له، دخل بحماره.
مثل عامي
إن فكرة إنشاء ترعة تصل بين البحر الأبيض والبحر الأحمر، فكرة قديمة جدا، فهيرودتس المؤرخ اليوناني يقص أن نيخاؤ بن بتاه متيك الأول (وملك من 610 إلى 594ق.م) كان ممن أقدموا على إخراج تلك الفكرة إلى حيز الوجود، فشغل في العمل الفلاحين المصريين ألوفا، فمات منهم تبعا نيف ومائة وعشرون ألفا، ثم إنه أوقف الأشغال بغتة؛ لأن أحد كهنته وافاه بنبوءة مفادها أن «الفرعون» إنما يشتغل للغير؛ وأن منفعة الترعة تكون للأجانب، لا لمصر.
2
وديودور الصقلي يقص أن نيخاؤ، إنما بدأ عمل تلك الترعة؛ وأن دارا الأول، ملك الفرس (وملك ما بين 521 و485ق.م) أراد إتمامها، ولكنه توقف لما قيل له من مهندسيه: إن منسوب البحر الأحمر أعلى من سطح الأرض المصرية؛ وإن مياه ذلك البحر تغمر القطر، لا محالة، فيما لو حفرت تلك الترعة.
وسترابون يقص أن الذي بدأ في تحقيق هذه الفكرة، إنما هو سيزوستريس، قبل حرب ترواده (ومن قائل: إن سيزوستريس هذا، هو أوزرتسن الثالث، أكبر فراعنة الأسرة الثانية عشرة الفاتحين؛ ومن قائل إنه رامزس، أو راعمسيس الثاني ثالث فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، ومن كبار فاتحيها، وملك من 1288 إلى 1221ق.م)؛ وأن هناك من ينكر ذلك، وينسب البدء في تحقيقها إلى نيخاؤ بن بتاه متيك؛ ويقول: إن دارا الأول الفارسي أراد إنجازها، ولكنه توقف لما قيل له عن علو منسوب مياه البحر الأحمر عن سطح الأرض المصرية؛ وأن ثاني البطالسة (وملك ما بين 285 و247ق.م) قطع البرزخ السويسي، وسد الترعة عند مدخلها في القلزم، بحيث بات الدخول فيها والمرور إلى البحر الخارجي تحت تصرف الإرادة (؟) - كذا.
وپلينس يقول: إن الذي أقعد بطليمس عن إتمام الترعة لم يكن الخوف من أن تغرق مياه البحر الأحمر القطر؛ ولكن الخوف من أن تفسد تلك المياه الملحة عذوبة مياه النيل!
غير أن هذه الأقاويل كلها لا تفيد أن الفكرة حققت، أبدا، بشكل تام، وأن الاتصال بين البحرين كمل بحيث بات في استطاعة كل السفن، مهما كان حجمها، المرور من القلزم إلى الأبيض: فإن پلوتركس يقول في ترجمة مرقص أنطنيس إن هذا الروماني الشهير أتى إلى الإسكندرية قبل واقعة «أكسيم» بقليل، فوجد كليوبترا، خليلته ملكة مصر، منشغلة في البحث عن وسائل تمكنها من نقل مراكبها فوق البرزخ الفاصل بين البحرين، لتهرب في المحيط الهندي بجميع كنوزها.
ثم أتى الرومان، ويقول المقريزي: إن الإمبراطور هدريانس تمم الترعة التي بدأها ترايانس متبنية؛ وأن هذه الترعة كانت لا تزال مفتوحة في أيام حكم الإسلام الأولي بمصر.
على أن المعروف هو أن عمرو بن العاص أراد حفر ترعة تذهب من الفرما إلى السويس؛ فمنعه عمر بن الخطاب، بحجة أن وجودها يفتح طريقا لمراكب الروم، تتمكن به من تهديد مكة والمدينة، فعدل عمرو عن فكرة الترعة المستقيمة إلى فكرة الترعة الواصلة بين البحرين عن طريق النيل؛ واحتفر المجرى التراياني الذي كانت الأيام قد طمرته؛ وهو الذي عرف باسم «خليج أمير المؤمنين» وبقي مفتوحا 132 سنة.
ثم مرت على مصر الأعصر الوسطى، بظلامها الدامس، الذي لم ينفذ إليه نور من العلم إلا بين حين وحين؛ وتلاها سكون الموت وسكوته، اللذان خيما على الديار المصرية من سنة 1517 إلى سنة 1798، فلم يعد، هناك، كلام على اتصال يوجد بين البحرين، بل ولا فكر يجول حول ذلك الاتصال.
وإذا بالحملة الفرنساوية البونابرتية ظهرت في الآفاق، وحلت بدوي عظيم على أرض مصر وتحت سمائها في تلك السنة عينها (سنة 1798) فنهض القطر خائفا وجلا من سبات الموت ورقدته؛ ودبت إليه حياة جديدة، أبصر نورها بعد جهد هائل، دام نيفا وبضع سنين.
وكان من باكورة الأعمال التي أقدم عليها الجنرال بونابرت، قائد تلك الحملة، أنه ذهب بنفسه إلى السويس ، وجاب برزخه، ليرى آثار الترعة القديمة، ويفحص مسألة إعادة الاتصال بين البحرين، فحصا شخصيا، وأنه كلف، بعدئذ، لجنة، من علماء حملته، بدرس الموضوع درسا تاما، وتقديم تقرير واف عنه له.
فاشتغل هؤلاء العلماء تحت رياسة كبير مهندسيها، المسيو لپير، شغلا حثيثا استغرق طول مدة الاحتلال الفرنساوي للأرض المصرية، ووضعت كتابا في أبحاثها، كان من أنفس آثار مرور ذلك الاحتلال بالبلاد الفرعونية.
ثم ذهبت أعاصير السياسة بزعيم تلك الحملة، أولا، ثم بالحملة عينها، إلى حيث أعدت لهما الأقدار شأنا، لا مثيل له في التاريخ، فقدم لپير تقريره بباريس، بدلا من أن يقدمه في القاهرة، إلى بونابرت، قنصل أول الجمهورية الفرنساوية، بدلا منه إلى بونابرت، جنرال عام الجيش الفرنساوي بالقطر المصري، فتلاه بونابرت بإمعان زائد، ثم هتف قائلا ، كأنه آسف على مجد حرم منه: «إن العمل لذو شأن عظيم، ولكني لست بالقادر على القيام به الآن، غير أن الحكومة التركية قد تجد يوما مجدها وفخرها في نفاذ هذا المشروع الخطير».
3
وكان الكونت ماتييه دي لسبس قنصلا لفرنسا بمصر في سنة 1803 فوردت إليه تعليمات من بونابرت، قنصل أول الجمهورية الفرنساوية، مؤداها أن يقبل على اختيار أكثر قواد القوات التركية الموجودة في القطر، جدارة وأعلاهم أخلاقا، ويخطر عنه الجنرال سيبستياني السفير الفرنساوي في القسطنطينية ليحمل الباب العالي على تنصيبه واليا على مصر، عساه أن يكون للفرنساويين عونا على المماليك والإنجليز أصدقائهم، فاختار دي لسبس (محمد علي) وارتبط معه بعرى صداقة متينة، وأوصى به سيبستياني خيرا.
4
فلما ذهبت الثورة بكرسي خورشد باشا، وانتخب علماء القاهرة المكدوني العظيم واليا عليهم، عضد سيبستياني انتخابهم لدى حكومة القسطنطينية، وجعلها تعتمده، فحفظ (محمد علي) للكونت دي لسبس جميله - وكان حفظ الجميل من أجمل ما امتازت به أخلاق ذلك النابغة العجيب.
ولما اختارت الحكومة الفرنساوية، بعد ذلك بنيف وسبع وعشرين سنة، فردينند ابن الكونت ماتييه دي لسبس، ليكون نائبا للقنصل الفرنساوي، بالإسكندرية، استقبله الباشا العظيم بإكرام زائد، وخصه بعطف أبوي، وما فتئ يظهر له من ضروب الحنان ما جعله أو كاد يجعله أحد أفراد الأسرة العلوية.
ولما شب الأمير محمد سعيد ابن الأمير العصامي، وترعرع، عهد (محمد علي) إلى فردينند بأمر الاعتناء بصباه، فقام فردينند بذلك قياما حسنا، وعلم الأمير اليافع ركوب الجياد، وحبب إليه إجهاد النفس في التمارين الرياضية - وكان (محمد سعيد) في أشد الاحتياج إليها: لأنه كان عظيم الجثة بدينا إلى حد أن أباه حتم عليه حضور أربعة عشر درسا في اليوم، والإكثار من الرياضة الجسمية، لكي تذهب عنه بدانته؛ وأنه كان يزنه، كل أسبوع؛ فإذا وجد وزنه زائدا على ما كان في الأسبوع السابق؛ عاقبه عقابا صارما؛ وإذا وجده ناقصا، كافأه؛ ولو أن عظم جثته وبدانتها لم يكونا، في بدء أمره، مرضا؛ بل كانا كعظم جثة پرتس في (رواية الفرسان الثلاثة لإسكندر دوماس )، وكعظم جثة عبادة بن الصامت في أنباء فتح مصر لمؤرخي العرب، مظهر قوة غريبة، وصحة عجيبة.
فنشأ عن اعتناء فردينند بمحمد سعيد، ذلك الاعتناء، أن هذا الأمير الشاب صادقه مصادقة أكيدة وألفه ألفة زائدة كان الباشا العظيم أبوه من أكبر مشجعيه عليهما، ومن أميل الناس إلى توثيق عراهما بينهما.
وكان قنصل فرنسا العام بالإسكندرية، في ذلك العهد، رجلا من أدباء عصره يقال له: المسيو ميمو، وكان لا ينفك يقرأ الكتاب الذي وضعه، في مسألة ترعة الاتصال بين البحرين، المندوبون الذين عهد إليهم الجنرال بونابرت بحثها وفحصها، فأوجد غرام مطالعة ذلك الكتاب النفيس، في روح الشاب دي لسبس المتخرج على يديه، فأكب دي لسبس على مطالعته باهتمام زائد؛ وما لبث أن ثبت في ذهنه، بكيفية لا تتزعزع، إمكان إيجاد ذلك الاتصال؛ فوطن نفسه على تخصيص جميع قوى عقله وروحه وجسمه لنفاذه.
5
غير أن صروف الأيام ما عتمت أن نقلته من القطر المصري إلى الغرب؛ وقلبته هناك في عدة مناصب سياسية أظهرت فضله، ونشرت ذكره، ولكنها أبعدته عن محط رحال أفكاره، ومطمح أنظار رغائبه: ألا وهو برزخ السويس، الذي لم يعد يبغي مجدا مخلدا إلا من وراء قيامه بحفر ترعة الاتصال بين البحرين.
وكانت الأنظار، في أوروبا، قد اتجهت نحو تحقيق هذه الفكرة، القديمة العهد، لا سيما منذ أن هب السانسيمونيون، وعلى رأسهم الأب انفنتين المشهور، يحبذون تحقيقها، ويحضون عليه؛ وأتى بعضهم، مع أستاذهم المذكور، إلى مصر، وأخذوا يدرسون الموضوع درسا عميقا، ويبتكرون المشروعات المختلفة لتحقيقه: فتالابو أشار بعمل ترعة من الإسكندرية إلى مصر، تجتاز النيل عند هذه العاصمة، ثم تسير منها إلى السويس، وبرول أشار بعمل ترعة من السويس إلى بحيرة المنزلة، ثم تسير منها غربا، متبعة الساحل المصري الشمالي، حتى الإسكندرية.
6
ولكن (محمد علي) رفض، بتاتا، التصريح بأي عمل من هذا النوع، وأبى كل الإباء أن تحتفر ترعة دولية، لوصل الغرب بالشرق الأقصى، في داخلية بلاده، فتسير السفن تجارية أو حربية فيها رافعة أعلام دولها المختلفة، ويتعرض القطر لطوارئ ليست في الحسبان، قد تؤدي إلى استيلاء إحدى الدول العظمى الغربية، لا سيما بريطانيا العظمى، عليه.
والذي حمل ذينك المهندسين على وضع مشروعيهما المذكورين، إنما هو الاعتقاد السائد على عقول علماء العالم، قاطبة، بصحة الاختبارات والمباحث التوبوغرافية والأوروغرافية، والهدروغرافية، التي قامت بها لجنة سنة 1798 الفرنساوية تحت إدارة المهندس لپير، والتي أدت بها إلى تقرير علو سطح البحر الأحمر، تسعة أمتار، عن سطح البحر الأبيض، وبالتالي استحالة عمل ترعة مستقيمة واحدة بين البحرين، فتجتاز برزخ السويس الفاصل بينهما، مباشرة.
على أن هذا الاعتقاد لم يكن أثبت قواعد وأركانا من خلافه: لأنه كان كغيره، مبنيا على التسليم بما وصلت إليه مباحث المتقدمين، وما بتت فيه أحكامهم؛ لا على خبرة ومباحث شخصية، فما عتم، والحالة هذه، أن اهتز على قواعده، وأخذت أركانه تنهار في عقول الذين كانوا ممن يأبون أن يقيموا بناء تصديقهم وإيمانهم على المزاعم، ولا يريدون لهما قاعدة سوى درسهم واختبارهم الشخصيين: فإن أخطئوا، فإنما يخطئون، علما؛ وإن أصابوا، فالفخر - وأي فخر - لهم دون سواهم.
فتعينت في سنة 1846، إذا، لجنة مختلطة للنظر في تقرير لپير، وإعادة فحص الموضوع، فحصا أدق من الذي عملته لجنة سنة 1798، وأوسع دائرة، فوالت أعمالها بهمة فائقة وتدقيق لا مزيد عليه؛ وانتهت خاتمة المطاف بها إلى اعتماد رأي المستر ستڨينس المهندس الإنجليزي، فقررت أن فرق الارتفاع، بين سطحي البحرين، لا يعبأ به، وأن عمل ترعة واحدة مستقيمة، تجتاز البرزخ، وتصل بين الأبيض والقلزم أمر، والحالة هذه، مستطاع.
وكان (محمد علي) - لما فرغت تلك اللجنة من أعمالها، وأبرزت نتيجة مباحثها إلى الوجود - قد أشرف على الخرف، وآلت الأحكام في القطر بعد موت (إبراهيم) الهمام ابنه، إلى (عباس الأول)، فضرب بمباحث تلك اللجنة عرض الحائط، وتحول عن فكرة إنشاء «ترعة اتصال دولية» إلى إجراء رصف الطريق، ما بين مصر والسويس الذي كانت تسلكه عربات الترنزيت، بحيث يصبح صالحا لسير كل عربة عليه بسهولة وسرعة، ويتم الاتصال بين العاصمة والقلزم من سبيل أمين، فجعل عرض ذلك الطريق 30 مترا، وسمك رصفه 40 سنتيمترا ، وبوشر العمل فيه؛ فسوي، أولا، رمل الأرض؛ ثم وضعت عليه طبقة من الحجر الدبش سمكها 15 سنتيمترا، هرست هرسا بمرور صخرة غرانيتية ضخمة عليها، تجرها أربعة ثيران؛ ثم وضعت فوقها طبقة أخرى عرضها 15 سنتيمترا، كذلك، هرست مثل الأولى، وتلتها طبقة ثالثة، غطيت على سمك 15 سنتيمترا، أيضا، برمل من رمل الصحراء ممزوج بأديم محمر مشتمل على تزجيجات جبصية، وهرس كل ذلك، مثل ما هرست الطبقة الأولى، ثم جعل على جانبي الطريق اتساع قدره متران، لسير المشاة، وعملت سكة صغيرة بجانبه، لتصريف مياه الأمطار، واحتفرت بئرا ارتوازية بالقرب من حصن أجرود ليرتوي منها الرائح والغادي؛ ولكنها لم تفلح، ولم ترو من ظمأ.
فلما مات (عباس)، وآل عرش مصر إلى (سعيد)، وبلغ النبأ، بذلك، علم فردينند دي لسبس - وكان مشتغلا في ترميم قصر لحماته، سكنته أنييس سوريل، خليلة شارل السابع الفرنساوي، في زمنها - تهلل، واستبشر، وأرسل يهنئه تهنئة خالصة، فرد (سعيد) عليه واستدعاه إلى مصر، ليشاطره سروره وهناءه، ولما وفد عليه، أكرمه إكراما فائقا، واستصحبه معه في سياحة، قام بها على رأس عشرة آلاف جندي بمدافعهم وخيولهم، من الإسكندرية إلى مصر، عن طريق الصحراء الغربية.
7
فأخذ دي لسبس يتحين الفرص ليفاتحه في مشروع قناة السويس الذي كان اختمر في اعتباره اختمارا تاما؛ مستعينا على ذلك بذي الفقار باشا، صديق الوالي الأقرب إليه، واتفق له، ذات يوم، بعد ما استأذن (سعيدا) في الانصراف إلى شأن من شئونه، وهو معه في تلك السياحة، أنه امتطى صهوة جواد كان ذلك الوالي وهبه إياه، ووثب به فوق كثيب مرتفع من الحجارة أمام عموم القواد المصريين، فأعجبوا به وأكبروا فروسيته.
ففي اليوم التالي، اغتنم فردينند فرصة مناسبة، وجر الحديث إلى رغبته في أن يسطع ملك صديقه بعمل فخم، يخلد ذكره في هالة من سنا، إلى نهاية الدهور؛ واقترح على (سعيد) الإقدام على إنفاذ مشروع الترعة؛ وهو يجتهد في أن يلهب كلامه مخيلته، فيجعلها تدوي منذ تلك الساعة، بترنم العالم المتمدين بأسره، بأناشيد مديحه.
فبالرغم من أن (سعيدا) كان قد أكد مرارا، قبل ذلك، لغير دي لسبس بأنه لن يحيد في هذا الموضوع عن عزم والده، وعن خطة الرفض التي وضعها لنفسه، فإنه سكر بالخمر اللذيذة المبذولة له في كلام محادثه؛ وما هو أهم من ذلك، اقتنع باقتناعه، وتأكد من أن إنفاذ المشروع يزيد مصر أهمية، ولا يعرضها لأي خطر يكون، فقال لدي لسبس: «أجل! إني مقتنع، فثق بي، واعتمد علي».
8
ثم استدعى قواده، وقص عليهم ما دار بينه وبين صديقه دي لسبس من الكلام، وسألهم رأيهم؛ فتذكروا ما رأوا من فروسية ذلك الفرنساوي، ولما كانت عقليتهم تقربهم، كقول دي لسبس عينه، إلى تقدير رجل يحسن ركوب الخيل ويجيد الوثب فوق الكثب والحفر، أكثر منها إلى تقدير رجل عالم متعلم،
9
فإنهم فتحوا أعينهم، واسعة، للدلالة على فهمهم؛ وهزوا رءوسهم مرارا، للدلالة على استحسانهم؛ وقالوا بإجماع بعدم جواز رفض طلب يقدمه مثل ذلك الصديق، فثبتت موافقتهم (سعيدا) في عزمه.
وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1854 - وكان الأمير قد بلغ العاصمة بجنده، ومدعويه، وأنزل دي لسبس صديقه في قصر المسافرين، وهو الذي كان مخصصا في أيام الحملة الفرنساوية لاجتماع أعضاء لجنة القناة فيه تحت رياسة لپير البادي ذكره، فتأمل غرائب الصدف، ومحاسنها! - استدعى (سعيد) فردينند دي لسبس إلى القلعة، بدون أن يقول له لماذا؛ وهناك في مجتمع من القناصل العامة والوجهاء المزدحمين لتهنئة الأمير بسلامة الوصول، أعلن، على رءوس الأشهاد، الوعد الذي صدر منه لدي لسبس صديقه، وأكد عزمه على منح امتياز له بتأسيس شركة مساهمة عالمية، لإبراز المشروع إلى حيز الوجود.
10
وأعقب قوله بالعمل؛ ومنحه بعد خمسة أيام في 30 نوفمبر سنة 1854 الامتياز الموعود به؛ وكلف مهندسي حكومته، لينان بك وموچيل بك، بالذهاب معه إلى البرزخ، ودرس طبيعة أرضه، وفحص مسألة إنشاء الترعة المرغوبة فيه، ورفع تقرير واف له عن كل ما يتبينانه.
فذهب المهندسان في الشهر التالي، وأقاما هناك أياما، مع دي لسبس، يدرسان الموضوع درسا تاما، وقر رأيهما نهائيا على أن تنشأ ترعة مستقيمة، تجتاز البرزخ في جهته الأقل اتساعا؛ أي: ما بين پيلوزيم (الفرمة) على البحر الأبيض، والسويس على البحر الأحمر.
ثم جمع دي لسبس مائة من أصدقائه، وحملهم على أن يكتتب كل منهم بحصة ثمنها خمسة آلاف فرنك - ولا شك في أنها تساوي الآن مليونين من الفرنكات على الأقل - واستخدم المبلغ المجموع لاستقدام لجنة هندسية دولية مشكلة من سبعة من المهندسين: هولندي، وإنجليزي، وبروسياني، وإسباني، ونمساوي، وإيطالي، وفرنساوي؛ ومن عدة بحارة فرنساويين وإنجليز؛ ومن مهندس هدروغرافي تابع للبحرية الفرنساوية، طلب إليها أن تدرس المشروع، وتطلع على التقرير الذي وضعه لينان بك وموچيل بك.
فذهب رجال تلك اللجنة، بادئ بدء، إلى البرزخ، ليقفوا بأنفسهم على الأماكن التي قرر أن تجتازها الترعة؛ وكان برفقتهم فردينند دي لسبس والمسيو برتيليمي سنت ايلير، المنتخب سكرتيرا عاما للمشروع؛ وقد كتب عن مصر في ذلك العهد عدة كتابات رجعنا إليها أحيانا في مؤلفنا هذا.
وبعد إجراء عمليات هندسية وأبحاث توبوغرافية ومقاسات بارومترية قررت تلك اللجنة أن سطح البحرين واحد؛ وأظهرت أسباب الغلط الذي وقع فيه ليپير بذهابه إلى أن منسوب البحر الأحمر أعلى من منسوب البحر الأبيض بكثير؛ وأثبتت أن أرض البرزخ التي ستجتازها الترعة، أرض ثابتة، يغلب فيها الخزف إلى عمق ما، لا أرض رمال متموجة تهدد كل حفر بطمر، كما قال بعض مسفهي أحلام الراغبين في حفر تلك الترعة؛ وأثبتت أيضا، أن لا خوف على منفذ الترعة في البحر الأبيض من تكاثر أوحال طمي النيل، حوله: (أولا) لعدم سير تلك الأوحال جهة المنفذ المنوي إيجاده؛ و(ثانيا) لوجوب ذوبانها حتما في مياه البحر على فرض سيرها نحوه.
وبناء على ذلك، طرحت اللجنة جانبا مشروعي تالابو وبرول، وقررت العمل بمشروع المهندسين لينان بك وموچيل بك لأسباب أهمها: أن مشروع تالابو يوجب صعوبة - وهي اجتياز النيل عند العاصمة - لا سبيل إلى التغلب عليها، إلا بإجراء عمليات هندسية هائلة، يتضائل أمامها ما عمل من هذا القبيل فيما بعد في مجرى ترعة «پانما» الحالية؛ ويتعذر جدا إجراؤها، فإذا فرض، وأمكن، نجم عن الإجراء خطران جسيمان في منتهى الفظاعة: (الأول) تعريض القناطر الخيرية إلى السقوط، والبلاد إلى الغرق؛ و(الثاني) ضرورة تسرب المياه من أسفل إلى أعلى في الأطيان المجاورة، فتصاب بجدب مستديم.
وإن مشروع برول يوجب أن تجتاز الترعة النيل، مرتين، وجميع ترع الوجه البحري المتجة شمالا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإقامة جسور لحفظ مياه النيل في المدى الذي يقرر، وهو ما لا يمكن عمله: لأن الفيضان يذهب بتلك الجسور ويغرق منطقة الترعة البحرية فينجم عن إنفاذ المشروع تخريب الترعة، في كل فصل يزيد النيل فيه، وإتلاف الزراعة في عموم الوجه البحري.
فلما فرغت اللجنة من أعمالها، عرضها دي لسبس على (محمد سعيد باشا) صديقه، فأصدر هذا الأمير أمرا عاليا بتاريخ 5 يناير سنة 1856 /26 ربيع الآخر سنة 1272 صدق به على الامتياز السابق منحه منه لذلك الفرنساوي العظيم بتأسيس شركة جامعة لحفر القناة؛ ووضح بموجبه الإلزامات والتعهدات والواجبات التي تكون على تلك الشركة، مقابل المنح والامتيازات والمزايا المعطاة لها.
11
أما أهم الإلزامات، فهي وجوب تحويل بحيرة التمساح إلى ميناء داخلية، صالحة لإيواء أعظم السفن حجما؛ ووجوب دفع مرتب مندوب تختاره الحكومة المصرية لينوب عنها، ويحافظ على مصالحها لدى مجلس إدارة الشركة؛ وإيجاد عامل عال للشركة في الإسكندرية تخول له السلطة اللازمة لضمان سير العمل، وانتظام العلاقات بين الشركة والحكومة المصرية، فيما لو اختارت الشركة أن يكون مركز إدارتها في مدينة خارجة عن القطر المصري؛ ووجوب صرف خمسة عشر في المائة من صافي الأرباح السنوية للحكومة المصرية، على أن تزيد هذه النسبة كلما جددت مدة المنحة، وقدرها الأول 99 عاما، بشرط أن تتجاوز تلك النسبة 35٪ من صافي الأرباح في أي حال من الأحوال، وأن تحترس الشركة، وتمتنع بالكلية، عن كل تحيز وغرض في معاملاتها للسفن التجارية؛ فلا تفضل المنتمية منها لأمة على المنتمية منها لغيرها؛ وأن لا تزيد رسوم الاجتياز التي ستتقاضاها على عشرة فرنكات على كل طن من حمولة السفن، وعن كل فرد من المسافرين.
وأما المنح، فأهمها تخلي الحكومة للشركة عن ملكية جميع الأطيان البائرة غير المملوكة لأحد التي قد ترويها الشركة وتزرعها، وإعفاؤها من كل ضريبة، مدة عشر سنوات، ابتداء من تاريخ الشروع في تصليحها؛ وتسليم الحكومة للشركة كل الأطيان المملوكة للغير، التي قد يصبح امتلاك الشركة لها لازما لإتمام العمل واستغلال الامتياز الممنوح، على شرط أن تدفع الشركة لأصحابها التعويضات الحقة عنها؛ وإعفاء كل ما تستورده الشركة من الآلات والمواد من البلاد الأجنبية، من كل رسوم جمركية عند دخولها القطر المصري؛ وتمكين الشركة من حفر ترعة ماء عذب تذهب بمياه النيل إلى أماكن الأعمال، وتكون ملكا لها، تستغلها استغلالها لباقي أجزاء امتيازها؛ والتصريح لها بإقامة المباني، التي ترى أن عملها يستوجبها؛ وتكليف عمال الحكومة وموظفيها، عموما بمساعدة الشركة وتعضيدها، كلما احتاجت إلى ذلك، فيما تحتاج إليه؛ ووضع العدد الكافي من الفلاحين تحت تصرفها، لتشغلهم بمعرفتها، وتحت إدارتها، في أي نوع تريده وترتئيه من الأعمال والأشغال اللازمة مقابل دفع أجور معقولة لهم، واتخاذ التدابير الصحية الواقية الواجبة.
غير أن (محمد سعيد باشا) كان قد اشترط لصحة الامتياز برمته، أن يصدق عليه سلطان تركيا؛ ولو أنه كان متفقا مع دي لسبس على اعتبار ذلك التصديق مجرد مظهر رسمي، لا يؤبه له.
فذهب دي لسبس، إذا، إلى القسطنطينية، ليناله، فوجد الحكومة العثمانية منشرحة إلى المشروع، والسلطان نفسه ميال إلى نفاذه، ونال من الصدر الأعظم كتابا أكد له فيه الارتياح العام، السائد على الدوائر السياسية العثمانية للموافقة على الامتياز الممنوح، فبات متيقنا من قرب صدور الفرمان السلطاني المنبئ بتلك الموافقة، وإذا به يرى سفير إنجلترا، السير ستراتفرد دي ردكليف يقوم لمناهضته، ويمانع في التصديق، بإيعاز من اللورد بلمرستن وزير الخارجية الإنجليزية.
وكان للورد بلمرستن هذا، في ذلك العهد، الكلمة العليا في الدوائر السياسية الأوروبية، كما أنه كان للسير ستراتفرد دي ردكليف النفوذ الأكبر على دوائر الأستانة الحكومية.
فدخل المشروع، إذا، في دور سياسي لم يكن دي لسبس يتوقعه، وبدأ عهد مناقشات عنيفة، حاول خصوم المشروع التغلب عليه فيها، بالاستناد على مزاعم أهمها:
أولا:
أن المشروع وهمي خيالي ، لا سبيل إلى تحقيقه.
ثانيا:
أن نفقاته، على فرض تحقيقه، نفقات المحافظة على الترعة، وصيانتها بعد حفرها، تزيد جدا على كل ما يمكن أن ينتظر من أرباح احتمالية من وراء تحقيقه.
ثالثا:
أن الترعة المنوي عملها تفصل مصر عن تركيا فصلا باتا، وتمكن الأولى من الاستقلال عن الثانية.
رابعا:
أن فتح برزخ السويس تهديد يوجه إلى استتباب أقدام السلطة البريطانية في الهند؛ فهو، والحالة هذه، خطر جسيم على مصالح بريطانيا العظمى السياسية والتجارية.
خامسا:
وأخيرا أن تحقيق المشروع خطر، بنوع خاص، على استقلال مصر عينها: لأن تحقيق المشروع قد يجبر إنجلترا إجبارا على امتلاكها، بينما هي لا تريد ذلك، ولا يهمها من مصر إلا أن تكون الطريق التي تجتازها نحو الأملاك البريطانية الأسيوية، آمنة، سليمة.
وقد عبر اللورد بلمرستن عن هذا الفكر الأخير بما كتبه للورد كولي، حيث قال: «نحن لسنا في حاجة إلى مصر، ولا نريدها لأنفسنا، أكثر مما يريد رجل عاقل، له ملك في شمال إنجلترا، بينما مقامه في جنوبها، أن يمتلك جميع الفنادق القائمة على الطريق الموصلة إلى الشمال؛ غاية ما هو في حاجة إليه، أن تكون الفنادق هذه معتنى بها اعتناء حسنا، وأن تكون مفتوحة له في كل وقت يردها، ومستعدة تمام الاستعداد لأن تقدم له لحما حنيذا لأكله، وخيلا بريدية تحل محل خيله المتعبة!»
فدحض دي لسبس الزعم الأول، دحضا لم تعد تقوم معه لذلك الزعم قائمة، برأي اللجنة الدولية الهندسية السالف ذكرها؛ ودحض الزعم الثاني، دحضا نهائيا، أيضا، بتقرير شامل مفصل وضعه رجال فنيون خبيرون؛ منهم اثنان بريطانيان، بينوا فيه، حسابيا، مقدار أقصى ما تستوجبه الترعة من النفقات ونفقات صيانتها، ومقادير الإيرادات العائدة إلى الشركة التي تقوم بحفرها، والأرباح الناجمة لها عنها بالنسبة لمجموع حمولة السفن التي تمر منها، ومحاصيل الأطيان الموهوبة إليها من الحكومة المصرية، والتي ستباشر زراعتها؛ ودحض الزعم الثالث بأقوال رسمية صادرة عن (سعيد باشا) ذاته، أكد بها ولاءه للسلطان العثماني وعدم وجود مصلحة لنفسه في الانفصال عن تركيا؛ ودحض الزعم الرابع بأن الواقع يكذبه، وأن حفر الترعة لا يغير شيئا في أسباب نسبة الملاحة البريطانية الحالية إلى ملاحة الدول الأخرى؛ لأنه في استطاعة بريطانيا العظمى إبقاء تلك النسبة كما هي؛ ودحض الزعم الأخير بقول ظاهر الصواب، وهو أن حفر الترعة شرقي مصر، وفي برزخ رملي لا مصلحة للقطر فيه، يخرج مصر في الحقيقة، عن طريق بريطانيا العظمى إلى أملاكها الأسيوية، ويحول دون تضارب مطامعها ومطامع فرنسا السياسية بمصر، وأنه إذا كان هناك ما يجبر بريطانيا العظمى على محاولة امتلاك مصر، فإنما يكون ذلك بقاء طريقها إلى أملاكها الأسيوية مجتازة داخلية القطر المصري؛ وشعورها، ذات يوم، بأن تلك الطريق باتت غير آمنة وغير سليمة.
فأدى ثبات دي لسبس وشجاعته، من جهة؛ وكون الحق الفني والمنطقي في جانبه، من جهة أخرى؛ إلى فوز المشروع على خصومه ومقاوميه، وإلى إقبال الناس على الاكتتاب في أسهم الشركة العالمية المرغوب في تأسيسها، للتمكن من إخراجه إلى حيز الوجود.
بيد أن لولا وقوف (محمد سعيد باشا) بجانب صديقه، وهو موطن عزمه توطينا وطيدا على تنفيذ المشروع مهما كلفه من نقود، ومهما اضطر إلى التغلب عليه من صعوبات وعقبات، والتعرض إليه من أخطار؛ لولا إقباله إقبالا صحيحا على تقديم كل المتوفر عنده من مال في سنة 54، وقدره خمسمائة ألف ريال، إلى صديقه المذكور، وإقدامه على إنشاء ترعة الماء العذب التي نيط بالشركة إنشاؤها، على مصروفه الخاص وبأيدي مصرييه؛ لولا مشتراه، بمبلغ ينيف على ثلاثة ملايين من الجنيهات، كل الأسهم الباقية معروضة للبيع، التي لم تدر الشركة كيف تصرفها، في أيام بؤسها الأولى؛ ولولا وضعه بالفرمان الذي أصدره في 20 يولية سنة 1856 العدد الكافي من الأيدي المصرية تحت تصرف الشركة، لأخفق المشروع ولتفرق المساهمون أيدي سبا.
على أن وقوف (سعيد) ذلك الموقف، حيال استمرار المعارضة الإنجليزية مخيمة بثقل في الجو، تملأه سحبا، تومض فيها البروق وتدوي الرعود، كان من شأنه أن يجمع، حول ذلك الأمير المتقلب الأهواء، أسبابا متنوعة لمضايقة لا نهاية لها، تؤدي حتما إلى إرهاقه عسرا، وهو الأمر الذي وقع؛ فجعله يتململ، ويقول للائمية ومؤاخذيه: «إنما أعطيت الامتياز، بلا ترو لصديق وهو فرنساوي، فخاطبوه، أو خاطبوا حكومته. أما أنا فلست أستطيع سحب امتياز أعطيته».
12
ولكن ذلك لم يكن إلا ليزيد معارضه المعارضين ولجب الصاخبين، حتى زهقت نفس (سعيد)؛ وأخذ النحول يأكل من بدانة جسمه، فقال دي لسبس له يوما: «ألا نذهب معا إلى السودان، فنبعد عن الثقلاء، ونصيب مرميين: (الأول) أننا نتمكن من التكلم في شئون قناتنا، وليس حولنا عاذل؛ و(الثاني) أنك تنظر بعينيك حال شعب ألقيت أحكامه إليك، ويبلغنا أنه يئن من الظلم الضاغط عليه؛ فتصلح حاله، وتمد ظل السعادة فوقه؟»
13
فطرب (سعيد) للفكرة، وقام من وقته إلى زيارته للسودان التي ذكرناها؛ فما بلغ بربر إلا وقد أثارت شجونه الويلات والمصائب التي رآها محيقة بتلك الشعوب المسكينة، فدخل دي لسبس عليه، يوما، وإذا به يبكي بكاء سخينا، فسأله: «ما الذي يبكيك؟» قال: «أبكي على شقاء هذا الملأ، وعلى ما فعلت به أسرتي، فإن العرائض مفعمة بالشكاوى ترد إلي، في كل لحظة، من عموم طبقات الناس، وقد رأيت بعيني رأسي القرى التي أحرقها الدفتردار صهري ولم يعد للآن بناؤها. هذا بؤس فوق طاقة الاحتمال، وقد عزمت على التخلي عن السودان، فأتركه وشأنه، وأعود إلى مصر!»
فقال دي لسبس له: «هذا لن يكون. أنت لا تستطيع أن تعود بهذه الصفة، فارا من وجه واجبك. أنت أمير متعلم ذو خبرة، فقنن لهذه الأمم، وأنشئ لها بلديات تهتم بشئونها!»
قال (سعيد): «صدقت، وسترى في ذلك همتي».
14
فلما وصل إلى شندي، اجتمع، حوله، أكثر من مائة ألف رجل، فقال لهم: «بلغني أن الشيخ التركي الحاكم على هذا البلد، منذ نيف وعشرين سنة، قد حبس عنده عدة أرقاء، وعلى الأخص عبدا أوثق قيوده، فهو قد خالف بذا؛ أوامري القاضية بمنع الاسترقاق، فأتوني به!»
فأطاعوه، فأمر بالتركي، فطرح على بطنه، وضرب مائة سوط، ثم غلل بأغلال عبده، فصاح الجمهور: «الله! الله! هكذا يكون الإنصاف والعدل! وإلا، فلا! فليحي الأمير!»
فعاد (سعيد) إلى مخاطبتهم وقال: «أترون هذه الحصون التي أقامها والدي، منذ نيف وأربعين سنة على ساحل النيل؟ اذهبوا وخذوا المدافع التي فيها واطرحوها في النهر!»
فهمس دي لسبس في أذنه، قائلا: «إنك تتطرف، فقد يستعملونها بعد رحيلنا، ويستخدمونها فيما قد يضر!»
فقال له (سعيد): «لا تخف! فهي غير صالحة».
15
ولما بلغوا الخرطوم، وتعشوا هناك، عشاءهم الأول - وكان لذيذا وفي محل معد إعدادا جميلا، بالرغم من بعد الشقة - وقع عند نهاية الأكل، حادث غريب، فإن وجه (سعيد) أظلم فجأة، وانتفخت شفتاه وعروق رقبته، فأدلى طربوشه على عينيه، حتى كاد يغطي نصف أنفه - وهو عمل كان يقدم عليه دائما في أوقات انفعالاته الشديدة - وانقلبت سحنته انقلابا مخيفا، فانزعج الحاضرون، وتساءلوا: «ماذا جرى؟» وإذا به نهض، بغتة، وتناول سيفه وقذف به بعيدا على أريكة في آخر الحجرة، وصاح: «اتركوني! لا تسألوني عن شيء!» ففر الجميع، مذعورين! فقال (سعيد) لأحد أمنائه: «سر بالمسيو دي لسبس إلى الأودة التي أعدت لي حالا، وليتركني الكل!» فوقع الوزراء في حيرة، وضربوا أخماسا في أسداس؛ لأنهم اعتقدوا أن حرارة الطقس قد أثرت في عقل الأمير فأورثته جنونا، وهو على ذلك البعد السحيق من عاصمته! ولم يدروا ما العمل!
فلما كانت الساعة الثانية صباحا، طلب (سعيد ) أن يحضروا له حماما باردا، فدل ذلك على أنه أفاق من الحال التي كان فيها، وعند الساعة الثالثة، أرسل إلى دي لسبس، فدخل الفرنساوي عليه وإذا به متكئ على أريكة يدخن شبكة بهدوء تام، فقال له: «أنت طلبت مني يا صديقي، أن أسمح لك بنزهة على النيلين الأبيض والأزرق، فها قد جعلت تحت تصرفك مركبين وطباخي. اذهب وتنزه كما تريد!»
فقال دي لسبس: «يعني أنك تطردني. أجل، ولكني أريد أن تعرفني، أولا، ما الذي جرى لك البارحة!»
فلم يجبه (سعيد) إلى طلبه، والذي دار في خلد دي لسبس، بناء على قرائن الأحوال هو أن (سعيدا) قال، حتما، في نفسه: «هذا رجل أتى من باريس، حيث ترك عائلته وأولاده، وجاء إلى الخرطوم على بعد نيف وألفي ميل عن مصر، فينفتح ذهنه هو، إلى نصيحة حسنة يبديها لي؛ وأنا لا ينفتح ذهني لها؟» وأن هذا الفكر هو الذي غير دمه إلى حد أخرجه عن دائرة صوابه، حتى خطر له أن يثب عليه ويقتله، فرمى بسيفه بعيدا، لكيلا يغلبه الوسواس، فيصير إلى ما صار إليه الاسكندر الأكبر مع كليتس صديقه، ثم أراد إبعاده، بعد ذلك بضعة أيام، لكيلا تنسب إليه الإصلاحات الجميلة، التي صمم على إدخالها على حالي السودان الإدارية والاجتماعية، بل تنسب هي ونفاذها إليه دون سواه!
16
غير أنه في سنة 1857 عينها التي سافر (سعيد) فيها إلى السودان، شبت في الهند الثورة العسكرية المشهورة التي كادت تفقد بريطانيا العظمى تلك المستعمرة الغنية، وتنتزع من التاج البريطاني أجمل وأثمن ماسة فيه.
فشعر الشعب الإنجليزي بأسره شعورا عميقا بمقدار الفائدة الناجمة له قبل غيره، وأكثر من سواه، عن تقصير مدى السفر البحري بين شواطئ بلاده وشواطئ الشرق الأقصى؛ وأخذ يقدر مشروع دي لسبس حق قدره؛ وشرعت الدوائر التجارية والصناعية، بل بعض الدوائر السياسية عينها، تحبذ العمل، وتستنكر معارضة الحكومة الإنجليزية له.
فباتت الطريق إذا ممهدة هناك، أمام مجهودات دي لسبس؛ وأصبحت الأرض صالحة لتنمو فيها بذور إقناعاته، فلما أم البلاد الإنجليزية، لتنوير أذهان أهلها واستمالتهم إلى مشروعه، وجد من مظاهر الاحتفاء به، والإكرام له ما قرت به عينه وانشرح له صدره، فخطب في نيف وخمسة عشر مجتمعا حافلا بنقابات التجارة ومندوبيات البلديات، في لندرا وغيرها، من أمهات المدن البريطانية، فنال منها كلها، قرارات بصلاحية المشروع وكبير فائدته للتجارة على العموم والتجارة الإنجليزية على الأخص.
وحدا ذلك بزمرة من خيرة رجال البرلمان البريطاني إلى القيام لتعضيده، وسؤال الحكومة رسميا في جلسة 2 يونية سنة 1858 عما إذا كان في عزمها أن تساعد على نفاذ مشروع قنال السويس، وتحمل الباب العالي على منح الفرمان المطلوب له.
فأثار هذا السؤال أحقاد اللورد بلمرستن الكامنة، وهيج غضبه، فنسي مركزه وواجب المجاملة التي يقتضيها منه لفرنسا وحكومتها؛ وانبرى للرد على السائل، بمضاضة لا مزيد عليها، قائلا : «إن الحكومة البريطانية أبعد من أن تعضد «خزعبلة» وطريقة نصب، غرضها الاحتيال على اقتناص أموال البسطاء، بحجة نفاذ مشروع خيالي وهمي، لا سبيل مطلقا إلى نفاذه!»
فانضم مجلس النواب إلى اللورد النبيل، ورفض السؤال والخوض فيه بأغلبية ساحقة.
فما كان من دي لسبس إلا أن أجاب على ذلك بإقدامه، في 5 نوفمبر سنة 1858، على فتح الاكتتابات العامة في أسهم الشركة العالمية، بفرنسا وغيرها من الأقطار الغربية.
ففاق النجاح كل ما كان ينتظر؛ وغطى الاكتتاب عدة مرات! فلم تنقض سنة 1858 إلا والشركة قد تأسست، وتعين لها مجلس إدارة، وبات وراء دي لسبس يعضده ضد كل من يقاوم المشروع، خمسة وعشرون ألف مساهم، ورأس مال فرنساوي يزيد على مائة مليون من الفرنكات، ويتحتم على الحكومة الفرنساوية أن تدافع عنه، مهما رغبت في الوقوف على الحياد لعدم تعكير صفاء الجو السياسي بينها وبين إنجلترا.
وربما كان للفتنة - التي، على إثر رفض البرلمان البريطاني السؤال الذي وجهته إليه تلك الزمرة المتنورة من أعضائه، قامت في جدة، من أعمال شبه الجزيرة العربية، وهاجم فيها خمسة آلاف متحمس قنصلتي فرنسا وإنجلترا، وقتلوا رجالهما، وفتكوا بنسائهما، وارتكبوا من الآثام والمنكرات ما يجل عن وصفه القلم
17 - دخل في إقدام الناس، لا سيما الفرنساويين على الاكتتاب في أسهم المشروع. كأنهم أرادوا بذلك أن يؤكدوا، من جهة، مشاطرتهم الأمير (محمد سعيد باشا) رأيه فيما قاله لدي لسبس، حينما بلغتهما أنباء تلك الفتنة، وهو: «إن ترعتنا ستتكفل بجعل عودة جدة أو غيرها من بلاد شبه الجزيرة العربية إلى مثل هذه الفظائع، أمرا متعذرا، لأنها ستجبر بلاد العرب بأسرها، ولو بالرغم منها، على أخذ نصيبها من الحركة الغربية!»
18
وأن يحتجوا، من جهة أخرى، على وقوف الحكومة الإنجليزية ذلك الموقف الشاذ، بعد أن أصدر العلم قراره النهائي، بإمكان عمل الترعة؛ وبات بلمرستن، رغم محاولته إخفاء عواطفه الحقيقية، بتستره وراء مزاعم باطلة، لا يستطيع أن يمد الحجاب على أنه إنما ظل يقاوم المشروع؛ لأن مصدره فرنساوي محض؛ وأنه هو يكره فرنسا، وكل ما يزيد في عظمتها، لكونه من بقايا الحزب المتشبع بالسخط عليها، وبوجوب منافستها، دون غيرها.
وفي 25 أبريل سنة 1859 ذهب المجلس المؤلف لإدارة الشركة، بزعامة رئيسه المسيو دي لسبس وزمرة من المهندسين، إلى برزخ السويس، من جهة البحر الأبيض المتوسط، حيث قامت، بعد ذلك، مدينة بورسعيد الجميلة، وحيث كان قد احتشد جمهور يربو على مائة وخمسين ما بين نوتي وعامل، ونهض الرئيس بينهم، خطيبا، وبيده فأس، وقال:
باسم شركة قناة السويس البحرية الكونية، وبمقتضى قرارات مجلس إدارتها، نضرب، الآن، أول ضربة فأس على هذه الأرض، لفتح مداخل الشرق إلى تجارة الغرب ومدنيته؛ ونحن متحدون، هنا، في إخلاص واحد لمصالح مساهمي الشركة، ومصالح الأمير النبيل (محمد سعيد) منشئها الكريم والمحسن إليها صنعا!
19
وأقبل ينكس بفأسه التراب في الأخدود المختط، لحفر الترعة فيه، واقتدى به جمهور الحاضرين، ثم قامت الأعمال على قدم وساق، وأخذت تتقدم منذ ذلك الحين، بلا ملل ولا كلل، وبدون انتظار ورود الفرمان السلطاني المؤذن بالتصديق على الامتياز الممنوح.
فهاج ذلك سخط الحكومة الإنجليزية، فوطنت نفسها على تعطيل المشروع وإيقاف الأعمال، مهما كلفها ذلك من المشاق، وأوعزت إلى السير بلور سفيرها بالأستانة - وكان قد خلف، هناك، اللورد ستراتفرد دي رد كليف - بأن لا ينفك راكبا على أنفاس الحكومة العثمانية، حتى يقضي منها الوطر المرغوب.
فقال السير بلور في نفسه: «إننا إذا نزعنا الأمير (محمد سعيد) من إمارة مصر، حبط المشروع برمته من تلقاء ذاته، بسبب زوال مانح امتيازه!»
وانفتق ذهنه في الحال، إلى تدبير وسيلة للوصول إلى ذلك.
فاتفق مع الحكومة العثمانية على أن يقوم السلطان عبد المجيد لزيارة بيروت، ويدعو الأمير (محمد سعيد) إلى مقابلته فيها، فلا يسعه إلا أن يجيب الطلب، فلما يلقي بنفسه بين يدي الحكومة العثمانية، يقبص عليه، ويشهر تمرده، ويعلن خلعه، ويولى غيره، ثم يطالب دي لسبس بالتوقف عن العمل، لبطلان الأساس القائم ذلك العمل عليه؛ وأعني به حق الامتياز الممنوح من أمير عد من متبوعه متمردا، لإقدامه على منحه إياه.
فوافقت الحكومة العثمانية على ذلك؛ وأرسلت بريطانيا العظمى عمارة بحرية إلى مياه الإسكندرية لمساعدتها على تنفيذ المتفق عليه (23 يولية سنة 1859).
ولكن الانتصارات المتوالية التي أحرزتها الجيوش الفرنساوية المحاربة في إيطاليا لتحرير هذا الإقليم من نير النمساويين، رفعت من شأن فرنسا، وزادت في هيبة نفوذها إلى حد أن كلمتها أصبحت العليا في أوروبا، وأن لندن والأستانة لم تعودا تجسران على تنفيذ الخطة التي رسمتها مخيلة السير بلور للتخلص من مشروع ترعة السويس، فأهمل السلطان أمر سفره إلى بيروت - على أننا رأينا أن (محمد سعيد) قد زارها في تلك السنة عينها - وأقلعت العمارة البريطانية من مياه الإسكندرية.
غير أن ذلك لم يقعد الحكومة الإنجليزية عن معاكسة القناة؛ وما زال السير بلور بالباب العالي حتى حمله على إرسال مندوب يدعى مختار بك إلى الأمير (محمد سعيد باشا) يحمل إليه الأمر السلطاني بإبطال الأعمال الجارية في البرزخ (أكتوبر سنة 1859).
فعقد الأمير في حيرته جمعية من قناصل الدول العامة المقيمين بالإسكندرية، وعرض الأمر عليهم، فدهشوا كلهم ولم يحيروا جوابا؛ لأن دولهم بأجمعها - ما عدا إنجلترا - كانت موافقة على المشروع، مستحسنة له.
وإذا بالمسيو ساباتييه، القنصل الفرنساوي العام، لحزازات نجمت بينه وبين رجال المشروع عن كيفية تشكيل مجلس إدارة الشركة، قام وأعلن موافقته على مطالب الأستانة، في وسط الاستغراب والبهت العامين.
فلم ير الأمير، حينذاك، بدا من الإذعان إلى الأمر، وأخذ يفكر في كيفية إعلان صديقه دي لسبس به.
ولكن دي لسبس علم بما جرى في حينه، وهب لتلافي النكبة الموشكة أن تحل به، فرفع الأمر، مباشرة، إلى الإمبراطور نابوليون الثالث، ووسط لديه الإمبراطورة أوچيني قرينته - وكان بينها وبين صاحب مشروع الترعة، صلة رحم - وطلب التأثير على حكومة الأستانة، تأثيرا يحملها على إلغاء الأوامر التي زودت مختار بك بها، وعزل ساباتييه، أو نقله إلى قنصلية الإسكندرية، فأجابه الإمبراطور إلى طلباته كلها، فتداخل لدى الباب العالي تداخلا فعالا، كان الصدر الأعظم علي باشا يبتغيه من صميم فؤاده، ليتمكن من الاستناد عليه في مخالفته لرغائب السفير البريطاني، وإبطال الأوامر التي حملها مختار بك إلى الإسكندرية ، وعزل ساباتييه عزلا باتا.
فما زادت إنجلترا إلا عنادا وإصرارا على الفوز بمرامها، وأقبل قنصلها بالإسكندرية يخوف الأمير (محمد سعيد) من عواقب اكتتابه بالنيف والمائة والخمسين ألف سهم التي أخذها لحساب حكومته من أسهم الشركة الأربعمائة ألف.
ولكن (سعيدا) لم يبال، وما زال واقفا بجانب صديقه دي لسبس يعضده ويشجعه، حتى وافاه الأجل المحتوم، وكان دي لسبس قد رأى بين يديه، ذات يوم، عصا جميلة أحضرها (سعيد) من لندن، أثناء زيارته لها، فأهداه أخرى أجمل منها صنعا، لتقوم مقام تلك العصا الإنجليزية، وتكون تذكارا منه لأميره العزيز، فاتفق (سعيد) معه على أنه إذا دخل عليه ووجده قابضا على عصاه هذه، يخاطبه في شأن القناة بلا خوف ولا وجل، وأما إذا دخل عليه ووجد في يده العصا الإنجليزية فليفهم حالا أن هناك عاذلا، وأن الكلام في شأن القناة لا يناسب.
20
فلما آل زمام حكم القطر المصري إلى (إسماعيل)، أظهر لدي لسبس ارتياحه إلى القناة، ورغبته في أن يتم ذلك العمل المجيد في عهده، ليتشرف ويفتخر به أمام الأجيال المستقبلة، ووعده من تعضيده له، وقيامه بتعهدات سلفه، الخير كله، ولكن ذلك كان عقب ارتقائه العرش مباشرة، في وقت لم يكن يدري فيه بالتمام ما هي تلك التعهدات - لأنه، لا سيما منذ أصبح ولي العهد، كان يتحاشى التداخل في أي شأن من شئون الحكومة لم يكلفه عمه به، منعا لإيجاد أسباب لوشاية دساس، يبغي من إبدائها قربا من (محمد سعيد) وحظوة لديه.
فلما وقف على حقيقتها، امتعض امتعاضا لا مزيد عليه، لما وجده ناجما عنها من مشاركة الشركة لحكومته في صولتها، وإدارتها، وماليتها؛ وود لو أمكنه تعديلها بحيث يجرد الشركة من تلك المشاركة، بدون حرمانها من أي امتياز تجاري، أو مصلحي، يضمنه امتيازها لها.
ثم لما تيقن أن القناة إنما تعمل بأيدي فلاحي مصر، وأن معظم النقود المنفقة عليها، نقود مصرية، ريثما يتجمع رأس المال الأجنبي المكتتب به، ود في صميمه لو تنحت الشركة عن المشروع له، وتركته يقوم وحده، بمجرد الوسائل التي يجدها من بلاده وفيها، بذلك العمل الاجتماعي الجزيل الفائدة، فلا يعود فخر إنشائه وإتمامه إلا إليه، وتعود معظم الفائدة الناجمة عنه إلى قطره المصري، فتجري القناة شرقيه پكتولا
21
جديدا، بينما النيل يجري في وسطه، معين حياة وخيرات أبدية؛ وقد عبر عن شعوره هذا بقوله: «إني إنما أريد القناة لمصر، لا مصر للقناة!»
22
ولكنه، لمعرفته أخلاق دي لسبس معرفة كافية، كان متأكدا من أن الرجل لن يتخلى عن نفاذ مشروعه بنفسه، مهما اضطره نفاذه إلى المناضلة والمقاتلة عنه، فحصر فكره، إذا، في العمل على إزالة ما في الامتياز، الممنوح له، من جائر على حقوق الحكومة المصرية السيادية، فإن أدى ذلك إلى تنحي الشركة عن المشروع، مقابل تعويض موافق يمنح لها، كان خير ما يرام؛ وإلا، فإنه يكون قد فك عن ساعدي حكومته القيد الخماسي الحلقات الذي غلهما به ذلك الامتياز؛ وأعني بها:
أولا:
ملزومية الحكومة المصرية بتقديم أربعة أخماس العمال الذين تحتاج الشركة إليهم، ولو بلغ عددهم عشرين ألفا؛ بما يتبع ذلك من حق للشركة في مطالبة الحكومة بتعويض في حال تقصيرها أو عجزها.
ثانيا:
ملكية الشركة لترعة الري والملاحة النيلية، التي كلفها الامتياز الممنوح لها بعملها؛ وهي الترعة الواجب أن تأخذها من مياه النيل عند مصر، لتذهب بها حتى بحيرة التمساح، حيث تنقسم إلى قسمين، يذهبان محاذيين للترعة البحرية: (أحدهما) شمالا، نحو البحر الأبيض، لغاية بورسعيد؛ و(الثاني) جنوبا، نحو البحر الأحمر، لغاية السويس، وحق الشركة في ري الأطيان، الخاصة بالأفراد، المجاورة لها من مياهها، مقابل جعل لها وحدها، دون غيرها أن تربط مقداره.
ثالثا:
ملكية الشركة ملكية مطلقة، بدون مقابل، وبدون دفع أموال أميرية، لجميع الأطيان، غير المملوكة لأحد، التي قد تحتاج إليها في عملها الترعتين: البحرية الملحة والنيلية العذبة؛ وملكيتها المطلقة أيضا لجميع الأطيان التي قد ترويها وتفلحها، على شرط أن تدفع عنها أموالا بعد مضي عشر سنوات من تاريخ الشروع في تأهيلها للزراعة.
رابعا:
سلطة الشركة التامة على الترعة البحرية وضفتيها؛ وتصرفها، دون غيرها، في توسيعها التوسيع الذي ترغبه، وفي إقامة المباني التي تريدها؛ ومنع الحكومة المصرية من إقامة ما تريده من حصون على ضفافها؛ والانفراد بالنظر في شئون العاملين في ورشها ومعاملها، والمقيمين على البرزخ الجارية أعمالها فيه.
خامسا:
وأخيرا: اضطرار الحكومة المصرية إلى نزع ملكية الأطيان الخاصة بالأفراد، التي قد تحتاج الشركة إليها، لنفاذ أعمالها، أو استغلال امتيازها.
23
فلما صح عزمه على هذا السعي، أقبل ينفذه، وهو لا يخشى في جهاده لومة لائم، لا لأنه لم يكن يقدر نتيجته حق قدرها؛ كلا - فإنه لم يكن بالأمير الجاهل، مطموس البصيرة، العاجز عن أن يرى أن مقاومته لشركة قناة السويس، قد تصبغها الأهواء والأغراض بصبغة غير صبغتها الحقيقية؛ فترسمه أمام العالم المتمدين وأمام التاريخ في صورة الظالم الغبي، الباذل جهده في القضاء على أعظم مشروع، بل أعظم عمل أبرزه القرن التاسع عشر إلى الوجود، وأقدم على تنفيذه؛ وفي صورة الأحمق الباحث على إتلاف ما هو حقيق باعتباره خير جوهرة في جواهر ملكه - ولكن، لاعتقاده أن واجبه، بصفته ولي أمر الحكومة المصرية، المسئول عن استقلال البلاد، والاستقلال الداخلي النوعي الذي ضمنته لها معاهدة لندن سنة 1840، والفرمانات السلطانية الصادرة مؤذنة بالتصديق على قراراتها، يحتم عليه إزالة الحكومة التي أصبحت للشركة ضمن حكومته، فأقدم إذا على ذلك، وهو مرتاح الوجدان مطمئن القلب، واثق من أن نياته الحقيقية، ومراميه الفعلية لن تلبث أن تظهر للملأ: فيمتدحه قادحوه، ويفهمه نفس أصحاب المصالح المغايرة لمصلحته.
فأول خطوة خطاها في هذا السبيل، الاتفاق الذي أبرمه، على يد نوبار بك مع الشركة بتاريخ 18 مارس سنة 1863 - أي بعد ارتقائه العرش بشهرين - فإنه أحل بموجبه الحكومة المصرية محل الشركة في القيام بوصل ترعة الماء العذب الذاهبة من الزقازيق إلى بحيرة التمساح فإلى السويس جنوبا، وبورسعيد شرقا، بالنيل عند مصر؛ وذلك اجتنابا للمنازعات المتوقع نجومها، حتما، عن نزع ملكية الأطيان الخاصة بالأفراد، واللازمة لحفر مجرى الترعة من مصر إلى الزقازيق، واحتراما لمصالح الحكومة المصرية.
24
وثاني خطوة، الاتفاق المالي الذي عقده مع الشركة، على يد مندوبه عينه في 20 مارس سنة 1863 - أي: بعد الاتفاق الأول بيومين - فإنه قرر بمقتضاه، المطلوب من حكومته، حتى ذلك اليوم عن ال 177642 سهما التي اكتتب بها الأمير (محمد سعيد)؛ ورتب كيفية دفعه؛ وحفظ لحكومته الحق في الاتفاق مع الشركة على كيفية دفع الخمسين الباقيين من ثمن كل سهم، حينما تطالب الشركة مساهميها بهما.
25
ثم دخل في المعمعة بصراحة؛ وأخذ يضرب على القيد الخماسي الحلقات، بقوة وحكمة ممتزجتين معا، امتزاجا لطيفا؛ لا سيما وأنه كان قد اتفق على العمل مقدما مع الحكومة العثمانية، ووضع كلاهما خطة السير الواجب اتباعها.
فارتكن على إعلانه رغبته في إبطال السخرة، وعلى أن السخرة في حد ذاتها أمر كريه، من الوجهة الإنسانية، تأباه روح الإنصاف وتنفر روح العدالة منه، ليطلب إلى الشركة تنازلها عن حقها في مطالبة الحكومة المصرية بالعمال الذين هي في حاجة إليهم؛ لأنها تشغلهم سخرة، ولو أنها تدفع لهم في الحقيقة أجرة انتقالهم من قراهم إلى البرزخ ومنه إليها إيابا، مهما بعدت شقتها عنه؛ وتدفع لهم أجورا يومية على نسبة أعلى مما يدفع من نوعها لأمثالهم في البلاد؛ وإنها تقدم لهم فوق ذلك المأكل والمأوى؛ وتقوم بشئون علاجهم في حال مرضهم، مع احتساب أجرتهم لهم مدة معينة، بالرغم من انقطاعهم عن العمل، وهم يعالجون في المستشفيات التي تعهدت بإنشائها لهم.
وارتكن على أن احتياج الشركة، بسبب الأعمال الجارية في البرزخ، إلى ترعة تذهب بمياه النيل العذبة إلى أماكن العمل المتعددة، وإلى مدينة بورسعيد التي أنشأتها حديثا، من جهة؛ ومدينة السويس، من جهة أخرى؛ وتكون صالحة للملاحة النيلية معا، إن برر مطالبة الشركة للحكومة المصرية بتمكينها إلى الأبد من الانتفاع والاستفادة من تلك الترعة، ومطالبتها بالتعهد لها بالمحافظة عليها وعلى منسوبها، مهما تنوعت طوارئ الحدثان، لا يبرر تملك الشركة لها تملكا مطلقا؛ لأن الترع التي على شاكلتها، بصفتها منفعة من المنافع العمومية، لمن الأشياء التي لا يجوز تملكها للأفراد، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وأسسوا وحدة دعوها «شركة» ولأن تملكها حق من حقوق الحكومة في جميع الأقطار، لا يشاركها أحد فيه.
وارتكن على أن الخرائط والتصميمات المنصوص عنها في المادة الثامنة من فرمان الامتياز المؤرخ 30 نوفمبر سنة 1854، والمادة الحادية عشرة من فرمان الامتياز الثاني المؤرخ 5 يناير سنة 1856 - وهي المطلوبة لبيان وتحديد مساحة الأطيان اللازمة لتمكين الشركة من القيام بنفاذ مشروعها، وعمل الترعتين البحرية والنيلية - لم تصنع حتى ذلك العهد، لمطالبة الشركة بحصر مزاعمها التملكية للأطيان غير المملوكة لأحد، ضمن حدود الاعتدال والمعقول، والاتفاق مع الحكومة المصرية على حقيقة المساحة اللازمة لها في الصحيح، لتتمكن من ضمان نجاح مشروعها؛ والتخلي عما عداها من الأطيان الأخرى التي وضعت يدها عليها، استنادا على المادة الرابعة من الفرمان الأول، والمادة العاشرة من الفرمان الثاني.
وارتكن على أن قوانين الدولة العلية لا تبيح التنازل لأجنبي عن ملكية أرض في دائرة ولاياتها، إلا بفرمان خاص يصدر من لدن الحضرة الشاهانية، وعلى أن مصر إنما هي ولاية - وإن كانت ممتازة ومتمتعة باستقلال داخلي - من ولايات الدولة العثمانية؛ وأن قوانين الدولة التملكية تنطبق إذا عليها بلا مراء ولا جدال، ليطالب الشركة بالتخلي عن جميع الأطيان غير المملوكة لأحد التي آلت إليها ملكيتها بموجب نصوص الفرمانين، لقيامها بريها وفلاحتها؛ وبتحرير الحكومة المصرية بالتالي، من حلقة القيد الخامسة والأخيرة الناجمة لها عن نص المادة الثانية عشرة من الفرمان الثاني.
وارتكن على منطوق آخر فقرة في المادة الرابعة من الفرمان الأول، وعلى حقوق الدولة السيادية المعترف بها في كل صقع، لمطالبة الشركة بالخضوع لحق الحكومة المصرية، في تحديد اتساع الترعة، وإقامة ما تشاء على ضفافها من استحكامات حربية وحصون، وفي سيطرتها، دون سواها، على عموم رعاياها المنتشرين في البرزخ والعاملين في معامل الشركة وورشها.
وبعد أن اغتنم فرصة وجود السلطان عبد العزيز ووزيره فؤاد باشا بمصر، واستوثق من بقائهما على العهد الذي اتفق عليه معهما، أثناء إقامته بالأستانة، عهد إلى وزيره نوبار - وكان السلطان عبد العزيز قد أنعم عليه برتبة الباشوية الرفيعة - في مهمة الاتفاق مع دي لسبس على إزالة ذلك القيد الخماسي الحلقات بالتي هي أحسن.
فشرع ذلك السياسي الحاذق يتخابر مع «الفرنساوي العظيم» - كما دعى «جمبتا» دي لسبس - عساه أن يصل إلى إقناعه بقبول طلبات (إسماعيل).
ولكنه لم يفلح؛ لأن الأمير إنما كان يريد أن يدرك أغراضه بدون دفع أي تعويض؛ لزعمه أن الشركة، بإقدامها على الأعمال، قبل نيلها مصادقة السلطان العثماني على الامتياز الممنوح لها، مع ذكر وجوب حصولها عليه في نص ذلك الامتياز، قد ارتكبت خطأ اختياريا، عليها أن تتحمل، دون غيرها، عواقبه؛ وإنها والحالة هذه، غير محقة في مطالبة الغير - والحكومة المصرية أقل من سواها - بأي تعويض عن الأضرار التي قد تنجم عن تجاوز وقعت في شره، ودي لسبس، من جهته، إذا وجد من نفسه ميلا إلى التسليم ببعض مزاعم الأمير، وطلباته، حتى بدون تعويض، كالطلب الأخير، مثلا، لم يكن يستطيع أن يسلم بها كلها، ولا سيما بما كان منها مختصا بالعمال والأطيان، إلا مقابل تعويضات كبيرة تمكنه من نجاز مشروعه؛ إلا إذا كان مستعدا - ولم يكنه - إلى اطراح العمل بأسره جانبا، والتخلي عنه.
فلما لم تجد المخابرات بمصر نفعا، أمر (إسماعيل) نوبار بالرحيل إلى الأستانة، والسعي لدى أولي الأمر، هناك، في إتمام المتفق عليه بينه وبينهم والاستعانة، على إنجاز مهمته، بما لم يزل قائما من عداء للمشروع في نفس الدولة البريطانية وسفيرها في تلك العاصمة، ولم يبال بأن يقال عنه إنه آلة في أيدي اللورد بلمرستن والحكومة الإنجليزية؛ وأن ينسب إليه ممالأتهما على هواهما ممالأة مبنية على الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى، بعد حوادث سنة 1840 وسنة 1854 وسنة 1855 وسنة 1856؛ وبعد إجبارها فرنسا، بالرغم من انتصاراتها الإيطالية في سنة 1859، على الجلاء عن سورية بعد سنة 1860، أصبحت صاحبة القدح المعلى في ميادين السياسة العالمية، وصاحبة النفوذ الأكبر في القسطنطينية، وأصبح استجلاب رضاها، إذا، للاعتماد عليها، فيما بعد، لتحقيق المطامع الشخصية، أمرا مرغوبا فيه.
ولكي لا يكون هناك شك في أنه إنما يحارب ما هو متجاوز حد الاعتدال في الامتياز الممنوح للشركة، لا مشروع القناة نفسه، أمر نوبار بأن يحصر مهمته في طلب ونيل الأغراض الآتية من حكومة الأستانة وهي:
أولا:
إعادة الأطيان المعطاة للشركة من (سعيد) سلفه إلى الحكومة المصرية.
ثانيا:
منع إقامة حصون واستحكامات حربية على شاطئ القناة مطلقا، وحفظ شكله التجاري المحض الذي أنشئ من أجله.
ثالثا:
إلغاء الشرط الموجب على الحكومة المصرية تقديم العمال من قبلها إلى الشركة، فإن لم يمكن، فتخفيض عددهم من عشرين ألفا إلى ستة آلاف؛ ورفع أجورهم، مع إعفائهم من الخضوع لسيطرة الشركة لكي يستمروا خاضعين لحكومتهم المصرية فقط.
26
فسافر نوبار إلى الأستانة في شهر يوليو سنة 1863، ونجح في مهمته النجاح المنتظر، فاستصدر من الباب العالي أمرا إلى (إسماعيل) يحتم عليه عرض المطالب الثلاثة المبينة أعلاه على رئيس الشركة، وأعضاء مجلس إدارتها، فإن قبلوها في ظرف ستة أشهر، فبها؛ وإلا فتوقف الأشغال بالقوة الجبرية.
ثم رحل إلى باريس، لعلمه أن الأمر سيرفع حتما إليها؛ وأنه يجدر به إذا أن يمهد الطريق هناك على الأخص لنجاح مطالب سيده.
فأبلغ (إسماعيل) في 12 أكتوبر سنة 1863 أمر الباب العالي إلى المسيو دي لسبس ومجلس إدارة الشركة؛ فامتعضا له، أيما امتعاض، وحررا في 29 من الشهر عينه إلى الإمبراطور نابليون الثالث كتابا حاد الشعور، طلبا فيه عنايته بالأمر.
ولتقدير دي لسبس الخطر حق قدره، وتيقنه من أن المكاتبات لا تجدي ما يجدي الكلام والعمل، سافر بنفسه إلى باريس، ليناضل خصمه، هناك، في ذات الميدان الذي اختاره للنضال.
فدارت بينه وبين نوبار أدوار مبارزة كلامية وصحفية سياسية، استلفتت إليها أنظار العالم المتمدين كله، وأثارت شجونا، وانفعالات متعددة مختلفة.
وكان نوبار قد اكتسب ثقة الدوق دي مرني، صنو نابوليون الثالث، واستوثق من تعضيده الفعال، فاعتقد أن الفوز بات، حتما، حليفه، لما كان لذلك الدوق القدير من التأثير على روح الإمبراطور، والنفوذ لديه، ولكن دي لسبس، من جهته، كان مستوثقا من انعطاف الإمبراطورة قريبته، على المشروع، ومن تعضيدها له، تعضيدا لا يبالي بالعقبات والصعوبات، ولو أنه خفي فطلب إليها أن تحمل الإمبراطور على رفض تداخل دي مرني في الأمر، وأن يعهد النظر فيه إلى المسيو دي لويس وزير الخارجية الفرنساوية ، وأفلح في طلبه.
غير أن النقود اشتغلت، من وراء الستار، وبذلت عن سعة، فقامت الجرائد المعادية للمشروع في إنجلترا تطعن طعنها المر المعتاد عليه، وتسفه أحلام القائمين به، وترميهم بالمثالب والمطامع الشخصية، والعمل على تحقيقها دون سواها، وتنادي بالويل والثبور على استخدام السخرة في سبيل إنشاء تلك الترعة، معلنة منافاة ذلك لمبادئ الإنسانية والمدنية الأوروبية، وانضمت إليها في حملاتها بعض الجرائد الفرنساوية عينها، لا بل بعض كبار الكتاب والمفكرين، ومنهم پارادول؛ فإنه سئل من بعضهم، عند عودته من القطر المصري: «هل ذهبت لمشاهدة أعمال ترعة السويس؟» فأجاب بتميز: «لم أذهب، ولو ذهبت لجعلتها خرابا!»
27
غير أن جرائد أخرى، في عموم الدول الأوروبية، قامت تدافع عن المشروع وتحبذه، وتدافع عن حقوق الشركة وتعضدها، وأثار دي لسبس الرأي العام الفرنساوي وهيج عواطفه الوطنية بأن صور له المشروع فرنساويا محضا، وأفهمه بأنه إنما يضطهد ويقاوم لفرنساويته؛ وأن الشرف الفرنساوي أصبح، إذا، متعلقا بنفاذه، وبلغ من دفاعه عن حسن سمعة مشروعه، أنه قدم نوبار باشا نوبار، بصفته الشخصية، لا بصفته مندوب (إسماعيل) إلى محكمة جنح السين، متهما إياه بنشر كتابات ومستندات مزورة ثلابة، من شأنها إحباط ثقة مساهمي الشركة بمشروعها، وهتك ناموس القائمين به.
28
فدفع محامو نوبار التهمة بإبراز كتاب مرسل من الدوق دي مرني إلى موكلهم، يبرر عمله ويعده بتعضيد الإمبراطور، فأعلم دي لسبس الإمبراطورة أوچيني بالواقع، وتشدد في طلب إبعاد دي مرني عن الأمر؛ ولم يحجم عن استنهاض همم مواطنيه، لا سيما كبارهم، لحملهم على الوقوف بجانبه وقوفا يرغم ويقهر الخصوم، ويخيب مساعيهم.
فأقام مريدوه وليمة له بباريس في 11 فبراير سنة 1864، تحت رياسة البرنس چيروم نابوليون، وبحضور نيف وألف وستمائة مدعو، ألقيت فيها الخطب الرنانة، مطالبة بإزالة كل عقبة من طريق إنشاء تلك الترعة، وأهمها خطبة رئيس الحفلة نفسه، وخطبة المسيو دي لسبس، وخطبة المسو ديپين، من كبار رجال الشرع والقضاء بفرنسا.
29
أما الرئيس فإنه، بعد أن أحرق بخور الثناء والمدح (لإسماعيل)، واعترف بأنه إنما يقاوم دي لسبس وشركته، لا لرغبة منه في تعطيل مشروع القناة، ولكن لرغبته في أن يقوم، هو نفسه، بإنجاز ذلك العمل الخطير، أنكر عليه مقدرته على القيام بذلك، واستشهد على صحة قوله بزعم زعمه له موچيل بك، مؤداه أن مصر، بعد أن صرفت نيفا وعشرين مليونا من الفرنكات على إنشاء القناطر الخيرية، حرمت نفسها الاستفادة منها، لضنها بمليون وخمسمائة ألف فرنك أخرى، ثمن الأبواب التي كانت تلك القناطر في احتياج إليها، فتركتها، إذا، تئول إلى الخراب لقعود همتها عن إنفاق ذلك المبلغ اليسير الباقي، المطلوب لتمام عملها؛ وشبه الشرقيين على العموم، في مشاريعهم وأعمالهم «برجل يفقد بنطلونه، لإهماله خياطة زر ينقصه!» وختم خطبته بنصيحة أسداها للشركة بأن تطرق باب التصالح مع الحكومة المصرية على مبدأ منع السخرة، ورد الأطيان مقابل عوض معقول.
وأما المسيو دي لسبس، فبعد أن شرح أغراض الشركة ومراميها، ونتيجة ما وصلت إليه في أعمالها، ومقدار الخير الذي أسدته إلى الصحراء الواقعة بين الزقازيق والسويس، بحفرها الترعة التي أوصلت مياه النيل الحلوة إليها، فأحيتها؛ ومقدار ما يجب أن ينتظر من نجاحها، بعد تمكنها من جلب مياه البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة التمساح - لأن هذا هو العمل الذي قعدت دون إتمامه همة السلف؛ وأما إيصال القلزم بتلك البحيرة عينها، فقد قام الأقدمون به، ونفذته أيضا الأعصر الوسطى - قال: إن الشركة لا ترفض الاتفاق مع الحكومة المصرية، ولكن على شروط تلائم مبادئ الحق والإنصاف، وتراعي ما وصل إليه المشروع، والتعهدات التي في حيازته؛ فلا تقف في سبيل نجاحه.
وأما المسيو ديپين، فإنه، بعد أن أقر مشروعية أعمال الشركة، ولو أنه لم يصدر، إلى ذلك الحين، فرمان سلطاني يؤيد الامتياز الممنوح لها، أبدى أمله بأن تزول كل عقبة، سريعا، من سبيل المشروع وتحقيقه، فتتحول ترعة السويس من «ترعة عواصف» إلى «ترعة رجاء صالح» مشيرا إلى ما أجاب به ملك البرتغال (عمانوئيل السعيد) أمير سفنه الجسور، برثلماؤس دياز، فإن هذا البحري المقدام، لما روى لذلك الملك السعيد الطالع حوادث رحلته حول شاطئ إفريقيا الغربي من شماله إلى جنوبه ، ووصوله، في محاولته بلوغ بحار الهند، إلى أقصى رءوس تلك القارة، جنوبا، واصطدامه هناك بزوابع وعواصف وأنواء حالت دون تقدمه، بما أفزعت من قلوب بحارته ومخيلاتهم، وما أسقطت من هممهم، قال لملكه: «إني قد رأيت، إذا، أن أسمي ذلك الرأس «رأس العواصف»!» فقال الملك: «كلا، بل ندعوه «رأس الرجاء الصالح» تيمنا بالخير في المستقبل! وإلا ثبطنا الهمم، وعقنا الإقدام!»
فكان لتلك الوليمة، والخطب التي ألقيت فيها، وقع في قلوب الأمة الفرنساوية، وفي العالم المفكر برمته، دوى صداه مدة مديدة.
فرأى (إسماعيل) أن الرأي العام المتمدين قد يخدع، فيضلل به؛ فيحول ذلك دون بلوغه مطالبه الحقة، فكاتب نابوليون الثالث رأسا، واختاره حكما بينه وبين الشركة؛ وقبل دي لسبس والشركة التحكيم بسرور فائق.
فأمر نابوليون بتشكيل لجنة من رجال ذوي نزاهة مشهورة تحت رياسة وزير خارجيته المسيو دي لويس، للبحث في الأمر من جميع وجوهه، ودرسه درسا دقيقا.
فوالت اللجنة المذاكرة والدرس ثلاثة أشهر متوالية؛ ثم رفعت إلى الإمبراطور نتيجة ما وصلت إليه مباحثها.
فأصدر الإمبراطور حكمه في 6 يولية سنة 1864، وقرر ما يأتي:
أولا:
إعادة ستة آلاف فدان من الأطيان الممنوحة للشركة، إلى الحكومة المصرية، بتخفيض مقدار الأرض التي كانت للشركة على جانبي الترعة من كيلومتر إلى ستين مترا.
ثانيا:
إعادة جميع الأطيان التي باشرت الشركة فلاحتها وزرعها وقدرها 63 ألف هكتار، إلى الحكومة، على أن لا تبقي لنفسها منها سوى ثلاثة آلاف هكتار.
ثالثا:
تخلي الشركة للحكومة المصرية عن كل حق في مد الترعة ذات الماء العذب من مصر إلى السويس وبورسعيد، وإلزام الحكومة المصرية بمدها - وهي الترعة المعروفة الآن «بالإسماعلية» - مع حفظ حق الشركة في الانتفاع بها.
رابعا:
إبطال حق الشركة في مطالبة الحكومة المصرية بالعمال إلا على سبيل العارية المأجورة.
خامسا:
إلزام الحكومة المصرية، مقابل ذلك جميعه، وعلى سبيل التعويض، بدفع مبلغ 84 مليونا من الفرنكات.
30
ففاز (إسماعيل) بالغرض الذي رمى إليه، ولم يستكثر في سبيل فوزه، المبالغ الجمة التي أنفقها في تمهيد الطريق، بين الأستانة وأوروبا؛ ولا المبلغ الجسيم الذي ألزمه بدفعه الحكم الصادر من نابوليون الثالث.
ولكي يثبت للملأ أنه، في نزاعة مع شركة القناة، إنما سعى إلى تحرير بلاده من قيد كانت مغلولة به، لا إلى الإضرار بالمشروع العظيم، أبرم مع الشركة في 30 يناير سنة 1866 اتفاقا حفظ بمقتضاه للحكومة المصرية الحق: (أولا) في إقامة كل التحصينات والاستحكامات الحربية التي تراها لازمة لحماية القطر، على الأراضي المعتبرة حرما للقناة البحرية، على شرط ألا تنجم عنها عوائق للملاحة؛ و(ثانيا) في إشغال ما تراه من تلك الأراضي بتشييدات تنشئها لمصالحها كالبريد والجمرك والثكنات العسكرية وخلافها، على شرط أن لا تكون عقبة في سبيل استغلال الشركة امتيازها؛ وأن تدفع الحكومة لها ثمن الأراضي التي تشغلها؛ كما أنه حفظ للأفراد الراغبين في الإقامة على شواطئ الترعة البحرية، أو في المدن المقامة على طول مسيرها، الحق في حيازة ما يرونه من الأراضي اللازمة لتشييداتهم، على شرط أن لا تزيد على فدان فرنساوي (أكر)، وأن يخضعوا لقوانين البلاد وعاداتها، ويدفعوا الضرائب، أسوة بباقي سكانها، وأن لا يقيموا منازلهم حيث يعوقون الملاحة، ويدفعوا للشركة ثمن الأرض التي يرغبون فيها.
وتنازلت الشركة للحكومة المصرية، بموجب هذا الاتفاق، عن جميع المباني المقامة منها لمصالحها على ضفاف ترعة الماء العذب، من الزقازيق إلى السويس، بثمنها الأصلي، على أن تؤجرها الحكومة لها بواقع 5٪ سنويا من رأس المال المسدد إليها؛ وبما أنها كانت قد اشترت من تركة إلهامي باشا، تفتيش الوادي كله، وكان يهم الحكومة المصرية استرداده، ضمن الأطيان الأخرى التي قضى حكم نابوليون بإعادتها إليها، فقد باعته الشركة لها بمبانيه ومشتملاته، بموجب الاتفاق ذاته، بمبلغ عشرة ملايين من الفرنكات.
واتفق الفريقان على أن يكون دفع جميع المبالغ التي أصبحت الحكومة المصرية مدينة بها للشركة، على أقساط شهرية متساوية، تبدأ في أول يولية سنة 1866، وتنتهي في أول ديسمبر سنة 1867.
31
ثم أبرم في 22 فبراير سنة 1866 اتفاق آخر مع الشركة لخص فيه فرمانا (سعيد) وكل ما تلاهما من اتفاقيات بين (إسماعيل) والشركة، وما حكم به نابوليون، وما ذكر في اتفاق 30 يناير السابق ، ليأخذ الكل شكلا نهائيا تصادق عليه حكومة الأستانة، كطلبها، فحفظ (إسماعيل) فيه لحكومته الحق في أن يشرف البوليس المصري على عموم الترعة البحرية، وتوابعها وملحقاتها، ليقر الأمن، ويقيم حدود الشرائع والقوانين فيها، كما أنه حفظ حق مرور المواصلات، والتجارة، والناس جميعا، بدون دفع أي رسم كان، في النقط التي تختارها حكومته على ضفاف الترعة؛ ولاعتبار الشركة مصرية، ولو أنها مؤلفة من عناصر دولية، اتفق معها على أن يكون الفصل في المنازعات الناشئة بين أفرادها، والخاصة بتكوينها، فقط من اختصاص المحاكم الفرنساوية، والفصل، فيما عدا ذلك من المنازعات، من اختصاص المحاكم المحلية دون غيرها.
32
وكان الباب العالي قد ماطل جدا، بتأثير الدوائر الرسمية البريطانية الخفي في الأستانة، في منح التصديق المطلوب على فرماني (سعيد)، بالرغم من إنذار أرسله إليه الإمبراطور نابوليون الثالث، بناء على إلحاح دي لسبس، ولكنه اتفق أن فؤادا باشا، الصدر الأعظم، كان يتعالج في جنوب فرنسا، لما حلت ركاب الإمبراطور بمرسيليا، في ذهابه إلى الجزائر، متفقدا، فهب فؤاد إلى مقابلته ولكن الإمبراطور أعرض عنه، ولم يلتفت إليه، ولا رد له سلامه، فاضطرب لذلك الصدر الأعظم، واستفهم عن السبب، فرد عليه بكلمة واحدة: «فرمان»، فما انقضى أسبوع واحد إلا وصدر، في 2 ذي الحجة سنة 1282 / 19 مارس سنة 1866، فرمان التصديق على اتفاقية 22 فبراير سنة 1866 السابق ذكره، وقد قال دي لسبس في هذا الصدد: «لقد صدق المثل العربي القائل: «أوقية خوف أفيد من قنطار صداقة!»
33
وفي 23 أبريل سنة 1869 أبرم (إسماعيل) آخر اتفاقاته في سبيل استعادة آخر حقوق دولته السيادية الباقية في يد الشركة، فنزع بمقتضاها منها، مقابل مبلغ عشرون مليون فرنك، حق إعفاء مستورداتها من الخارج من الضرائب الجمركية؛ وألزمها بأن تدفع، على مراكبها وسفنها المأخرة في مياه ترعة الإسماعيلية، الرسوم التي تدفعها المراكب والسفن المصرية؛ وأن تخضع للوائح المسنونة؛ وأن تتنازل للحكومة المصرية عن القيام بخدمة البريد والتلغراف، لها وللجمهور، غير حافظة لنفسها إلا تلغرافا خاصا بخدمتها الداخلية؛ وأن تتخلى للحكومة عينها عن رسوم الصيد في الترعة والبحيرات؛ وتشركها، بواقع النصف ، في الانتفاع بأثمان الأراضي التي تبيعها الشركة من الأطيان التابعة لها، والخاصة بها، طبقا لنصوص المعاهدات السابقة؛ وأن تتنازل لها، مقابل عشرة ملايين أخرى من الفرنكات، عن كل المستشفيات المقامة على البرزخ بمشتملاتها، وجميع المنازل والمباني المملوكة لها، في رأس الهيش، والقنطرة، وبحيرة البلح، وفردان، والجسر، والورشة نمرة 6 وجبل مريم، وطوش، والسرابئوم، وجنيفا، وشالوف، والكيلومتر نمرة 14 من سهل السويس؛ وعن محاجر المكس ومينائه، ومشتملات الاستغلال فيه؛ وعن مخازنها ومحلاتها في بولاق ودمياط، خالية من كل نزاع ومحظور! وتنازلت الحكومة للشركة عن قطعيات (كوبونات) أسهمها، البالغ عددها 176604، ابتداء من أول يناير سنة 1870 إلى أن تستوفي الشركة منها مبلغ الثلاثين مليونا من الفرنكات التي أصبحت الحكومة مدينة به لها بموجب هذه الاتفاقية.
بهذه الكيفية، وهذه الوسائل، وببذله جميع هذه الأموال، تمكن (إسماعيل) من كسر القيد الخماسي الحلقات الذي غل به فرمانا الامتياز الممنوح من سلفه إلى فردينان دي لسبس وشركة قناة السويس ساعدي حكومته، وسلباها جانبا عظيما من سلطتها واستقلالها.
فلما تم له ما سعى إليه، أقبل، وهو منشرح الصدر، على مساعدة الشركة المساعدة الكلية، حتى مكنها من إنجاز عملها، وإبرازه إلى العالم يختال في حلله البهية، وأخذ على نفسه القيام بافتتاح الترعة افتتاحا يخلد ذكره في بطون السطور، وصدور الأجيال؛ ويؤكد للملأ أن (إسماعيل) كان أكبر الناس تقديرا لجلالة العمل الذي تمجد به ملكه، وسيأتي بيان ذلك الافتتاح في حينه.
الفصل الثاني
إزالة القيد الثاني1
قيد السيادة العثمانية، بما يتبعها من تضييقات مذلة، وإلزامات مصغرة، وتوريث بالأرشدية إلخ. ***
أعذب الألفاظ قولي لك: خذ
وأمر اللفظ نطقي: بلعل
ابن الوردي
إن تداخل النمسا والروسيا وبروسيا، بزعامة إنجلترا، وبموجب اتفاقية لندن المؤرخة 16 يولية سنة 1840، بين السلطان العثماني و(محمد علي) الكبير، لوضع حد للحرب القائمة بينهما، وحفظ كيان الدولة العلية، الذي أصبحت الجيوش المصرية تهدده، لا سيما بعد انتصار (إبراهيم) الهمام على الأتراك في وقعة نزيب (24 يونية سنة 1839)، أدى إلى استصدار تلك الدول فرمانين وجها من السلطان عبد المجيد إلى (محمد علي) بتاريخ 13 فبراير 1841 / 21 ذي القعدة سنة 1256 كانا بمثابة قاعدة بني عليها كيان مصر السياسي والإداري معا.
فبالفرمان الأول منهما، ألغى السلطان، بناء على إيعاز الدول المذكورة، الأمر الذي كان قد خلع بموجبه (محمد علي) من كرسي ولاية مصر - لاعتباره إياه عاصيا ومتمردا - وأعاده إليه، مبينا في خريطة أرسلها له، في الوقت نفسه، حدود تلك الولاية؛ ومنحه بطلب الدول عينها، حق توريث أعقابه ذلك الكرسي، على الشروط الآتية:
أولا:
أن يختار السلطان العثماني من أولاد (محمد علي) الذكور، أو أولاد أولادهم الذكور، من يشاء ليخلف على السدة المصرية الوالي المتوفى، فإذا لم يوجد، بين الأولاد والحفدة، خلف ذكر، فيختار الباب العالي من يشاء للولاية، بدون أن يكون لأولاد الإناث حق فيها، إلا إذا شاء السلطان اختيار أحدهم؛ على أن لا يتبع حق التوريث الاختيار.
ثانيا:
أن يكون الوالي، المختار من بين أولاد (محمد علي) أو أولاد أولاده، ملزما بالذهاب إلى الأستانة، والمثول بين يدي السلطان، ليقلد زمام ولايته تقليدا شخصيا رسميا.
ثالثا:
أن يشبه ولاة مصر، بالرغم من حق الوراثة الممنوح له، بباقي وزراء الدولة، في المنصب والتقدم على الأنداد في الرسميات، والتصدر، على قاعدة الأقدمية؛ وأن يوصفوا، وينعتوا في المكاتبات والمخاطبات الرسمية، بما يوصف وينعت به أولئك الوزراء .
رابعا:
أن يكون مفعول جميع المعاهدات المبرمة بين السلطنة العثمانية والدول، ومنطوق كل خط شريف، وخط همايوني يصدر من لدن السلطان، للتقنين والتشريع، ساريا في الولاية المصرية، ومنفذا فيها تنفيذه في عموم أنحاء الممالك الشاهانية.
خامسا:
أن تكون جباية الضرائب والأموال والرسوم الجمركية وغيرها، برمتها وعلى أنواعها، باسم سلطان تركيا، وطبقا للأصول المتبعة في الدول صاحبة السيادة.
سادسا:
أن يرسل ربع الإيرادات المصرية كلها إلى خزينة الباب العالي، سنويا، على سبيل الجزية؛ وتصرف الثلاثة الأرباع الباقية في شئون الإدارة الداخلية، وفيما تستلزمه احتياجات بيت الوالي؛ وأن تكون طريقة توريد الجزية التي سيتفق عليها في سنة 1257، معتمدة لمدة خمس سنوات؛ ثم تكيف وتعدل طبقا للظروف ومقتضيات الأيام؛ وأن يكون الوالي ملزما بتعريف الباب العالي بمقدار إيرادات القطر بالضبط، وبيانها له، بيانا وافيا، اجتنابا للتلاعب في مقدار الجزية.
سابعا:
أن تكون السكة باسم السلطان العثماني، وأن لا تختلف في شيء أساسي عن مثيلتها المضروبة في الأستانة العلية.
ثامنا:
أن لا يزيد عدد الجيش المصري في أيام السلم على 18 ألف جندي؛ وأما في زمن الحرب، فللباب العالي أن يبلغه إلى ما يرتأى، وأن يكون تكوينه ونظامه مطابقين لتكوين الجيش العثماني ونظامه: فتجعل مدة الخدمة العسكرية خمس سنوات؛ ويؤخذ من مقترعي السنتين الباقيتين عشرون ألفا، يقيم ثمانية عشر ألفا منهم بالقطر المصري، ويرسل الألفان الباقيان إلى الأستانة؛ ثم يسرح خمس العدد كل سنة، ويقترع، بدله، أربعة آلاف جندي جديدون، يبقى منهم في القطر 3600، ويرسل أربعمائة إلى الأستانة.
تاسعا:
أن يكون شكل ملابس الجنود المصرية، برية كانت أم بحرية، وشكل راياتها ونياشينها، كملابس الجنود العثمانية البرية والبحرية، وكشكل راياتها ونياشينها، لا تمييز بين الجندين إلا فيما يختص بنوع الأقمشة، فإنه يصرح للحكومة المصرية بأن تختار منها ما يلائم طقس البلاد ومناخها.
عاشرا:
أن لا تبني مصر سفنا حربية مطلقا، إلا بتصريح من الباب العالي، يعطى لها كتابة.
حادي عشر:
أن يقتصر حق الوالي، في تعيين ضباطه البريين والبحريين وترقيتهم، على الدرجات الصغرى لغاية درجة الصاغ قول أغاسي، فإذا أراد رفع ضابط إلى درجة أعلى من هذه، فعليه أن يخابر الباب العالي، ويستصدر الترقية منه مباشرة.
ثاني عشر:
أن أي إخلال بأحد هذه الشروط يؤدي إلى إلغاء حق انتقال الولاية بالإرث، فورا.
وبالفرمان الثاني، قلد السلطان (محمد علي) الولاية على بلاد النوبة ودارفور وكردوفان وسنار؛ ولكن بدون حق في توريثها لأعقابه؛ كأن السلطان أراد بذلك أن يقيم على الحدود المصرية الجنوبية، للمستقبل، خطرا يشهره خلفاؤه فوق رءوس خلفاء (محمد علي) كسيف دامكليس، ابتغاء إبقائهم في حدود الطاعة والأمانة، فيما لو عن لهم الخروج عنها - مع أن (محمد علي) هو الذي فتح تلك الأقاليم، وأخضعها لحكومته المصرية، ولم يكن لسلطان تركيا عليها من حق، إلا ما نجم له عن فتح (محمد علي) لها - وألزمه، مقابل ذلك، أن يقدم له بيانا مفصلا مضبوطا بإيراداتها عامة، ليفرض الجزية الموافقة عليها؛ وأن يبطل النخاسة منها وعادة خصي السود، وأبلغه في الفرمان عينه: (أولا) عفوه عن جميع الجنود والضباط والمستخدمين الذين اشتركوا في تسليم العمارة العثمانية له، مستثنيا منهم بعض أفراد عينهم بالاسم، وعلى رأسهم أحمد فوزي باشا أمير تلك العمارة - وهو الذي قصده نوبار باشا في الرواية التي رواها للورد كرومر، وذكرها هذا في الصحف الأولى من كتابه المعنون «مصر الحديثة» ومفادها: «أن أحد أمراء الأساطيل العثمانية كان قد انضم إلى (محمد علي) أثناء حروبه مع تركيا، وعززه عليها، وخدمه في مقاومته لها، خدمات جلى، فأعلى (محمد علي) منزلته، وحفه بصنوف من الرعاية والعناية والنعم، لم يترك معها محلا في نفسه لشهوة أو أمنية، فعاش الرجل عيشة رغيدة على فراش وثير من الهناء، إلى أن وضعت الحرب أوزارها بين التابع والمتبوع، وختمت معاهدات لندن والفرمانات التالية لها، الأزمة الشديدة التي زعزعت قواعد الشرق الأدنى نيفا وعشرة أعوام، فتذكر الباب العالي حينذاك - ولم يكن قد نسي قط - الخيانة التي ارتكبها أمير أسطوله، وحمل إلى فهم (محمد علي) أنه يحل إقدامه على معاقبة ذلك الجاني عقابا سريا، منزلة جميل بليغ يسديه إليه ، فأرسل (محمد علي) إلى ذلك التركي من أفهمه أن الحياة متاع فان، وأن لذاتها ظل زائل؛ وأنه يجدر بالمرء أن لا يفتأ مستعدا لمقابلة وجه ربه الكريم في أي وقت يشاء الله أن يستدعيه إليه؛ وأن الموت قد يأتي أحيانا في جرعة ماء، أو فنجان قهوة إلى من يحن أجله. فأدرك الأميرال العثماني معنى الكلام؛ فقام من ساعته وتوضأ وصلى صلاة العصر؛ ثم تجرع فنجان القهوة المسمومة الذي قدم له، بتجلد، كأنه أحد الستوئكيين، تلامذة زينون الفيلسوف؛ وهو يقول بالتركية: «قسمت»
2
وأبلغه (ثانيا) تثبيته كبار ضباط الجيش المصري، وكبار موظفي الحكومة المصرية في الرتب السامية التي أنعم عليهم بها، واعتماد بابه العالي إياها.
فأبدى (محمد علي) ارتياحه إلى إرادة السلطان المعبر عنها الفرمانان؛ ولكنه طلب تعديل كيفية التوريث، ومقدار الجزية السنوية، والحق المعطى له في ترقية الصف ضباط والضباط، ومنح الرتب.
فخابر الباب العالي بذلك الدول الوسيطة السابق ذكرها في 19 أبريل سنة 1841 فردت عليه في 10 مايو التالي، وأشارت بجعل التوريث بالأرشدية، وتعيين مبلغ محدد للجزية، يراجع ليعدل بين حين وحين؛ ولم تر بأسا في تخويل (محمد علي) حقا أوسع من المخول له، فيما يختص بترقية الجنود والضباط، ومنح الرتب؛ لاعتبارها الجيش المصري والبحرية المصرية جزءا من القوات البرية والبحرية العثمانية.
فأصدر السلطان فرمانين آخرين نهائيين إلى (محمد علي)، أحدهما في أول يونية سنة 1841 / 11 ربيع الآخر سنة 1257؛ والثاني في 20 يولية سنة 1841/أول جمادى الآخرة سنة 1257، حدد له بمقتضاهما، حدود الولاية المصرية، طبقا للمبين في خريطة أرسلها الصدر الأعظم إليه؛ وأجابه، فيما عدا ذلك، إلى طلباته: فجعلت الوراثة بالأرشدية، كما هي في بني عثمان؛ على أن يكون التعيين من الباب العالي، وبموجب فرمان خاص يصدره السلطان؛ وجعل مقدار الجزية 80 ألف كيس على حساب الكولونات الإسبانيولية، وخول والي مصر حق منح الرتب لغاية درجة «الميرالاي»؛ وأما درجتا «الميرلوا» و«الفريق» فأبقى حق منحهما مرتبطا باستئذان الأستانة أولا.
وعلى ذلك صادقت الدول الأوروبية الوسيطة؛ وانضمت فرنسا إليها في نهاية الأمر، فأصبح النظام المصري كما هو مقرر في تلك الفرمانات الأربعة، جزءا من النظام السياسي الدولي العام؛ وأصبح مركز مصر، القائم عليه تحت حفظ الدول الغربية جمعاء، فيما يختص بعلاقاته معها، وعلاقاتها به، وفيما يختص بالمحافظة عليه من مطامع الدولة العلية عينها، ومن تعديات أحداها عليه.
على أنه لم يوجد فيه شيء يحظر على والي مصر تعديل القيود التي تربطه بالدولة العثمانية، دون غيرها، وتكييف مركزه منها، ومركز بلاده الداخلي بالنسبة إليها، وفيما لا يمس بمصالح الدول الغربية السياسية والتجارية، تكييفا يكون أكثر موافقة له، ولقطره.
فلما جلس (إسماعيل) على أريكة مصر، وجعل إحدى غايات حكمه إنالة بلاده أكثر ما يمكن من الاستقلال، لم يأل جهدا في سبيل البلوغ إلى ذينك التعديل والتكييف، بلوغا تكون نتيجته تحرير مصر من قيد السيادة العثمانية، وتمتع عرشها بجميع حقوق السيادة والملك.
فأول ما وجه إليه مجهوده تحويل نظام الوراثة من الأرشد فالأرشد في ذرية (محمد علي) كلها إلى الولد البكر فالولد البكر من ذريته هو - وكان (عباس الأول) قد سعى هذا السعي عينه، ولم يفلح - فلم تثبط خيبته همة (إسماعيل)، لأنها كانت مشتعلة بنوعين من أنواع الوقود، لا يدعان نارها تخبو أبدا؛ وهما: الحقد والحب.
أما الحقد، فعلى الأمير مصطفى فاضل أخيه من غير أمه، وعلى الأمير حليم باشا عمه.
3
ومرجع السبب في حقده على أخيه، إلى كره والدتيهما المتبادل، الذي كثيرا ما أزعج داخلية والدهما (إبراهيم) الهمام؛ فألى وشي الوشاة بالأمير مصطفى فاضل بعد صيرورة عرش مصر إلى (إسماعيل) أخيه.
فوالدتاهما كانتا مختلفتي الجنس والميول، بالرغم من تمكنهما الواحد من قلب بعلهما السامي، ووحدة تأثيرهما عليه، فلم تكتفيا بتبادل الكره بينهما، بل أشربتاه قلبي ولديهما، واجتهدتا في جعلهما عدوين لدودين؛ لا سيما أنهما ولدتاهما في شهر واحد؛ وبينما كل منهما تتمنى أن تكون أسبق الاثنتين إلى الوضع، ليكون ابنها أقرب إلى العرش، مال الحظ إلى جانب أم (إسماعيل).
فشب الصبيان والسنون تنمى بغض كل منهما للآخر؛ والوالدتان تزكيان نمو هذا البغض، حتى كانت كارثة كفر الزيات التي جعلت (إسماعيل) ولي عهد السدة المصرية، فلم يعد الأمير مصطفى فاضل وأمه يحتملان النظر إلى المستقبل، وباتا يتمنيان أن يطول عمر (محمد سعيد باشا) أو تقصر حياة (إسماعيل)، فلم يحقق الدهر لهما هذه الأمنية، ولا الأخرى، فمات (سعيد)، وهو في ظهر حياته؛ وارتقى (إسماعيل) عرش جده، وهو في مقتبل عمره.
فلم يحتمل الأمير مصطفى فاضل وذووه الحياة تحت حكمه؛ فسافروا جميعا في منتصف سنة 1863 إلى أوروبا؛ وأقاموا في باريس، وربما أدى ذلك البعاد إلى تراخي حبل الضغينة بين الأخوين، خصوصا وأن قلبيهما كانا مجبولين، طبيعة، على العواطف الطيبة ومفتحين لها.
ولكن الوشاة الذين لم تكن مصلحتهم في أن يسود الوفاق بينهما، وكانوا كالذباب، يتلمسون الحياة من الإقبال على مص القروح وتهييجها، كانوا ساهرين لا يغفلون.
فأخذوا يختلقون من الأكاذيب على الأمير الغائب، ما لم يكن معه بد (لإسماعيل) من الاستزادة في كره أخيه، والإغراق في حقده؛ بل إنهم لم يحجموا عن تصوير ذلك الأخ النازح في صورة الرجل المؤامر المخامر، الساعي إلى إهلاك أخيه، لكي يأخذ منه عرشه، وبلغ بهم حبهم للخداع والدسائس إلى حد أن ألقوا قنبلة، سرا، ذات صباح، في حديقة قصر الجيزة، وأسرعوا إلى التقاطها، جهرا، وتقديمها إلى (إسماعيل)، حجة دامغة، وبرهانا قاطعا على صحة مؤامرات ومخامرات ومساعي أخيه الشريرة.
4
وبما أن القلب المضطرب بانفعال قوي، تقتم بصيرته بتأثير ذلك الانفعال، فلا تعود عينا صاحبه تنظران الأمور إلا كما يقدمها إليهما ذوو الأغراض، فإن (إسماعيل) لم يفطن أن تلك القنبلة كانت فارغة، لا تحمل في جوفها سوءا مطلقا؛ واعتقد اعتقادا ثابتا أن أخاه أراد قتله، ليخلفه على عرشه.
والسبب في حقده على عمه، عبد الحليم، هو أن هذا الأمير كان، في الواقع، يتطلع إلى الأريكة المصرية، ويرغب فيها؛ ولو أن هذه الرغبة لم تقترن بعمل عدائي لتحقيقها، ولكن مجرد وجودها في نفسه كفى لكي يتخذ الوشاة منها منبتا خصبا، ينمون فيه جراثيم البغضاء بين (إسماعيل) وبينه؛ ولم يعدموا الفرص الموافقة لذلك.
فنزول السلطان عبد العزيز ضيفا على حليم باشا في بستانه على ضفاف المحمودية بالإسكندرية، وفي قصره المنيف بشبرا، وتناوله طعام العشاء عنده في هذا المكان الأخير، والتعطفات التي ما فتئ يواليها عليه، طوال مدة إقامته بمصر - ولا شك في أنه إنما كان يرمي بها إلى جعل (إسماعيل) يشعر بأن عمه سيف معلق فوق رأسه، فيرعوي عن كل مطمع ضار بمصالح الدولة العثمانية - كل ذلك كان في أيدي الوشاة أشعة شمس استخدموها لإحياء تلك الجراثيم وتقوية نموها.
وكان حليم باشا، من جهة، يعيش معيشة تمتعية، غريبة المظاهر إلى حد يجعل لوشي الوشاة مجالا فسيحا، فقصره في شبرا كان، كما قلنا، بديعة البدائع، وجديرا بأن يثير عوامل الحسد في قلوب الحاسدين، ولو كانوا ملوكا؛ وعدد الحواشي والخدم، والجواري الحسان، والأتباع الذين كانوا تحت إشارة صاحبه في ذلك المقام الفخم، لم يكن من شأنه أن يروق من تابع في عين متبوعه؛ وخروجه، كثيرا، إلى الصيد، في أبهة وجلبة، تحييان ذكرى السلاطين المماليك السالفين، وتلفتان اهتمام السوقة في العاصمة وضواحيها؛ وإقدامه على الصيد بالسلوقية العديدة، والبزاة المدربة، كأن زمن العصور الوسطى لم ينزل إلى رمسه؛
5
وانضواؤه تحت راية الماسونية واهتمامه بأسرارها المكنونة اهتماما عاملا؛ وإضافه ذلك إلى كونه ابن (محمد علي) مباشرة، وإلى بدء انتشار الأقوال الشائعة بأن (إبراهيم) إنما كان ابن زوجة (محمد علي) من بعل غيره، لا ابن صلبه، وأن (محمد علي) إنما تبناه ورباه، فقط، كابنه
6 - وهو قول عار من الصحة بتاتا، وربما كان من اختلاقات أولئك الوشاة أنفسهم، نسبوه إلى حليم باشا، ليزيدوا في تعكير المياه التي كانوا يعملون بلا انقطاع على تعكيرها بين (إسماعيل) وعمه، بأنواع الوسائل كافة - كل ذلك كان مادة جيدة لأن تضفر منه أكاليل شوك، توضع تحت وسادة الأمير المتولي؛ فتخزه وخزا أليما، وتجعل نومه قلقا مضطربا، فتحمله على كراهة عمه، والتخوف منه، تخوفا زائدا.
ولما كان الإقدام على الإثم في الأسرات الشرقية لا يزال يتلو بسرعة ساعة التفكر في المنفعة التي تعود على مرتكبيه من ارتكابه، فإن تخوف (إسماعيل) من أخيه وعمه كان على قدر الفائدة التي يرجوها كل منهما من وراء موته.
فكان إذا من مصلحة (إسماعيل) أن يقضي على تلك الفائدة القضاء المبرم، بعمل يجتث من قلبي ذينك الأميرين كل جذور الأمل في أن موته يوجب ارتقاء أحدهما إلى العرش مكانه.
وأما الحب، فلبلاده أكثر منه لأولاده ونفسه.
وذلك لأن أيلولة الملك من الولد البكر في الأسرة الواحدة من شأنها أن توحد بين مصالح الأمير ومصالح الرعية؛ فلا تعود همة الأمير منصرفة، كما كانت، إلى إنماء ثروته الشخصية وثروة أسرته على أكتاف الثروة العمومية وثروة فروع الأسرة الأخرى. (فعباس الأول)، مثلا، إنما أراد مصادرة أملاك باقي أعضاء عائلته والاستيلاء على أموالهم لكي يجعل مستقبل ولده (إلهامي) - ولو لم تؤل إليه الإمارة - سعيدا، أكثر من كل واحد منهم - ولو قدر لأحدهم أن يخلفه على العرش - وإنما صادر، لهذا الغرض عينه، أملاك رعاياه، واغتصب أموالهم: فترك لابنه المذكور ما يزيد على ثمانين مليونا من الفرنكات من الثرورة المنقولة غير الثروة العقارية.
والواقع هو أن الأمير المتولي، الذي يعلم حق العلم أن مآل عرشه لغير ابنه، لا يمكنه أن يعتبر ثروة البلاد المسلمة مقاليدها إليه إلا فريسة لأطماعه، ومنجما يستنفده في إغناء نفسه وذويه؛ فلا يهمه شقيت البلاد أم سعدت، عاشت أم هلكت، ما دام جيبه ممتلئا وخزينته عامرة.
والأمير، في الأسرات التي يئول العرش عندها من أرشد الأفراد فيها إلى الأرشد، قد تحمله العواطف الإنسانية الطبيعية على كره عموم أعضاء أسرته، لتخيله، في كل منهم، خليفة يخلفه، أضرارا بخلافة بنيه، فيهمه، والحالة هذه، أن يمتص، وهو على قيد الحياة، خيرات البلاد كلها، لكي لا يترك منها شيئا، بعده، لأولياء عهده الاحتماليين المكروهين منه، ومغبة تلك السيئة إنما تعود على البلاد أكثر منها على أفراد أسرته، غير بنيه.
والدليل على أن حب (إسماعيل) لبلاده كان رائده في سعيه، أكثر من كل عامل غيره، هو أن هواه كان أن يخلفه على العرش إبراهيم حلمي ابنه من الأميرة جنانيار هانم، أعز زوجاته عليه، والتي سعت سعيا محمودا في سبيل نجاح مقاصده، ومع ذلك فإنه سعى لأكبر أولاده (محمد توفيق)، بالرغم من أنه لم يكن يحبه محبته لباقي أخوته. (فإسماعيل) إذا، لأنه كان يكره أخاه وعمه من جهة، ولأنه كان، من جهة أخرى، وعلى الأخص، يحب بلاده، أقبل يسعى في الأستانة ليحمل أولي الشأن فيها على تغيير نظام الوراثة بمصر، وحصرها في ذريته دون باقي الأسرة المحمدية العلوية.
ولحسن طالعه، كان ميله إلى ذلك ونجاحه فيه يوافق هوى نفس عبد العزيز المكنون.
فعبد العزيز، أيضا، كان يشتهي أن يغير نظام الوراثة في أسرة عثمان؛ وهو أيضا كان يتمنى أن يحصرها في ابنه يوسف عز الدين، وفي بكر أولاده، بعده، فبكر أولاده إلى الأبد، ولكنه لم يستطع بلوغ أمنيته، بالنسبة لقوة التقاليد، فكان يرغب، والحالة هذه، في نجاح (إسماعيل) في سعيه، ليكون ذلك سابقة، يبني هو على قاعدتها بناء مجهوداته.
على أن ذلك لم يمنعه من التظاهر بالرفض في بادئ الأمر لينال من مال (إسماعيل) وهداياه ما كان التغيير المطلوب به جديرا؛ ولكي تكون الظواهر غرارة أكثر مما هي، فتبدو الصعوبات للساعي أكبر من حقيقتها، أوعز إلى بعض جرائد الأستانة بأن تكتب في الموانع القائمة دون تحقيق رغائب والي مصر وأن تبالغ في وصفها.
فانخدع (إسماعيل)، أو تخادع، إلى حد استئجار جرائد أخرى لتحبذ التغيير وتظهره أمام الملأ في مظهر العمل المفيد للبلاد، والذي لا مندوحة لها عنه، لتتقدم باطمئنان في معارج الفلاح والرقي والرخاء.
ولكنه، من جهة أخرى، فتح يده سخية في السر والجهر: فجرت خيرات النيل ذهبا وفضة على ضفاف البوسفور، حتى لم تبق هناك ذات واحدة ممن يرجى في مساعيها تقديم وإنجاح للمسعى المصري، إلا ونالها من عطاياه وجوده الحاتمي ما جعلها تدأب على العمل له.
7
ولو أراد التاريخ حصر قيمة ومقدار كل ما صرف في تلك الأيام في الأستانة، وتعداد الأبواب التي صرف فيها، لأعياه الأمر وسقط دونه كليلا؛ لأن المبالغ المصروفة تجاوزت عدة ملايين من الجنيهات، ومن البديهي أن (إسماعيل) لم يكن وحده في ذلك الصرف، فكما أنه كان يجود بالأموال والهدايا، من جهة؛ وتجود أمه بأضعاف أضعافها لتساعده على تحقيق مطمعه، كان أخوه وعمه، من جهة أخرى، يبذلان كل ما في وسعهما لإخفاق مسعاه، وتخييب أمانيه، لما في تحقيقها من الأضرار بمصلحتيهما، ولكنه تغلب في نهاية الأمر؛ ومقابل ما بذل، وما وعد ببذله، ونظير رفعه الجزية السنوية المفروضة على مصر من ثمانين ألف كيس إلى 150 ألفا - أي من أربعمائة ألف جنيه مجيدي إلى سبعمائة وخمسين ألفا، أصدر السلطان فرمانه القاضي بانتقال كرسي الولاية من متبوئ كرسيها إلى بكر أولاده، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضا، وهلم جرا؛ وذلك في 17 مايو سنة 1866
8
فقرئ هذا الفرمان بمصر باحتفال شائق، وهنأ رجال الدولة وأعيان الأمة (الأمير محمد توفيق) - وكان لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره - بمصير ولاية عهد الديار المصرية إليه، وكبرت منزلة (إسماعيل) في عيون الجميع، وشعر الكل بسكينة دخلت على نفوسهم، كأن الحاضر والمستقبل باتا آمنين.
9
وكان من الطبيعي أن يقرن (إسماعيل) بسعيه إلى تحويل مجاري الوراثة عن أخيه وعمه، سعيه إلى تجريدهما من ثروتهما العقارية المصرية، ليكون قضاؤه على مطامعهما في العرش المصري تاما مبرما؛ ويكون استتباب الأمر له منتظما قارا.
فأوفد، منذ أواخر سنة 1864، إلى أخيه في باريس من فاتحه في أمر بيع الأطيان التي له بمصر، فرفض الأمير مصطفى فاضل بيعها؛ لأن شعاع الأمل في مصير العرش المصري إليه، كان لا يزال منتشرا بقوة في جوانب قلبه، ولكنه، بعاملي نزق الشباب، وحب الظهور، ما فتئ يهلك الملايين تلو الملايين، ويولم الولائم تلو الولائم، ويجود بالهدايا تلو الهدايا - مع أن إيراداته كانت قليلة وضئيلة، بالرغم من اتساع أملاكه العقارية، وذلك بسبب العراقيل المقامة بمصر في سبيل استغلالها استغلالا حسنا - وما فتئ يضطر، بين حين وحين، إلى الاقتراض بفوائد ساحقة، من خزائن الصيارفة ومن عملائه، حتى باتت حالته المالية معقدة تعقيد ذنب الضب؛ وباتت ديونه الباهظة محرجة له إحراجا شديدا يصعب عليه الخروج منه إلا بالبيع.
فرأى (إسماعيل) أن يعيد إذ ذاك الكرة، لا سيما أنه كان قد فاز بإقصائه عن مجاري الوراثة، فأوفد إليه مفاتحا آخر، يعرض عليه بيع الأملاك التي له بمصر؛ ولما لم يعد له مندوحة عن البيع، نجحت المخابرات هذه المرة؛ وقر الاتفاق على أن ثمن المبيع المتفق عليه وقدره مليونان وثمانون ألف جنيه إنجليزي، منها ثمانون ألفا قيمة السمسمرة - يدفعه (إسماعيل) أوراقا مالية لحاملها من أوراق الدائرة السنية المالية المضمونة من الحكومة المصرية والمنتجة فوائد بواقع 9٪، وأن تسدد قيمة تلك الأوراق على خمسة عشر قسطا سنويا، ابتداء من أول يناير سنة 1867.
10
فأمضى عقد البيع بباريس في 22 نوفمبر سنة 1866، وسجل في اليوم السادس والعشرين منه؛ ولكنه لم ينفذ في شكله الذي اتفق عليه؛ لأن البنك السلطاني العثماني ومحل اپنهايم وشركائه حلا محل الأمير مصطفى فاضل وأخذا بدل تلك الأوراق المالية سندا عاما مبينة فيه تعهدات الدائرة السنية وضمانة الحكومة المصرية؛ وأصدرا به، في لندن، قرضا بمليوني جنيه إنجليزي بفوائد 9٪ سنويا.
أما حليم باشا، فإن إنفاقه عن سعة، بل إسرافه هو أيضا إسرافا مفرطا، كان قد أدى به منذ سنة 1863 إلى عقد قرض قدره ثلاثمائة ألف جنيه إنجليزي، تعهد بسداده على خمس عشرة سنة، أقساطا متساوية، ثم أدى به سعيه في الأستانة لإحباط جهود (إسماعيل) الخاصة بتعديل مبدأ الوراثة، إلى عقد قرض آخر في سنة 1866 مقداره سبعمائة ألف جنيه مصري، فاضطر إلى رهن كل أملاكه العقارية بمصر، ضمانة لوفاء هذين القرضين؛ وبات يتخبط تخبطا أليما، كلما حل موعد للدفع.
فخابره (إسماعيل) في شراء أملاكه المرهونة منه؛ فما وجد حليم باشا في شدة ضيقه واحتياجه إلى النقود بدا من بيعها، لا سيما بعدما تيقن من نجاح مساعي ابن أخيه في الأستانة، وخيبة مسعاه هو؛ فباعها له نظير مبلغ قدره مليون ومائتا ألف جنيه إنجليزي، دفعت الدائرة السنية له منها ثلاثمائة ألف جنيه إنجليزي بأوراق من أوراقها المضمونة من الحكومة المصرية؛ وأخذت على نفسها دفع الباقي من أقساط القرض الأول وقدره مائتان واثنان وسبعون ألف جنيه؛ ثم افتدت أوراق القرض الثاني المالية، وسلمتها خالصة إلى الأمير البائع.
واتفق بعد ذلك أن البوليس - لكي ينال «محظوظيته» عند الخديو، ويظهر لسموه تيقظه وسهره على حياته الثمينة - أقدم في شهر أكتوبر سنة 1868 على استكشاف مكيدة زعم أن عمه حليم باشا دبرها لاغتياله، فنصب شراكه، وبث زبانيته؛ وفي الثاني والعشرين من الشهر المذكور أعلن للملأ نجاح مسعاه، وتمكنه من القبض على المتآمرين على حياة مليك البلاد، فاضطر (إسماعيل) إلى إبعاد عمه عن القطر.
11
وبعد أن عدل (إسماعيل)، على النمط الذي بيناه، نص فرمان أول يونية سنة 1841 الجاعل الوراثة بالأرشدية والمعدل منطوق الشرطين الأول والثاني من شروط فرمان 13 فبراير سنة 1841، أقبل يعمل على إلغاء الشرط الثالث منه، وهو الخاص بتشبيه ولاة مصر بوزراء الدولة العثمانية.
وكان قد عزم عزما أكيدا على إشراك مصر في معرض باريس العام المزمع إقامته في بحر سنة 1867، وعلى إجابة دعوة عاهل الفرنسيس، والذهاب إليه بنفسه، ليظهر بلاده أمام العالم المتدين في ثوب التقدم والرقي الذي لبسته في عهد أسرته العلوية وعهده، فيحمل الأمم المتمدينة على اعتبارها واحدة منها، وليظهرها ببذخه وجوده، وسطوع معروضاتها في ثوب الثروة التي لا حد لها - الذي هو في الحقيقة ثوبها الصحيح - فيوطد في العقول، تقديرها لتلك الثروة تقديرا رفيعا؛ ويقر في القلوب ثقتها غير المتناهية في مقدرتها على القيام بجميع تعهداتها المالية، مهما بلغت قيمتها، وأية كانت مواعيد تحقيقها.
ولوثوقه من ذهاب السلطان عبد العزيز، أيضا، إلى زيارة ذلك المعرض، كان يريد أن يغتنمها فرصة ثمينة، لبذر بذور الإصلاح القضائي الدائر في خلده، والمقصود منه القضاء على القيد الثالث المقيدة به البلاد؛ أي: قيد الامتيازات الأجنبية.
فلدأبه، من جهة، على إزالة القيد الثاني؛ ولرغبته، من جهة أخرى، في الظهور أمام الملأ الأوروبي - ليسهل عليه نجاح مقاصده - في مظهر رسمي منيف، يستوقف الأنظار ويوجب الاحترام لشخصه، أكثر مما لو كان مرتديا لباس وال، لا تميزه عن باقي ولاة السلطنة العثمانية إلا بعض ميزات خصيصة به، طفق يعمل على نيل لقب يشعر بأن صاحبه، إن لم يكن في مصاف الإمبراطرة والسلاطين والملوك، فلا يقل عنهم كثيرا. على أن يكون نيله إياه مصحوبا بحصوله على امتيازات تجعل حقيقة المنصب على نسبة سمو تسميته المبتغاة.
فشرع يخابر الأستانة، بوسائله المعتادة، في أمر منحه ذلك اللقب؛ وأقبل ينفق المال من سعة، ويكثر من الجود والهدايا النفيسة السنية إلى السلطان ووزرائه والمقربين لديه، مجتهدا في استصدار فرمان يخوله التلقب بلقب «العزيز» وهو المطلق في القرآن الشريف على وزير فرعون على مصر، راغبا جدا فيه، وشيقا إلى إحرازه.
فدارت المخابرات بشأنه طويلة ومتعبة، بين البلاطين؛ واستمرت مدة بين أخذ ورد؛ ولكنها لاقت في سبيلها عقبتين، لم يمكن التغلب عليهما مطلقا:
الأولى:
أن لقب «العزيز» خص به (يوسف بن إسرائيل) دون غيره من وزراء الفراعنة؛ وأن ما خص به نبي لا يصلح إطلاقه البتة على فرد من الأفراد، مهما كانت درجته رفيعة.
الثانية:
أن اسم السلطان المالك (عبد العزيز)، فلو دعي (إسماعيل) «العزيز» لكان السلطان إذا عبده؛ أو لتبادر إلى أذهان السذج أنه عبده؛ أو أمكن، على الأقل، فتح باب لمنكت ينال الحضرة السلطانية بما ينقص من جلال قدرها.
12
فاستبعد، إذا، لقب «العزيز»، لا سيما وأنه اسم من أسماء الله الحسنى، وشرع في البحث عن غيره.
وكانت قد جرت العادة منذ أيام (محمد علي) بتسمية الديوان المصري الأعلى؛ أي: الديوان المحيط بشخص الوالي مباشرة «بالديوان الخديوي»، كما أن الولاة أنفسهم بحكم تلك العادة كانوا يدعون أحيانا «خديويين».
فبعد مناقشات ومباحثات كتابية وشفهية كثيرة، اتفقت الآراء، نهائيا، على أن تعطى صيغة رسمية لتلك العادة، وأن يكون لقب «خديو» خصيصا، من ذلك الحين فصاعدا، (بإسماعيل) وخلفائه على العرش المصري، إشعارا بإعلاء مرتبتهم إلى درجة العواهل.
فصدر بذلك في 8 يونية سنة 1867
13
فرمان تلي بمصر، بأبهة واحتفال عظيمين، حضره كل ذي حيثية في البلاد؛ واتفق الكل، لا سيما الشرقيون، على أن (إسماعيل) فاز فوزا مبينا، وأصبح حقيقة في مصاف الملوك.
ولم يكن اعتقادهم في غير محله: (أولا) بالنسبة لفخامة اللقب الجديد؛ و(ثانيا) بالنسبة للامتيازات الجديدة السنية التي أوجبها. «فخديو» كلمة فارسية بمعنى «الإله» و«الرب»؛ فهي تشعر إذا بعظمة وجلالة لا تشعر بهما لفظة «العزيز» العربية؛ وتلبس صاحبها رداء استقلال في المركز والعمل أكثر مما تلبسه إياه أية كلمة أخرى.
والامتيازات الجديدة، التي أوجبها ذلك اللقب، كانت كبيرة وغير منتظرة إلى حد أن معاني الكلمات الدالة عليها في الفرمان أشكل فهمها على معظم الناس: فإن السلطان تناول: (أولا) نص الشرط الرابع من الشروط الاثني عشر التي منح فرمان 13 فبراير سنة 1841 بمقتضاها حق توريث السدة المصرية (محمد علي) وذريته، وهدمه هدما؛ وقرر أن المقصود من القوانين العثمانية الواجب تنفيذها بمصر، إنما هي المبادئ العامة المعلنة في خط جلخانه، وأعني بها الضامنة الأعمار والأملاك والأعراض؛ وأما فيما عدا ذلك، فإنه خول للحكومة المصرية الحق في وضع القوانين واللوائح والأنظمة التي يقتضيها حسن الإدارة وتراها «هي» مناسبة لعادات البلاد، وطباع أهلها، وموافقة لمصالحهم؛ وصرح (ثانيا)، للخديو، أن يعقد مباشرة مع الأجانب ودولهم أية اتفاقية يشاء بخصوص الجمارك، وعلاقات البوليس بالجاليات الغربية، ومرور البضائع والركاب في داخلية البلاد، وإدارة البريد، وهلم جرا؛ على أن لا تتخذ تلك الاتفاقيات شكل معاهدات دولية ماسة بسيادة الدولة العلية على القطر؛ وأوجب (ثالثا) على الباب العالي أخذ رأي الحكومة المصرية في كل معاهدة تجارية يريد إبرامها مع الدول الأجنبية؛ ليتمكن أولو الشأن المصريون من المحافظة على مصالح مصر التجارية.
ولما كان الفرمان الصادر في 27 مايو سنة 1866 بشأن تعديل قانون الوراثة قد صادق مصادقة تامة على تعديل السابع والثامن والحادي عشر من الشروط المدونة بفرمان 13 فبراير سنة 1841، وخول الحق لأمير مصر في سك نقود تختلف عن نقود باقي السلطنة، مع إبقاء اسم السلطان عليها؛ وفي رفع عدد الجيش المصري من ثمانية عشر ألف جندي إلى ثلاثين ألفا؛ وفي منح الرتب المدنية لغاية الرتبة الثانية من الصنف الأول بدون استئذان، وباقي الرتب حتى أعلاها أي رتبة روملى بكلربك ورتبة بالا، مدنية كانت أو عسكرية، بمجرد إخطار الباب العالي، لاعتمادها، وإرسال براءتها من لدنه؛ وكان ترك اختيار القماش اللازم لملابس الجنود المصرية، وتفصيله إلى مجرد إرادة الخديو قد ألغي، في الواقع، جزءا عظيما من ملزمات الشرط التاسع من الشروط الآنفة الذكر، فإنه لم يعد يبقى من القواعد التي بنيت عليها السيادة العثمانية على مصر، سوى ما أقيم منها في الخامس والسادس والعاشر من شروط فرمان 13 فبراير سنة 1841 على أن نص الشرط الخامس إنما كان مجرد حبر على ورق: لأن الأموال، والضرائب، والرسوم، وغيرها من أوجه الإيراد، كانت تجبى باسم الحكومة المصرية لا باسم السلطان؛ ولم تكن طريقتا ربط الجمارك وتحصيلها مماثلتين لما كان جاريا ومعمولا به في تركيا، حتى قبل أن يخول فرمان 8 يونية سنة 1867 الحق للخديو في إبرام أية معاهدة جمركية يريدها مع الأجانب.
وقد رأينا أن الجزية تعدلت أولا، وثانيا؛ وقررت، أخيرا، بحيث لم يعد للسلطان دخل في الإيرادات المصرية، ولا حق في معرفة مقدارها ونوعها - فلم يبق، إذا من حائل، في الحقيقة وواقع الأمر، بين مصر واستقلالها استقلالا تاما، سوى قيد الجزية السنوية، وقيد منعها عن بناء سفن حربية، إلا بتصريح كتابي.
أما قيد حظر بناء سفن حربية، فإن (إسماعيل) أقبل يعمل على كسره، ومداد الفرمان المانح له لقب «خديو» لا يزال رطبا على قرطاسه، فإنه، وهو في باريس يزور المعرض، وبينما السلطان نفسه فيها، أوصى المعامل الفرنساوية بعمل ثلاث بوارج مصفحة من النوع الذي كان يطلق عليه اسم «فرقاطة» ومن الطراز الجديد المستعمل لدى الدول الأوروبية كلها، بدل السفن الحربية الشراعية القديمة؛ ولكيلا يجد معارضة من السلطان، واجتنابا لكل انحراف في خاطره عنه، أفهمه أن تقوية الأسطول المصري - وهو جزء من الأسطول العثماني - بتلك البوارج، ما هو في الحقيقة إلا تقوية للأسطول العثماني عينه، وزيادة في مهابته وقت الحاجة.
فلما رأى أن عبد العزيز غير مقتنع بذلك، وغير راض عن عمله؛ وأن وزراءه المرافقين له في سياحته - وقد عز عليهم أن يكون لنوبار باشا، الوزير المصري، شأن أكبر من شأنهم في عالم السياسة - أقبلوا على معاكسة مساعيه الرامية إلى تحرير بلاده من قيد الامتيازات الأجنبية، بالقضاء على السلطات القضائية الدولية القائمة فيها، بحجة المحافظة على حقوق السيادة التركية على مصر، وبحجة تأييد نصوص الفرمانات، استعان، من جهة، بالإمبراطور نابوليون الثالث، ورجاه التوسط بينه وبين متبوعه لإزالة الخلاف بالتي هي أحسن.
ففعل العاهل الفرنساوي ذلك، عن طيبة خاطر، لما كان (لإسماعيل) من المنزلة لديه، ولرغبته في أن يطوقه بأياد تلزمه بمساعدة القائمين بمشروع قناة السويس، مساعدة فعالة، تمكنهم من إنجازه بسرعة.
وأقبل، من جهة أخرى، يبذل الوسائل التي كان هو أدرى الناس بنجاحها عند السلطان ووزرائه: فشرع يظهر (لعبد العزيز) كل ما استطاع إظهاره من مظاهر التعظيم والاحترام والإجلال؛ ويظهر لوزرائه ما طاب وحسن من ضروب الإكرام لدرايته بعظم وقعها من نفس متبوعه وأنفسهم؛ وأخذ، في الوقت عينه، يقدم لهم جميعا، من الهدايا والتقدمات والأعلاق النفيسة، ما لم يكن له بد من تسكين هياجهم عليه، وإزالة ما علق بخواطرهم من النفور منه والانحراف عنه.
ولم يكتف بذلك؛ بل إنه، بعد رجوع السلطان من سياحته إلى عاصمته، عن طريق برلين وڨيينا ونهر الطونة، عرج على الأستانة، في عودته إلى مصر، وأقام فيها يجامل ربها ووزراءه، حتى حملهم على إصدار فرمان شهر سبتمبر التالي سنة 1867 المفسر ما غمض والتبس فيه من عبارات فرمان 8 يونية السابق.
وأما الجزية، فإنه لم يكن يمكن التفكير، البتة، في قطعها عن تركيا: لأن جميع الامتيازات، التي نيلت، إنما أمكن نيلها، وجميع القيود التي كسرت، إنما أمكن كسرها، برفع مقدار المال المعطى سنويا من مصر إلى السلطان، رفعا مستمرا، فلأجل قطع الجزية، إذا، كان يجب أن تسبق مصر بلغاريا إلى العمل الذي عملته هذه الدولة في سنة 1908، وتعلن تقلص ظل السيادة العثمانية عنها، ووثوبها إلى بحبوحة الاستقلال التام.
على أنه لو فرض، وتمكنت من عمل ذلك، فقد كان من المحتمل، في تلك الأيام، أن لا تجد فيه مصلحتها: لأنها ربما تعرضت، والوقت غير مناسب، إلى حرب مع تركيا؛ فقد كانت تجر عليها ويلات جسيمة، أقلها إعادة مأساة سنة 1840.
غير أن (إسماعيل) كان ، مع ذلك، مصمما تصميما وطيدا على نيل الاستقلال التام لمصر، يوما ما، وإلى رفع قيد الجزية المذل عن عاتقها؛ ولكنه كان يرقب الفرص لهذا الغرض، ويتحينها، ليغتنمها ويستفيد منها؛ عاملا، في الوقت عينه، على إدراك مناه من سبل يختطها لنفسه، ووسائل يتخذها، ولا يرى اتصالها بغرضه، مباشرة.
منها توصيته مصانع الأسلحة الفرنساوية، في سنة 1867، على صنع عدة آلاف بندقية من البنادق ذات الإبر، التي كان قد اخترعها رجل يقال له: «شاسبو» وتسمت باسمه، ليسلح بها الجيش المصري، بدل البنادق القديمة، الموضوعة بين يديه منذ أيام (محمد علي) الأخيرة: فيكسبه قوة واستعدادا للطوارئ.
ومنها إشراك حكومته في مؤتمر النقود، المنعقد بباريس في تلك السنة؛ وإرساله مندوبا من قبله يمثل مصر فيه؛ وتزويده إياه بأوامر أدى نفاذها إلى تعديل النظام النقدي في القطر في السنوات التالية.
ومنها حملة الملكة فكتوريا، بواسطة قنصلها العام بمصر، على منحه أكبر درجات وسام الحمام، وتكليفها اللورد كلارنس پاچت، أمير أسطولها في البحر الأبيض المتوسط، بالذهاب إلى عاصمة الديار المصرية، خصيصا، لتقليده إياه: فحمله إليه ذلك اللورد في وفد حافل من كبار ضباط عمارته البحرية، وبعض كبار الكتاب؛ وما حلت ركابهم بمصر إلا وأنزلهم (إسماعيل) في قصر النزهة، بشبرا - وهو الذي نزل فيه، بعد ذلك بسنتين البرنس أوف ويلز وقرينته؛ ونزل فيه بعد نيف وأربعة عشر عاما، الوفد العثماني الأول، الذي أرسل لتسوية الخلاف بين الخديو (محمد توفيق) ورجال الجندية الثائرين على أنظمة حكومته - واحتفى بهم احتفاء عظيما، كان له أحسن وقع في نفوسهم، ثم استدعاهم إلى حضور استعراضه للجيش المصري الجديد في ميدان العباسية الشاسع، فكانت فرقة الهجانة أهم ما استوقف أنظارهم واهتمامهم فيه؛ لأن جمال ملابسهم البدوية البديعة، وسمرة وجوههم الناشئة عن لفح شمس الصحراء لها، والتحافهم جلال البيداء التي شبوا فيها، وكونهم جميعا من العرب، حرك في المتفرجين عوامل الاستحسان والإعجاب - ولو أن ألسنة السوء التي لم تترك (لإسماعيل) عملا بدون أن تنفث عليه سمومها، زعمت أن أولئك الهجانة لم يكونوا عربا مطلقا، وإنما كانوا من صعاليك الناس، ألبسوا تلك الملابس في ذلك اليوم، لمجرد التغرير بالضيوف!
ومنها اغتناؤه بالجيش المصري وتعليمه، اعتناء فائقا؛ وإنشاؤه المدارس الحربية لتخريج الضباط الأكفاء، واستدعاؤه القواد الأمريكيين لتدريبهم وتكوين أركان حرب متفوقين منهم، وسيأتي شرحه بالتفصيل عند كلامنا على تحقيقه الشطر الثالث من خطته.
ومنه دأبه المستمر، والذي سيأتي بيانه في حينه، على معالجة نجاح مشروعه القضائي المقصود منه القضاء على قيد الامتيازات الأجنبية، المتخذ على الأخص من تبعية مصر للدولة العلية، مانحتها.
ومنها اغتنامة فرصة وجوده بالأستانة في أغسطس سنة 1868 لطلب ونيل رتبة الوزارة الكبرى لولي عهده (الأمير محمد توفيق باشا) لاعتباره ذلك خطوة واسعة في سبيل رفع شأن العرش المصري؛ لأنه إذا كانت درجة ولي عهده، درجة أكبر وزراء الدولة العثمانية، فماذا يجب أن تكون درجة الجالس فعلا على الأريكة المصرية.
ومنها سحبه جنوده من كريت الثائرة على حكم الأتراك، بالرغم من إلحاح عالي باشا الصدر الأعظم عليه بابقائها فيها، غير مبال بحقد ذلك الوزير عليه من جراء سحبها.
على أن أهم تلك السبل والوسائل، إشراكه مصر، مستقلة عن تركيا، في معرض باريس العام سنة 1867 واستقلاله، دون السلطان العثماني، بل وبإهماله إياه بتاتا بالقيام بحفلات فتح ترعة السويس في سنة 1869. (1) اشتراك مصر في معرض باريس العام سنة 1867
14
كان (إسماعيل)، منذ أن عزم على ذلك، قد أصدر أوامره إلى مارييت بك، مدير المتحف المصري، باتخاذ جميع الوسائل المؤدية إلى جعل القسم المصري في ذلك المعرض في مقدمة أقسام الدول الشرقية قاطبة، فنفذ مارييت بك الأوامر بكل دقة، وصرف عن سعة، صرفا تمكن به من إعادة الحياة المصرية القديمة إلى التجلي في الجزء المخصص لها هناك؛ ومن إظهار الحياة المصرية المعاصرة بجانبها: فبينما موميات فراعنة القدم وتماثيلهم تعرض في وسط يذهب بالزائر إلى تخيل نفسه عائشا ثلاثة وأربعة وخمسة آلاف سنة إلى الوراء، كانت أشكال الوكائل والأسواق المصرية المعاصرة تبعثه إلى الحياة بمصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد المسيح.
وكان المعرض العام كله، بعد أن أوشك في مبادئه أن لا يكون شيئا يذكر، قد تجلى في مجالي بهجة تفوق كل وصف؛ وأخذت الأقوام والطوائف تؤمه من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق؛ وتعاقبت في أقسامه وقاعاته أقدام إسكندر الثاني وفرنسيس يوسف، إمبراطوري الروسيا والنمسا، وغليوم ملك بورسيا، وألبرت إدورد ولي عهد المملكة البريطانية، وڨكتور عمانوئيل الثاني ملك إيطاليا الحلو الشمائل، فقدما عبد العزيز سلطان تركيا، خليفة الإسلام، وأمير المؤمنين.
وكل هذه الرءوس المتوجة مرت على القسم المصري؛ ووقفت، برهة، أمام نعش رعمسيس الثاني - الفرعون القدير، المظنون حتى ذلك اليوم أنه سيزوستريس هيرودتس، أكبر الفاتحين، وأمجد من تكللت جبهته بأكاليل الفخار العسكري - وشخصت، مأخوذة، صامتة، إلى جثة الراقد على صدرها نيفا وثلاثة آلاف عام والمنبعث عنها درس جليل في بطلان كل مجد عالمي، ورأتهم الأقوام والطوائف يقفون تلك الوقفة؛ فأقدم أكثر من واحد، في مجموعها المزدحم، يحلل الأفكار والتأملات الدائرة في خلد أولئك المتوجين، وهم يمسون بذات أيديهم، وينظرون بأم أعينهم أن العظمة البشرية الأكثر سطوعا، لظل زائل؛ وأن المجد البشري الأكثر تألقا، لشعاع صائر إلى ظلمة ناءوس.
ثم مرت تلك الرءوس المتوجة على بيت «شيخ البلد» المقام بجانب المعبد المصري القديم، والمجهزة فيه معامل الكتاكيت: فإذا بها في القدم، منذ نيف وخمسة آلاف عام، ما هي اليوم، وإذا بالمصريين والمصريات، العاملين فيها، هم هم المرسومة أشكالهم على جدران ذلك المعبد العتيق: دليل ساطع على حيوية الأمة المصرية، وعلى أن الملوك والعواهل يتغيرون على عرشها، ويتعاقبون ويزولون؛ أما هي، فباقية إلى الأبد!
نعم إنها أضاعت بفناء طائفة كهنوتها القديم، قوتها ورجوليتها وفلاحها؛ وأصبحت طائشة الخطى؛ قليلة الاهتمام بالأمور؛ خانعة لكل نير؛ قابلة لكل عبادة؛ عديمة الوحدة، والجنسية، والهيئة الخصوصية؛ غير ممانعة في التنازل عن نفس ذاتيتها، وتغيير دينها ولغتها وعاداتها - كأنها ليس بالشيء الذي يؤبه به - راضية بأن يصوغها الجنس السامي في قالب كيانه، بالرغم من شدة نفورها منه، في السابق، وكراهيتها له؛ غير مستغربة صيرورتها يهودية وعربية، وهي التي قاتلت مائة وخمسين عاما قتال الولهان ، لتتملص من النير الهكسوسي اليهودي العربي؛ غير مستغربة أن يكون مبدأ أزمتها التاريخية مجزرة الشهداء في عهد ديوكلسيانس، من جهة، والفتح الإسلامي، من الأخرى، وأن يصبح كل تاريخها القديم المجيد - الذي لا يضارع سنا العظيم من عصوره سنا أي تاريخ كان في الوجود - شيئا منسيا، لا علاقة لها به، بل أجنبيا عنها بالكلية.
نعم إن هذا كله صحيح، ولكنها، بفضل اتحاد معظمها في الإسلام، عادت فاستردت جنسيتها وهيئتها الخصوصيتين؛ ولولا الأقلية المسيحية، التي بقيت فيها - وربما كانت تكون مصيبة عليها وعلى نفسها لولا ما ظهر من تضافر أبنائها في العهد الأخير - لاستردت وحدتها، أيضا، في العقلية، والمصلحة؛ لا سيما أنها حافظت، بالرغم من صروف الأيام وحوادث الليالي، على شكلها الأصلي، وعاداتها، ومظاهر حياتها القديمة بجانب مظاهر حياتها الجديدة.
ذلك ما رآه أولئك المتوجون، زائرو القسم المصري، في ذلك المعرض العام، وقد انتقلت خطواتهم من قسمة القديم إلى قسمة الحديث، فإنه كان يشمل وكالة مربعة الشكل، لها صحن فسيح تحيط به عمد من كل جهة، وبين كل عمود وعمود، خلاية لوضع البضائع فيها؛ وفي أحد أركانه، حجرة منزوية، ينفذ إليها نور النهار من خلال باب خشبي؛ وفيها فسقية مياه معدة لوضوء التجار؛ ويعلو ذلك جميعه دور علوي، منقسم إلى حجر، منفصلة الواحدة عن الأخرى، معدة لسكنى الأجانب، وفاتحة على طرقة دائرة.
وبجانب تلك الوكالة، قهوة تصنع القهوة فيها على الطريقة المصرية؛ فعدة دكاكين، معروضة فيها المصنوعات المصرية، يستوقف النظر منها، على الأخص، صناعة الجلود ودبغها، وإتقان الأنسجة، وجودة السروج، والصواني الخزفية، والمصوغات، والتطريز على الجلد والقماش - وكلها تشهد بمهارة أيدي صانعيها - والآلات الموسيقية: كالكمنجة المصرية، والعود، والقانون، والكبير تركي، والناي، والقيثارة، والربابة، والزمارة، والنقارية، والسنتير، والدربكة، والصنوج وغيرها.
على أن أهم ما كان في ذلك المعرض المصري قسم محصولاته الزراعية وهي: عدة نماذج قطن من أجل الأنواع - والقطن كما هو معلوم، إنما أدخل (محمد علي) زراعته إلى القطر المصري، عملا بنصيحة فرنساوي، يقال له: المسيو چيميل، كان قد رأى بعض شجيرات منه في بستان باشا تركي اسمه (محو) بالقاهرة، فألفت انتباهه وتقديره للفوائد الجمة التي تعود على البلاد من وراء تعميم زراعة ذلك النبات فيها - وجملة أصناف قمح، وذرة، وتيل، وسمسم، وبرسيم، وفول، وترمس، وحناء، ونيلة، وتبغ؛ وأصناف أرز وبلح وقصب سكر، إلخ.
وبينما زوار المعرض المصري في باريس يعجبون بهذه المعروضات، ويتنقلون من دكاكين سوقه إلى قهوته، إلى صحن وكالته؛ ويقول لهم مارييت بك إن في مثلها، بالتمام، نزل الجنرال بونابرت، لما دخل الإسكندرية فاتحا؛ وبينما هم يتزاحمون، للتفرج على موميات الفراعنة، لا سيما مومية «رعمسيس الثاني»، وتتمثل مصر كلها أمامهم، فتمتلئ بها مخيلاتهم، من أوائل تاريخها إلى أيامهم، ويقص عليهم مارييت بك عجائب أيام (محمد علي)، ومدهشات أعمال (إسماعيل)، والتغييرات الأساسية التي أدخلها على الحياة المصرية، بقصد حملها على التطور نحو المدنية الغربية - ليخدم بذلك مآرب مولاه، ويعلي من قدره وقدر بلاده في أذهان سامعيه وقلوبهم - إذا بالجرائد الباريسية صدرت مبشرة بوصول «خديو» مصر إلى عاصمة الإمبراطورية الفرنساوية، وخصص معظمها عمودا أو عمودين لرواية ما يعلمه عن ذلك الزائر الجليل.
ولما كان اللقب الممنوح له حديثا جديدا على المسامع، أقبل الناس يتساءلون: «خديو؟ ما هو الخديو؟» واشرأبت أعناق أفهامهم إلى الوقوف على معنى الكلمة، بالتعرف بحقيقة الأمير المطلقة عليه.
وكان (إسماعيل) قد قدم، وجيوبه ملأى بالنقود، وخزائن المصارف بباريس ولندن تحت أمره وتصرفه، ففتح يديه بسخاء وبذخ لم يعهدهما العالم الغربي في عاهل من العواهل الذين زاروا ذلك المعرض، فبات أحدوثة إعجاب الجميع، ولقبته الدوائر الاجتماعية، على اختلاف أنواعها، «أسد اليوم»؛ وانكسفت، أمام بهجة أصفره الرنان، المبذول بجود حاتمي، شمس جلالة السلطان عبد العزيز، على شدة سطوعها.
فوقع في خلد العامة أن «الخديو» إنما هو أحد ملوك رواية ألف ليلة وليلة، بعث إلى الحياة، ثانية، ليؤكد للملأ أن أقاصيص تلك الرواية إنما هي حقائق، لا أحاديث خرافة؛ وأن «خليفة الفراعنة على عرش القطرين» أكبر ملك حلت قدماه في أرض فرنسا، كما أنه أغنى عواهل الأرض قاطبة، وعلت منزلته ومنزلة بلاده في تقدير الكل واعتبارهم، علوا كبيرا.
ومن الأخبار التي تناقلتها الألسنة عنه، حكايته مع أحد كبار نبلاء البلاد الفرنساوية، التي رواها الكنت دي لاڨيزون في مذكراته غير المطبوعة؛ ومؤداها: أن ذلك النبيل دعاه إلى وليمة في قصره، بضواحي باريس، فأجاب الخديو دعوته؛ وإذا به يرى قصرا بلغ من الجمال والجلال، وفاخر الرياش، ما لم يكن أحد يتوقع وجود مثله، أبدا، في حوزة غير الملوك، فأعجب (إسماعيل) به أيما إعجاب؛ وبعد تناول طعام الغداء - وبينما المحادثة دائرة في قاعة التدخين - أبدى لمضيفه استحسانه العظيم لقصره، فشكره النبيل على تلطفه، وكان قد قيل (لإسماعيل): إن الرجل في ضيق مالي شديد، فأحب مساعدته بشكل لا ينجرح له إحساسه، فسأله عما إذا كان يريد بيع قصره - وكان الرجل، على شدة احتياجه إلى نقود، لا يرى في استطاعته التجرد من ملكية ذلك البناء الفخيم؛ ولكنه استنكر مقابلة لطف (إسماعيل) بخشونة الرفض، فعن له أن يبالغ بالثمن، ليحمله على العدول عن رغبته في المشترى - فأجاب: «إني قد أبيعه، يا مولاي، مقابل خمسة ملايين من الفرنكات!» ولم يكن يساوي أكثر من مليون ونصف مليون.
فالتقط (إسماعيل) الكلمة من فيه، وهي طائرة، وقال: «إني اشتريته منك، بهذا المبلغ!» وحرر له في الحال حوالة بثمنه على أحد بنكيريه بباريس، فلم ير الرجل بدا من قبول البيع.
غير أن (إسماعيل) التفت، حينذاك، إلى ابنة ذلك النبيل - وكانت هيفاء لا تتجاوز الخامسة عشر ربيعا - وقال بابتسام جميل، مخاطبا والدها: «على إني لا إخالك تمانع في أن تحرر عقد البيع للآنسة ابنتك هذه اللطيفة، تخليدا لذكر استحسان «خديو مصر» ظرفها وآدابها؛ ولكيلا يقال: إني زرتك لأجردك من ملكك».
15
فكان لهذه الهبة الجليلة، وكيفية منحها، رنة إعجاب في العاصمة الفرنساوية، جعلت (إسماعيل) موضع إشارات البنان والتفاتات الأعين، حيثما توجه، وأينما حل؛ وسهلت عليه جدا تحقيق الرغائب السامية الدائرة في فؤاده، ألا وهي القضاء على القيدين المقيدين استقلال بلاده، وأعني بهما: ما تبقى من ظل السيادة العثمانية عليها، والامتيازات الأجنبية.
ولا غرابة، فإن هذه الحادثة تذكرنا بما كان من غليوم الثاني، إمبراطور ألمانيا المخلوع، أثناء زيارته لسوريا سنة 1898 فإنه، بعد أن غمر، هو وزوجه، بهدايا (عبد الحميد) الثمينة؛ وكلف الدولة العلية نيفا ومليونين من الجنيهات؛ ونقل إلى عاصمته، من بعلبك، معظم نفائس معبد الشمس الشهير فيها، بتصريح من ذلك السلطان - وهي آثار لا تقدر بأموال ولا تثمن بكنوز - بعد أن اقتطع منه، في صميم بلاده، الأراضي الشاسعة، ليستعمرها الألمان؛ ونال امتياز إنشاء السكة الحديدية من أشقوداره، تجاه الأستانة، إلى بغداد، بالمزايا والضمانات المالية والعقارية العظيمة اللاحقة بها - فكان كأنه وضع يديه على رقبة الدولة البائسة، وملك قلبها - ولم يعط، عن ذلك جميعه، بدلا، سوى صداقته، وهدايا لحاشية السلطان ورجال ما بينه، بلغ ثمنها خمسة وثلاثين ألف فرنك، فقط - إذا كانت ذاكرتي لا تخونني - وإكليل برونز مذهب أهداه إلى ضريح (صلاح الدين) مرفقا بوعد صريح مقتضاه إرسال مثيله من الذهب الخالص ليقوم مقامه، وهو وعد لم يحقق مطلقا، حل أخيرا في دمشق، حيث أبهج العالم الإسلامي المغرور به، بإعلانه صداقته؛ أي: صداقة «الإمبراطور الألماني» للثلاثمائة مليون مسلم المنتشرين على سطح البسيطة، ووقوفه بجانبهم معضدا معززا - كأنما الثلاثمائة مليون مسلم، وهم لو اتحدوا قلبا وكلمة، لوزنوا في كفة الأقدار وزنا راجحا، في حاجة إلى تعضيد فرد، مهما كان مركزه رفيعا! - ثم زار بيت آل العظم الرفيع الحسب والنسب، وشرع يكثر من استحسان رياشه وأثاثه لما أنس من عميد ذلك البيت الكريم أنه كان يرجوه بإلحاح احترامي، أن يتفضل ويشرفه بأخذ كل ما كان يبدي به إعجابا، وما زالا على ذلك المنوال: هو يستحسن، والعظم يهب، حتى أحس العاهل نفسه، على كبر جشعه، أنه تعدى كل حدود اللياقة، وأنه أصبح يتحتم عليه، من باب عدم الإغراق في القحة، الوقوف في مضمار ذلك السلب، فما وجد ما يعبر به عن شعوره خيرا من قوله، بابتسام، إلى عميد ذلك البيت الرفيع العماد: «إني أتيت لأزورك، لا لأسرقك!» وهي في الحقيقة جملة استجدائية في قالب ذوق، كان من شأنها، بداهة ، توريط النبيل الدمشقي في تيار كرمه المندفع - كما كان الواقع - فإن العظم انحنى بوقار أمام جلالة زائره، وقال: «إننا يا مولاي، بأولادنا، ونسائنا، وأرواحنا، ومتاعنا، ملك أمير المؤمنين؛ وبما أنك صديقه، فنحن أيضا ملك جلالتك!» - ولست أدري أن إنسانا يحترم نفسه، ولو قليلا، فاه، في أيامنا هذه، بجملة بعيدة عن الروح العربية والإسلام الصحيح، بعد هذه الجملة عنهما! - إلا أنها أطربت نفس القيصر الألماني المتألهة، طربا بعيد الغور، فالتفت إلى حاشيته المرافقة له، وصفق، وقال: «هكذا يكون الولاء للمالك، وللعرش! فمتى أرى قلب شعبي مفعما بمثله؟» واستمر في سلب مضيفه من نفائس رياشه.
فأين عمل هذا الإمبراطور الغشوم البارد، من عمل ذلك الخديو الكريم، الباهر؟
وبعد أن مهد (إسماعيل) السبيل لنجاح مسعييه بباريس؛ حتى أصبح تحقيقهما لديه أمرا غير مشكوك فيه، سافر إلى إنجلترا على ظهر سفينة حربية فرنساوية، وضعها الإمبراطور نابوليون تحت تصرفه، مبالغة في إكرامه، وإظهارا لصداقته له، فحيته قلاع دوڨر، ومدافع فرقاطتين إنجليزيتين أرسلتا خصيصا لإكرامه؛ وقوبل، على الميناء، بكل مظاهر الاحتفاء بمجيء ملك من الملوك، ولما نزل في محطة تشيرنج كروس بلندن، وجد حرسا قائما لتأدية التحية العسكرية له ومواكب ملكية موضوعة رهن إشارته، ولكن، فيما عدا ذلك، فإن الحكومة الإنجليزية أرادت مجاملة (عبد العزيز) فأهملت جانب (إسماعيل)، ولم تخصه بقصر من قصور الأسرة المالكة، ولولا أن ضيافته الملكية بمصر لكبار رجال بريطانيا العظمى، الذين وردوا عليه زائرين، كانت قد أكسبته قلوبا عديدة في تلك البلاد، لاضطر إلى النزول في فندق عام.
غير أن بعض كبار اللوردات هب ينتقد على الحكومة الإنجليزية إهمالها شأن «خديو مصر» الكريم، وأسرع اللورد ددلي، ووضع، تحت تصرفه، قصره الجميل - وكان يضارع أفخم القصور الملكية في أوروبا حسنا، ونفاسة رياش - وقامت الصحف اللندونية تطريه، وتثني عليه، وتنعته بأجمل النعوت، قائلة عنه: «إنه أحذق حكام الشرق وأوسعهم نورا في عقليته» وترحب به ترحيبا جميلا.
فرأت الملكة ڨكتوريا أن تشارك شعبها في شعوره؛ وبعد مضي يومين على وصول (إسماعيل) إلى بلادها استقبلته في «وندزر كسل » بمعية ولي عهدها، استقبالا شائقا ملكيا، ثم جمعت معا بين إكرامه وإكرام (عبد العزيز)، فاستعرضت الأساطيل البريطانية في برتسمث، إجلالا لهما؛ ودعتهما، الواحد بعد الآخر، إلى ولائم فاخرة، أولمتها لهما خصيصا، واقتدت بها بلدية لندن؛ فأقامت، لكل منهما، حفلة استقبال حافلة في «الجيلد هل» الشهيرة!
فكان ذلك جميعه بمثابة اعتراف شبه رسمي من الحكومة والأمة البريطانيتين بمساواة (إسماعيل) بعبد العزيز، مساواة تكاد تكون تامة، وهو أقصى ما كان «خديو مصر» يمني نفسه به، فاتخذه، والحالة هذه، سابقة يرجع إليها، يوم يحين الأوان لإعلانه استقلاله، إعلانا صريحا، ومطالبته الدول بالاعتراف به اعترافا رسميا.
لذلك، ولوثوقه من فرنسا وإمبراطورها، وثوقا كليا، عاد إلى مصر من سفره إلى المعرض منشرح الفؤاد انشراحا لا مزيد عليه - بعد أن عرج على الأستانة كما تقدم وأدب فيها وليمة فاخرة للسلطان، مساء يوم السبت 31 أغسطس سنة 1867، في قصره الجميل بميركون، السابق مشتراه على ضفاف البسفور، وإعداده إعدادا فائقا ليكون جديرا بحلوله فيه، مع حاشيته، عند ذهابه إلى دار الخلافة
16
واستصدر فرمان سبتمبر سنة 1867 الذي سبق ذكره - وإنما عاد منشرحا ذلك الانشراح لأنه بلغ من إشراكه بلاده في ذلك المعرض وذهابه إليه مقصدين من المقاصد التي حملته على ذلك الإشراك، وهما:
الأول:
إظهار «مصره» متقدمة راقية، جديرة بانعطاف كبيرات الدول عليها، والأخذ بناصرها، وتوطيد الثقة التامة بماليتها، والاعتقاد بلا نهائية ثروتها في نفوس الجميع.
الثاني:
حمل العالم المتمدين على أن يحله من نفسه وصميمه، محل ملك حقيقي مستقل، وتمكن في الوقت عينه من المحافظة على حب الأستانة له، بالرغم من عمله على تقليص ظلها الثقيل عنه، وهو تمكن كان لا بد منه لنجاح مقاصده الخفية، فلم يستكثر في سبيل ذلك جميعه الأموال الجمة التي أنفقها؛ وعدها منفقة في خير الوجوه، ولو أنها بلغت بضعة الملايين من الفرنكات عدا. (2) الاستقلال دون السلطان العثماني بالقيام بحفلات ترعة السويس
17
عاد (إسماعيل)، من السويس، إلى القاهرة - بعد قيام البرنس أوڨ ويلز إلى الإسكندرية، ليبحر منها، ووجهته الأستانة، في شهر مارس سنة 1869 - وقد شغف بعمل دي لسبس شغفا يفوق حدود التصور، ووطن نفسه على أن يقوم باحتفالات فتح الترعة للتجارة العالمية، قياما يزيل كل ما أشكل على الغير في الماضي من نياته، ويظهر ثروته وثروة بلاده في مظهر تتضاءل أمامه كل ثروة أخرى، مهما عظمت، أو فخمتها الأحلام؛ فيبهر العالم المتمدين ويسحره ويأخذه؛ ويغتنمها فرصة في الوقت عينه ليتحرر مما بقي من القيود العثمانية الملقاة على عاتق مصر، فيعلن استقلاله بها، بمساعدة العواهل الغربيين الذين يكون قد فاز باستمالتهم إليه، لا سيما الإمبراطور الفرنساوي، والملك الإيطالي، صديقيه الحميمين.
وبينما هو يضع الخطة لسيره وعمله، ويستمرئ، مقدما، لذة فوزه بمبتغياته، وإحراز إعجاب العالم به، وقع في خلد مدير الأوبرا الخديوية، المدعو منسي بك - وكان أرمنيا تفرنس - أن يقلق سكينته، ويشغل فكره، ليفترس شكره، ويثري من «محظوظيته».
ففي ذات ليلة من ليالي أبريل الأولى، إذ كان (إسماعيل) مزمعا على الذهاب إلى تلك الدار، ليحضر تمثيل الجوقة الفرنساوية، المستأجرة في ذلك العام، دخل منسي بك، مضطربا، الشرفة المخصصة هناك لسموه، وأخرج شيئا سمجا حاول صانعه أن يجعله آلة جهنمية - من تحت الكرسي الذي كان (إسماعيل) يجلس عليه، وأوقع الصوت في الدار، فاضطربت كلها، وبطل التمثيل؛ وحملت الأنباء إلى الخديو - وكان لا يزال بعابدين - فانزعج، وعلا الغضب وجهه، إذ ظنها مكيدة جديدة دبرها له مريدو عمه المنفي، وارتجت أركان العاصمة، ووجلت قلوب الجالية الغربية في القطر، وأكب رجال الشرطة، ورؤساؤها على البحث والتنقيب، للوصول إلى معرفة مدبري تلك المكيدة.
فأسفر بحثهم وتدقيقهم:
أولا:
عن أن تلك الآلة، المزعومة جهنمية، لم تكن تخفي في جوفها سوءا، وإنما كانت مظهر خطر فقط، وآلة نصب في الحقيقة.
ثانيا:
عن اعتراف منسي بك نفسه بأن المسألة كلها لعبة دبرها، هو، لتتخذ شكل مكيدة، فيكون له فخر اكتشافها ومغنم المكافأة الثمينة التي كان لا بد من إعطائها له.
غير أن (إسماعيل) لم ترق في عينه تلك اللعبة، ولولا تداخل قنصل فرنسا، بتأثير ممثلة من ممثلات الجوقة كان مغرما بها، لخسف بذلك الأرمني السمج الأرض، أو نفاه على الأقل إلى فازوغلو، ذلك البلد الذي لم يكن أحد يعود منه، ولكن تداخل القنصل الفرنساوي عمل عمله، فجرد منسي بك من رتبته ونياشينه، فقط، وطرد من البلاد، وأنذر بالإعدام إذا تجاسر على العود إليها.
18
وإنما كان مثار غضب (إسماعيل) وتميزه من تلك اللعبة السمجة خوفه من أن تكون سببا في نشوء فكر الاعتداء عليه، حقيقة، في بعض العقول المريضة، أو بعض القلوب الناقمة، لما جبل عليه الإنسان من حب الاقتداء، لا سيما بما كان سرا وسوءا، فأمر بإغلاق دور التمثيل والملاعب، وأبطل ملاهي القصور، وقصفها، ولم يكن خوفه في غير محله، فإن الجند كان قد شرع يتذمر من قلة الطعام، ورداءته، وكثرة التعب وبهاظته ، فيما كان يحمل عليه من العمل في إقامة القصور الخديوية، وتحسين العاصمة وتنظيمها، وفي الشئون المدنية المحضة الأخرى، وإنما أراد (إسماعيل) أن يحمل الجند على ذلك العمل، وأن يكون طعامه بسيطا وقليلا، بالرغم من ذلك، ليعوده احتمال المشاق، وقناعة النفس؛ فيكون منه جيشا متصفا بصفات الجيش الذي انتصر به (ماريس) الروماني على جموع السمبر والتوتون، بعد أن شغله طويلا في أعمال شاقة كذلك العمل؛ وبصفات الجيش السبرطاني، الذي لم يكن يعطى له طعام، بالرغم من كثرة جهوده، سوى حساء محروق؛ أي: جيشا بطليا قويا، لا تتمكن مصر به من الاستقلال التام، فقط، بل من مد سلطانها إلى أبعد الأقطار الجنوبية، ورفع رايتها على خط الاستواء ذاته، ولكن روح ذلك الجند أبت أن تكون من طراز جيش ماريس، وجيش إسبرطة، فكثر فيه التململ والتضجر، من العساكر، ومن الضباط أنفسهم، وتحت نوافذ سراي عابدين عينها.
فاضطر (إسماعيل)، لمحق تلك الروح الشريرة في بدء نشأتها، أن يأمر بإلقاء القبض على عدد من الضباط المشار إليهم بالبنان في مظهر ذلك التمرد - وقد جعل بعضهم ذلك العدد ثمانية، وجعله آخرون أحد عشر - ومحاكمتهم أمام مجلس عسكري فحوكموا، وحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص، ونفذ فيهم ذلك الحكم، ثاني يوم صدوره، في قرية تجاور مصر. على أنه لم تمض أيام قلائل على ذلك التنفيذ إلا ووجد أربعة عساكر مسلحون ومتأبطون شرا يتجولون في بستان قصر الجزيرة، والسوء متلبس بجميع حركاتهم، وكان الخديو مقيما إذ ذاك في ذلك القصر، فقبض عليهم في الحال، وقتلوا رميا بالرصاص، وطرحت جثثهم في النيل، فخمدت روح الفتنة في الجيش، ولم تعد تبدي حراكا.
19
ومن حسن حظ البلاد أن هذه الحوادث المزعجة، وإقدام مجلس النواب - قبل انفضاضه في الخامس والعشرين من شهر أبريل عينه - على ربط عوائد وضرائب جديدة (منها عوائد على رءوس حيوانات النقل والفلاحة الزائد عمرها على ثلاث سنوات) مرا بدون أن تضطرب لهما حياة البلاد؛ مع أن نفاذ تلك الضريبة الغريبة، فيما لو أريد اجتناب الحيف والإجحاف، كان من شأنه إيجاد سجلات خاصة لقيد مواليد تلك الحيوانات: وهو أمر كان فيه ما فيه من السخرية والهزء في ذلك العهد!
وإنما قل الاهتمام بذلك جميعه لأن الأفكار كانت كلها مشغولة بسفر الخديو القريب لزيارة ملوك أوروبا وعواهلها، ودعوتهم إلى حضور حفلات افتتاح ترعة السويس؛ وهو حضور كانت التجارة المصرية تتوقع منه أكبر الخيرات وأجزلها؛ وكان المصريون يعلقون عليه آمالهم في بلوغ بلادهم الاستقلال المنشود!
ولكي تكون رحلة الأمير الرسمية لهذا الغرض مميزة عن كل ما سواها من نوعها، قر الرأي على أن يعين الأمير (محمد توفيق باشا) قائما مقام سمو أبيه الفخيم، مدة غيابه، تحت إرشاد شريف باشا، وزير الخارجية، ولكيلا توقظ هواجس في صدر تركيا، أشيع في بادئ الأمر أن السفر إلى الخارج إنما علته معاودة وجع الحنجرة الخديو، وإشارة طبيبه عليه بالذهاب إلى (إمس) و(ڨيشي)، هذه المرة.
ووجع الحنجرة هذا كان اعترى (إسماعيل) في بحر شتاء سنة 1868، ولم يشخصه الأطباء، في الأول، تشخيصا صحيحا، فأهمل الخديو شأنه، وتهاون في مداواته؛ فانقلب إلى وجع خطير، ومرض شغل الأفكار وأقلقها، فما وسع دولة الوالدة الجليلة، والحرم المصون إلا الإلحاح على المليك بإعادة طبيبه العادي الخاص إلى خدمته - وكان قد أقاله وأبعده عن القطر بسبب حادثة بلاطية لم يدرك كنهها، وتضاربت الألسنة في روايتها وبيان تفاصيلها - فما عاد إلى معالجته، إلا وبدأ التحسين في حالة المريض الجليل، واستمر مطردا، حتى أزال العلة تماما. على أنه لم يكن لينسب، في الحقيقة، إلى مهارة الطبيب؛ بل إلى فرح الخديو الجزيل بمولود جديد رزق به، في السادس والعشرين من شهر مارس سنة 1868، دعاه (أحمد فؤاد) قرت به عينه، وأعده الله لمستقبل باهر، ولكن الطبيب رأى، مع ذلك، وجوب سفر سموه إلى الخارج ليعالج بمياه الجهات الموصوفة، توصلا إلى قطع دابر ذلك المرض بالكلية، ومنع عودته في المستقبل، فرأى (إسماعيل) أن يسافر إلى بروصة في الأناضول: (أولا): لأنها بلد إسلامي.
و(ثانيا): لأن مياهها قلما يوجد لها مثيل في البلاد الأخرى.
و(ثالثا): لأنها قريبة من الأستانة.
وكان هو في احتياج إلى تعجيل موافقتها على المشروع القضائي، الذي كان قد خلف نوبار باشا، وزيره في أوروبا، ليجد في إدراك تحقيقه، فبعث، أولا، من حلل تلك المياه تحليلا كيماويا؛ ولما أظهر الفحص جودتها، قرر السفر إلى بروصة والإقامة بها زمنا، ثم مغادرتها إلى (إمس) أو (أوبن)، فإلى باريس لنسج خيوط مساعيه الاستقلالية وتشعيبها، ولمساعدة نوبار على نفاذ الإصلاح المرغوب فيه، والذي كانت المخابرات بشأنه قد تقدمت تقدما محسوسا جدا، فسافر إليها، في الواقع في 30 مايو سنة 1868، وتعالج بمياه حماماتها المعدنية، فأفادته فائدة كلية، عدل معها عن الذهاب إلى (إمس) أو خلافها؛ وقرر تمضية باقي فصل الصيف في عاصمة السلطنة العثمانية، ينوم بمظاهر ولائه ما قد توقظه مساعيه وأعماله من ظنون في صحة ذلك الولاء وحقيقته؛ ويسدل من نقوده المبذولة بسخاء، حجابا كثيفا أمام عيون الراغبين في الوقوف على كنه نياته، ففعل، ونال ما تمنى؛ وعاد إلى بلاده، بعد غيبة ثلاثة أشهر عنها، وهو يرى أنه يكاد يلمس نجاحه باليد.
ولما أشيع، في المناسبة التي نحن بصددها، أن معاودة داء الحنجرة له هي الموجبة لسفره هذا العام، قرنت الإشاعة بنبأ مؤداه أن الأطباء أشاروا عليه بالاستحمام بالمياه الأوروبية، هذه المرة، فحتموا عليه السفر إلى أوروبا؛ ثم شرع - والإشاعة تروج وتروج - في أخذ الاحتياطات اللازمة لتكون الرحلة محفوفة بمظهر ملكي حقيقي، فيتم كل شيء بحيث يسبق السيف العذل!
فلما كملت الاستعدادات جميعها، أقلع الخديو من الإسكندرية في 17 مايو إلى البندقية، ومعه حاشية يفوق عدد رجالها مثله في الرحلات السابقة؛ ويحيط به مظهر يكاد يكون إمبراطوريا، فأطلقت الحصون مائة مدفع ومدفعا، تكريما لوداعه؛ وسار يخته الفخم «المحروسة» تتقدمه ثلاث سفن حربية، وتتبعه ثلاث أخرى، حتى إذا توسط عرض البحار بتلك العمارة المستوقفة الأنظار، عرج على جزيرة كرفو، حيث كان جورج ملك اليونان مقيما، وبالرغم من أن هذا العاهل كان قد أوشك منذ عهد قريب أن يشتبك في حرب مع تركيا، وأن علاقاته بها كانت لا تزال بسبب كريت عدائية أكثر منها ودية، دعاه إلى حضور حفلات فتح ترعة السويس المقبلة، بإلحاح؛ وقدم لزوجته الجميلة، الملكة ألجا - ولا تزال حية - مائة ألف فرنك، مساعدة للمهاجرين الكريتيين، مظهرا لها عطفا كبيرا عليهم، على زعم الجرائد اليونانية، ورغبة أكيدة في تخفيف ويلاتهم - كأنما تركيا في واد، ومصر في واد آخر.
وبعد أن أقام بضعة أيام بضيافة الملك جورج، أقلع إلى البندقية، وسار منها إلى فلورنسا، حيث أسرع الملك ڨكتور عمانوئيل الثاني، صديقه الحميم، من مقره في تورينو، إلى مقابلته، وأنزله في القصر الفخم المسمى «قصرپتي» نزول ملك مالك، فأقام (إسماعيل) هناك أسبوعا، وهو في روحاته وغدواته محط عناية وإكرام فائقين؛ ثم سار إلى ڨيينا، حيث قوبل وعومل أيضا كملك مالك.
ثم سار إلى برلين، فأنزل في «الشلوس»؛ وأبدى له غليوم الأول، الملك الشيخ، من الاحتفاء والإعزاز والتعظيم ما لم يقل عما صادفه منها في فلورنسا وڨيينا.
ثم سار إلى باريس، فوجد مقابلة رحبة ملكية من عاهلي الفرنسيس وشعبهما، وتشجيعا سريا لمساعيه، فوق ما كان يتوقع.
ثم سار إلى لندن، فأنزلته الملكة ڨكتوريا، هذه المرة، في قصر بوكنهام الإمبراطوري، وتبارت هي في وندزر، والبرنس أوڨ ويلز في مرلبور وهاوس، والدوكات في قصورهم، والبلدية في «المنش هوس» و«قصر البلور»، في تكريمه وتعظيمه، نيفا وعشرة أيام، إكراما وتعظيما قلما يبذل مثلهما حتى للملوك.
فانشرح صدر (إسماعيل)، وابتهج فؤاده.
ولكن تركيا - وقد حقد صدرها الأعظم، عالي باشا، عليه بسبب سحبه جنوده من كريت، وما بدا منه نحو ملك اليونان من التودد والإكرام، ونحو ثوار الجزيرة من الانعطاف والمساعدة - كانت واقفة له بالمرصاد، وما أدركت غرضه الحقيقي من رحلته، إلا وأقبلت تعكر عليه حبوره، وتتخذ من مسلكه، ومن تغير خاطر السلطان عبد العزيز عليه، لعدم قصده إياه، قبل الجميع، بصفته سيد مصر، وعدم توجيهه الدعوة إليه ليرأس الحفلة العتيدة، حجة لتهديده وتوعده، ووسيلة لابتذاذ نقوده، في سبيل رضاه عنه.
فبعثت في منتصف شهر يونية، وقبل حلول الركب الخديوي في أرض إنجلترا، منشورا إلى جميع السفراء العثمانيين لدى الدول الغربية، تأمرهم فيه بالاحتجاج على عمل خديو مصر، واعتباره خارجا عن حدود اللياقة، جارحا لحقوق السيادة التي لتركيا عليه، ومزريا بالواجب المطلوب من التابع لمتبوعه، وذلك لأن الدعوة إلى حضور حفلات فتح ترعة السويس إنما كان يجب أن تكون باسم السلطان العثماني، سيد البلاد الحقيقي، وحده دون غيره، لا باسم الخديو، الذي ما هو إلا نائبه؛ وأنها، بالتالي، بشكلها الذي تشكلت به، باطلة ملغاة.
ولم يكتف الباب العالي بذلك، بل أوعز إلى جرائده المأجورة كجريدة «تركيا»، وجريدة «الليڨنت هرلد» بشن الغارة على ما منح لمصر من امتيازات، وحمل الحملات العنيفة على (إسماعيل)، ورميه بتهم المروق والخيانة، والسعي الحثيث إلى الإضرار بتركيا؛ وتمادى في هذا التيار، تماديا ظهر بأجلى معانيه ورموزه في المقالات المتتابعة، التي دبجها يراع مسيو بردئانو، كبير كتابه المأجورين، ورئيس تحرير جريدة «تركيا»، فإنه حصر في سبعة أوجه أنواع الخطأ التي زعم أن (إسماعيل) ارتكبها، وطلب بإلحاح أن يكون عقابه عليها العزل من منصبه، وإعادة مصر ولاية عثمانية كباقي الولايات - عملا بالشرط الثاني عشر من شروط فرمان 13 فبراير سنة 1841.
وأما تلك الأوجه السبعة فهي:
أولا:
ذهاب الخديو إلى أوروبا لسبر غور الدول فيما يتعلق بعزمه على إعلان استقلاله بمصر.
ثانيا:
إقدامه على الدخول مباشرة في مخابرات، بقصد عقد معاهدات تجارية مع الدول الأجنبية، بدون استئذان تركيا أولا.
ثالثا:
تكليفه نوبار باشا بالسعي لدى الحكومات الغربية لحملها على المصادقة على إنشاء محاكم مختلطة، لا وجود لها في باقي ولايات الدولة العثمانية، وتصريحه لذلك الباشا بالتلقب بوزير خارجية مصر، مع أن مصر لا خارجية لها سوى خارجية الدولة العلية.
رابعا:
تسليحه الجيش المصري ببنادق من الطراز الحديث، بدل إبقائه مسلحا بالبنادق القديمة، أسوة بالجيش العثماني.
خامسا:
عقده قروضا باسمه، بدون استشارة تركيا واستئذانها.
سادسا:
إضافته ثلاث فرقاطات مصفحة إلى أسطوله الحربي لتعزيزه تعزيزا يخشى منه على سلامة الدولة العلية.
سابعا:
وأخيرا تجنبه، عمدا، مقابلة السفراء العثمانيين في العواصم الأجنبية التي زارها.
فدفع (إسماعيل) هذه الهجمات بجدة، وكلف، هو أيضا، جرائد وكتابا من مريديه، الأخذ بناصره، وتفنيد مزاعم الباب العالي ودحضها، وبيان سخافة اعتبار بعض تلك الأوجه ضارة بمصالح الدولة العلية، في حين أن نفعها ظاهر للعيان: كوجهي تسليح للجيش المصري ببنادق من الطراز الحديث، وبناء الفرقاطات المدرعة الثلاث، فإن في مثل هذين الأمرين من إكساب تركيا قوة وبأسا، فيما لو شبت حرب بينها وبين دولة أخرى، ما يجدر بتركيا شكر مصر عليه، لا تأنيبها وتقريعها.
فكثر بين الناس تداول كتب ونشرات ونبذ: ككتاب «مصر حسب معاهدات سنة 1840 وسنة 1841» لبردئانو، وكتاب «مصر وتركيا» لجاي لساك، وكتاب «مسألة باشا مصر» للوكوڨتش، وكتاب «الخلاف المصري التركي» للوري، وغيرها، وبعضها منتصر لتركيا، والبعض لمصر، حتى جاشت النفوس وهاجت الصدور؛ واحتدم النزاع احتداما بات يخشى معه من شبوب حرب بين التابع والمتبوع، يعيد بها التاريخ نفسه.
فأمرت الحكومة المصرية بترميم الحصون والقلاع والاستحكامات وتحصينها، وتدريب الجيش وتعزيزه؛ واتخذت كل الاحتياطات، التي استدعتها تلك الحال الحرجة؛ وشرع (إسماعيل) يسعى إلى استمالة الدول الغربية إليه، بصفته معتدى عليه، بدون وجه حق؛ ووضع، في الوقت عينه، في مصر من مصارف باريس، 50 مليونا من الفرنكات، توقيا للطوارئ، ولكنه أكد، أيضا، رغبته في الاستمرار على خطته، وعدم احتفاله بإبراق تركيا وإرعادها، بالخطبة التي وجهها إلى اللورد مير في وليمة المنش هوس التي دعته بلدية لندن إليها؛ وهي خطبة هيمنت تمام الهيمنة على سابقتها الملقاة منه في القاعة عينها، لدى أول زيارته للعاصمة البريطانية في صيف سنة 1867 وتجد صورتها في الجزء الخامس من «كنز الرغائب» السابق ذكره ص143.
غير أنه، لدى عودته إلى باريس، بعد أن زار بروكسل لدعوة ملك البلچيك، أيضا، إلى احتفالات السويس العتيدة، أشار الإمبراطور عليه بأن يلين جابنه، مؤقتا، ويدع، جانبا، كل ما من شأنه زيادة توتر العلائق بينه وبين تركيا، ريثما تتحسن الأمور، فإن مسألة اللوكزمبرج كانت قد أبقت، في الهواء السياسي، كهرباء لا تزال تياراتها شديدة، وربما كفت شرارة واحدة لتنفجر منها طلقة تهتز لها الأكوان.
وشعر (إسماعيل) نفسه أن الفرصة غير سانحة لفتح باب ويلات على مصر والشرق؛ وأنه يجدر به أن لا يدع مكدرا، مهما كان نوعه، يحول بينه وبين بهجة الأعياد بفتح ترعة السويس للتجارة العالمية، والفخر الناجم له عنها؛ لا سيما أنه يدري كيف تنال الأغراض في الأستانة، مهما عز منالها.
فأهمل، مؤقتا، مسألة النزاع القائم بينه وبين متبوعه، واعتبر تهديدات تركيا كلاما فارغا، سوف يقضي عليه قضاء مبرما بهاء حفلات فتح الترعة؛ ورأى أن يغتنم فرصة وجوده في باريس للدخول مع بعض الماليين في مخابرات غرضها إنشاء بنك أهلي، وبنك عقاري بمصر، يكون هو أكبر مساهميهما وأهم عملائهما: وذلك لعلمه أن لا استقلال سياسي لبلاد لا استقلال مالي لها.
فعرفه مالي، كان مخصصا لخدمته في تلك العاصمة، بالمسيو ليڨي كريمييه، فأدت تلك المعرفة إلى ربط وثاق صداقة متبادلة بين سموه وذلك اليهودي، وإلى إنشاء البنك الفرنكو المصري، بواسطته.
كذلك تعرف، بواسطة نوبار باشا، بالماليين ا.دي جيرار دين وشركائه، وكانت نتيجة معرفته بهم إنشاء «الشركة العمومية المصرية» للإتجار والاستغلال، قدم الخديو معظم رأس مالها، وكل مصاريف تأسيسها، وكان الغرض منها حفر ترعة كبرى لري جزء الوجه البحري الشمالي الغربي، وإعادته إلى ما كان عليه في أيام البطالسة والرومان؛ وقد سبق لنا الكلام عن ذلك جميعه، وبعد أن كان قد عزم على تتميم مجرى سياحته، والذهاب إلى بطرسبرج، حيث كان قيصر الروس قد دعاه إلى زيارته من القرم، عدل عن ذلك وتوجه إلى (أوبن) للتعالج بمياهها.
فوردت عليه، وهو هناك، دعوة من الباب العالي، للمرور بالأستانة لدى عودته إلى مصر، لكي يقدم الإيضاحات المطلوبة منه عن تصرفه المطعون فيه؛ فرفض، ولكنه ما لبث أن علم أن الباب العالي استدعى أخاه الأمير مصطفى فاضل من أوروبا، وعينه وزيرا للداخلية العثمانية، فقصر مدة إقامته في (أوبن) واستحمامه بمياهها، وأسرع إلى طولون، وركب البحر منها إلى الإسكندرية في 23 يولية.
غير أن عالي باشا لم يدعه في راحة، وأبى إلا أن يخزه بخطابات مؤلمة، فلم يمض على رجوعه إلى عاصمته أسبوع، إلا وأرسل إليه مندوبا خاصا من الأستانة، يحمل خطابا شديد اللهجة، يتضمن كل ما سبق للباب العالي الشكوى منه؛ ويطالبه بإيضاحات سريعة وإلا فإن الدولة العلية تعتبر تعدياته خارقة لحرمة فرمان سنة 1841 وتتخذ الإجراءات التي يستدعيها ذلك.
وكان (إسماعيل)، قبل استلامه هذا الكتاب الجارح، أعد وفدا تحت رياسة شريف باشا لكي يرسله إلى الأستانة، بقصد إزالة سوء التفاهم الواقع؛ وزوده بما يجعل لكلامه وقعا حسنا لدى رجال الدولة العثمانية؛ ولكن شريفا باشا لدى اطلاعه على رسالة عالي باشا التهديدية، أبى الذهاب إلا مشمولا بتذكرة مرور من لدن القنصلية الفرنساوية، فكلف (إسماعيل) إذ ذاك طلعت باشا بالمهمة، وسلمه ردا على رسالة عالي باشا، برر نفسه فيه من التهم المعزوة إليه، ومائة ألف جنيه ليعزز بها ذلك التبرير.
فلم يرق الرد في أعين رجال تركيا، ولا أقنعهم المبلغ، لا سيما بعد أن قرنوه بما ناله غيرهم، قبلهم، من ندى الخديو المصري، فأرسلوا إلى (إسماعيل) بلاغا نهائيا، طلبوا فيه منه سبعة أمور:
أولا:
تسريح ما زاد في الجيش المصري على ثلاثين ألف رجل، وجعل لبس الجنود الباقية لبس رجال الجيش العثماني بالتمام.
ثانيا:
بيع البنادق ذات الإبر والمدرعات التي اشترتها الحكومة المصرية إلى الدولة العلية، أو التنازل لها عنها، مقابل ثمنها الأصلي.
ثالثا:
عرض الميزانية المصرية، منذ ذلك التاريخ، على الباب العالي سنويا، لتصديق السلطان عليها، واعتماده إياها.
رابعا:
إبطال المخابرات بين خديو مصر والدول الأجنبية، إلا بواسطة سفراء الباب العالي.
خامسا:
امتناع الخديو عن الاقتراض، في المستقبل، بدون تصريح خاص من السلطان.
سادسا:
إجراء مفعول «التنظيمات» بمصر، أسوة بباقي ولايات الدولة العلية، وترك أمر المخابرة في إنشاء المحاكم الجديدة المرغوب فيها.
سابعا:
إنزال الضرائب إلى ما كانت عليه أيام ارتقاء الخديو عرش مصر.
فلما بلغت هذه المطالب إلى (إسماعيل)، كان بمعيته قنصل دولة أجنبية؛ فقال (إسماعيل) له: «إذا عامل الإنسان الأتراك، فيلزمه إما استمالتهم إليه بالرشوة، وإما الكشر لهم عن أنيابه. أما وقد رشوتهم في الماضي، فإني، الآن، لكاشر لهم عن ناب!»
ولعلمه أن سفراء إنجلترا وفرنسا والنمسا وإيطاليا لدى الباب العالي يعضدونه، أهمل الرد على تلك المطالب ما يزيد على شهرين، ولم يرسل جوابه إلا في أوائل شهر نوفمبر، محررا بقلم نوبار باشا، الذي كان قد عاد من أوروبا.
وكانت لهجة ذلك الجواب الاستخفافية تتستر وراء حجاب رقيق من المجاملة، وبينما يتظاهر مبناه بالخضوع لمطلب أو مطلبين من مطالب الصدر الأعظم، قابل برفض صريح الامتثال لأوامر الباب العالي القاضية بأن لا يقترض خديو مصر قروضا جديدة بدون تصريح من السلطان، وأن يرسل، سنويا، ميزانية حكومته لينال التصديق عليها.
فلم يعد في وسع الباب العالي سوى الاعتراف بالانخذال والانسحاب من المعمعة، أو إشهار حرب على مصر؛ وكلا الأمرين كانا كريهين لديه. أما الأول، فلمنافاته لهيبة الدولة في النفوس، وأما الثاني، فلعدم اتفاقه مع صفاء الأعياد الموشك إقامتها احتفالا بفتح ترعة السويس، ففضل، إذا، السكوت مؤقتا، وتمكن (إسماعيل)، بذلك، من التفرغ للقيام بتلك الأعياد، قياما يبهر الجيل الحاضر، ويدوي صداه في آذان القرون المقبلة إلى الأبد.
20
وكان المسيو دي لسبس قد أعلن في 2 أغسطس أن افتتاح الترعة للملاحة العالمية يكون يوم 17 نوفمبر سنة 1869؛ ففي 15 أغسطس أزيل الحاجز القائم دون دخول مياه البحر الأحمر في البحيرات الملحة؛ فتدفقت فيها، وأقبل رجال الشركة يدأبون على تتميم الأعمال الأخيرة: من قياس الأعماق، ورفع العوائق التي قد تكون تخلفت عن الشغل في سبيل السفن متى جرت، وتطهير فرش الترعة من كل رمال تطرقت إليها.
فطرح (إسماعيل)، في المزاد، أمر القيام بالشئون التي تستدعيها الاحتفالات العتيدة، حافظا للخزينة المصرية حق عمولته على من يرسو عليه مزادها، وأرسل يستحضر خمسمائة طاه، وألف خادم من ترييسته، چنواء، وليڨرنو، ومرسيليا، ليقوموا بخدمة ضيوفه، زيادة على طهاته، وخدمه المصريين، وبعث يرجو المسيو دي لسبس بأخذ الاستعدادات اللازمة لضيافة ستة آلاف مدعو.
ثم أكب على وضع الترتيبات، وأصدر الأوامر، وتحرير الدعوات التي صمم عليها.
وكان قد أجاب دعوته من عواهل أوروبا كل من لم يحل دون مجيئه حائل، فوعده بالحضور: أوچيني إمبراطورة الفرنساويين؛ وفرنتز يوسف إمبراطور النمسا وملك المجر؛ وفردريك ڨلهلم ولي عهد التاج البروسياني، وقرينته بنت الملكة ڨكتوريا؛ وهنري أمير هولندا، والأميرة قرينته؛ ولويس أميرالهس، ومن لم يتمكن من المجيء، أمر سفيره بالأستانة أن يقوم مقامه، أو انتداب أحد كبار رجال دولته لذلك.
أما السلطان فلم يدع مطلقا، ولا حسن لديه أن يدعو نفسه؛ ولا كلف أحدا من كبار رجال دولته بتمثيله، بل اكتفى بالإيعاز إلى سفير إنجلترا لديه بذكر اسمه لدى فتح الترعة.
على أن ذلك لم يكن كبيرا في عيني (إسماعيل) إلا من وجهه المستحسن، فراق لديه جدا تغيب عبد العزيز؛ لأن وجود السلطان على رأس ذلك الاحتفال كان من شأنه الهبوط بخديو مصر إلى الوراء، وبمصر إلى درجة ولاية عثمانية محضة؛ بينما أن عدم وجوده كان برهانا محسوسا على جلوس الخديو في مصاف الملوك، وعلى استقلال مصر عن تركيا، حتى فيما لها من العلاقات بالدول الأجنبية، لا سيما إزاء بقاء احتجاجات الباب العالي السلف ذكرها، حبرا على ورق.
ولكي يكون العيد عيد العلم، كما هو عيد تلاقي العظمات البشرية، دعا (إسماعيل) جمهورا غفيرا من رجال الأدب والعلم، والفنون، والتجارة الكبرى، والاستغلال الفني، ومراسلي الجرائد الغربية المهمة كلها، بل ذات مراسلي الجرائد التي من الطبقة الثانية والطبقة الثالثة في الأهمية - لما كان للأدب والعلم والصحافة وباقي ما ذكر من رفيع المنزلة لديه.
على أن كثيرين ممن لم يشتهروا في شيء ولم تكن لهم، نسبيا، حيثية ما على الإطلاق، بل كانوا أي فلان من الناس، تمكنوا من حشر أنفسهم في زمرة أولئك الرجال الأكارم: إما لمنزلة شخصية لهم في أعين المدعوين من أرباب الحيثيات؛ وإما لتمكنهم بوسائل متعددة، من الحصول على أوراق دعوة بأسمائهم، ويقال: إن عدد هؤلاء المتطفلين زاد على ثلاثة آلاف.
أما الإمبراطورة أوچيني، فإنها سبقت موعد الاحتفال، وقدمت إلى العاصمة المصرية في الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر، فأنزلها (إسماعيل) في قصر الجزيرة، وقام بشئون ضيافتها، قياما فاق كل ما اعتاده الملوك وأعاظم عواهل العالم من نوعه.
وكان قد ذكر بعضهم أمامه، قبل حضورها، أنه لا بد لها من زيارة الأهرام، وأن الطريق، إلى ذلك الأثر الفرعوني العظيم، لا تزال على ما كانت عليه في عهد زيارة عبد العزيز له، فسرعان ما أمر (إسماعيل) بتمهيدها، وجعلها مسلوكة للعربات وغرسها بأظل أنواع الشجر! وسرعان ما نفذت أوامره، وسخر وزير الأشغال العمومية، ومدير الجيزة الأيدي، بلا انقطاع، في العمل! فأنشئت تلك الطريق في أقل من ستة أسابيع، كأن ملوك الجن قد اشتغلوا فيها وتفننوا، وبات العالم الشيق إلى زيارة الأهرام مدينا بها للإمبراطورة أوچيني؛ كما أن السياح في الأراضي المقدسة مدينون لزيارة غليوم إمبراطور ألمانيا السابق لها بالطريق السلطانية الجميلة الممتدة ما بين حبرون (الخليل) وبيت المقدس - بفرعها الآتي إلى بيت المقدس من عين كارم - ونابلس، والناصرة، وطبرية! لأن عبد الحميد إنما أنشأها لراحته!
وبعد أن قضت أوچيني أسبوعا في مصر، لم تنفك الأعياد والابتهاجات تتوالى فيه تحت قدميها، ساحرة، آخذة بالألباب، على أنواع وبكيفيات لا يزال الشيوخ في عهدنا هذا يتحدثون بها، ويعدونها، في مخيلاتهم الملتهبة، مزرية بذات ابتهاجات الجنة، المعدة للصالحين، قامت للسياحة على النيل، والتفرج في الصعيد على أثار الفراعنة المصريين.
وسافر (إسماعيل) معها، بشخصه، متطوعا في خدمة جلالها الجميل وجمالها الجليل، فحفها بصنوف من الأبهة والفخفخة، ونثر تحت قدميها الملكيتين من أنواع الترف والملاذ، ما لم يقع في خلد ذات (كليوبترا) في أبهى أحلامها الذهبية، وليالي حياتها «العديمة المثيل».
ولا بد من أن الإمبراطورة، حينما وقفت في الأقصر، وعند خرائب طيبة القديمة، على آثار (حاتاسو) العظمى، أخت طوتمزس الثالث، ناپليون مصر الفرعونية، قارنت بين نفسها وبين تلك الإمبراطورة المصرية القديرة، مقارنة لا يدري كنهها إلا هي؛ ولا بد من أن ذكر (كليوبترا)، أيضا، أطل على مخيلتها من نافذة تذكارات أيام صباها، فأخذت أفكارها تحوم، تارة، حول مخادع قصر التويلري، بباريس، فتريها قرينها البعيد، المرافق قلبه تنقل خطواتها في رحلتها، على بعد الشقة بينهما، وتذكرها علاقته بعمه الإمبراطور الأكبر، الذي ترك، هو أيضا، أثرا بعيد الغور في ثرى مصر التاريخي الخصيب؛ وطورا حول مضيفها النبيل، المستنفد، في سبيل إرضائها، جميع الوسائل التي يمكن لأكبر المخيلات تفتقا أن تجود بها، فتصوره قيصر أو أنطونيس، قد أعيدا إلى الحياة ليقوما بخدمتها!
ولما انقضت تلك الرحلة التي لا تنسى، وعاد المتنزهان الجليلان إلى مصر، ارتاحت أوچيني في قصر الجزيرة يومين، وأما (إسماعيل) فإنه اصطحب وزيريه نوبار وشريف، وكبار رجال بلاطه وحكومته، وسافر بهم إلى الإسكندرية، واستقل منها ظهر يخته المحروسة، وسار إلى بورسعيد، ليستقبل أصحاب التيجان الملبين دعوته؛ فبلغها يوم 13 نوفمبر.
21
وإذا بسفن العالم المتمدين كله، قد أمتها من جميع جهات الأفق، وضيوفه العديدين وقد صرفت لهم من جيبه الخاص تذاكر المجيء من بلادهم والإياب إليها، في الدرجة الأولى، قد أتوا من كل فج عميق، تحف بهم أنواع الراحة والهناء كافة؛ وإذا بأساطيل الدول، بما فيها الأسطول المصري، قد اصطفت في المرفأ الفسيح، الذي أنشأته شركة القناة أمام بورسعيد؛ والفيالق المصرية قد خيمت على ضفاف الترعة، حتى مدينة الإسماعيلية، لتحفظ نظام الحفلات، وتزيد في بهجتها.
22
وما لبث (إسماعيل) سويعات إلا وأقبل أمير هولندا وأميرتها، فاستقبلهما استقبالا حسنا شائقا.
وفي اليوم التالي 14 نوفمبر، وصل المسيو دي لسبس مع أسرته، وفي يوم 15 نوفمبر، قدم فرنتز يوسف إمبراطور النمسا والمجر؛ وكان قد تعرض لخطر جسيم لكيلا يؤخر ميعاد وصوله: فإنه، وهو قادم إلى بورسعيد، استحسن في تقواه المسيحية أن يعرج في طريقه، على يافا، ويزور القدس الشريف؛ ففعل، ولكنه، لما عاد إلى يافا، يوم 14 نوفمبر، وجد البجر عجاجا، والنوء عاصفا، والريح تسوق الأمواج إلى الشاطئ، جبالا، جبالا - ويافا مرفأ رديء لا تدخله السفن مطلقا، بل تقف في عرض البحار، بعيدة، لانتشار الصخور في الماء بالقرب من الشاطئ، لا سيما صخرين قائمين عند مدخل الميناء كأنهما «شلا» و«كاردي»، لا بد للقوارب والفلائك الذاهبة بالمسافرين، إلى السفن الراسية خارجا، من المرور بينهما، والتعرض لخطر التحطم على أحدهما، أو على كليهما، حينما يكون البحر هائجا، مائجا.
فأتاه قنصل فرنسا بذلك الثغر، ورجاه أن يؤجل سفره، ريثما يهدأ النوء ، اجتنابا لمصيبة قد يهتز لوقوعها العالم بأسره، وانضم إلى قنصل فرنسا في رجائه الأميرال تجيتوف - المنصور في لسا - وكان قائد الأسيطيل النمساوي المقل للإمبراطور؛ وتمادى في إلحاحه على مولاه، بعدم مبارحة الشاطئ، مؤكدا له أن الأسيطيل، والبحر على ما هو عليه، لا يستطيع مطلقا الإقلاع والمخر.
فأبى فرنتز يوسف إلا المخاطرة، قائلا: «إني قد وعدت بأن أكون في بورسعيد يوم 15 نوفمبر؛ ولا أستطيع أن أخلف وعدا وعدت به!» ونزل في قارب، ومعه خمسة نواتي وأمر بالانطلاق، فانطلق النواتي به يجدفون، والأمواج تتقاذف قاربهم، وتهاجم من فيه مهاجمة جرفت اثنين منهم، لم يستطع الباقون إنقاذهما إلا بكل صعوبة، حتى دنوا، بعد جهد جهيد، من المدرعة التي كانت تنتظرهم.
وإذا بخطر الصعود إليها، أكبر الأخطار التي حاقت بهم، لشدة هيجان الأمواج حولها، واصطدامها فيها بقوة، وعدم تيسر الاقتراب منها للقارب الضئيل المقل جلالة الإمبراطور النمساوي؛ أو تنزيل سلمها إلى من فيه للصعود فيها.
فاضطر رجالها إلى تدلية حبال من حبالها في الفضاء، تعلق الإمبراطور بأحدها بكلتا راحتيه المضمومتين؛ فرفعه البحارة إلى ظهر الدارعة، والأمواج تتلاطم حوله وترطمه، كأنها تريد ابتلاعه، ويعز عليها نجاته منها.
ولما بلغ الباقون المأمن، ولحق بهم الأميرال في قارب آخر، أقلعت المدرعة، ووجهتها بورسعيد، غير مبالية بالرياح العاصفة حولها، ولا بالأمواج الهائجة، المترامية عليها، لافتراسها، فحققت وعد الإمبراطور، ووصلت إلى بورسعيد، في اليوم الخامس عشر؛ وما استقرت في المرفأ، ومالت الشمس إلى المغيب، إلا وهدأت الأمواج، وصفت الطبيعة، وتلون الأفق بألوان بهية كقوس قزح؛ كأنه ابتسام السماء، ووعد السلام المقبل عيده بعد يومين.
فأطلقت المدافع من كل السفن الحربية الراسية هناك، احتفاء بوصول جلالته؛ واستقبله (إسماعيل) استقبالا حافلا.
وفي يوم الثلاثاء 16 نوفمبر، دوت المدافع عينها ثانية عند الساعة السابعة صباحا، ودخلت المرفأ المدرعة الألمانية المقلة البرنس فردريك ڨلهلم ولي عهد مملكة بروسيا - وكان قد أصبح لهذه الدولة شأن عظيم في العالم الأوروبي، بعد انتصارها على النمسا في حرب سنة 1866.
وما كادت تلك المدافع تسكت لحظة، إلا وعادت إلى الدوي باستمرار، وتضاعف عدد طلقاتها تضاعفا ارتجت له السماء والأرض وأعماق البحار، وإذا بجمع من السفن ظهر في البعد، وتقدم بجلال نحو المرفأ؛ وأمامه الباخرة «الايجل» (النسر) تقل جلالة الإمبراطورة أوچيني، إمبراطورة الفرنساويين، وربة الاحتفالات العتيدة - وكانت واقفة على ظهر السفينة، يحف بها كبار نبلاء الدولة البونبرتية، وقريناتهم، وجمع وصيفاتها، وهي في وسطهم كآلهة الجمال واللطف، وكانت قد ذهبت من مصر إلى الإسكندرية، وأتت منها إلى بورسعيد.
فاكتظت ظهور عموم الجاريات بنواتيها، وضباطها، وأركان حربها، وموسيقاها؛ وانتشرت فوقها أعلامها تخفق وترفرف؛ وغص الشاطئ بالطوبجية المصرية وجماهير المتفرجين، والمدعوين، الممثلين المدنية الحديثة في خير مظاهرها، والقوى العقلية البشرية في أبهى معانيها، وعلت تهاليل الجميع، وملأت الفضاء؛ وتجمعت فيه ابتسامات القلوب المبتهجة، كباقة عظيمة، أخذت الإمبراطورة تستنشق عبيرها الذكي، طربة، ثملة.
وكانت، وهي قادمة إلى القطر المصري، قد حضرت أيعاد فتح القناة الأكبر، في البندقية، وأعياد البسفور التالية لها، وهي أعياد بذل فيها أقصى المجهود لتكون السحر الحلال، والشعر الآخذ بالألباب؛ ولكنها، مع ذلك، حينما رأت نفسها محاطة بهالة ذلك الابتهاج وذلك المجد، وأحاطت عيناها بجميع جلال ذلك المنظر الفريد، لم يسعها إلا الهتاف بأن قالت: «يالله! لم أر في حياتي شيئا أجمل من هذا!»
فلما رست بها باخرتها في المرفأ، قصدها (إسماعيل) أولا؛ وهنأها بسلامة الوصول؛ وأكد لها أن وجودها خير ما يتفاءل به؛ وأعرب لها عن شكره وارتياحه، لتفضلها بقبول دعوته، وترأس تلك الحفلة الممجدة ملكه إلى الأبد، والتي تمت بمجهودات اشترك فيها الجميع.
ثم تلاه إمبراطور النمسا والمجر، فولي عهد الدولة الپروسية، وقدما لها تحياتهما واحترامهما، فباقي العواهل والأمراء.
فاستقبلت الكل بلطفها المعروف؛ ووجدت، لرد التحية إلى كل واحد من أولئك العواهل، الكلمة التي تنزل على الفؤاد كطيب سحر مطرب، ثم أخذ الجميع يستعدون لحفلة افتتاح الترعة المباركة.
وكانوا قد أقاموا ثلاثة ارتفاعات خشبية مكسوة بالحرير والديباج: واحد في الوسط، للضيوف الأجلاء، أصحاب التيجان، والأمراء والعواهل ورجالهم، وواحد على اليمين، لعلماء الدين الإسلامي، وفي مقدمتهم العلامة الشيخ مصطفى العروسي ، شيخ الجامع الأزهر والإسلام بمصر؛ وصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد المهدي العباسي، مفتي الديار، وواحد على اليسار، لأحبار الدين المسيحي، وعلى رأسهم المنسنيور باور الرسول البابوي، وخادم كنيسة القصر الإمبراطوري بباريس؛ وكان قد حضر خاصة لمباركة الترعة، ثم لعقد قران المسيو دي لسبس على الكرئيولة اللطيفة التي أحبها وأحبته، بالرغم من تكلل جبينه بلجين الشيب.
ونصبوا على الشاطئين، الأسيوي والإفريقي، المظلات البديعة لجماهير المدعوين والمتفرجين؛ وفي صدرها كلها، مظلة لمؤسسي الترعة ومجلس إدارتها؛ وأخرى لرؤساء الشركات التجارية العظمى في العالم ومندوبيها؛ وثالثة لرجال الصحافة العالمية والمكاتبين.
واصطفت الجنود المصرية بين رصيف النزول والارتفاعات الخشبية الثلاثة، لتحفظ النظام حولها، وتمنع الازدحام عنها، وترتبت الطوبجية بين الرصيف الداخل في البحر، من جهة الغرب، ومحل الحفلة؛ وتجهزت وترصفت المراكب الحربية - وكانت خمسين مركبا - والسفن التجارية - وكانت نيفا وثلاثين - داخل المرفأ على شكل قوس بديع المنظر.
أما الحربية، فكانت ستا مصرية، وستا فرنساوية، واثنتي عشرة إنجليزية، وسبعا نمساوية، وخمسا ألمانية، وواحدة روسية، وواحدة دانمركية، واثنتين هولنديتين، واثنتين إسكنديناڨيتين، واثنتين إسپانيتين، وفرقاطتين إنجليزيتين أخريين هائلتين واقفتين في البعد كأنهما رمز الحرب، المزمع اندلاع لهيبها بعد ثمانية شهور، يهدد مظهر ذلك السلم العظيم، ولم يكن هناك أسطول إيطالي، لاضطراره إلى مغادرة المياه المصرية؛ فجأة، تحت قيادة الدوك داؤستا، بداعي اشتداد المرض على ڨكتور عمانوئيل الثاني. الملك الحلو الشمائل، وصديق (إسماعيل) الحميم - وهو مرض كان السبب في تخلفه عن تلك الحفلة، وحرمانه لذة تمتيع صديقه بحضوره إليها - على أن إيطاليا بقيت ممثلة هناك، بمراكب تجارية عديدة.
فلما كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، وقد فرغ الجميع من تناول الطعام على نفقة الخديو واستراحوا، أخذت الموسيقات تصدح، وشرع الموكب الفخم يتقدم، ليجلس الكل في المكان الذي أعد لهم.
وإذا بزكي بك، رئيس التشريفات الخديوية، قد برز أمام الجميع يفتح الطريق، وتلاه الأمير (محمد توفيق)، ولي عهد مصر، وعلى ذراعه أميرة هولندا؛ فولي عهد الدولة الپروسية؛ فأمير هولندا؛ فالسير هنري إليت سفير إنجلترا في الأستانة والنائب، عرفا، عن السلطان عبد العزيز؛ فالأميرال الإسپاني، فالأميرال الفرنساوي پاريس، والمسيو دروي دي لوم؛ فالكولونيل الإنجليزي رسل؛ فرضا بك محافظ بورسعيد؛ فالبرنس چورچ ولي عهد الهانوڨر؛ فالكولونيل دورنج.
وما استقر هؤلاء في مقاعدهم، إلا وصدحت الموسيقات كلها بالنشيد الفرنساوي، ثم ظهرت ألوية النمسا والمجر تحيط بالراية الفرنساوية، فاشرأبت الأعناق، وأحدقت الأبصار؛ وإذا بالإمبراطورة أوچيني، يسير خديو مصر أمامها، تتقدم متكئة على ذراع الإمبراطور فرنتز يوسف، ووراءها فردينان دي لسبس، فالأرشيدوق ڨكتور النمساوي، فمجلس إدارة الشركة، فالأمير عبد القادر الجزائري - وكانت الحكومة الفرنساوية قد دعته إلى تلك الحفلة، خاصة، اعترافا له بالفضل الذي أبداه في الدفاع عن المسيحيين، وحمايتهم أيام مذابح سوريا، ووضعت تحت تصرفه الدارعة «فوربين» لتقله من بيروت إلى بورسعيد، فما ظهر ببرنسه الأبيض في وسط ازدحام تلك الرءوس المتوجة بتيجان الملك، وتيجان العبقرية أو العلم، أو العصامية أو الفضل، إلا واستوقف الأنظار شكله الجميل، وقوامه المعتدل، ووجهه المكسو مهابة وجلالا - فطوسن باشا ابن الأمير (محمد سعيد)، الوالي السابق، صاحب الأيادي البيضاء على مشروع القناة وشركته - وإنما أراد (إسماعيل) الذي كان يحب طوسن حبا أبويا، وزوجه، فيما بعد، ابنته؛ ولم يفتأ يواليه بعنايته ورعايته إلى آخر لحظة من حياته، كأنه يريد أن يخفف عليه وطأة التوعك المستديم، المنتابه منذ صباه، والمسبب له عن كون أحد خدام أبيه فتح، ذات يوم، بسرعة وشدة، بابا في السراي كان الطفل طوسن واقفا وراءه، فصدمه الباب في جبهته، فوقع مغشيا عليه، فارتعد الخادم وخارت فرائصه، وما كان منه، في خوفه من غضب أبي الأمير الصغير، إلا أنه أغلق عليه الباب، وتركه طريحا على الأرض، فاقد الحواس، دون أن يخبر بالحادثة أحدا، فبقي طوسن على تلك الحالة، عدة ساعات، حتى افتقدته مربيته، وبحثت عنه، فوجدته في تلك الحجرة طريحا، لا يعي، فلم تعد تجديه الأدوية، بعد ذلك، نفعا لتأخرها، واستمر طول حياته ضعيفا، هزيلا، مرتج الدماغ؛
23
إنما أراد (إسماعيل) أن يحضر طوسن ذلك الاحتفال، ويكون له فيه مركز خاص، لكي يكون فيه، بهيئته المكسوة، منذ ذلك الحين، بمظهر ما وراء المادة، خير ممثل لروح أبيه، المرتاحة في عالم النعيم، والناظرة بابتهاج إلى العمل التام، الذي لولاها لتأخر بروزه إلى الوجود أجيالا.
وتلا طوسن، نوبار باشا، فالبرنس ميرا حفيد الملك يواكيم صهر ناپوليون العظيم، فبرچير بك، فالجنرال دوسه الفرنساوي، فوزيرا الإمبراطور فرنتز يوسف، وهما الكنت دي بيست، والكنت اندراسي، فسفيره لدى الباب العالي، البارون بروكيش، فالدوك دي هوسكار، فالجنرال الروسي إجناتييف، فالأميرال النمساوي تيجيتوف، فسيدات عديدات من معية الإمبراطورة، فالنائبون عن المؤتمرين العلمي والتجاري، وعن شركة المساچيري الفرنساوية، وكانت الباخرة التي أقلت مديرها، ثم اشتركت في حفلة الاجتياز إلى البحر الأحمر، أكبر بواخر تلك الشركة، فأركان حرب الأساطيل المتعددة، فسفراء الدول وقناصلها، فزمر المدعوين أفواجا أفواجا.
فلما اكتمل عددهم، وانتظم ذلك العقد الفخم، دوت المدافع من كل جهة، متتابعة الطلقات، مؤذنة، على ذينك الساحلين الإسلاميين، وبالقرب من ربوع توالت عليها وقائع الحروب الصليبية، بأن حادثة جلي، قلما سجلت التواريخ البشرية لها مثيلا أو شبيها، تمت في تلك الساعة، تحت أشعة تلك الشمس الذهبية الساطعة، وأمام عين الإله رب البرية كلها على السواء: ألا وهي حادثة تصافح الشرق والغرب، مصافحة أخوة وسلام؛ وتعانق الصليب والهلال، معانقة احترام ووئام!
ثم قام علماء الإسلام، وشيخهم في مقدمتهم، وأقاموا بالوقار والجلال، المخيمين أبدا على كل مظاهر العبادة الإسلامية، أدعية الشكر والحمد؛ وبعد الفراغ منها، ألقى شيخ الإسلام خطبة وجيزة، رائقة، شائقة، منع ضيق الوقت من ترجمتها لجمهور الحاضرين!
ثم تلا أحبار المسيحية علماء الإسلام، فأنشدوا نشيد الشكر اللاتيني المعروف باسم «التديئم»، المنسوب إلى القديسين أمبروزيس وأغسطينس؛ وشاركهم فيه كل من شاء من الجم المسيحي الحافظ له، وفي مقدمتهم الإمبراطور والإمبراطورة.
ثم تقدم المنسنيور باور، وألقى بصوته الجهوري، وعبارته الفرنساوية البليغة، خطابا جمله الحماسية شعلات عواطف أو شهاب نار فؤادية، أو هتفات قلب طافح حبا للإنسانية، شقت صدره، وانطلقت تدوي في الآفاق، ووجهه إلى الخديو أولا؛ فإلى الإمبراطورة؛ ثم إلى الإمبراطور؛ ثم لم يترك جدارة إلا ومدحها، ولا فضلا إلا وأثنى عليه.
فخص (إسماعيل ) أولا بثنائه، بصفته رب الحفلة، ومنبع ذلك الحبور العام؛ وتغنى بما له من فضل على إنجاز المشروع، ونشر معالم المدنية في قطره، وحفه الأديان كلها برعاية واحدة، رعاية الملك الكريم الذي يراها كلها جديرة بالعطف لإبقائها متماسكة متآخية، ثم خاطب الإمبراطورة أوچيني: فذكر ما وجده المشروع؛ من قوة في لطفها، وتعضيد في موالاتها، وتأييد في عواطفها؛ وما لاقاه في فرنسا، البلد الكريم، الذي هي عاهلته المبجلة، من إقبال، وتشجيع، وشد أزر، ثم خاطب الإمبراطور فرنتز يوسف: فشكره على أنه ما انفك معتقدا في نجاح المشروع، عاملا على غرس حب الإقبال عليه في قلوب رعاياه؛ وذكره بزيارته لبيت المقدس، وقبر المخلص، ليستخلص من ذلك، دعاء له بطول بقائه مجدا في خير الرعية المعهود أمرها إليه، ثم انتقل إلى الكلام عن دي لسبس، الرجل الذي دخل في التاريخ، حيا: فوفاه حقه من المدح والثناء بقدر ما يستطيع فم بشري أن يفعل ذلك، وخص بالذكر من شاركوه في عمله، أولئك الذين قضوا نحبهم شهداء انكبابهم على تحقيق الأمنية الكبرى، فوارتهم الرمال التي كانت بالأمس الصحراء المحرقة، فأصبحت بفضل مجهوداتهم مزارع تذكر الرائي بما كانت عليه أرض غسان في مصر الفراعنة، من اليناعة والخصب، وختم خطبته بنداء وجهه، أولا، للشرق، ثم للغرب، ذاكرا لكل فضائله ومميزاته، وحاضا كلا منهما على عدم فصم عروة، في المستقبل، ربطهما الله بها في ذلك اليوم، المثلث البركات!
فقوبل خطابه بهتاف مستطيل؛ وكان له من القلوب أجمل موقع! ثم شرع في الافتتاح، وانتشر الأقوام يتفرجون على الأعمال العظيمة، التي تمت على يد الشركة، في هذه القناة المزرية بأعمال الفراعنة الغابرين.
ولما كان المساء، وحانت ساعة الطعام، مدت الموائد متتابعة لستة آلاف مدعو، فأكل الكل من أنواع المآكل الفاخرة، وشربوا من الخمور اللذيذة الثمينة، ما لم يخطر على فكر بشر، ولا سمعت بمثله أو رأت نظيره الأجيال؛ حتى إذا دقت الساعة الثامنة، بدت الزينات تجلل شاطئي آسيا وإفريقيا؛ وتجعل الليل ساطعا كنهار جميل، وتجلت «المحروسة» بأنوار، خيل معها للرائين أنها أصبحت شمسا تتألق؛ وأخذت، بين كل دقيقة وأخرى، تطلق قنبلة في الفضاء، تستقبل الموسيقات دويها بعزف شجي؛ ثم ختمت ذلك جميعه بحراقة هائلة، تفجرت في كبد السماء، كأنها بركان، ولكن بركان فرح وجذل وابتهاج، لا بركان ويل وهول وثبور!
وبينما مظاهر كل هذا الهناء والسرور تتوغل في الليل البهيم، فتحوله إلى ليل نعيم لم تحلم بمثله الأحلام، طفقت تنتشر بمصر والإسكندرية، وتهمس في ذات باريس أنباء سوء مدهشة؛ شرع الحساد والأوغاد يروجونها، ليحولوا فرح العالم المتمدين إلى حداد أليم.
فسمع الملأ، وهو مأخوذ، أن الإمبراطورة، لما تحققت أن فتح الترعة للملاحة وهم وخيال وجنين مخيلة مريضة لن يتحول إلى مولود حي أبدا، عادت إلى فرنسا؛ وأن الإمبراطور عاد إلى ترييسته؛ وأن صخرا هائلا، لم يستطع إزالته، قام سادا في وجه السفن؛ وأن حريقا هائلا التهم ستين بيتا بالإسماعيلية فدمرها؛ وأن جمهور المتفرجين - وقد أظهرت لهم الوقائع الراهنة أنهم أتوا من عموم أصقاع العالم ليروا في بساطة قلوبهم، بلدا خلق صناعة لا أمل له في حياة مستقبلة، ومزمعا أن يعود صحراء كما كان - رجع يضرب أسدريه باكيا على خيبة آماله؛ وأن مهندسي الشركة هربوا، وأن دي لسبس فقد رشده، وجن؛ وأن كبير المقاولين، المسيو لاڨاليه، صعق يأسا، فانتحر!
والسبب في رواج هذه الأنباء السيئة، والإشاعات المشئومة، هو أن المسيو دي لسبس رأى أن يجري مقاييس عميقة، في تلك الليلة عينها، لكي يطمئن تمام الاطمئنان على خلو الترعة من كل عائق يعوق الملاحة فيها، من غد، فأمر أن تعمل تلك المقاييس بين كل عشرة أمتار وعشرة؛ لا بين كل مائة متر ومائة، كما كانوا يفعلون في السابق، فكشف نفاذ أوامره عن صخر لم تكن المقاييس الأولى أظهرته، فاتخذ، في الحال، الإجراءات اللازمة لإزالته، وما زال يعالجه حتى فرغ من أمره.
فاتفق حينئذ مع الخديو على تسيير سفينتين تسبران غور المسير كطليعتي الأسطول المزمع أن يجتاز الترعة في الصباح؛ وسيرا مركبا فرنساوية وفرقاطة مصرية.
أما المركب الفرنساوية - وكان ربانها حاذقا - فمخرت بسلام وأمان ، وأدت مأموريتها على أحسن ما يرام، وأما الفرقاطة المصرية، فأصابها سوء في سيرها، وجنحت في وسط القناة؛ فانغرس مقدمها في الضفاف، وسد جسمها سطح الترعة، على بعد ثلاثين كيلو مترا من بورسعيد.
فلما نما خبر ذلك إلى الخديو والمسيو دي لسبس، أسرعا ليريا الواقع ويتدبرا أمره، وكان (إسماعيل) قد سافر إلى الإسماعيلية، ليجهز معدات استقبال المتوجين والعواهل الآخرين وباقي ضيوفه، فقفل راجعا، الساعة الثالثة صباحا، يوم 17 نوفمبر عينه! واجتمع بدي لسبس أمام تلك السفينة الحربية الجانحة، واجتهد كلاهما في رفعها وتعويمها؛ فلم يفلحا - ولم يكن في الاستطاعة ولا في الرغبة تأجيل موعد الافتتاح، اتقاء للأقاويل وشرها!
فذهب (إسماعيل) إلى بورسعيد، تحت جناح الليل؛ وعاد بألف بحار من الأسطول المصري الراسي بها، ودفع بهم إلى العمل على تنظيف الترعة من تلك الفرقاطة، فقال دي لسبس: «إن لدينا أسلوبين للبلوغ إلى المقصود: إما المجيء بالسفينة الجانحة إلى وسط القناة؛ أي: تعويمها، وهو الأفضل؛ وإما المجيء بجزئها الشاغل الماء إلى الضفاف، بحيث يجعل طولها موازيا لطول القناة، ويلصق بالساحل، فإن لم يفلح كلاهما ...
فقطع (إسماعيل) عليه كلامه، وقال: «إن لم يفلحا، ننسف المركب نسفا!»
فترامى دي لسبس عليه، وعانقه، وهو يكاد يبكي فرحا، وقال: «نعم! ننسفها! وإني لم أجسر على إبداء هذا الرأي لسموك، لما في نسفها من الضرر المادي على البحرية المصرية!» على أنهما لم يحتاجا إلى نسفها، وتمكن العمال والجنود من جلب جزئها الشاغل الماء إلى الضفاف، وإلصاقه به، بحيث خلا المجرى للسفن لتمخر فيه، ولم ينبئ الخديو أو دي لسبس أحدا من المدعوين بالعقبات التي أزالاها في تلك الليلة الخطيرة، فلم يقلق فكر أحد منهم، وبات الجميع في هناء وحبور، وفي انتظار فجر اليوم التالي، اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر!
وكان يوما مشهودا.
فما بزغت شمسه، وتناول الأقوام طعام الفطور، إلا وسار «الإجل» (النسر) بالإمبراطورة، من بورسعيد، وولج القناة بخيلاء ملكية؛ وتقدم، فخما، يشق تلك المياه المعجبة به، حتى إذا لم يعد بينه وبين المكان الذي جنحت فيه، بالأمس ، الفرقاطة المصرية، سوى مسير خمس دقائق، ورد نبأ على الخديو ودي لسبس من الأميرال المصري القائم بعمل رصف تلك السفينة الجانحة، أن العمل قد تم، وأن القناة أصبحت مسلوكة لا عائق فيها.
فطرب (إسماعيل) جذلا، وتنهد دي لسبس تنهدا عميقا؛ ثم رفع عينيه ويديه نحو السماء وشكر الله من صميم فؤاده، وقد قال، بعد ذلك، لأحد أخصائه: «لم أشعر في حياتي، مطلقا، مثلما شعرت في تلك الليلة، أن الخيبة تداني النجاح هكذا؛ وأن السقوط على مثل ذلك القرب من الفوز!»
فلما مرت باخرة الإمبراطورة، عند القنطرة، بتلك الفرقاطة، وأطلقت هذه - وكان اسمها «اللطيف» - مدافعها، ترحيبا بها، ظنت أوچيني وظن كل من معها، وكل من كان لاحقا بها، أن تلك السفينة الحربية إنما وضعت، هنالك، خصيصا لتحيتها؛ فأعجبت بالفكرة الجميلة والاعتناء اللطيف وشكرت (لإسماعيل) بديع ذوقه. كذلك كان الأمر مع باقي أصحاب التيجان والأمراء، وهكذا حولت العناية الإلهية الساهرة على مجريات الأمور العقبة المخيفة إلى وسيلة من الوسائل العديدة التي جادت بها، ليكون فخار الترعة العالمية وبهجتها تامين!
وكان شاطئا بحيرة التمساح غاصين بالأمم والجماهير والقبائل القادمة من تلقاء نفسها إلى مشاهدة الحفلات والتفرج عليها، أو المرسلة هناك بأمر من (إسماعيل) ليزيد منظرها بهجة تلك الحفلات عينها، فإنه أراد أن يرى ضيوفه نماذج من الأمم الخاضعة لصولجانه، وصورة صغيرة من عاداتها، فأصدر أوامره إلى جميع مشايخ العربان، ومشايخ البلدان من الإسكندرية إلى أقاصي السودان، بإرسال وفود من قبائلهم وسكان نواحيهم إلى الإسماعيلية، في مظاهر حياتهم اليومية: فازدحمت ضفاف البحيرة بخيم العربان و«عشش» الفلاحين وأكواخ الأمم السودانية، التي كانت تأوي مئات الألوف من البشر، والأشخاص، المختلفي اللون، والشكل، والملبس، والنوم، بأولادهم ونسائهم؛ بعضهم على صهوات الخيول، وآخرون على أسنمة الهجن، وغيرهم على ظهور الحمير، يعدون في تلك الفلوات، وأحرمة الصوف تسابق الشعور المنفوشة، وشعور البشارين المجدولة؛ وعمائم العمد تسابق «طواقي» الصعايدة، ولبد الفلاحين؛ بينما دربكات النسوة، المختلفة الأجناس والأقاليم، وطبولهن أو مزامير بعض العبيد وربابهم تحيي في كل صوب المراقص والألعاب !
وكانت تلك الأقوام كلها، وهي محجوزة عن ضفاف الترعة بصف ممتد على طولها من الجنود المصرية، تنتظر بفارغ الصبر ظهور البواخر المقلة الإمبراطورة والملوك الذين معها؛ وهي لا تكاد تصدق أن انتظارها يحقق؛ وإذا بمراكب حربية مصرية ولجت بحيرة التمساح آتية من جهة السويس!
فاستغرب الأقوام ذلك، وأخذوا يتقولون عما عساه يعني؛ ولكنهم ما لبثوا، وهم يتهامسون، إلا وسمعوا دوي المدافع يتناول عنان السماء، ورأوا الشاطئين يلتهبان، بكليتهما، والبروق تتصاعد من جوانب المراكب الحربية المصرية، فتهافتوا، وإذا بالنسر «الإجل» يتقدم متبخترا مدلا، وعلى مقدمته الإمبراطورة كأنها، بالرغم من سني عمرها الثلاث والأربعين، إلهة الجمال والجلال؛ أو كأنها، وهي في وسط وصيفاتها، وعزف الموسيقى يحف بها، ويتماوج في الهواء (كليوبترا) العهد القديم صاعدة مياه نهر السدنس، لتقابل أنطونيس، ولكن لا كمتهمة تقصد تبرير نفسها، بل كملكة قادمة لتعلو بها كلمة أنطونيس الجديد، ويسجل بوجودها: (أولا) استقلال مصر المنشود؛ و(ثانيا) مصافحة روحي الشرق والغرب بعد طول التنافر والمعاداة.
فأدركوا أن قدوم تلك السفن الحربية المصرية إنما هو للسلام والتحية، فرفعوا، هم أيضا، أصواتهم مهللة؛ وحيوا ضيفة خديوهم العظيمة وجمهور من معها، لا سيما دي لسبس الواقف بجانبها، والذي كانت هي نفسها تلفت أنظار الجميع وتهاليلهم إليه، اعترافا منها بفضله.
وما رست باخرتها في فرضة الإسماعيلية الفسيحة إلا وذهب (إسماعيل) للسلام عليها - وكان يخته قد تلا يختها - فحياها تحية الإجلال؛ ثم ترامى على عتق دي لسبس، وعانقه طويلا، والبشر مرتسم على وجهه، والعواطف تميل بجسمه، وتلت السفن المقلة للإمبراطور، وولي عهد التاج الپروسياني، وباقي الأمراء، والعظماء، والسفراء، ورست كلها بجانب «الإجل».
فقصد (إسماعيل) الفرقاطة الإمبراطورية، فالمدرعة الپروسيانية، فباقي السفن، وقدم لكل من راكبيها عبارات الاحتفاء والتحية الواجبة، ثم نزل إلى البر وقصد قصرا بناه في آخر لحظة على ضفاف البحيرة خصيصا لاستقبال ضيوفه والاحتفاء بهم فيه.
وكان قصرا فخما، نشأ في وسط مظال من السندس الزاهر، وباقات من الأشجار المزدهية بالرياحين والأزهار، كأن إحدى ساحرات الحكايات الخرافية ضربت الأرض بعصاها فأخرجته يتهادى في بهائه.
فانتظرت أوچيني برهة، ريثما أيقنت أن مضيفها استراح قليلا، ونزلت لترد له زيارته، فامتطت، أمازونة جديدة، صهوة جواد مطهم، وانطلقت تعدو به نحو ذلك القصر، فاستقبلها (إسماعيل) فيه، كأنه يستقبل إلهة، وبذل لها من الإكرام والإجلال وصنوف الارتياح والهناء ما لا يزال، بدون شك، يتردد أمام عيني مخيلتها، في أيام شيخوختها هذه البائسة، كأنه منام رأته أو عاشته في ساعة مثلثة السعادة!
24
وبعد أن مكثت ساعة في زيارته، واستمرأت، بلذة، حلاوة تلك الأويقات السريعة المرور، عادت إلى الإسماعيلية على ظهر هجين، وعيون الأقوام شاخصة إليها، وقلوب فوارس العرب تشيعها، ومن يدريني - وقد جعلها معروفة للجميع إقامتها السابقة بمصر، ورحلتها على النيل إلى أقاصي الصعيد - من يدريني أن الهواجس لم تحدث، حينذاك، هاتيك القلوب بأن تلك الإمبراطورة الجميلة، الجليلة؛ الراكبة جوادا، طورا، وتارة هجينا؛ الأندلسية المولد والنشأة، قد تكون سليلة بيت عربي، رفيع العماد، أو فرع دوحة ملكية أظلتها سماء الحمراء الشعرية في غرناطة، المدينة العربية، البديعة الذكر؛ غرناطة، مسقط رأس تلك الإمبراطورة الجميلة، ومنبت صباها؟ ومن يدريني أنه لم يكن لهذه الهواجس نصيب في جعل مظاهر الإجلال البادية حول أوچيني من تلك الجماهير التي كان معظمها عربيا، حارة، عميقة، كأنها تريد أن تحيي مجدا زال، وفخارا درس؟
وما فتئت الإمبراطورة سائرة بهجينها، حتى وصلت قصر دي لسبس، فاستراحت فيه، ثم استقبلت سيدات الإسماعيلية، وكانت قد أنبأتهن، مقدما، برغبتها في مقابلتهن هناك، لشكرهن على عواطفهن نحوها، فوجدت أولئك السيدات تلك الساعة من أحلى ساعات حياتهن، وظنت كل منهن أن اسمها بات لذلك تاريخيا.
ولما كانت الساعة الثانية، بعد الظهر، نزل الإمبراطور فونتز يوسف، وولي عهد المملكة البروسية، وباقي العواهل والأمراء إلى الشاطئ، وقصدوا قصر (إسماعيل) ليردوا إليه تحيته، فقوبلوا بما قوبلت به الإمبراطورة من التعظيم والإكرام، ومظاهر الابتهاج العام.
ثم انقضت بقية ساعات ذلك النهار الفريد في أنس وحظ، وتزاور وأعياد، حتى إذا وافت الساعة السابعة، مساء، مد سماط العشاء، فاكتظت، بالموائد، رحبات القصر السابق ذكره، على سعتها، وكثرة عددها؛ وكان ذلك منتظرا، ولذا فإن الخديو كان قد أعد في الفضاء، حول قصره، خيما ومظال مدت فيها أيضا موائد، وأولمت ولائم لمن لم يسعه القصر من المدعوين.
فأكل جمعهم المحتشد من الطعام الفاخر المجهز بمعرفة أمهر الطهاة، أكلا هنيئا، وشرب شرابا فاخرا، وتجاوز بعضهم في ذلك الحد، لا سيما من لم يكن يحلم بمثل تلك المأكولات الملكية، مطلقا؛ حتى إنه لقد يروى عن فرنساوي بطين، أنه نهض عن المائدة التي كان قد التهم ما عليها، التهام النهم، الذي لا يحد شراهته حد، كأنه ڨيتليسالإمبراطور الروماني، فأخذ يمر بيده على بطنه، مملسا صديريه الفسيح الأرجاء، وقال بتبسم لصديق له من جنسه، كان جليسه على المائدة: «إني قد أكلت ثروة ثلاثة فلاحين مصريين!» بدون أن يشعر بما في قوله من سماجة!
25
وبعد الفراغ من تناول طعام العشاء، أقام الخديو مرقصا لعموم مدعويه، تحت رياسة الإمبراطورة أوچيني، بذل فيه ما لا يستطيع قلم وصفه من البذخ وصنوف اللذات ودواعي السرور، ورتب فيه مقصفا حوى ألذ ما طاب من صنوف المآكل والمشروبات.
فاشترك، في الرقص، أصحاب التيجان أنفسهم؛ ولم يكونوا أقل المشتركين فيه جدا ونشاطا، بل كانوا قدوة لغيرهم في استمراء لذة تلك الساعات السريعة المرور! فأوجب ذلك منهم، استغراب الأقوام الشرقيين المحيطين بالقصر والمظال؛ لأنهم، حتى تلك الليلة، كانوا يعتقدون أن الرقص والقصف شأن الراقصات، فقط، والسكارى من الرجال! فما كادوا يصدقون أعينهم، لما أبصروا أوچيني، الإمبراطورة العظيمة؛ وفرنتز يوسف، الإمبراطور الخطير؛ وفردريك غليوم، الأمير البروسياني المكلل الجبين بانتصارات سنة 1866؛ وباقي الأمراء والأميرات؛ وخديوهم نفسه، الرجل الوقور، يرقصون ويمرحون كباقي المدعوين وأكثر؛ وأبصروا أن السن ذاتها لم تمنع فردينان دي لسبس، على اشتعال ناصيته شيبا، من أخذ نصيبه من الرقص والملاهي الأخرى، المجموعة حوله، ولا بد من أن هيبة أولئك الأعاظم تضاءلت بعض التضاؤل في أعينهم، لا سيما إزاء وقار الأمير عبد القادر، البطل الجزائري المعروف، الذي على امتزاجه بجمهور الراقصين والراقصات، لم يرقص ولم يقصف، وبقي متفرجا فقط، ملتحفا هيبته وجلاله .
فلم ينسوا ليلة الثامن عشر من شهر نوفمبر؛ وما فتئوا، بعد ذلك، يذكرونها أمام أولادهم وحفدتهم، كما ارتسمت على مخيلاتهم، ولم يخطئوا في أنها ليلة لن تنسى، لأنها كانت، في الواقع، ليلة لم تر القرون لها مثيلا؛ ولن ترى شبيهها الأجيال القادمة.
ومن حسن حظ الناس أن المستقبل سجل مكتوم؛ وأن الغد صنو متلثم لا يعرف وجهه، ولا تقرأ سطور يده، مهما كان الراغب في استجلاء محياه وفتح كفه قويا وكريما، أو جميلا وجليلا! فإن ذلك يجعل استمراء حلاوة الساعة الحاضرة ممكنا، ويحمل على الاتعاظ بقول القائل: «ولك الساعة التي أنت فيها!» وإلا لو كان الأمر بعكس ذلك، وأمكن رفع الحجاب عن هذا الشبح الذي هو ضيفنا، كما يدعوه هيجو، الشاعر الأوحد، وظلنا المرافق لنا أبدا واسمه «الغد»؛ لو أمكن حمله على التكلم وإباحة سره المكنون، هل كانت أوچيني، الإمبراطورة الجميلة، تقدم ذراعها، في الرقص، إلى الأمير البروسياني، الذي كان مزمعا، بعد أقل من عشرة شهور، أن يثل عرش زوجها، ويفتح في جنب فرنسا، وطنها الاختياري المحبوب، ذلك الجرح العميق الأليم، الذي استمر نيفا وسبعا وأربعين سنة داميا؟ بل هل كانت تحضر تلك الحفلات والأعياد، وترضى أن تكون إلهتها، ومحط الأنظار فيها؛ وهي المزمعة، بعد أقل من عشرة أشهر، أن تسقط من حالق، وتفر من قصرها الإمبراطوري، وجلة، بينما الثورة تهدر وراءها، وتأوي بذعر إلى إنجلترا، فتنزل، معفرة الثياب والوجه، في إحدى محطات لندن، وترى نفسها تزاحمها المناكب، بلا احترام، في سيرها لتبحث عن عربة بحصان واحد تقلها وتقل أثاثها القليل، الذي تمكنت من تهريبه معها؟ بل هل كانت تلك الحفلات عينها تبزغ لها شموس، وهل كان يقع في خلد (إسماعيل) أن ينفق الملايين التي أنفقها عليها، وعلى الضيوف الذين دعاهم إليها، فلم يتكبدوا في ذهابهم وإقامتهم وإيابهم درهما واحدا من جيوبهم حتى ولا على غسل ملابسهم واستحمامهم، لو علم أن الإمبراطور نابوليون الثالث، معتمده في ملماته، وفي تحقيق أمانيه، ساقط عن عرشه بعد عشرة شهور، وأن إمبراطوريته المفيئة على الأكوان ممحوقة عن قريب؛ وأن فرنسا، صاحبة الكلمة العليا في مجتمع الدول، والقدح المعلى في ميدان السياسية، ستبيت بضعة أعوام كسيرة الجناح قليلة النفوذ؟
وهل كان الإمبراطور فرنتز يوسف استمرأ، بلذة، حلاوة تلك الليلة البهيجة، لو علم أن أخاه الأرشيدوق مكسيمليان، إمبراطور المكسيك، الذي كان لا يزال يبكيه، منذ أن قتله چوارز زعيم الجمهوريين المكسيكيين، رميا بالرصاص، في يونية سنة 1867، ليس وحده الأمير الذي كتبت له الأقدار القتل، في بيته الهبسبرجي؛ وأن ابنه الوحيد وولي عهده رودلف؛ واليصابات زوجته، التي قادها إله الغرام إلى سريره وعرشه؛ وفرنتز فردينند ابن أخيه، وولي عهده، بعد رودلف، وزوجة فردينند هذا، سيقضون كلهم قتلى، كأخيه؛ وأنه هو نفسه، وقد توغل في الشيخوخة وبات على حافة القبر، سيرضى بأن يثار باسمه أكبر وأفظع حرب رآها العالم، فتقتل حزنا، حبر العالم المسيحي الأكبر پيوس العاشر، فيموت وهو غير راض عن جلالته الرسولية، بل ناقم عليها، على ما كان لقداسته من المكانة في نفس جلالته؛ وسيقضي هو عينه نحبه، في وسط نيران تلك الحرب المندلعة، العتيدة أن تدك دولته دكا، وتخرب بيته تخريبا تاما، فيمضي، ولا ترافقه إلى قبره سوى لعنات الملايين من الأمهات والأرامل، والخطيبات الثواكل، ولا يذكر العالم المتمدين ساعات حياته الأخيرة إلا ليلعنه، بعدما كان لا يذكر اسمه إلا متأسيا، خاشعا أمام جلال شيبه المكلل بالحداد؟!
وهل كان البرنس فردريك غليوم البروسياني وقرينته، بنت الملكة ڨكتوريا الإنجليزية ، ذاقا بلذة بهجة تلك السويعات الهنيئة، لو قرآ في سجل المستقبل عقوق غليوم، ابنهما الأكبر، لهما في كبرهما، وسوء معاملته لهما، لما اضجع المرض العضال أباه على سرير موته، وحرم الموت الإمبراطورة فردريك من زوجها، وتركها تحت رحمة تصرفات ذلك الابن الكاره فيها الدم الإنجليزي؟
فلكون الغد سجلا مقفلا، أبدا، أمكن الذين عاشوا تلك الليلة الفريدة أن يتمتعوا بهنائها، بعين قريرة، وقلب مطمئن!
وامتزجت بطرب المرقص، الموسيقات والحراقات والألعاب النارية والزينات المتألقة أنوارا، حتى لم يبق أحد لم يعتبر نفسه قد نقل إلى عالم الخيالات الذي وصفته روايات ألف ليلة وليلة!
وهكذا انقضت في حبور وابتهاج تلك الليلة الفريدة في وسط مرح مائة ألف نفس! وقضي الغد الثامن عشر من شهر نوفمبر في تنزهات على البحيرة، وفي ضواحي الإسماعيلية، لم تعرف كللا ولا مللا، والبشر مرتسم على جميع الوجوه والجذل يملأ جميع القلوب!
ولما عاد المساء، عادت الولائم، وحفلات الرقص والقصف، وعاد (إسماعيل) إلى سحر عقول ضيوفه بتفننه في أساليب جمع اللذات تحت أقدامهم، تفننا فاق حد الوصف، وأنست مسرات تلك الليلة مسرات الليلة التي سبقتها، وتركت وراءها بمراحل ملاذ «الحياة التي لا تقلد» المشهورة عن كليوبترا وأنطونيس.
وفي صباح اليوم التالي، أقلعت البواخر والسفن الإمبراطورية والملكية بمن عليها، وأمامها «الإجل» (النسر) ونزلت نحو الجنوب، قاصدة السويس، ولكن الضيوف الكرام رأوا أن يمضوا الليلة على ظهر البحيرات المرة، ليكون لهم نصيب من التفرج على السيراپيم، وليكون لأهالي تلك الجهات قسط من أفراح الترعة؛ ففعلوا، وبات الأسطول التاريخي، هناك، وآذان الصحراء المحيطة مصيخة لدوي المدافع، وعزف الموسيقات.
فلما بزغ الصباح، تابعت تلك السفن سيرها، فوصلت إلى السويس الساعة الحادية عشرة ونصفا من صباح يوم عشرين نوفمبر، فكتبت (أوچيني) في سجل «الإجل» هذه العبارة: «وصلنا إلى السويس، على البحر الأحمر، اليوم 20 نوفمبر سنة 1869» أوچيني، وتلا توقيعها تواقيع كل من كان معها، ثم أرسلت إشارة برقية إلى باريس تنبئ قرينها «بأن الأمر انقضى، واجتياز القناة تم!»
وبعد أن تناول العواهل طعام الغداء، أرسل كل منهم، أيضا، إلى عاصمته إشارة برقية بمعنى إشارة الإمبراطورة، ثم رأوا، جميعا، وجوب ذهابهم إلى ظهر «النسر» ليحتفوا، في شخص أوچيني، بالعمل المجيد الذي تم على يد «الفرنساوي الكبير».
وفي اليوم التالي، عادت الإمبراطورة إلى بورسعيد، في ظرف ست عشرة ساعة، وأقلعت منها إلى طولون.
أما الخديو، وباقي ضيوفه الفخام، فعادوا من السويس إلى مصر بالسكة الحديدية، وخير كل من شاء من المدعوين، بتمضية ما شاء من الأيام التالية، عشرة على الأقل، في القطر المصري، على نفقة الخديو الشخصية.
أما الاحتفالات التي أقيمت بمصر لفرنتز يوسف وفردريك ڨلهلم وبقية الأمراء والأميرات فيكفي القول، لإدراك أهميتها، أنها ضارعت في جلالها ونفقاتها ما عمل من نوعها للسلطان عبد العزيز، وأما الاعتناء ببقية الضيوف فلا أدل عليه من بيان الأطعمة التي كانت تقدم، ثلاث وأربع مرات في النهار، لذات الألوف من أوضعهم قدرا، وهاك ذاك البيان في بساطته التاريخية:
فطور الصباح: قهوة بلبن وزبدة أو شاي بلبن وروم، بيض مضهب (برشت) أو على الصحن؛ شكولاته وبسكويت، حسب طلب المسافرين.
طعام الظهر: ماكاروني أو أرز مفلفل أو ما شابه ذلك؛ صحن لحم بارد؛ صحن شواء؛ صحن لحم مطبوخ؛ بطاطس على الطريقة الإنجليزية، أربعة توابل؛ أربعة أصناف فواكه؛ جبن؛ قهوة؛ وأشربة مختلفة.
طعام العشاء، الساعة السابعة مساء: حساء متنوع؛ صحن سمك؛ صحن لحم، صحن طعام سخن؛ صحن طعام بارد؛ شواء من الطير، سواء أكان ديكا روميا أم طيور صيد؛ سلطة خضراء؛ صحن خضار مطبوخ؛ صحن حلويات؛ صحن قشدة متنوعة التراكيب؛ عدة أصناف فواكه مجموعة معا؛ جبن؛ قهوة، وأشربة منتخبة فاخرة.
طعام نصف الليل، لمن شاءه واعتاده من المسافرين.
الخمور الواجب تقديمها مع طعام الظهر: نبيذ عادي؛ نبيذ ميدوك؛ نبيذ شاتومرجو - وهما من أفخر أنواع البردو - ونبيذ سوترن.
الخمور الواجب تقديمها مع طعام العشاء: نبيذ عادي؛ نبيذ ميدوك؛ نبيذ مادير؛ نبيذ برجونيا؛ شاتولافت؛ شمبانيا على قدر الطلب!
هذا، علاوة على أن تذاكر مجيء هؤلاء الضيوف، جميعهم، وإيابهم إلى بلادهم، في الدرجة الأولى، تحف بهم كل أنواع الراحات - كما سبق لنا القول - كانت على نفقة الجيب الخديوي الخاص، وأن إنزالهم إلى البر، وفي الفنادق، ونقلهم من بلد إلى بلد بالسكة الحديدية، وعلى البواخر النيلية، وما أرادوا إنفاقه على أنفسهم في ذات شئونهم الخصوصية، كان جميعه على الجيب العامر عينه.
فلا غرابة، والحالة هذه، إذا جاوزت نفقات الأسابيع الستة المنقضية ما بين وصول الإمبراطورة أوچيني إلى القاهرة واليوم الثلاثين من نوفمبر؛ أي: إذ كان معظم المدعوين قد بارحوا الديار المصرية، مبلغا اختلفت في تقديره الأقوال، بين مليون وثلاثمائة ألف جنيه إنجليزي، وأربعة ملايين، فقد صرف نيف وعشرة آلاف في طبع ثلاثمائة نسخة، فقط، من تاريخ رسمي للاحتفالات والأعياد، على جلد فيل؛ وتزيينه بالرقوش والصور الجميلة؛ وأعطي ألف جنيه لواضعه وحده، ودفع الخديو إلى فنادق (أوتيلات) الإسكندرية ومصر خمسة وستين فرنكا، وإلى فنادق القناة مائة فرنك وخمسة فرنكات، يوميا، عن كل مدعو أقام فيها، خلاف أجرة غسيله، والمعلوم أن عدد المدعوين زاد على ستة آلاف!
فكما أن أرض مصر لم تر، في كل تاريخها، أعيادا كتلك الأعياد؛ ولا حلت فيها، في وقت ما، ركاب ضيوف أجلاء، كالذين حلوا فيها، بمناسبة تلك الأعياد، هكذا اقتضت الحال أن تفوق النفقات كل حد في الاعتدال والاعتياد، وتدخل فيما لا يستطاع، في غير التصور حصره، لا سيما وأن استقلال مصر السياسي التام كان الغرض المنشود منها.
لذلك كان البيان الذي استوقف انتباهنا واعتبارنا، أكثر مما سواه، في ماجريات تلك الاحتفالات والأعياد العجيبة، بيانا قرأناه في كتاب وضعه مؤلف يقال له: المسيو «برتران» في حياة فردينان دي لسبس وأعماله، مؤداه على ما ذكرنا أن السلطان عبد العزيز أناب عنه في حفلة فتح الترعة العالمية السير إليوت سفير بريطانيا العظمى بالأستانة، وأن ذاك السفير قام فعلا بتلك المهمة، فوق تمثيله دولته في تلك الأعياد عينها.
فهل كان ذلك فألا أوجبته الأقدار على غير علم أو شعور من ذلك السلطان المنكود الحظ؛ أم كان توقعا مضطربا مبلبلا جال في فؤاده بأن فتح تلك الترعة من شأنه ، في يوم عتيد، سلخ مصر نهائيا عن دولته العثمانية السلطانية لإدماجها في جسم الدولة الإنجليزية الإمبراطورية؟
مهما يكن من الأمر، فإن انفصال مصر عن تركيا نهائيا، وإعلان بريطانيا العظمى حمايتها عليها منذ نيف وأربع سنوات،
26
يجعل قارئ التاريخ مأخوذ اللب، لدى وقوفه على نيابة سفير إنجلترا عن سلطان تركيا في حفلة فتح ترعة السويس؛ الترعة التي كان من شأنها إما زياردة توثيق عرى الاتصال الشديد بين تركيا ومصر، بعامل زيادة المصالح المتبادلة - وهو ما لم يحصل - وإما فصم تلك العرى بالمرة بعامل انقطاع الاتصال المادي، وقيام جمهور مصالح عالمية بجانب مصالح التابع والمتبوع - وهو الذي وقع.
ولا يبعد أن يكون بعض المفكرين من الذين حضروا تلك الحفلة، قربوا بين نيابة السير إليوت الإنجليزي عن سلطان تركيا فيها، وبين قول اللورد پلمرستن، وزير بريطانيا العظمى الأكبر، في مقاومته لمشروع حفر ترعة السويس، وهو: «إن نفاذ هذا المشروع يضطر إنجلترا إلى امتلاك مصر، وهو ما لا نريده»، فتطيروا، وتوقعوا منذ ذلك الحين ما وقع بعد مرور خمسة وأربعين عاما، والتاريخ كله عبرة لمن يعتبر!
على أن الباب العالي، إشعارا للعالم كله بأن عدم ترأس السلطان العثماني أكبر حفلة تاريخية أقيمت على أرض عثمانية في عرفه لم يكن ليزعزع حجرا واحدا في قواعد سيادته على القطر المصري، ما كاد يعلم أن ضيوف (إسماعيل) الفخام قد فارقوا بلاده حتى أرسل إليه في أواخر شهر نوفمبر، على يد مندوب سام، بلاغا نهائيا في شكل فرمان؛ أمره بمقتضاه بالخضوع حالا لأوامر تابعه، وإلا اتخذت ضده الإجراءات المبينة في التعليمات المزود بها حامل الفرمان، وأهم تلك الأوامر ما يختص بالامتناع عن عقد قروض إلا بتصريح سلطاني؛ ووردت في الوقت نفسه على (إسماعيل) إفادات برقية من سفراء فرنسا وإنجلترا والنمسا بالأستانة تشير عليه باللين مؤقتا، وإظهار ولو شبه امتثال للأوامر المرسلة إليه، فرأى نفسه مضطرا إلى مواجهة الباب العالي وحيدا، بدون معين أو عضد، بعد إنفاقه مبلغا طائلا في سبيل إكرام ضيوفه، أضعف خزينة حكومته المصرية - ولكنه كان يعلم من جهة أخرى أن الأوامر المكتوبة لم تكن، في عرف الدولة العلية، أكثر من حبر على ورق، إذا عرف المرء كيف يتقي مفعولها.
فلما وصل الفرمان إلى يده، أمر بتلاوته بسرعة في ميدان القلعة، بحضور المندوب العثماني، ونحو ستة من الموظفين، ليس بينهم من يفقه التركية إلا اثنان، وبعد إطلاق بضعة مدافع، إشعارا بتلاوته، ثم أحاط الباب العالي علما بما تم.
ولكنه أظهر له، في الخطاب ذاته، الذي أرسله إليه لهذا الغرض، أنه لا يعلق على ذلك أهمية مطلقا؛ وأنه بالرغم من امتثاله، حبا في المحافظة على السلم، للأوامر الواردة إليه، لا يرى أن حقوقه وامتيازاته الممنوحة إليه مست؛ بل يعتقد أنها لا تزال كما كانت، حيثما كانت.
فما كان من الباب العالي، ردا على هذا الكتاب، إلا أنه أبرق إليه بأن «أرسل حالا المائتي ألف بندقية ذات الإبرة السابق مشتراها منك، وكلف من يلزم بطولون بتسليم المدرعات المصنوعة هناك، لحسابك، إلى الضابط الذي يبعثه الباب العالي، لأجل استلامها!»
فأهمل (إسماعيل) الجواب على ذلك التلغراف، فأيده الباب العالي بتلغراف آخر كان حظه حظ سابقه، ولكي يظهر الخديو مقدار اهتمامه بإشارات الصدارة البرقية، فيكيد عالي باشا خصمه الشخصي، أقدم - بالرغم من استدعاء أعياد الفطر القريبة وجوده في العاصمة - على سياحة نزهية على النيل، صحبة عقيلة أمريكية من جميلات الغرب، ورفقة ضيوف كان الحظ والتفنن في وسائل الملذات خير ما يعيشون لأجله في هذه الحياة الدنيا، ولم يعد من نزهته تلك إلا في الأسبوع الثاني من العام الجديد سنة 1870.
27
فأبرق، حينئذ، إلى الصدر الأعظم قائلا، عما يختص بالبنادق، إنه لم يشتر منها سوى أربعين ألفا فرقها على جنوده، وأنه لم يعد يبقى منها إلا ما لا سبيل إلى الاستغناء عنه للاحتياج إليه احتياطيا؛ وعما يختص بالمدرعات، إن صانعيها لم يقدموا له حساب نفقاتها بعد؛ وإنه، متى قدموه، وسدد له الباب العالي ما سبق إنفاقه منه، وأخلى سبيله من كل مسئولية تالية، يسرع بتسليمها إليه.
وبعد مضي خمسة عشر يوما ورد الحساب المقول عنه؛ فأرسله (إسماعيل) إلى الأستانة متباطئا، فلما اطلعت عليه وجدت أن الثمن المطلوب عن تلك المدرعات ثمانمائة ألف جنيه إنجليزي، فما وسعها، بعد محاولة إدخال بعض التعديل عليه، إلا قبوله على فقر خزينتها، ودفعته وهي ممتعضة امتعاضا كبيرا.
فاغتنم (إسماعيل) حالتها النفسية، وأرسل نوبار باشا إليها بما يزيل امتعاضها - وكان (إسماعيل) يقول: «إن نوبار خير من تعهد إليه مهمة لدى رجال الأستانة، لتفوقه في الصلف والتنكيت؛ كما أن «شريفا» خير من يوفد إلى بلاد الإنجليز، لمهارته في الصيد والقنص».
واتفق أن عادت إلى الأستانة من مصر، في ذلك الوقت، غادة بديعة الجمال، كان السلطان عبد العزيز قد أعجب بحسنها لدى زيارته (لإسماعيل) في مدة إقامة هذا الأخيرة على ضفاف البسفور.
فلما أزالت النقود، التي بذلها نوبار باشا، كل أسباب الخلاف القائم بين تركيا ومصر، اتخذ همازور الأستانة ولمازوها ما اتفق من رجوع تلك الغادة إليها مع وجود نوبار باشا فيها، وتردد أقدامها الحورية على سراي «ضلمه بغچه» ذريعة للتأكيد بأن تسوية الخلاف التركي المصري إنما يجب نسبتها، في الحقيقة، إلى عمل تلك السفيرة الجميلة، وحسن وقع زيارتها للسراي السلطانية في قلب السلطان عبد العزيز، لا إلى نقود نوبار أو تنازل الخديو عن مدرعاته. ألا:
ويل لكل همزة لمزة !
غير أن تسوية الخلاف لم تجعل (إسماعيل) يقلع عن تغذية أمنية الاستقلال التام في صميم فؤاده، والنظر، بالتالي، إلى مستقبل علاقاته مع تركيا بعين الريب والحذر. لذلك ما انفك دائبا على إتمام استعداداته الحربية، وجمع الجنود جمعا حثيثا، وحشدها على شواطئ البلاد، وفي ثغورها، لا سيما بالإسكندرية، حيث اكتظ ميدان (محمد علي) بها وبمعداتها، وحيث أخذت المدافع تدوي، بين حين وحين، منذرة بالتجهز للدفاع، بل وللهجوم أيضا.
وقد كتب أحد مراسلي الصحف إلى جريدته، في أوائل تلك السنة، ما يأتي: «قد نظرنا، بالأمس، عدة آلاف من الفعلة يؤمرون بالاشتغال في إقامة المعاقل والحصون؛ وبتنا، وكل مظهر من مظاهر الحياة حولنا يحملنا على الاعتقاد بأن الترك منتظر مجيئهم هنا، وأن سمو الخديو يعد لهم استقبالا حاميا، والناس بالإسكندرية يتهامسون بأنه سيجد مساعدة في ذلك من اليونان والكريتيين، ومن يوسف بك كرم زعيم الموازنة الثائرين على الدولة في جبل لبنان، والذي أصبحت علاقاته بسموه في منتهى الود والإخلاص. أم يجد (محمد علي) العظيم عونا فعالا، وحليفا صدوقا في شخص الأمير بشير الشهابي الكبير؟ فلم لا تتردد صورة هذا اللبناني الخطير على مخيلة (إسماعيل) كلما يطرق اسم يوسف بك كرم أذنيه؟ ولم لا ينتظر، فيما لو هاجم تركيا في عقر دارها، أن يجد من هذا الزعيم نفس المساعدة والمعاونة اللتين وجدهما (محمد علي) من ذلك الأمير؟
إن الناظر إلى الإسكندرية الآن يخالها مدينة في حال حصار، لا مركزا هادئا للتجارة والإتجار؛ ولا يمكنه إلا أن يتوقع شرا من الحرب، من أية جهة هبت، فمحطات البوليس ونقطه العادية قد عززت بجند نظامي؛ وسلحت البطاريات بأثقل المدافع وأقواها؛ والجنود، بالبنادق ذات الإبر الجديدة، ولا ينفك العمل جاريا في الترسانة ليلا نهارا، لتجهيز المعدات والآلات والذخائر الحربية على أنواعها.
وقد غيرت كلمات النظام العسكري والأوامر العسكرية، وجعلت عربية بدلا من التركية؛ وطردت التركية أيضا من جميع مصالح الحكومة، وأحلت العربية محلها؛ وأصبح كل شيء، في الواقع، يدل على عزم الخديو على قطع علاقاته بالباب العالي، وفصم عرى كل وثاق يربط مصر بالسلطنة العثمانية، وينذر بقرب حدوث ذلك!»
28
ومما ساعد على رسوخ هذه التوقعات في النفوس أن الكولونيل كورونئس، زعيم الثورة الكريتية التي أخمدت حديثا، أتى إلى مصر وانتظم في جنديتها، وكذلك (موط) الجنرال الأمريكاني الاتحادي.
وما أقام هذا الأخير بمصر مدة، وأتم بعض أشغال مالية فيها، إلا وكلفه الخديو بالذهاب إلى نيويرك، ليحمل أي عدد كان من المحاربين، أمثاله، على التطوع في الجندية المصرية، ففعل، ولكنه هو، والذين أحضرهم معه لم يكونوا ممن يفتخر بأمثالهم، فما وسع (إسماعيل) إلا صرفهم، بجيوب مملوءة، وإحضار ضباط أمريكيين غيرهم جديرين بثقته، وأكفاء للمهمة التي كان يريد أن ينوطها بهم؛ فحضروا تحت قيادة الجنرال (ستون)؛ وقاموا بأعباء ما عهد إليهم من الأعمال خير قيام: إما كمدربين عسكريين، وإما كمهندسين، ومراقبين ملحقين بعدة حملات جنوبية، سيأتي الكلام عنها في حينه.
على أن (إسماعيل) - وإن يكن قد اتخذ عدته لمقابلة الطوارئ من الوجهة العسكرية - لم يكن بالرجل الذي يميل إلى التطوح في مجاهل الحروب، متى أمكنه تحقيق أماني نفسه بطرق سلمية، وبواسطة ما يبذله من مال.
فلعلمه - من جهة - أن الأستانة مدينة تشترى أكثر مما كانت روما، لما خرج «چوجرتا» ملك نوميديا منها هاتفا: «لا يعوزك، أيتها المدينة المبتاعة، إلا من يستطيع شراءك»؛ وأن السلطان عبد العزيز لا يضن عليه بإجابة أي طلب يرفعه إليه، حتى لو كان الاستقلال الكلي بمصر، إذا شفعه بما يوازي أهمية الإيجاب من الأصفر الرنان؛ ولشعوره - من جهة أخرى - بأنه يستطيع شراء الأستانة، مهما تغالت في المساومة عن نفسها، ويستطيع إعطاء سلطانها ما يحب من الذهب، مهما كان كبيرا، رأى - ريثما تحسن الأيام الأحوال - أن يقصد عاصمة بني عثمان، فيقدم فيها مساعيه، ويجمل مركزه بنفسه، وبما يطمع فيه من نقوده.
لذلك، لما غمر خزينته القرض الذي عقده له، بالرغم من حظر الفرمان الأخير، محل بيشو فشهيم وجولد شمدث، أرسل يستدعي ابنه الأمير (محمد توفيق) من سياحته التي كان قد أقام إليها، منذ زمن قليل، في البلاد الأوروبية، وبلغ فيها مدينة ڨيينا - وهي سفرته الأولى والوحيدة إلى خارج القطر - فأقامه مقامه على دفة إدارة البلاد؛ ثم استقل «المحروسة» يخته الخاص، وسار بآماله وأمواله إلى الأستانة، بالرغم من أن منذرات الحرب المقبلة بين فرنسا وبروسيا كانت تدوي في الفضاء، وأن بعض المقربين منه أشاروا عليه بتأجيل سفره، لذلك السبب، وريثما تزول، من النفوس، القرحة التي أوجدها خلافه الأخير مع دار الخلافة، ولكن (إسماعيل) أبى؛ لأنه كان يعرف من هم رجال تلك الدار؛ ولأنه، ربما كان يتوقع تلك الحرب؛ ويعتقد، كجميع أهل الشرق ومعظم أهل الدنيا، في تلك الأيام، أن النصر مضمون لفرنسا فيها؛ وأنه يحسن به، إذا، أن يتخذ أهبته، ويمهد طريقه في عقر دار خصمه، ليتمكن من الاستفادة من النصر الفرنساوي العتيد، الاستفادة كلها، وهو غير متعرض إلا إلى أقل ما يمكن التعرض إليه من الأخطار.
غير أن الحرب باغتته، كما باغتت الجميع:
أولا:
بفجأة شبوبها.
ثانيا:
بسرعة رجحان كفة پروسيا على فرنسا فيها، فعجل عودته إلى القطر، في أوائل أغسطس، وعواطفه تحيي فيه، رغم الواقع، الأمل بنصر الفرنساويين عسى أن نصرهم يحقق أمانيه.
وليس من يشك في أنه، لو انتصرت فرنسا في تلك الحرب، ففازت بپروسيا خصيمتها، وخرجت من المعمعة صاحبة الكلمة التي لا تقاوم في ميدان السياسة الأوروبية، وبرز نابوليون الثالث، صديق الخديو الحميم وزوج أوچيني ضيفته الكريمة، في شبه المنزلة التي كانت لعمه العظيم، عقب عقده معاهدة تلست سنة 1807، وأثناء مقابلته بالقيصر، إسكندر الأول الروسي، في إرفرت سنة 1808، كان (إسماعيل) وضع يده في يده، وطلب إليه أن يشد أزره في موقفه، ونادى باستقلال بلاده التام عن سلطنة آل عثمان، معتمدا على إمبراطور الفرنسيس في تسوية مركزه الجديد إزاء الدول الأوروبية، وحيال وجود ترعة السويس التسوية التي ترضيه وترضيها، ولكن انخساف شموس الإمبراطورية النابوليونية، وتدهور الدولة الفرنساوية تدهورا ساحقا، في تلك الحرب المشئومة، كانا ضربة مؤلمة جدا انهالت على مطامع (إسماعيل) فصدعتها، واضطرت صاحبها بأن يعود إلى ما كان عليه من شراء أجزاء ذلك الاستقلال تباعا، شراء صريحا، من السلطان وبابه العالي بالمال، وبرفع مقدار الجزية السنوية، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولكنه بقي، مع ذلك، متحينا للفرص، عاملا على اغتنامها، غير يائس من رحمة الله، ومحاسن الأقدار، ولما رأى أن ارتكانه على فرنسا بات، لهوانها بعد قهرها، كما كان ارتكان ملوك يهوذا على فرعون مصر - أي مثل اتكاء المرء على قصبة قد تنكسر فتجرحه، كقول حزقيال النبي اليهودي - وجه وجهه شطر إنجلترا، وشرع يتقرب إليها أكثر من السابق، فخص محل جرينفلد وشركائه الهندسي بلندن ببناء ميناء الإسكندرية - وقد سبق لنا ذكر ذلك في حينه - ولولا حرب السبعين لعهد بعمله إلى محل فرنساوي؛ وبلغ من إعراضه عن فرنسا، لا سيما منذ رأى تعنتها في مقاومة الإصلاح القضائي ، ما حمل وزير ماليته - وكان قد شعر بأن نتيجة تلك الحرب هدمت النفوذ الفرنساوي في نفس مولاه وفي مصر، شأنها في كل صقع وقطر آخر - على الاعتقاد بأنه لم يعد، ثمت، من حاجة إلى عمل حساب لها: فأبى تنفيذ عقد كان قد أبرم بين الحكومة المصرية وأحد الفرنساويين، قبل تلك الحرب، وعامل المطالبين بنفاذه بجفاء وخيلاء لم يكن ليجسر على مجرد الافتكار فيهما قبل واقعة «صيدان»، ولكن القنصل الفرنساوي أظهر، من جهته، وقاحة وتعسفا، كأن نابوليون الثالث لا يزال في كل مظاهر عظمته ومجده، جالسا على عرشه، محط أنظار العالم المتمدين، ولم يكتف بمقابلة عتو الوزير المصري وعجرفته بضعفيهما من العتو والعجرفة، بل دخل ذات يوم، عنوة، في بيت فرنساوي كان كاتب سر لشريف باشا، واغتصب أوراقا من شأنها إيقاع عدة من كبار الموظفين المصريين تحت طائلة مسئولية مخيفة، على ما أشيع في ذلك الحين، ولما أصبحت في يده، جابه بها الوزير إسماعيل صديق باشا، وهدد بإفشاء سرها المكنون إذا هو لم يجب طلبه في الحال، ولما كان وزير المالية هذا من أولئك الموظفين الكبار، بل في مقدمتهم، خاف الفضيحة، ونزل على شروط القنصل، فأصاب هذا، بمقتضاها، فائدة مادية، على ما همست به الألسنة، أكبر من الفائدة التي نالها محسوبه.
29
ثم إن (إسماعيل) عملا بالخطتين معا: خطة تحين الفرص لاغتنامها، وخطة التمكن بما له من قلب الأستانة ولبها، اشترك، من جهة، اشتراكا رسميا في المعرض الذي أقيم بڨيينا سنة 1872؛ وأقبل على التوسع وراء حدود مصر الجنوبية، من أقصى غربها إلى أقصى شرقها، توسعا سيأتي بيانه؛ واستمر، من جهة أخرى، بتردده على الأستانة، كشمس تحيي الموات، وتبث الحياة، يعمل على بت كل علاقة تبعية لها، وكسر قيد سيادتها عليه حلقة، حلقة.
30
ففي الأسبوع الثالث من شهر يونية سنة 1872 سافر وبمعيته سمو الأميرة والدته إلى الأستانة، وقد عزم عزما أكيدا على أن لا يبقى، ما سوى الجزية، على أية رابطة كانت بينه وبين الدولة العثمانية، فما مضت على وصوله إليها بضعة أيام إلا وأهدى عبد العزيز، بحجة الاعتراف له بما كان من وقع جميل في نفسه للحفاوة العظمى التي قابله بها، خمسين ألف بندقية من طراز مرتيني هنري، كان قد أوصى معامل إنجلترا بصنعها.
وبعد مضي أسبوع أو أسبوعين، اغتنم فرصة احتفال السلطنة العثمانية بتبوء مليكها عرش الخلافة الإسلامية، فأقام في قصره، بأميركون، معالم ابتهاج فاخر، توالت فيه الولائم، النادرة المثال، لكبار رجال الدولة، ختمها بوليمة خاصة بجلالته، بذل فيها من صنوف اللذات، ومختلف المطاعم والمشارب، ما لا يقع في خلد رجل؛ وتوج ذلك جميعه بأن قدم لعبد العزيز «طقم» سفرة، بديعا، من صنع باريس، كل آنيته من الذهب المرصع بالحجارة الكريمة؛ وقد استعمل في تزيينها، من الماس وحده، نيف وخمسة آلاف قيراط!
على أن هذا جميعه، رغم جسامته، لم يكن بالنسبة إلى اللاحق إلا كنسبة التوابل إلى الطعام الحقيقي، فإن (إسماعيل) لم يمض على إقامته في الأستانة شهران، حتى كان قد قدم إلى السلطان مليونا من الجنيهات العثمانية، وخمسة وعشرين ألف جنيه إنجليزي إلى الصدر الأعظم، وخمسة عشر ألفا إلى وزير الحربية، وعشرين ألفا ونيفا إلى عدة من كبار السراي السلطانية.
واشتركت الأميرة والدته الكريمة معه في استمالة القلوب إليه، فإنها فوق الهدايا النفيسة التي قدمتها إلى نساء الوزراء العثمانيين، وكبار موظفي السراي السلطانية، تقربت من السلطانة ذاتها، والدة عبد العزيز، وأولمت لها الولائم الفاخرة، وقدمت لها في إحداها من التحف الثمينة ما لا يمكن وصفه، أو حصره، ومن أغرب الصدف، أنهما، بعد الاختلاط الكثير، وقص كل منهما أخبارها على الأخرى، تحققتا أنهما قريبتان تجتمعان في جد واحد، ففرحتا بذلك فرحا عظيما، وجعلتا تتزاوران كل قليل، ولا تقطع الواحدة عن الأخرى في كل يوم رسل التحية والتسليم! فكان ذلك من أسعد توفيقات (إسماعيل)؛ لأنه أكسب مصالحه في السراي السلطانية صوتا لم يرتفع للطلب، أبدا، سدى!
31
فطلب بكياسة من متبوعه التفضل بتوسيع دائرة اختصاصاته ورفع الحجر الموضوع عليه في أمر الاستدانة.
فصدر له فرمانان في شهر سبتمبر من السنة عينها، ثبت أولهما - وتاريخه 10 سبتمبر سنة 1872 / 7 رجب سنة 1289 - جميع الامتيازات السابق منحها له؛ وألغى الثاني - وكان مصحوبا «بخط شريف» ليوضح مغمضاته - منطوق فرمان سنة 1869 المحظر عليه اقتراض أي قرض جديد في المستقبل، بدون تصريح خاص من الباب العالي، وخول له حق الاستقراض أنى شاء ومتى شاء وكيفما شاء، وتاريخ هذا الفرمان الثاني 25 سبتمبر سنة 1872 و22 رجب سنة 1289.
غير أن رجال الأستانة، وإن لم يخجلوا من مد أيديهم إلى الرشوة، استحيوا من تدوين عارها وتسجيله على نفوسهم، ولذا فإنهم لم يقيدوا هذا الفرمان الأخير ولا «الخط الشريف» المرفق به في سجلات الباب العالي، كما كانت قد جرت العادة، فأراد مدحت باشا، بعد سقوط الصدر الأعظم محمود باشا وخلع السلطان عبد العزيز المنكود الحظ وقتله، أن يعلن بطلان ذينك التحريرين موضوعا، لبطلانهما شكلا، ولكن السير هنري إليوت، سفير إنجلترا، تداخل في الأمر؛ وأقنعه بضرورة اعتمادها لوجود تأشير سلطان تركيا عليهما!
32
فلما استعاد الخديو حريته المالية، ونال ما ناله من تكسير قيد السيادة العثمانية عليه، على الكيفية التي ذكرناها، عاد إلى الإسكندرية في شهر أغسطس، فرحا، مبتهجا، فتزينت له ثلاثة أيام؛ وكذلك تزينت القاهرة عند وصوله إليها، ودقت فيها البشائر؛ وزاره الأمراء والكبراء وكل ذي مقام، مهنئين، وما لبث الفرمانان السابق ذكرهما أن لحقاه إليها، فقرئا في حفلة حافلة، وأعلن مضمونهما، بين قصف المدافع، وعزف الموسيقات.
وفي عشرين مايو من العام التالي (1873) غادر (إسماعيل) عاصمته مرة أخرى؛ وبعد أن أقام بالإسكندرية أياما، ريثما جمع له وزير ماليته نحوا من مليون جنيه، وأجرى له وكيله في الأستانة عملية مالية، أنتجت ثلاثة ملايين جنيه أخرى، أقلع إلى الأستانة، وجيوبه مفعمة، وهو يرى أن أقصى أمانيه باتت حقائق راهنة!
وماذا كان يبتغي، هذه الدفعة، من رجال تركيا، وفرمانا العام الماضي قد منحاه كل ما تاقت إليه نفسه من الاستقلال، ومظاهر الملك الحقيقي؟
كان يبتغي أن يتخذ ذلك المنح شكلا قانونيا، وأن يصدر فرمان ثالث يحتوي على كل ما ضمنته له الفرمانات السابقة، فيضمنه من جديد؛ وبعد أن يسجل في سجلات الباب العالي، تحاط الدول الأوروبية علما بمحتوياته، وتحمل على التصديق عليه رسميا، كيلا يتمكن الباب العالي في المستقبل من العود إلى تعليق سيف دامكليس على رأسه، أو رأس أحد من ذريته، مرة أخرى، كما فعل في سنة 1869: فلا يعود القلق على الوراثة، وعلى حقوق الحكومة المصرية الداخلية، واستقلال البلاد الذاتي يؤلم الأفكار، ويوجع القلوب، ويلقي الاضطراب في الأعمال كما فعل قبيل الاحتفالات بفتح ترعة السويس! ولنيل هذا جميعه لم تكن الملايين التي ملأ جعبته بها كثيرة، عند سفره إلى عاصمة الدولة العثمانية.
فما بلغ شهر يونية منتصفه إلا ودوت، في العاصمتين المصريتين، أنباء نجاحه في مهمته نجاحا تاما، وتحقيقه الأماني التي سافر من أجلها، وشرع الناس يتحادثون بمضمون الفرمان الجديد - فرمان 8 يونية سنة 1873 - الذي استصدره، وبأهميته وثمنه، فلم يختلف اثنان في كبير قيمته وجليلها، فإنه أتى مهيمنا مصادقا على جميع الفرمانات والخطوط الشريفة الممنوحة (لمحمد علي) وخلفائه؛ ومدخلا عليها تحسينات وتوسيعات جمة؛ وشارحا على الأخص ما كان منها متعلقا بالوراثة، وشكل القوامة فيما لو كان الخديو، في المستقبل، قاصرا، حينما تئول الخديوية المصرية إليه، ومنح (إسماعيل) بموجبه، من جديد:
أولا:
حق سن القوانين واللوائح الداخلية، على أنواعها، وأية كانت مراميها.
ثانيا:
حق عقد اتفاقات جمركية، ومعاهدات تجارية.
ثالثا:
حق اقتراض أي قروض شاء في مصلحة البلاد.
رابعا:
حق زيادة جيشه أو تنقيصه كما يشاء.
خامسا:
حق بناء سفن حربية، ما عدا المدرع منها؛ وبالاختصار حق تنظيم الإدارة المدنية والعسكرية والمالية في البلاد طبقا لما توجبه مقتضيات الأهالي الملقاة رعايتهم إلى عهدته.
أي أن هذا الفرمان توج سعي (إسماعيل) إلى نيل الاستقلال التام تتويجا نهائيا؛ وجعل قيد ارتباطه بتركيا كأنه غير موجود، وكيلا يفوت أحدا استمراء لذته؛ وللدلالة في الوقت عينه على الوسائل التي بذلت لاستصداره، رأى محرروه أن يختموه بالجملة الطبعية الآتية: «وعليك الانتباه والالتفات، أشد الانتباه والالتفات، إلى توريد المائة والخمسين ألف كيس المقررة، سنويا، إلى خزينتي السلطانية، بدون تأجيل، وبدقة تامة!»
على أن (إسماعيل) ما فتئ يمني نفسه بظروف من دهره تمكنه من التخلص، أيضا، من ذينك الانتباه والالتفات، وقطع تلك المائة والخمسين ألف كيس عن فم تركيا، لإنفاقها في شئون بلاده؛ وظن، قبيل نشوب الحرب بين روسيا وتركيا في سنة 1877، أنه قد يستطيع اغتنام فرصة الاضطراب الساري في جسم الدولة العثمانية على أثر خلع السلطان عبد العزيز وقتله؛ وخلع السلطان مراد الخامس وسجنه؛ وانعقاد مجلس المبعوثان وفضه؛ وتفاقم الخطب بين دولة القيصر ودولة الخاقان، تفاقما أدى إلى شبوب نيران الحرب واستعارها، ليعلن استقلاله وهو آمن طوارئ الحدثان.
فإن الملأ قد لاحظ في شتاء سنة 76-77 أن إقامة الجنرال إجناتييف الروسي طالت في العاصمة؛ وأن اجتماعاته بالخديو تعددت؛ وأن الأوقات المخصصة لها امتدت مرة عن مرة؛ ولاحظوا أيضا أن خطابات سرية تبودلت، بواسطة ذلك الروسي الشهير، بين بلاطي مصر وطهران، دون أن يعلم أحد بمضمونها سوى كاتبيها؛ وأن نيفا وستة آلاف جنيه أنفقت، هدايا، في سبيل المحافظة على سر تلك المكاتبة؛ وأن رغبة (إسماعيل) في أن تنكسر الدولة العثمانية لم تكن أمرا خفيا؛ وأنه لم يبعث المدد المصري الذي تحتمه الفرمانات إلا وهو ممتعض، وبعد أن تمنع عن إرساله تمنعا كبيرا.
33
وربما شجعه على تنفيذ تصميمه ما كان من حرج موقفه المالي، واشتداد وطأة الدائنين عليه، لتيقنه من أنه لو تمكن من الدخول ببلاده في مصاف الأمم المستقلة تمام الاستقلال، فقد يستطيع الاقتداء بتركيا عينها، والجمهوريات الأمريكية الصغرى وإشهار إفلاس حكومته بدون خوف أو وجل، وبدون أن يستطيع دائنوه أن يرفعوا فوق رأسه، بمعاضدة دولهم، السلاح المستمد من سيادة السلطان عليه ليهددوه به، أو يستعملوه ليعزلوه به عن عرشه!
ولكنه - إما لأن الجسارة الكافية للإقدام على ذلك العمل أعوزته في آخر لحظة؛ وإما لأنه توقع أن يكون الشر الناجم عنه أكبر من الخير المأمول منه؛ إما لأن مقاومة تركيا البطلية، غير المنتظرة من دولة كان الاعتقاد في وهنها التام راسخا في العقول، جعلته يوجس في بادئ أمره خيفة؛ فلما أسفرت النتائج الختامية عن سحقها النهائي بفضل تولي عبد الحميد إدارة رحى المعارك من أعماق قصره، كانت الفرصة المناسبة قد أفلتت؛ وإما لأنه، بعد التفكير والتقدير، لم يجد من نفسه القوة الكافية، لا سيما فيما لو تعقدت العواقب؛ أو لأسباب أخرى غير هذه كلها لا نزال نجهلها - فضل البقاء على حالته، وترك مناسبة تلك الحرب تمر بدون أن يغتنمها.
كل ما حصر رغبته فيه، بعد ذلك، إنما كان حمل الدول المجتمعة في مؤتمر برلين سنة 1878 على إدخال مصر ضمنها، أو إدراج مسألتها، على الأقل، ضمن مواد برنامج المباحثات، والبت في حالها السياسية، نهائيا، ليكون مركزها الجديد، منها ومن تركيا، مشمولا بضمانتها جميعا، فأوعز إلى عدة كتاب، أشهرهم برونسڨيك، بتناول الموضوع وبحثه، وحض الرأي العام الأوروبي على الأخذ به.
34
وقد دلت الحوادث التالية على مقدار فطنة (إسماعيل) في سعيه هذا، وبعد نظره الثاقب، فإن تركيا، بعد أن طلبت إليها دولتا فرنسا وإنجلترا إقالته عن عرشه، أرادت أن تغتنمها فرصة لتلغي، في الوقت عينه، جميع الامتيازات والميزات الممنوحة منها للخديوية المصرية، وتطوي كشحا عن المبالغ التي التهمتها، مقابل منحها إياها، أو يرسل لها الخديو (محمد توفيق) عشرين ألف جنيه، فرفض، فأخرت فرمان توليته، ولولا وقوف الدولتين المذكورتين في وجهها وتشددهما في أن يخلف (توفيق) أباه في كل ما كان له من الحقوق لراوغت فماطلت فآذت.
غير أن النجاح لم يكلل مساعي (إسماعيل)، هذه المرة، وأبى البرنس فون بزمرك، عميد ذلك المؤتمر، إلا اعتبار مصر ممثلة في أشخاص ممثلي تركيا؛ ووافقت باقي الدول على رأيه، تجنبا لفتح باب قد ينفلت منه شر، فما وسع الخديو إلا الإذعان للواقع.
على أنه، في آخر ساعات ملكه، لما رأى نفسه مهاجما في عقر داره، ورأى أن علاقته بتركيا، على ضآلتها وتفاهتها، هي السبب في البلاء والويل المحيقين به، هب لقطعها بتاتا؛ واستعد لإعلان خروجه على السلطان العثماني، ومقاومة إرادته. غير أنه، إزاء توقعه حلول المصائب على بلاده من جراء ذلك، عدل عن رأيه، وقبل بأن يضحي نفسه، وأن يورث ابنه بعده ملكه، كما هو؛ أي: ملكا لم تعد تربطه بالدولة المتبوعة سوى رابطة جزية مالية أوهى من خيط العنكبوت.
35
على أن المجهودات التي بذلها (إسماعيل) وأدت في نهاية الأمر إلى جعل مصر، فيما عدا الجزية السنوية، مستقلة عن تركيا تمام الاستقلال، كلفته نيفا واثني عشر مليونا من الجنيهات نقدها السلطان عبد العزيز، وحده، زيادة على بضعة ملايين أخرى صرفها في أسفار وإيفاد وفود وهدايا، وتقادم لوزراء ذلك السلطان، وكبار رجال دولته!
الفصل الثالث
إزالة القيد الثالث1
قيد الامتيازات الأجنبية القضائية
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
المتنبي
إن نظام الامتيازات الأجنبية، الممنوح من الدولة العثمانية إلى الدول الغربية، والمقرر في مصر بسبب تبعيتها للباب العالي، ولأنها جزء من الممالك الشاهانية، كان يقضي بأن يكون مرجع رعايا تلك الدول في شئونهم التجارية، والمدنية، والشخصية، إلى قناصلهم؛ وأن لا يفرض عليهم ولا يؤخذ منهم ضرائب، إلا بعد مصادقة دولهم عليها؛ وأن لا يحاكموا أمام محاكم السلطة المحلية، فيما يتهمون به من جنايات وجنح ومخالفات، وفي قضاياهم التجارية والمدنية مع رعايا الدولة، إلا بحضور قناصلهم أو تراجمتهم، لينالوا، من ذلك الحضور، حماية من كل ظالم، ومساعدة في كل شأن.
فأما في تركيا، فإن نظام تلك الامتيازات لم يخرج، مطلقا، عن الدائرة التي وضع، أصلا، فيها؛ ولم يرو، أبدا، أن قنصلا تعدى حدودها، وافتات على ما حفظ للسلطة المحلية من حقوق، وربما كان السبب، في ذلك، قلة عدد الأجانب في البلاد - بالنسبة لاتساعها - وقلة احتكاكهم بأهلها.
فمع ما كان في نظام الامتيازات، والحالة كذلك، من خرق لمبدأ سيادة الحكومة المحلية المطلقة في دائرة أملاكها، فإن مضاره العملية لم تكن محسوسة، لغض الحكومة المحلية نظرها عن الاهتمام بشئون الأجانب المحضة التي لا مساس لها بأنظمتها أو بحقوق رعاياها؛ ولاعتبارها أولئك الأجانب هملا؛ لهم ما للهمل، الدائرين في الأسواق والشوارع والأزقة، من استقلال في الحياة؛ وعليهم ما على أولئك الهمل، فيما لو تعرضوا للأهالي بسوء أو تعدوا على أشيائهم.
وأما في مصر - لا سيما بعد أن أزال (محمد علي) كل الحواجز التي كانت بين حياة الأجانب وحياة الهيئة الاجتماعية المصرية، وفتح أبواب المهاجرة إلى وادي النيل، واسعة، أمام الغربيين، وعلى الأخص بعد وفاته، وتواري قوة يده المتينة الثابتة؛ وبعد أن لفظت حوادث أوروبا السياسية في سنة 1848 عددا كبيرا من المهاجرين إلى القطر المصري؛ وضاعفت، بل جعلت حرية التجارة وحرب القرم، وعلى الأخص، الأمن المخيم على البلاد، عدد الجاليات الغربية ثلاثة أضعاف ما كان - فإن نظام تلك الامتيازات خرج عن حدود دائرته بالمرة؛ وما فتئ قناصل الدول، اعتمادا على ما لحكوماتهم من قوة ، واغتناما لضعف خليفتي (محمد علي) و(إبراهيم) السياسي، يفتاتون على حقوق السلطة المحلية التشريعية والقضائية، حتى هدموا كل أركانها، وأصبحوا منها في مركز العزيز من الذليل، والحاكم من المحكوم.
فلم يعودوا يكتفون بالنظر في شئون رعاياهم المدنية والتجارية المحضة، المنفصلة عن الشئون المحلية عينها، ولا بحماية رعاياهم من جور الحكام المحليين الاحتمالي، أو إبعاد الحيف والضيم عنهم؛ بل تعدوا ذلك:
أولا:
إلى انتزاع كل سلطة جزائية على أولئك الأجانب من أيدي الحكومة، وجعلها من اختصاصهم، دونها، وبدون تداخلها في النظر في المخالفات والجنح والجنايات المرتكبة عن رعايا دولهم، حتى في التي تحدث أضرارا بالرعايا الوطنيين.
ثانيا:
إلى إلزام هؤلاء الأهالي ذاتهم بالمثول أمام محاكمهم القنصلية، في دعاويهم المرفوعة على رعايا حكومات أولئك القناصل، تطبيقا للمبدأ القانوني الروماني الناص بأن «المدعي إنما يقاضي المدعى عليه أمام محكمة المدعى عليه عينه»؛ ثم وصلوا، في تعدياتهم الجائرة على حقوق الحكومة المحلية، إلى حد داسوا معه - فيما يختص برعاياهم، متى كانوا مدعين، والوطنيون مدعى عليهم - على ذات المبدأ الروماني الذي قرروه؛ زعما منهم أن حقوق الأجانب لا يؤمن عليها في المحاكم الأهلية، وأنهم لا يجدون في أخلاق القضاة الوطنيين ما يقيمون عليه ثقتهم في قضائه، فأجبروا نفس المقاضي من أهل البلاد على المثول أمام محكمة مقاضيه القنصلية، وحاكموه؛ ثم ألزموا الحكومة المصرية، عن طريق المخابرات والتهديدات السياسية، بتنفيذ أحكامهم على رعاياها، رغم أنفها، ولو كان حكمهم جائرا.
وإنما توسلوا إلى إلزام الأهالي بذلك بوسيلتين اتخذوهما من سوء استعمالهم ما منحتهم الامتيازات من حق حضور التنفيذ بأنفسهم وحق حضور تراجمتهم محاكمة الأجانب أمام محاكم السلطة المحلية، فإن أولئك التراجمة - ولم يكونوا يتقاضون من القنصليات سوى ثلاثين أو ستين فرنكا، كمرتب شهري - كانوا، لأسباب شخصية لا تغيب عن فطنة اللبيب، يهملون الذهاب إلى المحاكم المحلية في القضايا المرفوعة على رعايا قنصلياتهم، فلا تستطيع هذه المحاكم إصدار أحكامها وهم غائبون، أو في حال غياب المدعى عليهم - المتخلفين عن الحضور، لتأكدهم من غياب التراجمة - فتتأجل القضايا أياما وأشهرا ، حتى يضجر المدعون من الأهالي، ويلجأوا إلى قناصل خصومهم في أمل نيل حمايتهم؛ والقناصل، بدلا من إرسال الجميع مصحوبين بتراجمتهم إلى منصة القضاء الأهلي، طفقوا يجلسون هم أنفسهم، قضاة بين الفريقين، ولما كان معظمهم، إلا قناصل الدول الكبرى، تجارا، فإنهم ارتاحوا إلى الأمر جدا، لأنهم رأوا فيه إمكان قيامهم قضاة في دعاوى قد ترفع عليهم أو منهم بصفتهم تجارا. كذلك كان القناصل يتخلفون عن حضور تنفيذ الأحكام الصادرة ضد رعايا دولهم من المحاكم المحلية، فيعطل التنفيذ أياما وأشهرا، بالمثل، حتى يضطر من حكم لمصلحتهم من الأهالي أن يخضعوا للقضاء القنصلي، وهم يؤملون - وكثيرا ما كانت آمالهم تذهب أدراج الرياح - أن يستطيعوا تنفيذ حكم يصدره القنصل نفسه في مصلحتهم.
وليت القناصل وقفوا عند هذا التجاوز الأخير؛ ولكنهم تعدوه التعدي النهائي، أيضا؛ وبلغ من تطرفهم في الغطرسة والخيلاء أنهم استدعوا ذات حكومة البلاد أمام منصة محاكمهم، وحاكموها وحكموا في أغلب الأحيان عليها، لمصلحة رعاياهم، بتعويضات باهظة، كثيرا ما كانت تثقل كاهلها، وبلغت في أربع سنين فقط؛ أي: ما بين سنة 1864 وسنة 1868 ما يقرب من ثلاثة ملايين من الجنيهات، وذلك بحجة إقدامها على فسخ عقود أبرمتها مع أولئك الأجانب أو على أعمال أوجبت فسخ تلك العقود!
على أن جميع تعديات القناصل هذه لو كانت تجاوزات ونزعات غطرسة فقط، لهان الخطب وقلت فداحته، ولكنها أوجبت اضطراب مجاري العدالة اضطرابا لم يعد يمكن معه إقامة معالم للعدل مطلقا، وأضاع الحقوق كلها، وذلك لثلاثة أسباب أساسية:
الأول:
أن تلك المحاكم القنصلية لم تكن متضامنة في تشريعها وأحكامها، بل ولا مرتبطة ولو مجرد ارتباط ذوقي بعضها ببعض: فكل منها كانت، من جهة، تطبق قوانين دولتها؛ ولا تعترف، من جهة أخرى، بالأحكام التي تصدرها زميلاتها.
ونتيجة ذلك أن المدعي كان يضطر، متى تعدد المدعى عليهم، إلى رفع قضيته الواحدة أمام كل محكمة من محاكم خصومه المتعددي القنصلية، وإلى اتباع إجراءات قانونية مختلفة، ربما أدى جهله بأحدها إلى بطلان دعواه شكلا؛ فإذا صحت إجراءاته كلها، وأصدرت تلك المحاكم المتعددة أحكامها، فإنه كثيرا ما كان يحدث أن بعضا من تلك الأحكام كان يناقض البعض الآخر مناقضة كلية: فيكسب المدعي هنا، ويخسر هناك - وأمر الوكالة ذات الزوايا السبع بالإسكندرية، وتضارب الأحكام في كل من زواياها، لا يزال حاضرا ذهن الشيوخ منا.
ولما كان من السهل على المدعى عليه الذي خسر أن يلبس رداءه القضائي لغيره من جنسية المدعى عليه الذي كسب، وذلك بواسطة تحويل بسيط؛ فإن المدعي الذي كسب كان يضطر، في مثل هذه الحال، إما إلى إعادة دعواه ضد خصمه الجديد أمام المحكمة القنصلية التي حكمت لغير مصلحته، والتي كان لا بد لها، إذا، من أن تحكم ضده مرة أخرى؛ إما أن يكل أمر التعويض عليه إلى الله ويحتمل خسارته صابرا؛ وإما أن يلجأ إلى الاستئناف بعد الفراغ من كل تقاض ابتدائي.
على أن مجرد تصور الراغب في التقاضي مجموعة العقبات القائمة أمامه في مثل تلك الأحوال، ومبلغ المصاريف والنفقات التي سيضطر إلى بذلها لكي يبلغ النهاية؛ ثم تخيله أنه قد لا تكون هناك نهاية لتقاضيه، حتى بعد الاستئناف، إزاء سهولة تحويل الحقوق، وعدم تقيد المحاكم بالأحكام التي تصدرها الواحدة منها، كانا كافيين لتثبيط عزيمته وعدوله عن كل مقاضاة، والرضا بضياع حقوقه.
هكذا حدث لشركة قناة السويس، فإنها أجرت بيتا لها في بورسعيد إلى أجنبي هناك؛ فتأخر عن دفع ما عليه؛ فأعلنته أمام محكمته القنصلية؛ فتنازل عن الإيجار لأجنبي آخر من غير جنسيته؛ فأهملت الشركة القضية الأولى، ورفعت قضية أخرى أمام محكمة الأجنبي الجديد؛ فتنازل هذا عن الإيجار إلى أجنبي آخر من جنسية خلاف جنسيته؛ فاضطرت الشركة إلى إهمال القضية الثانية، ورفع قضية ثالثة؛ ففعل الثالث ما فعل الثاني؛ فيئست الشركة من إمكان حصولها على حقوقها؛ فأهملتها، ولم تعد إلى المطالبة بها إلا بعد تأسيس المحاكم المختلطة.
الثاني:
أن تلك المحاكم القنصلية لم يكن يهمها الحق، على العموم، بقدر ما كانت تهمها مصلحة رعايا دولتها: لأن كل قنصل، إلا ما ندر، كان يعتبر أن الغرض من وجوده في البلاد إنما هو الدفاع عن مواطنيه، سواء أكانوا مظلومين أم ظالمين؛ وأن ينصرهم، أكان الحق في جانبهم أم عليهم، ونتيجة ذلك أن المحكمة القنصلية، مهما كانت جنسية المدعي، كانت، تقريبا دائما، في جانب المدعى عليه، مبدئيا؛ تتحزب له تحزبا بينا، تمتعض منه كل نفس تشعر، ولو قليلا، بثقل الحيف ومضاضته.
أما إذا كان المدعي من الأهالي، فمقابلة محاكم البلاد عمل المحاكم القنصلية بالمثل كان متعذرا، لعدم تمكنها من محاكمة أجنبي على الإطلاق، بعدما ثبت في العادات القضائية حق تنصل الأجانب من اختصاصها، سواء أكانوا مدعين أم مدعى عليهم.
وأما إذا كان المدعي أجنبيا، فإن قنصليته كانت تتحين الفرص لتعامل مواطني المدعى عليه التي تحيزت قنصليته له على قاعدة «العين بالعين والسن بالسن».
مثال ذلك ما فعله المسيو تريكو، أحد قناصل فرنسا بالإسكندرية، بيوناني من هذه المدينة، وتفصيله: أن يونانيا رفع على فرنساوي، أمام محكمة المسيو تريكو هذا القنصلية، قضية طالب خصمه فيها بدفع مبلغ استحق عليه بموجب سند موقع منه، وكان لا بد للمحكمة من أن تحكم على الفرنساوي بدفعه، إلا إذا سجلت على نفسها الجور والظلم، فلما فتحت الجلسة، ونودي على القضية، وحضر اليوناني وخصمه أمام المسيو تريكو، سأل هذا القنصل اليوناني قائلا: «أأنت يوناني من رعايا الحكومة المحلية أم يوناني من رعايا دولة اليونان؟» فأجاب الرجل: «أنا يوناني من رعايا دولة اليونان»، فالتفت المسيو تريكو إلى كاتب الجلسة وقال: «شطبت القضية» ثم وجه كلامه إلى المدعي وقال: «لا شأن لك عندي؛ اذهب وقل لقنصلك إنه متى عامل الفرنساويين الذين يتقاضون أمامه بالعدل، أعامل أنا أيضا بالعدل اليونان المتقاضين أمامي».
الثالث:
هو أن تلك المحاكم القنصلية إنما كانت ابتدائية فقط، وأن استئناف الأحكام الصادرة منها كان يجب أن يرفع إلى إحدى محاكم أول درجة في وطن المدعى عليه، فإذا كان هذا فرنساويا، مثلا، كان استئناف الأحكام الصادرة من قنصليته بالقطر المصري إلى محكمة «إكس»؛ وإذا كان طليانيا، فإلى محكمة «انكونا»؛ وإذا كان يونانيا، فإلى محكمة «أثينا»؛ وإذا كان بريطانيا، فإلى محكمة «لندن»؛ وإذا كان نمساويا، فإلى محكمة «تريستي»؛ وإذا كان بروسيا أو ألمانيا، فإلى محكمة «برلين» أو إحدى المحاكم الألمانية الأخرى؛ وإذا كان أمريكيا، فإلى محكمة «نيويورك»؛ وهلم جرا.
وكان من شأن هذا النظام أن يتكبد المستأنف مصاريف جمة قد ترهقه إرهاقا، وأن يضيع من الوقت والمناسبات المصلحية ما قد يضربه أضعاف الإضرار الناجم له عن الحكم المستأنف الذي رآه مجحفا بحقوقه، فيما لو امتثل له ورضي به.
ولكنه لو حمل نفسه على تكبد تلك المصاريف وتضييع ذلك الوقت وتلك المناسبات، وأمكنه، بعد التعب والعناء الشديد، البلوغ إلى استصدار حكم يلغي الحكم المستأنف، هل كان في استطاعته أن يعتقد أنه بلغ نهاية متاعبه ونال المبتغى؟ كلا.
فإن خصمه قد يكون - أثناء المقاضاة في أوروبا أو أمريكا - حول حقه إلى شخص ثالث من غير جنسيته؛ فلا يعود من المستطاع تنفيذ الحكم الاستئنافي ضده؛ ويضطر المتقاضي المسكين إلى إعادة دعواه ضد الشخص الثالث المحول الحق إليه، وهو لا يتوقع إلا أن يكرر هذا الشخص أيضا الملعوب عينه، وهكذا إلى ما لا نهاية له فيفضل، إزاء ذلك، التنكب عن كل مطالبة!
وفي جميع هذه العراقيل القضائية من الإضرار بالمعاملة وتوقيف حركة التجارة والأشغال، ما نحن في غنى عن شرحه.
على أن الذي كان يثير الانفعالات في النفوس، ويحمل القلوب على الامتعاض الشديد أكثر من ضياع الحقوق المدنية، على ما كان في ضياعها من المضاضة، كيفية القيام بالعدالة الجزائية.
فبينما السلطة المحلية، في تركيا ، تقبض بنفسها على المجرم وتحاكمه أمام محاكمها الجنائية، سواء ارتكب جريمته ضد أحد الأهالي أم ضد أجنبي مثله، وتنفذ فيه الحكم الذي تصدره تلك المحاكم، كأنه أحد رعاياها، لا يميزه عنهم مميز، كانت السلطة بمصر لا تكاد تتجاسر على إلقاء القبض على الجاني الأجنبي، وتكاد تحتاج في ذلك إلى استئذان قنصليته، وإحضار أحد قواصيها أو مترجميها ليكون شاهدا على أن القبض لم يتعد فيه الواجب، ولا سبب إهانة لحضرة المجرم، فإذا قبضت عليه سلمته إلى قنصليته لترى شأنها فيه، سواء أكانت الجناية واقعة من الجاني على أحد الأهالي أم على أحد الأجانب.
ولما كانت نزعات القنصليات ما عرفنا، وكانت محاكمة الجناة أمام أقرب محكمة من محاكم بلادهم الأصلية؛ وكان، من جهة أخرى، يصعب، بل يتعذر إقامة البينات على ارتكاب المتهم للجناية المعزوة إليه، في بلاد تبعد آلاف الأميال عن محل وقوعها، وفي محكمة يأبى شهود الواقعة السفر للمثول أمامها، وتأدية شهادتهم بين يديها، كانت النتيجة مائة في المائة، عادة، تبرئة ذلك الجاني، وعودته إلى القطر، وقد أصبح الخواجا ديمتري نيو بولو، مثلا، بعد أن كان سبيرو قسطندي؛ والخواجا مرتينو ڨيتش، بعد أن كان الخواجا يني؛ وأنه أصبح ذا لحية كثة، بعد أن كان حليقا؛ أو حليق الشارب، بعد أن كان يجدله كأنه عنترة زمانه أو أبو زيد الهلالي سلامة؛ كل هذا كان يجري في قطر عشرة في المائة، على الأقل، من التسعين ألف أجنبي أو يزيدون، المقيمين فيه، من أكبر الأشرار العائثين في الأرض فسادا.
فكانت الحال، إذا، لا تحتمل؛ وجديرة بأن لا يسكت عليها ذوو الاستقامة من الأجانب أنفسهم؛ فكيف بالحكومة المحلية، وقد بلغت الروح منها الترقوة في هذا الشأن، وعلا ضجيجها من الافتيات على حقوقها والإضرار بها وبرعاياها.
وكان (إسماعيل)، منذ جعلته كارثة كفر الزيات ولي عهد السدة المصرية، قد أقبل يتبحر في علم الحقوق عامة، وعلم الحقوق الدولية خاصة؛ واتخذ الأستاذ پيني معلما في ذلك، ومرشدا ومعينا، حتى أصبح يدري ما له وما عليه، يوم يقوم على منصة الأحكام، دراية تامة؛
2
فلم يكن والحالة هذه ليستطيع صبرا على تعدد السلطات القضائية والتنفيذية في بلاده، فأوعز إلى نوبار باشا، وزيره الحكيم، وأكثر رجال دولته ميلا إلى الأخذ بأسباب المدنية العصرية، وأعرفهم بأساليب السياسة الغربية؛ فوضع ذلك الوزير في سنة 1867 مذكرة لمولاه فصل فيها، بإفصاح ولهجة شديدة، عيوب ذلك النظام القضائي، وسوء تأثير مجاريه على نجاح البلاد وتقدمها المادي والأدبي معا؛ وبرهن على أنه عقبة في سبيل المصالح الأجنبية ذاتها، وفي سبيل استقدام أصحاب الكفاءة من الغربيين لتسليمهم زمام الأعمال والأشغال العمومية التي يحتاج فيها إلى علم وفن متخصصين، لا وجود لهما في دائرة البلاد المصرية.
فأما أنه عقبة في سبيل المصالح الأجنبية، فلأن الأخذ بمبدأ القانون الروماني القائل «إن المدعي يقاضي أمام المحكمة التابع لها المدعى عليه»، ولأن استئناف الأحكام القنصلية أمام المحاكم الغربية في بلاد القنصليات الغربية، موجبان لارتباك التقاضي، وضياع الحقوق، فيما يختص بالأجانب، كما أنهما موجبان ذلك فيما يختص بالأهالي سواء بسواء.
وأما أنه عقبة في سبيل استقدام ذوي الكفاءة من الغربيين، فلأن الحكومة المحلية - إزاء تحيز القنصليات لرعاياها، وأخذها بناصرهم، محقين كانوا أو على باطل؛ ولا سيما إزاء التجاء تلك القنصليات إلى الوسائل والمؤثرات السياسية في تنفيذ أحكام التضمينات الجائرة التي تصدرها؛ وعلى الأخص بعد العبر التي ألقى الماضي دروسها المرة عليها؛ وبعد أن لدغت من الحجر عينه أكثر من مائة مرة، مع أنه كان الأجدر بها أن تأخذ بقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» - أصبحت لا تستطيع مطلقا استقدام أجنبي متخصص في علم أو فن، لتستخدمه في مصالحها، خوفا من أن يسيء استعمال سلاح المطالبة بتعويض وهو السلاح الموضوع في يده من ذلك النظام الجائر.
وختم نوبار باشا مذكرته بأدلة ناصعة تفيد إفادة تامة أن المنتفعين، وحدهم، من ذلك النظام إنما هم الآثمون المجرمون، أولا، فالمشاغبون المخاتلون بعدهم؛ وقال: «إنه لا يليق، إذا، أن تبقى الحكومة المصرية والدول الأجنبية محافظة على نظام هذه ماهيته، استبقاء لتجاوزات ضج منها كل الرجال المستقيمة نواياهم، الحقة مطالبهم».
وعلى ذلك، اقترح إبدال النظام السيئ المختل، بنظام آخر يحافظ على روح الامتيازات الممنوحة للأجانب، وينشئ في الوقت عينه ضمانات لحقوقهم خيرا من التي يتمتعون بها تحت ظل حرفية تلك الامتيازات.
وكان المنتظر أن يقع هذا الاقتراح من الجاليات الأجنبية في القطر موقعه من الحكومة المصرية والمصلحة العامة؛ وأن يقوم أصحاب الحجا وذوو الأفهام، على الأقل، في تلك الجاليات إلى تحبيذه، وتقريب الفوائد الناجمة عن إخراجه إلى حيز الفعل من إفهام قصيري النظر والإدراك من مواطنيهم.
ولكن الواقع خالف المنتظر مخالفة كلية، وجاء معاكسا له تمام المعاكسة.
فإن أصحاب الامتيازات، على اختلاف جنسياتهم، ما عدا الإنجليز منهم، هبوا هبة واحدة لتقبيح اقتراح نوبار باشا، والتمسك بالقديم المعمول به، وتحذير حكوماتهم من الموافقة على تغييره أو تعديله، بدعوى أن التنكب عنه مفض إلى ضياع حقوقهم وتعريضهم إلى هوى السلطة المصرية الاستبدادية.
لذلك لما عرضت مذكرة وزير (إسماعيل) واقتراحه على الحكومة الفرنساوية - لأنها كانت في ذلك الحين صاحبة أكبر نفوذ في مصر وعينت تلك الحكومة لجنة خاصة مؤلفة من أفاضل رجال التشريع والقانون في باريس لفحص الأمر وتمحيصه، فإن هذه اللجنة بالرغم من الإيضاحات الوافية التي قدمها إليها نوبار باشا في 3 ديسمبر سنة 1867، إذ كان في تلك العاصمة، وبين بموجبها ماهية الضمانات الموجودة لمصالح الأجانب في الإصلاح القضائي المقترح - قررت عدم صلاحية المشروع، ووجوب بقاء القديم على ما هو عليه، فصادقت الحكومة الفرنساوية على قرارها، عقب تقرير عزز الوزير المسيو دي مستييه ذلك القرار به، فظن الملأ، لحظة، أن المشروع المصري ولد ميتا.
ولكنهم ما لبثوا أن رأوا نوبار باشا يهب ويفند، في رده على المسيو دي مستييه المؤرخ 28 يولية سنة 1868، مزاعم هذا الوزير ويدحضها دحضا تاما؛ وما لبثوا إلا وعلموا أن حظ المشروع، لدى الحكومة الإنجليزية، كان غير حظه لدى الحكومة الفرنساوية؛ وأن اللورد ستانلي - وهو الذي أصبح، فيما بعد، اللورد دربي - وزير الخارجية البريطانية قرر بصراحة أن التجاوزات التي تتشكي الحكومة المصرية منها ضارة حقيقه بمصالح كل أصحاب الشأن، وغير قائمة على وفاق دولي ما، أو مستندة إلى معاهدة أو تعهد البتة؛ وأنه وعد نوبار باشا بتعضيد حكومة جلالة الملكة، القلبية، له في كل مجهود يبذله لإزالة الحال المشكو منها، وتقرير الإصلاح المقترح، فيما لو أمكنه الحصول على موافقة باقي الحكومات.
ولما كان هذا الوعد بمثابة تشجيع لنوبار باشا على مواصلة سعيه، فإن (إسماعيل) أمر وزيره ببذل أقصى مجهوده لنيل تلك الموافقة، وزوده بتفويض مطلق ليجري كل ما يراه لازما، وأن ينفق كل ما يرى إنفاقه من النقود في سبيل البلوغ إلى الغرض المقصود، وإنما فتح له اعتمادا لا حد له في الصرف؛ لأن الحكومة العثمانية رأت، في تلك الإثناء، أن تقوم لتعاكس المشروع، وتقضي عليه؛ فأرسلت إلى (إسماعيل) مذكرة تهديدية ورد فيها، ضمن تعبيرات أخرى، الجمل الآتية: «إن سموكم أدرى الناس بأن مصر، فيما عدا بعض الامتيازات المقررة لشخصكم، لا تختلف في شيء ما مطلقا عن باقي ولايات السلطنة، ولا يجوز لإدارتها الدخول مباشرة في مخابرات مع الدول الغربية، أو ربط علاقات معها رأسا، فالمخابرات، والحالة هذه، التي تحاول إجراءها لتنال، في مصلحتها، تغيير المعاهدات القائمة، إنما هي، في الحقيقة، تعديات على حقوق الباب العالي، وتجاوزات لا يصح السكوت عليها».
وغاب عن فكر تركيا ما أثبته، فيما بعد، القنصل الأمريكاني إدون دي ليون، في كتابه المسمى «مصر الخديوي» السابق لنا الرجوع إليه مرارا أن فكرة المحاكم المختلطة فكرة تركية أبديت في الخط الهمايوني المجيدي الصادر سنة 1856، وأعلنت إلى الأمير (محمد سعيد) ليعمل بها، فهز (سعيد) كتفيه استخفافا؛ ولكنه عرضها، مع ذلك، على قناصل الدول العموميين، ليروا رأيهم فيها؛ فرفضوها، لزعمهم أن أناسا كسكان مصر في ذلك العهد - وليتنا نستطيع أن لا نقول كسكان مصر في هذا العهد، أيضا - يهمهم أن يعيشوا حياتهم «منفصلين، وأن يدفنوا منفصلين كذلك بعضهم عن بعض، كل في مقبرته، إذا جمعوا معا ليكونوا محكمة مؤلفة من عدة مسلمين، وأرمنيين، ولاتينيين، ومسيحيين روميين أرثوذكسيين، ومسيحيين روميين كاثوليكيين، وقبطين أرثوذكسيين، وقبطيين كاثوليكيين، وحاخاميين، قد يحتاجون، لكي يمنعوا من أن يخنق بعضهم بعضا، إلى أن يستعمل معهم، بسخاء، الكرباج،
3
أسمى أدوات القضاء الشرقي»، وغاب عنها أيضا أن شريف باشا، في 7 يولية سنة 1860، أعاد تلك الفكرة إلى الأذهان، بدعوى أن الدول الموقعة على معاهدة سنة 1841 قبلت بإنشاء محكمة مختلطة دولية؛ وأنها لم تعارض حينذاك في إخراج اقتراحه إلى حيز الوجود؛ مع أن البلاد لم تكن لتستفيد منه مطلقا:
أولا:
لأن المحكمة التي اقترح إنشاءها لم تكن لتكون من قضاة ثابتين بمرتبات شهرية معلومة مقررة؛ بل من أفراد يختارون للفصل في كل قضية على حدة مقابل إعطاء الواحد منهم خمسة جنيهات عن كل جلسة تعقد للنظر فيها - وهو ما كان من شأنه حملهم على موالاة عقد الجلسات، وتأجيلها إلى ما شاء الله، ليصيبوا المغنم الجميل المخصص لهم، لا سيما إذا ساعدهم على ذلك سعي متقاض سيء النية، يهمه أن لا يبت حكم في قضيته.
ثانيا:
لأن التأمين الذي فرض دفعه على المتقاضين لرفع دعاويهم إلى تلك المحكمة كان بالطبع جسيما جدا، للتمكن من دفع تلك الجنيهات الخمسة إلى كل قاض في كل جلسة من الجلسات التي يدعى إلى الجلوس فيها مهما كان عددها!
4
ولعل الذي حمل الحكومة العثمانية على عدم المعارضة في مشروع شريف باشا، ارتياح قلبها إلى أنه جعل النظر في استئناف الأحكام التي تصدرها، ابتدائيا، المحاكم المختلطة الملتئمة بمصر، على النمط المذكور، من اختصاص محكمة الأستانة الاستئنافية دون غيرها!
5
فأقبل نوبار، إذا، يدأب ويسعى ليلا ونهارا، ويبذل النقود حيث يجب بذلها، وينفقها إنفاقا حكيما، لحمل الصحافة على الانضمام إليه وشد أزره؛ ويزيل ما علق في أذهان رجال بطرسبرج وأثينا من المخاوف، من أن يؤدي الإصلاح المطلوب إجراؤه بمصر إلى زعزعة أركان الامتيازات في باقي أنحاء السلطنة العثمانية، لا سيما فيما كان منها تحت إدارة الباب العالي مباشرة؛ ويعمل - عقب موت المسيو دي مستييه، واستلام المركيز دي لاڨاليت زمام وزارة الخارجية الفرنساوية بعده وقبوله مبدئيا إجراء مخابرات بين فرنسا ومصر رأسا، خارجا عن اشتراك باقي الدول، بخصوص الإصلاح المطلوب - على تهدئة بال تلك الدول المنزعج، وعلى جمع كلمتها كلها، لا سيما فيما يتعلق بعدم خروج الخديو عن دائرة اختصاصاته وحقوقه في المساعي المبذولة، بعكس ما كان يزعم الباب العالي، حتى تمكن، بعد سنتين من جهود عنيفة وسفرات متوالية إلى أهم العواصم الأوروبية، من حمل الحكومات الفرنساوية والبريطانية والنمساوية والپروسيانية والروسية والإيطالية:
أولا:
على تعيين لجنة مؤلفة من قناصلها بمصر وبعض مبعوثين خصوصيين للاجتماع في القاهرة، في شهر أكتوبر سنة 1869، والبحث في مسألة الإصلاحات الواجب إدخالها على النظام القضائي بمصر.
ثانيا:
على تفهيم الباب العالي بأنه ليس في اجتماع تلك اللجنة وبحثها ما يمس، بأي نوع من الأنواع، بحقوق الدولة السيادية، من جهة؛ وأنه ليس ما يخول الباب العالي الحق في مطالبة الدول بأن كل اتفاق يجري بينها وبين تابعاته من الولايات ذات الاستقلال الداخلي، التي تدفع له جزية، يجب أن يسري على جميع الولايات الشاهانية، من جهة أخرى.
فلما تم ذلك، أعلم الخديو مجلس النواب في اجتماعه المنعقد في شهر فبراير سنة 1869 وبشرهم باجتياز حكومته العقبات القائمة في سبيل إرضاء الحكومات الغربية، مبدئيا، بإجراء الإصلاحات القضائية المطلوبة.
وفي 28 أكتوبر من ذات سنة 1869 اجتمعت اللجنة الدولية بمصر في دار نوبار باشا وتحت رياسته، فإذا بها مشكلة من كل من الهرفون شراييز معتمد دولة النمسا والمجر وقنصلها العام بالقطر المصري؛ والهرفون تيريمين معتمد الاتحاد الألماني الشمالي وقنصله العام لدى الحكومة المصرية ومعه الدكتور نيرنز نائب قنصل ذلك الاتحاد بالقاهرة؛ والكرنل ستانتن معتمد بريطانيا العظمى وقنصلها العام في القطر المصري ومعه السير فيليب فرنسيس القاضي بالمجلس الأعلى البريطاني في الأستانة؛ والمسيو دي مرتينو معتمد دولة إيطاليا وقنصلها العام بالقطر المصري ومعه السنيور چياكوني المستشار بمحكمة استئناف بريشيا؛ والمسيو دي لكس قنصل روسيا العام بمصر؛ والمسيو ارتير تريكو قنصل فرنسا بالقاهرة ومعه المسيو پيتري القنصل القاضي ووكيل القنصلية الفرنساوية بالإسكندرية.
فقدم نوبار باشا إليها المسيو پاتر نستروبك، والمسيو كيسل المحاميين، بصفتهما مستشاري الحكومة المصرية في المسائل القانونية؛ واقترح عليها تعيين المسيو مونوري المحامي الفرنساوي، كاتبا لأسرار الجلسات؛ فقبل اقتراحه، واستلم الرجل مهام وظيفته، وفتحت الجلسة في الحال.
فأفصح نوبار عن غرض الاجتماع، وأنه ليس من السياسة على شيء؛ وبين الضرورة الداعية إلى إجراء الإصلاح القضائي المرغوب فيه؛ وسأل. إذا كان لا يحسن، والحالة هذه، إشراك قناصل الدول، التي لا ممثل لها، في المباحثات المزمعة، فاقترح قنصل الإتحاد الألماني الشمالي استدعاء قنصل اليونان العام، على الأقل، بسبب عدد اليونان الكبير، المقيمين بالقطر؛ ولكن المسيو تريكو قال: إن المندوبين غير مختصين باستدعاء أحد، وأن مخاطبة قنصليات تلك الدول، وأخطارها بانعقاد اللجنة، وإلفات نظرها إلى المناقشات الدائرة، لشأن من شئون الحكومة المصرية، فصودق على رأيه، وبوشرت الأعمال.
فقرر المندوبون، أولا، أن الآراء إنما تكون استشارية، لا تقيد دولهم في شيء؛ ثم سلم نوبار باشا كل واحد منهم نسخة من المشروع ليكون قاعدة للمناقشات التالية، فرغب مندوبو بروسيا إليه بأن يعطي كلا من المندوبين نسخة، أيضا، من التقرير الذي ردت به اللجنة الفرنساوية بباريس على اقتراح الحكومة المصرية، فأجاب نوبار بالإيجاب، وتأجلت الجلسة إلى يوم السبت 6 نوفمبر، للمناقشة في صوابية إحلال قضاء واحد مشمول بالضمانات الكافية محل القضاءات السبعة عشر الموجودة في القطر.
وفي جلسة 6 نوفمبر بحثت اللجنة، أولا، فيما إذا كان يحسن أن يقدم بأعمالها تقرير عام، أم يكتفي بتقرير فردي يقدمه كل مندوب عن رأيه إلى دولته، فبعد ما دارت المناقشة في ذلك بين الأعضاء، قرر مندوبو النمسا والمجر وبريطانيا العظمى وإيطاليا والروسيا وجوب وضع تقرير عام يوقعه الجميع، ورأى مندوبا الاتحاد الألماني الشمالي أن لا يكون، هناك، شغل عام، وذهب مندوبا فرنسا إلى أن اللجنة لجنة تحقيق، وأن لا داعي، بالتالي، إلى أخذ الأصوات في هذه المسألة ولا في غيرها.
ثم سأل نوبار باشا الأعضاء عما رآه كل منهم في المشروع الذي أعطيت إليه نسخة منه في الجلسة الماضية، فأجل مندوب النمسا والمجر رده ريثما يصل زميله الهرفسكوه من أوروبا، وقال مندوبا الاتحاد الألماني الشمالي إنه يجب معرفة ما هي الأدواء المشتكى منها في النظام القضائي القنصلي، قبل البحث عن الأدوية التي يجب أن تعالج بها، وانبرى المسيو چياكوني فأوضح أن النظام القضائي القنصلي لا يجوز في شيء على المعاهدات الامتيازية والعادات، ولكنه يوجب عراقيل في سبيل العدالة وانتشار قوى المدنية في القطر المصري، كما أن نظام المحاكم المصرية يوجب مثلها وأكبر شأنا، وأبان، بالتالي، أن الطريقة الوحيدة لإصلاح ذلك هي ما تقترحه الحكومة المصرية من إنشاء محاكم في بلادها على النمط الأوروبي، ومن سن تشريع يتناسب مع التشريع الغربي، ثم تكلم بما يفيد أنه درس المشروع درسا تاما، واقترح تعديلات جمة معقولة عليه - أخذ فيما بعد بمعظمها - وتلا السنيور چياكوني الكرنل ستانتن؛ فقرأ، باسمه واسم زميله، مذكرة ذهبا فيها إلى أن نوبار باشا اختار الطريق القويم لإصلاح الخلل الموجود في القضاء بمصر، سواء أكان قنصليا أم أهليا؛ وأنهما - مع إبدائهما بضع ملحوظات خاصة بكيفية انتخاب القضاة الغربيين في المحاكم الإصلاحية المنوي إنشاؤها، وموضوع الرياسة، وعلنية الدفاع فيها، والمحاماة أمامها - يريان من واجبهما تعضيده في أمر إيجاد الأدوية اللازمة، حالما يتوسع في شرح مشروعه المجمل، ثم قام المندوب الروسي، ومع اعترافه بصوابية إبدال النظام القضائي القنصلي المتعدد بنظام قضائي موحد، قال: إنه يجب، قبل قبول اقتراحات الحكومة المصرية، البحث في مقدار الضمانات التي تقدمها، وصلاحيتها؛ فتقرر مدة معينة تشتغل فيها المحاكم الجديدة، على سبيل التجربة. أما المندوبان الفرنساويان، فأصرا على وجوب بحث ماهية الأدواء، قبل الافتكار بما يكون الدواء.
وبما أن أغلبية المندوبين أجمعت على أن توحيد القضاء خير من بقائه موزعا، متضاربا، وطلبت من الحكومة المصرية تقديم مشروع مستوف، تام الإيضاحات، ومبين الضمانات كلها، ارفضت الجلسة على أن يقدم نوبار باشا تلك الإيضاحات في الاجتماع التالي.
وفي يوم السبت 11 ديسمبر انعقدت الجلسة في دار نوبار وتحت رياسته؛ وقد انضم إلى اللجنة عضوان جديدان: هما الهرفون فسكوه أندپتلنجن المندوب النمساوي الثاني، وكان مستشارا في مجلس الإمبراطورية الأوليكي الأعلى؛ والمسيو أوبرملر المندوب الروسي الثاني، وكان نائب قنصل روسيا بالإسكندرية، فأفاض نوبار باشا في بيان الأضرار الناجمة عن نظام القضاء القنصلي، والملازمة له ملازمة لا سبيل إلى تجريده منها، مهما كانت شخصية القناصل؛ وشرح مشروع الحكومة شرحا وافيا؛ وأجاب على ما أبداه المندوبون الإيطاليون والبريطانيون من التعديلات.
فأجمعت آراء الكل، ما عدا المندوبين الفرنساويين، على وجوب تقديم لائحة ترتيب المحاكم المنوية، مفصلة بالتدقيق، لإمكان المناقشة فيها، وأما المندوبان الفرنساويان، فقالا: إنه يجب على كل مندوب أن يقتدي بالإيطاليين والبريطانيين، ويقدم ملحوظات شخصية على المشروع الأصلي، لتزداد الحكومة المصرية تنورا، فقال نوبار: إن الحكومة المصرية إنما تقابل، بكل ارتياح وسرور، كل ما من شأنه زيادة اطمئنان الغربيين إلى المحاكم الجديدة؛ ووعد بتقديم لائحة ترتيب لها، مفصلة تفصيلا تاما، في الجلسة التالية.
هذه الجلسة عقدت في يوم الأربعاء 15 ديسمبر سنة 1869، مشكلة كسابقاتها وفي المكان عينه، فقدم المندوبان الفرنساويان تقريرهما فيها، وتلياه، فإذا به يحبذ النظام القنصلي القضائي، ويدفع كل عيب عنه؛ ويرى أن الأهالي إنما استفادوا من وجوده؛ وأن من لحقهم ضرر منه، في الحقيقة، إنما هم الأجانب؛ ولكنه اعترف، مع ذلك، بأن توحيد القضاء خير من إبقائه موزعا؛ وتناول مشروع الحكومة، فمحصه، وحبذ ما رأى تحبيذه فيه، وانتقد ما رأى انتقاده، وعلى الأخص في باب الضمانات المقدمة والمطلوبة، وأهم ما ورد فيه وجوب حضور مندوبين خصوصيين، تعينهم الدول غير القضاة، جلسات المحاكم، لإبداء آرائهم في القضايا المعروضة عليها؛ وإنشاء محكمة تمييز، فوق محكمة الاستئناف، تكون تحت رياسة وزير الحقانية - وبما أن هذه الوزارة لم تكن موجودة، فإن التقرير أشار بإنشائها - وتوحيد القانون في المواد التجارية والمدنية على السواء.
ثم قدم نوبار باشا لائحة ترتيب المحاكم الجديدة، التي وعد بها، فأجمعت الآراء على أن تبحثها اللجنة، مجتمعة، في الجلسة التالية، بعد مناقشة دارت على اقتراح قدمه المسيو تريكو، وعضده فيه زميله الفرنساوي، مؤداه تكوين لجنة خاصة لدرس تلك اللائحة، وتقديم تقرير عنها.
وفي جلسة 21 ديسمبر سنة 1869 - وقد انضم إلى أعضاء الجلسات السابقة المستر تشرلزهيل معتمد الولايات المتحدة الأمريكية وقنصلها العام بالقطر المصري، بناء على تعيينه من قبل دولته - انتقد مندوبا النمسا والمجر كيفية وضع اللائحة الترتيبية للمحاكم الإصلاحية، المقدمة من نوبار باشا؛ لأن فيها حشوا أو تقصيرا؛ وعرضا لائحة من صنع الهرفون فسكوه إجمالية ومفيدة، فبعد مناقشة لمعرفة أي اللائحتين تعرض للبحث، وفيما إذا كان يحسن تعيين لجنة لتحضير لائحة ثالثة تجمع بين آراء المندوبين كافة، تناول نوبار باشا بكل بساطة اللائحة التي جهزتها الحكومة المصرية، وقرأ: «هيا! لنتناقش، فليس الأمر كما ترون صعبا!» فدارت المناقشة، إذا، على مواد تلك اللائحة، فحذف منها اختصاص المحاكم بالنظر في القضايا القائمة بين أجنبي وأجنبي من جنسيتين مختلفتين، ولو أن جميع المندوبين أجمعوا على ترغيب حكوماتهم في تقرير اختصاص تلك المحاكم بذلك؛ وعدلت تسمية المدن التي تنشأ فيها؛ وقرر بعد مناقشة حادة إنشاء محكمة تمييز؛ ولما اتضح أن السير في المناقشات، على ذلك النمط، يطيل المباحث، ويستغرق زمنا طويلا، اتفقت الآراء على تعيين لجنة لترتيب مواد اللائحة، طبقا لمنطقية تفرع الأفكار من نصوص كل مادة، فانتخب كل من حضرات المندوبين فرنسيس، وفسكوه، وچياكوني، وپييتري أعضاء لتلك اللجنة، تحت رياسة نوبار باشا.
وفي جلسة 27 ديسمبر سنة 1869، طرحت اللائحة، كما عدلتها اللجنة، على بساط البحث أمام اللجنة العامة، فناقش المندوبون موادها في تلك الجلسة وفي جلسة 28 ديسمبر التالية؛ فاتضح أن كثيرين منهم، على ما لديهم من المعلومات وبالرغم من حسن نياتهم، كانوا متشبعين تشبعا تاما بمؤثرات مصالح الرعايا الغربيين الوهمية، لا الحقيقية، وعوامل الرغبة في المحافظة على الامتيازات القنصلية؛ بصفة أن معظمهم أعضاء في الجسم القنصلي العام، فنجم عن ذلك أن المباحث جرت في طريق وعر، شائك، وأن مهمة نوبار باشا ظهرت محفوفة بمثبطات أكثر وأكبر مما كان يتوقع.
ولكنه تجلد وتقوى؛ ونمت عزيمته على قدر ارتفاع العقبات والصعوبات أمامها؛ وتدرع بحكمة ولطف وسعة صدر، حيث كانت هذه الصفات واجبة؛ وبروح منكتة انتقادية، حيث كان يستحب دحض المزاعم بملحة أكثر منه ببرهان وحجة؛ وأظهر من تفتق الذهن وحضوره ما كان لا بد له معه من التغلب على كل مقاومة، وأشد ما دارت المناقشة فيه كان:
أولا:
على مسألة إنشاء محكمة تمييز، فوق المحكمتين الابتدائية والاستئنافية، فقرر إنشاؤها مبدئيا، على أن يعين قانون المرافعات، فيما بعد، دائرة اختصاصاتها.
ثانيا:
على مسألة الرياسة في المحاكم العتيدة، وهل تكون لمصري أم لأجنبي، فقرر، في النهاية، رأي المسيو چياكوني: بأن تكون لمصري، على أن لا يرأس سوى الدوائر التي يقاضي أمامها الأهالي بعضهم بعضا، واجتماعات المحكمة العمومية، وفي الرسميات؛ وأن تكون لأجنبي، فيما عدا ذلك، على أن يدعى الرئيس الأجنبي وكيلا ، لا رئيسا، وحفظ نوبار باشا للمصريين الحق في الرياسة، مطلقا، حالما يوجد بينهم من يكون لها كفئا.
ثالثا:
على مسألة كيفية اختيار القضاة الأجانب وتعيينهم: هل يكون ذلك من حقوق الحكومة المصرية، أم من حقوق الحكومات الأجنبية؛ وهل تضمن للقضاة المعينين مراكزهم في بلادهم يعودون إليها إذا غادروا خدمة الحكومة المصرية، أم لا، فقرر بأن الاختيار والتعيين يكونان للحكومة المصرية، على أن لا تستدعي إلا من توافق حكومته على تعيينه، بعد أن تطلب من وزارة الحقانية، في كل دولة، بيانا بأسماء القضاة المشهورين باللياقة والكفاءة؛ وأن الحكومة المصرية لا تدخل، مطلقا، في أمر ضمانة حفظ مراكز المعينين لهم في بلادهم.
رابعا:
على مسألة تخويل الحق للأفراد في التماس محاكمة أي قاض من القضاة الأجانب؛ وهل تكون محاكمته بمعرفة أعضاء أعلى محكمة مختلطة، أم بواسطة محلفين ينتخبون من أفراد الجاليات، حفظا لثقتها في القضاء الجديد، ففوض نوبار الرأي في ذلك للمندوبين، لعدم وجود مصلحة للحكومة المصرية في الشأن مطلقا، ولكنه قال: إن السنيور چاكوني، صاحب الاقتراح، يبالغ في الأهمية التي يعلقها على قلق الجاليات واضطرابها المحتملين؛ لأن ذينك القلق والاضطراب ناجمان، في الحقيقة، عن جهل الجاليات ماهية المباحث الدائرة، وأثبت كلامه بأن ما قررته اللجنة، منذ البداية، من عدم اختلاطها بالخارج وجعل مداولاتها وأبحاثها أمرا سريا، اتقاء لكل تشويش أدى، بعكس المقصود، إلى اضطراب حبل الطمأنينة في صدور تلك الجاليات الغربية، وإقدامها على ضروب من الحدس والتخمين جعلت كل من يقابله من ذوي الخوف على مصالحهم يبدي له اعتبارا من نوع ما يأتي: «إذا قد عزمتم على جعلنا أتراكا؟» أو «هكذا قررتم أن تسلموا زمام التحكم فينا للأتراك»؛ وأدت إلى إقلاق عقول بعض المندوبين أنفسهم، كما هو المشاهد من إقبالهم على بث مخاوفهم في الجلسات. على أن ذينك القلق والاضطراب يزولان متى علمت حقيقة المباحث ومراميها، والنتائج التي تؤدي إليها.
فقرر، بعد ميل معظم المندوبين إلى تحكيم أعضاء أعلى محكمة مختلطة في الطعون التي تقدم ضد القضاة، أن يحفظ البت نهائيا في الأمر إلى نصوص قانون المرافعات المزمع وضعه.
خامسا:
على مسألة تعيين نيابة عمومية، على ما هي عليه في أوروبا، لدى المحاكم الجديدة أم عدم تعيينها، فقرر تعيينها؛ وأن يكون، مبدئيا، اختيار رئيسها ورجالها - ومعظمهم من الأوربيين - كاختيار رجال القضاء.
سادسا:
على مسألة اختصاص المحاكم الجديدة؛ وهل تحكم في القضايا بين أجانب من جنسيات مختلفة أم لا، فاشتد البحث في ذلك بين السنيور چياكوني، القائل باختصاصها، والمسيو پييتري، القائل بعدمه، فانضم المسيو تريكو إلى زميله، وقال بأن القنصليات الفرنساوية ترى نفسها مختصة بالنظر في ذات المنازعات القائمة بين الرعايا التابعين لها على عقارات موجودة في بلاد الدولة العلية، بما فيها القطر المصري: فلا ترى أن تتخلى عن النظر في القضايا الشخصية المرفوعة من أجنبي على فرنساوي، فسأله الكرنل ستانتن: «بموجب أي قانون ترى نفسها مختصة بذلك؟» فأجاب: «بموجب الأمر العالي الصادر من ملك فرنسا سنة 1778» فقال نوبار باشا: «إنه لم يكن، في ذلك العهد، من ملك عقاري للأجانب في بلاد السلطنة العثمانية؛ بل لم يكن لهم حق اقتناء ملك عقاري فيها على الإطلاق؛ وأن (محمد علي) الكبير كان أول من منحهم عقارا، حتى الكنائس، ليحبب إليهم النزوج إلى القطر والإقامة فيه، لعماره»، فقال السنيور چياكوني: «ما عدا كنيسة القديس مرقص والقديسة كاترينا، بالإسكندرية: فإنها كانت، منذ زمن مديد، ملك البندقيين!» فقال نوبار: «إن هذا الاستثناء يؤيد القاعدة!» ثم أثبت، بأدلة قاطعة، أن تعرض القنصليات للحكم في القضايا العقارية، تجاوز، لا حق ، فوافقه على ذلك المندوبان الإنجليزيان، وختم نوبار البحث في هذه المسألة برجاء قدمه إلى المندوبين بأن يعلموا دولهم بكيفية دخول ذلك التجاوز في نظام الامتيازات القنصلية، وصيرورته بغير حق جزءا منها.
سابعا:
وأخيرا، على مسألة تنفيذ الأحكام التي تصدرها المحاكم الجديدة. هل يكتفى بإخطار القناصل بها، وإحاطتهم علما بيوم التنفيذ وساعته، بدون أن يكون لهم حق في المعارضة في التنفيذ، كما أشار السنيور چياكوني، أم يجب أن تشترك في التنفيذ السلطتان المحلية والقنصلية، كما أشار المسيو پييتري؟ فاحتدم، هنا ، الجدال بين الأعضاء احتداما عنيفا، وأبدى المندوبان الفرنساويان من السخافة في الرأي، والتعنت، العجب العجاب، حتى لقد يخيل للمطلع على المناقشة أن يتساءل: «كيف أمكن لعقلي رجلين من ذوي النباهة كالمسيو تريكو والمسيو پييتري، أن لا يفهما الإيضاحات والبيانات الجلية المقدمة من نوبار باشا؟» وبعد أخذ ورد طويلين، أجمعت الآراء على أن رأي السنيور چياكوني أحرى بالاتباع من رأي المسيو پييتري.
وفي جلسة 29 دسمبر سنة 1869 طرح نوبار باشا على بساط البحث مسألة الإصلاح الجزائي، وطلب الاهتمام بها؛ وبين ماهية الضمانات التي ترى الحكومة المصرية أن تقدمها، لتسكن القلوب إلى إجراء ذلك الإصلاح.
فأجمع رأي المندوبين على أن الحال القضائية بمصر أحوج إلى الإصلاح الجزائي منها إلى الإصلاح المدني، ما عدا المندوبين الفرنساويين؛ فإنهما زعما أن إجراء أي تعديل كان في النظام القضائي الجزائي يعد تعديا على الامتيازات؛ وأنهما لا يستطيعان، والحالة هذه، إقراره ولا المناقشة فيه، ولو أنهما يحضران المناقشة، لإبلاغ حكومتهما ما يدور فيها.
فشرع في بحث مواد المشروع الذي جهزه نوبار باشا، وما بدئ فيه إلا وانبرى السنيور چياكوني، وأثبت بأفصح بيان، وجوب إجراء الإصلاح الجزائي لنيل غرضين لا بد من توخيهما في وضع نظام أي عدالة جزائية كانت وهما: حماية الهيئة الاجتماعية من الآثمين، بضرب سريع على يد المذنب يكون عبرة لمرتكبي الجرائم؛ وتقديم الترضية الكافية للمجني عليهم، والنظام القضائي القنصلي خلو منهما؛ لأن التحقيق فيه يعمل كتابة، ويرسل إلى المحاكم الجزائية في البلاد الغربية لتحكم فيه؛ مع أن المجمع عليه في التقنين الأوروبي هو أن التحقيق كتابة أمر لا يجب أن يؤبه به، ولو قامت القنصليات بإرسال شهود كل واقعة إلى الخارج، لتكلفت نفقة فوق حد الطاقة، كما حدث له في سنة 1861؛ إذ كان قاضيا إيطاليا بمحكمة الإسكندرية القنصلية وأرسل شهود متهم تسكاني إلى أوروبا، عملا بالنظام التسكاني: فكلفه مجرد إرسالهم، ما عدا المصاريف الأخرى، عشرة آلاف فرنك؛ وكما كان يحدث للقنصلية الإنجليزية حينما كانت تحاكم الجناة بمصر أمام محكمة الجزاء بمالطة، فإنها كانت تعطي الشاهد أحيانا ثمانين فرنكا في اليوم، فوق مصاريف سفره في الدرجة الأولى، ذهابا وإيابا ناهيك بما قد رسخ في الأذهان من أن العدالة الخارجية لا ضمانة فيها للترضية الكافية، الواجب تقديمها لمصالح المجني عليه؛ وأن الجناة، المرسلين ليحاكموا أمامها، كثيرا ما يعودون وقد برئت ساحتهم، لعدم توفر أدلة الإدانة أمام ذلك القضاء، مع كثرة توفرها حيث ارتكبوا جناياتهم، فلا دواء، والحالة هذه، لهذا الخلل إلا بإنشاء محاكم جزائية مختلطة منظمة، كالتي تقترح الحكومة المصرية إنشاءها؛ وبتقرير هيئة محلفين، يؤخذون من بين وجوه الجاليات الأجنبية وسراتها، ليساعدوا القضاء في مهمته.
فقال المسيو پييتري: أن لا شيء يزعج الجالية الغربية أكثر مما لو قيل لها إنها ستحاكم أمام محاكم القطر الجزائية، بدلا من أن تحاكم أمام قنصلياتها، وأعلن الهرفون شراييز أحد المندوبين النمساويين أن ما يخاف منه، في الحقيقة، هو أن لا تكون الحكومة المصرية مخلصة في تنفيذ ما قد يعقد من الاتفاقات بينها وبين الحكومات الغربية في هذا الموضوع.
فنهض نوبار باشا، وبدد ذلك الخوف بحجج قاطعة؛ وأظهر أن مصلحة الحكومة المصرية ومصلحة الدول الغربية متفقتان تمام الاتفاق في تنفيذ كل عقد يعقد بين الفريقين في موضوع الإصلاح المرغوب فيه من الفريقين على السواء؛ ودحض مزاعم المسيو پييتري قائلا: إن الجالية الغربية ستحاكم أمام محاكم منظمة على الطريقة الأوروبية، مشكلة معظمها من قضاة ينتخبون في أحضان الهيئة القضائية الغربية، في بلاد الغرب عينها، وأمام محلفين من وجوه رجال الجالية ذاتها، ولو أن الأحكام ستصدر متوجة باسم خديو مصر، لا أمام محاكم محلية محضة.
فأبى المسيو تريكو إلا الاستمرار على التمسك بحرفية الامتيازات، مؤكدا، مع ذلك، أن القناصل لا يرغبون في شيء أكثر من تخليهم عن السلطة القضائية، على شرط أن يعطوا الضمانات الكافية لتسكين ضمائرهم.
فعادت اللجنة، حينئذ، إلى بحث مشروع الحكومة المصرية الجزائي ليتم وقوفها على مقدار الضمانات المقدمة فيه وماهيتها، وأهم ما دارت عليه المناقشة كيفية تكوين هيئة المحلفين؛ غير أن الآراء أجمعت، في نهاية الأمر، على ترك شأن تكوينها إلى نصوص قانون المرافعات الجزائية، والاكتفاء بوجوب تقرير تلك الهيئة، مؤقتا، بصفة ضمانة للمتهمين.
فأكد نوبار باشا أن الحكومة المصرية ستجهز قانون عقوبات وقانون تحقيق جنايات تأمين، وستعرضهما على المندوبين: إما ليدرسوهما، وإما ليرسلوهما إلى حكوماتهم، فتشبث المسيو تريكو بأنه لا صفة للمندوبين الفرنساويين لفحص مثل هذين القانونين، فقال نوبار: «لا بأس، فالمندوبون الآخرون لا يرون هذا الرأي».
وأجمعت الآراء هذه المرة، بعد أخذها من جديد، على وجوب وضع تقرير إجمالي بنتيجة المباحث، يوقعه المندوبون، ويرسلونه إلى حكوماتهم، ولكن المندوبين الفرنساويين خالفا الإجماع، واحتفظا دون غيرهما برأيهما الأصلي.
وفي جلسة 5 يناير سنة 1870 قرأ نوبار باشا مذكرة وضعها الكرنل ستانتن، مفادها تأجيل ترتيب المحاكم الجزائية سنة بعد ترتيب المحاكم المدنية، ليتخذ من سير هذه مشجعا على إنشاء تلك، أو مثبطا له.
وكانت قد وقعت في أيام يناير الأولى حركة ضوضائية بالإسكندرية اضطرب لها الأمن العام - فقال نوبار بعد فراغه من تلاوة تلك المذكرة: «إن هناك خطرا في التأجيل، وأن الأفضل إجراء الإصلاحين المدني والجزائي معا».
فعارضه المسيو تريكو وقال: «بل الأفضل تأجيل إنشاء المحاكم الجزائية إلى أن تثبت المحاكم المدنية كفاءتها، وتجعل القلوب ساكنة إلى ما تقدمه لها من ضمانات، وأن الذنب في الحوادث الأخيرة على رئيس البوليس» فرد عليه نوبار باشا بأن البوليس بوليس القنصليات، في الحقيقة، لا بوليس الحكومة؛ وأن الذين قاموا بالحركة الإثمية الأخيرة إنما كانوا أوروبيين؛ أي: أن رئيس البوليس لم يكن يستطيع أن يقبض عليهم ويجري التحقيق معهم إلا بتصريح من قناصلهم؛ وأن إلقاء اللوم، والحالة هذه، على البوليس المصري أمر لا يتفق مع الإنصاف.
فأعاد المسيو چياكوني كرته؛ وأعلن انضمام المندوبين الإيطاليين إلى رأي الكرنل ستانتن، إذا لم يؤخذ برأيهما المؤيد لرأي نوبار باشا في وجوب إجراء الإصلاح الجزائي حالا، فلم يبق سوى المندوبين الفرنساويين أحد إلا ووافق على ذلك، وارفضت الجلسة بعد أن نيط بلجنة مؤلفة من السير فرنسيس والسنيور چياكوني والمسيو پييتري، تحت رياسة نوبار باشا، تجهيز مشروع التقرير الواجب وضعه بأعمال اللجنة حتى ذلك العهد.
وفي جلسة 17 يناير سنة 1870 قرئ مشروع التقرير هذا؛ فوقعه الجميع، ما عدا الدكتور نيرنز، وكان مريضا، والهر فسكوه، وكان قد سافر، ثم قال نوبار باشا: «إن الحكومة المصرية ستجهز قانونا للمرافعات ريثما تأتي تعليمات للمندوبين الفرنساويين والنمساويين من لدن دولهم، تصرح لهم بالمناقشة فيه».
وما لبثت اللجنة أن حررت التقرير، وبينت فيه ما آل إليه مشروع الإصلاح المقترح من الحكومة المصرية، فيما يتعلق بترتيب المحاكم الجديدة، والقضاء في الأمور المدنية، والتجارية، بعد تعديله وتحويره، فإذا به ما يأتي:
أولا:
استبدال الحالة القضائية الفوضوية ذات الجهات الاختصاصية المتعددة بسلطة واحدة تكون مختصة بالفصل فيما بين الأهالي والأجانب على السواء، تسلم مقاليدها إلى ثلاث محاكم ابتدائية تنشأ بالإسكندرية ومصر والزقازيق (أو الإسماعيلية) ومحكمة استئنافية عليا تجلس بالإسكندرية، ومحكمة تمييز فوقها، تشكل مثلها.
ثانيا:
جعل أغلبية القضاة فيها كلها من أرباب القضاء والقانون الغربيين، تدفع الحكومة المصرية لهم مرتباتهم، ولا تملك حق عزلهم أو تأديبهم، بل يفوض ذلك إلى الهيئة التي سيخولها هذا الحق القانون النظامي الأساسي المزمع وضعه.
ثالثا:
تخويل هذه المحاكم حق الاختصاص بالنظر في جميع القضايا التجارية والمدنية، والقضايا العينية العقارية، والقضايا الشخصية عينها إلا ما كان منها قائما بين أجنبيين من جنسية واحدة، وفي جميع المنازعات، الناجمة عن الرهون التي تسجل في مصلحة أجنبي على الأعيان الثابتة، أيا كان مالكوها وواضعوا اليد عليها، حتى لو كانت وقفا.
رابعا:
أن يكون أعضاء كل محكمة ابتدائية خمسة: ثلاثة أجانب ووطنيان، وأعضاء المحكمة الاستئنافية العليا سبعة: أربعة أجانب وثلاثة وطنيون.
خامسا:
أن يكون الحق للدول الموقعة على مشروع الإصلاح القضائي هذا، بعد مرور خمس سنوات على تحقيقه، أن تعدله بالاتفاق مع الحكومة المصرية، إذا رأت موجبا لتعديله، أو تلغيه، وتقرر العود إلى الحال السابقة، إذا اتضح لها أصوبية ذلك.
وقررت اللجنة، فيما يختص بالإصلاح الجزائي، ما يأتي:
أولا:
أن تحكم المحاكم الجديدة في قضايا المخالفات البسيطة، أو تنتدب قاضيا منها للحكم فيها، على أن يكون هذا القاضي أجنبيا، إذا كان المخالف أجنبيا؛ وأن تستأنف الأحكام متى قضت بحبس.
ثانيا:
أن وحدة القضاء في باب الجنايات والجنح أمر ضروري لتأمين عموم المصالح، مهما اختلفت جنسيات أصحابها، على أن يسبقها بحث دقيق في الضمانات الناجمة عن تشريع تام يشمل القانون الجزائي وقانون تحقيق الجنايات.
ثالثا:
أن يجري الإصلاح القضائي في الأمور المدنية والإصلاح القضائي في الأمور الجزائية معا؛ وإلا فتنشأ المحاكم الجزائية بعد مرور سنة على تأسيس المحاكم المدنية التجارية وعملها، وظهور صلاحيتها للجميع، ظهورا لا ريب فيه.
ثم أسرع كل من المندوبين وأرسل نسخة من هذا التقرير إلى دولته؛ واستعد نوبار باشا للسفر إلى الأستانة لينال المصادقة على المشروع من الباب العالي.
وما لبث أن ورد على الخديو تلغراف من باريس يفيد تشكيل لجنة هناك، تحت رياسة وزير الخارجية - وأن المسيو دي لسبس، المعروف بميله الكلي إلى تعضيد الإصلاح المبتغى، عضو فيها - للنظر فيما إذا كان يصح التسليم بالمبادئ التي ارتكنت عليها لجنة القاهرة لاعتبار الإصلاح واجبا أم لا.
وورد بعد ذلك بأسبوع على الكرنل ستانتن نبأ من الحكومة البريطانية يفيد أن هذه الحكومة رأت، بعد الفحص، وجوب إجراء إصلاح لتوحيد القضاء بمصر، ولكنها لا تستطيع قبول ما قررته لجنة القاهرة، كليا أو جزئيا، إلا بعد الاطلاع على القوانين الموعود بوضعها، وقبولها.
فبلغ ستانتن ذلك بكتاب إلى نوبار باشا؛ وأعلم هذا الوزير الخديو؛ فقابل (إسماعيل) المعتمد الإيطالي في القطر؛ وألح عليه في إبلاغ ذلك إلى الحكومة الإيطالية؛ وطلب استصدار قرار منها شبيه بقرار الحكومة البريطانية، فصدع دي مرتينو بالطلب؛ وأجابت الحكومة الإيطالية طبق المرام؛ ثم شكلت، هي أيضا، لجنة لدرس المسائل المقدمة إليها من لجنة القاهرة.
وحوالي العشرين من شهر مارس سنة 1870 وصل نوبار باشا إلى الأستانة؛ وقابل عالي باشا مرتين متواليتين، فقال له الصدر الأعظم: إن الباب العالي لا يرى اعتراضا على موضوع الإصلاح؛ وإنه مستعد لمساعدة جهوده، بحيث يضمن نجاحها؛ على أنه يرى، ضمانة لحقوق السلطان السيادية، أن تصدر إرادة «سلطانية» أولا، تمنح الحكومة المصرية اختصاصات ومزايا جديدة خاصة بالغرض الذي تسعى إليه، تخولها حق مخابرة الدول في شأنه.
ولكنه عاد بعد ذلك ورفض المشروع برمته رفضا باتا، وأعلن نوبار بعدم رضا الباب العالي به مطلقا.
فوقع هذا الرفض موقع الاستغراب من عموم سفراء الدول بالأستانة، فاستفسروا؛ فقيل لهم: إن الباب العالي يعترض:
أولا:
على أن يكون القضاة الأجانب في المحاكم المبتغاة أكثر عددا من القضاة الوطنيين.
ثانيا:
على اختصاص تلك المحاكم بالنظر في القضايا التي قد يكون للإدارة المصرية فيها دخل.
ثالثا:
على اختصاصها، أيضا، بالنظر في القضايا المرفوعة بشأن أعيان ثابتة؛ وأن الباب العالي إنما ينظر إلى المشروع برمته، من الوجهة السياسية، فلا يرى أن يكون لمصر مركز استثنائي فيما يتعلق بالنظام القضائي: فإما أن يتناول الإصلاح السلطنة كلها، وإلا فإنه لن يتناول إقليما منها دون غيره.
فأسف السفراء لذلك، ولكن نوبار باشا، الخبير بأحوال الأستانة، أظهر لهم أنه لا ييأس مطلقا من نيل مبتغاه، بالرغم من نزاهة عالي باشا الشاذة، ومن معاداته الشخصية للخديو.
في الوقت نفسه، وكأن الأقدار أرادت أن تهون على الحكومة المصرية وقع الرفض العثماني، ورد عليها من حكومات روسيا وبروسيا والولايات المتحدة ما يفيد قبول هذه الدول الإصلاح القضائي مبدئيا؛ ولو أنها أبدت تحفظا فيما يختص بالضمانات المقترحة وقبول باقي الدول ذات الشأن بها.
وكانت حركة الأفكار في الجاليات الغربية بالقطر قد قامت على قدم وساق، فاجتمع لدى المسيو موشكور، نائب الأمة الفرنساوية بالإسكندرية، وجوه الفرنساويين القاطنين الوادي الخصيب، وتداولوا في الواجب عمله، فأجمع رأي أغلبيتهم على استحسان المشروع الإصلاحي، عامة، بعد إدخال بعض تعديلات عليه، ولكن فئة منهم ذهبت إلى عكس ذلك؛ وما علم أعضاؤها بتكوين اللجنة بباريس لمراجعة أعمال لجنة القاهرة وقراراتها، وتمحيص غثها من سمينها، إلا وأرسلوا إلى رئيسها الرسالة التالية: «نحن الفرنساويين نرانا مضطرين إلى التأكيد أن هذا الإصلاح المزعوم سوف يكون خرابا لنا!»
وكان نوبار في تلك الأثناء قد سعى وهو عالم أن سعيه ليرتجى، فأوقفه عالي باشا على الشروط والتعديلات التي يرى الباب العالي وجوب إدخالها على المشروع، ليحوز قبوله، فما زال الوزير المصري برجال الديوان حتى حملهم على الاعتقاد بأن الإصلاح القضائي الراغبة الحكومة المصرية في إدخاله إنما هو شأن من شئون القطر المصري الإدارية المحضة؛ ومع أنه سلم، مبدئيا، بتعديل الأوجه الثلاثة المعترض من الباب العالي عليها التعديل المطلوب من رجال الأستانة، وقبل أن يعتبر تعيين القضاة الأجانب شيئا مؤقتا، فقط، ريثما يتسنى وجود قضاة أهليين من ذوي الكفاءة المعترف بها؛ وأن يعدل رأي رجال لجنة القاهرة بألا يختص غير المحاكم الجديدة بالنظر في التجاوزات التي قد تقع من قضاتها وهم مباشرون شئون وظائفهم، عاد بكيفية حكيمة، ونال مصادقة الديوان العثماني على مشروع موفق بين مطالبه وما ذهبت إليه مطالب رجال الهيئة السياسية الغربية في الأستانة عينها، وحاو لجميع الاشتراطات التي وضعتها لجنة القاهرة؛ ثم تمكن بدهائه وحذقه من جعل الصدر الأعظم عينه يسلم نسخة من ذلك المشروع إلى كل فرد من أفراد تلك الهيئة، لكي يرفعه إلى دولته؛ وسافر إلى العواصم الأوروبية لينال مصادقتها أيضا عليه.
وكان قد سبقه إليها منشور أرسله عالي باشا إلى سفراء الدول العلية في تلك العواصم أوضح لهم فيه مصادقة الباب العالي على المشروع القضائي المصري، بشرط أن لا تكون المحاكم الجديدة مختصة بنظر القضايا التي تنجم بين الأهالي وبعضهم؛ ولا بالحكم على الموظفين فيما قد يصدر عنهم من تجاوزات لحدود وظائفهم، وطلب إلى أولئك السفراء تعضيد نوبار باشا في مساعيه.
وحوالي منتصف شهر مايو سنة 1870 كانت اللجنة الفرنساوية - بعد سلسلة مفاوضات دارت بين نوبار باشا وبين المسيو دوڨرچييه رئيسها، والمسيو إميل أليڨييه رئيس الوزارة الفرنساوية، القائم بشئون وزارة الخارجية مقام وزيرها المتغيب - قد فرغت من أعمالها بباريس، ووضعت مشروعا من عندياتها أبلغته الحكومة الفرنساوية الحكومات الغربية الأخرى لتوقفها على آرائها في الموضوع.
وأهم ما جاء فيه: جعل عدد قضاة محاكم أول درجة سبعة، منهم أربعة أجانب؛ وعدد مستشاري محكمة الاستئناف أحد عشر، منهم سبعة أجانب؛ وضم محلفين وطنيين، ومحلفين أجنبيين من التجار إلى القضاة المشكلة منهم الجلسات التجارية، وأن يكون لهم صوت في المداولات؛ ووجوب مخابرة الحكومة المصرية الحكومات الغربية في كل تعديل يراد إدخاله فيما بعد على القوانين التي سيتفق عليها؛ وتأجيل العمل بالإصلاح الجزائي مؤقتا؛ والموافقة فيما عدا ذلك على ما أقرته لجنة القاهرة.
فوافقت عليه بأكمله حكومتا بطرسبرج وڨيينا؛ ورأت حكومة برلين، بعد مقارنته بالمشروع المصري الذي عدلته لجنة القاهرة الدولية، أن محكمة التمييز أصبحت غير مرغوب فيها، مذ جعل عدد قضاة أول درجة خمسة وعدد قضاة الاستئناف ثمانية في كل جلسة، لوجود الضمانة الكافية للمتقاضين في عدد القضاة هذا الكبير؛ وقالت: إنها تفضل أن يكون عدد مستشاري جلسات محكمة الاستئناف فرديا عنه زوجيا، اجتنابا لكل عرقلة في التصويت.
وأما حكومة إيطاليا فأحالت المشروع الفرنساوي إلى لجنتها المشكلة تحت رياسة الكاڨاليير ديزمبروا، والتي كان أحد أعضائها السنيور چياكوني.
فرأى (إسماعيل) أن الوقت بات مناسبا للاتفاق مع الدول على تعيين لجنة دولية يكون رأيها تنفيذيا، تمحص المشروع الواجب تنفيذه، مستخلصة إياه من المشاريع الثلاثة الموضوعة على بساط البحث، وهي: «المصري» الذي عدلته لجنة القاهرة و«العثماني»، و«الفرنساوي» - وكيفية جعله إلزاميا للجميع، ومنح نوبار باشا، لتحقيق هذا الغرض، سلطة مطلقة، ولكن الدول المختلفة رأت، قبل موافقة الخديو على ما يروم، وجوب اطلاعها على التشريع الذي ستحكم المحاكم الجديدة بمقتضاه؛ وطلبت نشر القوانين التي وعد بها؛ أي: القانون المدني، والقانون التجاري، وقانون المرافعات المدنية والتجارية، قبل الإقدام على أي إجراء يكون؛ وتركت جانبا، مؤقتا، قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات، لاتفاقها على تأجيل الإصلاح الجزائي إلى حين.
ورأت الحكومة الإيطالية فوق ذلك، وأخذا بإشارة لجنتها، وجوب اتفاق الحكومة الخديوية مبدئيا مع الدول على تحديد عدد القضاة، ودرجاتهم، وعدد الموظفين الذين سوف تطلبهم من كل واحدة منها، وذلك حسما لمنافسات قد تنجم عن اتخاذ قواعد أساسا لذلك التحديد، غير الثلاث الآتية، وهي: أهمية الدول سياسيا؛ عدد أعضاء جالية كل منها؛ عدد قضايا كل جالية.
غير أن الخديو، لما عرض عليه السنيور دي مرتينو، قنصل إيطاليا العام بالقطر المصري، رغائب دولته، رأى تعديل القاعدة الأولى، واتخاذ قلة أهمية الدول السياسية بدلا من أهميتها المطلقة أساسا لتحديد عدد القضاة، وذلك توصلا إلى ملاشاة كل تزاحم على النفوذ قد يقع في خلد الدول الكبرى الإقدام عليه، بواسطة تفوق عدد قضاة إحداها على عدد قضاة غيرها، ورأى ترك أمر تحديد عدد الموظفين من كل دولة وتعيينهم إلى هيئات المحاكم عينها، بدون تداخل أية دولة فيه.
وفي أوائل شهر يولية سنة 1870 تم طبع القوانين المصرية المختلطة، فوزعها نوبار باشا على الدول المختلفة، حالا، إجابة لرغبتها، فحرر اللورد جرانڨل، وزير الخارجية الإنجليزية، إلى المركيز دي لاڨاليت، سفير فرنسا في لندن، في 22 يولية سنة 1870، أنه، بعد اطلاعه عليها، يوافق تمام الموافقة على إنشاء الهيئة القضائية الجديدة المرغوب فيها بمصر، وعلى شكلها المبين في المشروع الفرنساوي، ودائرة الاختصاص المعينة لها؛ وأنه كلف سفراء بريطانيا العظمى لدى الدول المختلفة، وبالأستانة ومصر، بتسليم تلك الحكومات نسخة من كتابه إليه، لإعلامها باتفاق إنجلترا وفرنسا على الأمر، لكي يسعى الخديو، حالا، إلى إحراز قبول السلطان بالإصلاح القضائي كما قرر بالمشروع الباريسي؛ ويعلن السلطان قبوله إلى الدول، فتقدم الحكومة المصرية على اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لتكوين تلك المحاكم وإنشائها.
ولكن الحرب كانت قد نشبت بين فرنسا وألمانيا، وأصبح الزمن غير مناسب للمفاوضات، فعدل الخديو عنها، مؤقتا، وأخذ يفكر في إصلاح آخر يقوم مقام الإصلاح القضائي ولو جزئيا.
فوقع في خلده إنشاء بلدية بالإسكندرية، يخول لها حق النظر المطلق، قضائيا، في جميع أمور التنظيم والإيجارات في الثغر، مع توسيع دائرة محاكم التجارة، وجعلها مختصة بالنظر في أمور لا تكون تجارية بكل معنى الكلمة، وأقدم يجس نبض القناصل في ذلك، فوافقه بعضهم؛ وأبى البعض الآخر، ومن ضمنهم معتمد إيطاليا، إلا أن يكون كل إصلاح قضائي يجري في البلاد شاملا عاما، لا جزئيا خاصا.
فحوالي أواخر شهر ديسمبر سنة 1870 - وكان فوز ألمانيا على فرنسا بكيفية نهائية ساحقة بات أمرا مؤكدا، ونزول فرنسا على الشروط الألمانية أمرا لا يحتمل ريبا مطلقا - رأى نوبار أن الوقت قد حان مرة ثانية لإعادة المفاوضات في الإصلاح القضائي إلى مجاريها السابقة، لا سيما إزاء كثرة تردد الإشاعات عن قرب اجتماع أوروبا في مؤتمر عام قد يتناول بحث مسائل شرقية أخرى.
فأرسل في 2 يناير سنة 1871 كتابا في شكل مذكرة، إلى عموم معتمدي الدول في القطر، يطلب فيه مصادقة حكوماتهم على القوانين المصرية المختلطة التي عرضت نسختها على كل واحدة منها؛ وأن تكون تلك المصادقة إما مباشرة، وإما بواسطة معتمدي الدول مجتمعين بهيئة لجنة خاصة، أو بواسطة مندوبين تنتدبهم الدول لذلك الغرض، وأرسل نسخا من ذلك الكتاب إلى وزارات الخارجية كلها.
فأسرعت بروسيا، وأجابت أنها تصادق على القوانين المذكورة، وتصرح لمعتمدها في القطر المصري بالعود إلى تناول مباحث لجنة القاهرة الأولى؛ ولكن إيطاليا أبت أن تبدي رأيها النهائي، قبل أن تفرغ لجنتها من فحص المشروع والتشريع المسنون له؛ وأبت إلا الوقوف مقدما على الشكل الذي سوف يتخذه تنفيذ التعهدات المتبادلة؛ أي: على كيفية تشكيل المحاكم العتيدة.
فرأى نوبار باشا أن يرد على هذا الإباء ردا طويلا، أثبت فيه أنه لم يكن في وسع الحكومة المصرية أن تعبر عن فكرها في هذا الشأن بأحسن مما عبرت عنه إذ قالت أنها ستختار قضاة أوروبيين، وتستشير في تعيينهم بكيفية شبه رسمية حكوماتهم المختلفة لتحيط اختياراتها بأكثر مما يمكن من الضمانات؛ وأن القواعد التي تريد الحكومة الإيطالية أن تتخذ أساسا لتحديد عدد القضاة ودرجاتهم لقواعد لا يصح العمل بمقتضاها: (أولا) لأنه من شأنها جعل المحاكم العتيدة دولية أكثر منها مصرية؛ و (ثانيا) لأنها ستثير حتما منافسات دولية، ترى مصر أنها في غنى عنها؛ وأن الحكومة المصرية فكرت لاجتناب تلك المنافسات في تشكيل محاكم أول درجة من قضاة يؤخذون من سويسرا والبلچيك وهولندا، وتشكيل محكمة الاستئناف من مستشارين يؤخذون من الدول العظمى؛ لأن معاملة هذه الدول على قاعدة المساواة أمر ممكن، في هذه المحكمة العليا، بسبب كثرة عدد أعضائها.
فأقرت إيطاليا هذا المبدأ، ولو أنها لم توافق على أن يكون عدد مستشاري الاستئناف الغربيين سبعة فقط؛ واطلعت الحكومة المصرية على التقرير الذي وضعته لجنتها في فلورنسا، فإذا به تقرير ضاف واف، تناول كل دقائق المشروع وتعديلاته، وما اقترح له، والمشروعين العثماني والفرنساوي؛ ومحص ذلك جميعه تمحيصا مستوفيا؛ واستنتج نتائج، واستنبط آراء أقر معظما فيما بعد، لوجودها قرينة الصواب، وبنت الحكمة والتبصر، فأمرت الحكومة المصرية بترجمته إلى الفرنساوية، لتستفيد ويستفاد مما جاء فيه.
غير أن الباب العالي كان قد أظهر استياء لا مزيد عليه من عرض القوانين المصرية على الدول لنيل تصديقها عليها، لاعتباره ذلك افتياتا على حقوق الدولة: (أولا) لأن العرض يقتضي أن القوانين جديدة، وغير قوانين باقي السلطنة، ولا حق في وضع قوانين جديدة إلا للسلطة صاحبة السيادة العليا؛ و(ثانيا) لأن العرض يقتضي أن موافقة الدول الأجنبية عليها تكفي لكي تجري تلك القوانين في القطر المصري، مع أنه لا حق لمصر في إجراء قوانين تكون غريبة عن قوانين الدولة العلية؛ فأرسل بهذا المعنى كتابا كله خيلاء إلى الحكومة المصرية، أنذرها فيه بأن أمر «الإصلاح» إنما هو من الشئون السلطانية لا من الشئون الداخلية المصرية؛ وأنه يرى بناء على ذلك أن تتنكب الحكومة الخديوية عنه، وتتركه لحكمة الباب العالي، ليجري ما يراه فيه.
ولكي تكون معاكسته للمشروع مكسوة الظواهر برداء ينخدع له الصواب، أعلن الدول أنه مشتغل، هو نفسه، في وضع قانون قضائي لعموم السلطنة، وأنه سيفرغ من وضعه في ظرف ستة شهور؛ فما على مصر، والحالة هذه، إلا انتظار صدوره للعمل به أسوة بباقي الممالك الشاهانية.
فأرسل الخديو في بادئ الأمر مصطفى رياض باشا وزير حقانيته إلى الأستانة لإزالة سوء الفهم الواقع؛ وأعلم الحكومة الإيطالية بالمعارضة المبداة من قبل الديوان العثماني، لتعمل على رفعها.
ولكنه اتفق أن عالي باشا، الصدر الأعظم، مرض في الأثناء، المرض الذي قضى فيه نحبه، فلم تتمش المخابرات إلا بطيئة، وبدا من إنجلترا عينها ما جعل الملأ المصري يوجس خيفة على مشروعه القضائي.
فتوالت الأشهر بدون جدوى؛ واجتهد الباب العالي، لا سيما بعد موت عالي باشا، في حمل الحكومة المصرية على طرح مشروعها في زاوية الإهمال؛ محتجا، من جهة، على ما ألزم الخديو به نفسه للدول من عدم إدخال أي تغيير على القوانين المختلطة مدة خمس سنوات؛ وخوف (إسماعيل)، من جهة أخرى، بما قد ينجم - على زعمه - عن المشروع من نتائج وخيمة على الأهالي والحكومة وعلى حقوق مصر واستقلالها، وتمسك - تبريرا لسلوكه - بما آلت إليه الحكومات الأجنبية، إلا الإيطالية، من الجمود إزاء المشروع، حتى إن فرنسا عينها، لانشغالها بمداواة جروحها ورتق خروقها عن الاهتمام اهتماما زائدا بالشئون الخارجية، امتنعت من إرسال تعليمات بخصوصه إلى سفيرها في الأستانة.
ولكن همة (إسماعيل) لم يثبطها قيام تلك العراقيل في سبيل إصلاحه المرغوب؛ ولو أن المقربين إليه، حتى الحكومة الإيطالية صديقته الحميمة، أوشكوا أن يخافوا على عزيمته الملل والتعب، ويخشوا إقلاعه عن رأيه، وإنما كان السبب في تجلده وعدم خور همته ما كان قد وطن النفس عليه توطينا صادقا من القضاء على قيد الامتيازات الأجنبية التي كانت - في عرفه - أشد ما يثقل عاتق الحكومة المصرية وأشد ما يقعد بمصر عن بلوغها استقلالها.
فرد في 13 يونية سنة 1872 على الصدر الأعظم ردا بليغا ذكر فيه: «أن الباب العالي عينه كان قد وافق على جعل حد سير المحاكم الجديدة خمس سنوات؛ وقال: إنه لم يفتأ معترفا بأن سن القوانين حق مقدس من حقوق السلطنة المطلقة، الخاصة بها دون سواها؛ وأنه لذلك لم يقع في خلده أبدا أن يسن قوانين؛ وأن القوانين المختلطة التي ستطبقها المحاكم الجديدة إنما هي، في الحقيقة، القوانين السارية بالقطر المصري في كل آن؛ أي أنها، إذا، قوانين السلطنة عينها، ثم ذكر الباب العالي بأن المشروع تحت التداول والأخذ والرد منذ أكثر من خمس سنوات باطلاع الديوان السلطاني وموافقته؛ وذكره بكل ما حصل في الشأن؛ وأن الآراء كلها أجمعت على أن القضاء، كما هو بالقطر المصري، ليس بقضاء؛ وأنه ما دام لا يوجد في قطر من الأقطار قضاء منظم، تصدر الأحكام عنه للجميع، بكيفية واحدة على السواء، فالتقدم والرقي والإتجار والمدنية تبيت كلها أمورا متعذرة، إن لم تصبح في دائرة المحال؛ وأنه لا يرى، إذا، كيف يمكن أن تنجم عن تنظيم القضاء في بلاده النتائج الوخيمة التي يخوفه منها الباب العالي؛ وأن نواب الدول الذين تباحثوا في المشروع، في كل لجنة شكلت لذلك الغرض، أبدوا من شعائر الاحترام لاستقلال القطر، والحقوق التي يعتبرها الجميع مقدسة، ما حمل الباب العالي عينه على إقرار المشروع، بعد إدخال بعض تعديلات عليه؛ وأنه لم يعد يبقى لنفاذه إلا رغبة الدول في الاطلاع على القوانين التي سوف تطبقها المحاكم العتيدة؛ وأنه لو كان في إبداء هذه الرغبة ما يجور على استقلال الحكومة وحقوقها، أو ما يفيد تداخلها في شئون تشريع القطر، لما أبديت ولما قبلت؛ وأن نتيجة كل ما تقدم أن تنفيذ المشروع إنما يقصد به في الحقيقة حصول الأهالي والكل، سواء بسواء، على حقوقهم الضائعة؛ وحصول الحكومة المصرية على الطمأنينة والحماية اللازمتين لها».
ولعلمه أن وجوده بشخصه، في الأستانة، يفعل ما لا يفعل خير الأدلة والبراهين في قضاء لبانته، أكثر من كل مكاتبة مهما كانت فصيحة، عزم على السفر إلى الأستانة؛ وسافر إليها في أواخر شهر يونية عينه، مصطحبا وزيره الحكيم نوبار باشا.
فاغتنمت إيطاليا فرصة وجوده في تلك العاصمة، وفاتحت خارجيات الدول الكبرى في أمر تعضيد مساعيه لدى الباب العالي، بواسطة سفرائها بالأستانة؛ والعمل، في الوقت ذاته، على منع كل تأثير على الخديو من شأنه دفعه إلى المطالبة بتطبيق النظام القضائي الذي تطبقه الدولة العلية في ممالكها، ببلاده.
فأجابت النمسا وفرنسا وألمانيا إيطاليا إلى طلبها؛ وكلفت كل منها سفيرها لدى الحكومة العثمانية بالعمل على إقناع الباب العالي بوجوب المصادقة على مشروع الإصلاح القضائي بمصر. أما الحكومة الروسية فامتنعت، في بادئ الأمر، لقلة مصالحها في القطر، وأما إنجلترا فقالت: «إن الظروف في تركيا، لا سيما بعد حرب القرم، لم تعد، كما كانت في الماضي، موجبة لتداخل الدول كثيرا في شئونها الداخلية؛ وأنه يحسن، والحالة هذه، بالدول الانتظار ريثما تفرغ الأستانة من وضع القوانين التي وعدت بإنجازها في ستة أشهر، والالتفات فقط إلى أن لا تدخل فيها ما يكون مغايرا أو مبطلا للمصالح الأجنبية المعمول بها».
فأدى سعي الخديو، من جهة، السعي السابق لنا ذكره في غير هذا الفصل، ومساعي سفراء الدول الأربع المشتركة. من جهة أخرى، إلى نزول تركيا عن إصرارها؛ وقبولها تطبيق القوانين المطروحة أمام الدول لتصدق عليها، تطبيقا مؤقتا، في القطر؛ ورضاها التام عن النظام القضائي العتيدة إقامته.
6
فرأى (إسماعيل) أن يطرق الحديد وهو سخين، فشرع يفاوض الدول برغبته في أن يبت - وهو مقيم بالأستانة - في المسائل المختصة بالمشروع، والتي لا تزال على بساط المناقشة، فتزود الدول سفراءها هناك بالتعليمات والسلطة اللازمة لذلك؛ لأنه وإن يكن اهتمام الباب العالي بتلك المسائل بات سطحيا، إلا أن المناقشة فيها بالأستانة عينها، وهو فيها، ذات فائدة كبرى، لتمكين المتخابرين من الحصول بسهولة على موافقة الديوان، فيما لو نجمت مسألة يحتاج فيها إلى إحراز تلك الموافقة؛ وأنه إذا رأت الدول أن الأمر يقتضي اشتراك متخصصين فيه فلتسرع بإرسالهم إلى الأستانة، لأنه لم يعد في استطاعته المكث فيها إلا قليلا؛ ولفت نظرها، في الوقت ذاته، بمذكرة أرسلها لكل منها وزيره الحكيم نوبار، إلى أن أهم ما يجب اتفاقها عليه إنما هو الإصلاح القضائي الجزائي، الذي قد يتراءى لبعضها تأجيله إلى أجل غير مسمى، وإلى أهم ما تراه الحكومة المصرية في ذلك الإصلاح؛ أي: اتفاق الدول على جعل المحاكم الجديدة مختصة بالحكم جزائيا في كل ما كان مخلا بنظامها وتنفيذ أحكامها، أو حاطا من كرامتها؛ وفي كل ما يقع مغايرا للقانون من قضاتها وموظفيها.
فما كان من الجنرال أجنا تتيف، السفير الروسي في الأستانة، إلا أنه استدعى السفراء لديه، بصفته أقدمهم عهدا، لمطارحة أفكارهم في المشروع المرغوب فيه، فاجتمعوا في 6 أغسطس سنة 1872؛ وشرح لهم نوبار باشا - وكان قد استدعي إلى ذلك الاجتماع أيضا - كل سوابق المسألة، وبعد مفاوضة تناولت أمر رد القضاة والمترجمين والترجمات؛ وأمر حلول تراجمة القنصليات محل مترجمي المحاكم في القضايا التي يطلب ذوو الشأن فيها ذلك؛ وأمر ترك تعيين رؤساء الجلسات لجمعيات القضاة العمومية؛ وأمر حضور مندوبين خصوصيين من لدن الدول سير المحاكمات الجزائية - وقد عارض (إسماعيل) فيما بعد فيه معارضة شديدة وأبى قبوله إباء كليا، لئلا يقود إلى تجاوزات من نوع المشتكى منها في نظام القضاء القنصلي - وأمر تخلي السلطة المصرية عن المحكوم عليه من المحاكم الجديدة إلى قنصلياتهم لتنفيذ العقاب فيهم بمعرفتها - ورفض بتاتا - وأمر جعل المحاكم عينها، بعد مضي سنة على تأسيسها، مختصة بالنظر في الجزاءات على أنواعها؛ وأمر تكوين لجنة المحلفين في القضايا المختلطة بواقع النصف من الأهالي والنصف من الأجانب، بدلا منها من جنسيات المتهمين، ارفض الاجتماع على أن يبلغ السفراء مضمونه إلى دولهم.
ثم حرر نوبار باشا مشروعا للإصلاحين المدني والجزائي، على قاعدة ما اتفق عليه في تلك الندوة، أهمل فيه، سهوا، ذكر اللغات القضائية، ووجوب تسجيل العقود الناقلة للملكية والرهون لدى المحاكم الجديدة مع إخطار المحاكم الشرعية بها، وأمورا أخرى أقل منها أهمية؛ وأهمل، عمدا، إنشاء محكمة التمييز؛ وقبل الخديو، إرضاء لبعض الدول، أن لا يعهد بالنظر في الأمور الجزائية إلى المحاكم الجديدة إلا بعد مضي خمس سنوات على تأسيسها.
فأبدت فرنسا وإنجلترا والنمسا وإيطاليا بعض اعتراضات على ذلك المشروع؛ وأهمها الاعتراضات الإيطالية على ما أهمل نوبار باشا ذكره سهوا؛ واعتراض فرنسا على تخويل المحاكم المختلطة النظر في الأمور الجزائية، حتى فيما يتعلق بما كان مخلا بنظامها وتنفيذ أحكامها، أو حاطا من كرامتها، أو مرتبكا من قضاتها وموظفيها - وهم يؤدون وظائفهم - من مغاير لقوانينها.
فأجاب نوبار إيطاليا أن السهو سيتدارك؛ ولكنه أجاب فرنسا أنه لا سبيل إلى إنشاء المحاكم المختلطة إذا لم تمنح حق النظر في النوع الأخير من التجاوزات المستوجبة الجزاء: لأنه لن يوجد في العالم قضاة يريدون أن يكون النظر فيما قد يمس كرامتهم - وهم يؤدون وظائفهم - موكولا إلى غيرهم، وأثبت رأيه بأدلة قاطعة.
فتصلبت فرنسا في رأيها؛ فألح نوبار على الجنرال اجنا تتيف بجمع السفراء ليروا رأيهم في الأمر، فاجتمعوا في 16 نوفمبر سنة 1872 وقرروا تعيين لجنة لفحص ماهية الضمانات التي تقدمها الحكومة المصرية، لتطمئن الحكومات الأجنبية إليها، وتعتقد أنه لن يقع تجاوزات على حقوق الأجانب، فيما إذا منحت المحاكم المختلطة حق النظر في نوع الجزاءات المطالب نوبار بها، والتي أكد أنه لا سبيل إلى إنشاء المحاكم بدونها.
ففي اليوم الحادي عشر من شهر يناير سنة 1873 التأمت اللجنة المرغوب فيها بالأستانة، مشكلة من السير فيليب فرنسيس القنصل البريطاني، والمسيو تريكو القنصل الفرنساوي، والكاڨاليير چاكوتي المستشار بالمحاكم الاستئنافية الإيطالية، وفون جللت القنصل الألماني، وفون پرجير سكرتير الوكالة النمساوية، والمسيو چنسن سكرتير الوكالة البلچيكية، والمستر جودناو معتمد الولايات المتحدة، والمسيو كون مستشار وكالة هولندا ومدير إدارتها القنصلية، والمسيو هترڨو القنصل الروسي العام وأحد أمناء الحجرة الإمبراطورية الروسية، والكونت برنيكوف القائم مقام مستشار الوكالة السويدية النروجية، ونوبار باشا، ومعه المسيو مونوري مستشاره القضائي.
وانضم إليها في ثالث جلساتها الدون درتارڨت فريري كاتب الپروتوكول في الوكالة الإسبانية؛ وانعقدت تحت رياسة السير فيليب فرنسيس، بصفته أقدم القناصل عهدا، ست مرات؛ أي: في 11 و15 و18 يناير، وأول وسادس وثامن فبراير سنة 1873.
فطرح عليها نوبار باشا، في أول جلساتها، المشروع الذي وضعته الحكومة المصرية وشرحه شرحا وافيا في مذكرة قدمها لكل من المندوبين ومعها قائمة ببيان أنواع التجاوزات المطلوب ترك الحكم الجزائي فيها للمحاكم الجديدة.
فدار الكلام على كيفية وجوب السير في فحصها، وهل يقتضي تعيينها، تجاوزا تجاوزا، أم يفضل تعيينها، فئة فئة؛ وأية سلطة تكون مختصة بالنظر فيما قد لا يذكر منها: المحاكم الجديدة، أم القنصليات؛ فأظهر المسيو تريكو، منذ ذلك الحين، من الخشونة في المباحث، عملا بالتعليمات الواردة إلى سفارة فرنسا بالأستانة من وزير الخارجية الفرنساوية، ما تمتعض له النفوس لدى اطلاعها عليه؛ تلك الخشونة بلغت درجة الوقاحة في الجلسة التالية، وزاد في سماجتها ما بدا من شكل تعنت صاحبها فيها.
على أن الرئيس طلب إلى كل من المندوبين إبداء رأيه في المذكرة ذات قائمة التجاوزات التي سلمت إليهم، فكان السنيور چاكوني أولهم تكلما، وأهم ما يستوقف اليوم الانتباه في أقواله ما ورد فيها من أن الغرض الذي يرمي إليه نوبار باشا من الإصلاح القضائي إنما هو توحيد العنصرين الأجنبي والأهلي بمصر؛ وأنه هو، چاكوني، على أمله في أن هذا التوحيد سيتم يوما ما، لا يرى أن الوقت المناسب لذلك قد حان؛ بل يرى أفضلية بقاء العنصرين منفصلين الواحد عن الآخر، لأسباب أبداها؛ أوجهها قلة ثقتهما المتبادلة.
وتلاه المسيو هتروڨو؛ فطلب وضع قائمة أعمال لكل جلسة حتى تسهل المناقشة؛ وأيده المسيو تريكو في طلبه.
فوضعت في الحال؛ ودارت المناقشة طويلا:
أولا:
في ما هي الجرائم والجنح التي ترتكب ضد رجال القضاء، وهم في حال تأدية وظائفهم في الجلسات وخارجا عنها؛ وما هي التي ترتكب ضد عمال القضاء في غضون تأديتهم وظائفهم.
ثانيا:
في ما هي الجرائم والجنح التي ترتكب ضد نفاذ الأحكام، وعمال الضبط والربط الذين يحضرون تنفيذها.
ثالثا:
في ما هي الجرائم والجنح التي ترتكب من رجال القضاء وعماله - وهم يؤدون وظائفهم - أو ترتكب منهم كنتيجة تجاوزهم في تأدية وظائفهم، فوفي البحث في البابين الأولين؛ وأجلت بقية البحث في الباب الثالث إلى الجلسة التالية.
وفي الجلسة التالية، بعد أن دحض نوبار باشا زعما زعمه الهرجلت، وأيده فيه المسيو هتروڨو بوجوب حفظ النظر في جزاء من يقتل أحد رجال القضاء العتيد، للقنصليات، استؤنف البحث في الباب الثالث السابق ذكره، ووفي؛ ثم انتقلت اللجنة إلى فحص ماهية الضمانات التي تقترح الحكومة المصرية تقديمها، ليطمئن الغربيون ويسكنوا إليها، فتناقشت طويلا في الموضوع، وأهم ما يستلفت اليوم النظر في تلك المناقشة أمران: (الأول): تشدد نوبار باشا في أن يكون للأهالي نصيب في العضوية، سواء أكان في لجان المحلفين، أم في محكمتي الجنح والجنايات؛ وتشدد المسيو تريكو في أن لا يكون لهم ذلك النصيب مطلقا، وإغراقه في هذا التشدد إلى حد إعلان أن عدم وجود العنصر الأهلي في جميع الهيئات القضائية الجزائية شرط لا يمكن لدولته أن توافق بدونه على جعل المحاكم الجديدة مختصة بالنظر في ذات التجاوزات الجزائية الجزئية المطلوب اختصاصها فيها؛ كما أنها ترى هذا الرأي أيضا فيما لو رفضت الحكومة المصرية إعطاء الضمانات المطلوبة منها كافة.
و(الثاني): حيرة المندوبين في الذي يجب عمله إذا رأت قنصلية ما أن التهمة الموجهة إلى متهم غير داخلة ضمن الجرائم أو الجنح المفوض الحكم فيها إلى المحاكم الجديدة؛ وانغلاق عقول أولئك الرجال الأفاضل دون الإيضاح الجلي البين المقدم من الموسيو مونوري في الموضوع، ولولا أنه يجب على المؤرخ أن يراعي عقلية كل جيل لإبداء حكمه عليه، وأن العقلية الغربية في تلك الأيام كانت متأثرة بقلة الثقة في عدالة الشرق والشرقيين، تأثرا بليغا، ومشغولة بمخاوف كبيرة من تداخل الإدارة المصرية في شئون القضاء المختلط - مع أنه لم يكن من مسوغ لانشغالها - لحكمنا على أولئك المندوبين بالغباوة المطبقة، وعلى مداولاتهم بالهتر الكلي، وانقضت هذه الجلسة الثالثة، بعد تعيين لجنة لتحرير الاقتراحات التي تقرها الحكومة المصرية، والاقتراحات التي ترفضها.
وفي الجلسة الرابعة أعلن المسيو مونوري أن الحكومة المصرية أقرت ذات الاقتراحات التي كانت رفضتها سابقا بعد إدخال بضعة تعديلات عليها بموافقة أعضاء اللجنة، فتمكنت اللجنة، بذلك، من وضع بيان بالضمانات المطلوبة والمعطاة كلها، ثم قرأ ما حررته اللجنة، وهو الذي نراه اليوم في القانون المختلط، في باب اختصاص المحاكم، وباب التحقيقات الجزائية والتنفيذ.
فوافق المندوبون عليه؛ وقرر توزيع نسخة منه على كل مندوب ليبدي، بعد فحصه، الملحوظات التي يرى إبداءها بشأنه؛ وكلف الرئيس حضرات المندوبين تريكو وچانسن ومونوري بتجهيز مشروع تقرير عام، يكون عمل اللجنة قاعدته.
وفي الجلسة الخامسة أراد المسيو هيتروڨو الرجوع عما تم، فعدل السير فيليب فرنسيس ونوبار باشا رأيه؛ وبعد ملاحظة أبادها المسيو كين على ذكر اختصاص المحاكم بالنظر في المخالفات البسيطة، وسحبها حالا، عقب شرح أبداه المسيو تريكو والمسيو مونوري والسنيور چياكوني، وتأكيد صدر من نوبار باشا بأنه ما دامت الدول قد صدقت على ذلك الاختصاص، لما صدقت على الإصلاح القضائي المدني، فلا يهمه أتذكر المخالفات أم لا تذكر في الموضوع الذين هم في صدده، أقبل المندوبون يفحصون تقرير اللجنة، بندا بندا، فأدى فحصهم إلى مناقشة هامة فيمن يصح ومن لا يصح قبول شهادته من الشهود؛ وانتهى بهم الأمر إلى تقرير المادة الموجودة الآن في القانون الخاصة بمن يجوز رده من الشهود؛ وذلك بالرغم من اعتبارات في منتهى الوجاهة، أبداها السير فيليب فرنسيس تأييدا لمبدأه القائل بجواز سماع شهادة الأهل والأقارب، وعلى ذلك ارفض الاجتماع.
وفي الجلسة السادسة استؤنف فحص تقرير اللجنة، فأعاد المسيو هيتروڨو البحث في احتمال تعدي المحاكم الجديدة، في تحقيقاتها الجنائية، على حقوق القنصليات، فأدى ذلك إلى مناقشة، نجم عنها النص الخاص الموجود في القانون المختلط، المحظر على قاضي التحقيق بالمحاكم المختلطة التداخل في تحقيق الجنايات والجنح العادية؛ وصدق، فيما عدا هذا، على تقرير اللجنة، ثم تلى مشروع التقرير العام الذي كلف بوضعه المندوبان تريكو وچانس بمساعدة المسيو مونوري؛ وارفض الاجتماع.
وعقد المندوبون، بعده، اجتماعا أخيرا في 15 فبراير سنة 1873 صادقوا فيه على محاضر الجلسات الست، وعلى التقرير العام، ووقعوه، ثم شكروا الرئيس، السير فيليب فرنسيس، عملا باقتراح المسيو تريكو؛ ورفعوا تقريرهم العام إلى سفراء دولهم لدى الباب العالي، فأرسله السفراء إلى حكوماتهم، وأرفقوا به اللائحة النهائية التامة التي وضعها نوبار باشا عقب تلك المداولات لترتيب القضاء المختلط.
فصادقت على الإصلاح نهائيا: بريطانيا العظمى في 26 مايو، وإيطاليا في 19 يونية سنة 1873؛ ومع أن مدير شركة ترعة السويس بعث إلى وزير الخارجية الفرنساوية كتابا بتاريخ 18 مارس سنة 1873 يرجوه فيه، باسم الشركة ومصالحها، واسم المائتي ألف أجنبي الموجودين في القطر، بالمساعدة على إنهاء المخابرات، وتأسيس القضاء المختلط بالقطر، رحمة بمصالح الجميع، أبت فرنسا إلا خلق عراقيل جديدة، بشأن اختصاص المحاكم العتيدة في النظر في التفليسات - لزعمها أن التفليسات داخلة في نظام الأحوال الشخصية، المحظر على تلك المحاكم النظر فيه - وبشأن كيفية تعيين رجال القضاء.
فاضطر نوبار إلى دحض زعمها الخاص بالإفلاس بكتاب فصيح تاريخه أول أبريل سنة 1873؛ ولكنها أصرت عليه؛ وفاتحت في الشأن الحكومات الأخرى، فمالت النمسا والروسيا إلى سحب بعض ما سلم به مندوباهما في الأستانة؛ ونجم عن ذلك صعوبات وعراقيل جديدة، رأى الخديو معها أن يبعث إلى نوبار باشا بالامتناع عن إجراء أي عمل في شأنها، حتى يقدم سموه إلى الأستانة بنفسه.
ثم سافر إليها سفرته الشهيرة في يونية سنة 1873؛ وأقام هناك الإقامة التي رأيناه ينال في خلالها كل ما أراد نيله من مراميه؛ وأهمها التصريح له بسن جميع القوانين واللوائح الداخلية، التي يراها صالحة للبلاد ولازمة لها، فكان ذلك بمثابة مصادقة رسمية صريحة من لدن السلطنة العثمانية على القوانين المختلطة التي وضعتها الحكومة المصرية وكانت لا تزال شبهة، في موافقة الحكومة العثمانية عليها، معلقة في أذهان الدوائر السياسية الغربية، في الأستانة وأوروبا، بسبب الإبهام والغموض الواردين في ترجمة الكتاب المرسل من الصدر الأعظم إلى الخديو بتاريخ 13 جمادى الأولى سنة 1289 / 19 يولية سنة 1872 من التركية إلى الفرنساوية.
ولكن الصعوبات التي أنشأتها الحكومة الفرنساوية بشأن دعاوى الإفلاس ما فتئت، بالرغم من ذلك، قائمة؛ والمفاوضات التي أوجبتها بين الدول سائرة، وبلغ النزاع أشده بين الحكومتين المصرية والفرنساوية في شهر نوفمبر سنة 1873، إذ جاهر نوبار باشا للقنصل الفرنساوي العام بالقطر المصري بعدم تمكن حكومة الخديو من تغيير شيء مطلقا فيما أقره مندوبو الدول، وصدق معظمها عليه في شأن قضايا الإفلاس.
وربما كان السبب الذي حمل نوبار باشا على المجاهرة بذلك القول أخبار السوء المبالغ فيها، الواردة عن فرنسا في الجرائد الأجنبية، والتي جعلت القوم بمصر يعتقدون ذلك البلد ممزقا تمزيقا على أيدي الأحزاب القائمة فيه عقب انخذال فرنسا في الحرب السبعينية.
فما كان من القنصل الفرنساوي إلا أن أجاب على قول نوبار باشا «بأن مصر هي الراغبة في إجراء الإصلاح القضائي، لا فرنسا؛ وأن هذه الدولة إزاء ذلك الرفض لا ترى سوى الامتناع عن المخابرات، حتى تأتيها خارجية مصر باقتراحات يمكنها قبولها».
فلما علمت نتيجة تصويت 20 نوفمبر سنة 1873، وتأكيد الملأ من قيام حكومة منظمة بفرنسا، عاد نوبار إلى مخابراته؛ وحاول الاتفاق مع المعتمد الفرنساوي على تعديل يوفق بين طلبات الفريقين، ومع تمسك المعتمد الفرنساوي بالتعليمات الواردة إليه من الخارجية الفرنساوية، رأى من الواجب عليه تفهيم تلك الوزارة بأن البقاء على الحال القضائية المعمول بها في ذلك الحين أمر محال وضار، الضرر كله، بالمصالح الفرنساوية ذاتها؛ لأنها حال فوضى حقيقية.
وكانت حكومتا النمسا والولايات المتحدة قد اقتدتا، في الأثناء، بحكومتي إنجلترا وإيطاليا؛ وصادقتا على آخر لائحة وضعت لتنظيم المحاكم الجديدة، مشترطتين موافقة مجلس نوابهما عليها؛ واتبعتهما، بعد قليل، الحكومة الألمانية أيضا في أبريل سنة 1874؛ كذلك كانت عقول الجالية التجارية الفرنساوية بدأت تتفتق إلى فهم المضار الناجمة للمصالح الفرنساوية عن استمرار حكومة ڨرسايل معارضة في الإصلاح، ومنفردة في عنادها عن باقي الدول؛ فلم يحجم المعتمد الفرنساوي عن إعلام رئيسه، وزير الخارجية، بذلك، بل إنه أرسل إليه في 25 يناير سنة 1874 عريضة مؤرخة 15 يناير عينه قدمها إليه نائبا الأمة الفرنساوية بمصر، المسيو موسو، والبارون ديلور دي جلئون، موقعة منهما ومن عدة فرنساويين مشتغلين في مشروعات أشغال عمومية هامة، يلتمسون فيها بإلحاح موافقة الحكومة الفرنساوية، السريعة، على الإصلاح، لئلا تتعطل مصالحهم ومصالح باقي أفراد الجالية.
فإزاء ذلك جميعه، رأى وزير الخارجية الفرنساوية، قبل الإقلاع عن خطته والانضمام إلى الدول المصادقة، أن يعين بالاتفاق مع زميله، وزير العدلية، لجنة خصوصية لفحص الموضوع تحت رياسة المسيو ڨنت، وكيل وزارة العدلية هذه، فعينت؛ وبعد أن باشرت عملها، وقامت بمهمتها قياما دقيقا، رفعت في يونيه سنة 1874 إلى وزير الخارجية الفرنساوية تقريرا بليغا يعبر عن رأي ثمانية من أعضائها التسعة، ويشير على الحكومة الفرنساوية بقبول الإصلاح القضائي، في الحال التي وصل إليها، أسوة بباقي الدول، واجتنابا لبقاء فرنسا وحيدة في مضمار، المضار فيه كثيرة وكبيرة، والفائدة معدومة.
ولكن بالرغم من ذلك، وبالرغم من أن الخديو - لاعتقاده أن الطريق مهدت نهائيا، وأن تشغيل المحاكم الإصلاحية بات مستطاعا - أقبل يخاطب بعض الدول في شأن القضاة اللازمين لها، وطلب إلى حكومة إيطاليا إرسال الكاڨالييرچيا كوني ليكون المستشار الإيطالي في محكمة الاستئناف العتيدة، استمرت الحكومة الفرنساوية على مخاوفها، وعلى معارضتها في أمر التفليسات، وأضافت إلى ذلك تشددا في تعيين قاضيين من جنسيات الدول السبع، الممثلة في لجنة القاهرة سنة 1869 لدى محاكم أول درجة، عدا المستشار المرغوب في تعيينه، من جنسية كل منها، في محكمة الاستئناف، وإن لم يمكن، فتعيين فرنساويين عضوين في النيابة العمومية.
فرأى الخديو، عملا بنصيحة السنيور چياكوني الذي كان قد قدم القطر في شهر يولية من السنة عينها، أن يلغي النص الخاص بالتفليسات من لائحة ترتيب المحاكم وقائمة اختصاصاتها، لكي يجرد المعارضة الفرنساوية من سلاحها؛ وأن يجيب الحكومة الفرنساوية إلى مطالبها المشتركة مع مطالب الحكومة النمساوية، وأعني بها: بقاء القناصل وأتباعهم خارجين عن دائرة اختصاص المحاكم الجديدة، وكذلك معاهد العبادة والعلم؛ والفصل في القضايا القائمة، قبل استتباب تلك المحاكم، بطريقة استثنائية يتفق عليها فيما بعد؛ وجلوس قاض أو مستشار من جنسية المدعى عليه دائما في الجلسات التي تنظر قضيته أمامها؛ ولكنه، مع وعده بزيادة عدد القضاة الفرنساويين، فيما لو أنشئت دوائر جديدة في المحاكم العتيدة، خلاف المنشأة بموجب لائحة الترتيب، رأى نفسه مضطرا إلى عدم إجابة الحكومة الفرنساوية إلى طلبها، المقصود منه تعيين قاضيين تابعين للدول السبع المذكورة في محاكم أول درجة.
فرفع المعتمد الفرنساوي إلى وزارة الخارجية، بڨرسايل، المذكرة المرسلة إليه من شريف باشا، والمبين فيها كل ما قبل الخديو به حسما للنزاع؛ ونصحه مرة أخرى بالإقلاع عن المعارضة، وقبول الإصلاح، فأجاب الوزير بالمصادقة على ما ورد في مذكرة شريف باشا، ووعد بعرض ما جاء فيها ولائحة ترتيب المحاكم الإصلاحية على الجمعية الأهلية العمومية حالما تجتمع لتصدق عليهما معا، فأمضى المعتمد الفرنساوي مع شريف باشا في 10 نوفمبر سنة 1874 محضرا ذكرت فيه التعديلات المتفق والمصادق عليها؛ وأرسله، ممهورا بإمضائه وإمضاء الوزير المصري، إلى الخارجية الفرنساوية، فأعلمت هذه الوزارة، بما جاء فيه ، عموم المعتمدين الفرنساويين، بمنشور أرسلته إليهم؛ وأبلغت الحكومة الفرنساوية الحكومة المصرية في ديسمبر سنة 1874 مصادقتها على مشروع الإصلاح القضائي، مؤقتا، حتى ترى الجمعية العمومية الأهلية رأيها فيه.
ولكنها عادت، بعد ذلك بقليل، وفتحت باب مشكلة جديدة بخصوص مقاصد الحكومة المصرية الاحتمالية في أن ترفع إلى المحاكم العتيدة ما قد يشجر من منازعات بينها وبين أعضاء الجاليات الأجنبية بشأن الرسوم والأموال والضرائب؛ وكلفت معتمدها بالإسكندرية بالحصول على ضمانة أكيدة تقي اتخاذ الخديو تلك المحاكم وسيلة لعسف يوقعه على الغربيين في باب المطالبة بالأموال الأميرية؛ فلم تلتفت الحكومة المصرية إلى هذا التمحك الجديد؛ وأعلن شريف باشا المركيز دي كازو، المعتمد الفرنساوي بالقطر، بأن الخديو، بعد مصادقة برلمانات معظم الدول على الإصلاح القضائي، وحضور معظم القضاة المعينين للمحاكم الجديدة، لم يعد يرى بدا من إقامة هذه المحاكم؛ وأنه عين يوم 28 يونية سنة 1875 لإجراء تلك الحفلة الرسمية؛ ويوم 18 أكتوبر التالي لبدء التقاضي أمام الهيئة الإصلاحية الجديدة؛ وأنه يرجو أن الجمعية الأهلية العمومية الفرنساوية تكون قد تمكنت، هي أيضا، قبل تاريخ 28 يونية المذكور، من اعتماد الإصلاح حتى لا تحرم مصر مساعدة أنوار معارف رجال القضاء الفرنساويين، قبل شروع تلك المحاكم بمباشرة أعمالها.
فأعاد وزير الخارجية الفرنساوية الكرة، وطلب من معتمد فرنسا بمصر الضمانة السابق طلبها منه بشأن الأموال والضرائب والرسوم الجمركية، فعادت المفاوضات بشأنها بين هذا المعتمد وشريف باشا، فأكد فيها الوزير المصري بناء على أمر صريح من (إسماعيل) اختصاص المحاكم الجديدة بالنظر في المنازعات التي قد تنجم بين المصالح الأميرية المصرية والأجانب بخصوص الرسوم الجمركية والأموال والضرائب المقررة والتي ستقرر؛ وعزم الحكومة المصرية الأكيد على عدم قبول تداخل القنصليات في ذلك جميعه.
فلما رفع المركيز دي كازو هذا التأكيد إلى الدوك ديكاز، وأعلمه أيضا بتحديد يوم 28 يونية سنة 1875 لترتيب المحاكم، سقط الدوك في يده، وامتعض قلبه، وعاودته مخاوفه السابقة، فرأى أن يوقف مصادقة الحكومة الفرنساوية على مشروع الإصلاح القضائي حتى يعيد فحص الاحتياجات التي يتحتم عليه أخذها مبدئيا لئلا تضام المصالح الفرنساوية.
ولكي يصل إلى هذا الغرض بكيفية أكيدة صحيحة رأى أن يستشير في الأمر محكمة إكس الاستئنافية لاعتقاده أنها، بصفتها المحكمة التي تستأنف أمامها أحكام محاكم مصر القنصلية، أدرى الهيئات النظامية كلها بالمصلحة الفرنساوية الحقيقية بالقطر المصري، فانتدبت محكمة إكس لجنة من مستشاريها لفحص الموضوع وتمحيصه وتقديم تقرير ضافي الذيول إليها تبني عليه إجابتها على الوزارة.
فاجتمعت تلك اللجنة وتباحثت؛ ثم كلفت المسيو رولان، أحد أعضائها، بوضع التقرير الذي أدت مباحثها إلى الاتفاق عليه، فوضعه وقدمه إلى المحكمة؛ وإذا به يطعن على المشروع طعنا مرا؛ ويشير بطرحه جانبا، كلية، وعدم العدول عن النظام القضائي القنصلي (17 يونية سنة 1875)؛ وبنى رأيه هذا على السببين الآتيين:
أولا:
أن العداء والخصام القائمين منذ الأزل بين الأجناس الإسلامية والأجناس المسيحية لا يزالان مستمرين على شدتهما الأصلية.
ثانيا:
أن الوحدة بين تلك الأجناس في المدنية والعادات والعقلية الدينية غير موجودة بتاتا، فلا يحسن، والحالة هذه، تقرير محاكم واحدة لها جميعا؛ لا سيما أن الأسباب التي قضت بإيجاد نظام الامتيازات لا تزال موجودة كما كانت.
7
ولما كان هذان السببان لا يخرجان في الحقيقة عن أنهما مجرد تأكيدين، لا حجة تؤيدهما، انبرى رجال فرنساويون عديدون من أرباب التقنين والقانون إلى دحضهما وإبطالهما.
على أن الأمور كانت، أثناء كل هذه المباحث والمفاوضات العقيمة، تجرى مجراها حثيثا: فإن القضاة والمستشارين الواقع اختيار الحكومة المصرية عليهم، كانوا، بموافقة دولهم، قد أموا القطر المصري مقر وظائفهم الجديدة؛ واجتمعوا كلهم، ما عدا الفرنساويين، بالإسكندرية في الثلث الأخير من شهر يونية سنة 1875.
فاستدعاهم الخديو إلى الحفلة الحافلة التي عين لها يوم 28 منه؛ واستدعى إليها أيضا جميع قناصل الدول ومعتمديها ما عدا المعتمد الفرنساوي، فأسرع جمعهم وأم سراي رأس التين رسميا.
فاستقبل شريف باشا وزير الحقانية والتجارة وفودهم، وأكرم وفادتهم؛ ثم سار بهم إلى قاعة الاستقبال الكبرى حيث كان قد سبقهم الأمير (محمد توفيق باشا) ولي العهد ووزير الداخلية، ومنصور باشا صهر الخديو، وإسماعيل صديق باشا وزير المالية، ونخبة من كبار أرباب المناصب العليا، وما انتظم عقدهم فيها إلا ودخل عليهم (إسماعيل) مصحوبا برجال معيته السنية؛ فحياهم ببشاشته المعهودة، ثم خاطبهم قائلا:
يا حضرات السادة، إن تعضيد صاحب الجلالة السلطان الأعظم، مليكي الأكرم، ومضافرة الدول المريدة الخير، يمكناني من إقامة معاهد الإصلاح القضائي، وإجلاس المحاكم الجديدة على منصاتها، وإني لسعيد برؤيتي رجال القضاء المتفوقين الأكارم الذين أكل إليهم بوثوق تام عهده إحقاق الحق مجتمعين حولي؛ فإن المصالح كافة ستجد في أنوار معارفكم طمأنينة كاملة: فتقابل قراراتكم من الجميع بالاحترام والطاعة. إن هذا اليوم أيها السادة سيكون من أيام التاريخ المصري المعدودة؛ ولسوف يعد فاتحة عصر مدنية جديد، وإني لمقتنع أن مستقبل العمل العظيم الذي أنشأناه معا قد أصبح بعون الله تعالى أمرا مضمونا!
فرد شريف باشا على سموه باسم القضاء الجديد وكأنه لسان حاله، فرجا منه أن يقبل تهانئه على عمل الرقي العظيم الذي تم على يديه، وشعور شكر القضاة الجزيل على الثقة التي تفضل وعهد بمقتضاها إلى إخلاصهم مصالح البلد الكبرى ومستقبله، وأكد له أن الهيئة القضائية المصرية الجديدة تقدر مهمة إحقاق الحق التي عهد سموه بها إلى حكمتها وإخلاصها وشرفها حق قدرها، لاعتبارها إياها ميزة من أهم ميزات سلطته السامية، تفضل وخصها بها؛ وأنها تعد نفسها سعيدة أن مثل هذه الثقة الكريمة النبيلة قد وضعت فيها؛ فتستمد من أفكار سموه الصاعدة الممدنة ما تستعين به على القيام بمأموريتها الرفيعة، القيام الأمثل، مع تقديم عملها الفعال لإنجاح جهوده المثابرة؛ لأنها ستتطلع حتما إلى مجد نقش اسمها على صفحات قلوب الأجيال التالية، بأنها كانت ممن تم على أيديهم العمل العظيم المرتبطة سعادة مصر به، والذي يعتبر بلا ريب من أسنى مفاخر ملك سموه.
ورغم ذلك جميعه استمرت فرنسا على ممانعتها وترددها وامتناعها، وكتب وزير خارجيتها في أول يولية سنة 1875 إلى سفراء فرنسا لدى حكومات ألمانيا وإنجلترا والنمسا وإيطاليا وروسيا يبلغهم الخلاف ذا الشأن الخطير، على زعمه، القائم حديثا بين الحكومة الفرنساوية والحكومة المصرية؛ ويكلفهم باستطلاع آراء تلك الدول في موضوعه، فرأت الحكومات التي خابرها أن يؤجل فتح المحاكم إلى أول يناير سنة 1876؛ وأجاب (إسماعيل) أنه لا يأبى ذلك، فأخطر نوبار باشا المعتمدين الأجانب في 14 أكتوبر سنة 1875 بذلك التأجيل المطلوب؛ ورجا أن تتمكن الجمعية الأهلية العمومية الفرنساوية من المصادقة على الإصلاح في غضون المهلة الجديدة.
وفي 13 نوفمبر سنة 1875 رفعت الغرفة التجارية بمرسيليا إلى وزارة الخارجية الفرنساوية عرضا التمست فيه باسم أشهر المحلات التجارية في ذلك الثغر مبادرة الحكومة الفرنساوية إلى المصادقة على مشروع الإصلاح القضائي بمصر؛ وأرفقت بعرضها كتابا طلب تجار مرسيليا إليها رفعه إلى الخارجية وتقريرا إضافيا صادرا من الغرفة التجارية عينها تأييدا لالتماسها، ولكن فرنسا استمرت مع ذلك مقيمة على ترددها.
فلما رأت الحكومة المصرية منها ذلك، ووجدت أن استمرارها على تلك الخطة قد يؤدي إلى تأجيلات ومماطلات جديدة، أنذرتها بأنها ستقرر إقفال محكمتي التجارة الموجودتين بمصر والإسكندرية؛ فلا يعود للفرنساويين سبيل إلى مقاضاة الأهالي أو الأجانب على السواء في المواد التجارية مطلقا.
ومحكمتا التجارة بمصر والإسكندرية كانتا محكمتين مختصتين بالنظر في القضايا التجارية المرفوعة من الأجانب على الأهالي، وبالعكس، والمرفوعة من أجانب على أجانب غيرهم، وكانت كل منهما مشكلة من رئيس وطني قلما كان يدري شيئا من شئون التجارة أو قوانينها، ومن محلفين وطنيين، ومحلفين أجنبيين لا يدرون شيئا بالمرة من القوانين، ويحكمون في الغالب إما طبقا للبداهة والعادات، إذا كانوا نزهاء، وإما طبقا للأهواء، إذا كانوا ممن تلعب الرشوة بضمائرهم.
وكانت الأحكام الصادرة من إحدى المحكمتين تستأنف أمام الأخرى؛ فتتشكل هذه حينذاك من الرئيس عينه وأربعة محلفين وطنيين، وأربعة محلفين أجانب.
وكان لدى كل محكمة: مترجم وباشكاتب وكتاب ومحضرون معينون كلهم من لدن الحكومة المصرية، ويتقاضون رواتبهم منها متى تقاضوها. كذلك كانت وزارة الحقانية تعين أيضا رئيس كل محكمة من المحكمتين بالراتب الذي تراه.
ولا أدل على قلة مبالاة أولئك الرؤساء بالمهمة المعهودة إليهم مما رويناه عن علي شريف باشا وحصانه فيما سبق؛ كما أنه لا أدل على قلة درايتهم في الغالب من معرفة أن رئيس المحكمة التجارية بالإسكندرية، وقت ترتيب المحاكم المختلطة، كان ديمتري بك بشارة؛ في حين أن مترجمها، في بعض عهده، كان بطرس غالي باشا، الوزير المصري الشهير، الذي قتله الورداني في 20 يناير سنة 1910؛ والفرق بين مدارك الرجلين ومعارفهما وتفتق ذهنيهما كالفرق بين الليل والنهار! وأن سلف ديمتري بك المذكور كان رجلا تركيا يقال له: الألفي بك، يكاد لا يعرف القراءة.
وكان المحلفون في تينك المحكمتين ينتخبون من بين أربعة وعشرن تاجرا بمصر، ومن عدد أكبر من هذا بالإسكندرية، تكتب أسماؤهم في كشف تقدمه المحافظة إلى وزارة الحقانية؛ فتعين هذه اثني عشر منهم محلفين أصليين واثني عشر آخرين نوابا عنهم في حال غيابهم أو اعتذارهم. أما المحلفون الأجانب فكانت الحكومة تنتخبهم من بين عدة من وجهاء تجار الجاليات الغربية، تقدم القنصليات كشوفا بأسمائهم إلى الوزارة عينها.
وهذه هي القاعدة المتبعة الآن في المحاكم المختلطة في انتخاب المحلفين، سواء أكانوا من الأهالي أم من الأجانب؛ ولا شك في أنها من بقايا النظام القديم، والتعديل الوحيد الذي أدخل عليه هو أن التجار الواردة أسماؤهم في الكشوف هم الذين ينتخبون الآن المحلفين، والمحكمة التجارية المختلطة هي التي تصادق بعد ذلك على انتخابهم، لا الحكومة المصرية كما كان سابقا.
فلما وصل إنذار الحكومة المصرية إلى الخارجية الفرنساوية، وعلمت هذه من جهة أخرى أن امتناع فرنسا عن الموافقة، بعد موافقة باقي الدول، إنما يضر في الحقيقة بفرنسا والمصالح الفرنساوية وحدها دون غيرها، عرضت المسألة على الجمعية العمومية - وكانت لا تزال منعقدة - وطلبت إليها بت الرأي فيها.
فبالرغم من أن بعض الخطباء، من محبي الكلام لبهجته، وجدوا الفرصة سانجة ليغرقوا في إعجابهم بمفاخر فرنسا الماضية، وبما كان لها من الأهمية في المسائل الشرقية على الأخص في أيام فرنسيس الأول ولويس الرابع عشر، وليتذرعوا بذلك الإعجاب إلى الإصرار على رفض المشروع، بالرغم من أن فئة عديدة من نواب الأمة انضمت إلى أولئك الخطباء وقاومت المشروع مقاومة عنيفة، فإن أغلبية الجمعية العمومية رأت في نهاية الأمر وبعد جدال شديد أن تقرر الواقع وتصادق عليه، في أواخر ديسمبر سنة 1875.
فيتضح من تفصيلات ما ذكرنا أن أمر توحيد الشرائع والقوانين والمحاكم ليس من مبتكرات اليوم؛ وأن الحكومة المصرية قد رمت إليه منذ نيف وخمسين عاما، وكادت تبلغ بغيتها منه، بفضل اجتهاد الخديو (إسماعيل) ونوبار باشا وزيره الحكيم لولا معارضة الحكومتين التركية والفرنساوية، وحيلولتهما بينها وبين أمنياتها، وتمكنهما في نهاية الأمر من عدم إدخال الإصلاح إلا مبتورا: الشيء الذي قيد المستقبل في نصف دائرة الفوضى القضائية القديمة؛ وجعل مصر ترزح حتى يومنا هذا تحت ثقل التجاوزات الامتيازية الموجبة حتما ثقل تجاوزات قوانين الأحوال الشخصية.
فلما وافى أول يناير سنة 1876 افتتح رياض باشا - وكانت وزارة الحقانية المصرية قد عهدت إليه - عهد العدالة الجديد في القطر المصري، افتتاحا رسميا حقيقيا، بتقليده قضاة محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة وظائفهم، تقليدا علنيا، على أن يكون بدء أعمالهم في أول فبراير التالي، لكي تتمكن الحكومة الفرنساوية في هذه المهلة من الموافقة على القضاة الفرنساويين الذين يختارهم الخديو، ويتمكن هؤلاء من الوصول إلى مقر وظائفهم.
وما وافى الخامس عشر من شهر فبراير سنة 1876 إلا وكان كل القضاة في أماكنهم؛ وأخذت المحاكم الإصلاحية تقيم معالم العدالة على قاعدة القوانين الجديدة. غير أن القضاة الفرنساويين لم يحضروا إلا بعد ذلك ببرهة.
هكذا زالت آخر عقبة من السبيل المؤدي إلى الاستقلال، بزوال سلطة القنصليات الأجنبية المدنية من جانب السلطة المصرية المحلية؛ ولولا تعنت فرنسا وتصلبها، الذي لا مبرر له غير مخاوف سخيفة لا يأبه التاريخ لها، لزالت سلطة القنصليات عينها الجنائية أيضا ولباتت دولها القائمة في جسم دولتنا المصرية في خبر كان منذ نيف وخمسين سنة.
على أننا نستطيع أن نقول بحق إن (إسماعيل) بعد أن أزال سلطة شركة السويس التجاوزية على ضفاف القناة؛ وأبطل حقوقها المثقلة عواهن الحكومة المصرية بمقتضى الامتياز الممنوح من سلفه لتلك الشركة؛ بعد أن غير مجاري الوراثة، من الأرشد فالأرشد في أسرة (محمد علي) إلى الابن البكر فالابن البكر من ذريته؛ بعد أن أبدل صفه «الوالي» الحقيرة، التي كان يشترك فيها مع باقي ولاة الدولة العثمانية بلقب «خديو » الفخيم؛ بعد أن نال جميع الحقوق الملكية المناسبة لذلك اللقب الجديد، والتي أصبح بموجبها مستقلا تمام الاستقلال في بلاده، وحمل الحكومات الأجنبية على اعتماد تلك الحقوق اعتمادا دوليا؛ بعد أن أزال جزءا كبيرا من السلطة التجاوزية التشريعية والتنفيذية التي أوجبها في بلاده نظام الامتيازات الجائر؛ بعد أن نقل الحدود المصرية نحو الجنوب إلى ما يقرب من خمس عشرة درجة، ونحو الغرب والشرق إلى ما يقرب من درجة ونصف - وهو ما سنفصله في الباب الثالث التالي - أصبح محقا في أن يعتبر أن الخطة التي وضعها لنفسه لما ارتقى عرش أبيه وجده قد تحققت؛ وأنه بلغ في أول يوم من سنة 1876 أوج عزه وذروة مجده!
ولكي يكون آخر عمل يعمله في ذلك السبيل الذي وضعه لنفسه مشعرا بحقيقة مراميه، فإنه، في هذا اليوم عينه؛ أي: أول يناير سنة 1876، أمر باستبدال التاريخ القبطي المعمول به في دوائر الحكومة الرسمية بالتاريخ الغريغوري المعمول به في عموم الدول الغربية المتمدينة؛ كأنه يريد أن يفهم أوروبا وأمريكا معا أن مصر - منذ أن توج الإصلاح القضائي، على الطريقة الغربية، مساعي مليكها الحثيثة غير المنقطعة نحو إقامتها مستقلة في المركز اللائق بها في مصاف الدول - قد أصبحت في الواقع، لا في التعبير المجازي فقط، «قطعة من أوروبا» كما أكد هو نفسه.
الباب الثالث
تحقيق الشطر الثالث من الخطة المرسومة
أي العمل على النهوض بمصر إلى مصاف الدول العظمى
إجمال
إن لعظمة الدول ثلاثة مظاهر كبرى أجمعت على حقيقتها أفكار البشر:
المظهر الأول:
القوة المادية، واتساع السلطان بالفتوح والاستعمار.
المظهر الثاني:
أبهة الملك وجلاله، لا سيما في المواسم والأعياد.
المظهر الثالث:
العناية بالعلوم، ورفع شأنها وشأن القائمين برفع منارها، وتوسيع دائرتها. (فإسماعيل)، لكي يدرك غرضه الثالث، وأعني به إقامة مصر في مصاف الدول العظمى، لم يفتر لحظة، منذ أن جلس على العرش إلى أن أحاطت به المصاعب المالية، عن بذل أقصى جهوده في سبيل جعل بلاده تتجلى في ثياب تلك المظاهر الثلاثة، وتتحلى بحقيقتها، وهو ما سنبينه مفصلا في الفصول التالية.
الفصل الأول
القوة المادية واتساع السلطان بالفتح والاستعمار1
أيقنت أني ذو حفاظ ماجد
من نسل أملاك ذوي أتواج
جحدر بن ربيعة
أمام مصر - إذا ابتغت فخار الفتوح ومجد السلاح - ميدانان: الميدان الشرقي، من شماليه إلى جنوبيه، والميدان الجنوبي، من شرقيه إلى غربيه، فيمكنها تسيير أعلامها نحو بلاد فلسطين، واليهودية، وفينقية، والجليل، وسوريا، وتتجاوزها زحفا: إما إلى ما وراء جبال طورس من جهة، وإما إلى ما وراء الصحراء السورية من جهة أخرى، أو يمكنها أن تصعد بتلك الأعلام مجرى النيل من جهة، وتسير بها منصورة في بلاد النوبة تدوخها من غربيها إلى شرقيها، أو تجتاز بها القلزم من جهة أخرى، وتقيمها خافقة في سماء العز فوق ربى اليمن، وغيرها من البلاد العربية الجديرة بالاستعمار.
وتاريخ أيامها الماضية العسكرية، كلما اتقدت روح الفتح في صدور فراعنتها أو أمرائها أو خلفائها أو ملوكها وسلاطينها، إنما هو عبارة عن وثبها بجحافلها، وكتائبها وكراديسها إلى أحد ذينك الميدانين، أو إلى كليهما معا.
فبينما الأسرة الثانية عشرة الفرعونية - وهي بلا مكابرة خير أسرة جلست على العرش المصري القديم - وجهت وجهها على الأخص شطر الميدان الشرقي، وأقامت مظال سلطانها على فيافي شبه جزيرة سيناء وربوع فلسطين، قد تناولت مطامع الأسرة الثامنة عشرة المجيدة الميدانين معا، وسار فراعنتها؛ لا سيما (حاتاسو) - سميراميس وادي النيل - وطوطمس الثالث - إسكندر الأيام المصرية القديمة ونابوليونها - بجحافلهم المنصورة، تارة إلى ضفاف نهري الفرات والسدنس شمالا، وإلى اليمن السعيدة وبلاد حضرموت جنوبا، وطورا إلى أعماق النوبة، وما وراء الشلال الرابع. بل إن طوطمس الثالث لم يهب الفيافي الليبيبة، وولج بجنوده البواسل الميدان الغربي المخيف، وأخضع لسلطان أحكامه الحكيمة الأمم الوحشية القاطنة ما وراء تلك البيد بقدر ما كان يمكن في تلك الأيام، إخضاع قبائل تنتقل بخيامها ومظالها في شاسع أرجاء الصحاري الأفريقية لسلطة منظمة.
واقتفى فراعنة الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين خطوات أسلافهم الأماجد؛ فحارب إمزيس الثاني على ضفاف نهر العاصي (الأورنتيس) وفي ضواحي حلب، وقاتل رامزيس الثالث تحت قلاع رفح تارة، وأخرى عند خليج السلوم.
على أن عواهل مصر القدماء كانوا إلى التوسع في الميدان الشرقي أميل منهم إلى التوسع في الميدان الجنوبي: إما لأن البلاد الشرقية كانت معروفة لديهم أكثر من البلاد الجنوبية، وكانوا يعتقدونها أكثر من هذه ثروة وخيرات، وإما لأنهم - لتوقعهم منها شرا، لا سيما بعد غزوات شعوبها المختلفة التي قلبت السلطنة المصرية القديمة رأسا على عقب، وعادت فأغارت على الوادي الخصيب، وقوضت معالم الإمبراطورية المصرية الوسطى، وأقامت على عرش فراعنتها الأماجد الأسرتين الهكسوسيتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة - كانوا يرون الحرب الهجومية خير أنواع الحرب الدفاعية، وأجداها فائدة، وإما لأن بلاد الجنوب، بعد تزوج أحمس «المخلص» من الأميرة نفرتاري النوبية الجميلة، وريثة عرش نپاته، وانضمام بلادها إلى بلاد التاج المصري، وتلقب ابنها وولي عهدها «بأمير كوس» - وهو اللقب الذي أصبح ولي عهد الفرعونية المصرية يختص دائما به منذ ذلك الحين، كما اختص بلقب «أمير ويلز» ولي عهد المملكة الإنجليزية منذ أن ضم إدورد الأول البريطاني إمارة ويلز إلى أملاك عرشه - باتت معتبرة عضوا في الإمبراطورية المصرية، وجزءا متمما لكيانها، ولو أنها أنجبت فيما بعد ملوكا أصلهم مصري أغاروا على قطر أجدادهم وجلسوا على عرش عواهلهم.
لذلك، حينما استتبت أقدام الأسرة السادسة والعشرين على عرش القطرين، واتقدت روح الفتح في صدور أكابر فراعنتها، هب نيخاؤ إلى الاكتساح في الميدان الشرقي، بالرغم من أن رحلة عمارته المصرية الفينيقية حول القارة الأفريقية، واشتطاطها سواحلها كافة، من القلزم إلى رأس العشم بالخير، فإلي بوغاز جبل طارق أو «عمد هرقل» - كما كان يدعى ذلك البوغاز في تلك الأيام - فإلى ثغر پلوزا (الفرما)، كان من شأنها أن تفتح أمام مطامعه ميدانا يشبع اتساعه الشاسع كل جوع إلى الفتح ومجده، والاستعمار وفخره.
ولما آل العرش المصري إلى البطالسة، فإنما كان الميدان الشرقي مطمح أنظارهم ومجال جهودهم، وإنما كانت كتائبهم تسير إلى بطاحه لتبارز كتائب ملوك سوريا وغيرها.
كذلك كان ذلك الميدان عينه، بالرغم من وعورته، محط رحال فروسية الطولونيين المجيدين أحمد وخمارويه، والإخشيد، والفاطميين الساطعي الشهرة المعز والعزيز، ومن حذا حذوهما من خلفائهما، وصلاح الدين الأيوبي، البطل الأجل والسلطان الأكمل، وكبار أبطال السلاطين المماليك المصريين، من قطز وبيبرس البندقداري وقلاوون والناصر، إلى برقوق وبرسباي وقايتباي والغوري المنكود الحظ.
على أن الظلام الدامس الذي انسدلت سدوله على أقطار الميدان الجنوبي، منذ أن أضاعت مصرنا الأسيفة استقلالها على يد ذلك الظالم المجنون قمبيز الفارسي، كان يبرر إلى حد ما انصراف همم الجالسين على عرشها عن انتشارها فيه، لا سيما بعد أن ذاعت عنه الأنباء الخرافية التي روجها كتاب العرب وغيرهم، والتي جعلت المخيلات تتصوره أسود من الناس القاطنين فيه، ومفعما أهوالا تتضاءل أمامها أهوال «بحر الظلمات» الشهير.
ولما أرادت العناية الإلهية أن يئول زمام القطر المصري إلى يد (محمد علي) القديرة، وفتحت همة هذا النابغة المتفوق وعزيمته آفاق آمال جديدة أمام البلاد، فإن الجهود المصرية وجهت شطر الميدان الشرقي أولا، وسارت فيالق الفاتح الجديد تحت إمرة ولده طوسون، فإمرة ولده (إبراهيم) الهمام إلى البلاد العربية ترغم أنوف الوهابيين، وتحني جباههم أمام الجالس على عرش الأستانة. ولولا أنه تواترت الإشاعات عن وجود مناجم ذهب في مجاهل السودان لما فكر (محمد علي) في فتح أصقاعه، ولما شغل نفسه في تجهيز الحملات إليها، بالرغم من نزوح بقايا الأمراء المماليك الذين قضى عليهم إلى إقليم دنقلا، ورغبته في اجتثاث جرثومتهم ومحق أثرهم.
ومع ذلك، فإنه هو أيضا حينما اتضح له أن حكاية مناجم الذهب «حديث خرافة يا أم عمرو» حول مطامعه عن الميدان الجنوبي بالمرة، وأخذ يشرئب بها إلى ظروف تمكنه من تسيير ألويته إلى الميدان الشرقي المعتاد.
ولا غرو؛ فرجل مثله مغرم بالمجد والشهرة، رغاب في أن تتحدث بسيرته الركبان والألسنة، متحمس للإسكندر القائل وهو على ضفاف الهندس: «ألا كم أقاسي، لكي تمدحوني أيها الأثينيون!» وللبطالسة، المذكرته بمجدهم جزيرة فارو المتقدمة في البحر، شرقي سراية براس التين، رجل مثله، كثير الكلام عنهم، كأن مواطنته لهم توجب شيئا من القرابة والنسب بينهم وبينه، حتى لقد يروى عنه أنه سمع مرة بعضهم يحكي قصة عن المكدوني العظيم تأخذ بمجامع الانتباه والالتفات، فهتف بخيلاء قائلا: «وأنا أيضا من فيلپي!»
2
أي من بلد الإسكندر، رجل مثله يفتخر بأنه ولد في ذات السنة التي ولد نابليون فيها، ويتلذذ جدا لدى سماعه الغربيين يشبهونه به ويلقبونه «نابوليون الشرق»، رجل مثله نرانا - إذا سلمنا بمبدأ القائلين بتعدد الأعمار، وعود الإنسان بعد موته مرارا عديدة إلى الوجود الأرضي حتى يبلغ درجة الكمال، فينتقل حينئذ بدون رجعة أرضية إلى عالم أرقى من عالمنا هذا، وهو مبدأ البوذيين - نميل إلى التسليم فعلا بأنه قد يكون (بطليمس صوطر) أو (بطليمس فيلاذلفس) المجيدين، لأن ملكه كملكهما أعاد الحياة إلى مصر، واختط لها سبيل وجود جديد، ولأنه تحلى مثل كل منهما بمزايا رجولية باهرة، لا بد لها من جعل اسمه ممجدا كاسميهما على ممر الدهور، رجل مثله لم يكن ليرضيه إلا أن يسير أعلامه حيث سير أولئك الأماجد أعلامهم، وأن يجعل بلاد السود دون غيرها موطنا لشهرته، ومجالا لأعماله، فيهمل الميدان الشرقي الذي كان لا بد لفعاله فيه من الدوي في آذان عموم العالم المتمدين، وحمل أقوامه، مانحي الشهرة، وضافري أكاليل المجد الأبدية، وحدهم، على التحدث بها، وتعطير صفحات التاريخ المستقبل بشذا تكبيرهم إياها، وتعظيمهم البطل الذي تمت على يديه.
فمع استمراره على الرغبة في الجنوب، ليتخذ على الأخص من سوده جنودا للجيش الذي شرع ينشئه على النظام الأوروبي، لم يعر ميدانه أهمية كثيرة، وإنما أبقاه في قبضة يده؛ لأنه كان من طبيعته ضنينا بملك آل إليها أن ينفلت منها. ولم يكن اهتمام خليفتيه (عباس) و(سعيد) بذلك الميدان أكثر من اهتمامه، بل إن (سعيدا) - على ما رأينا - فكر وقتا ما بالتخلي عنه بالكلية.
فلما آل الأمر إلى (إسماعيل)، وكان قد عرف شيئا عن السودان أيام أن أخمد - وهو ولي العهد، وسردار الجيش المصري - الثورة التي أهاجتها بعض قبائل عربية على حدوده، نظر إلى الميدان الجنوبي بغير العين التي كان جميع أسلافه ينظرون إليه بها، وأدرك في الحال ما لم يدركه جده العظيم والفراعنة الكبار قبله، أنه الميدان الحقيقي الذي يحسن بمصر أن تنشر فيه جهودها الفاتحة الممدنة؛ لأنه الميدان الوحيد الذي لا يزاحمها أحد عليه، بل الميدان الوحيد المحتاج إلى عمل من الخارج يزيح عنه سدول الجهل والوحشية، وينشر فوقه أعلام العرفان والعمران.
فأجال نظره في أطرافه الشاسعة المترامية، وشخص مليا إلى بقاعه المتعددة المختلفة، الكثيرة الخيرات بالرغم من الفوضى السائدة عليها، المنتظرة الاستعمار، والطالبة النظام، لتزيد تلك الخيرات مائة ضعف، وتأمل فيما قد تئول إليه مصر من عز وسؤدد لو أتيح لها أن تتوغل، بحدودها الجنوبية، إلى الجنوب تباعا، وتمد ظل سلطانها بالتدريج من غربي ذلك الميدان إلى شرقيه، متقدمة ومصباح المدنية والعمران في يديها، فتقيم سلطنة عظيمة، تمتد من البحر الأبيض إلى خط الاستواء، ومن بحر القلزم إلى أقصى متاخمات الصحراء، سلطنة تتضاءل أمام اتساعها الذي لا حد له نفس الممالك العثمانية الشاهانية، ولا تضارعها فيه إلا دول معدودة على سطح البسيطة.
3
فوقع في خلده في الحال وجوب العمل على تحقيق هذه الأمنية الجلى، للفوز بمجد فذ لا يشاركه أحد فيه، ولرفع منار مصره، بصفتها ممدنة الجنوب أجمع، فوق منار كل دولة شرقية سواها، ومتى تحققت تلك الأمنية تماما، وأصبحت الخديوية المصرية ثابتة الأركان، من شمالي القارة الإفريقية إلى أواسطها، يمتد سلطانها على واحد وثلاثين درجة من خطوط العرض، وعشر درجات من خطوط الطول، من يدري ماذا يمكن لها حينئذ أن تعمل من الأعمال في مسرح العظمة البشرية، وماذا يمكن لها أن تنال من التحقيقات في ميدان آمالها القومية، وماذا يكون مآل علاقاتها بتركيا، الزاعمة حق السيادة عليها؟!
وكان حكمدار عموم السودان حينما ارتقى (إسماعيل) عرش جده موسى باشا حمدي، وهو رجل مشهور، قمع عدة ثورات محلية في كردوفان وتقلى، وسن قوانين جديدة لجمع الضرائب، فأعطى كل فلاح «سركيا» بيده، ليدفع ما جعل عليه من الأموال على ثلاثة أقساط معينة في السنة، فكلما دفع قسطا قيد له في «سركيه»، قيده في يومية الصراف، وجعل من الأهالي نظار أقسام ومعاونين، وأمرهم فلبسوا الملابس العثمانية، فحسنت بذلك الحال، وسهل تحصيل الأموال، فأصبح اسمه معروفا في البلاد، وشخصه محبوبا من العباد، فأنعم (إسماعيل) عليه برتبة فريق، واستدعاه إليه ليوقفه على حال تلك الديار، فذهب موسى باشا إلى مصر في 10 يولية سنة 1863، وأدى واجب الشكر لمولاه على النعمة التي أسبغها عليه، ثم أوقفه على حقيقة حال الجنوب، وعاد مزودا منه بتعليمات إلى الخرطوم، فأخذ يزيد عدد جنده هناك حتى بلغ الثلاثين ألفا من نظامية وباشبوزق، وسار بالبلاد على أحسن نظام، ممهدا السبل لتحقيق مرامي مولاه، جامعا القلوب على حب أحكامه.
وكان على جبال تقلى، في أيام موسى باشا، ملك يقال له «ناصر» اشتهر بالقسوة والوحشية، فكان إذا غضب على شخص وضعه عاريا مكتوفا على حجر محمي حتى يموت. ويحكى أن صائغا من صاغة الأبيض سمع بقسوته، وهو يذيب فضة على النار، فلما سالت قال: «حق هذا السائل أن يصب في أنف الملك ناصر، جزاء قسوته وظلمه.» فبلغ الخبر الملك ناصرا، فعزم على الإيقاع به، وأركن إلى الحيلة، فأرسل إليه أربع جوار هدية، وسأله أن يحضر مع الرسول إلى الجبل ليصوغ بعض الحلي لنسائه، ووعده بمكافأة جليلة، فذهب الصائغ فأعطاه بعض الفضة والذهب فصاغها له، ثم أعطاه فضة وسأله أن يذيبها على النار، ولما سالت قال له: «أتذكر أنك اشتهيت مرة في الأبيض أن يصب مثل هذا السائل في أنفي؟» فسكت الصائغ وألجم لسانه، فأمر ناصر بعض العبيد فقيدوه، ثم أخذ الفضة وصبها في أنفه وهي محماة، فتورم دماغه، ومات لساعته، ولكنه ما لبث أن وقع خلاف بين ناصر وابن عم له اسمه آدم دبال، ولما كان أهل ناصر قد سئموه لكثرة ظلمه وقسوته، نصروا ابن عمه عليه، ففر بعائلته إلى موسى باشا في الخرطوم، فأرسله إلى (إسماعيل) بمصر.
ووقع في تلك الأثناء، في بادية كردوفان، حرب شديدة بين عربان حمر وقائدهم الشيخ مكي ود المنعم، وبين عربان الكبابيش، وقائدهم الشيخ فضل الله ود سالم، اشتهرت بحرب «العقال»؛ لأن كلا الفريقين جمع رجاله وأولاده إلى ساحة الحرب ، وعقل الإبل، وعول على النصر أو الموت، وتقاتلا طويلا، مستقتلين، فانتصر الحمر، وغنموا نحاس الكبابيش وأموالهم.
وفي أواخر أيام موسى باشا ثار الجهادية السود في كسلا ثورة أدت إلى سفك دماء كثيرة، واستغرقت عدة شهور، وكان السبب فيها سوء إدارة القواد، وتأخرهم عن دفع مرتبات الجند. وتفصيل ذلك أنه كان في استحكام كسلا آلاي فيه نحو أربعة آلاف من الجهادية السود، ومعهم نحو ألف نفر من الباشبوزق الأتراك والشايقية، وكان المدير على البلد إبراهيم أدهم بك، فخطر له في مارس سنة 1865 أن يرسل غزوة على جبال البارية والبازة، فأصدر أمره لأورطة من الجهادية، وبعض الباشبوزق بالتأهب لها، فرفضوا الأمر وقالوا: «لا نسافر حتى نقبض المتأخر من رواتبنا.» فلما بلغ قولهم قومندان الأورطة، واسمه خطاب أفندي، غضب وقال: «أأصبح للعبيد شأن يعصون به الأمر؟ فوالله لأسوقنهم للغزوة بالسياط.» فازداد السود تصلبا وعنادا، ولما جاء الميعاد المضروب خرجوا من الاستحكام، ووقفوا عند الباب المسمى باب سبدرات «طابورا»، وجمعوا أسلحتهم أمامهم كوما، وأرسلوا يخبرون قومندانهم أنهم لا ينتقلون من مكانهم حتى يقبضوا رواتبهم بتمامها، وإن كان لم يزل ينوي تنفيذ أمره بالسياط - كما قال - فليفعل، فجاءهم خطاب أفندي على جواده، ونادى بهم «سلاح آل»، فهجموا عليه، وأوسعوه شتما وضربا بالعصي، ونساؤهم من ورائهم يشجعنهم ويزغردن لهم، فلجأ خطاب أفندي إلى الفرار، وأخبر المدير بما كان، فاهتم للأمر، وخشي امتداد الثورة إلى الآلاي كله، وكانت الذخيرة بيد ملازم منهم، فأخرجها من يده، وسلمها إلى ضابط من ضباط الباشبوزق الأتراك، وجمع التجار المغاربة وأهل البلد، فسلحهم وضمهم إلى الباشبوزق، وفرقهم على أبراج السور.
أما العصاة فإنهم حملوا سلاحهم، وساروا في وجوههم نحو سبدرات، وكان قومندانهم قد وجه إليها بعض العسكر الباشبوزق بمدفعين، وستين صندوقا ذخيرة محملة على ثلاثين جملا ليتقدموا الغزوة، فأدركهم العصاة في الطريق، واستولوا على الذخيرة والمدفعين بعد أن فتكوا بالعساكر، وضربوا قائدهم السرسواري سعيد أغا أبا فلقة، فأثخنوه وتركوه بين حي وميت، ونزلوا في سبدرات.
فعقد المدير ناديا من الضباط والتجار والأعيان للنظر في أمر الأورطة، فأقروا على أن يرسلوا إليهم رواتبهم المتأخرة، ويتداركوا أمرهم بالتي هي أحسن، حتى تطمئن نفوسهم، ثم ينفذون فيهم رأيهم، ففعلوا. وكان في كسلا إذ ذاك الأستاذ السيد الحسن ابن الأستاذ السيد محمد المرغني، مؤسس الطريقة المرغنية في السودان، فتكفل بالأمر فحملت النقود له، فذهب بها إلى سبدرات، ووزعها على العصاة بالتساوي، فأصاب كل منهم أربعة ريالات، ثم عنفهم على مسلكهم، وطلب إليهم أن يرجعوا إلى كسلا فرضوا على أن يكون غير خطاب أفندي قومندانا عليهم، فعاد الأستاذ إلى كسلا وأخبر المدير بما كان، فأرسل إليهم عثمان بك قائمقام العساكر ليقودهم، ويغزو بهم الجبال، فقابلوه بالطاعة، وساروا معه في الغزوة، فأقاموا فيها ثلاثة أشهر، وعاد بهم إلى كسلا.
وكان المدير قد كتب في أثناء ذلك إلى اللواء حسن باشا في الخرطوم يخبره بما حدث، فأرسل حسن باشا الميرالاي عليا أبا ودان بك لاستلام قيادة الآلاي، ثم حضر بنفسه على الأثر للنظر في الأمر، فوصل كسلا قبل رجوع الأورطة بشهر. فلما حضرت عقد مجلسا سريا للنظر في أمرها، فاتفق الرأي على أن يوزعوا العساكر على عربان الهدندوة، بحجة جمع الضرائب، ثم يأمروا العربان بالقبض عليهم. فصدر الأمر للأورطة فخرجت إلى الميت كناب بقيادة الميرالاي علي أبو ودان بك، وأمر علي بك ضباطها - وكان أكثرهم من المصريين - بالتفرق بين القبائل لجمع الضرائب، فأدرك العساكر أن في الأمر دسيسة، ورفضوا السفر، ولما أغلظ لهم الضباط في الكلام هجموا عليهم، وقتلوا أكثرهم، وانتشروا في البلدة فنهبوها، وانقلبوا راجعين إلى كسلا.
أما علي أبو ودان بك، فإنه نجا منهم بكل مشقة، وخف إلى كسلا، فوصلها قبلهم، وأخبر اللواء والمدير بما كان. فبعد أن فارقا منزليهما داخل الثكنة، ودخلا ديوان المديرية بعائلتيهما، أخذا يستعدان لملاقاة العصاة. وكان السرسواري سعيد أغا قد شفيت جراحه، فأمراه بالمحافظة على الذخيرة مع عساكره، وجمعا الأسلحة من الأورط الثلاث الباقية في كسلا ووضعاها في الثكنة بدلا من وضعها في خزينة السلاح، وأدخلا الشايقية الباشبوزق داخل السور، وضماهم إلى المغاربة وغيرهم من سكان المدينة، وفرقاهم على الأبراج، وأمراهم بضرب عساكر الأورطة عند وصولها.
وفي صباح 5 يولية سنة 1865 حضرت الأورطة، سائرة بانتظام عسكري، فأمر اللواء والمدير بعدم التعرض لها، ودخلا ديوان المديرية، فتحصنا فيه، فلما اقترب العصاة من باب الجنائن أطلق عليهم البلوكباشي محمد أغا المردلي عيارا ناريا على خلاف الأمر، فقتل منهم شاويشا وقال: «هذا ثأر ابن عمي الذي قتل يوم الثورة عند سلب الذخيرة.» ثم أطلق عيارا ناريا آخر فقتل أومباشيا، فهاج عساكر الأورطة إذ ذاك، ودخلوا القشلاق، وكان فيه الضباط المصريون وعدتهم ستة وعشرون، فقتلوهم عن آخرهم. أما خطاب أفندي فبعد أن قتلوه وضعوا عليه يبيسا وأحرقوه بالنار.
ثم اجتمعت عليهم الأورط الثلاث الباقية، وتعصبت للجنسية ضد الأتراك والعرب، وكسر رجالها أبواب الغرف التي وضع فيها سلاحهم، فأخذوه، وتحصنوا في الثكنة، وفتحوا فيها المزاغل وقطعوا السابلة، وانتشر أكثرهم في البيوت، ينهبون ويسلبون.
وكان السيد حسن المرغني قد ذهب إلى «سبدرات»، فأرسل إليه المدير يدعوه، فحضر في اليوم التالي (6 يولية) إلى «حلة الخلانقة» غربي «الاستحكام»، وكتب إلى العصاة يسألهم الكف عن الحرب، وسلم الكتاب إلى أحد خلفائه، فرفعه على قصبة، ودخل به الاستحكام، وهو ينادي: «جاءكم كتاب السيد الحسن!» فتلقاه العصاة بالقبول، وكفوا عن الحرب، ثم دخل الأستاذ فهرعوا إليه يقبلون يديه - يا لقوة المؤثرات الأدبية! - وشكوا إليه أمرهم، فوعدهم بالراحة.
ثم ذهب إلى اللواء والمدير وعقد مجلسا للنظر في تسكين الفتنة، فقر الرأي المرة الثانية على استخدام العربان للقبض على السود - وكان رأيا سخيفا! - فجمعوا جموعا كثيرة من خيالة وقرابة من «الهدندوة» و«الخلانقة» وعرب سبدرات والجادين وبني عامر، ووضعوهم في الخاتمية، ثم ذهب السيد الحسن إلى العصاة، وقال لهم: «قد اتفق الرأي على أن تخرجوا من الاستحكام بجميع أمتعتكم، وتذهبوا إلى حيث تشاءون.»
فشعر السود أن في الأمر مكيدة كالتي كيدت لهم في الميت كناب، فأبوا أن يخرجوا إلا إذا أعطي كل منهم 12 طلقة من الذخيرة (الجبخانة)، ليحموا بها أنفسهم إذا غدر بهم، فاتفق رأي الجميع على إجابة طلبهم - وربما رأوا أن في ذلك نجاة لهم من آفتين: آفة السود، وآفة العربان. ولكن سعيد أغا أبا فلقة المولج في حفظ الذخيرة، وصاحب الثار على العصاة، رفض الرأي بتاتا، وقال: «إني لا أعترف بسلطة أحد منكم علي، وأحسب نفسي مسئولا عن الجبخانة عند أفندينا رأسا.» فأجابه المدير واللواء: «إذا نحن لم نعطهم القدر القليل الذي طلبوه من الجبخانة، فلا حيلة لنا في القبض عليهم، بل نخشى أن يهاجموك فيقتلوك أنت ورجالك، ويستولوا على الذخيرة كلها، فبقي أن نختار أهون الشرين، ونعطيهم ما سألوه، ثم ننظر رأينا فيهم.»
قال سعيد أغا: «أأهون الشرين تختارون في تسليمكم جبخانة الحكومة إلى عصاة خونة تمردوا عليها وقتلوا الجم الغفير من رجالها؟ أفي الدنيا شر أعظم من أن يظهر رجال العسكرية الجبن أمام العبيد أولاد الجواري، فيسلموا لهم بمطالب ما أنزل الله بها من سلطان، ويعطوهم الجبخانة ليستخدموها في حربهم؟ أليس الأجدر بنا أن ندعوهم إلى الطاعة، فإن أبوا حاربناهم حتى نفوز أو نموت مشرفين؟ ومع ذلك فاختاروا أنتم لأنفسكم ما تشاءون، أما أنا فقد اخترت الموت على التسليم بمطالب هؤلاء الأجلاف، وإذا هاجموني في محلي وعجزت عن صدهم فإني أركب برميلا من البارود، وأشعل النار في الجبخانة كلها، فأقتل نفسي ولا أمكنهم من طلقة واحدة منها.»
وبلغ العصاة هذا القول، فتركوا السفر، وانقسموا أربع فرق حسب أجناسهم: الدنكة، والفور، والنوبة، والمولدين؛ فتولى كل فرقة رئيس منهم، وانتشروا في البندر ينهبون ويسلبون، ونزلت فرقة الدنكة على منزل رجل اسمه الحاج أحمد ود عجيب - وكان فيه مطمورة غلة - فقتلوا الحاج أحمد وأخاه، وتقدموا إلى باب المطمورة لإخراج الغلة، وكان للحاج أحمد بنت تسمى آمنة، فلما رأت أباها وعمها مقتولين هان عليها الموت، فأخذت سيفا ووقفت في الباب، فصدتهم عن الدخول، وقتلت خمسة منهم، فتسلقوا السقف ونقبوه ونزلوا إليها، فقتلوها وأخذوا الغلة.
وكان المدير قد أرسل يطلب المدد من الخرطوم - وكان الحكمدار العام موسى باشا قد توفي فيها منذ بضعة أشهر، وقام بشئون الأحكام مكانه عمر فخري بك - فرفع عمر هذا الخبر إلى (إسماعيل) بمصر، فاهتم (إسماعيل) بالأمر حق الاهتمام، وبعث جعفر باشا صادق واليا على السودان، فذهب إليه عن طريق كروسكو، واتخذ جعفر باشا مظهر وكيلا له، وأرسله بجيش ومدفعين إلى كسلا عن طريق سواكن لإخماد الثورة، وبعث بالأوامر المشددة إلى فخري بك ليبادر إلى إرسال النجدات من حاميات البلاد حتى يصل مدد مصر.
وكان أول من وصل كسلا، مددا، السرسواري علي كاشف الكردي، ومعه أربعمائة رجل من الباشبوزق، وجاءها من القضارف في أواخر يولية سنة 1865، ونزل في ديوان المديرية. وبعد أن وصل ببضعة أيام خرج أحد رجاله بجمله ليرعاه، فلقيه جماعة من السود المتمردين، فسلبوه جمله وسلاحه وذخيرته، فعاد إلى علي كاشف شاكيا، فغضب علي كاشف، وضرب طبل الحرب، وتهيأ للقتال، وكان السيد حسن المرغني لا يزال مقيما داخل الاستحكام، فأتى إليه وسكن غضبه، وتكفل له برد الجمل والسلاح، ثم ذهب إلى العصاة وتلطف لهم، فردوا الجمل والسلاح، ولكنهم أنكروا أنهم أخذوا شيئا من الذخيرة، فصمم علي كاشف رأيه على استرجاعها، ولما لم يردوها خرج إليهم ليلا في ضوء القمر، وأشعل فيهم النار، فقابلوه بالمثل. ولما ثقل عليه الرصاص عاد إلى ديوان المديرية وتحصن فيه، وفي اليوم التالي فتح السود المزاغل في الثكنة والمنازل التي في جواره، وأخذوا يرمون المارة بالرصاص، فقطعوا السابلة، وحبسوا الناس في منازلهم مدة ستة وعشرين يوما، حتى حضر آدم بك من واد مدني، فالخرطوم، فبربر، بمدد من الجنود المنظمة، والباشبوزق، فكفوا عن الحرب.
وكان آدم بك من أعظم ضباط الجيش المنظم، وقد تربى في مصر ورافق (إبراهيم) الهمام إلى سوريا، فاشتهر بالبسالة والدربة وحسن السياسة، وكان (إسماعيل) يعرفه، فلما بلغه أنه ندب إلى كسلا كتب إليه بالتركية بتاريخ 22 سبتمبر سنة 1865 ينبؤه بإرسال قوة بقيادة وكيل الحكمدارية، ويبلغه ثقته من أن يتمكن هو وذلك الوكيل من إخماد الثورة، ويزوده بتعليمات تقضي باستعمال الشدة مع العصاة وتعقبهم وقتلهم أو أسرهم، وختم كتابه بالجملة التالية: «وإني أعلم بسالتك وحسن سياستك منذ كنت مع المرحوم والدنا في سوريا، فحقق آمالنا بك، وعند انتهاء الثورة احضر إلى مصر، والسلام.»
فلما وصل آدم بك إلى كسلا، أنزل جنده خارج السور تجاه الباب الشرقي، وأخذ بروجية وبلطجية، وذهب رأسا إلى الثكنة حيث يقيم العصاة، فأمر البروجي فضرب «نوبة جمعية ضباط»، ولما اجتمع الضباط عليه خاطبهم آدم بك قائلا: «يا أولادي! ما هذا التمرد والعصيان اللذان جاهرتم بهما؟ ألستم أولاد أفندينا الذي شرفكم بخدمته، وأجرى لكم الرزق والخيرات السنين الطوال؟ أيحسن بكم أن تعصوه وتنتقضوا على حكومته، وهو قد عهد إليكم تأييد سلطته في البلاد؟ نعم إنكم مظلومون لعدم أخذكم رواتبكم في أوقاتها، ولكم أن ترفعوا أصواتكم بالشكوى، ولكنكم خرجتم عن حد الشكوى، ووسعتم الخرق، ومع هذا فإني أرجو إصلاح الأمر، وأخذ العفو لكم من ولي النعم، فإذا سألوكم بعد الآن فقولوا إنا لم نجد ضابطا عظيما من أبناء جنسنا نرفع إليه شكوانا ليبلغها إلى ولي نعمتنا، فكان منا ما كان. وأريد منكم الآن أن تخرجوا خارج السور، فتقيموا بين جبل مكرام وجبل كسلا حتى يصل إليكم العفو، ولا تغتروا بقوتكم وكثرة جموعكم فإن «يد الميري طويلة»، فها أنا قد جئت بجيش من العساكر السود والباشبوزق، وجاء قبلي جيش آخر، والمدد آت في الطريق من كردوفان وسنار وبربر ومصر، فإذا تماديتم في العصيان، فإنهم يجتمعون عليكم، ويقتلونكم شر قتلة، فاقبلوا النصح وسلموا أمركم إلي، وأنا أدبركم بحكمتي ومروءتي.»
ومع أن آدم بك كان عربي الجنس، أبوه محمد ضو البيت شيخ عربان دار حامد بكردوفان، إلا أنه كان شديد السمرة جدا، وعارفا بأخلاق السود، حتى كان يظن أنه منهم، فاستأنس ضباط العصاة به، واطمأنوا لكلامه، خصوصا لأنه خاطبهم كأب، فامتثلوا أمره، وخرجوا من الثكنة بجنودهم إلى المكان الذي عينه لهم خارج السور.
وبعد وصول آدم بك بأربعة أيام حضر الصاري ششمه عبد الله باشا من الخرطوم وبربر ومعه ثلاثة أرادي من الباشبوزق، وعسكر خارج السور، فعقد اللواء حسن باشا مجلسا في ديوان المديرية مع عبد الله باشا هذا والمدير وآدم بك وسائر الضباط والسناجق، للنظر في شأن العصاة، فقر رأيهم على تجريدهم من السلاح، ووكلوا تنفيذ قرارهم لآدم بك، فنفذه، وسلمه العصاة سلاحهم عن رضى، ثم عقد الضباط مجلسا آخر للنظر فيما يفعلونه بعد، فكان رأي الأكثرية على قتلهم، فأنكر آدم بك هذا الرأي، وقال: «إني حلفت لهم بشرفي أنه لا يقع عليهم حكم إلا إذا صدق أفندينا عليه، وعلى هذا سلموني سلاحهم، فالآن نرفع الأمر إلى أفندينا، والذي يأمر به نفعله.»
فأخذ المجلس برأيه، ولكنه أقر على شد وثاقهم إلى أن يأتي الرد بشأنهم من مصر، فأمروا عساكر الباشبوزق فركبوا خيولهم، واحتاطوا بهم من كل جانب، وأخذوا حبالا من المخازن، وشرعوا في تقييدهم، وإدخالهم في الثكنة، جماعة بعد جماعة، وإنهم لكذلك، وإذا ببلوكباشي من الباشبوزق اختطف بنتا من يد شاويش من الآلاي ليتمكن من تقييده، فبكت البنت، فسأله أبوها أن يتركها وشأنها، فشتمه البلوكباشي، ورفسه برجله - آه من تعسف أولئك الباشبوزق! - فأخرج الأسود سكينا من كمه، وطعن البلوكباشي فقتله، وهاج السود كلهم، فأمر عبد الله باشا الباشبوزق فأطلقوا الرصاص عليهم، فقتلوا أكثرهم، وهم لا يستطيعون عن أنفسهم دفاعا، وقبضوا على الباقين قبض اليد، وزجوهم في السجن.
ثم لم يكن إلا القليل حتى حضر جعفر باشا مظهر وكيل الحكمدارية بجنده، وحقق أسباب الثورة، وكان صاغ يقال له محمد أفندي أبو خطلك قد كشف عن حظه في الرمل، فقيل له إنه إذا بقي مع المدير مات شنقا، فانضم إلى العصاة، وذلك قبل مجيء آدم بك من الخرطوم بيومين، فأمر جعفر باشا بشنقه فشنق - وهكذا قضى عليه جهله وتصديقه بكلام المنجمين! - ثم شنق بعده يوزباشي اسمه بشير أغا السوداني، وكان قد اتحد مع العصاة بعد رجوعهم من الميت كناب، أما المتمردون الآخرون الذين سلموا من القتل في حادثة البلوكباشي فإن جعفر باشا جعلهم ثلاث فئات؛ فجعل الذين بدأوا بالثورة مع خطاب أفندي ثم عصوا في الميت كناب فئة أولى، والذين عصوا بعد رجوع الفئة الأولى من الميت كناب فئة ثانية، والذين كانوا متغيبين في الجهات خارج البندر، أو الذين كانوا فيه ولم يظهروا العصيان فئة ثالثة. فحكم على رجال الفئة الأولى بالإعدام، فأوثقوهم وصفوهم على خندق حفروه لهم في سفح جبل مكراه، وضربوهم بالرصاص، فسقطوا في الخندق، ثم ردموا الخندق، فكان من الردم تل ظاهر. وحكم على رجال الفئة الثانية بالحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة، فاستخدموهم أولا في بناء المنازل التي خربوها. وأما رجال الفئة الثالثة فنظم منهم ثلاثة بلوكات، وأبقاهم في المديرية.
وأما المدير إبراهيم بك أدهم، فكان قد توفي قبل وصول جعفر باشا إلى كسلا بأيام قليلة، وكانت وفاته بغتة، حتى قيل إنه شرب سما ليتخلص من الإهانة والعقاب. وتوفي بعده عبد الله باشا الصاري ششمه، ثم عثمان بك الذي خلف خطاب أفندي على قومندانية المتمردين، وكان اللواء حسن باشا قد أصيب بإسهال قبل وصول جعفر باشا إلى كسلا، فتوفي بعد وصوله بأيام قليلة. وهكذا انتهت ثورة الجند السود في كسلا، بعد أن جرت الخراب على أهلها، وضاع فيها الكثير من النفوس والأموال، ولم تكتف بهذا، بل جرت وراءها ذيلا؛ أي حمى وبائية نجمت عن فساد الهواء لكثرة القتلى، فمات بها خلق كثير.
4
وعاد جعفر باشا مظهر بعد ذلك إلى الخرطوم، وذهب آدم بك إلى مصر طوعا للأمر، فأنعم عليه (إسماعيل) برتبة اللواء، وبالنيشان المجيدي الثاني، ولما كان جعفر باشا صادق قد أصيب بمرض، وقفل عائدا إلى مصر، سمى الخديو جعفر باشا مظهر حاكما عاما للسودان مكانه، مكافأة له على إخلاصه في خدمته (5 مارس سنة 1866). فجمع جعفر باشا العساكر السودانية من التاكة وواد مدني وكردوفان وغيرها، وأرسلهم إلى مصر، وأتى بعساكر مصرية عوضا عنهم.
وكان (إسماعيل) - مذ نظر إلى الميدان الجنوبي نظرته الثاقبة التي ذكرناها، ووطن عزمه على جعله مجال جهوده - قد رأى في الحال: (أولا) أن إبقاء أعلام الدولة العثمانية خافقة على جانب لا يستهان به من سواحل بحر القلزم قد يكون من أكبر العقبات في سبيل تحقيق مراميه، وقد يجر إلى مشاكل مع تلك الدولة في غير الوقت المناسب، ويحسن بمصر اجتنابها بالكلية.
فأقبل يبذل المرغبات المالية لتركيا في التنازل له عن ممتلكاتها هناك، مؤكدا لها في الوقت عينه أن تنازلها له عنها - وهو التابع المخلص لها - لن يخرجها في الحقيقة عن حوزتها، ويكون أقرب إلى «معمورية» تلك الممتلكات عينها، بسبب قربها من مصر وبعد تركيا عنها، وهي «المعمورية» التي تهم الباب العالي فوق كل شيء، كتأكيده، حتى تمكن في نهاية الأمر من حمل الأستانة على إصدار فرمان في شهر مايو سنة 1865 تنازل السلطان بموجبه له عن سواكن ومصوع وتوابعهما مقابل سبعة آلاف وخمسمائة كيس؛ أي سبعة وثلاثين ألفا وخمسمائة جنيه مصري، يدفعها سنويا إلى صندق ولاية جدة لتعمير الطريق الموصل إلى مسجد الله الحرام، والقيام بشئون بيت الله، ومع أن ذلك الفرمان قضى بأن التنازل للخديو دون ذريته وخلفائه، فإن (إسماعيل) لم ييأس من جعله وراثيا في المستقبل.
5
ورأى (ثانيا) أنه سواء أنجح في نزع أعلام الدولة العثمانية عن شواطئ القلزم وإحلال أعلامه المصرية محلها بطريقة سلمية أم لم ينجح، لا بد له من إصلاح جنديته وبحريته إصلاحا كليا يجعلهما كفئين لمقابلة الطوارئ، ولم تكن ثورة السود في كسلا التي روينا أخبارها، واضطراب الأحوال في السودان، الاضطراب البادية مظاهره عيانا في حادثة الملك ناصر وفي حرب «العقال» السابق ذكرهما، وفي حوادث أخرى كثيرة سنأتي على بيانها في حينه، إلا ليزيداه يقينا في وجوب إجراء ذلك الإصلاح، وثباتا على السير في سبيله.
وكان التجنيد بمصر، لغاية ما اختمرت فكرته في دماغ (محمد علي)، آفة مجهولة، وإنما ندعوه «آفة»، لا لأنه «آفة» في الحقيقة، فإنا وإن كنا ممن يكرهون الجند القائم، ويعدونه ضربة على حياة البلاد الاقتصادية - وطالما كان في الواقع ضربة على الزراعة، لا سيما في أيامه الأولى، ولغاية أواخر القرن الماضي - وكنا ممن يعتبرونه داعيا إلى تيقظ نيران الأطماع في قلوب رؤساء الأمم، بل في قلوب الأمم عينها، وحاملا لها على إشهار الحروب، وشن الغارات على من هو دونها بأسا وقوة، كما دلت الحرب الأخيرة عليه، إلا أننا لا نغفل عما في نظام الجندية من مزايا ومنافع مادية وأدبية، لا سيما في البلاد المتعددة الأجناس والملل والنحل، فإنه لو لم ينجم عنه في مثل هذه البلاد من الفوائد سوى إيجاد رباط أخوة بين أفراد تلك الأجناس والنحل والملل لكفى، فكيف وهو مدرسة تمارين رياضية مقوية للأجسام، وتمارين معنوية مدربة للأرواح، ومغذية لها بألبان فضائل فردية كالهمة والنشاط والترتيب؛ واجتماعية كتضحية الأنانية، وكالمروءة، واحترام القوانين، والولاء للوطن وحبه، وهلم جرا. ولكنا دعوناه «آفة»، لأن العقلية المصرية كانت تعده كذلك في أول نشأة نظامه، ولا تزال في ذات عصرنا هذا تعتبره كذلك إلى حد ما.
وربما التمس لها عذر في السابق، ولو أنه لا عذر لها الآن؛ فإن طرق التجنيد ومغبته في بادئ أمره كان من شأنهما إظهاره في مظهر الشيء الكريه جدا أمام أعين الفلاحين، فإن (محمد علي) حاول أولا إيجاد جند من السود، فأخذ يبث البعثات العسكرية في السودان لاقتناصهم، والإتيان بهم إلى أسوان حيث أقام الكولونيل سيڨ، المعروف فيما بعد باسم «سليمان باشا الفرنساوي»، في انتظارهم، ليدربهم ويعلمهم، ويكون منهم جيشا نظاميا مؤلفا على الطريقة الغربية البونابرتية، ولكنه لم يفلح؛ لأن معظم أولئك السود كانوا يهلكون أولا فأولا: إما بسبب المشاق التي كانوا يتحملونها أثناء المجيء بهم من بلادهم، وسوء تأثيرها على صحتهم، وإما بسبب عدم اعتياد طقس مصر، وتغير المناخ عليهم.
فحاول (محمد علي) إذا تكوين جيش نظامي من مماليكه الخاصة وأتباعه المخلصين له، ولكنه لم يفلح أيضا لداعي حقدهم على معلمهم الفرنساوي، ونفورهم من التعلم على يديه نفورا ذهب بأحدهم إلى محاولة الفتك به. فإن سيڨ كان يوما يعلمهم الرماية بالبنادق، فما كان من ذلك الواحد إلا أنه صوب بندقيته نحوه وأطلقها عليه، فمرت الرصاصة بالقرب من جبهته، وذهبت بجزء من قبعته، وهو واقف لا يبدي حراكا، مع علمه أنه مرمى بندقية ذلك المملوك، وبالرغم من أن عينه كانت في عينه، ولكنه بعد أن أظهر للجميع شجاعته، وعدم مبالاته بالموت على تلك الكيفية وثب على المملوك واغتصب بندقيته منه بعنف، ووقف مكانه في الصف وصوبها إلى المرمى وأطلقها، فأصابته في وسطه، فرد حينئذ البندقية إلى الرجل وقال له بانفعال: «هكذا تكون الرماية يا حمار! فتعلم.»
6
فطرب المماليك لشجاعة الفرنساوي الجسور؛ لأن الشجاع يطربه عمل الشجاعة حتى لو بدا من خصمه، وباتوا أكثر انقيادا له، فتسنى لسيڨ جعل صف ضباط وضباط مهرة منهم. أخيرا تحول (محمد علي) إلى فكرة إنشاء الجيش المرغوب فيه من أبناء مصر أنفسهم، بالرغم من أن المحيطين به أنكروا على المصريين استعدادهم العسكري، ورموهم بالجبن وخور العزائم.
ولكنه لعلمه أن المصريين يكرهون الابتعاد عن أهلهم، والتغرب عن أوطانهم، ويكرهون بالتالي الجندية التي تضطرهم إلى ذلك، أقبل يجمعهم ويجندهم بالقوة والعسف، وأخذ يخطفهم زمرا زمرا من قراهم ونواحيهم، ويرسلهم أفواجا أفواجا إلى الصعيد حيث كان سيڨ - وقد اعتنق الدين الإسلامي، لإزالة أكبر فارق بينه وبين جنوده، وأصبح «سليمان بك» - يعلمهم ويدربهم، وما زال (محمد علي) مقيما على طريقة تجنيده هذه حتى تكون لديه ذلك الجيش الزاهر، الذي مكنه (أولا) من الاستغناء عن جنده غير النظامي، والدائم التمرد من الألبانيين، والمكدونيين، والأتراك، والدالاتية، والباشبوزق الآخرين، ومكنه (ثانيا) من الفوز على جميع أعدائه، وإذلال سلطان تركيا نفسه.
7
غير أن الفلاحين المصريين في تلك الأيام حين رأوا أن المجندين، أيا كانوا، لا يعودون أبدا إلى أوطانهم، ويموتون حتما في دار الغربة، سواء أكان في المورة، أو في ربوع سوريا والأناضول، ازدادوا كراهة للجندية ورغبة في الفرار من وجهها. وإذ علمتهم الأيام أن بعض العاهات الطبيعية تكون سببا في عدم تجنيد المصابين بها، أقدموا على اقتلاع أعينهم اليمنى، أو بتر إبهام أيديهم اليمنى أو سباباتها كذلك لكي ينجوا من التجنيد، ومن لم يجد منهم شجاعة في نفسه للإقدام على أحد هذين العملين كان يفر من بلده، ويذهب هائما على وجهه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فاضطر (محمد علي) أولا إلى تجنيد ذات العور ومقطوعي السبابات أو الأباهم في آلاي خاص بهم. وثانيا إلى تعقب أثر الفارين وإدراكهم، ولو اعتصموا بأعماق الكهوف والصحارى، أو التجأوا إلى عبد الله باشا والي ولاية عكا، وهذا هو السبب في أن الحرب نشبت فيما بعد بينهما،؛ لأن عبد الله باشا أبى إرجاع الهاربين المصريين إلى حكومتهم، بالرغم من إلحاح (محمد علي) الكثير، فلما بلغت روح المكدوني منه الحلقوم، بعث يقول له: «وإني سآتي لأخذهم بنفسي، وسأرجع بهم وبواحد زيادة عليهم.» وإنما قصد بذلك الواحد عبد الله باشا عينه، وفي الحال سير جيشه إلى سوريا، وكان من أمر حروبه هناك، وبره بتهديده ما كان!
8
وبما أن أمر تقديم الأنفار للجندية كان منوطا بمشايخ البلدان، وكانوا هم المسئولين عن العدد المطلوب منهم، فحدث ولا حرج عن المظالم والمغارم التي كان التجنيد يسببها في عموم أنحاء البلاد.
9
على أن (محمد علي) بعد فراغه من حروبه، وعقب فرمان سنة 1841 المحظر عليه زيادة عدد جنوده على 18 ألفا، سرح معظم ما بقي من جيوشه، ولم يعد يلتفت كالسابق إلى تعزيز جنديته، لا سيما أن الكبر قد أناخ عليه بكلكله، وقعد بكثير من همته الشماء.
وكان رأي (عباس) خليفته في التجنيد غير رأيه، لميل قلبه إلى الأرناؤوط والأتراك، ورغبته فيهم دون العنصر المصري، فأقبل يزيد عدد أولئك الأجانب، ويحلهم من الثكنات العسكرية محل الجنود المصريين، ويسلحهم بالمسدسات الأمريكية بدل البنادق، حتى أربى عددهم لديه على ثمانية آلاف. وكان جل قصده أن يتكون لديه منهم العدد المعين للجيش المصري برمته، ولكنه عقب نشوب الحرب بين روسيا والدولة العلية في سنة 1854 - وهي المعروفة بحرب القرم - واضطراره إلى إنجاد تركيا بالمدد المصري المطلوب منها، اضطر إلى تجنيد جنود مصريين، فبالغ في ذلك حتى قال بعض المؤرخين، ومنهم إدون دي ليون، إن عدد جيشه ما بين جند نظامي وباشبوزق وغيرهم، أربى في وقت من الأوقات على مائة ألف، ولكن تلك الجنود لم يكن معتنى بأمر إطعامهم، ولا كانت الوقايات الصحية متوفرة حولهم، وكلا الأمرين زاد في نفور الناس من الجندية.
10
فلما آل الأمر إلى (سعيد) - وكان مغرما بالعسكرية غرام الملك «الصول» الپروسياني بجيشه المهندم - بالغ أولا في الاعتناء بأمر طعام الجند وحفظ صحتهم، فحسن مآكلهم ونوعها، ونظم المستشفيات العسكرية تنظيما أصبحت معه الإقامة فيها طيبة، والمعالجة متقنة، والشفاء ميسورا، ثم حسن الملبس أيضا - ولو أنه لم يكن رديئا في عهد سلفه - وتفنن فيه تفننا عجيبا، متخذا لتفننه نبراسا تنوع الأزياء في الجندية الفرنساوية. وبعد أن أوجد هذه المحببات ألغى أمر الاقتراع، وجعل التجنيد عاما وواجبا على كل شاب يبلغ السادسة عشرة من عمره بدون استثناء، على أن تكون الخدمة العسكرية سنة واحدة لا غير، ولكيلا يكون لمشايخ البلاد سبيل إلى الجور والتعسف، نزع منهم مسئولية التجنيد، وأوجد جدولا عاما للمواليد في عموم أنحاء القطر، لتكون الدعوة إلى العسكرية في حينها أمرا يتم من تلقاء ذاته، فضجت البلاد في بادئ الأمر وتململت؛ لظنها أن هذه إساءة جديدة تصاب بها، ولكنها انتهت إلى الطاعة والامتثال، بل إلى الارتياح، حينما رأت التجنيد يعمل بانتظام، وبدون مظالم أو محاباة، ورأت أن (سعيدا) إن احتمل بنفس متفكهة ثورة النسوة عليه بسبب قراره، لم يسمح لأي كان من أعيان البلاد وسراتها بالفرار من نفاذ ذلك القرار في أولاده وذويه، وأظهر من الشدة والصرامة في معاملة المخالفين ما ذهب بالرغبة في المخالفة من صدور الجميع.
11
غير أنه لم يكن في الاستطاعة في بادئ الأمر استخدام جدول المواليد والاعتماد عليه إلا بمساعدة مشايخ البلدان أنفسهم، فلشعور هؤلاء بأن الفرصة آخذة بالتملص من أيديهم انكبوا على اغتنامها، والانتفاع منها جهد طاقتهم، لا سيما أن رؤساءهم الأشد بهم التصاقا متأثرون بشعورهم ذاته، وراغبون أشد الرغبة في أن يصيبوا نصيب الأسد في اقتسام أسلاب الفلاحين البائسين.
فأدى ذلك مع تقلب أهواء (سعيد) التقلب المشهور عنه، لا سيما في أواخر أيامه، وتشتت قوى ذهنه عن دائرة الاهتمام بأي أمر كان يشرع فيه إلى هبوط عدد جنديته إلى 7500 عسكري، وصيرورتها جندية مظهر أكثر منها جندية عمل.
ولا أدل على تقلب هوى (سعيد)، وتشتت قوى ذهنه من واقعة قصها علي ابن أحد الرجال الأكثر التصاقا به، لأنه كان مربي (طوسون) ابنه، قال: «كان (سعيد) ذات يوم بمصر، فأرسل إلى أبي وهو بالإسكندرية يستدعيه إليه مع ابنه الأمير (طوسون) ليكونا بمعيته، فقام أبي مع الأمير الصبي، وتوجه إلى مصر، وصعد إلى القلعة، وأبلغ سمو الوالي أنه صدع بأمره، وأصبح تحت تصرفه، فلم يجبه (سعيد) بشيء، ولم يستدعه، ولا استدعى (طوسون )، ثم عاد هو نفسه بعد ثلاثة أيام إلى الإسكندرية دون أن يرى ابنه أو يأمر أبي بشيء، فاحتار والدي فيما يصنع، وبعد أن بقي في القلعة عدة أيام في انتظار عودة سمو الوالي، ورأى أن الانتظار لا يجدي نفعا، رجع هو أيضا إلى الإسكندرية بالصبي الأمير، وعاد إلى ما كان عليه، ولم يدر أحد ماذا كان سبب استدعائهما إلى مصر.»
12
فأعاد (إسماعيل) الجندية إلى عددها ونظامها في أيام (إبراهيم) الهمام أبيه،
13
ورأى أن يقتدي بجده في إنشاء مدارس خاصة بها وعلى أنواعها، فأسس في العباسية مدرسة للبيادة أقام فيها خمسمائة طالب، ومدرسة للخيالة أقام فيها مائة طالب، ومدرسة للمدفعية أقام فيها مائة طالب أيضا، ومدرسة هندسة عسكرية جعل فيها أربعين طالبا، وعهد بإدارة هذه المدارس إلى الماچور سليمان بك، وكان قد تخرج من مدارس باريس ومتز العسكرية، وأنشأ مدرسة لأولاد رجال كل فرقة من فرق جيشه، يتعلمون فيها من سن ست إلى سن تسع عشرة ما يحسن أن يتعلمه أمثالهم، ولم يكتف بذلك، بل أسس مدرسة لكل أورطة من أورطه لتعليم رجالها القراءة والكتابة، وأنشأ في القلعة مدرسة كبيرة للصف ضباط أقام فيها نيفا وخمسمائة متعلم، وذلك زيادة على المدرسة التي أنشأها في القلعة لأولاد حرسها، وأمها ثمانمائة منهم.
وما فتئ يزيد عدد جنوده بالتدريج بين مصريين وسود، حتى استكمل منهم ثمانية عشر آلايا بيادة، منها آلايان سودانيان، في كل آلاي ثلاثة طوابير، وأربعة طوابير بندقيين موزعة على الآلايات، وأربعة آلايات مسلحة بالرمح والقرابين، في كل آلاي ستة كراديس، وأربعة آلايات مدفعية، في كل آلاي ست بطاريات: بطاريتان راكبتان، وأربع بطاريات بيادة، وثلاثة آلايات حاميات مدفعية، وثلاثة طوابير عمال عسكريين، فبلغت قوة الجيش العامل المتدرب - إذا جمعت - ستين ألفا، وبلغ الاحتياطي ثلاثين ألفا، وغير النظامي ستين ألفا، وسلحت البيادة ببنادق ريمنجتن، بعد بنادق شاشپو، وحفظ منها ما أناف على 200 ألف بندقية احتياطيا. أما المدفعية فسلحت بمائة مدفع من مدافع كروپ، وخمسين مدفعا خفيفا من معامل أرمسترونج، وسلحت الحاميات بمدافع وهرندرف 8,10 بوصة، و300 مدفع خفيف، وأنشئت بالقرب من مصر معامل للبارود والخرطوش، فبلغ من كثرة الذخيرة المصنوعة فيها والمستوردة من الخارج أن (إسماعيل) أرسل جانبا منها إلى الأستانة، تبرعا منه ومكرمة.
وجعلت مهمة الجيش في بادئ الأمر، زيادة على المحافظة على الأمن العام، حفظ الحدود من إغارات العربان والحبشان عليها، ثم استعملوه في الفتوحات والاستكشافات والحروب التي سيأتي بيانها.
رأى أيضا أن يقتدي بجده العظيم في الاستعانة بضباط غربيين على تدريب جنوده التدريب العسكري العصري المطلوب، ولكنه - لكيلا تتخذ الدول الأوروبية من ضباطهن الذين قد ينتدبون لتلك المهمة وجها لإيجاد نفوذ لهن على البلاد، أو تنشأ منافسات بينهن إذا فضلت في الطلب إحداهن على الأخرى - عهد بتلك المهمة السامية إلى ضباط أمريكيين من الذين اشتهروا في الحروب الأهلية، فوقع اختياره في الأول على ضابط يقال له «مط»، كان قد حضر إلى القطر لأشغال خاصة به، فانخدع (إسماعيل) فيه وظنه كفأ للمهمة، فكلفه بإحضار ضباط بمعرفته ليقوموا معه بها، ولكنه ما لبث أن تحقق قلة جدارته، فصرفه وأحضر الجنرال ستون مكانه.
14
فجاء هذا بالجنرال لورنج، والكرنيل داي، والميچر لنج، والكرنل جريفر، والضباط كلستن، وريد، وپراوت، والكرنلين پردي وميش، والميچر دنيش، وغيرهم، وبزمرة مختارة من أفاضل الرجال؛ منهم الميكانيكيون والمهندسون الحربيون والجيولوجيون كمتشل، والجغرافيون كلوكت وفيلد وغيرهما. وانكب الجميع على عملهم بهمة شماء وقلوب مخلصة، وكان نظام الجيش وتدريبه وتعليمه على الطريقة الفرنساوية في بادئ الأمر، ولكن بعد انكسار فرنسا في سنة 70 وظهور تفوق التعليم الألماني، أحل هذا محل ذاك، وأخذ الاعتناء بالمدفعية يزيد على الاعتناء بغيرها، فأصبح ضباطها أكفأ من ضباط البيادة والخيالة، ولو أنهم جميعا كانوا بيضا من المصريين والأتراك والشراكسة، حتى ضباط الأورط السودانية.
على أن المصريين الصميمين كانوا أيضا أكفأ من الشراكسة والأتراك، وذلك لأن هؤلاء - وجميعهم من أولاد البكوات والباشوات، الشاغلين مناصب الحكومة الرفيعة، وأصحاب السرايات الفخمة، الغاصة بالجواري والسراري والعبيد - كانوا أولاد بيئة أصلية غير صالحة لجعلهم جنودا ذوي طباع عسكرية صحيحة؛ لأن أول خطواتهم في الحياة كانت داخل دور الحريم، ولما يشبون ويترعرعون، لم يكونوا يقدمون ولا يجبرون على الإقدام على أي تمرين عضلي، فما كان عند بعضهم من قوة في العضلات إنما كان هبة محضة من لدن الطبيعة، وبما أن معظمهم - بحكم بيئتهم - كانوا شديدي الميل إلى الباه، فإن ذات الأقوياء منهم كانوا لا يلبثون بعد حين حتى ينهزلوا ويضعفوا.
نعم إن أهلهم كانوا يرسلونهم منذ تجاوزهم سن الصبوة إلى المدارس الإعدادية ليمكثوا فيها عدة سنوات متتالية، ولكنهم بسبب الترف المحيط بهم، وتدليل أهلهم لهم، قلما كانوا يمتازون على أقرانهم من أولاد الفلاحين والحضريين المصريين بسوى المصروف الكبير والبلادة العظمى، فكانوا ينقلون والحالة هذه إلى المدارس العسكرية عملا بمبدأ تحويل التلامذة البلداء إليها، فيتخرجون منها بعد 4 أو 5 سنوات ضباطا عجرفتهم وخيلاؤهم كبيرتان، على قدر رفعة مولدهم ونبل أحسابهم، ومعلوماتهم قليلة، وآدابهم لا تداني الرفعة، ولا عن بعد، بخلاف أولاد الفلاحين والحضريين المصريين، فإنهم لشظف العيش الذي اعتادوه واعتاده أجدادهم قبلهم، كانوا أقوياء البنية، قنوعي المعيشة، بعيدين - بسبب ضيق ذات أيديهم - عن مسببات الأسقام والضعف، وكانوا يمتازون في المدارس عادة على أقرانهم أولاد الأغنياء بالذكاء والنباهة والاجتهاد، ولكن ذلك لم يكن يجديهم نفعا؛ لأن ذات الداخلين منهم المدارس العسكرية مباشرة كانوا، بسبب مواهبهم هذه عينها، يبقون في دور التعليم سنة زيادة على أقرانهم البلداء، ثم يدخلون الجيش بعد تلك السنة الإضافية في الوظيفة عينها المعطاة إلى زملائهم البلداء قبل سنة. نعم إن الحكومة في السنة الإضافية التي كانوا يمكثونها في المدارس أكثر من زملائهم البلداء كانت في الأول تمنحهم المرتب المربوط لهؤلاء في الجيش، ولكنها قطعته عنهم فيما بعد، وميزت بذلك الأغنياء على المجتهدين المتنورين.
فأصبح أولئك، لهذا ولمميزاتهم البلادية الأخرى، يعتقدون أنفسهم من طينة أرقى من طينة زملائهم أولاد المصريين الصميمين، ولم يكن يرجى تقويم معوجهم، وهم في وظائفهم:
أولا:
لأنه إذا سهل إصلاح ناقص يعرف أنه ناقص، فمن المتعذر كلية إصلاح ناقص يرى نفسه كاملا.
ثانيا:
لأن آمالهم في الترقي والتقدم لم تكن مبنية على رقيهم في المعارف والمعلومات، وتقدمهم في معارج الكمال والكفاءة، بل على حكايات وقصص تروى لهم عن أبطال وقائعها المدهشة أنهم مدينون بتقدمهم إلى مجرد الحظ والسعد والمقدور، فكانت حياة آمالهم، والحالة هذه، مفسدة في الحقيقة لاجتهادهم وجهودهم.
فكانوا إذا يعاملون العساكر الموضوعين تحت إمرتهم معاملة السيد للخدم والعبيد، ويعاملون زملاءهم المصريين معاملة يشتم منها رائحة الغطرسة والاحتقار تحت كساء الأدب المتشامخ.
أما الصف ضباط فكانوا كلهم أو جلهم مصريين، ويعاملون جنودهم كما يعامل الإخوان إخوانهم.
15
وأشار ستون باشا على (إسماعيل)، فحمله على تأسيس مدرسة أركان حرب، أقام فيها عشرين طالبا.
وكانت هيئة أركان الحرب بعد انسحاب پلانا
باشا الفرنساوي اسما على غير مسمى؛ وذلك لأن ميول الباشوات، قواد فرق الجنود الأرفعين، لم تكن تقبل أن يكون لوظائف تلك الهيئة العسكرية السامية من وجود فعلي؛ لاعتقادهم بأنه يجب أن يكونوا الكل في الكل، وإبائهم أن يقاسمهم أحد سلطتهم.
فأراد ستون باشا أن يغير هذه الحالة، ويجعل الاتصال بين الجيش وهيئة أركان حربه متينا فعالا، فبذل في ذلك جهده، ولكنه لم يتمكن من بلوغ أربه، بالرغم من أن ثقة الخديو به بلغت بسموه أنه لنقص وجده ذات يوم في مصلحة التلغرافات هدد رجالها بوضعهم تحت إدارة الحربية؛ أي تحت إدارة ستون باشا.
16
فلم تستمر قيادة الجيش منفصلة عن رياسة أركان الحرب فقط، بل إن قسم المهمات عينه تحت رياسة أفلاطون باشا بقي منفصلا عنها، وما هو أدهى، بقي منفصلا عن قيادة الجيش ذاتها، فأدى الانفصالان إلى ضعف في نظام القوة العسكرية المصرية، ظهر جليا بنوع خاص في الحملة على الحبشة.
وليت الأمر اقتصر على مجرد الانفصال، ولكنه تعداه إلى قيام كراهة ونمو شعور امتهان في نفوس ضباط الجيش وقواده لضباط هيئة أركان الحرب؛ وذلك بسبب تبعية هؤلاء الضباط لرؤسائهم الغربيين الذين كان الشراكسة والأتراك يكرهونهم:
أولا:
لكونهم أجانب جنسا ودينا.
ثانيا:
لأنه لم يكن يمكن إجراء الإصلاح الذي جيء بأولئك الغربيين من أجله إلا إذا علت كلمتهم على كلمة العناصر الشرقية ، وفاق نفوذهم على نفوذها.
غير أن الجنرال ستون والزمرة التي أحضرها معه تمكنا - بالرغم من ذلك جميعه - من القيام بأعمال خطيرة في المضمار الذي استدعيا للعمل فيه، وفي مضمار الرحلات العلمية، والاستكشافات الجغرافية، والأبحاث الچيولوچية التي تألق بها سنا ملك (إسماعيل).
أما في المضمار العسكري، فإن جميع الطوابي القائمة على سواحل البحر الأبيض المتوسط من خليج السلوم إلى العجمي، ومن العجمي إلى أبي قير ورشيد ودمياط، وطابيتي الناضورة والديماس بالإسكندرية رممت وحصنت، وأوجدت مطبعة وليتوغرافيا تامتان، كاملتا الأدوات في وزارة الحربية، ونشط تعليم الجنود والضباط تنشيطا عجيبا، فبرع المتعلمون على الأخص في الرسم الخطي، والتوبوغرافي، والخرطي براعة أدت بالجنرال (ستون) إلى الاعتراف بأن استعداد المصري في هذا الفن وفي الرياضيات على العموم يفوق متوسط الاستعداد الغربي، وأصبح معظم الضباط، لا سيما ضباط هيئة أركان الحرب وضباط النشأة الجديدة، يتكلمون الإنجليزية علاوة على الفرنساوية، أما الجنود فعلموا الاشتغال في صنع ملابس وأحذية وخلافها لأنفسهم، ثم عدلت مدة الخدمة العسكرية فجعلت قصيرة، وتقرر تسريح نصف القوة بعد تمرينها، والإتيان بغيرها مكانها، على الطريقة الپروسية بعد واقعة بينا سنة 1806، لكي يكثر عدد المتمرنين في البلاد، ويكونوا تحت طلب الحكومة إذا ما دعت إلى حشدهم الطوارئ، لهذا الغرض جعلت هيئات الجيش بحيث تسع ثمانين ألف عسكري يحشدون في ظرف شهرين.
على أنه لم ينجم عن هذا جميعه، ولا عن التحسين المستمر الذي بات الخطة المتبعة، ولا عن الطريقة التي سير عليها في ترقية الضباط بالامتحان، إصلاح تام بمعنى الكلمة كله؛ لأن انفصال هيئة أركان الحرب عن الجيش انفصالا كليا حال دون تمكن الأمريكيين من تنظيم ذلك الجيش تنظيما صحيحا، ودون اتخاذ كتائب وفرق من الآلايات طبقا للمتبع في الجيوش الغربية.
هذا ما كان من أمر إصلاح الجندية.
أما البحرية، فإنها بعد كارثة ناڨارين التي ذهبت بعمارة (محمد علي) لم تعد إلى بجدتها القديمة أبدا. وبالرغم من أن الباشا العظيم أعاد على يدي سيريزي بك المهندس البحري الفرنساوي الشهير جانبا كبيرا منها إلى الوجود لشعوره بالاحتياج إليها في حروبه مع الدولة العثمانية - والكل يعرف أن (إبراهيم) الهمام توجه بحرا مع جميع أركان حربه إلى يافا ليقابل فيها جيشه الزاحف إلى سوريا عن طريق العريش، وأن معظم المدفعية المصرية التي دكت أسوار عكاء دكا نقلت على ظهور السفن الحربية، وبالرغم من أن (محمد سعيد) تربى تربية بحرية، لتعلق فكر والده العظيم بإعادة بحريته إلى أحسن مما كانت عليه أيام بهجتها وعزها القديمين بعامل اقتناعه بحقيقة قول تميستكل، البطل اللاتيني القديم من أن «البر لمن ملك البحر»، فإن البحرية المصرية إما لأنها كانت بنت العجلة التي لم تدع مجالا ووقتا كافيا لجفاف الأخشاب المستعملة في بنائها، فباتت تلك الأخشاب عرضة للتسوس بسهولة، بفعل المياه والرطوبة، وإما لأن معالم عمارات الدول المتمدينة جمعاء تغيرت بعامل البخار مذ حل في الملاحة محل القلوع، دون أن تتغير معالمها هي، ما فتئت آخذة في الانحطاط، وذاهبة إلى البوار رويدا رويدا، حتى كادت تبيت في خبر كان، في أواخر أيام (سعيد)، ولولا أن هذا الوالي أنشأ أسطولا بخاريا نيليا ليكون دوما تحت طلبه إذا ما احتاج إلى نقل جنوده البرية عليه من جهة إلى أخرى بسرعة في البقاع التي لا سكة حديدية فيها، لصح القول أنه ترك البحرية المصرية لخلفه أثرا بعد عين.
فتناول (إسماعيل) باهتمامه الفائق الأسطول الخشبي غير المدرع، المخلف عن جده، وأقبل يصلح مختله، ويجدد معداته، ويحسن معالمه، حتى جعله سلاحا يعتد به، وعدة يهاب مفعولها.
ثم شرع ينشئ جواري أخرى طبقا لمقتضيات الأيام، فعمر فرقاطتين - إحداهما «اللطيف» صاحبة حادثة الشحط في قناة السويس قبل افتتاحها، والتي احترقت فيما بعد وهي في البحر على بعد 60 ميلا من السويس - وكورڨتتين وسلوپين وأربع مدفعيات، وعشر بريديات، وثلاثة يختات، ومائة وخمسة عشر مركبا شاطئيا.
وأوصى - كما سبق القول - معامل طولون على بناء ثلاث فرقاطات مدرعة، مقدمة لابتناء غيرها إذ آنس عن بنائها سكوتا، ولكنه ما رأى - بعد حادثته مع تركيا بسببها - أن تقوية عمارته قد تدخله في مشاكل كان في غنى عنها ، لنفاذ مشاريعه وبلوغه مراميه، وقد لا يجد تعضيدا من دول الغرب في حلها لمصلحته، وطبقا لرغائبه، إلا وحول بحريته كلها من حربية إلى تجارية، فضمها إلى الباقي من الشركة «العزيزية»، وأنشأ من كلتيهما البحرية الخديوية التي أخذت تسير مراكبها على البحرين الأبيض والمتوسط، وعلى النيل في فصل الشتاء، فأنشأت خدمة أسبوعية بين الإسكندرية والأستانة خصت بها عشرا من سفنها، وخدمة خمسة عشر يومية بين السويس وأقصى الممتلكات المصرية في شرق أفريقيا، على المحيط الهندي، خصت بها عشر سفن أخرى، وخدمة ثالثة، خمسة عشر يومية أيضا، من شهر نوفمبر لغاية شهر مارس على النيل بين القاهرة وأسوان، وبسبب عدم وجود عدد كاف من المصريين الخبيرين في الفنون البحرية استخدم فيها عدد كبير من الأجانب، فكان معظم الربانين وكل رؤساء الدفة منهم، كما أن جميع المهندسين كانوا من الإنجليز.
فلما جعل (إسماعيل) إصلاح جنديته وبحريته في مأمن من الطوارئ، وأوجد عنده الاختيار زمرة من الرجال الأفاضل الذين يركن إليهم في المهمات العلمية الشائقة، أقبل ينفذ أغراضه التوسيعية الرافعة، ودخل بقدم ثابتة في سبيل تحقيق الشطر الثالث من خطته.
ففي سنة 1865 احتلت عساكره المصرية فاشودة احتلالا رسميا، فسدت بذلك طريق النيل الأبيض في وجه أصحاب الزرائب في بحر الغزال وخط الاستواء.
وأصحاب الزرائب تجار - منهم كثيرون أوروبيون - كانوا يذهبون بعصابات مأجورة منهم إلى بلاد (السود)، فيحفرون خنادق يضعون داخلها بضائعهم وأسلحتهم ورجالهم، ويحيطونها بزرائب من شوك، ثم يشرعون في جمع السن والريش، مقايضة بالخرز والحراب والأساور، وغيرها من الأشياء المرغوب فيها في تلك الجهات، ويخزنون ما يجمعونه في زرائبهم، ويبقون على ذلك إلى أن يلقوا فرصة في البلاد، فيهاجمون أهلها ببنادقهم ، فما يسمع السود صوتها إلا ويفرون كالأنعام، مملوئين رعبا وخوفا، فيغنم التجار، ويسبون ويعودون إلى زرائبهم.
وكان التجار الأوروبيون قد باعوا زرائبهم إلى وكلائهم العرب منذ سنة 1860، فوضع جعفر باشا صادق - حاكم السودان السابق ذكره - الضرائب على الزرائب، ثم احتكرها من الحكومة السيد أحمد العقاد، شريك السيد موسى العقاد - وكلاهما من أشهر أصحابه - بخمسة آلاف جنيه في السنة، على أن لا يتجر بالرقيق، ولا يغزو بلاد العبيد، ولكنه لم يف بوعده وتعهده، وما زال رجاله يتجرون بالرقيق، ويغزون العبيد، حتى أصبحت بلاد خط الاستواء وبحر الغزال فوضى، وأهلها في غاية الضيق والشدة.
فرأى (إسماعيل) أنه لا يمكن إصلاح الحال، وإبطال تجارة الرقيق معا، إلا إذا ضم بلاد بحر الغزال وخط الاستواء إلى أملاكه السودانية، فعول على ذلك وبادر إلى تنفيذه. «وانتدب في سنة 1869 السير صموئيل بيكر باشا لتلك المهمة، وكان قد ذهب إلى السودان في أيام موسى باشا حمدي قاصدا اكتشاف منابع النيل الأبيض على نفقته الخاصة، والقيام بمفرده بالعمل الخطير الذي كانت الجمعية الجغرافية الإنجليزية قد أرسلت الرحالتين سبيك وجرانت سنة 1858 لإتمامه عن طريق زنجبار، فاكتشف الرجلان بحيرة ڨكتوريا نيانزا في 28 يولية سنة 1862، وسمياها على اسم ملكتهما، أما بيكر، فإنه فضل الذهاب عن طريق الخرطوم ليستطرد الاكتشاف من جندوكورو بالبر - حيث كانت وصلت في سنة 1841 آخر حملة أرسلها (محمد علي) للوقوف على منابع النيل - وذلك على رجاء أن يلتقي بالرحالتين المذكورين، فيكون نجدة لهما، ويشاركهما في فخار الاكتشاف، فخرج من الخرطوم في 18 ديسمبر سنة 1862 بمركبين كبيرين وذهبية، ومعه خمسة وأربعون رجلا مسلحون بالبنادق، وخمسون من الخدم والبحارة، وتسعة وعشرون من الجمال والخيل والحمير، ومقدار كبير من الحبوب، وبضعة صناديق من أساور النحاس والخرز الملون، الرائجة هناك بدل العملة، فوصل جندوكورو في 2 فبراير سنة 1863 وحط رحاله، وأخذ يتأهب للسفر برا، وإذا بالرحالتين سبيك وجرانت قد أقبلا في 15 منه، فأخبراه باكتشاف بحيرة ڨكتوريا، وأنه لا يزال أمامه بحيرة أخرى ليكتشفها، أخبرهما الأهلون بها. وأعطياه خريطة سيرهما، وجميع ما علماه عنها، ثم استطردا السفر شمالا إلى أوروبا، وسار بيكر جنوبا في البر الشرقي بقصد اكتشاف تلك البحيرة، فأتى عليها في 14 مارس سنة 1864 بعد معاناة مشقات كبيرة وأخطار جمة، لا سيما بسبب تجار الرقيق المنتشرين في تلك البلاد، وقد أتاها أولا من الجنوب، ثم جال فيها بمراكب السود، فأتى شماليها، ورأى مصب النيل الآتي من بحيرة ڨكتوريا، ومخرج النيل الأبيض الذاهب شمالا، وسماها إدوارد نيانزا على اسم ولي عهد بريطانيا العظمى في ذلك الحين، ثم عاد إلى جندوكورو، وسار منها بذهبيته ومركبيه حتى وصل الخرطوم في 3 مايو سنة 1865، فأقام فيها إلى 30 يونية، وخرج منها في ذلك اليوم إلى بربر، فسواكن، فبلاد الإنجليز، فوصلها في أكتوبر سنة 1865.»
17
وقد رأينا كيف قام هذا بمأموريته، وكانت بلاد خط الاستواء لا تزال مأجورة للسيد أحمد العقاد في الخرطوم، فألحق ببيكر صهره وابن اخته أبي السعود العقاد للنظر في مصالح تجارته، ولكن الرجلين لم يتفقا معا، واضطر بيكر إلى رفع شكواه من أبي السعود إلى المراجع العليا بمصر، واتهامه إياه بمعاكسته، والعمل في الخفاء على تقوية دعائم النخاسة والإتجار بالرقيق، فأدى ذلك بالحكومة إلى استدعاء أبي السعود إلى القاهرة ومحاكمته.
18
وقد رأينا أيضا أن (إسماعيل)، بعد استعفاء بيكر باشا، عين الكرنيل جوردون مكانه، ووعدنا بالتكلم عن أعمال هذا الرجل الطائر الصيت في هذا الباب. «فالكرنيل جوردون ولد في مدينة ولويتش ببلاد الإنجليز سنة 1833، وانتظم في سلك العسكرية سنة 1852، وكان ميالا بالطبع إلى لقاء الأهوال والصبر على المكاره مما اتصل إليه بالإرث عن آبائه وأجداده المعروفين بالبسالة والبأس في الحروب السكوتلاندية، وحضر حصار سپاستوپول سنة 1855 فشهد له بالدربة والإقدام. وفي سنة 1860 سافر إلى الصين، ودخل الجيش، فواقع عدة وقائع دلت على شجاعته وتمام براعته في الفنون العسكرية، فنال من إمبراطور الصين لقب «ساري عسكر». وفي سنة 1865 عاد إلى الجيش الإنجليزي، فرقي فيه إلى رتبة كرنيل.»
19
ثم عين في لجنة الطونة، فتعرف نوبار باشا به في الأستانة، وسأله عما إذا كان يعرف رجلا يريد أن يخلف السير صموئيل بيكر على رأس المهمة السودانية المعهود بها إليه، فقدم جوردون نفسه، على أن تجيز له حكومته القبول، فخوبرت الحكومة البريطانية في شأنه، فأجازت له الخدمة تحت اللواء المصري، فحضر إلى القاهرة، وما لبثت أخلاقه القويمة المستقيمة والحادة معا أن اكتسبت له احترام الجميع وإجلالهم، وكراهة البعض، وكان (إسماعيل) يجله جدا ويقول: «إني أشعر حينما أحادثه أني أمام رجل حق ترغمني رجوليته على احترامه.»
20
فسار جوردون من مصر، ومعه أبو السعود البادي ذكره إلى الخرطوم، فأخذ منها جنودا، في جملتهم إبراهيم أفندي فوزي - الذي صار فيما بعد إبراهيم باشا فوزي، المشهور بحوادث أسره عند الدراويش، وبتاريخه الذي كتبه عن السودان المعاصر - وسار جنوبا، وبعد وصوله جندوكورو بشهرين اكتشف ثلاث زرائب لتجار الرقيق على بحر الزراف، فهدمها، وأعتق الأرقاء الذين وجدهم فيها، وما لبث أن وجد في أبي السعود ذات الروح الخائنة التي كانت قد اتضحت لبيكر باشا، فسجنه وأهانه، ثم أقصاه عن حملته.
21
وفي 11 سبتمبر سنة 1874 جاءه خمسة وعشرون رئيسا من رؤساء السود، وقدموا له الطاعة، وشكروه على مطاردته تجار الرقيق في بلادهم، وفي الشهر التالي ضبط يوسف بك، مدير فاشودة، زمرة من النخاسين ومعهم 1600 رقيق، و190 رأس بقر أتوا بها من بحر الزراف.
ورأى جوردون أن هواء جندوكورو غير صحي، فنقل مركز حكومته إلى اللادو، وذلك في 21 فبراير سنة 1874، وامتدت حكومته من ملتقى نهر سوباط بالنيل الأبيض إلى بحيرة ڨكتوريا نيانزا، وأهم ما اشتغل به تأسيس نقط عسكرية قوية على النيل لأجل حماية البلاد من تجار الرقيق، وحفظ النظام والأمن، فلم تنته سنة 1874 حتى كان قد أسس عشر نقط على النيل الأبيض، وجعل فيها 640 من العساكر السودانية، و150 من العساكر المصرية، و650 من الباشبوزق والدناقلة والجعليين، ثم أسس نقطة في مرولي على نيل ڨكتوريا، ونظم في جيشه عددا كبيرا من الأرقاء الذين حررهم من الزرائب.
وكان بيكر باشا قد أحضر باخرتين قطعا من مصر بقصد بنائهما وتنشيط الملاحة في البحيرات، ولكن انقضت مدته ولم يتمكن من بنائهما، فلما تم لجوردون تأسيس النقط العسكرية، حمل قطع الباخرتين في البر إلى جنوب شلال الفولا، قرب الدفلاي، وبناهما هناك، وسمى الكبيرة منهما «الخديوي»، والصغيرة «نيانزا»، فبقيتا بين الدفلاي وبحيرة ألبرت نيانزا إلى قيام الثورة المهدية.
22
وممن صحب جوردون إلى خط الاستواء أو انضموا إليه بعد ذهابه الكرنيل لنج - وهو من الضباط الأمريكان في الجيش المصري، وقد قال (إسماعيل) فيه: «إنه عمل مع عسكريين في أيام قلائل لمصلحة مصر أكثر مما فعل السر صموئيل بيكر بجيش في أربع سنوات، وبنفقة بلغت مليوني ريال ونصف مليون.»
23 - والدكتور أمين المعروف بأمين باشا، وچيسي، والكرنيل براوت الأمريكاني، وعبد العزيز بك ابن لينان باشا الفرنساوي.
أما الدكتور أمين، فاسمه الأصلي إدوارد شنيتز، وقد ولد في 28 مارس سنة 1840 في مدينة أوپلين، من أعمال سيليزيا، ببروسيا،
24
وتلقى العلوم في فيينا وباريس، ونال شهادة دكتور في الطب، ثم دخل خدمة الدولة العلية في إسكودار، وبقي إلى أن سمي جوردون حاكما على خط الاستواء، وكان الدكتور أمين يعرفه من الأستانة، فذهب إلى الخرطوم، واستأذنه في السفر إليه، فأذن له، وحال وصوله منحه لقب «بك»، وعينه حاكما على اللادو.
وأما چيسي، فكان ضابطا إيطاليا، شديد العارضة قوي الإرادة، رافق الجيش الإنجليزي إلى حرب القرم بصفة مترجم، ثم انضم إلى جوردون في خط الاستواء.
واستعان جوردون بأولئك الضباط على درس البلاد وتمهيدها وضمها إلى الأملاك المصرية، فعند وصوله إلى جندوكورو، أرسل الكرنيل لنج إلى كباريقا ملك يونيورو لكشف خبره، فوجد أن جميع المتشردين من تجار الرقيق قد اجتمعوا إليه، ووجده على عصيانه، فلم ير الوقت ولا الظروف مناسبة لقتاله، فتركه وشأنه، وذهب إلى متاسي، ملك أوغنده، فإذا به لا يزال على ولائه، فعاد بالخبر إلى جوردون، فأرسل جوردون أمين بك إلى ذلك الملك للمحافظة على مودته، وأرسل چيسي إلى بلاد بحر الغزال لكشف خبرها، ولما عاد أرسله بمركبين إلى بحيرة ألبرت نيانزا لاستطلاع حالها وحال القبائل المقيمة على سواحلها، وذلك في مارس سنة 1876، فطاف چيسي البحيرة، وقضى في طوافه تسعة أيام، فوجد طولها 140 ميلا وعرضها 50 ميلا، ووجد القبائل القاطنة حولها معادية للحكومة.
أما عبد العزيز لينان بك، فإنه قتل في ثورة أثارها السود على العساكر وهم ينقلون قطع الباخرتين المار ذكرهما إلى الدفلاي، فأخذ جوردون بثأره. وترى تفاصيل ذلك مبينة بشرح واف في الكتاب المعنون «جوردون في السودان»، وهو مجموع رسائل وكتب بعث جوردون بها وهو في تلك الأصقاع السحيقة إلى أخته بإنجلترا.
25
وبقى جوردون مجدا في تنظيم البلاد وإصلاح شئونها بلا مساعدة مصر إلى سنة 1876، فاستعفى، وعاد إلى القاهرة، ومنها إلى بلاد الإنجليز، تاركا پراوت، من أركان حربه، وكيلا مكانه على خط الاستواء، ثم ذهب الكولونيل پراوت، فناب عنه أمين بك، فبقي إلى أيام الثورة المهدية، ثم انقطعت أخباره.
وكان حاكما على السودان في مدة ولاية جوردون على خط الاستواء إسماعيل باشا أيوب، فجرت في عهده حوادث جمة ذات بال، أهمها فتح بحر الغزال، وبلاد النمانم، وسلطنة دارفور، وضمها إلى أملاك الحكومة المصرية على يد الزبير رحمت باشا.
والزبير هذا ولد في جزيرة واوسي بالسودان، من قبيلة الجميعاب المقيمة على النيل الكبير بين جبل قرى وجبل الشيخ الطيب في 8 يولية سنة 1831، ودخل مكتبا في الخرطوم فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن، وتفقه على مذهب الإمام مالك، ولما بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوج بابنة عم له، واشتغل بالتجارة، ثم حدث بعد سنتين أن ابن عم له يدعى محمد عبد القادر دخل في خدمة علي أبي عموري، من أهالي نجع حمادي، ومن التجار الكبار الذين كانوا يتجرون في جهات بحر الغزال، وسافر معه خلسة، فأخذت الزبير الشفقة عليه لاعتقاده أن بلاد بحر الغزال كثيرة الأخطار بعيدة الشقة، فلحقه بقصد إرجاعه، فأدركه في رحلة ودشلعي على النيل الأبيض، مسيرة يوم من الخرطوم، وأخذ يثبط عزمه عن السفر، فأقسم ابن عمه أن لا يعود إلى الخرطوم قبل أن يتم سفرته، فشق ذلك على الزبير، وأقسم له بالطلاق أنه إن لم يرجع عن عزمه سافر معه، فلم يزل ابن عمه مصرا على السفر، فسافر الزبير معه برا بقسمه، ودخل صحبته في خدمة أبي عموري، فسار بهما الرجل من ودشلعي في 14 سبتمبر سنة 1856 قاصدا بحر الغزال، والزبير يستعيذ بالله من ذلك السفر، ويتوقع منه الشر والأخطار، فجاء بأحسن ما كان يتمنى، وكان السبب في بلوغه مقاما لم ينله أحد في السودان قبله، ولا ناله بعده سوى (محمد أحمد المهدي)،
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
فما زال الرجل سائرا بهما حتى حط رحاله في زريبة علي أبي عموري المعروفة باسم عاشور، على اسم شيخ البلد، حيث أقام الزبير مساعدا مخدومه على تجارته بضعة أشهر، ولكن أهل تلك البلاد ما لبثوا أن هاجوا على التجار، طمعا في أموالهم سنة 1857، فجمعوا جموعهم من كل الجهات، وهاجموا الزرائب، فقتلوا بعض التجار وسلبوا أموالهم، وهاجموا كذلك زريبة أبي عموري، فقام الزبير في رأس رجاله، وأشعل النار في المهاجمين، وهزمهم شر هزيمة، بعد أن قتل منهم خلقا كثيرا.
فلما سمع التجار في تلك الجهات بانتصاره عليهم جاءوه، والتفوا حوله، وأحبه أبو عموري؛ إذ رأى أن سلامته كانت على يديه، وجعل له قسما من أرباحه، ولما هدأت البلاد تركه في محله وكيلا عنه، وسار إلى الخرطوم، فغاب ستة أشهر، وعاد ببضائع جديدة، فوجد عند وكيله من المحصولات البلدية ما لم يكن يجمعه هو في سنين، فزادت رغبته فيه، وعرض عليه الشركة بالنصف، فأبى، وعزم على إنشاء محل تجاري لنفسه.
وبهذا العزم رجع إلى الخرطوم سنة 1858، وكان قد جمع من تجارته مع أبي عموري نحو ألف جنيه، فاشترى بها بضائع وذهبية، واكترى بعض الأنفار على عادة التجار، وسلحهم بالبنادق، وسار بهم والبضائع في الذهبية إلى مشرع الريك، ومنها برا إلى بلاد قولو، وكان عليها ملك يقال له كواكي، فرحب به وأكرم مثواه، فأخذ يتجر في بلاده حتى اجتمع عنده من سن الفيل، وريش النعام، وغيرهما من خيرات البلاد شيء كثير، فأرسلها مع ابن عمه محمد أحمد رحمت إلى الخرطوم، فباعها، وعاد إليه ببضائع البدل، فسافر بها في سنة 1859 إلى بلاد النمانم الواقعة إلى الجنوب الغربي من بلاد قولو، وكان عليها سلطان يقال له السلطان تكمة ، فقدم له الزبير هدية فاخرة، واستأذنه في الاتجار في بلاده، فأذن له - وكانت كثيرة الجواميس والفيلة، ولا قيمة لسن الفيل فيها لكثرته، ولم يكن النمانم يعرفون الحمير، ولا الجمال، ولا الخيل، وكان مع الزبير حمار جميل، فأهداه إلى السلطان، فاستغرب هيئته وظنه رجلا ممسوخا فلم يقبله، ولكنه احتسب للمهدي نيته، وكافأه عليها بتزويجه أكبر بناته المدعوة (رانبوه)، فعلا مقامه بتلك المصاهرة في عيون أهل البلاد، وزادت تجارته رواجا وتحسينا، واجتمع عنده في وقت قصير شيء كثير من سن الفيل والخرتيت وغيرهما.
وفي شهر مارس 1862 استأذن السلطان تكمة في العود إلى الخرطوم، وسار بسلعه يقصد تلك العاصمة، فمر بصاحبه أبي عموري، فوجده متأهبا للسفر بتجارته هو أيضا إلى تلك الجهة، فاتفقا على الذهاب معا، ولكنهما تخلصا من مشقة نقل البضائع بالبر، بنيا مركبين، ووسقا فيهما بضائعهما ورجالهما البالغ عددهم 214 نفرا، وسارا في نهر نبقو، أحد فروع بحر الغزال، الذي لم يسلكه أحد قبلهما، وهما يقصدان مشروع الريك، فما مخرا فيه 13 يوما بلياليها إلا واتسع مجرى النهر حتى صار أشبه ببحيرة واسعة منه بنهر، وخفي عليهما المجرى الأصلي، فتاها برجالهما خمسة وسبعين يوما، ثم وقع لهما ولمن معهما من الحوادث الغريبة والعجيبة ما هو أشبه بروايات السندباد البحري البغدادي منها بوقائع حقيقية. وأخيرا أتيا مشرع الريك في 19 يولية سنة 1863، وأقلعا بالمراكب منها إلى الخرطوم فدخلاها بمن بقي من رجالهما، وعددهم ستة، في 11 سبتمبر سنة 1863.
26
فلبث الزبير فيها بضعة أشهر ريثما باع تجارته واشترى بثمنها تجارة أخرى وأسلحة وذخائر، وفي 29 أبريل سنة 1863 برح الخرطوم إلى بلاد النمانم، فوصلها في 25 يولية سنة 1864، وقدم هدايا نفيسة للملك تكمة، فسر بها، وأولم له وليمة فاخرة، ذبح فيها عددا وافرا من الوحوش، ومائة كلب من أسمن الكلاب المعدة لأكله.
فعاد الزبير إلى دار زوجته رانبوه، وشرع في بيع بضائعه، وكانت العادة في تلك البلاد أن يبيعوا في الأسواق أصحاب الجنايات؛ كالسارق والزاني، ويذبحونهم كالغنم، ويبيعون لحومهم طعاما، فافتدى منهم من وجده أهلا لحمل السلاح، حتى اجتمع عنده نحو خمسمائة رجل، فسلحهم بالأسلحة النارية، وعلمهم حملها واستعمالها، فأوجس الملك تكمة شرا، وخاف منه على مملكته، واستشار كهانه، فأقروا على قتله، فعلمت بذلك امرأته رانبوه ابنة الملك، وأخبرته به سرا، ونصحته بالرحيل من بلاد أبيها.
فاهتم بالأمر، وتزلف إلى الملك تكمة بالهدايا، واستأذنه في السفر إلى بلاد ملك يقال له دوبه بلغه أن فيها سن فيل بكثرة، فأذن له ظاهرا، وأوعز في السر إلى جيشه أن يكمنوا له في الطريق، ويقتلوه هو ورجاله. فما ابتعد قليلا عن بلاده إلا واعترضه جنوده الذين كانوا في الكمين، فأصلاهم نارا حامية لم يطيقوها، فانهزموا ودخل الزبير بلاد الملك دوبه، وكان عدوا لملك النمانم، فلما علم بما جرى خرج لمقابلته في مسيرة أربع ساعات من عاصمته، وأنزله في جواره على الرحب والسعة، وبنى له خصا مربعا منيعا من الخشب، وأمده من الحبوب والمئونة بما يكفي رجاله مدة طويلة.
فأرسل الملك تكمة جيشا جرارا بقيادة عمه مغبوه إلى بلاد الملك دوبه، اهتزت له البلاد في أبعد أعماقها، واستولى الرعب على الملك وقومه، ففروا هاربين خلسة تحت جنح الظلام.
فلما رأى الزبير منهم ذلك، أخذ ينظر في أمر نجاته، وإذا برسل من لدن الملك تكمة وردوا عليه، وقالوا له: «إن حرمة المصاهرة، وسابق المودة تمنعان الملك من محاربتك، ولكنه يرغب إليك أن تخرج من جميع بلاد الملك دوبه التي أصبحت تحت سلطانه، وتذهب إلى حيث تشاء ولك الأمان.» فأجابهم إلى ذلك وخرج إلى بلاد قولو، وكان ملكها قد غدر بأخيه منصور وقتله، فلم يشك بأن الزبير قادم للأخذ بثأره، فلم يسمح له بالبقاء وتهدده، وكان الفصل شتاء، فطلب الزبير إليه أن يمهله إلى أن ينقطع المطر، فأبى، فناجزه الحرب، وجرت بينهما عدة وقائع دموية انتهت بقتل الملك، وأخذ ابنه أسيرا، وامتلاك الزبير بلادهما، وجميع البلاد المجاورة لها إلى بحر العرب، فاتخذ عاصمة (بابه) التي سميت بعد ذلك «بديم الزبير» مركزا له، وصار فيها ملكا، تتقاطر إليه الناس من كل الجهات للانتظام في خدمته، وكان أول ما سعى إليه فتح طريق التجارة بين بحر الغزال وكردوفان، فأوفد في مارس سنة 1866 رسلا بهدايا إلى مشايخ عربان الزريقات الواقعين في طريق التجار، فجاءه ثمانون شيخا منهم، وعاهدوه على فتح الطريق، وتأمين القوافل والتجار من مسلمين ومسيحيين، فجعل لهم مقابل ذلك جعلا معلوما يتقاضونه من التجار، فكثر زود الناس وراجت التجارة لقرب تلك الطريق وسهولتها، وفي سنة 1869 قدم من الخرطوم رجل من متخلفي حجاج العرب، يقال له الحاج محمد البلالي، يقصد احتلال بحر الغزال، ومعه سرية مؤلفة من 200 من العساكر المنظمة السودانية، عليهم صاغ اسمه محمد منيب، و400 من العساكر الباشبوزق، عليهم سنجق يدعى كوشوك علي، و600 من الخطرية، فطاف بلاد بحر الغزال، ودخل زرائبها، وقرأ لأصحابها فرمان الحكومة بتسميته مديرا على بحر الغزال، فمنهم من أطاع وسلم، ومنهم من عصى فحارب أو فر.
ثم وجه حملته على الزبير، فجمع الزبير جيوشه، ومن لجأ إليه من أصحاب الزرائب المجاورة له، وكمن للبلالي في خور على الطريق، فلما اقترب من الكمين أشعل النار في جيشه، فقتله وقتل بعض عسكره، وأسر الباقي، ولكنه أصيب في ذلك اليوم برصاصة في كراعه الأيمن، ورجع محمولا إلى مركزه، فبعث بخبر ما كان إلى جعفر مظهر باشا حاكم السودان إذ ذاك، وانتشر خبر انتصاره على البلالي في أقاصي السودان، فزادت شهرته، وازداد نفوذه.
فلم يرق انتظام ملكه للسلطان تكمة، فأرسل في أوائل سنة 1872 عمه (مغبوه) بجيش جرار لمناصبته العداء، فأغار على مملكته، وبعث يقول له إنه لا يسمح بتأسيس ملك في جواره، فإما أن يعود تاجرا كما كان، وإلا أعاده بالقوة إلى تجارته. فوقعت الحرب بينهما ودامت سنة كاملة، جرت فيها عدة وقائع شديدة، وفي آخرها قتل السلطان تكمة وعمه مغبوه، ودان للزبير ثمانية من كبار ملوك النمانم كانوا في حروب مستمرة بعضهم ضد بعض، يصيد فيها بعضهم البعض صيد الطيور، وجاءته الأقوام من مسافات بعيدة، مقدمين الطاعة، وطالبين عمالا من قبله، فأجابهم إلى ذلك.
وكانت الرزيقات، في أثناء حربه مع النمانم، قد نقضوا العهد، وقطعوا الطرق ، وقتلوا بعض التجار، فلما انقضت الحرب أنفذ إليهم رسلا يسألهم عن سبب ذلك، فأجابوا بالشتم والسباب، وأقسموا أن لا يدعوا مسافرا يمر إليه عن طريق بلادهم إلا قتلوه وسلبوه ماله.
وكان على دارفور إذ ذاك سلطان يقال له إبراهيم، فأرسل الزبير إليه كتابا في يونية سنة 1873 أخبره بما أتاه الرزيقات من نكث العهد، وقطع السابلة، والتمس مساعدته عليهم، فلم يجبه السلطان على كتابه، ولا انتهى الرزيقات عن التعدي، فساق الزبير جيشه إلى بلادهم ليحاربهم، فتجمعوا لقتاله، فجرت بينه وبينهم عدة وقائع من 10 يولية إلى 28 أغسطس سنة 1873 وكان النصر فيها كلها له، وفي الأخيرة منها انهزم الرزيقات شر انهزام، وقتل منهم خلق كثير، وأصبحت بلاد «شكا» كلها في يده.
وكان الرزيقات قد استخدموا فقيها من فقهاء التعايشة يقال له عبد الله محمد آدم تورشين، ليقرأ لهم الأسماء في خلوته، لعلها تقبض على سلاح الزبير، فلا تنطلق ناره في ساحة الحرب، وتعهدوا له ببقرة من كل مراح.
كيف يذهب هنا الفكر إلى ما يرويه الرومان الكاثوليك عن سقوط السلاح من أيدي جنود نابليون الأول في حرب روسيا سنة 1812 انتقاما من الله لتعديه على البابا بيوس السابع؟!
فوقع (عبد الله) أسيرا في يد المنتصر في حلة السروج، بين شكا وداره، فأمر الزبير بقتله، فقال له اثنا عشر عالما كانوا بمعيته، مهمتهم تنبيهه إلى معوج يرونه في أحكامه: «إن الشرع لا يسمح بقتل أسير الحرب المسلم، والسياسة تنكر قتل رجل يعتقد الناس صلاحه؛ لأن قتله ينفر القبائل من القاتل.» فامتنع الزبير عن قتله، ولكنه ندم فيما بعد على امتناعه؛ لأن عبد الله ذاك عاش ليكون من أعظم البلايا على السودان؛ فإنه أصبح عبد الله التعايشي، خليفة المهدي المشهور، وصاحب الفظائع والأهوال التي لا تزال المخيلة ترتعد لمجرد ذكرها.
ولما دخل الزبير بلاد الرزيقات فر اثنان من مشايخ هؤلاء العربان، ولجآ إلى السلطان إبراهيم في الفاشر، فبعث إليه الزبير بكتاب في 8 سبتمبر سنة 1873 يسأله تسليمهما إليه، ويحذره من استماع أقوالهما لئلا يقع في حرب مع «الدولة المصرية ذات السطوة الغالبة، والمدد غير المنقطع».
فما كان من السلطان إبراهيم - وكان قد حقد على الزبير لدخوله بلاد الرزيقات التي هي جزء من أملاكه - إلا أنه، بدلا من أن يجيبه على كتابه، أرسل إلى بعض مشايخ الرزيقات خطابا مشحونا شتما وسبابا له، يقول فيه: «لا تظنوا أني أترك البلاد لهذا الطاغية الجلابي، وها أنا أعد الجيوش للزحف عليه وطرده بالخزي والخسران.»
فلما اطلع الزبير على خطابه هذا كتب إليه في 12 نوفمبر سنة 1873 يؤاخذه، ويحمله تبعة كل ما يسفك من دماء المسلمين، فيما لو عمد إلى حربه. وبعد أن أفهمه أنه لا يخافه ولا يهابه، قال: «أما إذا كنتم تودون خروجنا من بلاد شكا، لأنكم تحسبونها قسما من بلادكم، فاعلموا أن ذلك إنما يكون بالتراضي والسلم بينكم وبين سمو ولي نعمتنا الخديو المعظم؛ بأن تضمنوا لنا نفقات الحملة على الرزيقات التي بلغت نيفا وعشرة آلاف كيس، فإذا اتفقتم مع سموه على ذلك، وكتب لنا أمرا لرفع أيدينا، عدنا إلى حيث كنا نجمع جيوشنا امتثالا لأمره، وإلا فلا يخطر ببالكم خروجنا من هذه البلاد.»
وكتب في أثناء ذلك إلى حكمدار الخرطوم، إسماعيل أيوب باشا، يعلمه بحاله وانتصاره على الرزيقات، ويسأله أن يرسل من يتولى حكومة البلاد التي فتحها في بحر الغزال ودارفور بالنيابة عن خديو مصر، وقال في الختام: «فإذا ما وصل الحاكم واستلم البلاد عدت إلى تجارتي تاركا كل ما أنفقت من الأموال في الفتح هدية لحكومتي السنية، وانتظرت مكافأتها الأدبية حسبما تقتضيه عدالتها وكرمها.»
فجاءه الجواب بتاريخ 22 نوفمبر سنة 1873 بما مؤداه: «عرضنا كتابكم على الجناب العالي الخديو، فشكر ولاءكم، وامتدح رغبتكم في وضع البلاد التي فتحتموها بين يديه ليولي عليها من يشاء، وقد أنعم عليكم بالرتبة الثانية مع لقب «بك»، وولاكم أمر البلاد، على أن تدفعوا لخزينته جزية سنوية قدرها خمسة عشر ألف جنيه.» فقبل الزبير الجزية، وتولى أمر البلاد رسميا.
ولكن السلطان إبراهيم لم يطق على بقائه في بلاد شكا صبرا، فأصدر أمره إلى مقدوم الجنوب في داره، واسمه أحمد شطه، ومقدوم الشرق، واسمه سعد النور، فأخذا في حشد الجيوش وجمع العدة لإخراجه منها، وكان الزبير يراقب حركات المقدومين وسكناتهما، ويبلغها إسماعيل باشا أيوب في الخرطوم، فيدفعها إلى الخديو في مصر.
فأقر الخديو على اغتنام الفرصة التي كانت تترقبها حكومته منذ فتح كردوفان، وأرسل إلى الزبير 280 من العساكر المنظمة، وثلاثة مدافع نجدة، وأمر إسماعيل أيوب باشا فجهز جيشا مؤلفا من نحو ثلاثة آلاف وستمائة مقاتل من الجنود السودانية، والمصرية، والباشبوزق الشيقانية، والأتراك، والمغاربة، والمتطوعة، وأربعة مدافع جبلية وساروخين، على أن يزحف بها إلى دارفور من الشرق، والزبير يزحف إليها من الجنوب، فيتما الفتح.
ولكن الفتح كله تم على يد الزبير، ولم يكن لجيش الشرق أي عمل فيه؛ فإن أحمد شطه وسعد النور لما أتما استعداداتهما زحفا بجيش يزيد على ثلاثين ألف مقاتل قاصدين شكا، فجرت بينهما وبين حاكمها واقعتان كانت العاقبة في كلتيهما للزبير، وقتل المقدومان في الثانية، وانهزمت جيوشهما، فتقدم الزبير إلى داره واحتلها، وبنى فيها استحكاما منيعا، وبعث إلى السلطان إبراهيم بكتاب في 18 فبراير سنة 1874 ينبئه بما كان، ويحمله من جديد مسئولية الدم المهراق، ويشهد الله بينهما، وكتب إلى علماء الإسلام في دارفور يسألهم عما دعا سلطانهم إلى المحاربة وهلاك عساكر المسلمين من الطرفين.
فلم يجبه أحد، ولكنهم أخذوا في حشد جيش جديد للأخذ بالثأر، فجمع رجل يقال له الشرتاي أحمد نمر - وكان كبير البرقد - شتات جيش المقدوم أحمد شطه، وأتى وحصر الزبير في الاستحكام الذي بناه، وأخذ يشاغله حتى تصل الجيوش التي يعدها السلطان إبراهيم، فصبر الزبير عليه حتى علم أن الجيوش آتية نجدة له، فأمر (رابحا) - أحد قواده، وقد اشتهر فيما بعد أمره شهرة كبيرة - فخرج إليه بفرقة من الجيش، فقتله هو ومن معه، وغنم ما عنده من خيول، ودروع، وخوذ، ومواش.
وفي 16 أغسطس سنة 1874 بعث الزبير بكتاب إلى السلطان إبراهيم يدعوه للتسليم إلى السلطة الخديوية؛ حقنا لدماء المسلمين، ورغبة في ترك خزائنه وأمواله له، وبقائه مكرما مبجلا عند الجميع، وإلا فالقتال.
فلما وصل السلطان إبراهيم كتابه، طار صوابه، وجهز جيشا عرمرما ينيف على المائة ألف مقاتل، بينهم عدد كبير من الفرسان المدرعين، والمشاة المسلحين بالبنادق، وعقد لواءه لعمه الأمير حسب الله، وجملة من الرؤساء والمقدومين، فوصلوا داره في 25 أغسطس سنة 1874، وحصروا القوات المصرية في الاستحكامات من الجهات الأربع، وكتبوا إلى الزبير كتابا يقولون فيه: «لقد دخلت بلادنا، وقتلت وزيرنا أحمد شطه، ثم الشرتاي أحمد نمر، فاخرج الآن من بلادنا لنشيعك بالسلامة والأمان.» وأرسلوا الكتاب مع ثلاثة رسل، فكتب الزبير إليهم: «إني دخلت بلادكم عنوة، ولست أنوي الخروج منها إلا بقدر من الله، فإذا كنتم قد جئتم لحرب، فتقدموا لها، وإلا فعودوا من حيث أتيتم!»
ورأى الرسل بعض عساكر النمانم الذين كانوا في جيش الزبير الخاص قد اجتمعوا على جثة آدمي يقتسمونها فيما بينهم، فأخذ بعضهم الرأس والكراع، وبعضهم الفخذين، وبعضهم الصدر، وشرعوا يشوونها على النار، ويأكلونها، فاقشعرت أبدانهم، فعادوا وأخبروا بما كان مما رأوا وأجيبوا به.
فاعتمد الفور على الحرب، ونزلوا ضمن دائرة مرمى الرصاص، وأخذوا يناوشون الزبير القتال كل يوم من قبل طلوع الشمس إلى ما بعد نصف الليل، وكان معه زهاء 12000 مقاتل مسلحين بالبنادق، فأصلاهم نارا حامية، صبروا عليها سبعة أيام، ولكنها أهلكت منهم خلقا كثيرا، وفي اليوم الثامن نقضوا خيامهم، ونزلوا بعيدا عن مرمى الرصاص، غير أنهم لم يزالوا على حصر الزبير ومن معه ومناوشتهم القتال الليل والنهار، حتى كاد يفرغ الزاد من المحصورين، وإذا برئيس يقال له الملك أحمد أتى من معسكر الفور طالبا ابنته - وكانت قد وقعت في أسر الزبير في واقعة أحمد شطه - وقدم عشر أواق ذهبا فدية لها، فأخذ الزبير يسأله عن قوة جيش الفور وحركاته، وإذا بالحرس الذين كان قد وضعهم في مأذنة جامع داره لمراقبة حركات العدو يشيرون إليه بالصعود إليهم، فصعد، فرأى الفور في حركة وجلبة، فنزل إلى الملك وقال له: «إذا كنت تذهب وتأتيني بالخبر فإني أسلمك بنتك بلا مقابل.» وأقسم له قسما غليظا، فرجع الملك إلى قومه - وحبه الأبوي تغلب في فؤاده وضميره على كل عاطفة سواه - وقال لهم: «إن الزبير طلب عشرين أوقية ذهب فداء ابنتي، ولم يكن معي سوى عشر أواق.» فقالوا: «خذ هذه عشر أخرى، وبادر وأحضر ابنتك؛ لأن الجيش يستعد للهجوم على السور غدا من جميع الجهات.» فأخذ الذهب وسار إلى الزبير بالخبر ليلة الخميس 31 أغسطس سنة 1874.
وكان الفور في تلك الليلة قد شربوا الخمر، وأكلوا لحم الضأن والإبل، وناموا نوم الراحة، فانتهز الزبير هذه الفرصة الثمينة، وخرج إليهم بثمانية آلاف رجل بهيئة مربع، وزحف في جنح الليل حتى صار على قيد مائة متر منهم، فأمر عساكره، فصبوا عليهم الرصاص كالمطر الوابل، فقاموا مذعورين إلى سلاحهم، وصوبوا على الهاجمين نيرانهم، فأصابت الزبير رصاصة طائشة في يده اليمنى جرحته جرحا بليغا، ولكنه لم يعبأ بها، بل بقي يشدد قومه، ويصب الرصاص على الأعداء حتى اضطرهم إلى تولي الأدبار منهزمين، وقد امتلأت الأرض من قتلاهم، وفيهم أربعون رجلا من أولاد السلاطين.
فجمعت الغنائم، فكان فيها نحو ألفي درع، وألفين وسبعمائة خيمة، وثمانية مدافع قديمة مكتوب على بعضها اسم (سعيد باشا)، وشيء كثير من الأسلحة والذخائر الحربية، ومن الحبوب والزاد ما كفى الجيش أربعة أشهر.
غير أن الأمير حسب الله عاد فجمع شتات جيشه، وهاجم الزبير في السور في 8 سبتمبر سنة 1874، فدام القتال بين الطرفين أربع ساعات متوالية، حتى كثرت القتلى في جيش الفور فانهزموا شر هزيمة.
فلما بلغ السلطان إبراهيم خبر انكسار عمه الأمير حسب الله استعظم الأمر جدا واستكبره، وصاح بقومه صيحة عامة، فجرد منهم جيشا كثيفا بلغ عدده نحو مائة وخمسين ألفا، بينهم ثلاثون ألف فارس، وعدة رجال مسلحين بالبنادق، وثمانية مدافع، وعزم على الخروج إلى الحرب بنفسه، فخلف على الفاشر ابنه الأكبر (محمد الفضل)، وطلب من رجال دولته أن يجعل كل منهم ابنه الأكبر خليفة عنه مع ابنه محمد الفضل، ففعلوا، فزحف بجيشه على داره، فوصلها في ضحى 16 أكتوبر سنة 1874، واحتاط السور من الجهات الأربع، وهاجم من فيه بجميع جيوشه هجمة واحدة، فأمطروه نارا حامية ثبت رجاله عليها حتى الساعة الواحدة بعد الغروب، وفي اليوم التالي أعاد الكرة على السور من قبل طلوع الشمس، فما كانت الساعة الرابعة من النهار حتى ردوا على أعقابهم، فاستراحوا إلى ما بعد الظهر، ثم عادوا إلى الهجوم بعزم صادق مستقتلين وثبتوا ، والرصاص يحصدهم حصد الزرع، إلى أن فصل الليل بينهم وبين أعدائهم، فرجع الفور، وقد قتل منهم في ذلك اليوم خلق كثير، فيهم البعض من أولاد السلطان إبراهيم وأولاد أخيه وأعمامه وعماته.
وفي الليل أتى الزبير كتاب من السلطان، مملوء شتما وسبابا وتهديدا، وقد أقسم فيه بالله العظيم إنه لا بد من إعادة الكرة عليه في الصباح، ودخوله الاستحكام عنوة، وتأدية صلاة الجمعة في مسجد داره، وفي الساعة الخامسة من الليل أطلق على السور خمسة وأربعين مدفعا، فلم يجبه من فيه، وشرعوا يستعدون للغد، فلما أصبح الصباح وانكشف معسكر الأعداء، وإذا به خال من الجيوش، فخرج الزبير بنفر من رجاله يستطلع الخبر، فوجد أن الأعداء قد هربوا بالفعل، ولم يكن هناك خدعة؛ لأن رجال الفور لم يعودوا يستطيعون مهاجمة السور، فهجروا السلطان، فتبعهم ليجمع شتاتهم، ويسير بهم إلى جبل مرة ليمتنع فيه، فجمع الزبير ما خلفه في معسكره، وشرع في الاستعداد للحاق به.
وفي 23 أكتوبر سنة 1874 خرج بالجيوش مقتفيا أثره حتى أدركه في اليوم التالي في بلدة منواشي الواقعة على مسيرة يومين إلى الجنوب الشرقي من الفاشر، ومعه من العساكر نحو ثلاثين ألفا وثمانية مدافع.
فرتب السلطان عساكره ميمنة وميسرة وقلبا، وكان هو ومن معه من الأبطال المعدودين من أقاربه وغيرهم مع المدافع في القلب، وما طلعت شمس الأحد 25 أكتوبر سنة 1874 حتى نشبت الحرب، فأطلق الفور على رجال الزبير أحد عشر مدفعا، فما أجابوهم، بل ساروا سيرا حربيا منظما قاصدين القلب، فهجمت عليهم عساكر ميمنة الفور وميسرتهم، واشتد القتال، ولكنه ما مضى إلا خمس دقائق حتى انجلت الحال عن تقهقرهم إلى الوراء. عند ذلك هاجم السلطان ومن معه في القلب، فهزموا مقدمة الزبير ودخلوا القلعة، واشتبك القتال بالسيوف والحراب ، وكنت ترى السلطان يجول في وسط المعمعة، ويقاتل كأنه الأسد، غير أنه لم يكن إلا القليل حتى خر قتيلا هو ومن معه من الفرسان والشجعان، وفيهم الكثير من أولاده وأكابر دولته، وانكشفت الحرب عن النصر المبين للقوة المصرية.
فأخذ الزبير جثة السلطان ، وكفنها بالأنسجة الفاخرة، ودفنها في جامع منواشي باحتفال عظيم؛ إجلالا لمقامه، وإقرارا ببسالته، ثم دفن القتلى من أولاده وأكابر دولته، وعفا عن جميع الأسرى، وسمح لهم بالذهاب إلى حيث شاءوا، وقد غنم في هذه الواقعة المدافع الثمانية، وسبعة وعشرين حمل جمل جبخانة، ما عدا الأسلحة النارية وغيرها.
وبعد أن استراح أربعة أيام في بندر منواشي، سار بالعساكر إلى الفاشر، فدخلها في 3 نوفمبر سنة 1874 قبل طلوع الشمس، فوجد عائلة السلطان وأهالي الذين تركهم بالفاشر قد فروا منها، ولم يبق فيها سوى التجار وبعض العلماء، فأمنهم على أموالهم ودمائهم، وأحسن معاملتهم، فلما بلغ الأهالي ذلك أخذوا يفدون إليه ليلا ونهارا، مقدمين الطاعة والامتثال، ولم يكن إلا أيام قليلة حتى دانت له جميع أهالي السلطنة، وطلب منه عبد الله التعايشي أرضا في قيجة، غربي الكلكة، فأعطاه إياها على أن يكف عما كان به من التدجيل، فرضي.
أما إسماعيل أيوب باشا المهاجم لدارفور من الشرق، فإنه أبطأ في سيره جدا، وعند وصوله إلى فوجة كتب إلى الزبير، وهذا إذ ذاك في داره، يقول: «إني جئتك بنجدة، فتشدد!» فبعث الزبير إليه يقول له: «إذا كنت قد جئتني بنجدة، فلماذا هذا الإبطاء في السير، والعدو محدق بنا بجيوش لا عداد لها؟» فأجاب: «ما أنا أمرتك بالتقدم إلى داره، ولا أفندينا، فإذا استطعت أن ترفع الحصار وتنجو بجيشك إلى هنا فافعل، وإلا فدبر أمرك بما تراه صوابا!» وبقي في فوجة حتى انقضت الحرب، وبعد دخول الزبير الفاشر بعث إليه بالخبر، فلقيه الرسول في طريقه إلى داره، فانثنى إذ ذاك عنها، ووجه الجيش إلى عاصمة دارفور، فدخلها في 11 نوفمبر سنة 1874، فأكرم الزبير لقياه، وأطلق له مائة مدفع ترحيبا به.
وكان المتخلفون من جيش الفور، لما تحققوا موت السلطان إبراهيم في منواشي، قد ولوا عمه حسب الله سلطانا عليهم، وذهبوا إلى جبل مرة وتحصنوا فيه، فلما حضر إسماعيل أيوب باشا إلى الفاشر سلمه الزبير إدارة البلاد، وجهز جيشا مؤلفا من 12000 مقاتل، فيهم 400 من العساكر المنظمة، و200 فارس من عساكر الحكومة، وزحف على جبل مرة، فلما رأى الأمير حسب الله قوته، سلم بلا قتال، وكان معه بعض أولاد السلطان إبراهيم وعمتهم الميرم عرفة، وغيرهم من أولاد السلاطين، ونحو ألف ومائتي رجل من كبراء البلاد وأعيانها، فجاء بهم جميعا إلى الفاشر بعد أن تغيب عنها في تلك المهمة ستة وتسعين يوما.
وكان الأمير حسب الله قد سأله بعد التسليم أن يساعده على توليه البلاد، ليحكمها تحت طاعة الحكومة الخديوية، فيدفع لها مائة ألف جنيه جزية سنوية، فأعجب الزبير هذا الرأي، واعتقده الصواب الذي فيه راحة البلاد والحكومة معا، فعرضه على الحكمدار، وأسنده بكل قوته، ولكن الحكمدار رفضه بتاتا، فوقع بين الاثنين جدال طويل أفضى إلى النزاع، وأرسل الأمير حسب الله والأمير محمد الفضل ابن السلطان إبراهيم وكثيرون غيرهما من أولاد السلاطين إلى مصر، وأمر الزبير بالذهاب إلى داره، والإقامة فيها بعساكره إلى أن يصدر إليه أمر آخر بالرجوع إلى بحر الغزال.
فذهب، وإذا بكتاب أتاه وهو فيها، من عبد الله التعايشي، يقول فيه: «رأيت في الحلم أنك المهدي المنتظر، وأني أحد أتباعك، فأخبرني إن كنت مهدي الزمان لأتبعك!» فكتب الزبير له: «استقم كما أمرتك، أنا لست بالمهدي، وإنما أنا جندي من جنود الله أحارب من طغى وتمرد!»
ولم يمض شهر حتى ورد عليه كتاب من إسماعيل أيوب باشا يقول: «إن بوشا أخا الأمير حسب الله شق عصا الطاعة، فجمع بقية أولاد السلاطين في جبل مرة، وملأ البلاد عيثا وفسادا.» وأمره بالخروج إليه، وإخماد ثورته، فصدع بالأمر وسار إلى جبل مرة في 3 أغسطس سنة 1875، وشهر على بوش حربا عوانا مدة خمسة عشر يوما، فترك بوش الجبل واعتصم بالفرار، فغادر الزبير ابنه سليمان مع 1200 جندي في الجبل، وتتبعه حتى أدركه في صرف الجدار قرب كبكبية، فأوقع به واقعة شديدة، انتهت بقتله وقتل أخيه سيف الدين وسبعة وعشرين رجلا من كبراء جيشه.
ثم توغل الزبير بجنده في بلاد المغرب، فدانت له ديار نامه، والمساليت، وقمر، وسلا، حتى أتى الترجة الفاصلة بين دارفور وودداي، فأقام فيها أياما للراحة، بعزم الدخول في دار ودداي، وإخضاعها للحكومة الخديوية، وكان عليها إذ ذاك السلطان علي ابن السلطان محمد شريف، فبعث إليه الزبير بكتاب يدعوه إلى الطاعة، ثم دخل بلاده وتوغل فيها، حتى صار على مسيرة يومين من عاصمته، فورد عليه كتاب منه يدل على قبوله الدخول في طاعة الحكومة الخديوية، وقد تعهد بدفع مبلغ معلوم جزية سنوية، على أن يبقى سلطانا على بلاده، ووجه إليه أحد وزرائه بهدايا كثيرة للمفاوضة معه في هذا الشأن.
ولكن قبل وصول الوزير ورد على الزبير كتاب من إسماعيل أيوب باشا بناء على إرادة سنية، يلح عليه بالرجوع إلى دارفور في الحال، فرجع إلى الفاشر متأسفا على ما فاته من فتح ودداي، فأخبره الحكمدار أن سلطان ودداي أرسل وزيره أحمد تنقة إلى مصر عن طريق سيوه متشكيا للجناب الخديو، فأمر جنابه العالي برجوع الزبير، ولكنه أنعم عليه برتبة اللواء الرفيعة مع لقب «باشا»، وشرع إسماعيل أيوب باشا، بعد دخوله الفاشر، في بناء حصن منيع للعساكر على التلة الغربية منه، فبنى سورا مربعا متينا من الطوب سمكه ثلاثة أقدام، وطول الضلع الواحدة منه مائتا قدم، وأقام في أركانه الأربعة أبراجا، على كل ركن برجا، جعل فيها المدافع، وحفر من وراء السور خندقا بلغ عمقه خمسة عشر قدما، وأحاطه بزريبة من شوك، وبنى من داخل السور ديوانا للحكومة، ومنزلا للحاكم، وثكنة للعساكر المنظمة، وأما العساكر غير المنظمة فأقرها خارج السور، وهدم المنازل التي في جواره، فجعل الأرض التي حوله في غاية الانكشاف إلى مسافة بعيدة، فجاء حصنا منيعا جدا، ثم وزع منشورا في كل البلاد، ودعا الناس إلى الفاشر لأخذ الأمان، فطفقت الوفود تأتيه من الجهات الأربع، فيؤمنهم ويرجعهم إلى بلادهم، ثم أمر فعمرت سوق كبيرة في الفاشر، وعاد الناس إلى معاطاة أشغالهم كالعادة.
وبعد أن تمهدت البلاد جعلها أربعة أقسام؛ وهي: مديريات الفاشر، وداره، وكلكل وكبكبية، وإدارة أم شمقة، وأقام في كل من مركزي داره وكلكل حصنا كالذي أقامه في الفاشر، ورتب في كل مديرية أورطتين من العساكر المنظمة، وستة سناجق من الباشبوزق الشايقية والأتراك والمغاربة، وبطارية بستة مدافع. وأما إدارة أم شمقة، فرتب فيها بلوكين من العساكر المنظمة، وسنجقا واحدا من الباشبوزق، لقربها من الأبيض.
ثم شرع في وضع الضرائب على الأهلين، فجعل على كل نفر خمسين قرشا في السنة، ما عدا أهل اليسار، فإنه جعل عليهم ضرائب أعظم على نسبة يسارهم، فقبلوها مرغمين؛ لأنهم كانوا قد سئموا عيشة الاضطراب والقلق التي وصلوا إليها في آخر سلطة الفور، وتاقوا إلى السكينة، ولكن لم يطل الأمر حتى انتشر الباشبوزق في أنحاء البلاد، وتقاضوا الضرائب من الأهالي بالعنف والقوة، فاستعظموا ذلك، وفضلوا العودة إلى ما كانوا عليه قبلا.
وكان عندهم من أولاد السلاطين الأمير هارون الرشيد ابن الأمير سيف الدين ابن السلطان محمد الفضل، فبايعوه سلطانا عليهم في أوائل سنة 1877، وثاروا ثورة عامة، وحاصروا حاميات الفاشر وداره وكلكل، والذي حصر الفاشر الملك سعيد كبير البرتي، والمقدوم آدم، مقدوم الشمال سابقا، فهاجماها مرتين، وكادا يستوليان عليها، لولا أن العساكر حاربوا حرب الأسود، فصدوهما، ولكنهم لم يقووا على رفع الحصار، فأرسل حسن باشا حلمي الجويسر، مدير الفاشر، في طلب المدد من الخرطوم، فأتاه عبد الرازق باشا بجيش كبير، فتصدى له العصاة في بروش، بين أم شمقة والفاشر، فقتل منهم خلقا كثيرا، ودخل الفاشر فرفع عنها الحصار، وأرسل الجنود إلى داره وكلكل، فرفعوا الحصار عنهما أيضا.
ثم أخذ حسن باشا عسكرا من الفاشر، وخرج لمطاردة الأمير هارون، فأدركه في الطينة على مسيرة يوم ونصف من الفاشر، فأوقع فيه واقعة شديدة، ثم لحقه إلى بيرمرتال، فقتل من عسكره خلقا كثيرا، وهزمه إلى نيورنا وسط جبل مرة. وكان إسماعيل أيوب باشا، مذ دخلت سنة 1877، قد عاد إلى مصر، متخليا عن حكم السودان، بعد أن أمن السبل، وأنشأ المحطات في طرق القوافل بين الخرطوم ودارفور، وبين بربر وسواكن، ومع ذلك فإنه لم يكن محبوبا في السودان، وقد وصفه بعضهم بقوله: «كان رجلا جبارا، يعنى بالعسكرية، ويهمل الرعية، ويقبل كل هدية!»
فلم ير الخديو رجلا يوليه بالسودان، على اتساع أطرافه وكثرة مشاكله، أفضل من جوردون، فأرسل يستدعيه تلغرافيا من بلاد الإنجليز، فحضر في أوائل فبراير سنة 1877، وكانت مديريات السودان لا تزال مستقلة بعضها عن البعض، فطلب جوردون ضمها كلها تحت إدارته، فأجابه (إسماعيل) إلى ذلك، وأصدر له فرمانا بتاريخ 17 فبراير بالولاية على جميع بلاد السودان المصري مع دارفور، وخط الاستواء، وسواحل البحر الأحمر، وهرر، ومنحه السلطة العسكرية والمدنية كلها عليها، وأعطاه سلطانا على القتل والعفو، ومنع دخول أحد إلى السودان إلا بإذنه، وعهد إليه بمنع تجارة الرقيق، وتحديد التخوم بين السودان والحبشة.
فسار جوردون إلى الخرطوم بعزم وطيد لإصلاح البلاد، وفض مشاكلها، ووضع نظام عام يكفل لها الراحة، ويرقيها في معارج المدنية والعمران، ولكنه لم يلبث أن رأى خطورة المركز الذي تولاه، وتعذر النجاح في المهمة الملقاة على عاتقه؛ نظرا لعدم تيسر الأيدي اللازمة للعمل، واتساع أطراف السودان، ومشقة السفر في بلاده برا وبحرا، مع قلة الجيوش اللازمة لحمايته بعد أن ذهب قسم منها لمساعدة الدولة العلية في حرب الروس، ونهكت القسم الآخر حرب الحبشة، وسيأتي ذكرهما في حينه.
فقضى جوردون في السودان أزيد من سنتين، وهو يتنقل من مكان إلى مكان، آونة بالبر وأخرى بالبحر، متمما كل ما أمكنه من الإصلاح، حتى أعياه التعب، وقاومته السياسة، فاضطر إلى الاستعفاء. وكان أهم ما اشتغل به في هذه المدة إخماد ثورة الأمير هارون الرشيد في دارفور، وحركة صباحي في كردوفان، وتمرد سليمان الزبير في بحر الغزال، ومنع تجارة الرقيق، والنظر في مد سكة حديد السودان، وإصلاح ذات البين بين الحبشة ومصر.
أما الأمير هارون، فإنه كان قد عاد إلى الحركة في أوائل سنة 1879، فسار جوردون إلى الفاشر، وما لبث أن رأى أن دارفور لا يصلح حالها إلا إذا حكمها رجل من أهلها تحت طاعة الحكومة، على نحو ما أشار به الزبير من قبل، فبعث إلى مصر في طلب الأرشد من أولاد السلطان إبراهيم، وعزل حسن حلمي باشا عن الفاشر، وسمى مساداليه بك - وهو ضابط إيطالي - مديرا على دارفور، وكان مديرا على داره، وجعل المقدوم رحمه قومو - وكان قد أطلقه من سجن سواكن سنة 1877 عند مروره بها - معاونا له، إلى أن يجيء ابن السلطان إبراهيم من مصر، ولكن هذا الشاب التعس الحظ لم يصل إلا إلى دنقلة، حيث فاجأته منيته، فعهد جوردون إلى مساداليه في إخماد حركة هارون، فاستعان الإيطالي عليه بسلاطين بك - وكان قد خلفه على مديرية داره - فعمل الاثنان معا، وانضم إليهما النور بك عنجرة مدير كلكل، فقضى الثلاثة على الرجل بمهاجمتهم إياه بالتتابع، وتم قتله على يدي مدير كلكل في مارس سنة 1878.
وأما الصباحي - وقد كان أحد قواد جيش الزبير، وانفصل عنه بعد ذهاب الزبير إلى مصر لمقابلة الجناب العالي، وعرض حقيقة حال دارفور على سموه، والنظر معه ومع رجال حكومته في تنظيم البلاد التي تم فتحها على يديه، والبلاد التي يمكن إلحاقها بحكومته في المستقبل، فأبقاه (إسماعيل) بمصر في ظل ساحته حتى ينظر في أمره، وكانت تلك القاضية؛ لأن الرجل لم يرجع إلى السودان بعد ذلك، وقضى نحبه بمصر في أيامنا هذه - فإنه ألف عصابة من أربعمائة رجل، وأغار على الأرضية في كردوفان، فقتل مأمورها، وفر إلى جبال النوبة، فعلم به جوردون وهو ذاهب إلى دارفور المرة الثانية في مارس سنة 1879، فأرسل من الأبيض نفرا من العساكر، فطاردوه وأتوا به أسيرا، فحوكم في مجلس عسكري، وحكم عليه بالإعدام.
وأما سليمان الزبير فإنه بعد ذهاب أبيه إلى مصر خرج بالجيش، وعدده أربعة آلاف مقاتل إلى شكا، وأقام فيها إلى أن حضر جوردون إلى دارفور أول مرة، وأرسل إليه أمرا لمقابلته مع جيشه.
فصدع بالأمر واجتمع عليه في شهر أغسطس سنة 1877، وكان أحد سناجق الجيش - ويقال له السعيد بك حسين - قد وشى بالزبير أبيه إلى جوردون قائلا إنه أوصى ابنه، إذا هو لم يرجع سريعا من مصر، أن ينهض بثورة على الحكومة، فرأى جوردون أن يفرق جيش سليمان، فأعطى سعيد بك ألف رجل وسماه مديرا على شكا، وأعطى الباقي للنور بك عنجرة ، من سناجق جيش سليمان، وأرسله إلى كبكبية، وأمر سليمان فرجع إلى شكا بقلة وذلة.
وفي أواسط سبتمبر وافاه جوردون إليها فطيب خاطره، وأنعم عليه بالرتبة الثانية مع لقب «بك»، وسماه مديرا على بحر الغزال، فسر سليمان بهذا الالتفات، وذهب إلى ديم أبيه القديم، وكان الزبير قبل قيامه منه لحرب دارفور قد خلف إدريس أبتر، من تجار الدناقلة، وكيلا عنه في بحر الغزال براتب معين، فقضى أربع سنوات في إدارة بحر الغزال لا يشاركه أحد فيها.
فلما حضر سليمان وجد أن إدريس أبتر قد أخل بالإدارة، واستبد بالعباد، ولم يهتم إلا بانتفاعه الشخصي، فأعلن سيلمان عن محاكمته في مجلس قضائي، ففر الرجل إلى الخرطوم، ووشى به إلى جوردون بأنه يريد الاستقلال في بحر الغزال بحجة أنها بلاد أبيه، وليس للحكومة حق فيها. ويظهر أن جوردون أصغى إلى وشايته، فأنعم عليه بلقب «بك»، وأعطاه مدفعين، ومائتين من العساكر المنظمة، وسماه مديرا على بحر الغزال. فلما وصل إدريس أبتر إلى ديم قنده، المعروف أيضا باسمه، كتب إلى رؤساء الزرائب يخبرهم بتعيينه مديرا على بحر الغزال، ويأمرهم بالحضور إليه، وكتب إلى سليمان يدعوه للتسليم.
فغضب سليمان من ذلك، وكتب إليه في الجواب يقول: «إن ولائي للحكومة يمنعني من الخروج عن طاعتها، إلا أن شرفي لا يسمح لي بالتسليم إلى من كان خادمي وخادم أبي من قبلي، ولا يمكنني أن أأتمنك على نفسي وأموالي بعد الذي رأيته من خيانتك وإنكارك للجميل؛ لأنك لو كنت أمينا وذاكرا للجميل لحفظت عيشنا وملحنا وتربيتنا لك، فلا تنتظر مني التسليم، ولو أرسلت الحكومة إلي رجلا غيرك، ولو عبدا، لسلمت وذهبت معه إلى جوردون، وأطلعته على جلية أمري، وبينت له نفاقك والسلام!»
فتيقن إدريس أبتر من هذا الجواب أن سليمان لا يسلم إليه إلا بالقوة، فترك جنده في عهدة أخيه عثمان، وطاف في الزرائب يحرضهم على محاربة ابن الزبير، وكان عثمان أخو إدريس رجلا فظا عاتيا، مكروها من جميع «البحارة»، وكان يرسل الشتائم إلى سليمان وأتباعه، ويتهددهم بالقتل وأنواع العذاب ، فجرد سليمان رجاله، ورجال الزرائب الذين من حزبه، وهاجمه في ديم قنده، فقتله وقتل أكثر الجهادية والجلابية الذين معه، وغنم أسلحتهم وذخائرهم، وعاد بالغنائم والأسرى إلى مركزه، فلما بلغ إدريس أبتر خبر الواقعة انقلب راجعا إلى الخرطوم، وأخبر جوردون بما كان.
فجهز جوردون سرية من العساكر، وعقد لواءها لچيسي باشا، ومعه يوسف باشا الشلالي، فأقلعا من الخرطوم في يولية سنة 1878، وسارا في النيل الأبيض حتى وصلا (أورنبك) بطريق (شامبي) في سبتمبر سنة 1878، فوجد البلاد مغمورة بالمياه بسبب الأمطار، فأقام في (أورنبك) نحو ثلاثة أشهر حتى جفت الأرض، فسار قاصدا ديم سليمان، ومعه 300 من العساكر المنظمة، و700 من الباشبوزق، وثلاثة مدافع، وكان على طريقه في نقطة (الدمبو) رجل من مشاهير «البحارة» يقال له علي بك أبو عموري، ومعه نحو ألف رجل مسلحين بالبنادق، فدعاه للانضمام إليه، فأجابه بعد تردد؛ لأنه لم يكن يود محاربة سليمان، ولكن كان له محل تجاري في الخرطوم، وآخر في مصر، فأجاب الدعوة مضطرا لتجارته، واجتمع علي وچيسي في جور غطاس، وساروا كلهم حتى نزلوا في (قندة)، في أواسط ديسمبر سنة 1878.
وكان سليمان لما علم بقدوم چيسي قد أخذ في حشد الجيوش، حتى اجتمع عنده نحو عشرة آلاف مقاتل، فسار بهم إلى (قندة)، ونزل بالقرب من معسكر چيسي، ولما كان صباح 28 ديسمبر سنة 1878 حمل على المعسكر حملة صادقة، وكان چيسي قد أمر جنوده، فبنى كل منهم متراسا علوه متر ونصف متر؛ ليقيه من الرصاص، فأصلوا رجال سليمان نارا حامية، فثبتوا برهة، ثم انقلبوا راجعين إلى معسكرهم، فبنوا حصنا منيعا من الأخشاب والتراب، ونزلوا فيه، ثم جددوا الهجوم على چيسي في 12 يناير سنة 1879 وفي 29 منه، فلم يظفروا بطائل.
وفي 11 مارس سنة 1879 وصل چيسي مدد من الذخائر والعساكر، فزحف بجيشه حتى صار قريبا جدا من معسكر سليمان، وأقام تلا من التراب وجعل عليه المدافع والسواريخ، وشرع يرمي بمقذوفاتها ذلك المعسكر، وكانت بيوته كلها من قش، فاشتعلت النار فيها، فذعر سليمان وارتد إلى (ديمة).
وبقي چيسي في (قندة) حتى جاءه مدد آخر من جوردون، فزحف بجميع جيشه على ديم سليمان، ووصله في 4 مايو سنة 1879، فخرج عليه سليمان من الديم، وحاربه مستقتلا مدة ساعة، ثم انهزم راجعا إلى الديم، فتبعه چيسي على الأثر وأخرجه منه، واستولى على جميع ما فيه من الأمتعة والأموال، وسار سليمان شمالا حتى وصل (غرة) غرب الكلكتة، من أعمال دارفور، فأقام فيها.
وكان جوردون، لما حضر المرة الثانية إلى دارفور، وعرج على (شكا) في 7 أبريل سنة 1879، وجد فيها بعض التجار الجعليين يهربون الأسلحة إلى سليمان في بحر الغزال، فألغى المديرية وشتت التجار، وأمد چيسي ببعض الذخائر، ثم توجه إلى الفاشر للنظر في ثورة هارون، فلم يلبث أن أتاه خبر من چيسي باستيلائه على ديم الزبير، وفرار سليمان إلى (غرة)، فخاف جوردون أن ينضم سليمان إلى هارون، فيصعب عليه إذلالهما معا، فعاد إلى (الطويشة)، وكتب إلى چيسي - فترك الجيش بقيادة ساتي بك في ديم الزبير، ووافاه إلى (الطويشة) ومعه يوسف باشا الشلالي في 25 يونية سنة 1879، وهو يوم تعس (لإسماعيل) - فأمره بمطاردة سليمان إلى (غرة)، وعاد يوسف باشا الشلالي إلى الخرطوم، فقاد چيسي العساكر من داره، وأخذ معه بعض مشايخ الزريقات والمغاربة أصحاب الثأر على الزبير، وسار حتى وصل الكلكتة، فأرسل رسلا بكتاب إلى سليمان يدعوه إلى التسليم.
وكان قد بلغ الزبير خبر خروج ابنه على الحكومة بسبب إدريس أبتر، فكتب إليه في 20 ديسمبر سنة 1878 يأمره بالرجوع في الحال إلى الطاعة وطلب العفو، وإلا كان الله ساخطا عليه، وهو كذلك! فلما وصل كتابه إلى سليمان - وكان قد خرج من بحر الغزال - استوعبه وصدقه، فلما دعاه چيسي إلى التسليم مال إليه.
ولكن رابحا خادم أبيه الأمين عارضه، فانقسم الجيش بهما إلى حزبين: حزب مال إلى التسليم، ورئيسه سليمان؛ وحزب أعرض عنه، ورئيسه رابح. فلما كان صباح 14 يولية سنة 1879 أتى سليمان إلى چيسي مسلما، ومعه 700 رجل، فيهم ثمانية من أقاربه، وكان في جيش چيسي كثير من الدناقلة الذين يكرهون سليمان والجعليين، فوشوا بالتعيس إلى چيسي قائلين إن تسليمه هو وأقاربه إنما هو خدعة، فصدق چيسي الوشاية، واتخذها مسوغا لقتلهم. فناداهم إلى خيمته ثاني يوم التسليم، وسقاهم القهوة، وكان قد أوعز إلى بعض الجند، فاحتاطوا بالخيمة، ثم خرج منها، فدخل بعضهم وأوثقوا سليمان وأقاربه، وجعلوهم صفا واحدا خارج الخيمة، ووقفوا خلفهم ورموهم بالرصاص، فانكبوا على وجوههم قتلى. وبعد ساعة أتى قناوي بك أبو عموري، فكفنهم وحفر لهم حفرة ودفنهم فيها.
فالخيانة والغدر ليسا من خصائص الشرقيين وشيمهم دون سواهم، كما يزعم الغربيون!
وبعد أن فرغ چيسي من أمر سليمان، عاد إلى ديم الزبير، فنظم فيه مديرية وجعل ساتي بك مديرا، والزبير ود الفحل وكيلا له، ومحمود المحلاوي مفتشا لمنع تجارة الرقيق، وقسم البلاد إلى ثمانية أقسام، وجعل في كل قسم منها نفرا من الباشبوزق والبازنجي، وجعل في ديم الزبير أورطة جهادية، وقفل راجعا إلى الخرطوم.
ثم نظم ساتي بك أورطة جديدة من أهالي البلاد، وجاء موسى بك شوقي قومندانا للعساكر من الخرطوم، ومعه ستة عشر كاتبا للقيام بأشغال المديرية، وبعد وصولهم بثلاثة أشهر حضر لپتون بك - وهو من البحارة الإنجليز - مديرا على بحر الغزال، وقومندانا للعساكر من قبل جوردون، وعاد موسى بك شوقي إلى الخرطوم، وبقي لپتون في بحر الغزال إلى أن قام المهدي، فاضطر إلى التسليم إلى أحد أنصاره.
أما چيسي باشا فقد اعترضه السد في الطريق، وهو راجع إلى الخرطوم، وفرغ منه الوقود والزاد، حتى أكل رجاله بعضهم بعضا، وأشرفوا على الهلاك، وإذا بباخرة قاصدة خط الاستواء أقبلت عليه، فرجعت بهم إلى فاشودة، فسار چيسي منها بمن بقي من رجاله، وفيهم قناوي بك أبو عموري، إلى الخرطوم، وقام منها قاصدا مصر عن طريق سواكن، فوافته المنية في السويس في 30 أبريل سنة 1881.
27
أما مد السكة الحديدية، فقد تكلمنا عنه في غير هذا المكان، على أن جوردون كان على رأي القائلين بمدها في طريق سواكن وبربر، لا في طريق النيل، والاكتفاء بمد فروع منها عند الشلالات؛ لأن النيل بين الشلالات صالح للملاحة، فلا يفتقر إلى سكة حديدية، ولكن (إسماعيل)، لعلمه أن الاكتفاء بمد سكة حديدية بين الخرطوم والبحر الأحمر إنما يحول عن مصر تيار تجارة السودان، أبى إلا أن يمدها على النيل؛ لكيلا ينفصل جزء سلطنته الجنوبي عن جزئها الشمالي. فيا ليت ماليته مكنته من تنفيذ رغبته!
وأما تحديد التخوم بين السودان والحبشة فكان قد أصبح من أهم المشاغل والأمور، ولكن لا سبيل إلى إدراك أهميته إلا بعد الوقوف على مجاري الحوادث التي أدت إلى قيام مسألة ذلك التحديد. ولإيقاف قرائنا عليها نقول:
تقدم أن الدولة العثمانية تنازلت لمصر عن سواكن ومصوع في سنة 1866 مقابل زيادة في جزيتها السنوية، فمذ أصبحت مصوع بيد مصر أخذت تسعى في تأييد المواصلات بينها وبين كسلا، وأول ما فتق لها وصل هذين البلدين بخط حديدي يمر في (سنهيت) التي اعتبرها (إسماعيل) داخلة في فتح جده لكسلا.
فعارضه الملك ثيودورس - نجاشي الحبشة - في ذلك، وزعم أن (سنهيت) ملك حبشي، ولكن ثيودورس هذا ما لبث أن جر على نفسه حربا مع الإنجليز، فطلب أعداؤه من (إسماعيل) أن يأذن لهم باجتياز بعض الأرض المصرية الواقعة على بحر القلزم، فلم يكتف (إسماعيل) بإجابتهم إلى ذلك، ولكنه، لاستيائه من ثيودورس، وضع الأسطول المصري كله الذي كان في البحر الأحمر تحت تصرفهم، وأرسل إلى مصوع وضواحيها زهاء ثلاثة آلاف عسكري، كانوا قد عادوا من الحملة الكريتية، وكلف حاكم مصوع بمساعدة الإنجليز في كل ما يرغبون.
فانتهت تلك الحرب بقتل ثيودورس، سنة 1868، وصيرورة عرش الحبشة بعده إلى يوحنا، وكان هذا في بادئ أمره تلميذا في دير، ولكنه ما لبث أن تركه وترأس منسرا، وأخذ يقطع الطرق، ثم اشتد ساعده، وزاد بطشه، وعلا نفوذه، حتى تمكن من تبوء كرسي الحكم في مقاطعة البحري، والتغلب على رئيس يقال له الرأس باريو، كان من أهم رءوس الجيوش. ولما قدم الإنجليز لحرب النجاشي ثيودورس ساعدهم يوحنا، وكان اسمه في ذلك الحين «الرأس قاسة»، مساعدة فعالة، فترك له اللورد نيبير أوڨ ماجدالا - بعد قهره النجاشي وقتله إياه - اثني عشر مدفعا، وألفي بندقية، وميرة كثيرة ليتساعد بها على القيام في محل ثيودورس. وبعد انسحاب الجيش الإنجليزي تخلف عنده بريطاني يقال له چون تشارلز كركهام، وكان قد حارب في القرم والصين مع برجوڨاين، وورد، وجوردون، فعضده في التغلب على خصم له يدعى جوباسي، فعلت منزلته عنده. وبما أن يوحنا هذا لم يكن من آل بيت الملك أبى كثيرون من رؤساء الأحباش الاعتراف به، وأخذوا يناوئونه العداء، وأهمهم رأس قبيلة القالا، فانشغل في قتالهم دهرا.
وكانت الجنود المصرية مذ بدأت بفتح أقاصي السودان قد توغلت في فتوحاتها على ما رأينا، حتى بلغت خط الاستواء، فوقع في خلد (إسماعيل) أن يجعل النيل كله مصريا؛ لاعتقاده تحقيق ذلك أمرا حيويا لبلاده، فأخذ يعمل على الإحاطة بالحبشة من جميع الجهات لجعلها في معزل عن الخارج، وخنقها بين حلقات ممتلكاته، في تداني هذه بعضها من بعض، لا سيما بعد أن تم له امتلاك السودان برمته؛ غربيه وشرقيه وجنوبيه. فسير إلى جوف بلاد الحبشة - لمعرفة أحوالها، واستمالة بعض كبار رءوسها - رجلا سويسريا يقال له متزنجر، كان قنصلا لدولتي إنجلترا وفرنسا في مصوع، فتوغل هذا فيها، وغاب خبره حينا، ثم عاد حاملا شيئا من محاصيل البلاد، وزين للخديو التغلب عليها وامتلاكها، مغتنما لذلك فرصة قيام الفتنة بين أمرائها وملوكها، وضرب الخلل أطنابه في جوانبها، وأقسم له بأغلظ الأيمان إنه يملكها ويدوخها بنفر من العسكر المصري، وشيء يسير من النفقة.
فأعجب الخديو برأيه ومال إليه، وما زال متزنجر يتردد على الأبواب السنية حتى ولاه (إسماعيل) المحافظة على فرضة مصوع، مفتاح أرض الحبشة البحري، وحلاه برتبة الباكوية - وكانت رتبة سامية، ولم تزل كذلك، حتى جعلها الاتجار بالألقاب والنياشين، في عهد عباس الثاني، مبتذلة محقرة - فسار متزنجر إلى مقر وظيفته الجديدة - وهو مقره القديم - وأخذ يقرب إليه بعض مشايخ السواحل، ويستميلهم بالنقود والهدايا، ويدفع بهم إلى دس الدسائس وإيقاظ الفتن كلما نامت ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فلما كانت سنة 1872 اغتنم متزنجر فرصة ذهاب يوحنا إلى محاربة القالا في الجنوب، واستولى على (كرن) عاصمة البوغوس - واسمها الحبشي (سنهيت) - بألف وخمسمائة رجل، واستمال رأسا يقال له النائب محمد، كان يكره يوحنا، فاشترى منه مقاطعة (آيلت) الواقعة بين الحماسين ومصوع، وأدخله تحت ولاء الخديو مقابل مرتب سنوي يدفع له.
ولم يكن يوحنا بغافل عن مساعي مصر ورغائبها، وكان يراها ترمي شباكها حوله بعين متخوفة وقلب مضطرب، فلما وجدها باحتلالها (سنهيت) ومشتراها (آيلت) تدنو من قلبه هب منذعرا، ووقع في خلده في بادئ الأمر أن يستظل في حماية الدول الغربية، بأن يمثل لها التقدم المصري في صورة غزو إسلامي لبلاد مسيحية، يستدعي أن تقابله المسيحية بصليبية جديدة، فأرسل صديقه چون تشارلز كركهام إلى الملكة ڨكتوريا وباقي عواهل أوروبا في تلك المهمة، ولكنه لم يجد من أحد منهم أذنا صاغية، وعاد رسوله بخفي حنين؛ لأن أيام الصليبيات انقضت بدون أمل في رجوعها مطلقا.
فعزم يوحنا على تولي أمر الدفاع عن نفسه بنفسه؛ لذلك قلد كركهام - ما دام حيا - رياسة مقاطعة من ضمنها (جندا)، الواقعة جنوب (آيلت)، وخليج أربى - وكان المصريون قد استولوا عليه أيضا لفتح ثغر زولا - فرفع كركهام الراية الإنجليزية عليها؛ ليحميها من تعديات مصر حماية فعالة.
ولكنه حدث في سنة 1874 أن الأمير أحمد، سلطان هرر - وهرر كانت سلطنة إسلامية مستقلة شرقي الحبشة، أسسها غزاة العرب بعد قيام الإسلام بقليل، وحكمتها أسرة من أهلها - مات وتولى السلطنة بعده الأمير محمد، وأن هذا السلطان الجديد استبد بالأهلين استبدادا لم يعد لهم معه طاقة على حكمه، فاستنجدوا (بإسماعيل) وسألوه أن يرسل من قبله واليا يتولاهم بدل سلطانهم، فأسرع (إسماعيل) إلى إجابة سؤالهم، وأخذ يسعى في شراء زيلع وبربرة، ميناءي هرر، من الدولة العلية، وما لبث أن نجح في سعيه، وتنازل الباب العالي عنهما في يولية سنة 1875 مقابل زيادة 13365 جنيها على جزية مصر السنوية، فامتد سلطان مصر على ساحل القلزم الغربي عامة، من خليج السويس إلى تچوره، وتجاوزه إلى رأس جردافوي على المحيط الهندي، متناولا بذلك ذات الأرض السومالية القصية.
وإنما رمى (إسماعيل) في هذا المشترى إلى غرضين: (الأول) إتمام تطويق بلاد الحبشة من كل جانب ، حتى من حيث لم يكن ليخطر لأحد على بال؛ لينال منها ما يريد، و(الثاني) تحقيق تحويل مجرى تجارة النيل الأعلى والبلاد الواقعة على البحيرات إلى المحيط الهندي، تحويلا يكون كله في مصلحة مصر.
ولكي تدل المظاهر دلالة واضحة على حقيقة النيات أوفد من جهته في السنة عينها بعثة تحت رياسة ماكيلوپ باشا مدير المنارات المصرية، ومعه فديريجو باشا البحري، والضابطان وورد، ولونج، إلى نهر جوبا؛ ليفتح الطريق بين الهند وخط الاستواء، ورافقهم بسبعمائة أسرة سودانية موالية لتقيم على طول طريق الاتصال بين ينابيع النهر العظيم وسواحل المحيط الكبير، وجهز من جهة أخرى في سبتمبر من السنة نفسها حملة مؤلفة من خمسة أورط من المشاة المصريين، وبلوكين من الباشبوزق، وثلاثمائة جمل ومدفعين جبليين، وعدة سواريخ حربية، وعقد لواءها لرءوف باشا الذي كان حاكما على (جندوكورو) حينما وصلها جوردون أول مرة.
أما بعثة ماكيلوپ، فإنها نجحت فيما انتدبت لأجله نجاحا بشر بقرب تحقيق الآمال المعقودة عليه، ولكن مصالح مصر هناك ما لبثت أن تضاربت مع مصالح الزنزبار، واصطدمت بالمصالح البريطانية في عدنه، فهبت إنجلترا إلى الممانعة والمعارضة، وانتهى الأمر بينها وبين الحكومة المصرية على أن بريطانيا تعترف بملكية الخديو لجميع البلاد الواقعة لغاية الدرجة العاشرة، وأن الحكومة المصرية تعتبر جميع الموانئ، ما عدا زيلع، حرة ومفتوحة الباب للاتجار.
وأما حملة رءوف باشا، فإنها احتلت مدينة هرر في 11 أكتوبر سنة 1875، وقبض قائدها على السلطان محمد وقتله خنقا، وقتل معه خمسة وعشرين شيخا من الزعماء؛ ليأمن كل اضطراب في المستقبل، ورفع العلم المصري في سماء تلك الأصقاع السحيقة.
28
وقد استمرت مصر قابضة على زمام الأحكام في تلك البلاد إلى أن كانت الثورة المهدية، ولم يعد في الاستطاعة إبقاء الجنود المصرية فيها، فأخلتها لأهلها في مارس سنة 1884، فآلت إلى الأحباش في عهد الملك منليك.
فزاد انتقال ملكية زيلع وبربرة إلى الخديوية المصرية، واحتلال الجنود المصرية هرر، في مضايقة النجاشي يوحنا ومخاوفه؛ لأنه أصبح يلمس بيده التهديد الصادر عن مصر، ويراه يتناول جهات متعددة حوله .
ولم يكن القوم في العاصمة المصرية، لا سيما المحيطون بالخديو، يخفون مقاصدهم، بل كانوا يجاهرون بها على رءوس الأشهاد، فيتتبعون سير الفتوحات المصرية في الجنوب والغرب والشرق، ويقولون بأعين تتألق فيها نيران الآمال والمطامع: «إن الأمور سائرة على ما يرام، وقد حان وقت الإقدام والعمل، أما وقد اشترينا زيلع واحتللنا هرر، فإن اكتساح الحبشة بات أمرا لازما ولم يعد منه مناص.»
غير أن الأمريكان ما فتئوا يشيرون بالامتناع عن مناوأة الحبشة العداء، والحرص من الاشتباك معها في حرب؛ إما لأنهم لم يكونوا يرون بعين الارتياح حلول الهلال الإسلامي، ولو كان بشير التمدين والعمران، محل الصليب المسيحي، ولو استظل تحت جناحيه التأخر والهمجية، وإما لأنهم كانوا يعتقدون أن مصر عاجزة عن فتح الحبشة، ويعتبرون أن اكتساح قوة مصرية لتلك المملكة ضرب من المحال، وإما لأنهم كانوا يتوقعون أن تؤدي الحرب بين الدولتين الإسلامية والمسيحية إلى تداخل دولة مسيحية غربية - كإنجلترا مثلا - في الأمر تداخلا تكون عاقبته انخذال مصر.
ولكن الراغبين في تلك الحرب من رجال الحزب العسكري المحيطين بالخديو، كانوا يسفهون آراءهم هذه، لا سيما الأخير منها، ويقولون بحق: «إن الدول الغربية اليوم إنما هي في جانب التمدين، لا في جانب التدين، فلا يهمها إسلام أو مسيحية، وإنما يهمها أن يسود العمران المعمور، وتنتشر المدنية بنعمها الشتى فوق ربوع العالم.»
وكانت الأخبار التي تذاع يوميا، تارة عن تعمير مراكب وتجهيزها في مرافئ القلزم، وطورا عن فتح دارفور ورفع الأعلام المصرية على ضفاف نهري السوبط والنيل الأزرق، أو في سماء خط الاستواء، وعلى سواحل المحيط الهندي - تزيد في حماسة القلوب والتهاب الأرواح، وتحمل على توقع إجراء تطلبه النفوس.
وإن القوم لكذلك، وإذا بنبأ ذاع في الأندية الخاصة بأن الأميرالاي أرندروپ والقائمقام درهلز أقبلا يشتريان جزما طويلة وزمزميات وأشياء أخرى من التي يحتاج إليها في الحملات البعيدة، وما هما إلا يومان وفشا خبر سفر أرندروپ ودرهلز، ومعهما القائمقام رشدي ابن مدير أسوان التركي، واقتفاء الميجور دنيسون الأمريكي أثرهما ليلا.
وكان أرندروپ ملازما في المدفعية الدانماركية، جاء إلى مصر طلبا للصحة والعافية، فتعرف به الجنرال ستون الأمريكاني، وأعجب بأخلاقه وشمائله، فحمله الخديو على استخدامه في جيشه في وظيفة نائب أميرالاي، وما لبث أن رقي إلى رتبة أميرالاي، وعهدت إليه قيادة الحملة التي أعدت، فانضم إليه فيها الكونت زيشي النمساوي - وكان قد نوى تعيينه حاكما على أحد الأقاليم المنتظر فتحها - وأراكيل نوبار ابن أخي نوبار باشا - وكان في السابق محافظ مصوع، وطالما فكر في نيل فخار الفتح ومجده، ومنى نفسه بأكاليل الانتصار، أسوة بأبطال الأزمنة اليونانية، والرومانية القديمة، فكان من أكبر أنصار الحملة وأنشط العاملين على بعثها، بل كان هو الذي شكلها بأمانيه وأحلامه.
ولكي يختلط الأمر على النجاشي، أرسل أرندروپ إليه كتابا في 19 أكتوبر سنة 1875يهدئ خاطره، ويسكن مخاوفه، ويفهمه أن غرض حملته إنما هو تحديد التخوم بين الدولتين، لا التعدي والامتلاك، وكان يوحنا قد استولى على الحماسين، وأقام فيها قوة للمحافظة عليها، فانسحبت في أوائل أكتوبر حالما سمعت بمجيء أرندروپ، ولجأت إلى داخلية البلاد، تاركة فرقة فقط للمراقبة.
ومع أنه لم يصل أرندروپ مدد - بالرغم من أنه كان ينتظره - لكي يزحف إلى الأمام، فقد سار هذا الضابط بجيشه الصغير نحو (أسمرة) و(جودوفولاسي) و(عدى حواله)، وإذ لم يجد إلا مقاومة ضعيفة من الفرقة الحبشية المتروكة للمراقبة عند مقاطعة الحماسين، اتخذ (عدوة)، إحدى عواصم يوحنا، وجهة لسيره، وانطلق يجد نحوها غير مبال بالأخطار، وغير عامل أدنى حساب لقوى خصمه، بالرغم من أنه كان يجدر به أن يتيقظ ويحتاط.
فإن الأسلحة النارية من جهة لم تكن تعوز الأحباش؛ لأنه علاوة على ما ترك لهم منها اللورد ناپيير، وما سبق إدخاله منها بكثرة إلى بلادهم بواسطة زوجة متزنجر الحبشية، أيام أن كان زوجها قنصلا لإنجلترا وفرنسا في مصوع، فإن الحكومة الفرنساوية، في خريف هذه السنة 1875، أهدت إلى النجاشي عدة أسلحة نارية مختلفة، وأوصلها إليه في (عدوة) المسيو دي سارزاك، القنصل الفرنساوي بمصوع، الذي اجتاز للقيام بمهمته هذه صفوف أرندروپ نفسها دون أن تستطيع تلك الصفوف ، بسبب صفته الرسمية، أن توقفه وتستولي على الهدية، مع أنه كان يحق لأرندروپ أن يعتبرها صادرة عن نية عدائية ورامية إلى تعضيد الحبشان على مصر، فيصادرها، أو على الأقل يؤجل وصولها إلى المرسلة إليه حتى تضع الحرب ضده أوزارها. ومن جهة أخرى، فإن صحافيين إنجليزيين كانا قد رافقا حملته مذ أوغلت في بلاد الأعداء، وخدماه بضع خدم أثابهما عليها بمبلغ 200 ريال، اختفيا بغتة في جهة الأحباش دون أن يعلم بتأكيد: أفعلا ذلك من باب الخيانة، وليطلعا النجاشي على تصميمات الحملة المصرية، أم وقعا بالرغم منهما في الأسر؟
29
مهما يكن من الأمر، فإن يوحنا علم في 21 أكتوبر بزحف المصريين نحو (أسمرة)، فاستنفر في الحال عموم المقاتلين من رعاياه في سائر أنحاء مملكته، فتقاطروا إليه أفواجا أفواجا.
فسار من (عدوة) في 30 أكتوبر إلى مقابلة عدوه بجيش يعد بعشرات الآلاف، وكان أرندروپ قد تقدم نحو بلدة يقال لها (تزاتزيجا) حيث انضم إليه ألف سوداني من حامية (سنهيت) وحيث حشد قواه، فإذا بها تبلغ ألفين وخمسمائة جندي مسلحين ببنادق رمنجتن، وبطاريتين من المدافع الجبلية، وست بطاريات سواريخ، وجماعة من الخيالة، فسار بها إلى (ديباروا) و(عدى ماچنتا) و(جودوفولاسي)، وهاجم نقطة جيش بالقرب من (ماچنتا) ليلا، فانهزمت، ولم يجرح من المصريين سوى اثنين. ولما كانت جبال الأسمرة وعرة، وتسيير المؤن فيها عسيرا، اختير للسير بعد ذلك طريق (قياخور) و(جودوفولاسي)، فأقيم القائمقام رائف بك في ممر قياخور بأربع جماعات من البيادة، ومدفعين جبليين، وضم إليه الضابط درهلز بجماعتين من البيادة، ومدفعي ساروخ، ولكن هذا الضابط سار بعد ذلك إلى مركز في الأمام يقال له (تزاناتجلي)، وأقام في (ساجاينت) على مسيرة يومين جنوب (قياخور).
أما أرندروپ فتحصن في (جودوفولاسي)، وسير الكونت زيخي بست جماعات من السود، ومدفعين وساروخين للاستطلاع ، فتقدم الكونت في جهة (عدى حواله) على بعد عشر ساعات من (عدوة)، رائدا مستكشفا، فتأكد من قيام يوحنا بجيشه من عاصمته، وسيره إلى الحرب، فأخبر بذلك أرندروپ.
فزحف هذا بكل قوته إلى (عدى حواله)، وبلغها في 5 نوفمبر، فوجد زيخي مقيما على بعد ثلاثة أميال إلى الأمام في وادي قوندت بجماعتين من السود تحت قيادة الميجور إجلير، بالقرب من نهر يقال له المأرب، ولكن النقطة التي اختارها لكمينه لم تعجب الضابط دنيون، وعدها معرضة لأخطار جسيمة، فخالفه أرندروپ في رأيه، ووافق على بقاء زيخي فيها، ثم استدعى النائب (محمد)، وأرسله في 6 نوفمبر إلى الملك لفتح باب مخابرات معه.
فرأى الرجل أن يتجاوز التعليمات التي أعطيت إليه، فيخدع يوحنا، ويدخل في خدمته، ويسرق أسرار حركاته وسكناته، ويرافقه إلى قتال المصريين، ثم يتخلى عنه في الساعة المناسبة تخليا ينجم عنه سحقه. فبرز أمامه بلباس عسكري مصري، وادعى أنه أهين وامتهن، فغضب وخرج للانضمام إلى بني جنسه تحت راية ملكه؛ لكي يكفر، وهو يقاتل إلى جانبه، عن الذنب الذي ارتكبه في انضمامه إلى أعدائه.
فلم تنطل الحيلة على النجاشي، وأمر بالنائب ومن معه، فكبلوا بالحديد، وزجوا في أعماق السجون.
ولما استبطأ أرندروپ عودتهم، اختلف بين أن يظن فيهم شرا، أو يعتقد وقوعهم في مكروه، فأقبل يبث الرواد لاستطلاع الأخبار، وبعث يستدعي مؤخرته من (جودوفولاسي).
هذا ويوحنا يمكر به ويخدعه، فيتقدم تارة ثم يختفي، ثم يظهر فجأة، ولا يلبث أن يعود إلى الاختفاء؛ لإطماع عدوه في نفسه، حتى انطلت حيلته على المتحمسين في الجيش المصري، فأشاروا على أرندروپ أن يتخلى عن خطة الحرص الزائد، ويتدرع بالجسارة اللازمة، ويسير هو إلى ملاقاة الخصم المحجم عن التقدم، فانقاد أرندروپ إلى تحريضاتهم، وترك أعالي (عدى حواله) المنيعة، ونزل إلى (قوندت) مجتهدا في التقدم سرا، ليسبق الملك القادم في وادي مأرب، ويباغته.
وحدث أن فرقة حبشية من مقدمة النجاشي كانت قد اقتربت من (قوندت) بنية الاستيلاء عليها، فاعترى أهلها الرعب، وطلبوا حماية الجيش المصري، فأسرع المصريون إلى حمايتهم، وانقضوا على رجال تلك الفرقة وأثخنوا فيهم، فجرحوا عدة، وقتلوا آخرين، وتناول جنود من جماعات السود قتيلا، فمثلوا به وخصوه، طبقا لعاداتهم المتبعة في حروبهم مع الحبشان، فاستشاط أرندروپ غضبا، واتخذ إجراءات صارمة لمنع العود إلى تلك الفظاعة.
ولكن المناوشة التي وقعت بين رجاله ورجال متقدمة النجاشي فتحت عينيه إلى خطورة مركزه وضعفه، فخاف على قوة زيخي - الواقفة على انفراد بعيدا - أن يتمكن العدو من قطعها عنه، والعمل على إفنائها قبل تمكنه من إنجادها، فأرسل في 14 نوفمبر القائمقام رشدي مع نصف جماعة إلى جنوب (عدى حواله) لحماية الطريق الموصلة إلى الهضبة التي تخلى عنها، وأرسل دنيسون بقوة مثلها لحماية الجانب الثاني، ونزل هو على رأس أربع جماعات بمدفعين جبليين لينضم إلى زيخي في الوادي.
فلما جن الليل، وصل جيش يوحنا، واحتشد على ضفة المأرب اليسرى، وسطعت أنوار معسكره على مسافة أميال عديدة في وسط الظلام الحالك المحيط.
وقضى القائدان ليلتهما في استعداد للهجوم صباحا، فأرسل أرندروپ أمرا مشددا إلى روشتان بك في (عدى حواله) بأن يتقدم عند طلوع النهار بخمس جماعات ومدفعين جبليين وساروخين والأثقال إلى (قوندت)، وأن يعسكر هناك، وأمر دنيسون ورشدي بالرجوع أيضا إلى (عدى حواله) في الفجر، وأن يستلم دنيسون القيادة العامة هناك، ويقيم في انتظار الأوامر، وبعد أن ترك جماعة في (قوندت) لحفظها، ريثما تصلها جنود روشتان بك، وأقام جماعة أخرى للمحافظة على الممر بين الجبال، ومنع العدو من مؤخرته، سار بثماني جماعات من البيادة، وأربعة مدافع جبلية وساروخين، ليباغت الملك في معسكره.
ولكن يوحنا لم يكن بالرجل الذي يؤخذ على غرة، فإن حياته وهو لص وقاطع طريق كانت قد علمته دوام اليقظة، وكانت الطبيعة من جهة أخرى خصته بمواهب حربية نسبية، جعلته عدوا مهيبا، فكأنه أدرك ما وقع في خلد أرندروپ من أمر مباغتته، فحرك جيشه من مكانه، وانثنى به إلى موقع وافق من نفسه هوى؛ لأنه كان يقصد هو أيضا أن يباغت عدوه.
وفي الواقع، فإن الجيشين بعد مسير ساعة أو ساعتين تلاحما فجأة على ضفاف المأرب، وتهاجما في بادئ الأمر، بعجة غير نظامية، وكانت المدفعية معتمد أرندروپ في عشمه بالفوز، فتمكنت من اتخاذ موقفها، ولكن طبيعة المكان الذي اختاره النجاشي للقتال حصرت مدى نيرانها، وجعلتها عديمة الجدوى. أضف إلى ذلك أن البيادة المصرية، ولو أنها أطلقت نيران بنادقها في الخلاء المفتوح، ففتكت بالأعداء في بادئ الهجوم فتكا ذريعا، إلا أنها لم تعرف كيف تنتفع من مواقع الأماكن، ولا كيف تستخدم ضفة النهر استخداما مجديا نفعا، فزحف الأحباش على رجال السلاحين، وسيوفهم مشهرة، وهم ألف على كل عشرة مصريين، وانقلبوا عليهم من كل جانب، وضغطوا عليهم بين صفوفهم المتتابعة ضغطا شديدا، فما هي إلا نصف ساعة حتى قتلوهم إلى آخر واحد منهم، دون أن يوقف الأيدي المرفوعة - للفتك والجزر - تضرع أو استرحام من واقف أو جاث على ركبتيه.
مسكينة تلك القوة! هذا الموت الفظيع كان مقدورا لها، ومن لم يمت منها بالرصاص مات بالسيف، ومن لم يمت بالرمح مات بالنبوت! وخصى الأحباش بعد ذلك الجثث، ليحمل كل فائز من أولئك الهمجيين ما يستطيع من مخاصي أعدائه، فيعلقها على باب بيته دلالة على انتصاره، وعلامة على الفخر الذي أحرزه بقتل رجال الأعداء، وهذه هي عادتهم منذ زمان بعيد، كما كانت عادة هنود أمريكا الحمر أن يعلقوا على أبواب أكواخهم جلود رءوس أعدائهم المسلوخة عن جماجمهم بشعرها!
وبينما جمهور قوات النجاشي يقضي هذا القضاء المبرم على أرندروپ ومن معه، اندفعت فرقة حبشية أخرى لمهاجمة جنود روشتان بك؛ لأن هذه - وقد سمعت ضوضاء القتال وضجته - كانت قد أسرعت إلى نجدة رفاقها، ونزلت من الجبل بجلبة وضوضاء، مختلطة الحابل بالنابل، جمالا وخيلا ورجالا، وانتشرت بياده ومدفعية وحيوانات أثقال، من (عدى حواله) إلى (قوندت)، فداهمها الأحباش فجأة.
ولكنها لم تنذعر، واستفاد روشتان بك من المنحدر الذي كان وراءه ليجمع شمل قواه بسرعة حوله، واختار لمدفعيته موقعا مشرفا على ميدان القتال بأسره، فدارت المعركة بين الطرفين بحدة، وتراوحت النتيجة بينهما برهة.
غير أن باقي قوى الملك ما لبثت أن فرغت من مجزرة أرندروپ، وتحولت هادرة، كمياه غدير متدفق، إلى مقاتلة جنود روشتان بك، فطوقها من كل جهة، من الجبهة والجانبين والخلف، واندفعت عليها، والألوف فيها تزاحم الألوف، فما هي إلا ساعة حتى داستها دوسا وهرستها هرسا، جاعلة إياها كوما واحدا لا يعرف أحد فيه، كوم لحم بشري دام!
على أن قوادها لم يروا هذا المنظر الفظيع؛ فروشتان بك أصيب في أول القتال بجرح في رأسه، فربطه بمنديل واستمر يشجع رجاله ويقاتل قتال الأبطال حتى أصيب برصاصة أخرى، فلم يغادر مكانه، وبينما هو يلفظ نفسه الأخير بزفير، أمر جنوده بالحمل على العدو برءوس الحراب وصدها، فمات وجنده يأتمر بأمره، ويحمل حملة عنيفة.
وأراكيل بك نوبار جرح جرحا خطيرا في مبدأ التلاحم، فلم يثبط الدم السائل منه بغزارة همته، وما انفك يقاتل كليث، حتى تيقن أن الآمال كلها ضاعت، فتسلق صخرة عالية، وشرب جرعة، ثم أطلق مسدسه على نفسه، وخر قتيلا.
ويروى عن أرندروپ، لما أحاط به الأعداء، أنه فرغ أولا مسدسه على أقربهم إليه، ثم امتشق حسامه، وقاتل قتالا مروعا، حتى جدل على كوم من حبشان، قطع صارمه أعمارهم، فسقط معه ثمانمائة رجل، وسقط ألف مع روشتان بك، ووقعت المدفعية والأسلحة برمتها في أيدي الأحباش، وسبعون ألف ريال، وكل من لم يقتل - وكانوا قليلين - من ضمنهم ثلاثون أسود، صرخوا مذ أحاط بهم الأعداء «ماريكوني»؛ أي خذوني، فنجوا بذلك من الموت والخصي معا.
وإزاء هذه الخسائر المصرية الفادحة لم يفقد الأحباش سوى 350 رجلا بين جريح وقتيل!
أما رشدي ودنيسون فإنهما - امتثالا للأوامر الصادرة إليهما - كانا قد أقاما على قمة الجبل (بعدى حواله) يترقبان، فأتاهما في صباح المعركتين حبشي مصادق، وأخبرهما بانتشاب القتال، فأرسلا يستطلعان، وإذا بعسكري مصري فاز بنفسه من القوتين المسحوقتين أتى وأخبرهما بما حصل، فأخذا يستعدان للقتال، وتحصنا بسور بنوه بسرعة، فظهر العدو أمامهما بقوة، مرتين أو ثلاث مرات في ذلك النهار المشئوم، دون أن يشتبك معهما في حرب، فما زادهما ذلك إلا حماسة في استعدادهما وعزمهما. وإنهما لكذلك، وإذا بعسكري ممن مثل بهم وأمكنهم الفرار قد أتى في حال يرثى لها، ثم أعقبه آخرون، فأخبروا بالكارثة المخيفة والمصيبة الجلى، وألقوا الفزع في قلوب الجنود، ففرقوا على أنفسهم، وسقطوا في أيديهم، ولولا عزم القائدين وحزمهما لفروا هاربين ، ولكن دنيسون ورشدي قويا عزائمهم وحملاهم على التترس والتحصن، وما وافى الليل إلا وأتاهم الجند الذي كان وضعه أرندروپ، المنكود الحظ، على جبل قوندت، وكانوا قد رأوا المعركتين والكيفية الدموية التي انتهيتا إليه، فأسرعوا للانضمام إلى قوة دنيسون الوحيدة الباقية.
فلما بزغ الصباح علت تهاليل الأحباش بالفوز الذي أوتوه، فكانت كأنها زئير أسود عاجة، وشابهت ما انشق عن صدورهم منها في هجماتهم القتالية في اليوم البارح، وكانت زمرة آتية من (قياخور) بمؤن للجيش، فخاف سائقو القطعان فيها، وهربوا، ولم يبلغ (عدى حواله) سوى نصف القادمين.
ثم تعاقبت الأخبار على دنيسون مضطربة، مزعجة، فعزم على التقدم بقوة إلى شفا الجرف ليتحقق صحتها بنفسه؛ لذلك أمر جماعتين ومدفعين بالسير إلى الأمام، فرفض الجند الطاعة من شدة خوفهم، وإذا بطلب من الملك يوحنا وصل إلى دنيسون يسأله التسليم بمن معه، وإذا بألفي حبشي أو ثلاثة آلاف ظهروا وراء القوة المصرية، مهددين مواصلاتها، ليعززوا طلب ملكهم. وكان نص هذا الطلب كالآتي: «إذا سلمتم أوصلتكم إلى حدودكم بأمان، إلا إذا فضلتم البقاء في بلادي.»
فأجاب دنيسون: «إن التسليم غير ممكن، إلا إذا وافق عليه القائد المصري الغائب في (آسا)، وإني لمبلغه طلب الملك في الحال.» وإنما أجاب بذلك ليكسب وقتا.
وكان يوحنا قد عهد إلى دجاش هاتلو، حاكم الحماسين، وجنوده، في مهمة القضاء على القوة المصرية المعسكرة في (عدى حواله)، ولكنه بعد فوزه على أرندروپ، اتضح له من الأوراق التي استولى عليها أن دجاش هاتلو خائن اتفق عليه مع أعدائه، فحبسه، فأدى ذلك إلى امتناع جنود حاكم الحماسين عن القتال، واستراحتهم على أسلحتهم أربعا وعشرين ساعة.
فاستفادت القوة المصرية المعسكرة في (عدى حوالة) من هذه الفرصة غير المنتظرة، وأخذت تنسحب من مراكزها انسحابا في منتهى الصعوبة في طرق وعرة شائكة، وليس مع كل جندي من جنودها سوى بقسماطتين أو ثلاث بقسماطات، فمرت بجودوفولاسي، والرعب يملؤها، وهي تتوقع هجوم الأعداء عليها في كل وقت، ولولا أن رشدي ودنيسون هددا بمسدساتهما الجنود لفروا ذعرا.
ومع ذلك فإن الأحباش - وكانوا يتعقبونهم من كثب - أسروا سبعة وستين متأخرا منهم قبل وصول القوة إلى (قرع) و(قياخور)، ولكن هذه القوة تمكنت في 18 نوفمبر من البلوغ إلى ممر قياخور، بعد تكبد مشقات لا تحصى، ومتاعب لا توصف، فانضمت هناك إلى قوى رائف بك، واستلم هذا الضابط القيادة العامة، فأشار دنيسون عليه بوجوب إخطار الميچور درهلز بساجانييت بضرورة انضمامه إليه وانتظاره في مكانه، فأبى، فطلب دنيسون منه أن يخطره على الأقل بنكبة أرندروپ؛ ليكون على حذر ويتخذ الاحتياطات اللازمة لنجاته، فأجابه إلى ذلك، وأصدر أمره إلى درهلز بالانسحاب إلى مصوع.
وكان درهلز قد سمع بما أصاب القائد العام، فارتد إلى مصوع عن طريق (عدى رسو) و(أركيكو)، وأصبح في مأمن من الطوارئ.
واستمر رائف على الانسحاب، ولكن جيشه تاه في سهل (حاله)، وضل الجنود طريقهم بين التلال، وأنهكهم التعب، وإنهم لفي حالة خور نفوس، وإذا بصيحة راع علت في الفضاء المحيط، فظنوها صيحة الأحباش، واعتقدوا أن هؤلاء الأعداء المهيبين أوشكوا أن ينقضوا عليهم، فاعتراهم رعب طائش، فألقوا بسلاحهم وملابسهم، والتمسوا الحياة من الفرار.
ولكن الضباط تمكنوا في الليل من جمعهم والسير بهم إلى (عدى رسو) باجتياز جبل بمبا، وبعد قطع مسافة مائة وخمسة عشر ميلا، هناك اطمأن الجند وناموا، ثم ساروا إلى (نيغص) فناموا فيها، وفي صباح اليوم الثاني ساروا إلى مصوع، وكان رشدي ودنيسون، بعد ما تأكدا من زوال كل خطر، قد سبقاهم إليها؛ ليخطرا العاصمة المصرية بما حدث.
أما النجاشي، فإنه سار في 17 نوفمبر إلى (عدى حواله) حيث كانت معسكرة القوة المنسحبة، فإذا بتلك البلدة قد احترقت عن آخرها دون أن يعلم من أحرقها، وبينما هو مقيم فيها، يستمري لذة نصره، أتاه خبر القضاء على متزنجر وقوته، ونبأ فشل الحملة التي زحفت من (المتمة ) إلى الحدود الحبشية، فزاد بذلك سروره. أما متزنجر بك، فإنه كان يتوقع تعيينه هو نفسه قائدا للحملة التي وضعت تحت قيادة الأميرالاي أرندروپ؛ لأنه كان يعتبر ذاته أكفأ الناس للقيام بالمهمة المعهود بها إلى ذلك الدانمركي : (أولا) لوقوفه أكثر من غيره على أحوال الحبشة ودخائلها. (ثانيا) لسابقة خدماته في ذلك الميدان. فلما خابت آماله، وعقد لواء الحملة لأرندروپ، أخذ يفكر في عمل يعمله من تلقاء نفسه، يعود بالفخر العظيم عليه، ويعلي منزلته علوا كبيرا في عيني الخديو، فجمع زمرة من الأتباع والموالين له، واستأجر الأدلاء والخبراء من الحبشان أنفسهم، ونزل في خليج أنثلا، ودخل الحبشة أثناء تقدم حملة أرندروپ، وغرضه البلوغ إلى سهول الملح، أو مضيق صنافة، فلازم الأدلاء ركابه خديعة منهم ومكرا، حتى قادوه إلى شواطئ بحيرة يقال لها «أدسه» في بلاد قوم يدعون «التلتلز». فنصب التعس هناك خيامه، ولما جن الليل أوقد أتباعه النيران للاصطلاء والطبخ، واستعدوا للمبيت، وكان سيدهم قد اصطحب معه في حملته هذه المشئومة امرأته الحبشية، وأولاده وبناته، وجملة من الخدم والحواشي، كأنه ذاهب بهم إلى عرس أو وليمة أعدت لهم على الرحب والسعة، لا داخل في بلاد أعداء يعد ملكهم أنه أهين في كرامته، وامتهن في حقوقه! فأكلوا وناموا والطمأنينة في قلوبهم، والأماني ترقص في أحلامهم.
وإذا بجماعة من الأحباش دبوا إلى مخيمهم في منتصف الليل، وأعملوا السيوف فيهم، فهبوا من نومهم مذعورين، وأرادوا الدفاع عن أنفسهم فلم يمكنهم الخوف من ذلك، فأثخن الحبشان فيهم قتلا وطعنا حتى أفنوهم أو كادوا، ودخلوا على متزنجر في سرادقه، كأنهم شياطين الجحيم في ذلك الليل البهيم، فذبحوه مع امرأته وبناته وأولاده ذبح الخرفان، وذبحوا جميع حاشيته وأتباعه، وأخذوا كل ما وجدوه من سلاح ومؤن وذخيرة وخيام ودواب.
وأما الحملة من (المتمة) فإنها تألفت من ست جماعات مصرية، قامت إلى التخوم الحبشية الشمالية الغربية في غضون سير حملة أرندروپ إلى حدودها الشمالية الشرقية؛ لتحويل جانب من قوة النجاشي إليها، وتمكين أرندروپ من القيام بمهمته، ولكن قوة الأحباش كانت أكبر من أن تجزئها قوة صغيرة كهذه، فصد يوحنا حملة (المتمة) وهو يدير رحى القتال في (قوندت).
وكانت العاصمة المصرية، منذ أن فشت فيها أخبار الحملات على الحبشة، باتت شائقة للوقوف على تفاصيل حركاتها، ومتوقعة أن يكون النصر قرينها، بذات السهولة التي اقترن بها في الحملات السودانية. وبما أن الألسنة تذيع عادة الأنباء التي ترتاح إليها القلوب، فإن الإشاعات عن نصر ساحق أحرزته حملة أرندروپ طفقت تنتشر أولا في الأوساط الرسمية، فتثير شعور فرح أو شعور حسد حسبما كانت الأذن السامعة أذن صديق أم أذن حسود، ثم انتشرت في الأندية والمجتمعات عينها، وأبهجتها.
ولكن الأنباء الصحيحة ما لبثت أن وردت، فقلبت شعور الفرح إلى شعور كدر وغم، وشعور الحسد إلى شعور شماتة وتهكم. على أن الدوائر الرسمية أظهرت رغبتها في التكتم وإخفاء الحقائق؛ لأن النكبة كانت من شأنها أن تنفر النفوس الغربية من الحكومة المصرية سياسيا وماليا، فأيام الشدائد المالية كانت أخذت تطل من الآفاق، وحوادث الصعوبات مع فرنسا بشأن الإصلاح القضائي، كانت قائمة على قدم وساق، تزداد تعقدا كلما اجتهد في الوصول إلى حلها.
وغلبت على تلك الدوائر الفكرة بوجوب المبادرة إلى تجهيز حملة أخرى، تحاط جميع مسببات الفوز وتسييرها في الحال للاقتصاص من الأحباش، والانتقام لمجد مصر المهين، بحيث تبلغ الغرب في آن واحد أنباء كسرة أرندروپ، وأنباء فوز الحملة المرسلة للثأر لها فوزا ساحقا، فتستمر الثقة بمصر تامة، بل تزداد رسوخا.
فعبئت أربعة آلايات من البيادة؛ أي 9600 عسكري، وآلاي من السواري؛ أي 800 فارس، وخمس فرق من الفارين، وبطاريتا ميدان؛ إحداهما من نحاس، والأخرى من صلب، وكل منهما مركبة من ست قطع، وبطاريتا جبل، وبطارية ساروخ، يجرها جميعها 334 بغلا، ويقوم بخدمتها 474 مدفعيا بضباطهم وعددهم أربعة وعشرون. وأضيف إلى هذه القوة آلاي بيادة من السود، وهيئة أركان حرب مؤلفة من رئيس وأمير لواء وثلاثة أمراء آلاي وستة قائمي مقام ويوزباشيين وثلاثة ملازمين أول وعشرين ملازم ثان وأربعة عشر عسكريا، فبلغ مجموع الحملة: 11120 عسكريا، و1058 حصانا، و1204 بغال، وحسب أنه بانضمامه إلى بقايا حملة أرندروپ يتكون منه جيش قدره 12000، ولم تكن بالقوة التي يستهان بها، على شرط عقد لوائها إلى رجل ذي كفاءة تامة، ولكن الصعوبة كلها كانت في اختيار ذلك الرجل وتعيينه؛ فالخديو - لعلمه بأن ليس بين كبار ضباطه من أتراك وشراكسة من يصلح للقيادة العامة، ولعدم وجود ضباط مصريين في هيئة العسكرية العليا - كان ميالا إلى عقد لواء الحملة لضابط من كبار ضباط الأمريكان، المتكونة منهم هيئة أركان حرب الجيش: كالجنرال ستون، أو الجنرال لورنج؛ لوثوقه الكلي بهم، وركونه إلى جدارتهم. وكان يعضده في ميله هذا، ويقوي عزمه عليه، الرجال - وعلى رأسهم نوبار باشا، وزير الخارجية في تلك السنة - الراغبون في الفرنج، المقتنعون بوجوب استخدام معارفهم ومعلوماتهم وكفاءتهم، العاملون على بثهم في جميع المصالح لكي ينظموها من جهة، ويعلموا المصريين من جهة أخرى كيف يستغنون عنهم في القريب العاجل.
غير أنه كان هناك حزب آخر - وعلى رأسه شريف باشا وإسماعيل صديق باشا - يكره الفرنج ويمقتهم، ويستنكر وجودهم في مصالح البلاد، واشتراكهم في شئونها، ويبذل جهده في إقصائهم، وإبعاد أيديهم عن الأعمال التي استقدموا للقيام بها، ولولا أنه كان منقسما على ذاته إلى قسمين: «التركي»، وزعيمه شريف باشا، و«المصري»، وزعيمه إسماعيل صديق باشا، وأن التركي نفسه كان منقسما إلى قسمين: «الشركسي»، و«التركي»، وكل من القسمين يكره الآخر، ويدس له الدسائس، بينما الشراكسة لا يقبلون الأتراك، والأتراك يمجون الشراكسة - لما جعل للرجال الراغبين في استخدام الفرنج مركزا، ولا أبقى لهم مكانا.
ذلك الحزب المعادي للغربيين ما فتئ يقبح (لإسماعيل) تعيين أمريكي على رأس الحملة المعدة، ويتخذ من الكارثة التي محقت أرندروپ حجة لتسفيه آراء القائلين بعدم استغناء الحال عن الفرنج، ومرغبا لتعيين ضابط شرقي هذه الدفعة، ولو من قبيل الاختبار والتجربة، ليقود أعلام مصر الإسلامية إلى الأخذ بالثأر من الحبشة المسيحية، للمصريين الذين قتلوا في (قوندت)، حتى تغلب رجاله على جهود خصومهم، وميول (إسماعيل) عينها، وحملوا الخديو على تسليم لواء الحملة إلى السردار راتب باشا.
وراتب هذا شركسي من أنسباء شريف باشا، والمعروف عنه أنه أبي النفس، شجاع، لا يحتمل التصغير، ولا يهاب الموت، ويروى - لتأييد ذلك عنه - أن (محمد سعيد باشا) - وقد كان راتب مملوكه، وهو الذي رباه في كنفه، وأرسله على نفقته الخاصة إلى فرنسا ليتعلم في مدارسها الحربية - غضب عليه ذات يوم، وهو أميرالاي، فاستدعاه إليه، وبعد أن أشبعه لوما وتأنيبا وزجرا اندفع في تيار سخطه عليه إلى حد بعيد فرفع يده - وكانت لضخامتها تعد مخلوقة لصفع الفيلة - ولطمه بها على خده، وطرده من أمامه، فخرج راتب إلى حجرة مجاورة، وتناول مسدسا، وأطلقه على نفسه من جهة فمه بقصد الانتحار لعدم رغبته في الحياة بعد الإهانة التي لحقته، ولعدم تمكنه من التفكر في الانتقام لنفسه من مولاه وولي نعمته، فخرقت الرصاصة خده، ونفذت من تحت قاعدة أنفه من الشمال، دون أن تصيب منه مقتلا، فحمل داميا إلى بيته، وما نقه من جرحه أو كاد إلا وفر إلى الأستانة، خوفا من بطش (سعيد) به، مع أن (سعيدا) - وكانت تعجبه جدا أعمال الشجاعة ومظاهرها، ولم يكن من طبعه يدري ما هو الحقد - كان قد أكبر عمله، وأعاد رضاه عنه في سره إليه، ولم يكن منتظرا سوى شفائه لإعلاء منزلته والزيادة في تقريبه من نفسه، ولم يعد من عاصمة الإسلام إلا بعد وفاة مولاه، فاتخذه (إسماعيل) سردارا لجيشه. وراتب هذا قصير القامة، أسمر اللون سمرة شديدة؛ لأن أمه كانت جارية سوداء، وهو بسبب كثرة انهماكه في الملاذ الجسدية نحيف نحيل ناشف، كأنه جسم مصبر، أو إحدى موميات العصور الخالية.
30
على أن (إسماعيل) وإن انقاد إلى مؤثرات حزب شريف وإسماعيل صديق، وعين راتب باشا نهائيا قائدا عاما للحملة الحبشية، لم يكن بالرجل الذي يعمي نفسه عن الأخطار التي قد تنجم لجيشه عن مثل ذلك التعيين، فرأى أن يخفف من وطأتها، ويزيل من شرها بضم الجنرال لورنج الأمريكي وبعض ضباط آخرين من كبار ضباط أركان الحرب زملائه الأجانب إلى الحملة: الأول بصفة رئيس أركان حرب للجيش، والباقون بصفتهم ضباطا تابعين له؛ ليجد راتب في حكمتهم ودرايتهم العسكرية ما يتمكن به من القيام قياما محمودا بالمهمة المعهود بها إليه.
فارتاح حزب نوبار إلى هذا التعيين الأخير، واعتقدوه كافلا لسلامة الحملة، لتيقنهم من أن راتب باشا سينقاد حتما إلى مشورات لورنج وزملائه ونصائحهم، ويأخذ بها، فلا يرتكب شططا، ولا يلقي بنفسه في تهلكة، ولم يتكدر من التعيين عينه حزب شريف وإسماعيل صديق، لتيقنه من أنه لن يكون للورنج وزملائه أقل نفوذ على السردار، وأن راتب باشا سيهمل نصائحهم وإرشاداتهم، ويضرب بها عرض الحائط، مع بقاء المسئولية في حال وقوع نكبة عليهم شخصيا.
ولكي يظهر (إسماعيل) بجلاء أن غرضه من تسليم القيادة العليا إلى شرقي، وتسليم رياسة أركان الحرب إلى غربي، إنما هو أن يعمل العنصران معا، كل على قدر طاقته، وبنسبة مواهبه، على ما فيه خير البلاد، جمع كبار ضباط الحملة من العنصرين ثلاث مرات متوالية عنده؛ ليلقي عليهم تعليماته الأخيرة، وذلك بحضور ابنه الأمير حسين ناظر حربيته (وهو المغفور له سلطاننا الكامل حسين الأول المبكي عليه كثيرا)، ونوبار باشا، وشريف باشا، وصديق باشا، وغيرهم.
ففي أول اجتماع أفهمهم أن سلامة الجيش قائمة على اتحاد القيادة العليا وهيئة أركان الحرب اتحادا تاما في جميع الشئون، ولاضطراره إلى التغيب في الاجتماع الثاني بسبب وفاة أخيه الأمير مصطفى فاضل في الأستانة يوم 3 ديسمبر سنة 1875، أناب عنه ابنه الكامل في بذر بذور الإخاء بين العنصرين. وفي ثالث اجتماع سلم بيده لراتب باشا تصميم خطة للحملة وضعه الجنرال ستون، وأفهمه جليا أن الغرض منها إنما هو استرجاع مهابة مصر في أعين السودان وأوروبا، وأنه يلزمه، والحالة هذه، محاربة النجاشي، ومواقعته في ميدان مفتوح، والانتصار عليه، حتى لو اقتضت الحال ذهابه بالجيش إلى عاصمته، على أن يكون ذلك قبل شهر مايو سنة 1876.
وطلب نوبار باشا إلى الخديو أن يوصي راتبا وباقي قواد الحملة بمراعاة شروط الحرب وأصولها المتفق عليها عند الأمم المتمدينة: فيمنعون الجيش عن ارتكاب أي عمل وحشي، ويحملون الجند على تجنب الإساءة إلى غير المحاربين من الجيوش ، فلا يقطعون زرعا، ولا يتلفون ضرعا، ولا يحرقون بيتا، ولا يعملون - بالاختصار - عملا فظا لا تجعلهم المقتضيات الحربية في اضطرار إلى ارتكابه.
فلم يكتف (إسماعيل) بتوصية سرداره بذلك جميعه، بل إنه جعله مسئولا مسئولية شخصية عن كل مخالفة في هذا السبيل، ثم استدعى الجنرال لورنج وجمع يده أمام نوبار باشا إلى يد راتب، وقال لهما: «إني أرغب إليكما أن تعملا معا كأخين، وتراعيا الله والبلاد في العساكر المسلمة أعمارهم إليكما.» وأوصى راتب بالإصغاء إلى نصائح لورنج والعمل بها.
31
ومن ثم سافرت الحملة إلى السويس، وخرج الأمير حسين ونوبار باشا وغيرهما من ذوي المقامات الرفيعة إلى محطة مصر لتوديع القواد، فأقلهم القطار إلى ذلك الثغر القلزمي، حيث استقلوا «الدقهلية» إحدى البواخر الخديوية، فذهبت تمخر بهم عباب البحر وعجاجه - لأن الأيام كانت شتاء - حتى بلغت بهم مصوع في 14 ديسمبر سنة 1875.
ولكي تتكون عند القراء فكرة صحيحة من صعوبات تلك الحملة، يكفينا أن نذكر هنا أن الكلام على ظهر «الدقهلية» في رحلتها كان يدور بين المسافرين عليها بالعربية والإنجليزية والألمانية والفرنساوية والتركية والتليانية والنروجية وغيرها، كأن تلك السفينة برج بابل ثان، وذلك بسبب اختلاف جنسيات الضباط المتألفة منهم هيئة القيادة، وجنسيات تابعيهم وخدامهم.
فإلى جانب راتب باشا السردار الشركسي، كنت ترى الجنرال لورنج والكرنيل داي واليوزباشي پورثر وغيرهم من الأمريكان، ونائب الأميرالاي علي بك الإيطالي المعتنق الإسلام، واللفتننت كرنل البارون فون مكلين المهندس النمساوي الألماني، والميچور تورن هايسن النمساوي أيضا الذي كان مع الإمبراطور مكسمليان المنكود الحظ، وكان يحسن التكلم بست لغات، واللفتننت كرنيل دريك والميچور لمسن والميچور لوشي المهندسين، والميچور ولسن الجراح، ورشيد باشا وعثمان رفقي باشا، وكلاهما شركسي، وخورشد بك أمير الآلاي السوداني، وعثمان بك نجيب وعثمان بك غالب الشركسيين أيضا، والكونت سرماني الطلياني، ومحمد بك جابر الأميرالاي المصري البحت، وصبري أفندي رئيس المدفعية والقائمقام إبراهيم لطفي، وكان يحسن التكلم بالإنجليزية، ورفعت أفندي رئيس كتاب السردار، وآخرين لا نريد أن ننزل بالتاريخ إلى حد الاهتمام بذكر أسمائهم، من ملل وأجناس مختلفة .
وبينما الجيش معسكر في مصوع يستكمل معداته، ومعسكر النقل يقام في (أركيكو) على بعد بضعة أميال إلى جنوب مصوع، إذا بكتاب من الجنرال كركهام، تاريخه 18 ديسمبر سنة 1875، وصل إلى القيادة المصرية في 22 منه، يفيد رغبة النجاشي في تسليم مائة أسير وخمسة من المصريين إلى محافظ مصوع - وكان المحافظ شابا في مقتبل العمر يقال له أحمد بك، ويهابه الكل بالرغم من صغر سنه، ومن أنه كان غرا جاهلا، لا يدري شيئا لكونه ابن أخت المفتش المخيف إسماعيل صديق باشا، ناظر المالية المصرية، وكان قد أخلف على تلك الوظيفة أراكيل بك نوبار التعس الطالع ابن أخي نوبار باشا - ولم يمض يومان حتى وصل أولئك الأسرى، وإذا بسبعة وثلاثين منهم مخصيون! ثم وصل كركهام بعد أيام قليلة، يحمل رسالة من النجاشي إلى الملكة فكتوريا، فما كان من الحراس المقامين على مدخل المعسكر المصري إلا أنهم قبضوا عليه، وزجوه في حفرة قذرة، ثم حكم عليه بالسجن فيها، فأقام المسكين في قاعها أياما، ناقما، متململا، شاتما، ثم أطلق سراحه إلى مصوع بعد أن أقيمت لإكرامه وليمة فاخرة، أبى أن يتناول فيها زادا، أو يشرب سائلا؛ لخوفه من أن يكون قد وضع له في شيء من ذلك الموت سما.
وما أقام الجيش في مصوع أياما إلا ووردت إلى راتب باشا إفادة برقية من الخديو تنبئه بأن ثالث أنجاله الأمير حسن، الملازم الأول في فرقة الهوسار الألمانية، نال إجازة من الإمبراطور ولهلم الأول، ليتمكن من الانضمام إلى الحملة المصرية، وأنه قادم إليهم عن قريب ملتحقا بهيئة أركان الحرب، ولو أنه لا يتقلد علامتها. وكان الأمير حسن في الثانية والعشرين من عمره، قصيرا، سمينا، وبالرغم من ذلك فارسا مكملا، ويحسن التكلم بالتركية والعربية والفرنساوية والإنجليزية والألمانية.
فوصل إلى مصوع في المحروسة حوالي آخر شهر ديسمبر، ومعه ياوره يوسف بك، وطبيبه بدر أفندي، فقوبل مقابلة فخمة، ونزل في سراي المحافظ، وما ارتاح من عناء السفر إلا وأراد الجنرال لورنج عملا بكتاب فرنساوي أتاه من الخديو، مكتوبا بخط يده، أن يشغله تحت إدارته في الأركان، ويلقي إلى عهدته مهمة خاصة، ولكن راتب باشا عملا بكتاب آخر أتاه، مكتوبا من الخديو نفسه بالتركية، أبى إلا إبقاءه بجانبه، زيادة في المحافظة عليه والاعتناء براحته. وكان الأمير عينه أميل إلى الإقامة بجانب راتب باشا منه إلى الاشتغال مع الجنرال لورنج، لأن هذا بصفته رجلا جديا كان، بعامل طبيعته وعامل اعتباره الحملة أمرا جديا في طياته مسئولية كبرى، من شأنه استخدام كفاءات الأمير المختلفة في أعمال ذات بال، بينما السردار لم يكن يهمه من وجود الأمير بجانبه إلا أن يجمع حوله أسباب الملاهي، وأنواع الملذات، فيفوز بارتياحه إليه، ورضاه عنه.
لذلك أخذت الأيام - ريثما تستكمل معدات النقل - تمر بمصوع للأمير والسردار، ولا سيما لأولهما: إما في الخروج إلى الصيد والقنص، وإما في الانكباب على لعب الشطرنج، ولما كان أمر تجهيز معدات النقل موكولا إلى المحافظ أحمد بك - وهو الشاب الغر الذي قلنا عنه، والذي كان إلى تهيئة معدات يوم صيد وقنص للأمير في الأدغال والجبال المجاورة أميل منه إلى الاشتغال بتسهيل مهمات الجيش - فإن اليوم طفق يتلو اليوم، والأسبوع الأسبوع، والعمل نائم، ووسائل النقل تهيأ ببطء بالرغم من أن الحاجة إلى الإسراع كانت شديدة، وأن الحض عليه كان لا يفتأ متواصلا من المرجع الأعلى بمصر.
وبما أنه ليس أدعى من الكسل والبطالة إلى التهاون في الواجبات وإهمالها، وليس أنجع منهما «بيئة» لإنماء مكروبات الفساد المادية والأدبية معا، فإن النفور الذي ما انفكت حلقاته متماسكة بشدة بين هيئة الجيش العامل، وهيئة أركان الحرب ما لبث أن اتسع من جهة بشكل مقلق بين رجال الهيئتين، وطفقت القيادة العليا تظهر جهارا من الاستخفاف بإرشادات أركان الحرب، وتقيم في سبيل عملهم من العقبات ما كان لا بد معه من الانتهاء إلى قارعة، ومن جهة أخرى، فإن الجنود أنفسهم لما وقفوا على حقيقة العلاقات بين الهيئتين، ولحظوا مظاهر الامتهان لرجال أركان الحرب بادية على جميع معاملات رجال القيادة العليا وضباط الجيش لهم، شرعوا يعتقدون أن أفيد وسيلة يتقربون بها إلى إرضاء رؤسائهم عنهم إنما هي أن يشاطروهم ذلك الامتهان للغربيين، فيجعلوا مراراته أشد وقعا على أنفسهم، فأخذ ذات الديدابانات يهملون تقديم السلام إلى الجنرال لورنج وضباطه، بينما هم كانوا يتفانون سلاما وتعظيما للأمير مرءوس الجنرال لورنج اسما، ولغيره من الضباط الشراكسة والأتراك الأحط مقاما ووظيفة في الجيش من أولئك الأمريكيين، وأخذ البيطريون المنوطة بهم خدمة الخيول لا يلتفتون إلا إلى خيول الأمير وحاشيته، ويهملون بالمرة خدمة خيل رئيس أركان الحرب وضباطه، فأصبح العمل على الجنرال لورنج وزمرته من أشق الأعمال، بل أصبحت الحياة ذاتها مرة المذاق عليهم إلى حد أخذ يفوق الطاقة، رويدا رويدا، حتى أدى بالجنرال يوما، بعد أن سئم التشكي للسردار من قلة أدب العساكر وقحتهم، ووقاحة الديدبانات، إلى الانقضاض على أحد هؤلاء وإشباعه لكما ولطما ورفسا.
على أن ذلك لم يجد نفعا، كما أن إلحاحه المتوالي وإلحاح ضباطه - لولا التحريضات المتتابعة من مصر - ذهب أيضا أدراج الرياح، فإنه حينما بلغ الجيش مصوع، أي في أواسط شهر ديسمبر سنة 1875، لم يكن قد جمع بعد من الجمال سوى 300 جمل، وقلة هذا العدد - لنقل مهمات جيش زاد، بعد انضمامه إلى ما بقي من حملة أرندروپ، على اثنى عشر ألفا - ظاهرة للعيان. أضف إلى ذلك أن ذات الجمال المجموعة لم تكن من الجنس العربي الجيد، بل كانت من الجنس المصوعي الضعيف الذي لا يتمكن من نقل ما ينيف على نصف حمل الجمل المصري، ومع ذلك فإن أحمد بك محافظ مصوع ما فتئ يتوانى في زيادة ذلك العدد، حتى مضى شهر، وأصبح التعوق موجبا وبالا، فهم حينئذ وجلب إلى المعسكر من الجمال والبغال ما رآه راتب باشا كافيا لتبرير البدء بالزحف، ولو أن أركان الحرب لم يكونوا على رأيه.
فسار الجيش من معسكره في 11 يناير سنة 1876، ولكنه حدث - كما كان منتظرا - أن قلة الاعتناء بالجمال وراحتها، وقلة الانتباه إلى مقدار قوة كل منها، بحيث لا يحمل زيادة على طاقته، أدتا إلى تقطع حبال التحزيم، وسقوط المهمات، وتلف جانب منها، وإلى تشتت الجمال في الفلوات، وفوق التلال والجبال، فأدى ذلك إلى تعب عظيم ومشقة كبرى في جمع شملها، وإعادة تحميلها.
وكان قد رسم تقدم عثمان باشا رفقي إلى جهة يقال لها (بعرزة) للاستطلاع، وهي محلة تبعد عن مصوع مسيرة يوم للمجد المسافر، ويومين للراكب البطيء، فزحف إليها بمقدمة الجيش، ولكن سوء تفاهم أوقعه أحمد رفعت أفندي كاتب السردار عمدا بين راتب باشا والجنرال لورنج، أدى إلى اضطراب في الأوامر الصادرة، أوجب إبدال عدى راسو (أو عدرسه) من (بعرزة)، ونجم عنه ضياع أسبوع على تقدم الجيش الذي لم يصل إلى الهضبة المطلة على وادي (قرع) إلا في ضحوة يوم الأحد 30 يناير سنة 1876.
وفي الغد قدم المعسكر الرأس ليج، حاكم (عدى حواله) الذي عزله النجاشي، وأخبر القيادة العليا المصرية وهيئة أركان الحرب بحركات الملك يوحنا، ولما كانت التعليمات المعطاة لراتب باشا تقضي بالاشتباك مع النجاشي في معركة مفتوحة، وكسره كسرة تؤدبه تأديبا شديدا، ويدوي صداها في العالم، ثم الرجوع إلى مصوع، فإذا تعذر ذلك الاشتباك لركون يوحنا إلى خطة الحيطة والحرص، فالزحف إلى (عدوة) عاصمته ومقاتلته فيها، ثم العودة إلى مصوع، فإذا تعذر هذا وذاك، فالإقامة على هضبة (قرع)، واحتلال الجيرة، وانتظار تعليمات جديدة؛ فإن السردار رأى بعد مداولة مع الرأس ليج المذكور، أن يختار موقعا موافقا ويتحصن فيه، ويجمع كل قوته إليه، ليكون على استعداد لمقابلة الطوارئ.
فأصدر أمره إلى رشيد باشا بالتقدم والانضمام إلى بقية الجيش - وكانت قوة رشيد مؤلفة من 5426 من البيادة، وبطاريتين فيهما 394 مدفعيا، و566 خيالا، ولا تزال مقيمة بالقرب من مصوع - ولكنه أصدر إليه هذا الأمر بدون أن يضع أي وسيلة من وسائل النقل تحت تصرفه، أو يهيئ له أسباب الحصول عليها، وبالرغم من أن وسائل نقل المأكولات إلى الجيش كانت قليلة، وأن مجيء تلك القوة كان من شأنه زيادة عدد الأفواه الآكلة، ما بين بشر ودواب، على قلة الموجود مما يؤكل.
وفي الحقيقة، فإن أكبر مصاعب هذه الحملة المشئومة إنما نجم عن قلة الاهتمام بوسائل النقل على العموم، واختلال الإدارة القائمة بها، إما لعجز في كفاءة الرجال الذين نيطت بهم، وإما لأن رؤساء هؤلاء الرجال والمكلفين بالتوسط بينهم وبين مصادر تلك الوسائل لم يمكنوهم من القيام بمهمتهم القيام الواجب.
وكان رئيس حركة النقل أحمد عرابي بك، المعد في الأيام التالية لإضرام نار الفتنة العسكرية المعروفة في التاريخ باسمه، وقد كان فكر الضباط الأمريكيين فيه حسنا جدا، ويقول الكرنيل داي في مؤلفه المعنون «مصر الإسلامية والحبشة المسيحية» إنه كان يكون ضابطا من خيرة الضباط في قطر غير القطر المصري، فاستبدل وأقيم مكانه شاكر الشركسي، وما لبث هذا أيضا أن استبدل وجعل محله الميچر لوشي الأمريكي، ووضع كلا سلفيه تحت إدارته ضد رغبته، لأنه كان رجلا عاقلا يفهم أن تصغير روح ضابط بوضعه تحت إمرة من هو أقل منه درجة، لا سيما إذا كان هذا الرئيس الأقل منه درجة أجنبيا، ليس خير ما يتخذ من الإجراءات لجعل الأمور تتمشى في مجراها الأمثل.
وفي اليوم الثاني من شهر فبراير نقل المعسكر إلى واد غير الأول، وشرع في التحصن، لشيوع الأنباء باقتراب النجاشي، ولكن قلة مواد الطعام، وندرة وصول حتى القليل منها إلى القوة المتقدمة، اضطرت القيادة العليا إلى تقليل عدد البيادة بين يديها، والاستعاضة عنها بزيادة في عدد المدفعية، فصدرت الأوامر إلى بطارية مستوردة من معامل كروب - كانت لا تزال بمصوع - بالإسراع إلى (قرع)، وكلف دنيسون بالإتيان بها، فسار بها توا، ولكنه، وهو يجتاز بها جبل بمبا، قابل رشيد باشا الراجع من (قياخور) إلى عدى راسو (عدرسه)، عملا بالأمر الوارد إليه بالرجوع بسبب قلة الطعام، فأخذها منه بالرغم من امتناعه، وعاد بها إلى (بعرزه)، وحجته في ذلك أن السكة وعرة، وأن البطارية قد تصاب بعطب لو استمرت على سيرها إلى (قرع)، مع أن معظم الوعر كان قد اجتيز، وأن الرجوع بالبطارية كان يقتضي المرور بها ثانية في الشعاب والمسالك التي أتى بها منها بكل صعوبة، علاوة عن أن علي سامح أفندي رئيس فرق المهندسين والحفارين كان قد أنجز عملا ممدوحا في تمهيد الطريق وتسهيلها، وجعلها صالحة لمرور المدفعية. وأول تحصين أقيم كان من النوع المعروف «بالبلوك هوس» في اللغة الإنجليزية، وهو بناء شبيه بحصن يحيط به خندق ومتاريس، أقامه في مضيق قياخور القائم مقام درهلز والكرنل لوكت، بأمر من الجنرال لورنج، وتحت مسئوليتهما، وكان عبارة عن أربعة جدران، لا سقف يغطيها، مفتوحا لضرب العدو، ومبنيا مع ذلك بحيث لا يرى المقيمون فيه العدو القادم لقتالهم، فكأنه بني - والحالة هذه - ليكون مرمى لمقذوفات الأعداء، لا معصما منها.
ثم أقيم حصن آخر في (قرع) جعلوه على شاكلة قلعة، وخندقوا حوله خندقا على أعظم ما يكون من العمق، مع أن البقعة التي اختاروها له لم تكن تغني شيئا، ولا كانت واقعة في جهة يمكن الاستفادة منها حربيا، وهم لو أحسنوا التصرف لبنوه قرب المضيق الذي هناك، بحيث يحمونه، ويحفظون الآبار التي حوله في آن واحد.
ولما استقر بهم المقام، عهد برياسة فرع المهمات إلى علي الروبي أفندي، وقد اشتهر فيما بعد في حوادث الثورة العرابية، وكان ضابطا من أحسن الضباط، وامتدحه رؤساؤه وزملاؤه الأمريكيون، وامتاز في هذه الحملة دون غيره من ضباط الجيش - ما عدا الكونت سرماني - بأنه كان يرى من الواجب عليه إحاطة علم رئيس أركان الحرب بكل ما يجريه ليكون على بينة منه.
على أن تعيينه رئيسا لذلك الفرع لم يعن - كما كان يجب أن يعني - وضع وسائل النقل تحت تصرفه، فاستمر أمرها فوضى كما كان، وما فتئت البغال والحمير، وعددها نيف وألف ومائة، في مجيئها من مصوع وذهابها إليها، وتحمل فوق طاقتها أحمالا قلما احتيج إليها، كتبن وخيام وأثقال مختلفة، مع أن المطلوب إنما كان تحميلها بقسماط ومآكل أخرى، كان الجيش في أشد الافتقار إليها، ومع بهاظة الحمل كان العساكر والصف ضباط الآتون برفقتها يركبونها أيضا، فيرهقونها، ناهيك بفتك الذباب المدعو «تسلتساليا» بها فتكا ذريعا.
ولما طال المطال بالجيش في حصن وادي (قرع) دون أن يظهر الحبوش إلى المناوشة والقتال، ودون أن ترد أخبار عن حركات النجاشي، أخذ السردار ورئيس أركان الحرب يفكران في أمر الزحف إلى (عدوة) للإيقاع به فيها، ولكنهما اختلفا على الطريق التي يسيران منها، فذهب السردار انقيادا إلى مؤثرات النائب (محمد)، رجل ثقته - وكان قد نجا من سجن النجاشي - إلى تفضيل طريق قودوفولاسي-قوندت على ما سواها، ورأى لورنج عملا بنصائح قسيس فرنساوي كاثوليكي يقال له ديڨلو من جمعية التبشير بالإيمان، وأحد كهنة الإرسالية العازارية في تلك البلاد، أن الأوفق الزحف بالجنود من الطريق المجتازة للمقاطعة الحبشية، التي استعمرتها تلك الإرسالية، لما قد يجدونه فيها من أسباب الرخاء وأنواع المساعدة. ولكن بما أن لورنج نفسه كان كاثوليكيا، فأدلاء النائب محمد لم يتعبوا كثيرا في إقناع راتب بأن غرض خصومهم الأدلاء الأحباش الكاثوليكيين من المرور بالجيش في مقاطعة العازاريين إنما هو محض انتفاع أهل تلك المقاطعة بالريالات المصرية التي تصرفها الجنود والخزينة في ابتياع مأكولات وخلافها منهم، وأن رئيس أركان الحرب إنما يعضدهم في تفضيله طريقهم على طريق قودوفولاسي-قوندت، لكونه كاثوليكيا مثلهم، فكفى ذلك لكي تكثر حول الأدلاء والقس ديڨلو الإهانات التي لا مبرر لها، والاضطهادات السمجة. ولكي يقضي أدلاء النائب محمد على جهود مزاحميهم قضاء مبرما، أذاعوا كذبا نبأ قرب دنو النجاشي من حصن (بعرزه) لمهاجمة من فيه، فأصدر السردار أمره إلى قائد الجند هناك بمنع خروج الخيالة من الحصن، وبالثبات على الدفاع عنه إلى النهاية. ومع إقدامه على إقامة ديدبانات فوق الآكام المحيطة، وأمام الخنادق، وبالرغم من علمه علما يقينا أن النجاشي على بعد يومين على الأقل، لم يفكر في تمرين جنوده التمرين اللازم لجعلهم على استعداد لمقابلة الطوارئ، ولا أمر بإجراء الاستطلاعات التي كانت الظروف تقتضيها لدرء كل مباغتة، والوقوف على حركة العدو، فنجم عن ذلك أنه خيل لبعض الجنود ذات ليلة أنهم يسمعون دبيبا، ويرون أشباحا، فظنوا أنفسهم مبيتين، فهبوا إلى سلاحهم مذعورين، وأطلقوه في الفضاء على العدو الموهوم، فأصابوا عدة من زملائهم المنتشرين خارج الحصن، وسببوا فزعا عاما للحامية كلها.
وبعد أيام قدم إلى المعسكر دچاش يقال له (ولده ميخائيل) مع ابني أخيه، وجماعة من أعوانه وأتباعه، فاستقبلوا استقبالا شائقا، وقدمت إليهم القهوة على صوان فضية من مظال الأمير حسن، فلخوف ذلك الرئيس الحبشي من أن يكون وضع له سم فيها، أبى أن يشربها إلا بعد أن ذاقها أحد الحقيرين من أتباعه دون أن يصاب بسوء، وأنعم الأمير عليه بلقب «باشا» ورتبة «فريق»، وأنعم كذلك برتب مختلفة وهدايا نفيسة على ولدي أخيه. وأهم ما استلفت الأنظار في هؤلاء القادمين كثرة القمل المالئ بملابسهم، حتى لقد لاحظ أحد الضباط الأمريكيين أن مهمة بعض رجال حاشية الدچاش كانت منحصرة في الشخوص إلى قميص هذا الرئيس وردائه، لالتقاط تلك الحشرات المقرفة، وطرحها على الأرض كلما لمح ظهورها، دون أن يثير ذلك اشمئزازا في أحد، كأنه من مستلزمات الحياة اليومية ومظاهرها.
وما مضت أيام قلائل على قدوم أولئك الأحباش إلا وطفقت الرسائل تخرج من خيام السردار والأمير بواسطتهم إلى الرءوس والأمراء الحبوش، مستميلتهم إلى ولاء مصر، وممنيتهم بالأماني الكثيرة والأموال الجمة، ولكي يجعلهم راتب يذوقون شيئا من حلاوة تحقيقها طفق يفكر في مكافأتهم مقدما على الأعمال التي كان يطلبها منهم، ووقع في خلده مرة إعطاء خمسمائة ريال، من المعروفة بريالات ماريا تريزا، إلى أحد رجال (ولده ميخائيل) تشجيعا له من جهة، ومن باب المكافأة من جهة أخرى، على أمانته وإخلاصه في خدمة المصالح المصرية، وكاد يفعل ذلك، لولا تداخل ضابط عال في الأمر، وتفهيمه السردار أن المبلغ إنما يحق لذلك الحبشي حينما تظهر نتيجة مساعيه.
على أن نتيجة التراسل بواسطة رجال (ولده ميخائيل)، كانت قيام التصور في مخيلة راتب أنه أصبح يحكم الديار الحبشية بأسرها من عقر خيمته، وابتهاجه بما آلت إليه سياسته الحكيمة، وأبلغه إياه دهاؤه السياسي.
غير أن استغراق السرادر في أحلامه، وتغذي فؤاده بالأماني العقيمة، لم تحولا دون إرساله الضابط أرجنس الأمريكاني إلى الاستطلاع والاستكشاف، صحبة القس ديڨلو وأحد أحباشه المخلصين، فتقدم ذلك الضابط الجسور، بالرغم من خوفه من الخصي فيما لو وقع في أيدي الأعداء، واجتاز صفوف الأحباش، وما زال سائرا حتى بلغ مكانا لا يبعد عن (عدوه) إلا ثلاثين ميلا. ولما وقف على كل ما كان رئيس أركان الحرب راغبا في الوقوف عليه، عاد إلى المعسكر المصري، بعد أن انقاد إلى نصيحة دليله الحبشي، وذبح بضع دجاج ونثر دمها وريشها في الطريق، ليحمل النجاشي على اعتقاد وجود سحر فيها، فيمتنع عن طرقها.
وأتى الواقع مصدقا لقول الحبشي، فإن النجاشي اعتقد أن سحرا عمل له، وبدلا من تقدمه في الطريق التي عاد أرجنس منها، عدل عنها إلى طريق (قوندت- أسمرة)، فسار في 21 فبراير من (عدى حواله) إلى (ماي جوردا)، و(قودوفولاسي)، و(ترايبين)، وعسكر فيها ريثما تجتمع عليه بقية جيوشه.
فوجدته هناك طلائع المصريين في 25 فبراير، وكان فعل الدليل الحبشي قد حول أنظار القيادة العامة إلى عدم إمكان مجيئه إلا من تلك الطريق، وإذا بالجزء المهم من جنوده قد نزل في (ماي قوردا) و(قودوفولاسي)، و(عدى حواله)، و(عدى ماجسا). ولما كان الغد زحف النجاشي إلى (عدى برو)، وأرسل قسما من خيالته إلى (تساتزيجا)، فلما بلغت ميمنته (عدى نتزو)، اختار من بين بيادته وفرسانه مائتي مقاتل، وأرسلهم إلى الأمام بمثابة طليعة، لتنسم الأخبار، واستطلاع الأحوال.
وكانت الأنباء عن تقدمه، وضخامة جيشه، وتنوع حركاته، قد بلغت المعسكر المصري، فأخذ القلق مأخذه من القيادة العليا، وأركان الحرب فيه، وطفق بعضهم يبدي المخاوف على سلامة جناح الجيش، ويرتئي الانسحاب، ويقول بلزوم إجرائه! كأنهم إنما أتوا إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه لمجرد نزهة عسكرية. ومما زاد الطين بلة أن الشقاق على اللازم عمله بلغ أشده بين السردار ورئيس أركان حربه، وأدى إلى عزم هذا على التخلي عن كل مسئولية، وترك راتب باشا وشأنه يخرج كيفما يريد من المأزق الذي بات فيه.
ولكن ضميره لم يطاوعه على البقاء على عزمه، فكلف الكونت سرماني بالقيام إلى الاستطلاع في 26 فبراير، صوب الجهة التي بلغ نزول الملك فيها، فسار سرماني حتى بلغ كرباريا، حيث علم أن بيادة الأحباش في (عدى برو)، وأن معسكر النجاشي العام في (أبامتي)، فعاد بنبأ ذلك إلى جهة الاختصاص ، فرأى الكرنيل داي أن يستوفي التفاصيل ويستوعبها، وحبب استطلاع سرماني في استطلاع ثان، فعارض راتب فيه، وذهب إلى عدم فائدته، ولكن الأمير نفسه وافق عليه، وحض لورنج على إجرائه، فخرج أرجنس وولسن بألف أو ألف ومائتي فارس، وتوغلا في السير توغلا بعيدا، لم يمكنهما من العود في الميعاد المضروب، فطار القلق عليهما وعلى القوة التي معهما في عموم المعسكر، وصعد الأمير حسن باشا ذاته على أكمة ليستطلع، فرأى غبارا عن بعد، فتخيله دخان قتال تصوره قائما بين الكشافة والحبشان، فأسر إلى راتب بظنونه، فأمر السردار فدق نفير النجدة، فبرز طابور ومدفعان، وخرج وأركان حربه، وخرجت هيئة أركان الحرب بأسرها وراءه، وتبعهم القواد وياورانهم، وكان مئات من الرجال في السهل بدون انتظام؛ منهم من يبحث عن العدو، ومنهم من يستعد للهرب منه بدون أن يدري أحد، ما عدا راتب والأمير، لم هو هنالك، وإلى أين هو ذاهب.
وبينما هم كذلك خيم المساء عليهم، فجمع السردار زمرة من الرجال المنتشرين في السهل، واستعد لمعركة دفاعية، ولكي يكون على بينة من أمره صعد على صخرة مرتفعة، وأخذ يجيل نظره في جهات الأفق الأربع، وهو في منتهى الحيرة، لا يدري ما العمل. أما باقي الخارجين، بل ذات الذين بقوا في الحصن، فإنهم استمروا في هياج كبير، ودام الهرج والمرج بلا معنى، وبدون غرض معلوم، حتى عادت القوة المستطلعة بعد الغروب بساعة، ولو داهم الحبشان الجيش المصري في ذلك الوقت لأفنوه عن آخره؛ لأنه كان كقطيع غنم ليس من راع على رأسه.
على أن رضا راتب باشا بخروج قوة أرجنس إلى الاستطلاع إنما كان عقب أن تأكد من وصول عثمان بك باثنين وعشرين جماعة إلى (قياخور). وقد تركنا عثمان بك هذا، وهو يأخذ من دنيسون بطارية كروب بالقوة، ويعود بها إلى هذه البلدة، فوافته إليها بطاريات كروب الأخرى، ولما بلغ السردار خبر اجتماعها، أمر بالسير بها إلى (قرع)، ورسم بزحف عثمان بك إلى (قياخور)، فوصلت البطاريات (قرع) في 25 فبراير، وشرع عثمان بك في تنفيذ الأمر المعطى إليه.
غير أن العدو شرع يهدد الخطوط ما بين (عدى راسو) و(قياخور)، وكان راتب ولورنج معا يظنان في بادئ الأمر أن «البلوك هوس» الذي أقيم بالقرب من هناك كاف للدفاع عن المضيق، ولكن لورنج ما لبث أن أدرك أن «البلوك هوس» لا قيمة له في الدفاع عن المؤن والذخيرة المارة بسهل (حالة)، فما زال براتب حتى حمله على إرسال قوة في 24 فبراير إلى وادي (قياخور) لمراقبة الطرق المؤدية من الغرب إلى ذلك السهل. ولما وصل هناك عثمان بك في 26 منه بفرقته، وضعت القوة كلها التي اجتمعت هناك تحت إمرته، وكلف بالمحافظة على الوارد من (عدى راسو). فطفق يحسن التحسينات التي أقامها رائف بك، ووضع المدافع بحيث تحمي مدخل الوادي من الغرب، واستخدم فرسانه في سهل (حالة) لمنع نزول العدو على وسائل النقل الخاصة بالجيش.
أما النجاشي، فإنه مع بقائه في (أبامتي) أمر جيشه بالارتداد إلى (ترامني)، كأنه يرغب في تضليل أفكار خصومه، ثم عاد فتقدم في أول مارس لغاية (تزاتزيجا)، وشرع يهدد بالهجوم تهديدا جديا، فخاف راتب أن يحدق الخطر به من كل جانب، وأراد الانسحاب لينجو، فعارضه لورنج في ذلك، وطلب إليه إجراء استطلاع آخر على شكل مظاهرة، والقيام بمناورة تهديدية لحركات الملك، يكون الغرض منها حشد الجيش كله في (قرع).
ولكن راتبا لم ينصع إلى طلبه، وترك يوحنا يقوم بنفاذ الخطة التي رسمها لنفسه، بدون معاكسة، الأمر الذي جعل كل الخط من مصوع إلى (قرع) مضطربا مزلزلا، وأدى إلى عود قيام النزاع بين الجيش وهيئة أركان الحرب، فطفق رشيد باشا وعثمان بك على اختلافهما مع بعضهما، لا يطيعان أمرا يرد لهما من الجنرال لورنج، واشتدت مضايقة السردار لهذا القائد الأمريكي إلى حد لم يعد يستطيع معه إرسال أي كتابة أو أمر إلا عن طريق رفعت أفندي رئيس كتاب القيادة. ولم يكتف رشيد باشا باحتقار الأوامر الواردة من لورنج، بل أخذ يوجد كل ما استطاع إيجاده من العراقيل في سبيل الميچر لوشي رئيس قسم النقل، غير مبال بالمضار التي تعود على الجيش برمته من جراء ذلك.
وكانوا قد سلموا القيادة (ببعرزة) إلى الميچر فيلد، لتكون عينه ساهرة على المهمات، ولكن لورنج - بعدما اشتدت الأخطار حولها بسبب حركات النجاشي - رأى أن يعزز نقلها بجنود تحافظ عليها أثناء اجتيازها سهل (حالة)، فأصدر أمره لذلك، ولكن (راتبا) أبى الموافقة؛ لئلا ينقص عدد الجنود الموجودين معه في الحصن.
وبينما القواد المصريون في هذا الاختلاف وهذه المنازعة كان النجاشي يتقدم نحو الجيش المنكود الحظ المسلمة أزمته إليهم بخطى الثعالب وعزم الأسود، حتى أصبح على بعد بضع ساعات من (قياخور)، و(عدى راسو). ولما علم راتب بذلك زادت مخاوفه، فبادر إلى عقد مجلس حربي سري، أبعد عنه كل الضباط الغربيين للمداولة في الأمر، فلم يقر ذلك المجلس على رأي، وكان العدو الزاحف باستمرار في تلك الأثناء قد أضحى على بعد ثلاث ساعات من (قياخور).
والنجاشي، والربوع حوله كلها عيون وآذان ترى وتسمع وتحيطه علما بماجريات الأمور عند أعدائه، قد تمكن من الوقوف على تشتت فرق المصريين، ما بين (بعرزه) و(عدى راسو) و(قياخور) و(قرع)، فعزم على الانقضاض بغتة على قوتهم الكبرى في (قرع) وسحقها؛ لتبيت باقي الفرق تحت رحمته، فإما أنها تسلم، وإما أنه يبيدها، وليس لها من بين يديه مفر، وما صمم على ذلك إلا وشرع في تنفيذه.
فكان من الواجب، والحالة هذه، على قائد الجيش المصري أن يترك في حصن (قرع) قوة كافية للدفاع عنه دفاعا مؤقتا، ويزحف بمعظم قوته إلى (قياخور)، فينضم إلى الفرق المقيمة فيها، ويخرج بجيشه كله لمقابلة الملك، فيقضي الله ما يشاء بينهما.
بذلك أشار الضباط الأمريكيون، ولكن رشيد بك وعثمان باشا رفقي قاوما رأيهم وعاكساه، وهما، لجهلهما الأصول الحربية، لا يشعران بالضرر الذي يسببانه، وما أبى راتب عمله أقدم النجاشي عليه، فإنه بعث يستدعي إليه كل القوات التي كانت قد انفصلت عنه لمهمات كلفت بالقيام بها، واجتهد في حمل المصريين على الاعتقاد بأن مهاجمته لهم ستكون يوم 6 مارس؛ ليغرر بهم ويمنعهم عن الافتكار في حشد جموعهم كلها في صعيد واحد بسبب ضيق الوقت. ونجح في خداعه لدرجة أن لورنج نفسه، في الليلة ما بين الخامس والسادس من شهر مارس، أبى أن يقلع ملابسه، ونام بها على سرج حصانه، وما بزغ الفجر إلا واحتذى جزمة القتال وأخذ له أهبته، وتقدم الدچاش، والراس (ولدا ميخائيل) إلى السردار بالإذن لهما في الخروج إلى مقاتلة الملك، فأبى راتب أن يسمح لهما؛ إما لقلة وثوق منه بهما، وإما احتقارا منه لشأنهما الحربي، فانسحبا.
وكان المصريون حينما أنشأوا الحصن في (قرع)، قد أقاموا أمامه بضعة استحكامات غير محكمة، تحول دون مرمى المدافع، وتقصر حتما من مداها، فطالب لورنج (راتبا) مرارا بإزالتها، وذهبت مطالبته دائما سدى؛ لاعتقاد السردار الفائدة كلها في تلك الاستحكامات؛ لما فيها من الوقاية للجنود، كذلك كانوا قد وضعوا مخازن المهمات في تلك الاستحكامات؛ اتقاء لشر قد يقع بسببها في الحصن عينه، فيصيب من فيه من كبار الضباط والأمير نفسه، لا سمح الله! فما فتئ لورنج يحض السردار على نقلها إلى داخل الحصن لتكون المحافظة عليها أنجع، والاستفادة منها أضمن، وما فتئ السردار يمهل ويهمل لغاية اليوم الرابع من مارس؛ إذ ظهرت جليا مضار إبقائها، بحيث لو استولى الأحباش على الاستحكامات الخارجية، لاضطرت القوة المصرية كلها إلى التسليم، فأمر بنقلها، وأضيع في نفاذ ذلك الأمر وقت كان يمكن الاستفادة منه في عمل مفيد من الأعمال التي يحتم دنو ساعة القتال القيام بها.
ولما أن انقضت الساعات الأولى من النهار السادس من مارس دون أن تظهر للعدو طلائع (بقرع)، أسرع القواد إلى عقد مجلس حربي جمع إليه كل الضباط الكبار من شرقيين وغربيين، ما عدا الميچر درهلز، فكان فيه راتب باشا، والجنرال لورنج، وعثمان رفقي باشا، وعثمان بك، والأميرالاي دريك، وداي، فتداولوا معا في الأمر وفي الواجب عمله، فذهب الأمريكيون مرة أخرى إلى لزوم الخروج من الحصن (بقرع)، وحشد الجيش إلى الأمام، فالانضمام إلى القوات المعسكرة في (قياخور)، فتغطية هذا الممر، والزحف بكل الجيش المصري المتجمع على ذلك المنوال ، إلى مصادمة الملك والإيقاع به، وبذلوا أقصى جهودهم لإقناع زملائهم الشرقيين بصوابية رأيهم هذا، ولكن السردار والقواد الشرقيين أبوا الموافقة على ذلك، لا سيما أن الوقت أصبح ضيقا، والحركات العسكرية باتت عرضة لمقاطعة الأعداء إياها في أثناء تطورها، وفضلوا بقاء كل قوة في موقفها تدافع عنه بنفسها، ولو أن في ذلك البقاء المنفرد تعريضا للفرق إلى أن تسحق كل منها بعد الأخرى بالتتابع، بدون أن تتمكن الواحدة من إنجاد الثانية. وانفض المجلس وكل من الفريقين متشبث برأيه، وانقضى اليوم على غير جدوى وبدون استطلاع.
فلما كان صباح النهار التالي، ولم يظهر شيء يدل على رغبة الحبوش في القتال، اعتقد المصريون أن المعركة أجلت من جديد، ولم يتخذوا أهبتهم لها، ولكنه ما وافت الساعة العاشرة إلا وظهر العدو آتيا من ناحية دنجل وأمهور، من الجنوب والشمال والغرب معا، وسمعت أصوات طبوله وزموره مالئة الفضاء.
فخرج الجيش المصري من الحصن بتسرع بعد أن أبقى السردار فيه 2500 جندي للدفاع عنه، ومائتي ناقة، واجتهد قائد كل جماعة وفرقة في اختيار الموقف الموافق له، فاشتبك الخصمان معا، وأحدهما - وهو الحبشي - يحاول الإحداق بالثاني من كل جانب، والثاني - وهو المصري - قلما يدري كيف يوفق بين جهود جماعاته، فصعد صبري أفندي بالبطارية التي كانت تحت قيادته إلى قمة تل يحمي جانب الجيش الأيمن، وأصلى الأحباش المتسلقين ذلك التل، للتدفق من أعلاه على المصريين، نارا حامية، وأسرع داي بأورطة كاملة إلى تعضيده، فصرت ترى صفوف الأحباش تتسلق الأكمة متدافعة كأمواج البحر الزاخر، فما تبلغ إلى مرمى نيران البطارية إلا وتحصدها تلك النيران حصدا، حتى لقد رؤي ساروخ واحد يقلب صفا بأكمله. وصعد الأميرالاي محمد بك جابر بآلايه إلى القمة عينها، ولكن من جانبها الآخر، وقاتل هناك قتال الأبطال صادا الأمواج الحبشية المرتطمة عليها حوله، ولو أرسل راتب باشا قوة كافية لحماية مؤخرة هذا الآلاي وتلك الأورطة، لقضى على الأحباش قضاء مبرما، ولكنه كان حاصرا كل انتباهه فيما كان يعتقد أنها مسئوليته الكبرى، وأعني بها المحافظة على سلامة الأمير ؛ لذلك، حينما رأى صفوف الأحباش تتكاتف بالرغم من النيران المصرية التي كانت تحصدها، وتتقدم تقدما خطرا، على بطئه، أشار على الأمير حسن باشا بالتوجه إلى الحصن والاعتصام فيه، ريثما تتجلى المعركة عن نتيجة واضحة، وحتم عليه الانصياع إلى إشارته، متسلحا لإلزامه بطاعته بأوامر الخديو أبيه الموجبة المحافظة عليه، فما وسع الأمير إلا الإذعان، فحول رأس جواده وجهة الحصن، وانطلق يعدو نحوه، فما كان من جانب عظيم من العسكر إلا وتبعه؛ لظنهم أن الأوامر تقضي بذلك. واتفق في الوقت نفسه أن الصفوف الحبشية المهاجمة جانبي التل من الوراء تمكنت من تسلقها خلف الآلاي والأورطة المدافعين عنه في طرفيه الآخرين، فبات صبري أفندي ومحمد بك جابر بين عدوين يفوقانهما عددا بما لا يحصى، فدافعا عن مركزيهما دفاع الأبطال، بل دفاع الليوث الكاسرة، ولكن الكثرة تغلب الشجاعة، فإن الأحباش تدفقوا من كل صوب عليهما بصياح وصلصلة سلاح مزعجين، وأطبقوا عليهما إطباقا، فقتل محمد بك جابر، وبادت أورطة داي بأسرها، ووقع الميچر صبري أفندي في أيدي الأعداء أسيرا.
ولما بات جانب الجيش الأيمن لا شيء يحميه، نزل الأحباش من الأعالي عليه بصيحات عظيمة، ونفخ غير منقطع في الأصوار. وكان مصريو ذلك الجناح يقاتلون الأعداء المواجهين لهم، فلما رأوا الأعالي تلقي عليهم بسحب أعداء آخرين، ذعروا وسقطوا في أيديهم، وطفقوا يجرون بسرعة وراء الذين اتبعوا الأمير، عساهم ينجون معهم بالاعتصام في الحصن، ولكن القائد العام كان - لسوء حظهم - قد جعل في سيره إلى قتال العدو واديا بين ذلك الحصن وبينهم، فلما أرادوا اجتيازه ازدحمت أقدامهم فيه ازدحاما مروعا، مكن الأحباش المقتفين أثرهم، بسيوف ورماح تقطر دما، من الفتك بجموعهم فتكا ذريعا، حتى غطوا بجثث قتلاهم أرض ذلك الوادي المشئوم وسدوه بها.
على أن الذعر لم يتمكن من جمهور الجيش برمته، فإن فرقا منه ما لبثت تقاتل في مكانها، ملتفة حول غير الهيابين من قوادها، ولم تتبدد إلا بعد أن أردى الموت أولئك القواد، وكان أحسنها بلاء فرقة رشيد باشا؛ فإن هذا الضابط، النافخة في جسمه روح الشراكسة الأقدمين، شراكسة العصور الوسطى البطلية، لم يتزحزح من مكانه قيد خطوة، وما انفك سيفه عاملا في أجسام الأحباش الملتفين حوله، حتى اتحذ صاحبه من جثثهم المكومة متراسا تترس به هو ومراسلته، ولولا أن السهام تناولتهما من بعيد، وألقتهما قتيلين فوق ذلك الكوم، لاستمر حساماهما يرديان الأعداء إلى المنتهى، ومما يذكر بالعار لأولئك الأحباش أن فروسية رشيد باشا لم تثر فيهم شعور الإعجاب والاحترام، فما سقط الرجل مضرجا بدمائه إلا وانقض عليه أولئك الهمجيون، وجردوه من ثيابه، واقتسموها بينهم، ثم خصوه وذهبوا للفتك بغيره.
وكان الجيش المصري الذي خرج مع راتب من الحصن وواقع النجاشي 5200، فقتل منهم ألف، وأسر ألفان ومائتان، وتمكن من الرجوع إلى الحصن 400 سليم بسلاحه، و1600 جريح، وكان ممن أسروا غير صبري أفندي قائد المدفعية الدكتور بدر أفندي، والدكتور چونسن، والميچر درهلز، ورفعت أفندي رئيس الكتاب. وممن قتلوا، غير محمد بك جابر ورشيد باشا، النائب محمد والدكتور محمد علي باشا البقلي. أما الدكتور بدر أفندي والقائممقام صبري أفندي، فإنهما تمكنا من العود إلى الجيش بمساعدة امرأتين حبشيتين من نساء آسريهما، أحبتاهما فأنقذتاهما، كما هي عادة نساء الحبش على ما يقال. كذلك وقع للدكتور چونسن بعد حوادث مؤلمة غريبة لا داعي لإيرادها هنا، وأما الدكتور محمد علي باشا البقلي فإنه كان في مصوع، ولكنه حالما علم بتحرك الجيش للقتال، رغب إلى القيادة العليا، بالرغم من بلوغه سن الشيخوخة الفانية، أن تستدعيه إلى مواقع الطعان، عساه يحظى بنعمة الاستشهاد، فدعته، فنال مناه، ولكن لا بسلاح الأعداء، بل على يد سوداني من الجيش المصري أسر معه، وأمر بقتله، على زعمه من ذات الحبشي آسرهما النافر من بطء سير البقلي، ومن اضطراره إلى إطعامه، وقد حوكم هذا السوداني فيما بعد بمصوع، ولم يصدق قضاته روايته، بل استفظعوا عمله لما كان لمحمد علي باشا البقلي من المكانة في النفوس، وحكموا على ذلك الوغد بالإعدام.
وبعد أن استولى الأحباش على ثلاثة عشر مدفعا، وعلى كل سلاح المقتولين، وجميع الذخيرة التي لم تطلق في القتال، تقدموا نحو الحصن بقصد القضاء على الحامية التي فيه وتخريبه، فأصلتهم الجنود نارا حامية، لم يستطيعوا عليها ثباتا، فجددوا هجومهم مرتين، ولكنهم صدوا بخسائر جسيمة، فارتدوا على أعقابهم حانقين. وفي يوم الجمعة العاشر من شهر مارس أقدموا، لشدة غيظهم، على ذبح ألف أسير مصري من المنكودي الحظ الذين وقعوا بين أيديهم، وشرعوا في الأيام التالية يعذبون الباقين ثم يذبحونهم، حتى أفنوهم كلهم، ما عدا مائة وثلاثين تمكنوا من العود إلى الحصن.
ومع أن علي الروبي أفندي المتولي إدارة المستشفيات بذل أقصى جهده في الاعتناء بالجرحى، وأن بدر أفندي الطيب لم يأل جهدا في معالجتهم، وأبدى من صنوف الإخلاص وتضحية الذات ما استحق عليه ثناء الجميع، فإن مائتين من الجرحى ماتوا أيضا! فكأن نتيجة المعركة في (قرع) كانت كالآتي: 3273 مقتولا ومجروحا جرحا قاتلا، و1416 جريحا، و530 سالما فقط، وبما أن القتلى المدفونين في الوادي ومجرى السيل - وأناف عددهم على ألفين - لم يدفنوا دفنا أصوليا، فإن الأمطار ما لبثت أن كشفت التراب عن جثثهم، فأكلت الضواري رممهم.
غير أنه إذا بكت مصر دمعا سخينا على أولادها الذين ضحى بهم في تلك الأودية السحيقة جهل قوادهم الأتراك والشراكسة، فإن الحبشة، وإن تغنت بالفوز في (قرع)، لم تجد بدا من البكاء بدل الدمع دما؛ فإن عدد قتلاها لغاية 10 مارس بلغ خمسة آلاف، ناهيك بالجرحى، والذين فروا، فلم يبلغوا ديارهم إلا معطوبين.
على أن ذات التغني بالنصر لم يكن في محله في (قرع)، بل ولا في (قوندت) عينها، فإن الجيش الحبشي الذي فتك بأرندروپ وحملته كان يزيد على سبعين ألف مقاتل؛ منهم 15 ألفا مسلحون بأسلحة نارية، ولم يقل الجيش الحبشي الذي قاتل في (قرع) عن خمسين ألفا، فإن كركهام كان يقول: إن النجاشي يستطيع حشد من 15 إلى 20 ألف فارس و20 ألف بندقلي، ومن 50 إلى 100 ألف بيادة. ويذهب درهلز - وقد مكث في أسر الأحباش خمسة وأربعين يوما، ووقف على كثير من أسرارهم - أن عدد الذين داهموا القوة المصرية الصغيرة في (قرع) كان يربو على أربعمائة ألف.
ولا أدل على مقدار الخسائر التي أصابتهم أكثر من انسحابهم بعد تلك المعركة بدون أن ينالوا من حامية الحصن مأربا، مع أنها كانت تحت رحمتهم، ولو صبروا على حصرها فقط بدون الحمل عليها ومقاتلتها لقطعوا عنها الزاد، واضطروها إلى التسليم. ويروي الخبيرون أن الذي أجبر النجاشي على الانسحاب إنما هو خسارته نصف جيشه وأكثر، بسبب الفارين عنه بعد المعركة. وكانت خسارته هذه تكون أكبر بكثير لو أن عثمان بك قائد القوة المصرية في (قياخور) لم يظهر من الجهل والغباوة والحمق مظهرها الأقصى، ولم يحجم عن الاشتراك في المعركة، بالرغم من أن العدو كان ضمن دائرة مرمى مدافعه، بل ذات بنادقه، وهو لو اشترك فيها لفل بمقذوفاته ورصاصه شمل الأحباش المهاجمين التل القائم عليه آلاي جابر بك وأورطة داي ومدفعية صبري أفندي من الوراء، ولصعقهم صعقا، فمكن بذلك أولئك الأبطال من الاستمرار على حماية جناح الجيش حماية ربما أدت إلى فوز. والأدهش من إحجام ذلك الضابط ومخالفته للمبدأ الحربي النابليوني الذي يحتم على كل قائد فرقة أن يسرع نحو النار حالما يسمع دويها، لنجدة رفاقه المشتبكين في قتال مع العدو، هو تهنئته نفسه فيما بعد على عدم اشتراكه في تلك المعركة! وهو لو كان قائدا في أمة غير أمتنا المصرية هذه لجيء به، بسبب ذلك، أمام مجلس حربي، ولحوكم محاكمة صارمة.
ومما يثبت أن النجاشي - بالرغم من بقائه سيد ميدان معركة (قرع) - لم يعتبر نفسه فائزا فوزا حقيقيا، هو أنه بادر في 12 مارس إلى إرسال رسول يعرض الصلح على السردار، ويلتمسه منه، وقفاه بمندوب خاص يدعى ليكو منكروس وركي، قدم المعسكر بصحبة 10 أو 12 ذات حيثية، من ضمنهم پركنس زوج ابنته، المشهور عنه أنه ابن اللورد پركنس، فاستقبله السردار والأمير استقبالا شائقا، وقدما له هدايا فاخرة، من ضمنها جواد أبيض من كرام الخيل، وقاما بواجبات ضيافته بكيفية سنية. وما لبثت المخابرات في شأن الصلح أن دارت بين الخديو والنجاشي بواسطة السردار وذلك المندوب.
فطلب الخديو رد كل السلاح المأخوذ من المصريين في الحرب إليهم مقدمة لفتح أي مفاوضات تكون، ولكنه عاد فتنازل عن هذا الطلب، وأذن لراتب بالتفاوض مع مندوب النجاشي، فتفاوض معه أياما، ثم بعد أن أهدى إليه 500 ريال وأواني فضية، وأهدى أتباعه 300 ريال ومائة صليب، أعاده إلى يوحنا لكي يخبره بما وصلت إليه المفاوضات، ويأتي من لدنه بتعليمات جديدة.
وفي 3 أبريل وردت إشارة برقية إلى الأمير حسن تصرح له بالرجوع إلى مصر، فترك الحصن في ثاني غد من ورودها، وبلغ مصوع بفرقة من الخيالة في صباح اليوم السادس من الشهر، فوجد «المحروسة» في انتظاره هناك، فاستقلها وعاد إلى أحضان أبيه. ولم يمض على وصوله يومان إلا وصدرت الأوامر إلى راتب باشا بعقد الصلح بأحسن ما يمكن من الشروط والجلاء عن البلد.
ولما كان الفصح الحبشي مقتربا، اغتنمها السردار فرصة جيدة ومناسبة لإخلاء حصن (قرع)، والسير بقوته إلى الحصن الذي ابتناه الكرنيل لوكت في ممر (قياخور)، فما وصله واستقر فيه إلا وأقدم على عملين يذكرهما له التاريخ بمداد الاشمئزاز، ويدلان على مقدار تعسف العنصر التركي الشركسي في تلك الأيام بالمصريين، بل بذات الضباط منهم، وإليك بيانهما: (1)
كان قد اتفق لملازم أول مصري والجيش معسكر في (قرع)، قبل واقعة 7 مارس، أن عثمان بك أمير آلايه الشركسي ضربه ذات يوم بدون سبب، وبدون ذنب، فرفع الملازم شكواه من ذلك إلى السردار راتب باشا، وبينها بيانا مفصلا، فلم يلتفت السردار إليها، وضرب بها عرض الحائط، فرأى الملازم أن ضربه وهو ملازم لا يتفق مع الكرامة المطلوبة له، والتي تطالبه نفسه بها، ولا مع هيئته في نظر مرءوسيه، فتخلى عن وظيفته، ورجع إلى الصف بصفته جنديا بسيطا، وأظهر في حاله هذه الجديدة من الطاعة والامتثال وحسن السلوك، وأبدى من ضروب الشجاعة ما جعله موضع إشارة البنان، وأعلى منزلته في أعين العسكر على العموم، ولكن أمير آلايه الشركسي عد عمله هذا خارجا عن حدود الأدب العسكري، ومستوجبا عقابا صارما يردع غيره عن الاقتداء به، وشاطره راتب باشا رأيه، فما استقر في حصن ممر (قياخور) إلا وأمر بذلك الرجل الأبي فسيق أمام مجلس حربي، وحوكم محاكمة أصولية على زعمهم، فحكم المجلس عليه بالموت تحت الرصاص، ونفذ الحكم فيه.
32 (2)
كان قد قام من (مصوع) إلى (قرع ) مدد تحت قيادة إسماعيل باشا الشركسي، فوصلها حوالي أواسط مارس؛ أي بعد الواقعة بأيام، ولكنه حدث، لما بلغ المدد (قياخور) أن قائمقام مصريا شعر بتوعك في مزاجه، والتمس من إسماعيل باشا التصريح له بالبقاء في هذا الحصن حتى يشفى، فأبى عليه ذلك زاعما أن مرضه ليس مما يستوجب الإمهال، فألح القائمقام، لا سيما أن الرفض الصادر عن رئيسه زاد فعلا في وطأة الداء على جسمه، فأمر إسماعيل باشا طبيب الفرقة بالكشف عليه، واستعمل في أمره ألفاظا أدرك الطبيب منها أن الباشا يرتاح إلى تقرير لا يكون موافقا للمريض، فكشف عليه، وقرر أن المرض ليس ذا بال، فما كان من الباشا إلا أنه ذهب بنفسه إلى خيمة ذلك القائمقام، وأمر باقتلاعها، وقلبها على رأسه، وحتم أن يسير الرجل مع أورطته مشيا على قدميه، فازداد المرض ثقلا على المسكين، وحال دون تمكنه من الاستمرار على المشي، فتأخر عن أورطته، فأمر إسماعيل باشا الشركسي بتجريده من رتبته وتنزيله إلى الصف نفرا بسيطا! ففعل. ولكن ذلك لم يشف غليله، كأنه كان بينه وبين ذلك القائمقام ثأر قديم، فلما استقر الجيش العائد من (قرع) في (قياخور)، طلب محاكمته أمام مجلس عسكري، فحوكم، وحكم المجلس عليه بالإعدام، فأخذوه وأجلسوه على أرض، موثق الركبتين، مغلول الكوعين وراء كتفيه، وأطلقوا عليه الرصاص، فجرح جروحا عدة، ولكنه لم يمت، فكلف باشجاويش بالإجهاز عليه، فقتله صبرا!
33
وإننا لدى مطالعتنا هذين الحادثين، ووقوفنا على ما أجمع عليه المؤرخون من غربيين ومصريين من أن كبار الضباط الشراكسة كانوا شديدي القسوة والجبروت على الضباط المصريين، لا سيما الصغار منهم، وأنهم كانوا يؤاخذونهم بالعنف والشدة على أصغر الصغائر، لكيلا يفشلوا على زعمهم، ويلقونهم في أضيق السجون عند أقل حادثة، نفهم بجلاء لماذا قام أحمد عرابي بثورته، وندرك بسهولة أنه كان لا بد منها ما دامت روح القيادة العليا هي عينها التي تولت زمام حملة سنة 1876 المشئومة.
وكان السردار منذ قيامه من (قرع) قد كلف أورطة بالسير أمام الجيش لتمهد له الطريق وتجهزها فيما بعد (قياخور)، وتهيئ له أسباب الراحة والاطمئنان، فانطلقت تلك الأورطة، وقامت بمهمتها، حتى بلغت حصن (أمباتقان) المقام في وسط المسافة بين (قياخور) و(ينجس)، وكان المنظور أن الذين ابتنوه، وقضوا عدة أسابيع يشتغلون في حفر آبار بجواره، قد أوجدوا منها العدد الكافي، واعتنوا بحرص تام بحفظ الماء فيها، ولكن قلة الصيانة - وهي النقص الأكبر في أخلاقنا الفردية والقومية على العموم - أدت إلى إهمال شأن تلك الآبار حتى طمرها التراب وعفى آثارها، فلما لم تجد الأورطة المتقدمة أثرا للماء فيها اجتازتها إلى (ينجس) بدلا من تنظيف الآبار وتطهيرها لإعادة الماء إليها، أو حفر غيرها لتفي بحاجة الجيش القادم.
فنجمت عن ذلك نكبة أخرى أصيب الجيش بها؛ لأنه إذ لم يجد ماء بعد سير حثيث متعب فل وتبعثر وتشتت أيدي سبا، ولما أنهك الرجال النصب في تلك الفلوات المجهولة، شرعوا يركبون خمسة وستة على البهيم الواحد، فأدى ذلك إلى إبهاظ حيوانات النقل إبهاظا أودى بحياة معظمها، وبات الذاهب من (قرع) - وما كاد المصريون يخلون حصنها إلا واحتله الأحباش ودمروه - إلى مصوع يرى الطريق مغطاة بجثث الرجال والبهائم، وقد اجتمعت عليها الطيور الكاسرة والوحوش الضارية متبارية في نهشها، كأنها دعيت إلى وليمة لم تكن في الحسبان!
على تلك الحالة الرديئة وصلت بقية الحملة إلى مصوع، حيث أقامت أياما في انتظار ورود الأوامر إليها بالعودة إلى مصر، فلما جاء المرسوم بذلك نزل السردار بمن معه في إحدى السفن الخديوية، وأنزلوا ما بقي من المدافع والأسلحة والمهمات في ثلاث سفن كبيرة أخرى، وأقلعوا قاصدين السويس، وكأن النحس أبى إلا مرافقة ألوية راتب إلى النهاية، فحمل سفينة منها تدعى «دنقلة» على الارتطام بصخر في الماء، فغرقت بما عليها، ولم ينج منها غير الرجال، ولما وصل العساكر إلى السويس سيروا على الأثر إلى رأس الوادي، حيث أقاموا أياما، ثم سرحوا، فعادوا إلى أوطانهم يحملون أنباء البؤس والشقاء اللذين حلا بهم، والنكبات التي احتملوها.
هكذا انتهت الحروب مع الحبشة، بعد أن كلفت الخزينة المصرية نيفا ومليونين من الجنيهات، ولولا أن سوء طالع البلاد حال دون رغبة الخديو في تسليم قيادتها إلى الأكفاء من موظفيه، بضرب الصفح عن كونهم غربيين أو شرقيين، وأن العنصر الشركسي المتغلب في المراجع العليا على دوائر المشورة أبى إلا مقاطعة الغربيين واحتقار كفاءتهم، اعتدادا منه بكفاءته المعدومة، لما آلت جهود (إسماعيل) إلى تلك النتيجة الوخيمة، ولما باتت نكبة الحبشة من أقوى عوامل ضياع الثقة الغربية بمصر ومقدرتها.
لذلك قلنا بحق إن تحديد التخوم بين الأملاك المصرية والحبشية أصبح من أهم المشاغل والأمور؛ لأن النجاشي بعد الفوز الأدبي الذي أوتيه بانسحاب الجيش المصري بخفي حنين أصبح شديد المراس في طلباته، بعيدا عن حدود التسامح والتساهل في التسليم بالمطالب الخديوية، فقضى جوردون مدة ولايته كلها على السودان مشتغلا في تسوية الخلاف، عاملا على إعادة المياه إلى مجاريها بين الدولتين. وكان أول أمر باشره عند توليه الحكمدارية أنه ذهب إلى مصوع لعقد وفاق مع النجاشي بشأن الحدود، لكنه وجد (ولدا ميخائيل) شاهرا العصيان على يوحنا، ووجد أن يوحنا يلقي تبعة عصيانه على تحريضات سرية تأتيه من مصر، فأجل النظر في الأمر إلى فرصة أخرى، وذهب إلى دارفور للنظر في إخماد ثورة الأمير هارون الرشيد كما مر، ثم عاد إلى (سنهيت) فوجد (ولدا ميخائيل) لا يزال على عصيانه، فلكي يبرهن للنجاشي على أن مصر لا يد لها في تمرده، طلب إليه أن يتحد معه على سحقه، فلم يجبه يوحنا إلى طلبه، فعاد إلى الخرطوم ومصر، ثم رجع بطريق البحر الأحمر إلى هرر، فوصلها في أبريل سنة 1878، فوجد رءوف باشا مشغولا عن الرعية بشئون تجارته، وقد كثر ظلمه، فعزله.
وأما الحبشة فلم يتوصل إلى الاتفاق معها.
إلى هنا تقف حركة الفتح والتوسع في أيام (إسماعيل)، ويؤخذ منها بصفة إجمالية أن السير صموئيل بيكر، فيما بين سنة 1870 وسنة 1873، احتل وادي النيل الأبيض الأعلى لغاية (جندوكورو )، وأن الزبير فتح بلاد بحر الغزال فدارفور، وأن جوردون كمل عمل بيكر، فأسس نقطا حربية لغاية (مرولي) على نهر السمرست، واحتل ماسندي عاصمة مملكة يونيورو، ووضع حدا للمنازعات التي كانت قائمة منذ دهر بين قباريجا وآتفينا وريونقه، سليلي أول ملوك اليونيورو، على تقسيم هذه المملكة! فأجبر قباريجا على الامتثال لإرادته، وعين الاثنين الآخرين حاكمين على (ماجونجو) و(مرولي)، تحت ولاء الخديو، وأن حملة عسكرية أخرى بلغت بحيرة ڨكتوريا، وأقامت على بعد قليل من شلال ريبون العظيم نقطة عسكرية عند الدرجة 0,30 شمالي خط الاستواء، وأن الجنود المصرية احتلت في الوقت عينه بربرة، وعهدت إليها مهمة التقدم بالتدريج على طول حدود الحبشة الجنوبية الشرقية، للإحاطة بهذه البلاد، بإخضاع عموم المقاطعات الممتدة ما بين البحر وينابيع النيل، وأن توسع السيادة المصرية على ساحل أفريقيا الشرقي سار بخطوات متساوية مع سير الفتوح في داخلية القارة، وأن مصر وضعت قدميها بثبات وعزم على خليج عدن في سنة 1873، وأن متزنجر، بصفته محافظ مصوع والحاكم العام للسودان الشرقي، ما فتئ يوسع دائرة ولايته حتى مدها رويدا رويدا على ساحل الصومال فيما وراء بربرة، وأن الخديو استخدم ذلك الثغر قاعدة لتسيير حملات متتابعة ضد قبائل الصومال المجاورة، لا سيما قبائل القالا، فقهرها على أمرها، وأنه استولى على هرر بدعوة من أهلها، وأنه لما لم يعد في سبيل تجمع أملاكه بعضها إلى بعض سوى الحبشة أراد كنسها من سبيله، فأوقف دفاعها عن نفسها، وسوء اختيار القواد الذين نيطت بهم محاربتها، سير جنوده الفاتحة المنصورة.
فكانت نتيجة هذه الفتوحات كلها أنه أضيف خمسون ألف ميل مربع إلى مساحة الدولة المصرية، ونيف وثلاثة عشر مليونا ونصف مليون إلى عدد سكانها.
الفصل الثاني
العناية بالعلوم وتوسيع دائرتها1
أبدو فيخضع من بالسوء يذكرني
كأنني فوق أعناق العدى علم
أحمد بن شاهين الدمشقي
غير أن أهم نتائج تلك الفتوح تمكن (إسماعيل) من إرسال عدة بعثات علمية إلى أواسط أفريقيا ومجاهلها، وأقاصي سواحل المحيط الهندي الشرقية؛ للقيام باستكشافات شتى في أبواب مختلفة، أثرت العلوم من ورائها، وزادت دائرتها اتساعا، ورفع في الوقت عينه شأن دولته رفعا باهرا.
وذلك علاوة على ما سبق لنا ذكره في الفصل الخامس من الباب الأول، من مظاهر عنايته الفائقة بالمعارف والتعليم والحركة الفكرية، وما بذله لأربابها والقائمين بها من صنوف الإكرام والترغيب ما لم يرو عن عاهل شرقي غيره، منذ أيام كبار العباسيين وكبار الفاطميين.
ولما كان تفصيل وقائع تلك البعثات، على ما فيه من لذة وتشويق للمطالعة، يستدعي كتابا على حدته، يحسن بالمجمع العلمي المصري أن يكلف بوضعه أحد أعضائه الأفاضل، ولو على سبيل الاعتراف بما كان (لإسماعيل) عليه من أياد، نرانا مضطرين لئلا يطول هذا المؤلف بين أيدينا طولا منتقدا إلى الاكتفاء بنبذة وجيزة عنها والإشارة إليها فقط.
على أننا لسنا بذاكرين هنا إلا البعثات المرسلة من (إسماعيل) على نفقة حكومته الخاصة، مغضين النظر عن البعثات التي شجع على إرسالها المجامع العلمية الغربية، من نوع الشركة الجغرافية الملكية بلندن وغيرها، أو قام بها أفراد كالسير صموئيل بيكر، بمساعدته الفعالة.
ومرجع الفضل في تمكين (إسماعيل) من الإقدام على إرسال تلك البعثات إنما هو لاستقدامه الضباط الأمريكيين، وانشائه مدرسة خاصة لتخريج أركان حرب، واعتنائه اعتناء فائقا بتربية ضباطها، ثم لاحتياطه برجال ذوي عزم وشجاعة من الغربيين والمصريين على السواء، رأوا لذة كبرى في إيقاف حياتهم على الرحلات والاستكشافات العلمية.
وإليك بيان تلك الرحلات والاستكشافات مأخوذا عن كتاب «مصر الخديو» للمستر إدوين دي ليون القنصل الأمريكاني السابق لنا ذكره مرارا: (1) رحلة جوردون من جندوكورو إلى بحيرة ألبرت نيانزا، برفقة واطسون، وتشيندال، وچيسي، لمعرفة مجرى النيل الأبيض في تلك الجهات، والوقوف على أحوال البلاد الممتدة على ضفافه؛ الجوية والطبيعية والزراعية وغيرها. (2) رحلة واطسون وتشيندال بأمر من جوردون، من الخرطوم إلى جندوكورو، للغرض والمهمة عينها. (3) رحلة واطسون وتشيندال أيضا في ديسمبر سنة 1874 إلى رچاف بالقرب من جندوكورو، ليرصدا انتقال الزهرة، ويضعا تقريرا عنه للمراصد الفلكية بمصر والغرب. (4) رحلة چيسي بأمر من جوردون إلى بحيرة ألبرت نيانزا، وطوافه فيها للوقوف على اتساعها، وعلى مقدار المنصب من مياهها في النيل سنويا، ولمعرفة أحوال القبائل القاطنة على سواحلها وغير ذلك. (5) رحلة لونج تحت إمرة جوردون لارتياد مجرى النيل، واختباره بين بحيرة فكتوريا نيانزا ومرولي، اختبارا شاملا، واستكشافه بحيرة إبراهيم، المسماة كذلك على اسم أبي الخديو، ووصفه إياها وصفا وافيا. (6) رحلة لينان وچيسي وبياچيا، تحت إمرة جوردون، لتحقيق مجرى النيل، ودرسه درسا دقيقا، ما بين شلالات كما، وبحيرة ألبرت نيانزا. (7) استكشاف چيسي الفرع الخارج من النيل بالقرب من بحيرة ألبرت نيانزا، والسائر نحو الشمال الغربي. (8) استكشاف بياچيا الفرع الخارج من بحيرة إبراهيم، والسائر نحو الشمال. (9) رحلة جوردون بين فويرا ومرولي، لدرس مجرى النيل بينهما. (10) رحلة لونج ومانيو إلى البلاد ما بين النيل الأبيض بالقرب من جندوكورو وبحر الغزال، لاختبارها ودرس أحوالها وطبائعها، واستطلاع بلاد ماكياكا ونيام نيام (النمانم). (11) رحلة الكرنيل كلستون ومعه خمسة من ضباط أركان الحرب، لاستكشاف وتخطيط الطرق ما بين الدبة ومتول، والدبة واتيل. (12) تجول الكرنيل كلستون في الجزء الشمالي من إقليم كردوفان، لوضع تقرير واف عنه، وقضاؤه عدة شهور في تلك المهمة. (13) رحلة الميچر پراوت لارتياد إقليم الكردوفان عامة، والوقوف على دقائقه، ووضعه خريطة شاملة مفصلة لغاية الدرجة الثانية عشرة من العرض الشمالي، وتجواله، ومعه الخمسة الضباط البادي ذكرهم من ضباط أركان الحرب في تلك الأصقاع، تجوالا قطع فيه نيفا وستة آلاف كيلو متر، وتحديده سبعة عشر موقعا تحديدا فلكيا. (14) قيام الدكتور پفند تحت إدارة كلستون وپراوت بإجراء اختبارات نباتية، لمعرفة نباتات وأزهار إقليم الكردوفان، والعود بمجموعة نباتية من تلك البلاد، كان لها شأن يذكر عند علماء التاريخ الطبيعي. (15) قيام الكرنيل پردي واللفتننت كرنيل ميسون وخمسة من ضباط أركان الحرب المصريين بارتياد الطريق وسيره ما بين دنقلة والفاشر عقب استيلاء الجنود المصرية على دارفور. (16) رحلة الكرنيل پردي واللفتننت كرنيل ميسون، والميچر پراوت، وتسعة من ضباط أركان الحرب المصريين إلى دارفور، ودار فرتيت، وحفرة النحاس، واستطلاعهم أحوال تلك البلاد الجوية والطبيعية والزراعية والمعدنية، وسيرهم من جبل ميروب شمالا إلى السكا جنوبا، وودداي غربا، ووضعهم خريطة عامة شاملة لجميع هاتيك الأصقاع بعد اجتيازهم 6500 كيلو متر، وتعيينهم 22 مركزا تعيينا فلكيا دقيقا. (17) قيام الدكتور پفند، تحت إدارة الكولونيل پردي، بإجراء اختبارات نباتية لمعرفة نباتات إقليم دارفور المفتتح، وأزهاره، والعود منه بمجموعة نباتية كان لها شأن المجموعة التي جاء بها الدكتور عينه من كردوفان. (18) رحلة متشل الچيولوچي، وأميليانو، وضابط من ضباط أركان الحرب المصريين من قنا إلى البحر الأحمر، بالقرب من القصير، ووضع خريطة لتلك الجهات وتقرير علمي عنها. (19) رحلة متشل عينه بمن معه إلى البلاد الواقعة في شمال زيلع الغربي، وبالقرب من فرضة تتچورا، للوقوف على حالها من الوجهة العلمية على العموم، والچيولوچية على الأخص. (20) قيام القائمقام مختار والمساعد القائمقام فوزي باستطلاع الأرض ما بين زيلع وهرر، وتخطيطها، ووضع خريطة لها وللبلاد الواقعة في جيرتها من جميع الجهات. (21) بعثة الكرنيل لكيت والكرنيل فيلد، واللفتننت كرنيل دريك، والضابط بليغ أفندي، والميچرات ديوليو ودنيش وديوهولي، والكبتن إرجنس، وعدة من ضباط أركان الحرب الآخرين إلى جوار مصوع وهضبة الحبشة، لدرس طبيعة الأرض وطوبوغرافيتها، ومناخ البلاد، ووسائل معيشتها، ولوضع خريطة مفصلة لها، وذلك قبيل الحمل عليها عسكريا. (22) بعثة متشل بعد اكتشافه منجمي ذهب قديمين، وأميليانو من مصوع إلى هضبة الحبشة لإجراء أبحاث چيولوچية، وهي البعثة التعيسة التي أسر فيها الأحباش متشل ورجاله، وأذاقوهم العذاب ألوانا وصنوفا، وقد بين ذلك الأمريكي الفاضل والمنكود الحظ معا تفاصيل حوادثها في الكتاب الخاص الذي وضعه عنها للجنرال ستون، والذي يدخل قارئه في كنه أسرار المعيشة الحبشية، وأخلاق أولئك الأقوام الهمجيين.
2 (23) رحلة الضابط عبد الرزاق نظمي وبعض زملائه من أركان الحرب المصريين، من بربرة إلى جبل دوبار، للوقوف على حال البلاد الواقعة بينهما، ووضع خريطة تبينها وتشرحها. (24) رحلة الكرنيل وورد، واليوزباشي صدقي إلى سواحل المحيط الهندي الإفريقية الشرقية، لدرس طبيعتها، ومعرفة مواقعها، ووضع خريطة تفصيلية لها. (25) رحلة الميچر ديوهولي، صحبة ضابط من ضباط أركان الحرب، لاستطلاع الطريق بين أسيوط وعين العجبة، ووضع خريطة لها تسهل على القوافل السير فيها. (26) رحلة الضابط محمد هدايت من ضباط أركان الحرب تحت إدارة متزنجر، للاستطلاع ما بين فرضة تتچورة وبحيرة أعوسا. (27) و(28) و(29) بعثات مختلفة إلى كردوفان ودارفور وخط الاستواء، لإجراء اختبارات واستطلاعات بارومترية، وترمومترية متنوعة. (30) بعثة برتن إلى أرض مدين للوقوف على معادنها وغلاتها. وبرتن رحالة مشهور جال المعمور بأسره تقريبا، ووضع كتبا ترغب في مطالعتها، وصف فيها أسفاره وصفا حيا.
وإن الإنسان ليقف مبهوتا حائرا أمام انبعاثات هذه الهمم الإسماعيلية الفائقة في ميدان لم يخطر لأحد من أسلاف صاحبها العمل فيه، مع أن المدة المنصرمة بين ملكهم وملكه قصيرة، ويكاد العقل لا يتصورها كافية لنضوج مثل هذا التقدم الرائع في العقلية العلمية، وتقدير العلم حق قدره لمجرد ذاته.
وفي الحقيقة، فإننا نعلم أن (محمد علي) الرجل العظيم على سعة عقله، وقوة بداهته، وصفاء ذهنه، لم يكن يقدر أن يفهم مطلقا ما هي الفائدة من صنع الخرط، حتى إنهم يروون عنه أن سليمان باشا الفرنساوي، بينما كانت الحرب قائمة على قدم وساق في سوريا، بعث يطلب من إدارة الأشغال العمومية بمصر إرسال فرقة من المهندسين إليه لكي يضعوا خريطة لتلك البلاد، لا سيما لبعض أجزاء منها كان يشعر باحتياجه إلى معرفة طوبوغرافيتها بالدقة، لأعماله الحربية، فلما كونت الفرقة، ووضعت الأدوات اللازمة لها تحت تصرفها، التمس من (محمد علي) التصريح لها بالسفر، ولكن الباشا حين علم أنها مسافرة لغرض عمل خريطة فقط رفض قائلا: «وما الفائدة من عمل خريطة، ما دامت البلاد في أيدينا؟»
3
وإننا نعلم أن الخرط المساحية التي صنعها الإيطالي المدعو (مازي) مع بضعة شبان مصريين متخرجين من القصر العيني لبعض أجزاء مصر السفلى، حينما مسحت عموم الأطيان المصرية في سنة 1822 تحت إدارة المعلم غالي كبير القبط وملاحظته، قد بعثرت كلها ودثرت بالرغم من نفاستها وشدة الحاجة إليها،
4
وإننا نعلم أيضا أن الرجال الذين أحاطوا بالباشا العظيم في حياته وساعدوه على نفاذ مشروعاته لم يكونوا، إذا استثنينا منهم بعض غربيين، سوى أفراد ذوي همم عالية ومخلصين، لم يكونوا من العلم بحيث يفهمون فائدة هذا العمل النافع الجليل، فإن لينان باشا حينما تعين باشمهندسا للوجه القبلي، وأحيط بزمرة من المهندسين المتخرجين من مدرسة هندسة القاهرة، طالب كلا منهم بعمل خريطة للجهة الكائنة تحت إدارته ليقدر مقدار كفاءته، وطلب من حكومة (محمد علي) الآلات اللازمة لذلك، فأجابته عن لسان محمد بك المنسترلي، وكان شيخا يكاد يكون أميا: «إن الطلب المقدم منك طلب صائب، ونقر لك أن ما تريد أن تعمله عمل مفيد، ولكن حيث إنا لا نعلم ما هي هذه الخرط، ولا ندري ما إذا كان في وسع المهندسين أن يصنعوها، فإنا نود أن نرى أولا بعضا منها من ذات صنعهم، فإذا أعجبتنا أسرعنا إلى إعطائك الآلات والأوراق التي طلبتها.»
5
ونحن نعلم كذلك أن لينان باشا نفسه في سنة 1840 - وكان إذ ذاك بكا - وضع بعد متاعب جمة خريطة عامة لمصر السفلي، ورسمها وكملها، ثم اقترح على الباشا العظيم أن ينشرها لتعم فائدتها، لا سيما بمصر، حيث يهم الكل، وعلى الأخص الحكومة، معرفة الترع والجسور والأشغال الخاصة بالري، فأعرض (محمد علي) عنه، ولم يجبه لا بنعم ولا بلا،
6
ونعلم أن لينان هذا أيضا وضع، بناء على أمر (محمد علي) نفسه، خريطة لمديرية الفيوم، راقب صنعها أدهم باشا - وكان رئيس ديوان الأشغال العمومية - مراقبة دقيقة، فبرزت خريطة جميلة جدا مقاسها ، فصنعوا منها واحدة أخرى مقياسها
وأعطوها للأمير تنفيذا لرغبته، فأهملتا مع ذلك، فضاع أثرهما بل ذكرهما،
7
ونعلم أن عناية حكومة (عباس الأول) بدفترخانات الأشغال وتصميماتها ورسومها وخرطها وملفات أوراقها، تمثلت في هذا العمل المادي، وهو أنهم وضعوها كلها في زكائب كبيرة كزكائب القطن، ورموها تحت دوس الأقدام في مخازن ملأى رطوبة وعفونة وجرذانا، فأكلتها تلك الرطوبة وهذه الحيوانات،
8
ونعلم أخيرا أن صدور أمر (محمد سعيد) إلى مصري يقال له محمود بك (محمود باشا الفلكي) - أقام مدة بفرنسا، يتعلم في مرصد باريس - بعمل خريطة عامة لمصر على قاعدة نقط مثلثية تحدد بملاحظة خطوط الطول والعرض، (فرجع محمود بك في وضع تلك الخريطة إلى عموم ما صنع من قبيلها، لا سيما خريطة الحملة الفرنساوية، وخرط لينان السابق ذكرها، والرسوم المساحية التي صنعها بيهض باشا لمديريات بني سويف والمنوفية والغربية، واستفاد من ذلك كله لصنع خريطته التي لما تمت كانت خير ما أخرج من نوعها في القطر المصري)، قد عد من أجل الأعمال العامة المفيدة في عهد (محمد سعيد باشا).
9
فلا يسعنا، ونحن نعلم ذلك جميعه، ونرى - إزاءه - المجهودات المتنوعة المبذولة من (إسماعيل) في زيادة كنوز العلم المجرد، وعدم إحجامه عن أية نفقة وأية مشقة تستدعيها تلك الجهود، إلا أن نعتقد بأن قرنا على الأقل انقضى بين ملك (سعيد) وملكه، ونكاد نأبى التصديق بأن مثل ذلك التطور العقلي المدهش في الوسط المصري بأكمله، قد أمكن أن يتم بمجرد ظهور رجل واحد على مسرح الحياة العمومية.
لذلك كان إعجاب الأوساط المتمدينة في الشرق والغرب بما امتاز به عهد (إسماعيل) من حركة فكرية خصيبة، وبعناية الخديو الفخيم بالعلوم وزيادة كنوزها، ورغبته في توسيع دائرتها، إعجابا عاما لا تشوبه شائبة؛ ولذلك استحق (إسماعيل) عن جدارة أن يجلسه احترام الإنسانية لكل من عني بالعلوم في مصاف الأكارم من النوع البشري، كپريكليس، وأغسطس قيصر، وعمانوئيل السعيد البرتغالي، وليو العاشر، ولويس الرابع عشر، الذين امتازوا بتنشيط العلماء، وترغيب ذوي المعرفة والإقدام في الرحلات العلمية والاستكشافات العمرانية! ألا فليبق جالسا هناك إلى أن تدق الساعة!
الفصل الثالث
أبهة الملك وجلاله لا سيما في المواسم والأعياد والأفراح1
رأت مصر على ممر القرون من مظاهر العظمة ومجاليها، وأبهة الملك وجلاله، وفخفخة الرسميات وجمالها، ما لا تحسد معه قطرا في الوجود على ما أحرزه من ذلك، ولكنه لم تتوال تحت قبة سمائها الصافية، وعلى ضفاف نيلها السعيد سلسلة أعوام أخذت نصيبها الأوفر من الجلال والمهابة، والبهجة والأبهة، والجمال والفخامة، واللذات، مثل أعوام ملك (إسماعيل) الستة عشرة؛ فقد كانت حلما في مخيلة التاريخ لم يتحقق إلا مرة واحدة في دائرة عصوره! لا تكلمني عن جلال حفلات الفراعنة الأقدمين، ولا عن أبهة الاحتفال البطليموسي المهيب بالمجيء برفات الإسكندر الأكبر من بابل إلى مقره الأبدي في الإسكندرية، لا تذكر لي «الحياة التي لا يقتدى بها» التي قضاها أنطونيوس وكليوباترا، ما بين كانوب وفارو، قبل أن يميد البحر والأرض بهما، لا تحدثني بأيام أحمد بن طولون وخمارويه، وموكبهما السني، وابتهاجات قران قطر الندى بالخليفة العباسي، المالك على ضفاف الدجلة في بغداد، لا تخبرني بزهو الأعياد والرسميات في أيام الفاطميين التي لن تنسى، وبجلال جلوس أولئك الخلفاء البذاخين، وفخامة مواكبهم في الأعياد والمواسم، لا تطنطن لي بفخفخة رجوع البندقداري وقلاوون وفرج والناصر وبرقوق والمؤيد وبرسباي وقايتباي إلى عاصمتهم المصرية، عقب انتصاراتهم في الشرق، وشقهم شوراعها بالقبة والطير، ولا تذكر لي دخول بوناپرت القاهرة على رأس جيشه الفائز من تحت قبة باب الفتوح، بين عزف الموسيقات، ودق الطبول، فإن هذا جميعه، على ما فيه من سنا وسطوع، وأخذ بمجامع القلوب، ينكسف تماما أمام الأشعة المنبعثة إلى صفحات الأساطير عن أبهة الأيام وجلالها وأعيادها في عهد (إسماعيل).
وإنا بعد ما تقدم لنا ذكره عن الأعياد التي أقيمت احتفالا بقدوم السلطان عبد العزيز، واللورد پاچيت أمير الأسطول البريطاني في البحر الأبيض، والإمبراطورة أوچوني إمبراطورة الفرنساويين، والإمبراطور فرنتز يوسف إمبراطور النمسا والمجر، والبرنس فردريك ولي عهد الدولة البروسية، وزمرة العواهل والأمراء الذين حضروا حفلات فتح «ترعة السويس»، وقد أنفق فيها وحدها ما أنفقته أسرة برمتها من الأسر السابقة في أعياد مئات من السنين، بعد ما سبق لنا وصفه من مظاهر الضيافة التي بذلت في تلك الأعياد للألوف من الوافدين تباعا أياما، بل أسابيع متوالية، وامتازت بأطعمتها اللذيذة، ومشروباتها الفاخرة، ونزهها النيلية الجميلة، والضيافة التي كانت تبذل بسخاء لا يعرف حدا، وتفنن لا يعبر عنه وصف لكل عالم وأديب، ورجل سياسة أو مال، كان يقدم زائرا على العاهل المصري البهي المكارم، بعد ما شرحناه من إقامة الأعياد والمراقص الشتائية، الآخذة بهجتها بمجامع الألباب، في كل سنة من سني ذلك العهد العديم المثيل، وما بيناه من استقدام المليك الحاتمي الكف طوائف الممثلين والممثلات، وعلى رأسها نوابغ الفن وملوكه وملكاته، منذ أنشأ المسارح الفخمة للتمثيل في عاصمتي بلاده، بعد ما ذكرناه من إقامة حفلات السباق في مصر والإسكندرية على نظام لم تعهده القرون السالفة مطلقا، وأزرى بحفلات لعب القبق في أيام السلاطين المماليك، وما ذكرناه عن مظهر (إسماعيل) الخلاب في معرض باريس سنة 1867، وفي زياراته المتعددة للعواصم الأوروبية، لا سيما في سنة 1869، وفي الحفلات التي أقامها في قصره بميركون على البوسفور للسلطان عبد العزيز وكبراء دولة بني عثمان، لا نرانا في احتياج إلى التوسع في هذا الباب، ولكنا لإيفاء الموضوع حقه نقول إن أبهة الملك وجلاله تمثلا في أيام (إسماعيل) علاوة على ما ذكرناه من مظاهرهما:
أولا:
في الأعياد والرسميات.
ثانيا:
في الأفراح والأعراس.
ثالثا:
في القصور والسرايات وما اشتملت عليه.
أما الأعياد - وهي الإسلامية الكبرى، والقومية العامة، كعيد وفاء النيل، وتذكار يوم الجلوس السنوي - فإنك كنت ترى فيها العاصمة قائمة قاعدة، تجتاز شوارعها المواكب الفخمة، والعربات الفاخرة، والرايات والأشاير، والطبول والزمور، وجماعات أصحاب الرتب والنياشين بملابسهم الذهبية الساطعة، ونياشينهم المتلألئة، وأوسمتهم الفاخرة، يفدون على سراي عابدين زرافات ووحدانا، وكنت تسمع الموسيقات تصدح بأنغامها الشجية في كل حي من الأحياء، وتدوي المدافع دويا متعاقبا، وتجري الاستعراضات الجميلة إما في ساحة عابدين الفسيحة، وإما بالعباسية، مكان المولد النبوي، الممتاز من بين تلك الأعياد بإحياء الليالي السابقة لحلوله، إحياء بديعا، فتنتشر في الفضاء الواسع السرادقات الفخمة المزدانة بأفخر الرياش، لا سيما سرادق الخديو، وسرادقات رجال حكومته، وتتلى الصلوات وتقام الأذكار في الخيام والصواوين، وتعم الفيوضات الخديوية المعوزين والفقراء، فتمد لهم الأسمطة ليلا، فيأكلون ما طاب ولذ، وتشعل السواريخ والألعاب النارية على أبدع الأشكال، وأتم الأنواع.
وأما عيد الجلوس، فإنه كان يمتاز بمرور عشرة آلاف درويش، بأشايرهم وراياتهم، أمام شرفة القصر بعابدين بضجة وعجة عجيبتين، تستمران ساعتين، وباستعراض فخم يقام بالعباسية، وتؤمه جماهير العالمين من كل فج عميق.
ناهيك بما كان يقام في تلك الأعياد من الولائم، وما ينحر من النحائر، وما يوزع من الصدقات، وينعم به من النعم، ويجاد به من العطايا، فما من مستخدم في القصور مهما كان حقيرا إلا وتخرج له الهدايا الثمينة المتنوعة، للكبراء تمنح القصور والأطيان، والجواري الحسان، والجواهر الثمينة، والجياد المطهمة؛ وللمتوسطين تهدى صرر النقود، أو السيوف المرصعة، والآنية الفاخرة، والرياش الوثير؛ وللأصاغر تعطى الجوائز من الخواتم والساعات، والملابس والحلويات، فكنت ترى الأقوام على اختلاف مراكزهم الاجتماعية ينتظرون حلول الأعياد بمطامع مفتوحة، وأعين مرفوعة مركزها ولي النعم وآل بيته، فتجود أيدي (إسماعيل) وأزواجه وبناته بما يشبع تلك المطامع ويقر تلك العيون.
2
وأما الرسميات، وأهمها استقبال القناصل عند تعيينهم، فإن أخص ما كان يستوقف الأنظار فيها العربات الخديوية الخاصة تجرها أجاويد الجياد، تارة ستة، وطورا ثمانية، وكلها من لون واحد، وتحف بها كوكبات الفرسان بسيوف مشهرة، فتذهب بمعتمدي الدول إلى حيث يستقبلهم العاهل المصري وهو في وسط حلقة من وزرائه وأخصائه، يأخذ سنا ملابسهم بالأبصار، وتبهر جواهر النياشين المتلألئة على صدورهم الأنظار، فبعد أن تتبادل الخطب المعتادة، وتتصافح الأيدي، كان يصدر الأمر الكريم بالإنعام على الوافد بسيف من السيوف المرصعة الثمينة، وحصان من أجاويد خيل الإسطبلات الخديوية العامرة.
وأما الأفراح والأعراس، فلا أوقع في تقريبها إلى دائرة المخيلة من وصف الأعياد التي أقيمت احتفالا بزواج الأمراء الثلاثة: توفيق وحسين وحسن أبناء (إسماعيل)، من الأميرات: أمنية هانم بنت إلهامي باشا بن (عباس الأول)، والأميرة عين الحياة هانم بنت الأمير أحمد باشا بن (إبراهيم الأول)، والأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد علي الصغير بن (محمد علي) الباشا العظيم، وزواج أختهم الأميرة فاطمة هانم بالأمير طوسون بن (محمد سعيد). تلك الأعياد، وقد أقيمت ابتداء من 15 يناير سنة 1873، دامت أربعين يوما كاملة باعتبار عشرة أيام لكل فرح منها، ولا يزال ذكرها إلى يومنا هذا يبهر تصور الذين رأوها وعاشوا أيامها اللامنسية.
فإن شوارع العاصمة المهمة، وعلى الأخص ما كان منها مؤديا إلى القصر العالي مقر والدة (إسماعيل)، وإلى سراي الجزيرة، مقر حفلات (إسماعيل) المفضل، وسراي القبة مقر ولي العهد، زينت بالتحف والفوانيس المختلفة الألوان على مسافات بضعة آلاف من الكيلو مترات، ووضع في نهايتها أقواس نصر مختلفة الأنوار، جعلوا في أعاليها طرقات رصعت بالشموع.
فسطعت ملايين الأضواء تتلألأ في الليل كأنها نجوم سطعت فجأة، فقلبت الظلام نهارا، أو جعلت المتفرجين يتصورون مدة ستة أسابيع متوالية، أنهم ينتقلون في الليل من منطقة مدار الشمال إلى منطقة أحد القطبين صيفا، حيث لا تغيب الشمس عن الآفاق أشهرا متعددة.
وأقيمت في أهم الميادين هنا جوقات موسيقية - وأهمها التي اتخذت موقفها في الطرقة بعالي قوس النصر تجاه القصر العالي - وهناك تخوت آلاتية - وأهمها تخت عبده الحمولي، بلبل الأفراح، ورب الطرب الشرقي على العموم، فأخذت تلك تصدح وتعزف، وأخذت هذه تشنف الأسماع بألحان بديعة، وأصوات رخيمة تجعل سامعيها يتخيلون أنهم انتقلوا إلى جنة الخلد البهية، وأنهم يسمعون ترانيم الملائكة المختارين حول عرش الرحمن.
ونصبت في كل جانب المسارح المرتجلة، ليمثل عليها غواة الفن، وجوقات كراكوز، فيحضر من شاء تمثيلها مجانا، ويعود إلى منزله مرتاحا مبتهجا، ومدت الحبال في الساحات العمومية، لا سيما جهة القصر العالي، ليلعب عليها «البهلوانيون» ألعابهم المدهشة المحيرة للألباب، فشبكت بصوار عالية جدا، ملفوفة عليها أقمشة ملونة، تعلوها مراء فاخرة، وتتخللها مناور ساطعة.
ورتبت السواريخ بتفنن غريب في تلك الجهة عينها، وأخذوا يشعلون كل ليلة جانبا منها، فتدوي طلقاتها في آفاق العاصمة كلها، وتتناثر نجومها وأهلتها في جميع الأحياء ست ساعات متوالية، ناشرة فيها أنباء الأفراح القائمة، وداعية الأهالي على اختلاف طبقاتهم إلى الاشتراك فيها.
ففي اليوم الخامس عشر من شهر يناير - على ما نظن - بدأ خروج الهدايا المهداة من سمو الأميرة والدة (إسماعيل) وزوجاته الفخيمات إلى العرائس من القصر العالي، وشوارهن، وكان شوار الأميرة أمينة هانم، زوجة ولي العهد أول ما خرج من ذلك النوع، فسير به إلى قصر القبة، تخفره صفوف الفرسان بزي عربي بديع، وآلاي بيادة بأسره بملابس بيضاء ناصعة كالثلج، تتقدمه جوقة موسيقية من أمهر العازفين، وكانت الهدايا موضوعة في أسبتة مكشوفة، فوق عربات مكسوة بالقصب، على مخدات من القطيفة المزركشة بالذهب والماس، يغطيها شاش فاخر، يمسك بأطرافه أربعة عساكر في كل عربة، ويتبعهم ضباط بملابسهم الرسمية، والسيوف مشهرة في أيديهم .
وكانت تلك الهدايا عبارة عن مجوهرات سنية، وقلائد ماس ساطعة من النوع المعروف عامة باسم «البرلنتي»، ومناطق من الذهب الخالص، وأقمشة مطرزة باللؤلؤ العديم المثيل، وزمرد في حجم البيض، وملابس بيضاء مطرز عليها رقم الأميرة باللآلئ والحجارة الكريمة، وآنية متنوعة من الفضة الصب الخالصة بكمية عظيمة، وثمن ذلك جميعه يفوق الحصر والعد، وكان بين الهدايا المقدمة من (إسماعيل) لأكبر أبنائه سرير من الفضة الصب الخالصة، شبيه بالذي أهداه إلى الإمبراطورة أوچوني أثناء إقامتها بمصر، محلى بماء الذهب الإبريز، وعواميده الضخمة مرصعة بالماس، والياقوت الأحمر النادر والزمرد والفيروز، فاجتاز الموكب المهيب شوارع العاصمة، بين سياج حي من العساكر الشاكي السلاح، وتقدم يتهادى في سيره مختالا كأنه طرب بذاته، شاعر بقيمته.
ولم يختلف شوار الأميرات عين الحياة هانم، وخديجة هانم، وفاطمة هانم، والهدايا المهداة إليهن، عن شوار أمينة هانم، وما أهدى إليها مما تقدم وصفه.
وفي اليوم السادس عشر أحيي في العباسية السباق الأوحد الذي سبق لنا الكلام عنه في غير هذا المكان، وكان معظم (چوكيه) من السود اللابسين لباسا من الحرير الأحمر، ومد فيه على نفقة الخديو الخاصة، مقصف للمدعوين فاقت أصناف مأكولاته ومشروباته في التنوع واللذة، كل ما ظهر من نوعها على المقاصف الخديوية إلى ذلك الحين.
وفي اليوم السابع عشر، أقيم مرقص فخم في سراي الجزيرة، دعي إليه ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف ذات من الأجانب، وأعيان البلاد ووجوهها، فنورت الطريق كلها من عابدين إلى منفذ كوبري قصر النيل في الجزيرة بفوانيس من الورق الزاهر الألوان، ونشر عدد عديد من هذه الفوانيس عينها في جميع طرقات البستان الجميل المحيط بتلك السراي البديعة، وبين أغصان أشجاره، وعلى الأخص في البهو الواسع الممتد طول دورها الأرضي، فكان منظر تلك الأنوار، لا سيما بسبب تنسيقها وترتيبها، من ألطف ما تقر له العيون، وتنشرح الصدور.
وامتاز ذلك المرقص بأنهم هيأوا فيه وليمة عظيمة للمدعوين بدلا من المقاصف العادية، فبعد أن ماجت بجموعهم الراقصة، القاعة الفسيحة، حيث كنت ترى الأنوار المختلفة الألوان، المنبعثة عن حلي عقيلات المدعوين تقترن بسطوع أكتافهن ونحورهن العارية، ويمتزج وقار الإسطمبوليات والملابس السوداء بأبهة ملابس كبار الموظفين الرسمية الساطعة الأوسمة، المتحلية بها صدورهم على قصبها وذهبها الوهاجين، وبجلال ملابس الضباط العسكرية، اللامع ذهبها حول وجوه أصحابها، الملفوحة من الشمس في فيافي السودان ومجاهله، أو في مفاوز اليمن، أو في وهاد جزيرة كريت وبين مضايق جبالها، بعد أن ماجت، بجموعهم الراقصة، القاعة الفسيحة، بينما الشيوخ المسلمون من علماء وأعيان وموظفين، اللابسون قفازات بيضاء، والملتحفون بوقارهم ينظرون إلى قصفهم بأعين تستغرب أن يقبل على الرقص الكهول، وتهزأ بهم هزءا ساكتا، بعد أن ماجت بجموعهم الراقصة القاعة الفسيحة، وقد حركت الحركة شهياتهم إلى الأكل، جلسوا حول الموائد الفاخرة الممدودة، حيث أقبل يخدمهم نيف وأربعمائة غلام (جارسون)، ورئيس طهاة (ميتردوتيل).
وفي التاسع عشر منه، بدأت أعياد القصر العالي، فنصبت حول الساحة الممتدة أمامه الصواوين والسرادقات، وعليها أسماء أصحابها، وبيان الغرض المعد كل منها لأجله، وفرشت بالطنافس العجمية الفاخرة، وأقبل أرباب اليازرجة يقيمون ألعابهم اللطيفة في وسط تلك الساحة الواسعة، ومن ضمنهم بهلوان كان يصعد على حبله بخروف ويجزره فوقه، ثم تفرق لحومه على الفقراء. ورتب مقصفان للعموم: أحدهما على النمط الغربي، وما فتئ مزدحما بقاصديه، الراغبين على الأخص في أنبذته العتيقة الجيدة، والآخر على النمط الشرقي، وما فتئ هادئا بالمقبلين عليه، وأقيمت صواوين خاصة للقناصل، وغيرها للتجار، وأخرى للعلماء، وسرادق لمحافظ العاصمة، علاوة على الصواوين التي أقامها الأعيان على نفقتهم لأنفسهم، ليتمتعوا بمشاهدة الأعياد - وكنت تراهم جالسين فيها يدخنون شبكاتهم - والصواوين العمومية المتخذة قهوات للرقص والغناء.
على أن الرقص والغناء لم يكونا قاصرين على الخارج، بل ما كان منهما في داخل القصر وفي سر دور الحريم كان أهم وأشهى منظرا؛ هناك كنت ترى أشهر الراقصات مزاحمات صفية وعائشة الطويلة وغيرهما من ربات الفن السابقات على الإبداع فيه؛ هناك كنت تسمع (ألمظ) التي كانت إذا غنت أخذت بمجامع القلوب، واستولت على الأسماع برنين صوتها الرخيم، وتوقيع أناشيدها الفتانة؛ هناك كنت تنظر مشاهير البهلوانية من الإنجليز يأتون من صنوف الألعاب ما يخلب العقول ويدهش الألباب، وأساتذة الكار من أهل اليازرجة والسيماء يأتون من الملاعيب ما يحير الأبالسة أنفسهم ، وذلك لبهجة ساكنات تلك الدور، وانشراح عيونهن وأفئدتهن.
وفي ظهر الثالث والعشرين من يناير، خرجت العروس الأميرة أمينة هانم بصحبة سمو الوالدة باشا من سراي الحلمية، وتوجهت باحتفال عظيم إلى قصر سمو ولي العهد بالقبة، يتقدمها ويحف بها موكب مهيب مؤلف من ثلاثة آلايات من الخيالة: (الأول): آلاي ذوي الرماح، وراياتهم المرفرفة من رماحهم خضراء وحمراء، ورءوسهم مغطاة بخوذات الدراجون. و(الثاني): آلاي ذوي الدروع، ودروعهم تسطع عليها الشمس فيتلألأ كل منها كأنه قرصها المنعكس، ويتدلى من خوذاتهم شاش جميل أصفر وأبيض يلعب الهواء به حول وجوههم السمراء الهيجائية. و(الثالث): آلاي ذوي الزرد، وسلاحهم كسلاح الغز أيام الصليبيين، وخوذاتهم الصغيرة يتدلى منها قناع على وجوههم من الأمام، وأكتافهم من الوراء، وهم في كسوتهم الفولاذية جامدون، كأنهم قدوا من جلمد أو من حديد قطعة واحدة، كفرسان شاهين شاه، وصلاح الدين، والظاهر بيبرس. وسارت وراءهم العربات، وأهمها عربات التشريفة يجرها الستة والثمانية من الخيول ذات اللون الواحد، أبيض كالنور، أو أشهب كالذهب، أو أسود كالليل، ويقودها حوذيون بملابس حمراء تخطها شرائب القصب والفضة، بجوارب حريرية تصعد لغاية ركبهم، وبجدائل شعور مستعارة مرشوشة بالبودرة على رءوسهم، كأنهم غلمان أحد اللويسات، الرابع عشر أو الخامس عشر أو السادس عشر، ملوك فرنسا، أعيدوا إلى الوجود، ويسير بجانبها مشيا على الأقدام خدم باللباس عينه، أيديهم على عضاضات أبوابها، وعلى رءوس الجميع، من حوذيين وخدم، برانيط واسعة من ذوات القرون! وسار وراء العربات الأغوات بلباس فرنجي، وبنطلونات ملونة فرايحية، يمتطون صهوات خيول قلما يدركون كيف يحكمونها، وكانت العين ترى في وسطهم شيخا جليلا وقورا مهيبا، وتسمع الأذن همسا أنه أمين بك آخر المماليك، وصاحب الوثبة المشهورة، على أنه إنما كان رئيس إدارة بيت دولة الوالدة.
وعلى هذا النمط عينه، وبالأبهة والجلال ذاتيهما، خرجت عروسا الأميرين حسين وحسن إلى قصري زوجيهما، وأما الأميرة فاطمة هانم فقد كانت زفتها أبهى وأجمل، وقد وصف إدون دي ليون كيفية الاحتفال بفرحها في داخل القصر العالي عينه، كما نقلته إليه عقيلته ، فقال: اجتازت المدعوات بستانا فسيحا منارا، كأنهم أرادوا أن يبقوا فيه نور النهار بملايين المصابيح المتعددة الألوان، وسرن فوق طرقة رخامية بجانبيها الأشجار والمغروسات الغريبة، فبلغن مدخل سراي الوالدة، حيث كان الأغاوات في انتظارهن، يوصلوهن إلى قاعة واسعة ذات رياش فاخر، فوجدن هناك جواري الحريم، ونصفهن مرتديات لباس رجال من أفخر الملابس الشرقية، وواقفات بصفة حجاب، وبعضهن لابسات لبسا بسيطا بطرابيش حمراء على رءوسهن، وشاهرات في أيديهن سيوفا لامعة، وبعضهن لابسات لبسا عسكريا ساطعا، وواقفات وقفة عسكرية بمظهر عسكري حربي لا بأس به، كأنهن وصيفات الملكة زبيدة زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد، فأدخلن الضيفات إلى حجرة كانت «العوالم» ترقص فيها بالساجات! بينما كانت موسيقى نسائية تعزف ألحانا شجية، تلك الحجرة كانت تفتح على حجر أخرى، يتناول النظر أطرافها، وفيها جوار عديدات يرقصن رقصا غريبا بعصي وسيوف ودرقات في أيديهن.
ثم اجتازت الضيفات عدة بلوكات أو صالات، قدمت لهن فيها جميع أنواع الشربات، والمشروبات والحلوى المصنوعة على الطريقتين الغربية والشرقية، معروضة على موائد جمعت كل ما لذ وطاب، وترأست أميرات الأسرة المالكة المائدة الخصيصة بزوجات الخديو وقرينات القناصل، وغيرهن من قرينات كبار النزالة، فبينما هن يأكلن ويشربن، جعلت الموسيقى تصدح صدحا مفرحا.
ثم قدمت الضيفات إلى دولة (الوالدة) في قاعة ذات رياش لا نظير له، وواسعة سعة لا تضيق بمئات الجالسين، فكن يسرن وراء الجواري المسلحات، وتقدم السيدة الفرنجية التشريفاتية كلا منهن باسمها إلى دولة (الوالدة)، ثم تجلسها في المحل المعد لها على آرائك ممدودة في طول الحائط، يغطيها الحرير الثمين.
ولما انتظم العقد بجميع المدعوات، دخلت الراقصات والمغنيات، وأطربنهن مدة، ثم قدمت إليهن الهدايا الفاخرة من لدن الأميرات، وأزواج الباشوات أصحاب المقامات الرفيعة في الحكومة المصرية، فتغنين بمديح الهاديات، بعد استئذان دولة (الوالدة)، والهاديات شكرنهن - وهي عادة «الشوبش» المعروفة بيننا حتى يومنا هذا.
بعد ذلك استجليت العروس فأمسك كل من أغاوات السيدات المدعوات شمعدانا فيه شموع مختلفة الألوان، واصطفوا من أول السلالم حتى القاعة العظمى، حيث كان عقد المدعوات منتظما ، وفرش على الأرض منسوج من ذهب لتخطر العروس عليه، وانصرفت الراقصات ليعدن بمعيتها، وما هي إلا برهة قصيرة حتى تجلت الأميرة فاطمة هانم تستند على ذراع الأميرة أمها في وسط جمهور أميرات البيت الخديوي الكريم، فتقدمت بخطوات بطيئة، وبوقفة بعد كل خطوة، كأنها تقول للناظرات: ها أنا فأعجبوا بي! واجتازت، وعيناها مطرقتان، صفي الأغاوات على النسيج الحريري بين أغاني المغنيات، والراقصات يتقدمنها.
فحالما وقعت أعين المدعوات عليها نهضن، وبينما هي تتقدم كإلهة من آلهات الأزمنة الماضية نحوهن، بمعيتها وجواريها، صعدت كواعب كالبدور على كراس وراءهن، وأخذت تنثر عليهن خيريات ذهبية، ضربت لتلك المناسبة، فتعلق برءوسهن وملابسهن، فامتلأت القاعة على سعتها بالأميرات، والسيدات، والجواري، والراقصات، والمغنيات، وتألقت كلها بالديباج الساطع، والذهب الوهاج، وبثت في كل مكان منها زهور البرتقال والورود، ونثرت فوق الملابس اللماعة البراقة.
وكانوا قد أقاموا في صدر تلك القاعة فوق منصة مرتفعة، ثلاثة عروش مكسوة بالحرير الأبيض، فجلست دولة (الوالدة) على عرش اليمين، والأميرة أم العروس على عرش الشمال، وجلست العروس وعلى رأسها تاج من الماس ثمنه أربعون ألف جنيه على عرش الوسط، وكان لباسها من الحرير الأبيض الفرنساوي الأغلى ثمنا، كله مرصع بأنفس أنواع اللؤلؤ والماس، وله ذيل طوله خمسة عشر مترا، رفعته الجواري وراءها وهن راكعات، فتقدمت المدعوات وهنأنها، وبعد أن جلست معهن برهة عادت إلى حجرها، واستمر الفرح حتى مطلع الفجر.
3
ومما يحسن ذكره بمناسبة تزويج الأمير حسن من الأميرة خديجة أن (إسماعيل) - وقد أعجب بملامح الذكاء المرتسمة على محياها - لما أدخلها المدرسة التي أنشأها لأميرات البيت العلوي خصيصا، وعدها بتزويجها من أحد أولاده إذا هي أظهرت اجتهادا في تعلمها، ثم مضى على ذلك زمن، وعن (لإسماعيل) يوما أن يزور تلك المدرسة، ويتفقد حال الطالبات فيها، فلما وصل إلى الأميرة خديجة سألها: «إلى أين بلغت من تعلم القرآن يا بنيتي؟» فأجابت من فورها: إلى
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد .
فسر الخديو بجوابها جدا، وقال: «أجل، أجل»، ثم بر لها بوعده.
ومن أفضل ما يحسن ذكره بمناسبة أفراح الأنجال أن طه باشا الشمسي ناظر الخاصة الخديوية في ذلك الحين - وهو حمو حضرة صاحب المعالي أحمد طلعت باشا رئيس محكمة الاستئناف الأهلية الآن - كلف عدة محال تجارية بتقديم مناقصات لتوريد كل ما يلزم من فرش، وبياضات، ودنتلات، ورياش، لجهاز كل من الأميرات العرائس.
فلما قدمت، وقع اختيار طه باشا على مناقصة محل پاسكال الفرنساوي - ويعرفه كل من زار مصر القاهرة حتى سنة 1892 - لأنها، على جودة البضاعة المقدمة نماذج منها، كانت على رخص في الأثمان يرغب فيه.
ولكنه لما عرض ما وقع اختياره عليه على (إسماعيل) سأله الخديو: «ألم يتقدم في هذه المناقصة محل مصري وطني مطلقا؟» فأجاب طه باشا: «نعم يا مولاي، فقد تقدم ضمن آخرين محل مدكور، ولكن الأثمان التي عرضها مبالغ فيها ولا توافق، لأنها تزيد خمسة وعشرين في المائة على الأثمان التي يطلبها محل پاسكال.» فقال إسماعيل: «أرني مناقصته والنماذج المرفقة بها.» فقدمها طه باشا له، فوجد (إسماعيل) أن الأثمان المكتوبة على تلك النماذج تزيد حقيقة خمسة وعشرين في المائة على ما يطلبه محل پاسكال، ولكنه وجد أن نوع البضاعة واحد عند الاثنين، فضرب بمناقصة محل پاسكال عرض الحائط، وقال لطه باشا: «خذ كل ما نحن في حاجة إليه من محل مدكور، وادفع له خمسة وعشرين في المائة فوق ما يطلب.» فبدا في عيني طه باشا استغراب، بالرغم من أن فمه نطق بعبارات الامتثال، فقال إسماعيل له: «يا طه باشا، إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع ولا تستفيد من أفراح أولادي، فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟!»
فاغتنمها محل مدكور وهي طائرة، وزاد على أثمان كل ما قدمه ما أمكنته زياته، فكان ذلك من أسباب الثروة التي أحرزها.
4
أما القصور والسرايات، فإن ما بناه منها (إسماعيل) وحده يفوق كل ما بناه أسلافه العلويون معا، بل كل ما بناه أي عاهل من العواهل المصريين على ممر الأيام، إذا استثنينا منهم فراعنة الدولة الجديدة المجيدة، دولة أحمس وطوطمس ورمسيس، فهو الذي أقام في الإسكندرية قصور الرمل الشاهقة بجهة سيدي جابر ومصطفى باشا، وهو الذي بنى سرايات عابدين والجزيرة والجيزة والقبة وحلوان الأنيقة الجميلة، علاوة على ما جدد بناءه في سرايات رأس التين وقصر النيل والقلعة والنزهة وشبرا. وهو الذي بنى للأمراء أولاده وللأميرات بناته القصور الباذخة التي تزدان بها العاصمتان، وأقام في كل بندر من البنادر الصعيدية التي كان له فيها أملاك خاصة، كبندر المنيا، السرايات الفاخرة والقصور الباذخة، ولو شئنا وصفها كلها لاضطررنا إلى توسيع نطاق تاريخنا هذا توسيعا ربما أدى إلى الملل. يكفينا القول إن مصر - منذ عصر (قبة الهواء)، وقصر (خمارويه) وبستانه، وهودج (الآمر بأحكام الله)، ومناظر (الخلفاء الفاطميين)، ومنذ عصور (مباني القلعة) وسراياتها على أيدي الأيوبيين، والبحريين، والبرجيين - لم تعهد أياما كثر فيها فوق أرضها تشييد السرايات والقصور، وتجميلها بالبساتين النادرة المثال، مثل أيام (إسماعيل).
غير أن الأبهة والبذخ لم يظهرا في المباني بعشر مقدار ما تجليا في تنسيقها وتجميلها من الداخل، وفي تأثيثها بالرياش الفاخر، فالرخام وحده الذي استعمل في تنميق تلك السرايات وتزيينها كلف عدة ملايين من الفرنكات، وبلغت نفقة النقوش والرسوم الداخلية في سرايات الجيزة والجزيرة وعابدين نيفا ومليونين من الجنيهات، واستنفدت البساتين التي أنشئت حولها، وكثرت فيها أنواع الأشجار الغريبة الثمينة، وأجناس الأزهار والرياحين والورد، والجبلايات الصناعية، والفساقي، والبحيرات بأسماكها المتعددة الأنواع، نيفا وأربعين مليونا من الفرنكات.
وأما الرياش والفرش، فحدث عن البذخ والترف فيهما ولا حرج، فقد بلغت تكاليف الستارة الواحدة نيفا وألف جنيه، فما بالك بالطنافس النادرة، والأبسطة الثمينة، والأرائك الذهبية، والمرايات البلورية الصافية، ببراويزها الغالية، والزهريات النفيسة، والكراسي العاجية، والمقاعد المطعمة بالصدف، والمحلاة باللؤلؤ والمرجان، والطاولات الفضية الخالصة، والنجف الفخم الضخم ذي الخمسمائة والألف فنيار، والذي كان، إذا ما لعب النسيم بين بلوره المتدلي، فصدم بعضه بعضا، رن رنينا لذيذا شبيها برنين تمثال «ممنون» في خرائب طيبة القديمة، عندما كانت تسطع عليه أشعة الشمس المشرقة! وما بالك بالآنية الفاخرة الكثيفة والمختلفة، الذهبية والفضية، والخزفية البديعة الصنع، والمرقوم عليها كلها بماء الذهب حرف
I ، وهو الحرف الأول من اسم (إسماعيل) بالفرنجية، وبالمجوهرات العديمة المثال من ماس ودرر وياقوت، وزمرد وزبرجد، وفيروز، وخلافها مما كان يقدر ثمنه بنيف وأربعة ملايين من الجنيهات، ما بالك بالتحف والأسلحة المتنوعة قديمها وحديثها، ومنها التاريخية، التي لا يقدر لها ثمن، والفريدة في نوعها، التي لا سبيل إلى الحصول على مثلها، ولو بذل فيها مال قارون!
وماذا نقول عن عدد سكان تلك القصور، وعما كانوا يستنفدونه يوميا من المآكل والمشارب؟ يكفينا في تحويل قوة المخيلة إلى تصوره ذكر أنهم بعد صيرورة العرش إلى (توفيق الأول) عدوا الذين كان يخرج لهم الغذاء من سراي عابدين وحدها، فإذا بهم عشرة آلاف!
وماذا نقول عن عدد الجواري من بيض وسود وحبشيات، اللواتي كان (إسماعيل) يزوجهن سنويا من ضباطه ورجاله وموظفي حكومته، فلا يكتفي بإمهار الواحدة منهن المال الوفير، بل يقطعها الطين الواسع، ويرتب لها على خزينته الخصوصية المصروف الشهري الوافي، أو المعاش الكافي - على أن كثيرات منهن طلقن بعد سقوطه.
ألا قد صدق حقا من قال: «إن ملك (إسماعيل) - وكل مظهره سلسلة أعياد وأفراح غير منقطعة - إنما كان حلما من الأحلام، حققته الأيام، ورواية في أسفار التاريخ قد لا تصدق صحتها الأحلام.»
5
الباب الرابع
المساعدون على نفاذ الخطة
الفصل الأول
فصل فذ1
دعاني أخي والخيل بيني وبينه
فلما دعاني لم يجدني بقعدد
وزراء إسماعيل
على أن (إسماعيل) مهما كان متفوقا على الوسط المحيط به، ومهما كانت رغبته في الإصلاح قوية وثابتة، بين قوم لا رغبة لهم مطلقا في الإصلاح، فإنه ما كان ليقوم بكل الأعمال التي عملها في بلد كان يجب أن ينشأ كل شيء فيه، لولا أن الأقدار وضعت بجانبه رجالا خصصوا جميع قوى عقولهم وأجسامهم لمساعدته على نفاذ تلك الأعمال، وما انفكوا واقفين بجانبه، عاملين على نفاذها؛ أولئك الرجال هم: نوبار باشا، وشريف باشا، وعلي مبارك باشا ، ومصطفى رياض باشا.
ومن جهة أخرى، فلولا أن (إسماعيل) بلي بصداقته لإسماعيل صديق باشا أخيه في الرضاعة، فانقاد كثيرا إلى مشورته السيئة ، وتغاضى أكثر أيضا عن تصرفاته الرديئة، لما آل أمره إلى الاضمحلال والسقوط! فيجدر بنا - والحالة هذه - أن نأتي هنا على بيان وجيز، نوضح فيه لقرائنا نبذة من حياة كل من أولئك الرجال، ليكونوا على بينة منها.
فنوبار باشا
2 - وهو الشخصية الأكبر ظهورا في تاريخ مصر في ذلك العهد، ورجل الدولة الأوحد الذي جاد به الشرق، منذ توارت الأسرة الكپرولية السنية عن عالم الوجود - أرمني مسيحي، ولد بأزمير في سنة 1824 أو سنة 1825، وما كادت ترفع عنه التمائم إلا وأرسل إلى (سوريز) ليتعلم في مدرستها، فقضى فيها عدة سنوات، ثم انتقل لتتميم دروسه في مدرسة بروتستانتية في سويسرا الفرنساوية، ولما كان ذا ذاكرة عجيبة وتصور سريع، فإنه استطاع وهو في السادسة عشرة من عمره أن يفرغ من تلقن دروسه، والتعمق في معرفة اللغة الفرنساوية وآدابها، والأدب القديم على العموم، ولكنه لم يتعلم العلوم الطبيعية والرياضيات إلا تعلما سطحيا، وما اقتبسه منها فيما بعد فإنما اقتبسه في محادثاته مع أساتذتها أكثر منه في مطالعة الكتب الموضوعة فيها، فإنه وهو في الحياة العملية كان كالبرنس (پوتمكن) وزير كاترينا الثانية الكبيرة، يوجه الأسئلة إلى زائريه في خير ما يعرفونه، ويحملهم على التوسع في الكلام والإيضاح والشرح، فتكونت لديه بذلك دائرة معارف لا بأس بها، جعلته ذا اطلاع عام لا يشعر معه أنه غريب عن المحادثة، مهما تنوعت مواضيعها.
ولما غادر المدرسة وقع في خلده التطوع في الجندية الفرنساوية بأن ينضم إلى الفرقة الأجنبية، ولكن مساعيه في ذلك قوبلت برفض، واستدعاه بوغوص بك خاله، وزير (محمد علي الأمين)، إلى مصر ليدخله في خدمة مصالحها المدنية، فقدم الشاب نوبار إلى ضفاف النيل والآمال ترقص أمام مخيلته رقصا بهيا، فأحبه بوغوص بك حالما وقعت عينه عليه، وقال له: «سأدخلك في قلم المترجمين، ولكني أنصحك أن تنتبه قبل كل شيء إلى تعلم اللغة التركية، لأن تعلمها شرط لا بد منه لنجاحك في المستقبل.» فأكب نوبار على تعلمها بكل قواه، وما مضت عليه مدة إلا وأصبح يمتلكها فهما وكتابة وينطق بها - والنطق الصحيح أصعب شيء في كل لغة - كأنه تركي صميم، وليت خاله نصحه أيضا بتعلم العربية، ولكن الأيام لم تكن لتسمح بقيام فكرة ناضجة كهذه في عقلية الشيخ بوغوص، (فمحمد علي) بالرغم من كل ما عمله لإحياء مصر والرقي بها، بقي - كما سبق لنا القول في غير هذا الموضع - تركيا بحتا، فلم يتنازل مطلقا للتكلم بالعربية، ولو أن إقامته الطويلة في البلاد علمته شيئا منها، ولا عمل على إزالة الاشمئزاز الذي كان العنصر التركي يشعر به من لغة «الفلاحين»، واحتقاره إياها، ولا اهتم البتة بتعليم أولاده العربية تعليما جديا أو غير جدي.
فلم يكن يمكن أن يقع في خلد أحد - والحالة هذه - في سنة 1841 أن سيأتي يوم ينقم فيه (سعيد باشا) ثالث خلفاء الباشا العظيم على الأتراك والتركية والشراكسة إلى حد يقول معه: «إني أود أن أعرف ما هي العروق والشرايين التركية والشركسية في لأفتحها، فأتخلص من آخر نقطة من هذا الدم الممقوت!» ويقبل - نكاية في التركية والأتراك - على عزل التركية عن العرش الذي كانت قد استولت عليه منذ زوال الدولة الأيوبية، ويجعل اللغة العربية لغة البلاد الرسمية، فيحيي مواتها، ويعيد إليها بهجتها.
لذلك لم يتعلمها نوبار، وبقي طول عمره يجهلها، ولا يعرف منها إلا قليلا من لغة «العوام»، ولا شك في أن ذلك - إذا أضفنا إليه غربته عن الدين الإسلامي - كان سببا في عدم امتزاج روحه بروح الأمة المصرية على شدة حبه لها، وللعناصر البائسة منها على الأخص، وبقاء هذه الأمة غريبة عنه، بالرغم من أنه ربما كان أحسن خدامها، وأنه كان بلا شك أقوى الناس على السير بسفينتها إلى مرافئ السلام، لا سيما أثناء الأعاصير التي هبت عليها في أوائل ملك (محمد توفيق الأول)، فإنه كان، أكثر من كل قائل، يقول بوجوب صيرورة مصر للمصريين، ولكن على شرط ألا يعني ذلك اتخاذ الدين حجة للعمل على عكس ما يقتضيه العلم والعمران، وسلاحا في يد الجهل والتعصب!
وامتاز نوبار، وهو في زمرة المترجمين، بمواظبته على عمله، وسلوكه الأمثل ، وانكبابه على الدرس والتعلم، وبأنه شاب لا تستهويه الملاذ النسائية والأباطيل.
فعينه (محمد علي) سكرتيرا خاصا لابنه (إبراهيم)، فما انفك نوبار ملازما له في حله وترحاله، أينما قام وحيثما سافر، وبالرغم من أن الوظيفة لم تكن هينة، وأن الأخطار المحيقة بها كانت جمة - لأن (إبراهيم) كان ذا طباع حادة جدا، وله فرقعات غضب مرعبة - فإن نوبار بما أوتيه من طلاقة اللسان وحلاوته، وسعة الاطلاع وتنوعه، تمكن من التقرب إلى قلب مولاه، تقربا أصبح (إبراهيم) معه لا يرى في ساعات ضجره، وإبان ثورة غضبه، من تسلية أو تسرية، إلا في محادثة الشاب نوبار له، ولطالما تمكن الحدث الأرمني من إسداء خدمات جلى إلى الغير بسبب ميل مولاه إليه؛ أهمها إنقاذه أعمار ضباط الباخرة التي عاد (إبراهيم) عليها من الأستانة إلى مصر في سنة 1848؛ إذ هاج بطء سيرها، المسبب عن اشتداد الأنواء حولها، غضب الأمير المصري، فطفق يهدد ضباطها بتغريقهم جميعا، لولا أن نوبار لازمه ملازمة كلية، وأنساه بحلاوة حديثه الضيق المحيق بنفسه.
3
وتعرف نوبار - وهو في الأستانة مع الأمير (إبراهيم) - بأسرة أراميان السرية، وما لبث أن تزوج وهو في الرابعة والعشرين من عمره بابنة عميدها، كيڨورك بك، أحد وجوه الأستانة وذواتها، فأصبح صهرا لإبرام أراميان، المعدة له رتبة الباشوية الرفيعة، والمزمع أن يكون أقرب الناس من قلب السلطان عبد العزيز وموضع ثقته الكلية، وساعدته هذه المصاهرة فيما بعد على قضاء أكثر من لبانة في مساعيه المصرية لدى الحكومة العثمانية.
وكان قرانه موفقا، لأنه وجد في زوجته المتعلمة مثله، والمتكلمة عدة لغات مثله، رفيقة حياة بأجمل معاني هذه الكلمة، وما فتئت قائمة بجانبه، مسلية، معزية، مفكرة إياه بما يقتضيه الفضل والنبل كلما أثارت فيه المصاعب أو الدسائس أو الوشايات انفعالات التضجر أو الغضب، ورغبته في التخلي عن الاشتغال بالمصالح العامة.
ولما انتقل الملك إلى (عباس الأول) اتخذه هذا العاهل سكرتيرا له كذلك، فحاز نوبار لديه القبول عينه الذي كان من نصيبه بجانب (إبراهيم)، ومما ساعده على الفوز برضى ذلك الوالي، الكثير الوساوس والظنون، مصادقة المستر مري قنصل إنجلترا العام له - وقد كان من أخصاء (عباس) ومستشاره في مشاكله، وأكبر أنصاره في مساعيه التي رمى بها إلى تغيير مجاري الوراثة على العرش المصري، وحصرها في (إلهامي باشا) ابنه، وفي ذريته من بعده - وقد ساعد نوبار تلك المساعي بما كان له من العلاقات بالأستانة العلية.
ولكن طباعه التي كان فيها من حب الصراحة والأنفة والتعالي أكثر مما يصح أن يكون من هذا جميعه في أخلاق ندماء الملوك ما لبثت، بالرغم من كل حلاوة شمائله وسحر محادثته، أن جلبت عليه سخط (عباس)، وذلك أنه رأى ذات يوم مانعا من ضميره عن أداء عمل طالبه ذلك الوالي بأدائه، فأظهر (عباس) له استياءه بشكل لا يقبل التأويل، فأسرع نوبار وقدم له استقالته من وظيفته، ولزم في الحال منزله.
ولم يكن قد سمع في الشرق لغاية ذلك الحين أن موظفا وقع في خلده الاستعفاء من منصبه، فإما أنه كان يقال منه بأمر، أو يقتل وهو فيه، فعد الرأي العام استقالة نوبار- والحالة هذه - ضربا من ضروب الجسارة المتناهية، وتحديا لسخط (عباس).
وخشي نوبار نفسه أن يعده (عباس) كذلك، فيبطش به، فبعث يستأذنه بالنزوح عن القطر، فأذن له وهو متململ، لأنه استاء في الواقع منه جدا بسبب تجاسره على تقديم استقالته، كما كان المظنون، ولكنه تكدر منه على مغادرته خدمته، لأن (عباسا) كان يرى نفسه في حاجة إليها، ويود لو عاد نوبار إليه مستسمحا مستغفرا، وكان ينتظر ذلك منه، ولو أنه يتعالى عن إظهار رغبته هذه له.
فحالما وصل نوبار التصريح بالسفر، هب وباع الزائد من أمتعته ورياش منزله، واستأجر مركبا واسعة، وشحنها بالنفيس الذي احتفظ به من تلك الأمتعة والرياش، ونزل فيها مع قرينته وآله، وسافر في النيل قاصدا الإسكندرية.
ولكنه ما كاد يبتعد عن شبرا بضعة أميال إلا وقابل مركبه رفاص بخاري فيه (عباس) عينه، فحياه نوبار من فوق ظهر مركبه تحية رعية مخلصة، واستمر في سيره، وإذا بقارب بخاري قد انفصل عن الرفاص ودنا من المركب ، ودعا نوبار إلى المثول بحضرة الأمير.
فاعتقد من في المركب وقرينة نوبار ونوبار نفسه أن ساعته الأخيرة دقت، وأن (عباس) لملق به في قاع اليم طعاما للأسماك، غير أنه تجلد وذهب رابط الجأش باسم الوجه، وصعد إلى الرفاص، وقصد توا إلى (عباس) وحياه بكل احترام.
فسر (عباس) لشجاعته الأدبية، وانشرح صدره له، فابتسم في وجهه وقال: «إنك إذن قد صممت نهائيا على ترك خدمتنا!» فأجاب نوبار: «إني خادم الأمير ما حييت ما دام للأمير رغبة في خدمتي له!»
فسري عن (عباس) بالمرة وقال: «إني يا نوبار أفندي لا أستغني عن خدمتك، وبما أني في حاجة إلى ثقة أرسله إلى ڨيينا في مهمة تخصني، فاستمر على سفرك، واذهب إلى ڨيينا رأسا، وانتظر هناك أوامري.»
فشكر نوبار وعاد إلى مركبه، وصدع بما أمر به عن طيب خاطر، فأقام في ڨيينا مدة اكتسب فيها عطف البرنس دي مترنيخ الذي كان في ذلك العهد عميد السياسة الأوروبية.
وبينما هو في انتظار الأوامر التي وعده بها (عباس) إذ وافاه نبأ قتله، وأتاه استدعاء من خلفه بالعودة إلى مصر، فعاد إليها ليشغل لدى الأمير الجديد منصب كاتم أسراره، فما لبث (سعيد) أن أنعم عليه بلقب «بك»، وجعله مدير مصلحة السكك الحديدية.
فوقعت كارثة كفر الزيات ونوبار في هذا المنصب، فذهب فريق من الألسنة النمامة في تلك الأيام إلى أن تلك النكبة إنما دبرت باتفاق بين ولي العهد الجديد ومدير السكة الحديد لإزالة الأمير أحمد باشا من سبيل العرش الرامية إليه مطامع (إسماعيل)، وذهب فريق آخر إلى أن الذي دبر تلك المكيدة بالاتفاق مع نوبار إنما هو (سعيد باشا) نفسه لرغبته في التخلص من أحمد باشا ابن أخيه، ومن حليم باشا أخيه.
ولسنا نرى أنفسنا في حاجة إلى تكذيب الإشاعتين معا بعد أن كذبهما التاريخ على لسان أشهر الثقات من الرواة، فعلاوة على أن (سعيدا) و(إسماعيل) لم يكونا بالرجلين اللذين يقع في خلدهما ارتكاب مثل هذه الفظيعة - وقد قال (سعيد) بحزن لما علم بالنميمة لإدون دي ليون قنصل أمريكا: «هل عبدك كلب لاقتراف مثل هذا الجرم؟»
4
مرددا في ذلك صدى قول وارد في التوراة - فإن نوبار كان آخر إنسان يطاوعه ضميره على المساعدة في اقترافها، ناهيك بأنه لم يكن كثير الاختلاط (بإسماعيل)، ولا من ذوي القبول عند (سعيد)، ولو أنه كان مسيطرا بتفوقه العقلي على هذا الأمير، ولم يكن يجهل حقيقة شعور (سعيد) نحوه، فإنه قد اتفق له يوما وهو ذاهب إلى السراي أن خيل عربته جمحت، فألقت بالحوذي على الأرض وقلبت العربة، وما نجا نوبار إلا بمشقة، فقال له أحد رجال البلاط حينما انتشر فيه خبر الحادثة: «ما ألطف نعمة الله بنا جميعا بأن حفظك سالما سليما!» فأجابه نوبار على الفور: «لا تقل بنا جميعا! فإني أعرف واحدا هنا كان يفضل أن يراني مكان حوذيي، فيما لو كان مقدرا له أن يموت من جراحه.»
5
وفي الواقع فإن نوبار بطباعه الجدية وأخلاقه المتطلبة العمل لم يكن ليعجب أميرا مغرما باللهو وخلو البال والتنكيت (كسعيد)، ومع أنه لم يكن ليتعب في إيجاد الكلمة اللطيفة التي تضحك، والتعبير الدقيق الذي يطرب، فإنه ما كان مثل كوشيلسكي (سيفر باشا) ميالا للتنكيت والمجون في كل لحظة، ولا راغبا في تفتيق ذهنه لهزار وفصول، ورواية حكايات ملحة توقظ روح الوالي إلى الجذل والسرور كلما ساورته السآمة وصارعه الضجر، فبينما (سيفر باشا) أصاب من مقدرته على النكات والأقوال المجونية ثروة طائلة، لم ينل نوبار غير المحافظة على مركزه وشيء من نفوذه.
وفي سنة 1862 أرسله (سعيد) إلى أوروبا لعقد القرض الوحيد الذي أقدم على اقتراضه في حياته، ويقرب قدره من ثلاثة ملايين من الجنيهات، ففضل نوبار عقده بواسطة مصرف تجاري فرنساوي على عقده بواسطة مصرف إنجليزي؛ لما في ذلك من المصلحة لمصر، ولكن حساده أشاعوا عنه أنه إنما أقبل على ذلك التفضيل لأن ما قدمه له البيت المالي الفرنساوي من جعل لوساطته فاق ما قدمه المحل المالي الإنجليزي، ولو أن مندوب (سعيد) فضل المصرف الإنجليزي على الفرنساوي لعكس عذاله الآية.
ولم يمض على عقد ذلك القرض قليل حتى توارى (سعيد) عن عالم الوجود، وخلفه (إسماعيل)، فتمسك بنوبار في بادئ أمره أيما تمسك، وقد رأينا أنه أوفده لحل المعضلات من مهماته، وأن نوبار تمكن من قضائها كلها، فاتخذ أعداؤه ذلك ذريعة للطعن عليه طعنا مرا. وأهم ما سلقه لأجله الفرنساويون منهم بألسنة حداد موقفه في مسألة ترعة السويس، ومقاومته مشروع إنشائها، وفات ثالبيه أن الوزير المصري إنما كان يجب عليه أن ينظر إلى ذلك العمل من وجهة ما فيه من خير عائد إلى مصر، لا من وجهة ما فيه لمصالح الغربيين من الفائدة. وإن فكرة إنشاء الترعة إنما جادت بها في النصف الأول من القرن التاسع عشر قريحة الأب إنفنتين، المعلوم عنها ميلها إلى إبراز أحلام إلى الوجود يصعب تحقيقها، وإن الرأي القائل بعدم إمكان تحقيق تلك الفكرة لم يكن رأي اللورد پلمرستن، والمهندس الإنجليزي ستيفنس وحدهما، بل كان يشاركهما فيه الكثيرون من أرباب الخبرة والفن، ومنهم المسيو دي منتو المهندس الفرنساوي الذي باشر البدء في الأعمال، وكان في سنة 1860 ذاتها يقول: «كل هذا لن يؤدي إلى نتيجة، لأنه يستحيل حفظ منسوب المياه الكافي في الترعة لتتمكن المراكب من السير فيها، فلسوف تضيع على المساهمين رءوس أموالهم، ويضطر المسيو دي لسبس في قهره وخجله من خيبته في مشروعه إلى الانتحار!» وإن هذا المهندس لم يطاوعه ضميره على البقاء في تأدية عمل كان يعتقد خيبته، فقدم استقالته منه بالرغم من أنه كان مثابا عليه بأجر جزيل، وإن المسيو دي لسبس نفسه كان يقول: «لو كنت مهندسا لما تجاسرت مطلقا على مباشرة حفر الترعة، ولو باشرت ذلك لوقفت في الطريق أمام صعوبات الأول.» وإن (إسماعيل) القائل: «لولا رغبتي في المحافظة على شرف إمضاء سلفي لألغيت الامتياز الممنوح منه للمسيو دي لسبس ولباشرت حفر الترعة بنفسي، فما كان ذلك ليكلف مصر أكثر مما كلفها، ولعادت فوائد الترعة عليها وحدها .» كان يهمه أن يتخلى المسيو دي لسبس عن العمل لتتولاه الحكومة المصرية، فكان من أوجب واجبات وزير مصري أن يساعده على تحقيق أمنيته.
على أن أعضل المعضلات التي كلف (إسماعيل) وزيره الكبير بحلها إنما كانت - كما رأينا - معضلة وضع حد معقول لتجاوزات الامتيازات الأجنبية، بإجراء إصلاح قضائي يضمن توزيع العدالة بين الأهالي والأجانب على السواء، فبذل نوبار - على ما سبق لنا شرحه - جهودا عظيمة مدة ثماني سنوات متوالية للبلوغ إلى تحقيق تلك الأمنية دون أن تثبط همته العراقيل المتتابعة بلا انقطاع، والمتجددة في كل حين، دون أن يعتريه ملل من اضطراره مائة مرة بدل المرة الواحدة إلى دحض الاعتراضات البيزنطية التي ما فتئ الرجال المعاكسون لمشروعه يهاجمونه بها مهاجمة تدعوه إلى تفتيق ذهنه بحجج وبراهين جديدة يكون وقعها على تلك الاعتراضات أقضى من سابقاتها، حتى تمكن بثباته المدهش من التغلب على نفور الباب العالي، وعلى سوء إرادة المتمسكين بدرع تلك الامتيازات الجائرة من رجال الحكومات الأجنبية، وعلى الدسائس القائمة حوله في السراي الخديوية ذاتها، بفعل الرجعيين الذين لم يكونوا يرون في مجهودات نوبار باشا السياسية والاجتماعية على العموم، وفي الإصلاح القضائي الجديد المرغوب فيه على الأخص، شططا عن الدين والعادات فحسب، بل بدعة منقوما عليها، ومؤدية إلى ضياع البلاد والدين، لولا أن العاهل كان (إسماعيل) المتنور الشغف بكل رقي، والمقتنع بوجوب إجراء الإصلاح اقتناع وزيره الأكبر، لخسفوا الأرض تحت قدميه، وقضوا على كل آماله وجهوده؛ فلا (كانن) في جهاده الطيب لتحرير كاثوليك إرلندا من النير الذي ألقاه على عواهنهم الفتح البروتستانتي، ولا (كوبدن) في سعيه المبرور لحمل البرلمان الإنجليزي على إلغاء القوانين الخاصة بالغلال لأجل تخفيض أثمان الخبز في المملكة المتحدة، ولا (بسمرك) في عمله على إدراك الوحدة الألمانية، وتأسيس الإمبراطورية الجرمانية على أنقاض الدانمرك والنمسا وفرنسا الملطخة بدم الألوف، أظهروا من الهمة والثبات أكثر مما أبدى نوبار منهما في القيام بحل معضلة إبدال النظام القضائي الامتيازي المضطرب المشوش الأركان في مصر بقضاء غيره يتمشى أكثر منه بكثير مع روح الحضارة والعمران العصريين. وإنا إذا التفتنا إلى أن الرأي العام في بلاد (كانن) و(كوبدن) و(بسمرك) كان يعضد هؤلاء الرجال في مساعيهم، ويشد أزرهم، ويقويهم، ويحضهم على الثبات والعمل، وأن نوبار الشرقي لم يكن يعضده في جهاده سوى (إسماعيل) وزمرة قليلة من ذوي الحصافة والنظر الصحيح، وأن الرأي العام كان ضده بمصر وفي الخارج على السواء، يسفه أحلامه، ويحط من كرامته ويصغر من قدره، ما تأخرنا عن الحكم بأن فضل نوبار يفوق فضل أولئك الرجال بقدر ما يفوق عمله في صعوبته وخشونته وفائدته الأدبية - بالرغم من صغر مقياسه - عملهم المشهور!
وقد وصف هو نفسه في بضع صفحات نشرها في باريس سنة 1881 ما نجم عن عمله هذا من فوائد، فقال: «إن المحاكم المختلطة، ولو أن بلاطي الأستانة ومصر حالا دون أن يتناول اختصاصها كل المنازعات القضائية على العموم، سواء أكانت قائمة بين الأهالي والأجانب، أم بين الأهالي والأهالي، أم بين الأجانب والأجانب، عملت عملا عاد على مصر بالخير والإحسان؛ فإنها هذبت أخلاق الجاليات الأجنبية تهذيبا أدبيا، والدليل على ذلك أن الحكومة المهاجمة فيما مضى بدعاوى كانت تؤدي دائما إلى مطالبات من قبل رجال الهيئات الرسمية، تنتهي بتغريم الحكومة الملايين المقنطرة من الفرنكات، لم تعد تطالب بشيء من ذلك، ولم تعد عرضة لأية مهاجمة في هذا الصدد من لدن الهيئات الرسمية.
وكانت الأشغال العامة قبل تأسيس هذه المحاكم، وكل الأشغال الأخرى الخاصة بالحكومة تعمل بواسطة السخرة، ولم يكن في الاستطاعة الاستعاضة عن طريقة الشغل هذه، المخربة للبلاد والمفقدة سكانها كرامتهم، إلا بالآلات والعلوم الأدبية، ولكن قلة الضمانات، وانعدام الطمأنينة في صدر الحكومة من جهة الأجانب كانا يحولان دون إقدام الحكومة على استدعاء رءوس الأموال الأوروبية والمهندسين الغربيين. فأما وقد أوجدت المحاكم تلك الضمانات والطمأنينة فإن السخرة أخذت تزول شيئا فشيئا أمام علم أوروبا الميكانيكي ورءوس أموالها.
وبالإيجاز، فإن تلك المحاكم فتحت لمصر عهدا جديدا، وأدخلت إلى عقلية الشرق فكرا لم يألفه في السابق، ألا وهو إمكان قيام قضاء مستقل، يطبق قانونا تسنه الحكومة، وتكون هي عينها أول الخاضعين له، وأدت إلى تكوين أول حكومة منظمة رآها الشرق، لأنها علمته أن الحكم لا يكون طبقا لهوى الحاكم وعلى كيفه، وأن الحكومة ليس لها حقوق فحسب، بل عليها بجانب حقوقها واجبات أيضا لا بد لها من القيام بها. ويمكن للإنسان من الوجهة الأدبية أن يقول بكل جسارة: إن تنظيم القضاء المختلط قد أدى إلى ثورة حقيقية في العقول، لأن الأهالي رأوا لأول مرة في حياتهم هيئة منظمة، لديها من القوة ما يكفي لمقاومة أعمال الحكام الاستبدادية ورأوها تقاومها في الواقع، ثم رأوا الأمير عينه - على ما لديه من حول وطول - مرغما على احترام قراراتها، وملزما بإعادة الأملاك التي حكمت عليه تلك الهيئة بإعادتها، كما أنهم رأوا الحكومة مجبرة على تنفيذ تلك الأحكام ضد نفسها، ودفع المحكوم به عليها لحامليها. وهناك منظر آخر تمثل أيضا أمام أعين الأهالي، ولو أن وقعه على نفوسهم كان أخف من السابق، فالفرنج المنتشرون في الريف قبل تأسيس المحاكم المختلطة ورجال القنصليات من جريك وغيرهم، كانوا يرهقون المصريين عادة، ويستغلونهم استغلالا فاحشا، دون أن يجد المصريون من العدالة سوى أبواب موصدة. فذلك الإرهاق وهذا الاستغلال بطلا تماما منذ تشكيل المحاكم المذكورة، ليس هذا فقط، بل إن عددا غفيرا من الأهالي تحصلوا ضد أولئك الفرنج الأقوياء وتجارهم العتاة، وضد رجال القنصليات عينهم على أحكام قاضية بتعويضات جمة! وقد أدى ذلك طبعا بالأهالي إلى التفكر بأنه مذ أصبحت الشرائع والمحاكم تحميهم من الذين كانوا يستغلونهم في الماضي، فليس هناك ما يمنعها من حمايتهم من الحكومة أيضا، وعلى الأخص من تصرفات موظفيها الجائرة.
وهذه الفكرة أنجبت فيما بعد المحاكم الأهلية، وكانت هي أيضا مختلطة في بدء نشأتها. والمحاكم الأهلية، بتطبيقها تشريعا مدنيا بحتا غير التشريع السابق، فتحت لأول مرة في تاريخ مصر أمام أعين المصريين أبواب مضمار المدنية العصرية واسعة، بل وخولتها قوة الدخول فيه، والتماس كل إصلاح توجبه الظروف والأيام.»
6
غير أن النزاع الذي قام فيما بعد بين (إسماعيل) والقضاء المختلط - وسيأتي بيانه في حينه - أوجب فتور رضى الخديو عن وزيره، ذي النزعة الفرنجية البحتة، واغتنم أعداء نوبار فرصة تغير خاطر (إسماعيل) عليه، واجتهدوا في إفهامه أن وزيره خان أمانته، وأدخل في نصوص القوانين الجديدة ما اتخذ منه القضاء الجديد سلاحه في الحملة الشعواء المشنونة عليه، فاضطر نوبار إلى مغادرة القطر المصري، والإقامة تارة في فرنسا، وطورا في سويسرا، ولكنه بعد أن وضعت الحرب بين الترك والروس أوزارها عاد إلى مصر، وامتزج تاريخ حياته بتاريخ حياتها في سنتي حكم (إسماعيل) الأخيرتين، ثم غادر القطر بعد سقوط (إسماعيل)، ولم يعد إليه إلا عقب إخماد الثورة العرابية، ولو كان حضرها لسارت في غير المجاري التي سيرتها فيها روح عبد الله نديم، المؤثرة على تربية عرابي وزملائه المدنية السطحية.
فعهد إليه (محمد توفيق) برياسة الوزارة في 8 يناير سنة 1884، فبقي فيها إلى يولية سنة 1888، ثم توارى مدة عن مسرح السياسة، وانزوى في عالم تذكاراته الماضية، ولكن (عباس الثاني) استدعاه إلى رياسة الوزارة في سنة 1894، فمكث في منصبه سنة وبضعة أشهر، ثم استقال بسبب اعتلال صحته، وتنحى عن السياسة بالكلية إلى أن توفاه الله في سنة 1899.
وكان نوبار ربع القامة، يميل إلى الطول، قوي البنية، أسمر اللون، أسود العينين، كما أن شعر رأسه كان أسود أيضا سوادا حالكا قبل أن يشتعل شيبا، وكانت تقاطيع وجهه منتظمة، متناسبة متناسقة، ينيرها ابتسام جذاب، يكسب صاحبه القلوب أنى شاء، وكان كلاميا، منطقيا ماهرا، إذا تحدث أروى وأشبع، وإذا ناقش أفحم وأقنع، وامتاز كلامه في كلتا الحالتين برشاقة التعبير، وغزارة المادة، يتخللهما شيء من التهكم القاطع، أو الجزل المتدفق من ينبوع حي، طبقا لما يقتضيه الموقف، مثال ذلك أن الحكومة الإمبراطورية الفرنساوية عقب انفضاض الخلاف على ترعة السويس مع شركتها، منحت نوبار وسام جوقة الشرف من الرتبة الأولى، فأراد الدوق دي مرني - وكان قصير القامة - أن يقلده إياه بيده، فاضطر نوبار، لكي يمكنه من ذلك إلى إحناء قامته كثيرا حتى كاد يركع، ولكنه فعل ذلك بابتسام قائلا: «ليس الثمن غاليا !» وهو يشير إلى النيف والمائة مليون من الفرنكات التي دفعتها الحكومة المصرية لتتخلص من تلك الورطة المدنية التي ألقاها بها تسرع (سعيد).
والمدهش في محادثته أنه كان ينتقل من الوقور إلى العذب، ومن المجون إلى الجد بسهولة غريبة، ويزين حديثه بالمجازات الجميلة، والأمثلة المناسبة، والقصص الموافقة، بدون تكلف وبارتجال غريب، كأن موردها بجانبه، وما عليه إلا أن يدلي دلو قريحته فيه ليخرج بها منه، مثال ذلك الحكاية الآتية التي أوردها في حديث له عن الحال السياسية بمصر، وتنازع حكومتها ودائنيها على أموال فلاحيها: «عصفور كان حاطا على شجرة، وإذا بباز انقض عليه واختطفه، وبينما هو صاعد به إذا بنسر رآه، وأراد اغتصاب فريسته منه، فدار بين الطيرين الكاسرين قتال هائل، فوقف الجمهور يتفرج عليه، ويتساءل أي الجارحين عساه يفوز على الآخر؟ ولم يفتكر أحد في العصفور، ولا حزن على تعاسة حظه!» وأيضا: «مصر كعظمة ثمينة كبيرة يرغب فيها كلبان (فرنسا وإنجلترا)، فيتنازعان عليها، ولا يجرؤ أحدهما على اختطافها، لخوفه من الآخر، ولكن بينما هما يحملقان الواحد للآخر ويزمجران، يتسرب سرب من النمل (الجريك - واليهود والشرقيون على العموم) إلى العظمة وينهشها، ويسمن منها!»
وكان ذا شمائل خلابة، وشيم ساحرة، لا يحقد ولا يميل إلى الانتقام، ويقابل ذات شانئيه مقابلة تشف عن صفاء نية وحسن طوية، فيحول بذلك مجاري العواطف في صدورهم، فيخرجون من عنده وهم إلى أن يكونوا أصدقاء له أقرب منهم إلى البقاء على عداوته.
ومع أنه تعلم منذ حداثة سنه صنعة إخفاء عواطفه وأفكاره - لشدة احتياجه إليها في المراكز التي شغلها، على غربته في الجنس والدين، لدى العواهل المتعاقبين على مصر من ذرية الباشا العظيم - فإنه لم يكن من ذوي الخنوع، أو ممن يتلمسون الحظوة عند الملوك من إذلال أنفسهم بين أيديهم، أو من تحقيرها في خدمات يأباها الشرف، بل ما فتئ متعاليا في شعوره، تعاليا يظهر أثره في مشيته، واستقامة جسمه.
وقد لوحظ عليه أنه في مكاتباته الرسمية كان إذا ذكر الخديو دعاه «مليكي صاحب الجلال»، متحاشيا دائما تسميته «مولاي أو سيدي الخديو صاحب الجلال» كما كان يدعوه باقي وزرائه، لذلك لا يسع الإنسان إلا التعجب من كيف أمكن لمن كانت هذه شيمه أن يستمر في خدمة الملوك، ولا يسعه من جهة أخرى إلا تعظيم قدر العواهل الذين خدمهم نوبار من الأسرة العلوية، وإجلال عقليتهم، والإعجاب على الأخص بسعة صدورهم، فلو كانوا من التعجرف، على ما ينسبه إليهم بعض الكتاب لما استطاع الأرمني، الأبي النفس، البقاء في خدمتهم يوما واحدا، لا الاستمرار عليها دهرا.
غير أنه على إباء نفسه هذا لم يكن من ذوي الخيلاء ومحبي مظاهر الكبرياء والفخفخة الكاذبة، فلم يجر سائسا أبدا أمام عربته، وكثيرا ما كان يذهب إلى الديوان بعربة أجرة، ولم يوجد مطلقا بينه وبين زائريه حاجبا أو حجابا، ولا اضطر قاصدا إلى الانتظار طويلا في «منادره»، بل كان سهل المقابلة إلى حد كثيرا ما جعل قليلي الذوق يتهجمون عليه في أوقات غير مناسبة.
وقد كانت حياة نوبار الشخصية والمنزلية مثالا للكمال والصلاح والبر إلى آخر يوم من أيامه، فمع أنه نادم (إبراهيم) الغضوب، و(عباسا) تيبريوس مصر، و(سعيدا) كومدها وهنريها الثامن والثالث معا، (وإسماعيل) لويسها الرابع عشر - لم يرو عنه أنه خرج مرة واحدة عن طور الجد والكمال، أو بدت منه نقيصة حطت من قدره الأدبي في أعين أولئك القياصرة المصريين، لذلك كانوا يحترمون أنفسهم أمامه، ويأبون أن يشهدوه مظهرا غير كامل من مظاهر حياتهم الفردية، فيصح القول - والحالة هذه - إنه كان لحياة وزير (إسماعيل) هذا الفردية تأثير على تطور الأخلاق نحو الشعور بما يجب أن يراعى فيه اللائق.
وكان نوبار مغرما بالمطالعة، لا سيما بمطالعة كتب التاريخ، ويحسن التكلم والكتابة بإحدى عشرة لغة مختلفة، وقد ساعده ذلك مع تفتق ذهنه، وسعة حيلته، وقوة تقديره للأشخاص والأمور، على إحراز مركز رفيع في اعتبار العالم السياسي الغربي، حتى إن رجاله فكروا مرتين في عهد منصب إمارة مستقلة إليه، إمارة الرومللي مرة، وإمارة أرمينيا مرة أخرى، ومع ميل نوبار إلى القبول، لا سيما إمارة أرمينيا وطنه الأصلي، كان يشعر بألم نفساني حقيقي كلما تصور أن ذلك قد يحول بينه وبين العود إلى السكنى بمصر، فهل كان هذا الشعور تصديقا لقول القائل: «إن من شرب ماء النيل لا ينسى حلاوته؟» أم إقرارا من نوبار بأن مصر أصبحت دون سواها وطنه الحقيقي المحبوب؟
مهما يكن من الأمر، وسواء أأخذنا من القول ذاته أن مصر، لما جبل أهلها عليه من دعة ودماثة في أخلاقهم، وحب غريب للغريب، وما يوجد في مناخها وثروتها وجمال سمائها من مرغبات للأجنبي عنها في الإقامة فيها دوما، تصبح وطنه المفضل على سواه، أم لم نأخذ منه إلا معناه الحرفي، فإن نوبار أبى إلا أن يموت ويدفن على ضفاف النيل.
وقد أقامت له بلدية الإسكندرية تمثالا في إحدى حدائقها اعترافا منها بما كان له من فضل في إقامة دعائم العدل وأسسه في البلاد، وإقرارا بأن العدل أساس الملك حقا، وقاعدته في كل رقي وتقدم، كما أنه روح كل مدنية حقة.
وقد أكد لنا صاحب العزة وهران نوبار بك - حفيده - أن جده ترك مذكرات تاريخية تقع في أربعة مجلدات، شرح فيها ما حضره شخصيا من الحوادث والوقائع في عهد الأمراء السبعة من البيت العلوي الذين خدمهم، فحبذا لو يسرع ابنه بوغوص نوبار باشا إلى نشرها! فيخدم الأدب التاريخي خدمة هو في أشد الاحتياج إليها، لا سيما أن تلك المذكرات هي الوحيدة من نوعها، وأن عموم الرجال الذين كانت لهم يد في حوادث القرن الماضي من أمراء مصر ووزرائها وغيرهم أبوا أن يحملوا أنفسهم عناء ترك مذكرات شخصية، كنا نستنير بالنور المنبعث عنها في اطلاعنا على تاريخ أيامهم، وإنه لجدير بنوبار أن يشذ عنهم.
وأما شريف باشا
7 - ويلي نوبار في أهميته السياسية، ويفوقه في نظر الكثيرين من المصريين، ولو أنهم لا يبنون تقديرهم له هذا إلا على ما عهدوه فيه من إباء، وعلو نفس، وكرم أخلاق، فهم يصفونه لذلك «بصاحب الهمة العلية، والنفس الأبية، والمروءة الوفية، والشرف الكامل، أخي المعالي، وخدن المفاخر، وزينة الرياسة، ونموذج العفة والاستقامة، وحليف الخير والكرم» - فقد كان ابن محمد شريف أفندي الشركسي العثماني، ولد بمصر القاهرة في شهر نوفمبر سنة 1826؛ إذ كان أبوه قاضي القضاة فيها، ولكنه فارقها إلى الأستانة العلية، وهو لا يتجاوز بعض الأشهر سنا حينما انقضت مدة السنة المعينة لوظيفة أبيه - كما كانت العادة في تنصيب قضاة الولايات العثمانية - ثم بعد ذلك ببضع سنين تعين أبوه لمنصب قضاء الحجاز، وفي ذهابه إلى الأقطار المشرفة للقيام بما عهد به إليه مر على مصر بعائلته، وتقابل (بمحمد علي) أميرها العظيم فقابله بالترحاب والتكريم، وفرح لمشاهدة نجله، حيث تفرس فيه العلاء والنجابة، وسأله أن لا يأخذه معه إلى الحجاز، وهو يقوم بشأنه وتربيته ويحسن مثواه، ويعوله كما يعول أولاده، فقبل هذه النعمة بالشكر، لعلمه بأن ولده يكون في مصر كما لو كان معه أو أحسن، فتركه فيها وسافر إلى محل مأموريته.
أما ولده فكان في ذلك الوقت في سن قابل للتعليم، فانتظم بأمر ساكن الجنان (محمد علي) في سلك تلاميذ مدرسة «الخانقاه» - وهي المدرسة التي أنشئت في سنة 1826 - لتعليم العلوم العسكرية، وناظرها المرحوم عثمان نور الدين أفندي، ومن تلاميذها أنجال الباشا العظيم محمد سعيد، وحسين، وحليم، وأنجال أنجاله، وأولاد الأمراء.
وقد كان انتشر في أوروبا خبر تأسيس هذه المدرسة بمصر قبل أن يشرع (محمد علي) في تأسيسها؛ إذ قد صادف وجود ناظرها عثمان نور الدين أفندي في باريس سنة 1825، ومقابلته بالمسيو چومار أحد مشاهير الفرنساويين الذين دخلوا مصر أيام الاحتلال الفرنساوي، فتكلم معه في شأنها، وفي شأن تأسيس مدرسة أخرى في باريس لتعليم من ينتخب من تلاميذ مدرسة «الخانقاه».
فلما عاد أخبر (محمد علي) بهذا الرأي، فاستصوبه، وفتحت في باريس مدرسة الرسالة المصرية، بشارع ريجار بقسم لوجزمبرج، وبعد سنة أرسل إليها أربعة وأربعون تلميذا، وتعين لهم ناظران؛ وهما المسيو چومار واستفان بك دمرچيان (الذي تولى فيما بعد نظارة الخارجية، ورياسة مجلس الدواوين في عهد سعيد باشا). وكان انتخاب هذا العدد من مدرسة «الخانقاه» بمعرفة (محمد علي)، ثم سافرت رسالة أخرى وفي مقدمتها سعيد وحليم وحسين (المتوفى في باريس) أولاد العزيز، وإسماعيل وأحمد ابنا ابنه إبراهيم، وشريف باشا وعلي مبارك باشا وعلي شريف باشا ومراد حلمي باشا عديل شريف باشا، وغيرهم من نجباء مدرسة «الخانقاه».
فاشتغل كل منهم بحسب لياقته وذوقه وميله بالعلوم التي اختارها لنفسه، فكان ميل شريف باشا إلى تعلم الفنون الحربية والعلوم العسكرية، ثم استعد للدخول في مدرسة سانسير، الشهيرة بتعليم الضباط العسكريين، وأدى الامتحان اللازم، وانتظم في سلك تلاميذها سنة 1843، فتقدم في علومها ووصل إلى أعلى فرقها، ثم انتقل منها إلى مدرسة تطبيق العلوم الحربية في سنة 1845، فمكث فيها سنتين كاملتين، ولما كانت أحكام هذه المدرسة تقضي على تلاميذها بالاستخدام سنتين بالجيش الفرنساوي تحت التمرين، دخل في الآلاي الواحد والعشرين، الذي كان في پرپنيان من مدن فرنسا تحت قيادة الأميرالاي ميراند، المتوفى في حرب القرم برتبة چنرال.
وفي آخر هذه المدة توفي (محمد علي)، وتولى (عباس الأول)، فأمر باسترجاع تلاميذ الرسالة المصرية بفرنسا سنة 1849 فعادوا، ورجع شريف باشا مكتسبا من الحكومة الفرنساوية رتبة يوزباشي أركان حرب، لابسا ملابسها الرسمية، فألحق بالجيش المصري بهذه الرتبة أيضا، ولم يلبث في الجيش إلا قليلا حتى تعين من جملة ياوران سليمان باشا الفرنساوي، سردار الجيش المصري، بناء على طلب سليمان باشا عينه، وإلحاحه على (عباس الأول)، ولكن هذا التعيين لم يزده شيئا على رتبته، مع تكرار الطلب من رئيسه سليمان باشا، وبقي في هذه الوظيفة لغاية سنة 1852، فتمكنت محبته من قلب رئيسه لحسن قيامه بأعماله، ونباهته واستقامته وخبرته، ولكنه لم يتقدم، ولم ينل رتبة من (عباس) على مهارته ومساعدة رئيسه إياه، فقام بفكره أن يترك الوظيفة، وتركها، واستخدمه الأمير حليم في دائرته، بوظيفة كاتب يده في سنة 1853، وبقي في هذه الوظيفة سنة واحدة إلى أن توفي (عباس) وتولى بعده (سعيد)، فكانت باكورة أعماله ترقية شريف، رفيقه في التلمذة قديما والجدير بالالتفات، إلى رتبة أميرالاي الحرس الخصوصي، فبقي في هذه الوظيفة سنتين، والقلوب راضية عنه، والأمير ملتفت إليه حق الالتفات، وبعدها أنعم عليه برتبة لواء (باشا)، وعين لقيادة آلاي بيادة وآلاي الحرس الخصوصي، ثم كمل سعده بعد هذه الترقية بسنة واحدة سنة 1856، فتزوج ابنة سليمان باشا الفرنساوي السردار البادي ذكره، فازداد بقرانه هذا تمسكا بميوله الفرنساوية الأصلية.
وبقربه من (سعيد) زاد قدره لديه، وظهرت فيه علامات الأهلية التامة، والجدارة العظمى، والعفة، وسداد الرأي، فرقاه إلى رتبة فريق، ثم خطر بباله أن يعينه في وظيفة إدارية، فكان ذلك، وعينه ناظرا للأمور الخارجية المصرية، فقام بها حق القيام إلى انقضاء أيام (سعيد). ومن عهد توظفه للخارجية ظهر في الوجود السياسي ظهورا بينا، ولبث كذلك نحو ثلاثين سنة، لا تحدث حادثة سياسية إلا وله فيها الاسم الطيب الشريف، وانقضت مدة (إسماعيل) وأوائل مدة (توفيق) وشريف في منزلته السياسية، وعلو مكانته، وارتقائه في الاسم والصيت.
وبعد أن توفي (سعيد) لم يتزحزح مركز شريف، بل زاد في عهد (إسماعيل) الذي كان هو أيضا لا يفتأ يذكر أيام تلمذتهما معا في باريس وساعاتها الحلوة، فولاه نظارة الداخلية مع نظارة الخارجية، فقام بالوظيفتين حق القيام، بالأمانة وحسن الإدارة والإخلاص، إلى أن سافر (إسماعيل) إلى الأستانة في يولية سنة 1865، فعهد إليه بالشرف الرفيع الذي لا يعدله شرف، وهو جعله قائمقام مصر، لما عهده فيه من حسن الرياسة والذكاء والكياسة والمهابة والإمارة، وهذه هي أول مرة تعين فيها نائبا عن خديو مصر رجل ليس من العائلة الخديوية، فكان ذلك أكبر دليل على ما كان لشريف من المنزلة العليا في النفوس.
ثم لما عاد (إسماعيل) إلى مصر أبقاه في الخارجية، وألقى إليه مقاليد المعارف العمومية، وعهد بالداخلية إلى راغب باشا، وفي سنة 1867 اختاره لرياسة المجلس الخصوصي الذي كان بمنزلة مجلس النظار، ومن هذا التاريخ إلى آخر حكم (إسماعيل) تقلب في الوظائف العالية؛ فتقلد نظارة الداخلية من سنة 1868 إلى سنة 1869، والخارجية في سنة 1870 وسنة 1874 وسنة 1875 وسنة 1876 وسنة 1879، والحقانية أيضا في سنة 1874 وسنة 1875، وأحيلت عليه نظارة التجارة كذلك في سنة 1875، وفي سنة 1879 كان آخر رئيس نظار (إسماعيل) وأول رئيس نظار (توفيق)، ولكنه اعتزل المناصب في أوائل (توفيق)، وما زال بعيدا عنها إلى أن تحركت الثورة العرابية، فعهدت إليه رياسة مجلس النظار سنة 1881، فأسس في مدته هذه مجلس نواب البلاد، ولما ثبت له أن الثورة انقلبت إلى حركة مؤدية حتما إلى جلب ضرر على البلاد استقال، والكل راضون عنه، وبعد تدمير الإسكندرية عاد فألف وزارة كانت آخر الوزارات التي ترأسها، وتقلد فيها منصب الخارجية في ذلك الحين، ولما اشتد أوار المسألة السودانية تنحى، وترك المناصب، ثم سافر إلى أوروبا حيث أدركته الوفاة سنة 1887.
فصدر أمر (توفيق) بإحضار رفاته، وتشييع جنازته على نفقة الحكومة، اعترافا بفضله وخدماته الجليلة، ونعاه نوبار - وكان إذ ذاك رئيس الوزراء - إلى عموم المصالح بعبارات مؤثرة، دلت على ما كان بين الرجلين من أواصر المحبة والاحترام، بالرغم من اختلاف مشاربهما.
فإن نوبار كان في طباعه وأخلاقه وشمائله يشبه الإنجليز، وشريفا كان فرنساويا بحتا في مظهره وملبسه، لا سيما بعد اقترانه بابنة سليمان باشا، إلى حد جعل معاصريه يسمونه «شريف باشا الفرنساوي»، وبينما نوبار ربما كان لاأدريا، فإن شريفا كان مسلما صحيح الاعتقاد، ولو أنه لم يكن يعمل بدقة بكل مقتضيات الحياة والدين الإسلاميين، وكان شريف عكس نوبار أيضا في المظهر الطبيعي، كما كان عكسه في العقلية والخلق، فبينما نوبار أسمر اللون، أسود الشعر والعينين، فإن شريفا كان أشقر اللون والشعر، عسلي العينين، وبينما كان الأول يحسن إخفاء عواطفه وأفكاره، كان الثاني لا يستطيع ذلك مطلقا، لما جبل عليه من الصراحة الكلية في قلبه وكلامه، فكان إلى أنه جندي أقرب منه إلى أنه رجل سياسة، ولو حاول إخفاء عاطفة لخانته شيمه الصريحة، وسحنته المفتوحة، وبالرغم من ذلك فإنه كان محبوبا من الجميع، ولا أعداء له، لوقوف الكل على سلامة ضميره وإخلاص قلبه، بخلاف نوبار، فإن خلقه الشديد كان ينفر منه الناس بقدر ما كان يدني إليه منهم.
على أن كلا الرجلين كانا متشابهين في الذكاء، وسرعة الخاطر، وحلاوة الحديث، وحسن المعاشرة والمجالسة، وسعة الضيافة وكرمها، تشابههما في وقار النفس وكمالها، في الأنفة من الدنايا والترفع عنها، وفي علو الهمة، وحب المبرات، وحرية الفكر والضمير، وكان أحدهما يحترم الآخر، فالاحترام متبادل بينهما لهذه الفضائل والكمالات.
غير أنه بينما كان نوبار يرى المطالعة من أكبر اللذات في هذه الحياة الدنيا، كان شريف يرى أن الصيد والقنص هما أكبر ملاذها، فكان شديد الغرام بهما إذن كأنه نمرود ثان، لذلك وصفهما (إسماعيل) بقوله: «لست أرى سفيرا أرسله إلى بلاد الإنجليز خيرا من شريف فإنه صياد مولع بالصيد، لا يبالي بأخطاره، وهذا يعجب القوم هناك، ويستميل قلوبهم، كما أني لست أرى سفيرا أرسله إلى الأستانة خيرا من نوبار، فإنه أمهر الناس في تزويق الخبيث وتنميقه، ولو كان مبالغا فيه، وأحذقهم في حمل المحدث على القهقهة، وهو ساكن لا يضحك، وليس شيء يعجب الأتراك أكثر من هذا!»
وكلا الرجلين كان يميل إلى التلاهي عن الأشغال الجدية بالألعاب الاجتماعية، ولكن نوبار كان يفضل لعبة البزيج على كل لعبة خلافها، وكثيرا ما كنت إذا زرته تجده يتعاطاه مع خصيص من أخصائه أو زائر من زائريه الغربيين، وأما شريف فإنه لم يكن يفضل على البلياردو لعبة في الوجود، وكان غرامه به يكاد يضاهي ولعه بالقنص والصيد، ويبلغ حدا يجعله يتصور معه كل كفاءة لأي نوع من أنواع الأعمال والأشغال في الرجل المتقن لعبه.
وإن الناظر إلى تداول وزارتي الخارجية والتجارة بين هذين الوزيرين، إلى بقائهما في منصبيهما في الإدارة المصرية المدد الطويلة، مع أن الحكم كان فرديا واستبداديا على ما يقولون، لا يسعه إلا مقارنة ذلك بسرعة زوال الوزارات، وسرعة تغير المظاهر الإدارية في الدول السائد عليها نظام الدستور، فلا يجد من يصح له أن يقارنه بهما من رجال الدول، معاصريهما، سوى دزرائيلي وجلادستون، ومع ذلك فإن هذين الإنجليزيين تواليا على المناصب، ولم يتعاصرا عليها، فأمكن الواحد منهما في أوقات اعتزاله أن يؤلف الروايات أو يحطب في الغابات، وهذا ما لم يسمح به لنوبار وشريف، لا سيما لهذا الأخير، مطلقا طوال حكم (إسماعيل).
وأما علي مبارك باشا
8 - أبو التعليم المصري الحقيقي - فإنه بخلاف الوزيرين السابقين، مصري بحت، وإنا - لما في حياته من عبر بليغة - نرى أن نتوسع في شرحها فنقول : ولد في قرية برنبال الجديدة، من أسرة كانت تعرف فيها بعائلة المشايخ سنة 1239ه/سنة 1824م، ولما بلغ السادسة من عمره، اضطر والده، بعد أن بذل ما بيده، وباع مواشيه وأثاث بيته، إلى الفرار من القرية بسبب أموال انكسرت عليه للديوان، ونزل بقرية يقال لها الحماديين من أعمال الشرقية، ولكنه لم يلبث فيها إلا قليلا، لقلة إكرام أهلها له، وارتحل بعياله إلى عرب السماعنة بالشرقية، ولم يكن عندهم فقهاء، فأنزلوه منزل الإكرام والإجلال، وانتفعوا منه، وانتفع منهم انتفاعا كبيرا، ارتاح له خاطره وانزاحت عنه الشدائد، فالتفت إلى تربية ابنه علي، فعلمه أولا بنفسه، ثم سلمه لمعلم اسمه الشيخ أحمد أبو خضر، وكان مقيما في قرية صغيرة قريبة من مساكن أولئك العرب، فأقام عنده نحو سنتين ختم فيهما القرآن بداية، ثم لكثرة ضرب الشيخ له، تركه وجعل يقرأ عند والده، وكان والده منشغلا عنه في شغله، فمال الولد إلى اللعب والتفريط، فهم أبوه أن يجبره على الذهاب إلى معلمه، فتعاصى ونوى الهرب.
وكان له إخوة من غير والدته، فأشفقوا عليه، وسألوه عن مرغوبه في التربية، فاختار أن لا يكون فقيها، بل يكون كاتبا؛ لما كان يراه للكتاب من حسن الهيئة والهيبة والقرب من الحكام، فسلمه أبوه إلى كاتب قسم بناحية الإخيوة كان صديقا له، وجعل له مرتبا يكفيه، فأقام علي عنده مدة، وخالط عياله، فإذا هو مجمل الظاهر، ولكنه فقير في بيته - كمعظم الكتاب والموظفين بكل أسف! - فكان الولد في غالب أيامه، يبيت إذن طاويا من الجوع، وليت ذلك كان كل ما هنالك! ولكن الرجل - على قلة تعليمه له - كان يخدمه كثيرا ويؤذيه أكثر، فحدث ذات يوم أنهما كانا في قرية المناجاة، فسأله الكاتب أمام ناظر القسم، وجماعة الحضور عن الواحد في الواحد! فقال علي: «باثنين»، فضربه بمقلاة بن، فشجه في رأسه، فلامه الحاضرون، وذهب علي إلى والده يشكو إليه، فما نال منه إلا الأذى ، وكان يومئذ مولد سيدي أحمد البدوي، فهرب علي مع الناس، قاصدا المطرية، جهة المنزلة، ليلحق بخالة له هناك، ولكنه مرض بالكوليرا في طريقه بقرية صالحجر، فأخذه رجل من أهلها، وعاده أربعين يوما، وكان والده في تلك المدة، وأحد إخوته يفتشان عليه في البلاد، فاستدل عليه في صالحجر، فلما رآه علي هرب، ونزل بمنية طريف، فأخذه رجل عربي، ولكنه لم يقم عنده إلا قليلا، وهرب منه أيضا، ولحق بأخ له في برنبال.
وبعد أيام قدم إليها أخوه الذي كان يفتش عليه، وما زال به حتى أخذه بالحيلة إلى والدهما، وقد أشكل على أهله أمره، فعرضوا عليه القراء والكتاب، فلم يقبل بحجة أن المعلم لا يستفيد منه إلا الضرب، والكاتب إلا الضياع والأذى، علاوة على أنه يخدمه، فعرض عليه والده أن يلحقه بصاحب له من كتبة المساحين، فرضي بذلك، فلما عاشره، زاد رغبة في عشرته؛ لما كان يناله في صحبته من النقود التي كان يأخذها من الأهالي، فأقام عنده ثلاثة أشهر، ولكنه لصغر سنه وعدم معرفته بما ينفع وما يضر، كان يفشي سره، ويخبر عن أخذه من الناس، فطرده، فبقي في بيت أبيه يقرأ عليه، ويصحبه في قبض الأموال الأميرية التي على العرب - وكان منوطا بذلك - ويباشر الكتابة وبعض المحاسبات، ثم بعد نحو سنة واحدة جعله أبوه مساعدا عند كاتب في مأمورية أبي كبير، بماهية قدرها خمسون قرشا يبيض له الدفاتر، فأقام عنده نحو ثلاثة أشهر، وقد خلقت ثيابه، وساء حاله، ولم يقبض شيئا من الماهية إلا الأكل في بيته، ثم عينه يوما لقبض حاصل أبي كبير، فقبضه، وأمسك عنده منه قدر ماهيته، وكتب له علما بالواصل، ووضعه في كيس النقدية، فلما وقف على ذلك اغتاظ منه، وأسرها في نفسه، وأغرى مأمور أبي كبير عليه، واتفق معه على إلحاقه بالجهادية بدل شخص كان مطلوبا للعسكرية، فنادياه على حين غفلته، وأمره المأمور بالذهاب إلى السجن لكتابة المسجونين، وأصحبه رجلا من أغوات المأمورية.
فلما دخل السجن، أحضروا باشا من الحديد، ووضعوه في رقبته، وتركوه مسجونا، فلبث في السجن، وهو على ما لا مزيد عليه من الخوف، بضعة وعشرين يوما في أوساخ المسجونين وقاذوراتهم، ينتحب آناء الليل وأطراف النهار، فرق له السجان لصغر سنه، ومكنه من مخابرة أبيه في أمره، فذهب أبوه إلى العزيز - وكان بناحية (منية القمح) - وقدم له قصة ابنه في عرضحال، فكتب بإخلاء سبيله، وأخذ الوالد الأمر بيده، ولكن قبل حضوره إليه أتى إلى السجان صاحب له من خدمة مأمور زراعة القطن بنواحي أبي كبير، وأخبره أن المأمور محتاج إلى كاتب يكون معه بماهية، فدله السجان على علي، ووصفه له بالنجابة وحسن الخط، فمال الخادم إليه، وطلب منه أن يكتب خطه في ورقة ليراها المأمور، فكتب علي عريضة واعتنى فيها، وناولها له مع غازي ذهب قيمته عشرون قرشا، ليسلك له الطريق عند مخدومه، ووعده بأكثر من ذلك أيضا، فأخذها وبعد قليل حضر بأمر الإفراج عنه، وأخذه معه حتى قرب من المأمور، وكان يدعى عنبر أفندي، فنظر إليه، فإذا هو أسود حبشي، لكنه سمح، جليل، مهيب، ورأى مشايخ البلاد والحكام وقوفا بين يديه، وهو يلقي عليهم التنبيهات، فتأخر حتى انصرفوا، فدخل عليه وقبل يده، فكلمه بكلام رقيق عربي فصيح، وقال له: «أتريد أن تكون معي كاتبا، ولك عندي جراية كل يوم، وخمسة وسبعون قرشا ماهية، كل شهر؟» فقال: نعم. ثم انصرف من أمامه، وجلس مع الخدامين، وكان يعرف من المشايخ الذين كانوا بين يديه جماعة من مشاهير البلاد، أصحاب الثروة والخدم والحشم والعبيد، فاستغرب ما رآه من وقوفهم بين يديه وامثتالهم أوامره، وكان لم ير مثل ذلك قبل، ولم يسمع به! بل كان يعتقد أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك، على حسب ما جرت به العادة في تلك الأزمان، وبقي متعجبا، متحيرا في السبب الذي جعل السادة يقفون أمام العبيد، ويقبلون أيديهم، وحرص كل الحرص على الوقوف على هذا السبب، فكان ذلك من دواعي ملازمته لعنبر أفندي.
وفي ثاني يوم حضر والد علي بأمر العزيز، فسلم علي عليه وأدخله على المامور وعرفه إياه، فبش في وجهه، وأجلسه وأكرمه. وكان والد علي جميل الهيئة، أبيض اللون، فصيحا، متأدبا، فكلم المأمور في شأن ابنه، فقال له المأمور: «إني قد اخترته ليكون معي، وجعلت له مرتبا، فإن أحببت، فذاك.» فشكر له، ورضي أن يكون ابنه معه، وانصرف من مجلسه مسرورا.
فلما كان الليل وسهر علي مع أبيه، جعل كلامه معه في المأمور فقال: «وهذا المأمور ليس من الأتراك، لأنه أسود.» فأجابه: «يمكن أن يكون عبدا عتيقا.» قال: «هل يكون العبد حاكما؟ مع أن أكابر البلاد لا يكونون حكاما، فضلا عن العبيد؟» فأجابه أبوه بأجوبة لم تقنعه، وبعد يومين سافر عنه وتركه عند المأمور، فجعل علي يقول في نفسه: «إن الكتابة والماهية كانتا السبب في سجني، ووضع الحديد في رقبتي، وقد وجدت هذا المأمور خلصني من ذلك، فلو فعل هو معي مثل ما فعل الكاتب فمن يخلصني؟»
وأخذ يود أن يكون بحالة لا ذل فيها، ولا تخشى غوائلها، واصطحب بفراش لعنبر أفندي، ما لبث أن علم منه أن سيده مشترى ست من الستات الكبار، مرعيات الخواطر، أدخلته مدرسة القصر العيني لما فتح العزيز المدارس، وأدخل فيها الولدان، وأخبره ذلك الفراش أن التلاميذ في القصر العيني يتعلمون الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن الحكام إنما يؤخذون من المدارس.
فجال حينئذ في صدر علي أن يدخل المدارس، وسأل الفراش: «هل يدخلها أحد من الفلاحين؟» فأفاده «أنه يدخلها صاحب الواسطة»، فشغل ذلك باله زيادة، وما زال بالفراش يستفهم منه عن طريق القصر، وكيفية الإقامة فيه، فأخبره عن ذلك كله، وأثنى على حسن إقامة التلاميذ به ومأكولهم وملبوسهم وإكرامهم، فازداد علي شوقا، وكان يكتب عنده كل ما يخبره به من بيان الطريق وقدر المسافة، وأسماء البلاد التي في الطريق، وقامت بنفسه فكرة التخلص، والتوصل إلى المدارس، فطلب الإذن في زيارة أهله، فأذن له بخمسة عشر يوما، فسافر، وبينما هو يجتاز قرية بني عياط، تقابل مع جملة أطفال تحت قيادة رجل خياط، مع كل واحد دواة وأقلام، فجلس معهم تحت شجرة، وتحادثوا، فظهر له أنهم تلامذة من مكتب منية العز، ورأوا هم خطه، فوجدوه أحسن من خط الباشجاويش، فجعل علي يستفهم منهم عن مكتبهم وصفته، وجعل الخياط يحسن له أوصافه، ويغريه على دخوله، مفهما إياه أن نجباء المكاتب ينتقلون إلى المدارس بلا واسطة، فرأى علي أن ذلك غاية مرغوبه، فلم يتأخر عن الذهاب معهم والدخول إلى مكتبهم، ولكن ناظره - وكان من معارف أبيه - أراد أن يمنعه من الانتظام في عقد التلامذة، فلم يفلح، وبقي علي في المكتب خمسة عشر يوما، ثم أتى أبوه بتدبير من الناظر، وانتظر خروجه للفسحة والأكل في وقت الظهر، واختطفه إلى البلد، وحبسه في البيت نحو عشرة أيام، ما برحت أمه في خلالها تبكي منه وعليه، وتستعطفه للرجوع عما يوجب فراقهم، وتحلفه أن يرجع عن تلك النية، فوعدها بالرجوع عن ذلك، إرضاء لخاطرها.
فأطلقوه، وكان لهم غنيمات أخذ يرعاها، وأبعدوه عن حرفة الكتابة، فبقي كذلك مدة، حتى اطمأن خاطرهم، وظنوا أن فكرته ذهبت عنه، مع أنها لم تفارقه، وإنما كان يخفيها إلى أن انتهز فرصة في ليلة من الليالي، فصبر إلى أن ناموا جميعا، وأخذ دواته وأدواته، وخرج من عندهم خائفا يترقب، وتوجه تلقاء منية العز، وكان ذلك آخر عهده بسكناه بين أبويه، وكانت ليلة مقمرة، فمشى حتى أصبح، فدخل منية العز ضحى، ولم يره الناظر إلا وهو مع الأطفال في داخل المكتب، والتزم أن لا يخرج منه ليلا ولا نهارا مخافة اختطافه، ثم حضر والده وعمل طرق التحيل عليه هو والناظر، فلم ينجح في ذلك، حتى جاء ناظر مكتب الخانقاه عصمت أفندي، لفرز نجباء التلامذة إلى القصر العيني، فكان علي ممن اختير لذلك، ولكن والده حضر واشتكى لعصمت أفندي، فقال له: «هذا ابنك أمامك، وهو مخير.» فخيروه، فاختار المدارس، فعند ذلك بكى والده كثيرا، وأغرى عليه جماعة من المعلمين وغيرهم ليستميلوه، فلم يصغ لكلامهم، وكان ما قدر الله، فدخل مدرسة القصر العيني في سنة 1251ه، وهو يومئذ في سن المراهقة، فوجد المدارس على خلاف ما كان يظن، بل بسبب تجدد أمرها كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها، والتربية والتعليمات غير معتنى بها ، بل كان جل اعتنائهم بتعليم المشي العسكري، فكان ذلك في وقت الصبح والظهر، وبعد الأكل وفي أماكن النوم، وكان جميع رؤساء التلامذة ومعلميهم يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج، مع كثرة الأغراض، والإعراض عن الاعتناء بشئونهم من مأكولات وخلافها، وكانت مفروشاتهم حصر الحلفا، وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق، ومن كراهة علي للطبيخ المرتب لهم، جعل يأتدم الجبن والزيتون، وكان برعي أفندي أستاذ فرقته يراعيه بالنسبة لغيره.
وكان مع الشاب قليل من النقود جعلها أمانة تحت يد أستاذه، فلما رأى هذه الحالة ضاق ذرعا، وظن أنه جنى على نفسه في دخوله المدارس التي بهذه المثابة، ثم لتغير الهواء المعتاد، وكثرة ما قام به من الأفكار، اعترته الأمراض، وطفح الجرب على جسمه، فأدخلوه المستشفى، فتراكمت عليه الأمراض حتى يئسوا من حياته، ولكن الله سلم.
وفي أثناء ذلك حضر والده، فلم يمكنوه من الدخول، فجعل لبعض التمارجية خمسين محبوبا من الذهب، على أن يخرج ابنه من «الاسبتالية» سرا، ليخلصه مما هو فيه، فلم يشعر علي إلا والتمارجي قد كسر شباك الحديد من المحل الذي هو فيه، وأخبره بمرغوب والده، وأنه واقف ينتظره خارج المدرسة، وأراد أن ينزله من الشباك، ويوصله إليه ليأخذ جعله، فمالت نفس علي لإجابته، والذهاب مع والده، وترك المدارس وأهلها، لما رآه من الشدائد وعدم التعليم، وما لحقه من الجوع في «الاسبتالية»، حتى كان يمص العظم الذي كان يلقيه الآكلون.
لكنه فكر في عاقبة الهروب، فإنهم كانوا يطلبون من يهرب من التلامذة، ويقبضون على أهله، ويقيدونهم ويهينونهم، فامتنع عن الخروج معه، فاجتهد في التحيل عليه، وتسهيل الأمر لديه، فأبى، وقال: «أصبر على قضاء الله، وأنا الجاني على نفسي، فبلغ والدي السلام، وسله أن يدعو لي، وأن يبلغ والدتي عني السلام!»
ثم إن والده توسط حتى دخل عنده، ورأى كل منهما الآخر، فقبل كل الآخر، وبكيا، ثم ودعه ومضى لسبيله وكله زفرات، ثم شفي الشاب، وخرج إلى المدرسة، واشتغل بدروسه، ولم يمرض بعد ذلك.
وفي أواخر سنة 1252 نقلوهم إلى مدرسة أبي زعبل، وجعلوا القصر العيني لمدرسة الطب خاصة، كما هو الآن، فكانت إدارة المدارس في أبي زعبل كما كانت في القصر العيني، إلا أنه اعتنى بالتعليم شيئا، بسبب جعل نظرها لإبراهيم رأفت بك.
وكان أثقل الفنون على الشاب علي وأصعبها الهندسة والحساب والنحو، فكان يراها كالطلاسم، ويرى كلام المعلمين فيها ككلام السحرة، وبقي كذلك مدة إلى أن جمع إبراهيم رأفت بك متأخري التلامذة في آخر السنة الثالثة من انتقالهم إلى مدرسة أبي زعبل، وجعلهم فرقة مستقلة - كان علي منهم، بل آخرهم - وجعل نفسه هو المعلم لهذه الفرقة.
ففي أول درس ألقاه عليهم، أفصح عن الغرض المقصود من الهندسة، بمعنى واضح، وألفاظ وجيزة، وبين أهمية الحدود والتعريفات الموضوعة في أوائل الفنون، وأن هذه الحروف التي اصطلحوا عليها إنما تستعمل في أسماء الأشكال وأجزائها، كاستعمال الأسماء للأشخاص، فكما أن الإنسان له أن يختار لابنه ما شاء من الأسماء، كذلك المعبر عن الأشكال له أن يختار لها ما شاء من الحروف، فانفتح من حسن بيانه قفل قلب الشاب، ووعى ما يقول.
وكانت طريقة ذلك الأستاذ الحكيم هي باب الفتوح عليه، ولم يقم من أول درس إلا على فائدة، وهكذا كانت جميع دروسه بخلاف غيره من المعلمين معدومي الطريقة، وملتزمي الحالة الواحدة، فختم عليه في أول سنة جميع الهندسة والحساب، وصار أول فرقته، وبقي في النحو على الحالة الأولى، لعدم تغير المعلم، ولا طريقة التعليم السيئة.
وكان رأفت بك يضرب به المثل، ويجعل نجابته على يديه برهانا على سوء تعلم المعلمين، وأن سوء التعليم هو السبب في تأخر التلامذة.
وفي تلك السنة، وهي سنة 1255، فرزوا منهم تلامذة لمدرسة المهندسخانة ببولاق، فاختاروا عليا فيمن اختاروه، فأقام بها خمس سنين، وتلقن جميع دروسها، وكان فيها دائما أول فرقته وقلفتها، فتلقى بها الجزء الأول من الجبر، والجبر العالي، وعلم الميكانيكا، وعلم الديناميكا، وتركيب الآلات على أستاذ يقال له طائل أفندي، وحساب التفاضل، وعلم الفلك على محمود باشا الفلكي، وعلم الإدروليك على دقلة أفندي ، وعلم الطوبوغرافيا، والتروزية على إبراهيم رمضان افندي، وعلم الكيمياء والطبيعة، والمعادن، والچيولوچيا، وحساب الآلات على أحمد فايد بك، والهندسة الوصفية، وقطع الأحجار، وقطع الأخشاب، والظل والنظر، بعضه على إبراهيم رمضان أفندي، وبعضه على سلامة باشا، وتلقى عليه أيضا خاصة الكسموغرافيا.
ولعدم وجود كتب مطبوعة في هذه الفنون وغيرها، إذ ذاك، كان التلامذة يكتبون الدروس عن المعلمين في كراريس، كل على قدر اجتهاده في استيفاء ما يلقيه المعلمون، وكان المعلمون يومئذ يبذلون غاية مجهودهم في التعليم، فكان يندر أن يستوفي تلميذ في كراسه جميع ما يلقى إليه، خصوصا الأشكال والرسوم، ولذلك كان الأمر إذا تقادم أو خرجت التلامذة من المدارس يعسر عليهم استحضار ما تعلموه، فكان يضيع منهم كثيره.
وفي آخر مدة المهندسخانة كانوا يطبعون بمطبعة الحجر بعض كتب، فاستعان بها التلامذة، وحصل منها نفع، ثم تكاثر طبع الكتب شيئا فشيئا، لا سيما في عهد (إسماعيل) وما بعده، فصارت تطبع الفنون بأشكالها ورسومها، فسهل بذلك تناولها واستحضار ما فيها.
ثم في سنة 1260 عزم العزيز على إرسال أنجاله إلى فرنسا ليتعلموا بها، وصدر أمره بانتخاب جماعة من نجباء المدارس المتقدمين ليكونوا معهم، وحضر سليمان باشا الفرنساوي إلى المهندسخانة فانتخب عدة من تلامذتها، فكان علي فيهم.
وكان ناظرها يومئذ لمبير بك، فأراد أن يبقيه في المهندسخانة، ليكون معلما بها، ولكن عليا عرض على سليمان باشا أنه يريد السفر مع المسافرين، وجعل الناظر يحتال عليه، وأحال عليه الخوجات ليثبطوه عن السفر، وقالوا له: «إن بقيت ها هنا تأخذ الرتبة حالا، وتترتب لك الماهية، وإن سافرت تبقى تلميذا، وتفوتك تلك المزية.»
ورأى علي أن سفره مع الأنجال مما يزيده شرفا ورفعة واكتسابا للمعارف، فصمم على السفر، مع أنه يعلم أن أهله فقراء، ويعود عليهم النفع من الماهية، وهم منتظرون لذلك، لكنه رأى الكثير الآجل خيرا من القليل العاجل.
فسافر إلى تلك البلاد مع من تقدم لنا ذكر أسمائهم آنفا من الأمراء وأولاد الأعيان، وجعل مرتبه كل شهر 250 قرشا كرفقته، فجعل نصفها لأهله، يصرف لهم من مصر كل شهر - وكانت هذه سنته معهم منذ دخل المدارس - فأقاموا جميعا في باريس سنتين في بيت واحد مختص بهم، ورتب لهم المعلمون لجميع الدروس، والضباط والناظر من الجهادية الفرنساوية، لأن رسالتهم كانت عسكرية، وكانوا يتعلمون التعليمات العسكرية كل يوم.
وكانت معلومات أفراد الرسالة مختلفة، فبعضهم له إلمام بالتعليمات العسكرية فقط، مثل الذين أخذوا من الطوبجية والسواري والبيادة، والبعض لهم إلمام بالعلوم الرياضية، ولا يعرفون اللغة الفرنساوية، كالمأخوذين من المهندسخانة، والبعض له معرفة باللغة الفرنساوية، وكان بعض هؤلاء معلمين فيها بمدارس مصر.
فاقتضى رأي الناظر أن يجعل المتقدمين في الرياضة واللغة الفرنساوية فرقة واحدة، وأمر المعلمين أن يلقوا الدروس للجميع باللغة الفرنساوية، لا فرق بين من يفهم تلك اللغة ومن لا يفهمها، ففعلوا، وأحالوا غير العارفين بها على العارفين، ليتعلموا منهم بعد إعطاء الدروس - وكان علي ممن لا يعرفونها - فأخذ العارفون بها يبخلون على غير العارفين بالتعليم، لينفردوا بالتقدم، فمكث غير العارفين مدة لا يفهمون شيئا من الدروس، حتى خافوا التأخير، وتكررت منهم الشكوى لتغيير تلك الطريقة، وتعليمهم بكلام يفهمونه.
فلم يصغ لشكواهم، فتوقفوا عن حضور الدروس أياما، فحبسوهم، وكتبوا في حقهم للعزيز، فصدر أمره بالتنبيه عليهم بالامتثال، ومن يخالف يرسل إلى مصر محددا.
فخافوا عاقبة ذلك، وبذل علي جهده، وأعمل فكره في طريقة يحصل له منها النتيجة، ومعرفة اللغة الفرنساوية، فسأل عن كتب الأطفال، فنبأوه عن كتاب، فاشتراه، واشتغل بحفظه، وشمر عن ساعد الجد في الحفظ والمطالعة، ولزم السهاد، وحرم الرقاد، لا ينام من الليل إلا قليله، حتى أصبح ذلك ديدنه، فحفظ الكتاب بمعناه عن ظهر قلبه، ثم حفظ جزءا عظيما من كتاب التاريخ بمعناه أيضا، وحفظ أسماء الأشكال الهندسية والاصطلاحات - كل ذلك في الثلاثة الأشهر الأول.
وكانت العادة أن الامتحانات في رأس كل ثلاثة شهور، ومع ذلك كان يلتفت للدروس التي تعطيها «الخوجات»، فأثمر الحفظ معه ثمرة كبيرة، وصار أول الرسالة كلها بالتبادل مع حماد بك، وعلي إبراهيم باشا.
ولما حضر إلى مدينة باريس الأمير (إبراهيم) سر عسكر الديار المصرية، حضر امتحانهم هو وسر عسكر الديار الفرنساوية، مع ابن الملك لويس فيليب، وأعيان فرنسا، وجملة من مشاهير النساء الكبار، فأثنى الجميع عليهم الثناء الجميل، وفرقت المكافآت عليهم الثلاثة، فناول الأمير (إبراهيم) الشاب عليا مكافأة بيده - وهي المكافأة الثانية - وكانت نسخة من كتاب جغرافيا مالطبرون الفرنساوي، بأطلسها، ودعوا للأكل معه.
وبعد سنتين، تعين الثلاثة الأول من الفرقة، وهم صاحب الترجمة، وحماد بك، وعلي إبراهيم باشا إلى مدرسة الطوبجية والهندسة الحربية بناحية متس، وأعطوا رتبة الملازم الثاني.
فأقاموا بها سنتين أيضا، وتعلموا فيها فن الاستحكامات الخفيفة، والاستحكامات الثقيلة، والعمارات المائية، والهوائية، عسكرية ومدنية، والألغام، وفن الحرب، وما يلحق به، مع إعادة عامة لكل ما سبق تعليمهم إياه، بتلخيص من المعلمين، في عبارات وجيزة جامعة، ثم تفرقوا إلى الآلايات، فكان علي في الآلاي الثالث من المهندسين الحربيين، وأقام فيه أقل من سنة.
وكان الأمير (إبراهيم) الهمام يود إقامتهم في العسكرية، حتى يستوفوا فوائدها، ثم يسيحوا في الديار الأوروبية، ليشاهدوا الأعمال، ويطبقوا العلم على العمل، مع كشف حقائق أحوال تلك البلاد، وأوضاعها، وعاداتها.
ولكنه توفي، وتولى (عباس) في سنة 1866، فأمر بعودة الرسالة إلى مصر، وكان على علي دين لبعض الإفرنج نحو الستمائة فرنك، وكانت الأوامر المقررة أن لا يسافر أحد إلا بعد وفاء دينه، وأن من يأتي إلى مصر مدينا يوضع في الليمان.
فوقع في أمر خطير، وبقي متحيرا، وطلب من رفقته أن يسلفوه، فقالوا: «ما عندنا ما نسلفك إياه»، وعلي يعلم تيسر بعضهم واقتدارهم، فقعد في محل إقامته يفكر فيما يصنع، وإذا بصاحب له من الإفرنج دخل عليه يدعوه للأكل عنده، حيث إنه مسافر، فوجد حاله غير ما يعهد، فسأله، فأخبره، فقال: «لا تحزن، قل يا سيدي يا بدوي، يا من تجيب الأسير، خلصني مما أنا فيه.» فقال له: «ليس الوقت وقت هزل!» فقال: «هذا أمر هين لا يهمك.» ثم ذهب، فغاب قليلا، ورجع إليه بكيس رماه أمامه، فإذا فيه قدر الدين مرتين، وقال له: «بعد استقرارك بمصر، وتيسر أمرك ترسل إلي وفاءه.» ولم يأخذ منه سندا بوصول المبلغ، وقال: «أنا أكتفي بالقول منك.» وقد كان، فإن عليا أرسل إليه المال على يد قنصل فرنسا بعد مدة.
ولما جاء إلى مصر، مكث هو ورفاقه جملة أيام لا يدرون ما يفعل بهم، ثم عين صاحب الترجمة خوجة بمدرسة طرة، ولم يكن عنده في فرقته، بعد فرز تلامذة المدارس، وتشكيل مدرسة المفروزة، سوى تلميذ واحد متقدم في السن، ومع ذلك اشتغل بما نيط به بإخلاص.
وفي تلك المدة تأهل بكريمة معلمه في الرسم بمدرسة أبي زعبل - وكان أبوها قد مات، وصارت إلى حالة فقر، فتزوج بها لما كان لوالدها عليه من حق التربية والمعروف.
ثم اصطحبه سليمان باشا في مأمورية استكشاف البحيرة والسواحل، فلما كانوا بدمياط انفصل علي عنه في جهة من المأمورية، وبعد أن أداها، ذهب إلى برنبال - وكان أهله قد عادوا إليها - فوجد أن أباه سافر إلى مصر لزيارته، ولم يجد في المنزل إلا والدته وبعض إخوته.
وكان دخوله عليهم ليلا، فطرق الباب، فقيل: «من أنت؟» فقال: «ابنكم علي مبارك!» وكانت مدة مفارقته لأمه 14 سنة، لم تره فيها، ولا سمعت صوته، فقامت مدهوشة إلى ما وراء الباب، وجعلت تنظر وتحد النظر - وكان ابنها بقيافة العسكرية الفرنساوية لابسا سيفا وكسوة تشريف - وكررت السؤال حتى علمت صدقه، ففتحت الباب وعانقته، ووقعت مغشيا عليها، ثم أفاقت، وجعلت تبكي وتضحك وتزغرد، وجاء أهل البيت والأقارب والجيران، وامتلأ المنزل ناسا، وبقوا كذلك إلى الصباح، فأقام عندهم يومين، ثم عاد إلى دمياط، وأورد نتيجة استكشافه على سليمان باشا، فوقعت عنده موقع الاستحسان، وأخبره أنه استحصل على أمر من (عباس) بإلحاقه بمعية جاليس بك.
فقبل علي يده، وسافر إلى الإسكندرية من مصر بعياله وأخ وأخت له صغيرين أخذهما معه ليربيهما، فلما وصل تركهم في المركب، وذهب إلى جاليس بك، وبينما فنجان القهوة بيده إذا بمكتوب وارد بالإشارة من (عباس) يطلبه حالا في وابور متهيئ للقيام، فداخله ما لا مزيد عليه من الخوف، لما كان يعلم مما كان يقع لمن يلوذ بالعائلة الخديوية من الإيذاء، وكان له اجتماعات بالأمير (إسماعيل) وغيره منهم، فهون عليه سليمان باشا - وكان قد سبقه إلى الإسكندرية - وسكن قلبه على عياله بأن وعده بإرسالهم إلى مصر، فسافر بدون أن يراهم، وهو بين راغب وراهب.
ولما مثل بين يدي (عباس) قال له: «إن أحمد رأفت باشا - أخا (إسماعيل)، ورفيق صاحب الترجمة في التلمذة - قد أثنى عليك، فقد جعلتك في معيتي، وقد أمرت بامتحان مهندسي الأرياف ومعلمي المدارس، لأن الكثير منهم ليسوا على شيء، وجعلتك من أرباب الامتحان، فلا تتكلم إلا بالصدق، ولو على نفسك، فلئن كذبت في شيء سلبت نعمتك، وأعدتك فلاحا!»
ثم حلفه هو وغيره على ذلك، فحلف، فأنعم عليه برتبة صاغقولاغاسي، وأعطاه نيشان الرتبة، وكان عبارة عن نصف هلال من الفضة، ونجمة من الذهب فيها ثلاثة أحجار من الماس، فاشتغل بما نيط به على وجه أتم، ثم عهدت إليه أعمال أخرى، أهمها هندسية مائية، فقام بها خير قيام، فألحق بموچيل بك - وكان مشتغلا في تتميم القناطر الخيرية - فساعده خير مساعدة.
ثم أحال (عباس) عليه النظر في ترتيب للمدارس الملكية، والرصدخانة، وضعه لمبير بك، ولم يستحسنه هو، فعمل صاحب الترجمة لجميع المدارس ترتيبا جعل أساسه احتياجات القطر لا غير، فأعجب (عباس) به، وبعد أن أقره مجلس معقود من جميع رؤساء الدواوين، أحال نظارة المدارس على بطلنا، وأعطاه رتبة أميرالاي ونيشانها مكافأة له، وصارت له عنده منزلة رفيعة.
وكان في مدة نظارته يباشر تأليف كتب المدارس بنفسه مع بعض المعلمين، وجعل بها مطبعة حروف ومطبعة حجر، مع التفاته إلى مأكل التلامذة ومشربهم وملبسهم وتعليمهم وغير ذلك بنفسه، فامتنعت عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، ولم يكتف بذلك، بل رتب على نفسه دروسا كان يلقيها على التلامذة، كالطبيعة والعمارة، وألف في العمارة كتابا بقي متبعا في التعليم مدة.
ولما تولى (سعيد) تعين صاحب الترجمة للسفر مع العساكر لمحاربة الروس في سنة 1270، فخرج جميع التلامذة، كبيرهم وصغيرهم، ووقفوا بساحل النيل أمام السفينة التي نزل فيها للسفر إلى الإسكندرية، وجعلوا يبكون وينتحبون حتى أبكوه.
ثم سافر بمعية أحمد المناكلي باشا، ولبث غائبا سنتين ونصفا، قاسى فيهما مشاق الأسفار، وما يلحق المجاهدين من الإرجاف والاضطرابات، والحرمان من المألوفات، ورأى بلادا وعوائد كان يجهلها، واكتسب فيهما معرفة اللغة التركية - لأنه أقام بالأستانة العلية أربعة أشهر اشتغل فيها بتعلم تلك اللغة - وأقام عشرة شهور في بلاد القريم، وثمانية أشهر في مدينة كموشخانة ببلاد الأناضول - وهي مدينة عامرة على رأس جبل، مشهورة بمعدن الفضة الذي فيها - وكان منوطا به تسهيل سوق العساكر في مدينة ترابزون إلى مدينة أرضروم، فقاسى شدائد مهمة، وأهوالا مدلهمة، بسبب البرد والثلج الكثير ووعورة المسالك، ولكنه قام بمهمته خير قيام، وشهد له بذلك قاضي البلد وأمراؤها وأعيانها.
وكان قد تزوج قبل سفره هذا، وبعد موت زوجته الأولى، بقريبة لأحمد طوبسقال باشا، وكانت ذات مال وعقار، ويتيمة غرة، لا تحسن التصرف، ولا تميز الدرهم من الدينار، وكانت أمها تزوجت برجل يعرف براغب أفندي، وماتت عنده، فتزوج بامرأة أخرى تسيطرت على البنت كل التسيطر.
فلما دخل بها علي مبارك بك، خافت المرأة أن يطمع في أموالها، فأساءت معاملته، وتوسطت بچلبي الجلشني أفندي إلى والدة (عباس)، فرمى فيه عند حسن المناسترلي باشا، وأغرى به أغوات السراي، وأتعبه تعبا عائليا وماليا لا مزيد عليه، لم يفرغ منه إلا بتركه تلك الزوجة، والجواري التابعات لها، مع أنه إنما اشتراهن بماله.
فلما عاد من ذلك السفر الطويل رفت من وظيفته، وسكن في بيت حقير بالأجرة مع أخ له كان تركه في المدارس عند السفر مع ابن أخ آخر ليتربيا فيها، فطردا منها بعد سفره، ولم يعطف عليهما أحد ممن كان يساعدهم في مدة نظارته، ولم يشفق عليهما إلا سليمان باشا الفرنساوي، فإنه أدخلهما في مكتب كان أنشأه بمصر العتيقة.
فكانت حالة صاحب الترجمة بعد سبع سنين مضت من عوده من بلاد أوروبا، كحاله عند عوده منها، وذهب ما رآه من الأموال والمناصب والوظائف، وجميع ما كسبت يداه، كأنه حلم.
فرغب عن خدمة الحكومة، وعزم على الرجوع إلى بلده، والإقامة بالريف، والاشتغال بالزرع، والتعيش من جانبه.
وبينما هو يتجهز للسفر إلى البلد صدر الأمر بأن جميع الضباط المرفوتين يحضرون بالقلعة للفرز، فحضروا، وكان المنوط بالفرز أدهم باشا، وكان يعرف عليا، فأدخله ضمن المختارين للخدمة، فتعطل عن السفر، وبعد قليل تعين معاونا بديوان الجهادية، وأحيل عليه النظر في القضايا المتأخرة، المتعلقة بالورش والجبخانات وغيرها، ثم ألحق بمستودعي الداخلية، وكان يحال عليه بعض القضايا، ثم دعي إلى وكالة مجلس التجار، فأقام فيه شهرين، وكان سلفه فيه أرمنيا، فأغضبه تعيين علي في هذه الوظيفة، ورمى في علي عند (سعيد) بما رمى، حتى جعل (سعيدا) يغضب على علي، ويبعده عن تلك الوظيفة.
فأقام في بيته نحو ثلاثة أشهر، ثم تعين مفتش هندسة نصف الوجه القبلي، فأقام فيه نحو شهرين، دعاه بعدهما (سعيد باشا) لعمل رسم لاستحكامات أبي حماد.
ولما تمم الرسم، ذهب إليه ليعرضه عليه، فلم يتمكن من مقابلته، لا في طرا ولا في قصر النيل، ولا بعد أن عاد من الإسكندرية، بالرغم من أنه لزم معيته، مدة ثلاثة أشهر وهو بلا ماهية ولا شغل، مع كثرة التنقلات من بلد إلى آخر، حتى كان ذات يوم في الجيزة، فوقع نظر الأمير عليه، فناداه وكلمه، وسأله عما صنع في الرسم، فقدمه له، فنظر فيه قليلا، ثم قال: «أبقه حتى نجد وقتا لإمعان النظر فيه.» ثم لم يلتفت إليه بعد ذلك.
ولكنه ربط لعلي ماهية، وأبقاه في معيته زمنا بلا شغل، إلى أن كانت المعية يوما بمريوط، فطلب علي إلى أدهم باشا تعيينه معلما للضباط وصف الضباط الذين كان قد صدر له الأمر بترتيب معلمين لتعليمهم القراءة والكتابة والحساب، فعينه، فكان يكتب لهم حروف الهجاء بيده، ولعدم ثبات تلامذته في مكان واحد، كان يذهب إليهم في خيامهم، وتارة يكون التعليم بتخطيط الحروف على الأرض، وتارة بالفحم على بلاط المحلات، واستعمل لهم في تعليم مهمات القواعد الهندسية اللازمة للعساكر الحبل والعصا، لا غير.
وكان في أوقات الفراغ يشغل الزمن بالمطالعة، ويكتب تعليقات يستحسنها في ورقات جمعها بعد ذلك، فصارت كتابا مفيدا في فنون شتى مما يحتاج إليه المهندسون.
ثم لما رام (سعيد باشا) التوجه إلى بلاد أوروبا، أمر برفت غالب من كان في معيته، فكان علي من جملة المرفوتين.
وكان قبل ذلك تزوج، واشترى بيتا بدرب الجماميز، وشرع في بنائه وتعميره، فكثر عليه المصرف ولحقه الدين، حتى ضاق ذرعه وتشوش طبعه.
وكان يومئذ قد صدر الأمر ببيع بعض أشياء من ممتلكات الحكومة زائدة عن الحاجة من عقارات وغيرها، وكان المأمور بذلك إسماعيل باشا الفريق، فاستصحب عليا معه إلى محلات البيع.
فلما حضر المزادات، ورأى الأشياء تباع بأبخس الأثمان على نفاستها، وغلو ثمنها الأصلي، وإنها - علاوة على ذلك - لا تباع بالنقد الحال، بل تؤجل الأثمان بالآجال البعيدة، وبعضها بأوراق الماهيات، ونحو ذلك من أنواع التسهيل على المشتري، مالت نفسه للشراء والدخول في التجارة، ففعل.
وعامل التجار، وعرفهم وعرفوه، وكثر منه الشراء والبيع، فربح واستعان بذلك على المصرف وأداء بعض الحقوق، فازدادت عنده دواعي التجارة، وصارت هذه مطمح نظره، وقصر عليها فكرته، خصوصا بسبب ما تقرر عنده من اضطراب الأحوال وتقلبات الأمور التي كادت أن تذهب منه ثمرات المعارف والأسفار.
فقام بخاطره أن يعقد شركة مع بعض المهندسين المتقاعدين مثله، على أن يبنوا بيوتا للبيع والتجارة، فلم يوافقه أحد.
فلما هم بذلك طرق (سعيدا) طارق المنون، وخلفه (إسماعيل)، فتذكر عليا رفيقه في التلمذة، وبعد العودة إلى الديار، فألحقه بمعيته زمنا، ثم عينه لنظارة القناطر الخيرية التي كانت موضع اهتمامه الفائق، فأصلح ما كان قد اختل من أمورها.
ولما حفر رياح المنوفية أحيل عليه عمل قناطره ومبانيه، فأجراها على ما هي عليه الآن.
وفي سنة 1282 اختاره (إسماعيل) للنيابة عن الحكومة المصرية في المجلس الذي تشكل لتقدير الأراضي التي كانت حق شركة ترعة السويس، على مقتضى القرار المحكوم به من قبل الإمبراطور نابوليون، فأتم المسألة على أحسن حال، وأحسن إليه بعد إتمامها برتبة المتمايز، وأعطي النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة ، وبعث إليه من قبل الدولة الفرنساوية بنيشان (أوفيسييه دي لالچيون دونور).
وفي شهر جمادى الآخرة من سنة 1284 أحيلت إليه وكالة ديوان المدارس تحت رياسة شريف باشا، مع بقاء نظارة القناطر الخيرية، وبعد قليل انتدبه (إسماعيل) للسفر إلى باريس في مسألة تخص المالية، فكانت مدة غيابه ذهابا وإيابا وإقامة خمسة وأربعين يوما، استفاد فيها فوائد علمية جمة. وبعد قليل من عودته أحسن إليه في سنة 1285 برتبة ميرميران، وأحيلت إلى عهدته إدارة السكك الحديدية المصرية، وإدارة ديوان المدارس، وإدارة ديوان الأشغال العمومية، وفي شهر شوال من تلك السنة انضم إلى ذلك نظارة عموم الأوقاف مع بقائه على نظارة القناطر الخيرية، والتحاقه برجال المعية.
فشمر عن ساعد جده في مباشرة تلك المصالح، ولسبب اتساع ديوان السكة الحديدية، وكثرة أشغاله، كان يذهب إليه من بعد الظهر إلى الغروب، للنظر فيما يتعلق به، وجعل من الصبح إلى الظهر لباقي المصالح.
وكان قد تحصل على الإذن بنقل المدارس من العباسية إلى القاهرة، إلى سراي الأمير مصطفى فاضل بدرب الجماميز، رفقا بالتلامذة وأهلهم، لما كان يلحقهم في الذهاب إلى العباسية من المشاق والمصرف الزائد، فأجرى في السراي تصليحات لازمة للمصالح، وجعل السلاملك للديوان، ووضع كل مدرسة في جهة، وجعل بها أيضا ديوان الأوقاف وديوان الأشغال، فسهل عليه القيام بها.
وكانت كثرة أشغاله لا تشغله عن الالتفات إلى ما يتعلق بأحوال التلامذة والمعلمين، فكان كل يوم يدخل عليهم بكرة وعشيا، عند غدوه من البيت ورواحه، وأعمل فكره فيما يحصل به نشر المعارف وحسن التربية، فحرر اللائحة التي ذكرناها في حينه، وأنشأ المدارس المركزية والمدارس الابتدائية المثلى، المتقدم بيانها، وأجرى الإصلاحات اللازمة في المكاتب القديمة، فغير بعض مبانيها وأوضاعها الأصلية، ورتب لها النظار والمعلمين وأدوات التعليم ونحو ذلك، وجعل المصاريف اللازمة للمدارس والمكاتب جارية على وجه يستوجب انتظامها، مع خفة المصرف على الديوان.
ثم لأجل تسهيل التعليم على المعلمين والمتعلمين، وصون ما تعلموه من الذهاب، جعل بالمدارس مطبعة حروف ومطبعة حجر لطبع كل ما يلزم من الكتب، وأمشق الخط والرسم وغير ذلك.
واعتنى بأمر تخريج المعلمين الأكفاء، فأنشأ مدرسة دار العلوم، ورتب كيفية تدريب نجباء التلامذة الذين أتموا دروس المدارس العالية على التعليم، وأنشأ دار الكتب الجامعة، ومحلا للآلات الطبيعية، وغيرها من آلات العلوم الرياضية اللازمة للمدارس، فتمكن التلامذة بمعاينتها والتمرن عليها من اجتلاء المعقول في صورة المحسوس.
والتفت لجميع الأوقاف من التكايا والمساجد وغيرها - لا سيما ما كان منها بالأقاليم - بالإصلاح والتجديد، فحفظها وصانها، وأبطل عادة التعمير على طرف الديوان، وجعله يعطى بالمقاولة للمقاولين، بعد النظر فيه من مأموري الأثمان، وباشمهندس الديوان، وعمل الرسم اللازم، وتقدير النفقة الواجبة، ثم قسم أراضي الوقف الواسعة الخربة، كالتي كانت في جهة السيدة زينب وخلافها، على الراغبين يبنون فيها منازل وحوانيت بحكر سنوي يقرر عليهم، ويدفعون مقدار عشر سنين مقدما بصفة تبرع، فكان ذلك سببا لعمارة أحياء كثيرة تجلب ريعا للوقف، استعين به على التنظيم الجاري في المدن لتوسعة الشوارع والحارات وتقويمها.
ومما يجدر الالتفات إليه أن عموم التحسينات والعمارات والإنشاءات العمرانية التي أجريت في القطر في عهد (إسماعيل) إنما أجريت وعلي مبارك باشا ناظر على ديوان الأشغال العمومية، فكان - والحالة هذه - مشغولا بالمصالح الأميرية، وتنفيذ الأغراض الخديوية ليلا ونهارا، حتى لم ير وقتا يلتفت فيه لأحواله الخاصة به، ولا يدخل بيته إلا ليلا، بل وكان يفكر في الليل فيما يفعل بالنهار، لا سيما بعد أن تمت أعمال ترعة السويس، وصمم الخديو على عمل مهرجان يدعو إليه ملوك أوروبا وسلاطينها.
فكان مع النظر في أحوال الدواوين المسلمة إدارتها إلى عهدته، مشغول الفكر، دائم السفر في مصالح أولئك المدعوين، إلى أن انقضى جميع ذلك على أحسن حال، فانهالت عليه النياشين والأوسمة تترى من كل دولة على السواء.
وقد بقيت تلك المصالح تحت يده إلى رمضان سنة 1288، ثم انفصل عن ديوان السكة، ثم عن المدارس والأشغال بعد أيام قلائل، ثم عن الأوقاف بعد مضي قليل من شوال من تلك السنة، بدسيسة من إسماعيل صديق باشا، لخلاف وقع بينهما على إدارة السكة الحديد.
ولكنه لم يقم في بيته إلا نحو شهرين، ثم جعل ناظرا على ديوان المكاتب الأهلية، وأمر بتنظيمه. وفي سنة 1289 أحيل عليه نظر الأوقاف ثانيا، وبعد قليل أحيل عليه نظر ديوان الأشغال، ولم يمض إلا يسير حتى تحولت نظارة هذه الدواوين إلى الأمير حسين كامل، فبقي علي باشا بمعيته بصفة مستشار، وفي سنة 1290 انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت رياسة الأمير المذكور، وجعل علي باشا وكيله. وفي شعبان من السنة عينها جعل عضوا في المجلس المخصوص، ولكنه انفصل عنه بعد قليل بسبب وشايات صديق وأضرابه.
فأقام في بيته، وماهيته جارية، إلى أن جعل في سنة 1291 رئيس أشغال الهندسة بديوان الأشغال، بعد أن ألحق هذا الديوان بديوان الجهادية تحت نظارة الأمير حسين كامل. وفي سنة 1292 جعل مستشارا للأمير توفيق في ديوان الأشغال عينه بعد إلحاقه بوزارة الداخلية، فمستشارا في الديوان عينه، مستقلا، للأمير إبراهيم بن أحمد.
ولما تألفت الوزارة النوبارية الأولى عين فيها علي باشا على ديواني الأوقاف والمعارف، فصرف وسعه في توسيع دائرة التعليم: فشرع في بناء مدارس جديدة، كمدرستي طنطا والمنصورة، وفي تكثير عدد المكاتب، وترتيب المدرسين، وما يلزم للتعليم من أدوات وكتب.
واعتنى كذلك بأمر الأوقاف اعتناء حكيما، وبقي في المنصب إلى أن سقطت الوزارة النوبارية.
فلما شكل رياض باشا وزارته الأولى جعل ديوان الأشغال العمومية ديوانا مستقلا، وعهد به إلى علي مبارك باشا، فقسم أعماله ثلاثة أقسام: التحريرات والمحاسبة، وعمل التصميمات لما يلزم تجديده من الأعمال، ويتبعه فرقة مهندسين لعمل الرسومات، والموازين وأعمال القاهرة ومدن القطر، وذلك غير الملحقات مثل: قلم الزراعة، وقلم المصلح، ومصلحة الانجرارية، وقلم القضاء.
وقسم مصلحة الهندسة خمسة أقسام، لكل قسم مفتش، وجعل جميع أعمال الهندسة تحت إدارة وكيل الديوان، وقسم الأعمال على عدة سنين، وأجراها بهمة فائقة، وشرع في بناء سلخانة القاهرة، واسبتالية القصر العيني، ومدرسة الطب، واتفق مع شركة مياه القاهرة على توصيل المياه إلى حلوان، ونظمت الحمامات التي بها ، وجعل لها طبيب ومأمور، وزيد في القاهرة عدد فوانيس الغاز ... إلخ إلخ، مما لا داعي لذكره هنا، لأنه عمل في غير عهد (إسماعيل).
وبقي علي مبارك باشا ناظرا على الأوقاف في وزارة شريف باشا سنة 1883، ولكنه تخلى عن المنصب في وزارة نوبار الثانية، وعاد فعين ناظرا للمعارف في وزارة رياض باشا الثانية في يولية سنة 1888، ففتحت في مدته المدارس الأهلية الحاضرة في المدن والأقاليم ... إلخ.
وفي سنة 1311/سنة 1893 - وكان قد تخلى عن منصبه بعد سقوط الوزارة - سافر إلى بلده لتفقد حال زراعته وإصلاحها، وكانت قد بارت لانشغاله عنها في المصالح العامة، فأدركه هناك مرض في المثانة كان سببا في عودته إلى مصر، فعولج فلم ينجع الدواء.
وأدركه الأجل بمصر في منزله بالحلمية في 14 نوفمبر سنة 1893، فأمرت الحكومة بالاحتفال بجنازته أعظم احتفال، وأقفلت عموم المدارس حدادا على أبيها، ثم جمع خريجو دار العلوم فيما بينهم ورسموا له صورة بالزيت على القماش، وصنعوها في مدرستهم باحتفال عظيم، وفتحت لجنة في العاصمة اكتتابا عموميا لإقامة أثر تاريخي له، وقد أطلقت وزارة الأشغال اسمه على أحد الشوارع الفسيحة في القاهرة بجهة الحلمية الجديدة.
أما صفاته وأخلاقه، فقد تبينتها أيها القارئ اللبيب من خلال سطور ترجمته.
وأما رياض باشا
9 - وقد قال المقتطف عنه إنه ابن ناظر الضربخانة المصرية، وذهب آخرون إلى أنه يهودي أزميري من أسرة معروفة يقال لها أسرة الوزان - فقد ولد في سنة 1250 هجرية، ودخل في خدمة الحكومة المصرية بوظيفة مبيض في مجلس العموم بديوان المالية في 11 صفر سنة 1264، بماهية قدرها 145 قرشا صحيحا، ولاحت عليه مخائل النجابة وملامح الاستعداد، فارتفعت ماهيته بعد ستة شهور إلى 193 قرشا صحيحا و13 بارة، وكانت هذه الزيادة في نظير تكليفه بعمل آخر وهو قيد الخلاصات.
ثم ألغي ذلك المجلس في 10 ربيع الأول سنة 1265، ولكن رياض توصل بعد شهرين ونصف للدخول في المعية السنية للتبييض والقيد بماهيته عينها. وفي سنة 1266 انتظم في سلك عساكر الموسيقى برتبة ملازم، فقام بهذه الخدمة الجديدة خير قيام، جعله أهلا لنيل رتبة اليوزباشي بعد شهرين اثنين، ثم ارتقى إلى رتبة الصاغقولاغاسي، ثم إلى رتبة البكباشي في بحر سنتين، كل ذلك في خدمة الموسيقى العسكرية.
فلما كانت سنة 1268 انتظم في سلك رجال المعية السنية برتبة القائمقام بصفة ياور بمعية (عباس الأول)، وهنالك ارتقى في 5 صفر سنة 1269 إلى رتبة الميرالاي، ووظيفة مهردار لوالي مصر المشار إليه.
ثم وجد (عباس) فيه من دلائل الحزم ما يخوله إدارة الأهالي، فأسند إليه مديرية الجيزة وأطفيح، وليس له من العمر إلا عشرون سنة قمرية، وقد حمل هذا بعض حساده وأعدائه على نسبة تقدمه السريع، وحظوته في عيني (عباس)، إلى تدنيه لأمور يلحق العار بمرتكبيها.
وبعد سنتين انتقل مأمورا لإدارة الفيوم ومديرية بني سويف، ثم مديرا لقنا بماهية قدرها خمسون جنيها في الشهر، وعاد بعد ذلك إلى العاصمة، حيث أسندت إليه وكالة المرور والسكة بمصلحة السكة الحديد، ثم تحرك منها سنة 1274 بصفة مأمور لإدارة نصف أول روضة البحرين - وهي اليوم عبارة عن مديريتي المنوفية والغربية - والنصف الأول المذكور كان في اصطلاح ذلك الوقت عبارة عما نسميه الآن بمديرية المنوفية.
ثم جعل وكيلا لهذه المديرية، وبلغت ماهيته خمسة وسبعين جنيها، فبقي في هذه الوظيفة لغاية 4 جمادى الثانية سنة 1277، وحينئذ قلب له الدهر ظهر المجن، فقد صدرت في ذلك اليوم إرادة سنية فصلته عن الخدمة، ورمته بالإهمال.
ولكن مدة الغضب لم تطل عليه، فقد حظي بالرضى ثانية بعد أشهر قليلة، وعينه (سعيد) «لخدمة الكتابة» في معيته، بإذن تاريخه أول ذي القعدة سنة 1377، وفي سنة 1279 أنعم عليه برتبة الميرميران، وجعل ماهيته مائة جنيه مصري في الشهر، وكان لا يزال دون الثلاثين.
فلما كانت سنة 1281 صدر الأمر العالي بتعيينه عضوا في مجلس الأحكام - وكان يماثل ما نسميه الآن بمحكمة النقض والإبرام - ثم أحيلت إلى عهدته نظارة «أمور خاصة خديوي»، وانتقل إلى وظيفة مهردار، حتى كان 11 شوال سنة 1284، فغضب عليه (إسماعيل)، وأصدر للمالية إرادة سنية مختصرة باللغة التركية، هذه ترجمتها: «بحسب الإيجاب قد صار رفت رياض مهردارنا سابقا من معيتنا، فلأجل إيجاب إجراء ذلك بالمالية لزم الإشعار .»
غير أن (إسماعيل) نفسه ما لبث إلا وأعاد نعمته إليه، وأسند له في معيته وظيفة كانت تسمى «خزينة دار» سنة 1286، ولكن ماهيته نزلت إلى ستين جنيها.
وفي سنة 1287 نال رتبة «الروم إيلي بكلربكي» وزادت ماهيته إلى خمسة وسبعين جنيها - وهو مرتب الرتبة المذكورة - وأرسله (إسماعيل) في مهمة سياسية تتعلق بالإصلاح القضائي إلى مقر السلطنة العثمانية في الأستانة، فلما عاد منها صدر الأمر العالي بتعيينه مستشارا لرياسة المجلس المخصوص - وهو الذي خلفه مجلس النظار في النظام الحديث للحكومة المصرية - وصار مرتبه مائة وخمسة وعشرين جنيها، ومن هذه الوظيفة ارتقى إلى وظيفة مدير المدارس والأوقاف سنة 1290، وانضمت إليه وظيفة مستشار الداخلية، ورياسة المجلس الحسبي أيضا في السنة التالية، ثم صار ناظرا للخارجية، فالزراعة، فالحقانية (وأضيفت من ذلك العهد على ماهيته مصاريف الضيافات والجمعيات، وقدرها مائة وخمسة وعشرون جنيها في الشهر، فبلغ مجموع ما يتناوله مائتين وخمسين جنيها في الشهر)، فالمدارس، فالتجارة، والزراعة، وكانت هذه الدواوين تابعة للمعية مباشرة: فإن إدارة الحكومة في مصر كانت في ذلك العهد منوطة بالخديو رأسا، وإنما يعاونه جماعة من أرباب المناصب العالية يضعهم هو على رءوس الدواوين، ومرجع كل واحد منهم إليه مباشرة، وبصفة فردية، أي بغير اجتماع وبلا تضامن، وعند حلول الخطوب كان الخديو يستشير هيئة تتألف من أولئك الرؤساء، ورؤساء بعض المصالح الكبيرة، ومن بعض أعضاء آخرين، يكونون بمثابة وزراء بلا مساند، وتدعى تلك الهيئة «المجلس الخصوصي».
وقد كان أعضاء هذا المجلس في سنة 1876 الرجال الآتية أسماؤهم:
إسماعيل صديق ناظر المالية؛ مصطفى رياض ناظر الحقانية والخارجية؛ إسماعيل أيوب ناظر التجارة والزراعة؛ محمد ثابت رئيس مجلس الأحكام؛ عبد الله عزت رئيس شورى النواب وسردار عسكرية؛ أحمد رشيد رئيس مجلس حسبي مصر؛ عمر لطفي محافظ مصر؛ حسن راسم محافظ الإسكندرية؛ محمد توفيق (ولي العهد) ناظر الداخلية؛ حسين كامل (السلطان) ناظر الجهادية والبحرية؛ علي إبراهيم ناظر الأشغال؛ منصور يحيى يكن ناظر المعارف والأوقاف؛ علي مبارك مستشار الأشغال؛ وچاهين كنج، وعبد اللطيف، وجعفر صادق، والسيد أبو بكر راتب أعضاء بلا مسند.
ولما تألفت الوزارة النوبارية المسئولة سنة 1878، عهد بوزارة الداخلية إليه، ثم أراد (إسماعيل) في أوائل سنة 1879 أن ينقله إلى الخارجية، ولكن الحكومتين الفرنساوية والإنجليزية قاومتاه، وأبى رياض عينه موافقته على النقل، وكان قد اشتهر بثبات عزمه وبشجاعته الأدبية في منصب نائب رئيس لجنة التحقيق المعينة في سنة 1878 لتنظر في أمر المالية المصرية.
ولما سقطت الوزارة النوبارية سافر رياض باشا إلى أوروبا، وأقام فيها حتى تولى الخديو (محمد توفيق)، فاستدعاه وطلب منه تشكيل وزارة جديدة عقب استقالة الوزارة الشريفية (21 سبتمبر سنة 1879)، فكانت تلك أول مرة تقلد فيها رياض رياسة الوزارة، ولبث على دستها إلى أن جرفته الثورة العرابية.
وتقلد وزارة الداخلية في الوزارة الشريفية الثانية، ولكنه لم يقم فيها إلا شهرين، لأنه كان يرى وجوب معاقبة العصاة معاقبة شديدة بلا شفقة ولا رحمة، ولم يطاوع على رأيه.
وبقي معتزلا أشغال الحكومة إلى أن فوض إليه الخديو (توفيق) تأليف الوزارة سنة 1888، فلبى الطلب وتقلد - علاوة على رياسة مجلس النظار - زمام وزارة الداخلية، ولكن تمسكه الشديد برأيه اضطره إلى الاستعفاء بعد مرور سنتين، فاعتزل الأعمال ثانية في مايو سنة 1891.
ثم استدعاه (عباس الثاني) لتأليف وزارة بعد صرف وزارة فخري باشا، فألفها وبقي على رياستها وفي منصة الداخلية إلى أن كانت حادثة الحدود الشهيرة - وهي التي انتقد فيها (عباس) نظام الجيش المصري انتقادا رأى كتشنر باشا السردار إذ ذاك نفسه مضطرا معه إلى الاستعفاء من منصبه، فأبى اللورد كرومر أن يوافقه على رأيه، وألزم الخديو بواسطة رياض بنشر ثناء على الجيش وسرداره في «الوقائع الرسمية»، اعتبر بمثابة اعتذار عن الانتقاد الذي كان بدا منه.
فاستقال رياض، وما فتئ ملازما العزلة السياسية، حتى كانت حفلة وضع الحجر الأول لمدرسة محمد علي الصناعية سنة 1906 بالإسكندرية، فألقى رياض فيها خطبة - بصفته رئيس شرف جمعية العروة الوثقى - امتدح فيها اللورد كرومر في حضرة الخديو (عباس الثاني)، فنفر الخديو منه، وحملت الجرائد المحلية على الوزير الشيخ حملة شعواء.
ولكن منزلة رياض من النفوس لم تنحط، واضطر الخديو نفسه إلى الإشارة على عاقدي المؤتمر الإسلامي المصري سنة 1911 بانتخاب رياض باشا رئيسا له ، فأدار اجتماعاته وجلساته بحكمة وروية، ولكن المتاعب التي سببها له أودت بصحته - وقد كانت ضعيفة - فمات في 18 يونية سنة 1911 وهو في التاسعة والسبعين هلاليا، والسابعة والسبعين شمسيا من عمره.
وقد كان قصير القامة، نحيف الجسم، تدل ملامحه ولهجته في كلامه على أنه من أصل تركي، لا من أصل مصري، ولو أنه تلقى مبادئ العربية والتركية في بيت والده، ثم في مدرسة المفروزة، وكان مظهره مظهر يهودي شرقي، محني الكتفين، ويكاد ابتسامه يكون اضطراريا.
وقد وصف رياض باشا كثيرون من الذين جعلوه موضوع كتاباتهم، لا سيما موبرلي بل في مؤلفه المدعو «خديويون وباشاوات لرجل يعرفهم معرفة جيدة»، ولكنا نرى أن خير وصف للرجل هو ما جاد به قلم اللورد ألفريد ملنر في المقارنة التي أقامها بين نوبار وبينه، في كتابه المعنون «إنجلترا بمصر»، قال:
إني لن أتوسع في المباينات الساطعة البادية على طباع وطبائع هذين الندين الأبديين؛ فإنها ما فتئت منذ عشرين عاما موضوع وصف الكتاب الذين تكلموا عن السياسة المصرية، ولكني لن أسمح أيضا لنفسي بالسكون إلى الاعتقاد بأن لدى القراء من الإلمام بالشئون المصرية الحديثة، وبما يختص بالشخصين الأكبر أهمية في تاريخها المعاصر، ما يكفيهم ليعرفوا أن نوبار أرمني، وأما رياض سواء أكان أم لم يكن من أصل يهودي، فمسلم وأعرق الأتراك في تركية خلقه وتربيته وميوله؛ أن الأول حر الفكر ومتكيفه بمقتضيات العصر، وأما الثاني فمحافظ من أشد المحافظين على التقاليد القديمة؛ أن نوبار رجل ذو تربية غربية عالية، ومتملك ناصية اللغة الفرنساوية تمام التملك، وأما رياض فشرقي محض، وقد تعلم الفرنساوية في سن يتعذر معها عليه إمكان تكلمه بها بسهولة؛ أن بعضهم قد يشك في شجاعة نوبار، وأما شجاعة رياض فلا يشك أحد فيها؛ أن نوبار تتدفق عنه الأفكار العصرية على تنوعها وسموها، وأما رياض فخزين الأفكار عنده محصور، ومن نوع بات مزمنا متأخرا؛ أن نوبار ميال إلى التعميم، ولكنه قد يتعب، ويضل إذا ما نزل إلى دقائق الحكم، وأما رياض فمتفوق في معرفة الدقائق، ويدري على رءوس أصابعه ظواهر الإدارة المصرية وخفاياها؛ أن نوبار نكتي، تارة خفيف الروح، وطورا لماز، وأما رياض فلم ينفتق ذهنه مرة واحدة لنكتة أو لطيفة، ولو أنه لا ينقصه في لغته العربية شيء من الفصاحة الشرقية، المنفوخة الأوداج، التي تأخذ بمجامع قلوب مواطنيه؛ أن نوبار متى جر إلى مضمار العمل الخيري والبر الإنساني لا ينظر إلى النقود ولا يبالي بها، وأما رياض فمقتصد حازم صارم، لا يتأثر مطلقا بأي مؤثر عاطفي أو شعور إنساني، لا لأنه معدوم الشفقة بعامة الناس، ولكن لأن الشفقة لديه تشبه ما كان يشعر به منها خير أصحاب الإقطاعات في الأزمنة الوسطى نحو تابعيهم.
فالتباين بين الاثنين يفوق إذن ما اعتيد منه بين الأشخاص المختلفين، وإنك لتراه باديا في مظهر الرجلين الطبيعي، بدوه في أخلاقهما وروحيهما: فنوبار جميل الطلعة والبزة، حلو الشمائل، عسلي اللسان، وأما رياض فصغير ومخرنبق، غضوب، كسار، وصوته لدى أقل تهيج يميل إلى الصرير، وهو فيما عدا بيته حيث يكون لطفه كاملا، يتطرف في الغلظة إلى حد السماجة، ليس فقط في معاملته لمرءوسيه، بل في معاملته لمساوييه في الرتبة والمكانة، ولو أنه شديد الميل إلى مطالبة الكل باحترام شخصه احتراما لا يرى ذاته، مستعدا لمقابلة الغير بمثله.
ولكن إذا كان هذان الرجلان متباينين تمام المباينة من جهة طباعهما، فإن وجوه الشبه في مجرى حياتيهما كثيرة وغريبة، كل منهما يكره الآخر، ولكن التاريخ العادل يعترف ويذكر بأن كلا منهما في سبيله خدم بلاده خدمات جليلة: فكلاهما احتمل متاعب جمة في أيام (إسماعيل)، بسبب وقوفه موقفا غير متفق مع رغائب ولي النعم، وكلاهما اجتهد - ولو سدى - في إيقاف تيار الاستدانة الذاهب بالبلاد إلى الهاوية. ولئن افتخر نوبار بما شاده للعدالة من قواعد، فإن رياضا يفتخر بما أبداه من شجاعة أدبية في وقوفه في وجه (إسماعيل)، وتعضيده لرجال لجنة التحقيق في النزاع الذي دخلوا فيه، لإنقاذ المالية المصرية، وقد بدا من كليهما بعد الاحتلال الإنجليزي وجوه تشابه تستوقف النظر: فكل منهما صدق على جهود إنجلترا الإصلاحية، واشترك مع الإنجليز إلى حد ما في أعمالهم، ولكن كلا منهما امتعض أيضا لما كانت توجبه الرقابة البريطانية من قيود على الأهواء الاستبدادية، وانتهى إلى رفض مساعدتها، ولقد كان أشهر من نار على علم أن رياضا قبل توزره كان يشكو مر الشكوى من عدم تداخل الإنجليز في الأمور تداخلا كافيا ليكفل تقويم معوجها، وأنه لم يمض على استلامه زمام الحكم مدة مديدة إلا وطفق يتذمر من أنهم يتداخلون أكثر مما يطاق.
هذا فيما يختص بأوجه الشبه، وأما أوجه عدم التشابه فلا بد من الاعتراف بأن رياضا قد لا يلتمس له العذر الذي يلتمس لنوبار على دخوله في عراك مع الرقابة البريطانية، فإن أحوال مصر حينما استلم نوبار دفة الإدارة كانت في فوضى نظام قلما يستطيع الإنسان وصفها، واستمر الإنجليز مدة يزيدونها تعقيدا بكيفية تضجر الرجل وتململه، ولقد اصطدمت إدارته، دوما وفي كل شيء، بإمساك وزارة المالية، واضطر إلى تحمل مسئولية كل ما كان كريها في سياسة كان هو أول الناقمين عليها من صميم فؤاده.
نعم إن الحالة في سنوات وزارته الأخيرة كانت قد تحسنت تحسنا بينا، ولكن التقدم - ولو أنه كان لا بد من الشعور بالإجراءات الصارمة اضطرارا، التي كان من شأنها ضمانة حدوثه واستمراره - لم يكن قد ظهر بعد بكيفية عامة ترتاح إليها النفوس، وأما رياض فإنه استلم أزمة الأحكام في أحسن الأوقات وأطيبها تفاؤلا، لا في زمن أزمة وإحن، بل في ساعة تجدد وإحياء، واستمر الجو صافيا زاهيا طوال مدة إدارته، فكان من سعادة حظه أنه رأى الجيش المصري، المحقر جدا في الماضي، يفوز على الدراويش، وعبء الدين العمومي يخفف، ومصر تحرر تحريرا تاما وإلى الأبد من السخرة والعونة، والضرائب العقارية تخفض إلى أكثر من ثلاثين في المائة في أشد الأقاليم فقرا، وزيادة الإيرادات على المصروفات تنمو سنة فسنة، بالرغم من ذلك التخفيض، ورأى كل هذا ينسب إليه، ويرتفع عبير الثناء حول شخصه عليه.
فلو كان ذا طبع غير طبعه لكان جمع قلوب المصريين على حبه أكثر من كل وزير سواه، ولاستطاع البقاء على دفة الحكم بين تصفيق الجميع، وهو متمتع بحرية عمل تكاد تكون تامة، ولكنه ما أقام على منصة الأحكام سنتين إلا وقد نفرت منه قلوب كل ذي حيثية في القطر. ومع أن إدارته نجحت نجاحا غير منقطع، فإنه أصبح مكروها من الجمهور أكثر مما كره نوبار في حياته، وذلك لأن رياضا كان ذا كفاءة غريبة في إثارة عداء الناس له حالما يتربع في دست الوزارة، وإنه لشيء عجيب في الحقيقة أن يكون هذا الرجل على مثل هذه القلة في جدارته لاستلام زمام الحكم، فهو ما دام بعيدا عن كرسي الإدارة وملازما الحياة الفردية الخاصة يرى عدد مريديه يزداد يوميا في البلد، وذلك لأنه بصفته مسلما تقيا، يجمع على حبه كل ذوي النفوذ الديني في القطر، وبصفته مزارعا وفلاحا عريقا في شئون الفلاحة، وواقفا تمام الوقوف على حياة الشعب واحتياجاته وأفكاره، يعرف كيف يهتم بمصالح مشايخ البلاد، وكيف يكتسب حبهم، ولكنه حالما يتربع في الدست يصبح كالقنفذ، كله شوك، وعصبيا إلى حد عدم استطاعة الصبر على ما في الإدارة من موجب للضجر والملل، فلا يلبث أن يندفع مع تيار تحرك وتقلب كتحرك وتقلب المصاب بحمى، فينجرح شعوره لكل حيف، ويصبح يرى في النصائح، حتى متى قدمت له بغاية التأدب والاحترام، ضروبا من الإهانات والانتقاص.
10
على أننا نرى أن نضع إزاء ما جاء في آخر وصف اللورد ملنر هذا لرياض، ما قاله عنه صاحبا المقتطف بعد أن ذاق الرجل كأس المنون، قالا:
وقد تيسر لنا أن ندرس أخلاقه وصفاته وطباعه عن قرب، وأن نمحص ما يقوله أنصاره في مدح أعماله، وخصومه في ذمها، ونعلم مقدار ما في أقوال الفريقين من الصواب والخطأ.
فلا ريب عندنا أن الفقيد كان رجلا رفيع الآداب، صادق الوطنية، شديد الغيرة على مصر، والرغبة في إبلاغ أهلها أعلى غاية في كل أمر حميد. ولا ريب أنه كان حسن المقاصد، يحب الخير للناس، ويحب خيار الناس، وينفر من شرارهم نفورا ظاهرا لا يخفيه عنهم، وكان لشدة غيرته على قومه يحسب نفسه مسئولا عن كل مصري، فيدافع عنه دفاع الأب عن ابنه، ويوبخه أيضا، ويعنفه بكلام مؤلم إذا رأى منه ما لا يعجبه، فلذلك كان بعض الذين يوبخهم من كبار الموظفين يخطئون الباعث الحقيقي له على ذلك، فيستاءون منه، وربما حقدوا عليه ورموه بالكبر وحب الاستبداد، وباتوا من خصومه والمتكلمين في حقه.
ثم إنه كان إذا رأى السيئة يطلب إزالتها أو إصلاحها بأقرب الطرق التي يدله عليها ذكاؤه الفطري والإدارة التي ألفها واعتادها في زمانه، فإذا وجد أمامه حوائل وعوائق نظامية، عيل صبره عليها، وأراد التخلص منها، بما اتصف به من شدة العزيمة وقوة الإرادة، وهذا ما أوقع الخلاف بينه وبين رجال القانون في الحقانية والمحاكم، وجعل كثيرين من هؤلاء يرمونه بحب الاستبداد بالأمور، وكراهته للنظامات الدستورية، وهذا ما أوقع الخلاف بينه وبين بعض الأوروبيين الموظفين في الحكومة وخارجها، وجعلهم يرون رأي رجال القانون في أفعاله.
11
ولخص اللورد كرومر رأيه في رياض باشا في خطبته الوداعية سنة 1907، حيث قال بعد ذكره نوبار باشا:
وأذكر أيضا اسم رجل آخر من أرباب السياسة، وأنا مسرور بمشاهدته الآن بيننا، ألا إنه صديقي القديم المؤتمن صاحب الدولة رياض باشا. إننا أيها السادة في زمان لا يحتاج فيه الشاب المصري الذي يتظاهر بمظهر المصلحين إلى شجاعة تذكر، ولكن ما هو كائن الآن لم يكن كذلك طول الزمان. كان (لإسماعيل) باشا - رحمه الله - طرق عنيفة في معاملة الذين لا يطأطئون الرءوس أمامه، ولا يعنون لهيبته، ومع ذلك وقف رياض باشا منذ ثلاثين سنة، واعترض بكل جرأة على سوء الإدارة، وأقام الحجة على فساد الأحكام، الذي كان متغلبا على مصر في تلك الأيام، وعلق الجرس بعنق الهر، فأعجبت بشجاعته هذه حينئذ. وكثيرا ما وقع بيني وبين صديقي ورصيفي القديم خلاف بعد ذلك، ولكني لم أكف قط عن النظر إليه بعين المحبة التي تستحقها صفاته العبقرية.
12
قال صاحبا المقتطف: «وحقيق بلورد كرومر أن يقول هذا القول عن رياض باشا، لأن رياض باشا كان يثق به ثقة لا يخامرها ريب. قال اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة» إن شركة إنجليزية تألفت لتشتري سكك الحديد من الحكومة المصرية في وزارة رياض باشا الأولى، ولما عرض الأمر على النظار التفتوا إلى لورد كرومر - وكان مراقبا من قبل إنجلترا - ليروا ما هو رأيه فيه، فقال لهم: «إن الأمر في يدكم أنتم، فإذا كنتم ترفضون البيع، فأنا أوافقكم على الرفض، وإذا كنتم تقبلون به، فأنا أبذل جهدي حتى لا تغبنوا في الثمن.» فقر قرارهم على رفض البيع، وبعد أيام طلب منه أن يفض خلافا بين الحكومة المصرية والخواجات جرنفلد الذين أنشأوا مرفأ الإسكندرية، وكان لا بد من أن يوقع رياض باشا شروط الحل التي وضعها لورد كرومر فأخذها ومضى بها إليه وهو لا يصدق أنه يستطيع أن يوقعها في ذلك اليوم؛ إذ لا بد من النظر فيها. أما رياض باشا، فقال له: «هل أنت موافق على هذه الشروط ومقتنع بعدالتها؟» فقال: «نعم.» فأخذها منه، ووقعها من غير أن يقرأها لشدة ثقته به.»
13
ولما ألف لورد كرومر كتابه «مصر الحديثة» تكلم على رياض باشا بإسهاب، فقال: إن حياته السياسية يمكن أن تقسم إلى أربع مدد مختلفة: (الأولى) كناظر وأحد أعضاء لجنة التحقيق في عهد (إسماعيل باشا)، و(الثانية) كرئيس للنظار في عهد (توفيق باشا) مدة المراقبة الإنجليزية الفرنساوية، و(الثالثة) كرئيس للنظار في عهد (توفيق باشا) أيضا، زمن الاحتلال، و(الرابعة) كرئيس للنظار في عهد (عباس الثاني).
ففي المدة الأولى ظهر بأعظم مظهر للعالم؛ فقد سخط مما حل بوطنه من الخراب الذي جره عليه حكم (إسماعيل باشا)، ووقف نصيرا للإصلاح وقفة من لا يهاب أحدا في سبيل الإصلاح، أيام كان المصري لا يجترئ أن يجاهر برأيه ما لم يعرض حياته للخطر، وماله للضياع. ومهما كان الخطأ الذي يمكن أن يكون رياض باشا قد ارتكبه في تقلبه في الوظائف بعد ذلك، فلا يبرح من الأذهان أنه أظهر حينئذ شجاعة عظيمة حقيقية، ونظرا بعيدا في العواقب.
وفي أوائل المدة الثانية؛ أي مدة المراقبة الثنائية، ظهر أيضا كما ظهر في المدة الأولى، ورأى فائدة الذين كانوا يشتغلون معه من الأوروبيين، لأنهم وقفوا بينه وبين أرباب الديون الذين كانوا كالذئاب الجائعة، وكان يعلم من نفسه أنه غير قادر على تخليص الحالة المالية من التشويش الذي كان فيها من غير مساعدة الأوروبيين، وفي أواخر تلك المدة عرضت مشكلة لم يقو على حلها، ولم يكن قد انتبه إلى أهميتها، وهي الثورة العرابية، فجرفه سيلها الجارف.
وفي المدة الثالثة خلف نوبار باشا رئيسا للنظار، وفي أوائل هذه المدة جرت الأمور مجرى حسنا، وهو يمتاز على نوبار باشا بحسن الإدارة، وبمعرفته الأمور الزراعية وأحوال المزارعين، والموظفون المصريون يهابونه هيبة شديدة، ويسهل على المسلمين الخضوع للمسلم المتمسك بدينه، لكنه كان شديد التمسك برأيه، فعسر عليه أن يدير دفة السياسة في زمن الاحتلال، واضطر إلى الاستعفاء.
ولم يتكلم لورد كرومر عن المدة الرابعة، لأن كتابه لا يتناولها، ثم ود لو يكثر في مصر الوطنيون المتصفون بأسمى المناقب مثل رياض باشا.
14
نقول: ومن يقرأ أقوال لورد كرومر يفتكر حالا في مثلين عربيين، وهما: «إنما يحمد السوق من ربح»، و«كل يغني على ليلاه».
وقد افتتح زكي باشا سكرتير مجلس النظار في ذلك الحين خطبته التأبينية لرياض باشا في الحفلة التي أحياها ولدا الفقيد لمرور أربعين يوما على وفاته، وختمها بالكلام الآتي:
رجل كرياض - والرجال قليل - في بلد كمصر، عهده بالحرية قريب؛ رجل كرياض، يفاخر به النيل - ويحق له الفخر - في هذا العصر الجديد؛ رجل كرياض، نبغ في عهد (إسماعيل)، وامتاز في ذلك الدور بالشكيمة والأثر الحميد؛ رجل كرياض، خدم هذا الجيل إلى أن دخل القبر، وهو قدوة الشبان والشيب؛ رجل مثل رياض، وأرجو أن يكون رياض مثالا لكل رجل، لا يكفينا أن نرى قومه وأهله يقيمون له حفلة تتلوها الأخرى، وتعززها الثالثة، بل ينبغي لهذه الأمة الناهضة أن يتضافر أفرادها على تخليد ذكراه، ليكون موته له ولها حياة.
على أن الأمة لم تنهض، ولا تضافر أفرادها على تخليد ذكراه.
وأما إسماعيل صديق باشا، فإن القارئ سيتعرف به معرفة تامة في الجزء التالي.
الباب الخامس
العقبات التي اعترضت سبل نفاذ الخطة
إجمال
ومما زاد في أهمية تمكن (إسماعيل) من تنفيذ معظم الخطة التي رسمها لنفسه أنه لم يجد السبيل إلى ذلك سهلا، فعلاوة على الصعوبات السابق لنا بيانها، التي قامت تحول دونه ودون بلوغه مراميه - وكان لا بد في طبيعة الأحوال البشرية من قيامها، فكان من الممكن إذن توقعها، واتخاذ العدة مقدما للتغلب عليها - فقد اعترضت سبيله عقبات لم تكن في الحسبان، فاجأه الدهر بها، فبلا مروءته وفضله، واضطره إلى تحويل همته الشماء دهرا، للتغلب عليها وإزالتها، ثم لملافاة أضرارها.
تلك العقبات على نوعين: عقبات طبيعية، وعقبات أوجبتها تبعية مصر للدولة العثمانية.
أما العقبات الطبيعية، فكوارث أناخت بكلكها الثقيل على البلاد، بالتتابع والتوالي؛ وأما التي أوجبتها تبعية مصر للدولة العثمانية، فالحملات العسكرية المرسلة اضطرارا؛ آونة إلى بلاد العرب، وآونة إلى كريت، وأخرى إلى شبه جزيرة البلقان، لتقاتل هناك، لا في مصلحة مصر، ولكن في مصلحة تلك الدولة العثمانية.
وإنا لمبينون ذلك في الفصلين التاليين.
الفصل الأول
الكوارث الطبيعية1
حار بيني يا نائبات الليالي
عن يميني، وتارة عن شمالي (1) حريق الحمزاوي
في إحدى ليالي صيف سنة 1863 شبت نار عنيفة بالحمزاوي - والحمزاوي، كما هو معروف، مجموعة مخازن تشتمل على أهم المستودعات لأنفس البضائع وأثمنها، لا سيما المنسوجات والأبسطة والطنافس بمصر القاهرة - وبالرغم من الهمة والنشاط المبذولين من رجال الحفظ العام، بالرغم من التطوع بإخلاص، المقدم من أهالي الجيزة وسكان الجهات الأخرى الذين هبوا للمساعدة على إطفاء النيران، فإن هذه لم تخمد إلا قبيل الفجر، بعد تعب شديد وجهد جهيد، وذلك لعدم وجود رجال مطافئ متخصصين كما هي الحال الآن، ولأن مياه النيل لم تكن قد جلبت بعد إلى القاهرة، فبلغت الخسائر جملة ملايين من الفرنكات - وكان لمليون الفرنكات في ذلك العهد قيمة تعادل نيفا وعشرة أمثاله الآن.
فمد (إسماعيل) يد المساعدة من صندوقه الخاص إلى أكثر المنكوبين بؤسا، ثم استدعى التجار الذين أضر بهم ذلك الحريق، وأقرضهم عدة ملايين بدون فوائد، وأمهلهم عشر سنوات لردها، فنجى بذلك من الخراب والإفلاس التجار الغربيين أنفسهم الذين كانوا أهم دائني التجار الوطنيين المحروقة بضائعهم، وقلد الكل منة استحق عليها بجدارة الثناء والشكر العامين.
2 (2) وباء الماشية والخيل
وكان قد انتشر في النمسا وإيطاليا في السنة عينها وباء اجتاح المواشي بكيفية مروعة، فانتقلت عدواه إلى مصر بعوامل التبادلات التجارية، وبالرغم من كل الاحتياطات التي أمر (إسماعيل) باتخاذها بكل دقة واعتناء لمقاومة تلك العدوى ومنع تفشيها، انتشر الداء الوبيل، كأنه الطاعون الأسود الفظيع، الذي أهلك الإنسان والحيوان والطير في أيام السلطان حسن، صاحب المسجد الأفخم في القاهرة، وعم جميع البلاد شرقا وغربا، ولم يترك بلدا إلا وحل فيه، ولا قرية إلا ودخلها، واستمر يفتك بمواشي القطر، ويشتد شدة بالغة نيفا وسنة، حتى بلغ عدد ضحاياه عدة مئات من الألوف، وكاد يفنى جميع البقر، فقل اللبن والسمن، ثم انقطعا، وبلغت الحاجة إليهما أقصاها، وأكل الناس الدهن والزيت.
فبذل (إسماعيل) جهده لوضع حد لتلك المصيبة، وتخفيف ويلات نتائجها، فبعث واستحضر من البلاد المجاورة - لا سيما من الأناضول - كميات عظيمة من السمن، وفرقه على الفقراء مجانا، فكانوا وهم في ضجيج وجلبة يصمان الآذان، يتزاحمون على «الوكائل»، ومخازن التوزيع التي خصصت لتفريقه بالأخطاط بالرغم من أنه لم يكن مما ترتاح إليه نفوس معتادي السمن المصري، وأن جانبا منه كان رديء الرائحة، نتنها، ولا يزال كثيرون من الطاعنين في السن يذكرون أمامنا كراهة رائحته باعتبار أنه مستخرج من لبن الماعز، واستمرت الحال هكذا أياما عديدة.
3
واستحضر كذلك من البلاد الأجنبية عددا كثيرا من المواشي، وباعها للفلاحين بأوفق الأثمان لهم. وإذ لم يكف العدد المجلوب لسد العجز المسبب عن الوباء، جلب جانبا كبيرا من الآلات البخارية، لتنوب قواها العاملة عن قوة الثيران وحيوانات الفلاحة الأخرى التي ذهب الوباء بأعمارها، ولو كان هناك سكة حديدية تصل ما بين مصر والسودان لأمكن المجيء بالمواشي من هذا القطر بسهولة، ولما وقعت وطأة ذلك الطاعون البقري على البلاد المصرية بالشدة التي عهدت، وكلفت (إسماعيل) نيفا وثلاثة ملايين من الجنيهات.
4
ثم مضت الأيام وانقضت حملة الحبشة الأخيرة، فتلاها وباء أصاب الخيل وحيوانات النقل كالجمال، والحمير، والبغال، ربما انتقل إليها من الحبشة عينها أو أصابها عن طريق العدوى من زميلاتها التي اشتركت في تلك الحملة المشئومة ولم تمت فيها، ولكنها أصيبت بذلك الداء بسبب المشقات المروعة التي احتملتها، وعادت وهو كامن فيها إلى القطر.
5 (3) الكوليرا
وبينما كان نوبار، بعد أن عهدت إليه وزارة الأشغال العمومية والزراعة المنشأة حديثا في أوائل سنة 1865، يهتم اهتماما فائقا بتصليح السكك الحديدية، وإعادة النظام إلى أعمالها، وفي إتمام جزء ترعة الماء العذب (الإسماعيلية)، الواقع بين مصر والوادي، تسكيتا لإلحاحات المسيو دي لسبس على الحكومة المصرية بعملها طبقا لما حكم به الإمبراطور نابوليون الثالث، وكان (إسماعيل) يمده بكل ما في وسعه، ويعمل في الوقت عينه على إنماء ثروته الخصوصية مذ أصبحت، بمفعول تحديد مرتبه السنوي، منفصلة عن الخزينة المصرية - فيبذل مفتشو مزروعاته، لا سيما إسماعيل صديق، ومحمد عكوش
6
من المجهود وتفتق الذهن، والتفنن في حمل الفلاحين على بيع أطيانهم ما جعل خمس أطيان القطر الجيدة ملكا له، إذا بنبأ وجفت له القلوب طيره البرق إلى أنحاء العالم بأسره، ووقع من مصر - على الأخص - موقع السوء الذي تتطير له الأرواح، ألا وهو نبأ ظهور الكوليرا في مكة المكرمة.
وإنما تطيرت الأرواح لأن الكوليرا - الوباء الفظيع المهلك - كان قد زار مصر في الماضي زيارات متعددة زارها في يوليه سنة 1831، وفي يونية سنة 1848، وفي يوليه سنة 1850 وفي يونية سنة 1855، وترك فيها عقب كل زيارة من الآثار المخيفة والدمار ما كان جديرا بأن يجعل المخيلات ترتعد، والقلوب تخور لذكره.
ففي سنة 1831 - ولم يكن يعرف قبلها، وقد دار فيها المعمور كله، وفتك به فتكا ذريعا، وافترس ضمن ضحاياه كازمير پيرييه، كبير وزراء لويس فيليب، ملك الفرنساويين، ووصف أوچين سي في «اليهودي التائه»، روايته الكبرى، مقدار اتساع بطش ذلك الداء الرهيب وصفا مرعبا - فإن (محمد علي) - وقد أقلقته شدة وطأة الوباء، وأخافته بالأخص على تجهيزاته وتعبيئاته الحربية - أقبل يبحث في طرق لمقاومته وإبادته.
فأشار عليه المسيو ميمو قنصل فرنسا العام، بإنشاء إدارة صحية تنظر في ذلك، وتقوم بشئونه، فكلف (محمد علي) بالمهمة جمهورا من الأطباء الأجانب، فقاموا بها، وكونوا الإدارة المطلوبة في سنة 1831 عينها، ودعوها «الانتندانس سانيتير»، فألحقت بالإدارة المحلية، وجعلت تحت رياستها، وعهد إلى هذه الإدارة تنفيذ قراراتها.
وكان رئيس «الانتندانس» يعرض على الأمير أسماء الأطباء والعمال المطلوب تعيينهم فيها، فتصدر الإدارة السنية بتعيينهم، ويناط بكل منهم عمل يرفع تقاريره عنه إلى رئيسه مباشرة، وهذا يخبر بما يرى من كان أعلى منه، وهكذا بالتدريج الرسمي، حتى تبلغ المكاتبات الرئيس الأسمى.
وأقبل القناصل يعضدون تلك الهيئة الصحية فجعل كل منهم مندوبا لديها، يحضر اجتماعات مجلسها، نائبا عن جنسيته، ويتداول مع أعضاء ذلك المجلس في الإجراءات الواجب اتخاذها، على أن القرارات كانت بأغلبية الأصوات.
وامتازت الحكومة الفرنساوية رغبة منها في المحافظة على سلامة سواحلها التي على البحر الأبيض المتوسط من أن تتطرق إليها الأوبئة، بإيفاد أطباء خصوصيين من لدنها إلى الأسكلة الشرقية، لا سيما بمصر، ليراقبوا فيها الأحوال الصحية، ويخابروا وزير التجارة الفرنساوية رأسا بكل ما يرونه ذا أهمية من الطوارئ، فلم يعد يسوغ لأي مركب، مهما كانت جنسيتها، أن ترد ثغرا فرنساويا إلا إذا كان لديها إذن صحي من الطبيب الفرنساوي المقيم في الثغر الشرقي الذي بارحته.
هؤلاء الأطباء الفرنساويون كانوا بمصر يحضرون جلسات مجلس إدارة «الانتندانس» ومداولاته، ولهم حق التصويت فيها.
فلم يمض على إنشاء تلك الإدارة الصحية عهد قصير حتى ظهرت نتائج جهودها، فأنشئت «العازاريتات» (وهي التي يقال لها بالطليانية «لازارتي» “Lazzaretti” ، فقلبها الأهلون إلى «مازاريطا») في الإسكندرية ودمياط والعريش والسويس، وأكبرها كلها عازاريتة الإسكندرية، فإنها - علاوة على استكمالها جميع ما يلزم للغرض الذي أنشئت من أجله - كانت تسع من ألف ومائتين إلى ألف وخمسمائة شخص، ونيطت إدارة كل منها بطبيب ومساعدين، وأفرد في كل عازاريتة محل للبضائع الواردة من البلاد الموبوءة، لتطهيرها فيه قبل التصريح لها بدخول القطر.
وعينت مدد مختلفة لحجز السفن القادمة من الأقطار المشبوهة في عرض البحر تحت المراقبة، حتى يثبت خلوها من إصابات وعدوى، فجعلت خمس أيام للسفن السليمة، مع عدم إجبارها على تنزيل ركابها وبضائعها في العازاريتة، وأما المراكب غير السليمة فقرر حجزها عشرة أيام، مع إجبارها على تنزيل ركابها وبضائعها، إلا ما كان غير صالح منها للتنزيل، لأجل تطهير الكل.
وعملت الحكومات التي تلت حكومة (محمد علي) على تحسين الأحوال الصحية في القطر فأعدمت بإشارة «الانتندانس» وتنفيذا لقراراتها أهم الأسباب التي كانت الأوبئة تنشأ عنها فأبطلت الجبانات التي كانت داخل القرى والمدن بجانب المساكن، بل داخل المساكن عينها أحيانا، ونقلت إلى مسافات بعيدة عنها، وروقبت أمور الدفن مراقبة دقيقة، منعا لعدم تعميق اللحود والقبور تعميقا كافيا، وعدم قفلها قفلا محكما، ومنع إنشاء المحلات المقلقة والضارة بالصحة بالقرب من المساكن، وردمت البرك التي كانت موجودة بكثرة في المدن والقرى، وسويت بالأرض تلال أقذار كان الإنسان يجدها لدى كل خطوة في القطر، ونقلت بعيدا عن المأهول، وحتم الاعتناء بأمور النظافة اعتناء تاما في المدن والريف، على قدر المستطاع، وروقبت نقاوة المأكولات، وأقيم أطباء مجانيون في الأحياء المختلفة، وأنشئت مستشفيات في المدن الكبرى، وجعل اللقاح الجدري إجباريا، وخصص الأطباء لإجرائه مجانا.
7
على أن هذا جميعه لم يتم إلا بالتدريج، ولم يجر معظمه إلا في عهد (إسماعيل) وبفضل همته، فكان أكثر الوقايات الصحية المألوفة الآن لدينا لا يزال - والحالة هذه - مجهولا في سنة 1865، وكانت الأوبئة، إذا ما تفشت، فتكت بالأعمار فتكا ذريعا، وصعب على القائمين بالشئون الصحية تلافي أمرها واستئصال شأفتها.
غير أن الصحة العمومية في القطر كانت - حتى آخر مايو من تلك السنة سنة 1865 - جيدة جدا، ونسبة الوفيات في 26 مايو عينه كانت
في الألف، وزيادة المواليد على الوفيات
في الألف، وبلغت هذه الزيادة في عشر سنوات 439664.
8
ومن جهة أخرى فإن مقاتلة الطاعون البقري كانت قد أفضت إلى القضاء على ذلك الوباء، لدرجة أنهم أبطلوا في 24 مايو الكشف على المواشي الواردة إلى القطر. فما قيل من أن أهل مصر والإسكندرية كانوا يشربون مياها خضراء تذوب فيها أكوام مواد حيوانية ميتة كذب بحت، وكذب كذلك ما زعمته جريدة إفرنجية بالإسكندرية من أن جثث التماسيح الميتة كانت تغظي شواطئ النيل التي كانت تحرسها في السابق - كأن التماسيح كان أبدا شأنها حراسة ضفاف النيل.
فما طار إذا نبأ ظهور الكوليرا بمكة؛ إلا وأصدر (إسماعيل) أمره، فأرسلت الإدارة الصحية مندوبين إليها للوقوف على حقيقة الحال هناك، وموافاة رجال الحكومة المصرية بالأخبار.
ولكن المرض كان قد تلاشى من المدينة الحرام بمغادرة الحجيج لها، فتعقب المندوبان الحجاج وما افتروا عن ملاحظتهم لحظة، ولكن نقاوة هواء البحر كانت سببا في أنه لم تظهر على ظهور البواخر إصابات مطلقا، فأدى ذلك إلى عدم حجز الحجاج في محجر السويس، والتصريح لهم بالذهاب إلى الإسكندرية، ليسافروا منها إلى بلادهم. فجهزت الإدارة قطارات خاصة سريعة، نقلتهم إلى الإسكندرية بدون أن يختلطوا بالأهالي، وأنزلتهم في محجر المكس تحت المراقبة.
ولكنه حدث - لسوء الحظ - أن بعض الشيالين في مصلحة سكة الحديد، من قاطني حي كوم الشقافة بالإسكندرية، اختلطوا بهم لقضاء حاجاتهم، فما كان يوم 11 يونية سنة 1865 - وهو يوم مشئوم، لأنه في مثله من سنة 1882 وقعت بالإسكندرية عينها المذبحة التي أكسبت الثورة العرابية المدنية صبغة الحركة الدينية التعصبية، فأدت إلى تداخل الدول الغربية، لا سيما إنجلترا في الشئون الإدارية المصرية، تداخلا لم يعد في الإمكان إزالته بالتي هي أحسن، وأفقدت العالم الغربي القليل الذي كان لديه من ثقة في مقدرتنا على التجرد، في إرادة شئون بلادنا، من مؤثرات القرون الدينية علينا تأثيرا يخرجنا عن المضمار الذي تجري المدنية الحديثة شوطها فيه - ما كان يوم 11 يونية سنة 1865 إلا وظهرت الإصابة الوبائية الأولى بناحية كوم الشقافة، وتلتها في الحي عينه أربع إصابات في 12 يونية، واثنتا عشرة إصابة في 13 يونية، وأربع وثلاثون إصابة في 14 يونية، وثمان وثلاثون إصابة في 15 يونية.
فهلعت قلوب الإسكندريين، واستولى عليهم الرعب، فزاد ذلك الطين بلة، وبعد أن كان عدد الإصابات قد انحط في 16 يونية إلى 34، عاد فوثب مرة واحدة، وظهرت ثلاث وخمسون إصابة في 17 يونية، منتشرة في عموم أنحاء المدينة، وبدت على الأخص في بيوتها وشوارعها وأحيائها القذرة.
وكان الدكتور كولوتشي بك رئيس «الانتندانس سانيتير» قد أخطر هذه الإدارة بظهور الوباء منذ يوم 12 يونية، فهبت واتخذت الاحتياطات اللازمة، وعرضت نفاذها على الحكومة المحلية، فقامت به خير قيام، وأخطر كولوتشي بك القناصل بالقرارات المتخذة، وطلب منهم المساعدة، فأبدوها بكل ارتياح ونشاط، فنظفت المدينة بسرعة، ورشت الشوارع بغزارة، بل غسلت عدة مرات في اليوم، وأتلفت كل المأكولات التي اعتبرت غير صحية، وشددت المراقبة على المواد الغذائية عموما، وأنشئت ستة مكاتب إسعاف اشتغل العمال فيها ليلا ونهارا بالمناوبة، وبدون انقطاع، ولم يأل أطباء الحكومة والأطباء الأجانب المتطوعون معهم ورجال «الانتندانس» جهدا في القيام بواجباتهم، حتى استحق جميعهم ثناء الصحافة والعموم عليهم.
غير أنه تعذر في بادئ الأمر إنقاذ المصابين من الموت - لأن الإصابات كانت صاعقية - ولا أمكن حصر الوباء، بالرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت، ولو أن عدد المصابين في البيوت والشوارع والأحياء التي استعملت فيها الوسائل الصحية بحكمة واستمرار كان قليلا بالنسبة لغيرها.
فبعد أن كان الكوليرا لغاية 17 يونية قاصرا على الإسكندرية، لا يفارقها، سرى في ذلك اليوم، فأصيب به في أبي قير بحري، وفي طنطا امرأة، قدما إلى البلدين من الإسكندرية، وظهرت أعراضه في مصر على ستة أشخاص منهم خمسة قادمون من السويس، وواحد من الإسكندرية.
ثم تفشى بسرعة غريبة بمصر السفلى والوسطى، وانتقل أخيرا إلى بعض أنحاء الصعيد، ولوحظ أنه أصاب - على الأخص - البلدان والبيوت الواطئة، فبينما أفقد من قريتين متجاورتين مبنيتين على أرض تستوي مع المحمودية عشر سكانهما، فإنه لم يصب إلا واحدا فقط من أهالي بلدة أبي طاحون الستمائة. وكان أعصب أيامه يوم 3 يولية بالإسكندرية، وبلغت الوفيات فيه 228، ويوم 5 يولية بمصر، وبلغت الوفيات فيه 468، ويوم 29 يونية برشيد، وبلغت الوفيات فيه 279، ويوم 5 يولية بدمياط، وبلغت الوفيات فيه 172، ويوم 7 يولية بالمنصورة، وبلغت الوفيات فيه 35، ويوم 24 يونية بطنطا، وبلغت الوفيات فيه 96، ويوم 27 يونية بالزقازيق، وبلغت الوفيات فيه 105.
وأما متوسط الوفيات يوميا به فقد كان
في الألف بالإسكندرية، و
في الألف بمصر، و
في الألف برشيد، و
في الألف بدمياط، ولكن متوسطها في مدة اشتداده كان من 65 إلى 70 وفاة يوميا. ومدة الزيادة هذه استمرت من 17 إلى 18 يوما في الإسكندرية وغيرها، ثم وقف المرض على الفتك بعدد محدود، أي من 35 إلى 40٪ من المصابين، ما بين عشرة أيام وأحد عشر يوما، وأخذ بعد ذلك يخف وطأة من عشرين إلى خمسة وعشرين يوما، فلم يعد يموت من المصابين سوى من 15 إلى 20 في المائة، وكثيرا ما كان المصاب يشفى من تلقاء نفسه، وذلك في عموم القطر تقريبا.
على أن جهود الإدارة الصحية لم تفتر لحظة عما كانت عليه في أول يوم، بل زادت على ما كانت مع ازدياد المرض، ففرضت على مراكب البريد ذاتها حجرا صحيا مدته خمسة أيام، بما فيها يوم السفر، وأخضعت كل من فيها لزيارة طبية يومية. هذا إذا كانت سليمة، وأما إذا كانت مراكب حدثت عليها إصابات في مدة السفر، فالحجر كان ثمانية أيام عقب يوم الوصول، وإذا حدثت على ظهرها إصابة جديدة في هذه المدة ضربت عليها ثمانية أيام أخرى. كذلك لم يكن يسمح لأي مركب، بخارية كانت أم شراعية، أن تداني المواني والثغور إلا بعد قضاء مدة الحجر المفروضة. وأما البضائع التي كان لا بد من إنزالها وتصريفها في الحال، لئلا تتلف، فكانوا ينزلونها في ماعونات ويطهرونها تطهيرا شاملا، ثم يسمحون لها بالدخول إلى القطر.
ومع ذلك فإن فريقا من الرأي العام وجد أن الإدارة لم تقم بكل واجبها، فحمل عليها في بعض الجرائد حملات منكرة، أدت إلى زيادة الهلع والخوف اللذين كانا قد عما العاصمتين المصريتين، وبعض مدن الريف الكبرى منذ أن انتشر خبر الإصابات الأولى، وأوجبت نزوح الكثيرين من أهل البلاد إلى الخارج، حتى لقد قدر أن عدد الذين هجروا القطر ما بين 12 يونية و15 يولية بلغ نيفا وخمسة وثلاثين ألفا أي أنه قد سافر كل من استطاع إلى السفر سبيلا.
وكان (إسماعيل) قد عزم على السفر إلى أوروبا في ذلك العام قبل أن تظهر أخبار مطلقا عن الوباء، فلما ظهرت، تشدد كل التشدد في إنفاذ الوسائل الصحية وتعميمها، لكيلا يقضي عليه تنفيذ عزمه بترك الحالة الصحية في القطر مضطربة، سائدا عليها الخوف، ولكنه لما وثق من أن أوامره نفذت كلها، وأنه لم يعد على مسئوليته غبار، فوض إلى شريف باشا قائمقامية القطر في مدة غيابه، وإلى نوبار باشا أمر الاهتمام الكلي بمقاومة الوباء والقضاء عليه، وأقلع في صباح اليوم الرابع عشر من شهر يونية من الإسكندرية على ظهر يخته «المحروسة»، وبعد أن قضى مدة يتجول بين جزر البحر الأبيض المتوسط، ويتنزه في عرضه، مستنشقا نسيمه العليل نزل بمرسيليا، وتوجه منها إلى فيشي للتطبب بمياهها.
فاتخذت الألسنة النمامة سفره في تلك الظروف ذريعة للطعن عليه، واتهمته في بعض الجرائد الفرنجية في القطر المصري وخارجه بأنه إنما سافر لشدة خوفه من العدوى، وشدة حرصه على حياته الثمينة! مع أن تلك الألسنة كانت تعلم حق العلم أنه لم يكن بالجبان، ولا اشتهر عنه الخوف من الخطر، ولو أنه لم يلجأ في إثبات شجاعته إلى ما عمله (محمد سعيد باشا) سلفه، ليقيم الدليل عليها.
فإنه يروى عن ذلك الوالي الغريب الأطوار أنه أمر ذات يوم بتكديس بارود جاف على جانبي طريق ضيقة، مسافة طويلة، ثم أوقد شبكه، وألزم حاشيته وشانئي شجاعته بإشعال شبكاتهم أيضا، وسار بهم متنزها على تلك الطريق، وهو يدخن وهم يدخنون، وقد أنذر بالعقاب الشديد كل من وجد شبكه مطفأ عند البلوغ إلى نهاية الطريق، وما زال ينقل خطواته عليها ببطء كلي حتى بلغ آخرها، وكانت شرارة واحدة، تطير عن أحد الشبكات وتسقط على ذلك البارود المتكدس كافية لتنسف تلك الطريق بمن عليها نسفا.
9
على أن لا (سعيد) ولا (إسماعيل) كانا في حاجة إلى إقامة الأدلة على شجاعتهما، فإن المثل السائر يقول «هذا الشبل من ذاك الأسد»، وأيضا «ابن الوز عوام»، فكيف يكون ابن (محمد علي) وابن (إبراهيم )، بطلي أبطال الشرق الحديث، جبانين؟
وأما السوقة والعامة فإنهم شرعوا يرون في تعاقب المصائب الطبيعية على مصر بعد زيارة السلطان عبد العزيز لها دليلا على ما كانوا يعلنونه من توقعهم إياها، ارتكانا على أراجيف المرجفين من ضرابي الرمل، وقرائي المقدور على صفحات النجوم وصفحات الورق، فكثرت - والحالة هذه - المخاوف، وهلعت الأفئدة، وأصبح المعتقدون في آرائهم السخيفة هذه، كلما مس البلاد ضر، أو اشتدت عليها شدة يقولون لمن شاء أن يسمعهم «أرأيتم كيف يتحقق كلامنا، ويصدق حدسنا؟»
10
وبعد أن أقام الوباء ستين يوما، أخذ ابتداء من 13 أغسطس يتناقص شيئا فشيئا حتى إذا كانت أوائل سبتمبر تلاشى وزال، كعادته في المرات الأخرى التي حل فيها على القطر ضيفا ثقيلا، فكان جملة من مات به من المسلمين 5676 شخصا، ومن الأقباط 263، ومن الفرنج 165، وذلك غير 6104 أشخاص توفوا إبان فتكه بأسباب أخرى، فيكون مجموع وفيات القطر في أثناء إقامته 12429 شخصا.
ولم يفتر أستاذ الكيمياء بمدرسة الطب طول مدة الوباء، يجري اختبارات طقسية يوميا، ليقف على مقدار تأثير درجة الحرارة الجوية على كثرة انتشاره أو قلته، فثبت لديه أن القيظ الشديد يساعد على زيادة فتك مكروبه فقد لوحظ أن أشد الأيام هولا كان يومي 3 و5 يولية، وقد بلغت درجة الحرارة فيهما أعلاها، وازدادت سخونة الهواء، بما هب عليه من ريح سموم إلى حد غير معهود - وأما برودة الطقس وانحطاط درجة الحرارة فمما يوجب انحطاط همة ذلك المكروب ويساعد على زواله.
11
وأكبر دليل على قيام الإدارة الصحية والحكومة المحلية بواجباتهما، القيام الحق، هو كثرة ورود السائحين والزائرين الغربيين إلى القطر في هذا العام، عام سنة 1865، فقد بلغ عددهم 50317 سائحا، ولم يكن يبلغ نصف ذلك في السنوات السابقة، فلو أن الانتقادات والمخاوف كانت في محلها لأحجم جمهور هؤلاء عن المجيء إلى بلادنا. (4) طغيان النيل وعجزه، وما نجم عن ذلك من غلاء ومجاعات
وكأن هذه البلايا لم تكن كافية لإحراج الصدور، واستنفاد الأموال فإن فيضانات النيل في كل سني ملك (إسماعيل) تقريبا، خرجت عن طور المألوف، وأخذت تارة تزيد على المطلوب زيادة فاحشة، وطورا تقل عنه قلة محرقة.
ففي سنة 1863، مثلا ، بلغ ارتفاع النيل خمسة وعشرين ذراعا وثمانية قراريط، فهدد القطر برمته بدمار عاجل محقق، ولولا أن (إسماعيل) - كأنما أوتي علم الغيب - كان قد سبق واتخذ الحيطة لذلك منذ تبوئه العرش، بما أصدره من الأوامر المشددة على المديرين بالإسراع في إنهاء الأشغال اللازمة لحفظ الجسور، حفظا فعالا بحيث تكون على أتم ما يرام وقت الفيضان - وكثيرا ما كانت تهمل تلك الأشغال في السابق، فتصاب الزراعة والقرى بمضار جسيمة حتى في السنوات ذات الفيضان العادي - لحلت بالبلاد والعباد مصيبة تتضاءل أمام جسامتها كل مصيبة طبيعية أخرى، ولكن الإجراءات التي كان قد أمر بعملها قاومت ضغط النيل إلى أن بلغت زيادته الارتفاع العادي وفاقته قليلا، غير أن الزيادة استمرت مطردة اطرادا غريبا، فرأى (إسماعيل) وجوب إجراء أشغال تقوية أخرى في الجسور، وحضر عملها بنفسه، لئلا يهمل أحد شغلا نيط به، فحفظت البلاد بذلك من الغرق.
12
ولكي يثبت الأمير الاطمئنان في قلوب رعيته، لم يحجم عن الذهاب بنفسه لافتتاح خط سكة حديد طلخا - وهو خط يحاذي جانب عظيم منه النيل - غير أنه حدث بعد وصوله إلى طلخا بقليل، أن الحاجز الأكبر انهار، وتدفقت مياه النهر منه بغزارة، وهددت الجيزة كلها، فأمر (إسماعيل) حالا باتخاذ الاحتياطات، وإجراء التصليحات والترميمات اللازمة، فلم تمض ثلاثة أيام إلا والحاجز قد أعيد إلى حالة من المتانة خير من الأولى.
ثم اتفق بعد يومين أن جسرا آخر عند كفر الزيات انهار أيضا فغرقت مياه النيل البلد، وجملة نواح مجاورة، وجرفت خط السكة الحديدية أو كادت، ولكن بفضل عناية الأمير لم يمت أحد من الناس، ولم تهلك ماشية مطلقا، وذلك لأن (إسماعيل) كلف الجند ورجال حاشيته بما فيهم أصحاب الرتب والألقاب بالعمل على رتق الخرق وسد الثغرة، وقدم للمحتاجين كل أنواع الإسعافات التي استدعتها حالتهم من خيام ومأكولات وملابس.
13
وكانت نتيجة ذلك الفيضان الجارف القضاء على جانب عظيم من المغل؛ فارتفعت أسعار الحنطة والذرة ارتفاعا فاحشا، طار بسببه غلاء شديد ، أوجب ارتفاع عموم أسعار حاجات المعيشة ارتفاعا مخيفا، ثم انقطع وارد القمح بالمرة، واشتد الطلب فلم يجد الفقراء له أثرا لا في سواحل بولاق، ولا في مصر القديمة، ولا في جميع رقع الغلال الأخرى، فضجوا وعجوا، وكثر طواف النساء في الأسواق يحملن المقاطف، لعلهن يجدن من يبيعهن قمحا أو دقيقا.
فلما علم (إسماعيل) بما عليه الناس من الضر، هاله الأمر وأزعجه، ورسم بجلب القمح والدقيق من البلاد الخارجية، فأتى بشيء كثير منهما، وفرق على الوكائل وجهات الرقع، ورتب للبيع وقتان في الصباح والمساء، ونودي في الناس بذلك، ففرحوا وتزاحموا على أبواب محال صرفه تزاحم الجياع، واستمروا على هذه الحال شهرين وبضعة أيام، حتى تواردت الغلال من الأقاليم القبلية، وملأت مخازن التجار وأشوان الدولة، وعم الوارد منها الأقاليم البحرية.
14
على أن النيل عاد إلى الطغيان سنة 1866 فبلغ ارتفاعه نيفا وخمسة وعشرين ذراعا وأربعة عشر قيراطا، فعادت ويلات سنة 1863، وزادت شدة، وكان ذلك هو العام الذي فاز (إسماعيل) فيه بحصر إرث العرش المصري في الابن البكري. فالابن البكري من ذريته، فأبى أن يشوب كدر عام أفراحه، لذلك بذل قصارى جهده في منع كل غرق وخراب عن البلاد وساكنيها، وما فتئ كالمرة الأولى متنقلا في جهات القطر، لا سيما في الصعيد، مراقبا بنفسه شئون المحافظة على الجسور، حتى تمكن من درء شر جسيم.
وأما في سنة 1868 فقد شح النيل في فيضانه، ولم يبلغ أقصى ارتفاع مياهه سوى تسعة عشر ذراعا وثلاثة عشر قيراطا، فنجم عن ذلك أن ثمن أراضي الوجه القبلي بقي شراقي، وأنه وقع غلاء شديد في البلاد، دل عليه ارتفاع أسعار النقود. فإن الجنيه الإنجليزي - وقد كان في سنة 1866 يساوي 176 قرشا من العملة الدارجة، وفي سنة 1867، 185 قرشا، أصبح في سنة 1868 يساوي 192 قرشا، والجنيه المصري - وقد كان في السنتين السابقتين يساوي 184 و189 قرشا، أصبح يساوي 197، وأما البنتو (القطعة ذات العشرين فرنكا)، فأصبح يساوي 152 قرشا، بعد أن كان في السنتين عينهما يساوي 142 و147، كذلك أصبح الجنيه المجيدي يساوي 172 قرشا، بعد أن كان يساوي في سنة 1867، 166 قرشا، وفي سنة 1866، 161 قرشا.
15
وبينما الناس ينتظرون أن يعوض عليهم الفيضان التالي المضار التي لحقت بهم من جراء قلة الفيضان السابق، إذا بمياه النيل قد ارتفعت في سنة 1869 ارتفاعا فاحشا، وبلغ علوها نيفا وستة وعشرين ذراعا وقيراطا، فغرقت السواحل، وتلف كل الزرع الذي عليها، وانهارت الجسور، وهدد القطر جميعه بالغرق، وكان (إسماعيل) قد اتفق مع المسيو فردينان دي لسبس على أن يكون فتح ترعة السويس للملاحة والتجارة العالميتين في نوفمبر من ذلك العام، فرأى أن أقل تهاون يبدو من حكومته في أمر مقاومة مهاجمة ذلك الفيضان المريع يؤدي حتما إلى إفساد مجرى الحفلات الفخمة العتيدة، ورأى أنه يجدر بهمته إذا أن تهب لمقاتلة همة المياه، والتغلب عليها، فأصدر الأوامر المشددة إلى جميع المديرين ومأموري المراكز بعدم مفارقة الجسور، لا نهارا ولا ليلا، والعمل باستمرار على تقويتها وتعليتها، وسرعة تصليح ما ينهار منها، وملافاة المضار الناجمة عن الانهيار، واغتنم فرصة سياحته على النيل مع الإمبراطورة أوچيني، في أوائل أكتوبر، لمراقبة تنفيذ أوامره بنفسه، حتى تسنى له إنقاذ البلاد من تلك المصيبة المدلهمة، ولو أنه لم يستطع تخليصها من براثن الغلاء، الذي تلا حتما ذلك الفيضان الطاغي، ورفع سعر النقود، فأصبح الجنيه المصري يساوي 203 قروش، والإنجليزي 199 قرشا، والبنتو 158 قرشا، والمجيدي 179 قرشا، والمجر 95 قرشا بعد أن كان يساوي 91 قرشا، و89 في السنتين السابقتين.
16
على أن كثرة توافد الزائرين في هذا العام - وقد بلغ عددهم 77767 - وكثرة ما أنفقوه أو أنفق عليهم جعلتا ذلك الغلاء في مصلحة منمي المواد الأولى ومورديها وفي مصلحة التجار والصناع على العموم. فعوضتاهم خسائرهم وزيادة، ولكن الفقراء - وهم بكل أسف الأغلبية - لم يستفيدوا إلا قليلا من الملايين المقنطرة التي صرفت في هذه السنة واحتفالاتها، فلم يخفف بؤسهم، ولا فاقتهم لطفت. وهم الذين كانت تقع عين الأجنبي عليهم في الغالب، فيحكم بانتشار البؤس وينسبه إلى مظالم الحكام ومغارمهم، أو إلى تعسف الحكومة بالرعايا، مع أن الحكومة في هذه السنة عينها وضعت تعريفة عمومية للنقود منعا لتلاعب ذوي المطامع بها.
ومع أن فيضان سنة 1870 كان أقل علوا من سابقه، إلا أنه كان طاغيا أيضا - فإن ارتفاع مياهه بلغ نيفا وأربعة وعشرين ذراعا وسبعة عشر قيراطا، فأتلف كل الذرة المزروعة على السواحل النيلية، وأنذر - لا سيما في جهات الصعيد - أطيان الفقراء من مزارعيها بالطغيان عليها وتخريبها، فما كان من (إسماعيل) إلا أنه أمر بكسر جسور النيل أمام أطيانه الخاصة لتحويل مياهها إليها، وصرفها عن أطيان أولئك البائسين، ولم يبال في سبيل منفعتهم بالضرر الذي أصابه.
ومما زاد الطين بلة في فيضان تلك السنة أن الأمطار انهمرت انهمارا غير معهود في عموم بلاد مصر السفلى ومصر الوسطى، فهدمت ما هدمت، وجرفت ما جرفت، واستمر نزولها بمصر القاهرة وحدها نيفا وتسعة أيام متواليات، واستمرت في ذات يوم منها تنهمل تسع ساعات، وست دقائق بلا انقطاع.
على أن كثرة ورود السائحين في هذا العام أيضا، بناء على المحببات والمرغبات التي بذلها لهم (إسماعيل)، سواء أكان بإقامته المراقص والملاهي التمثيلية بالقاهرة والإسكندرية، أم بالتسهيلات الكثيرة التي أوجدها لتمكينهم من زيارة عجائب القطر، حتى بلغ عددهم نيفا و64328، وكثرة ما بذلوه من مال عن يد سخية، عوضتا البلاد إلى حد ما من المضار المتابعة التي أصابتها. ثم عاد النيل فزاد زيادة مخيفة أيضا في سنة 1872، وبلغ ارتفاع مياهه نيفا وأربعة وعشرين ذراعا، فزاد في بؤس صغار الفلاحين والفقراء من الناس، ولكن عدد الزائرين الأجانب - وبلغ 67772 - جاء مخففا لشيء من ذلك المصاب، كأن الله ابتلى عباده من جهة، ولطف بهم من جهة أخرى.
17
غير أن السيل بلغ الزبى، حقيقة، في سنة 1874، فإن الفيضان ما فتئ في ذلك العام يرتفع، يرتفع، يرتفع، حتى بلغ نيفا وستة وعشرين ذراعا واثنى عشر قيراطا، فتدفقت المياه من كل صوب، وتبطحت، وأدركت ذات الأماكن المرتفعة، وأصابت القطر كله بمضار جمة، نشأ عنها عسر شديد، وغلاء فاحش، اضطرا الخديو إلى العدول عن السفر إلى الخارج، والإقامة في الإسكندرية لمراقبة خدمة الجسور وصيانتها وترميمها من جهة، ولمنع نزوح الأموال المصرية إلى خارج القطر من جهة أخرى، بإبقاء ثروة البلاد فيها. ومما زاد تلك السنة في البؤس العام هو أن وزارة المالية قررت استيفاء العوائد على سائر الأملاك بمصر والثغور والبنادر والجفالك، باعتبار السنة الهلالية بدلا من السنة الشمسية القبطية.
18
واستمر النيل على الطغيان في العامين التاليين، ولو أن شدته فيهما لم تضارع شدته في عام 1874، ففي سنة 1875 أناف ارتفاع مياهه على أربعة وعشرين ذراعا وأربعة قراريط، وفي سنة 1876 على أربعة وعشرين ذراعا وخمسة عشر قيراطا، فزاد الطين بلة، وحلقات البؤس تعقدا. أضف إلى ذلك تعسف وزير المالية في تحصيل الأموال مقدما، بدون مبالاة بالمضار المهلكة، اللاحقة بالفلاحين من وراء إتلاف تلك الفيضانات الثلاثة الطاغية المتوالية جانبا عظيما من مزروعاتهم ومحصولاتهم.
وبينما النفوس المبتهجة بنكبة إسماعيل صديق، والمترقبة بعدها فرجا، تنتظر بفارغ صبر أن يعوض الله خيرا ما أصابت به تلك الفيضانات البلاد من ضر، ويمن على القطر بنيل محسن، إذا بفيضان سنة 1877 أشح ما رآه عهد (إسماعيل) قاطبة، لعدم بلوغ مياهه سوى سبعة عشر ذراعا وثلاثة قراريط، وإذا به لا يكفي لري جانب يسير من الأطيان، فضج المزارعون والأهالي، وانخلعت قلوبهم وقلب كل ذي مصلحة في القطر معها، وتوقع الجميع مجاعة لا نظير لها في العام التالي. ولم تخيب الأقدار السيئة توقعهم، فإن نتيجة شح المياه بعد طغيانها ثلاث سنوات متواليات طغيانا مدمرا، وإتلافها جانبا عظيما من المزروعات، كانت في الواقع مجاعة شديدة، انتشرت في صميم الربوع المصرية، وأكلت لحوم البؤساء من الفلاحين وأرباب الحرف، لا بل ذات عظامهم، لا سيما في الصعيد، وكأن ذلك لم يكن كافيا لإهلاك الحرث والنسل، علاوة على الزرع والضرع، فإن الذين خلفوا إسماعيل صديق على دفة المالية من الغربيين قاموا يسلكون مسالكه للأسباب التي سنبينها فيما بعد، وابتزوا من فلاحي القطر الأموال مقدما، فطارت صرخة التألم في البلاد قاطبة، ودوت في مسامع الغربيين أنفسهم، وهم في عقر دورهم ببلادهم.
فتقرر إرسال مفتشين من الإنجليز لاستطلاع حقيقة الحال، فوجدا أن نيفا وعشرة آلاف شخص هلكوا من الجوع في مديريات جرجا وقنا وإسنا، وأن الباقين على قيد الحياة يتغذون بأعشاب برية ، وحثالة قصب السكر، وما ماثلها من التافه، وأخبرا أن أكبر أسباب البلية إنما هو ابتزاز الأموال من الفلاحين مقدما، وفي أوقات غير ملائمة ولا مناسبة، واستعمال القسوة في جبايتها إلى حد تجريدهم من مخزوناتهم الطعامية، وحبوبهم ونقودهم، وكل وسيلة تعيش أخرى، ناهيك بفتك طاعون الحمير بمواشيهم وجمالهم.
19
فهبت حكومة (إسماعيل) وأرسلت إلى أولئك البؤساء كمية من الخبز يقتاتون بها، ولكن الفناء ما انفك يعمل عمله، لا سيما في الأطفال والشيوخ، حتى لم يعد يبقى منهم في القرى والنواحي إلا القليلون.
فهل من المدهش، بعد توالي هذه النكبات والكوارث الطبيعية على القطر في مدة (إسماعيل) أن يظهر الريف - لا سيما في الوجه القبلي - في مظهر البؤس الذي وصفته الليدي دف جوردون في رسائلها، والذي أدى إلى تخييم كآبة على وجوه الفلاحين، كالتي رآها بعضهم
20
مخيمة عليها منذ سنة 1866؟ هل من المدهش، والناس في الشرق ما فتئوا ميالين إلى الاستبشار بملوكهم، أو التطير منهم، حسبما يرونه في أيامهم من بواعث على الرخاء والهناء، أو من موجبات للخراب والشقاء؟ هل من المدهش أن الكثيرين من الذين عاشوا في تلك الأيام، لم يستطيعوا ذكرها إلا بشر، وبإظهار نقمتهم عليها، وهم - لابتعادهم عن الأشعة المنبعثة عن ولي النعم - لم يتمكنوا من التأثر بنعم هذه الأشعة، وإنما تأثروا فقط بتلك الكوارث الطبيعية المتعاقبة المتتابعة؟ أو ليس من المدهش بالعكس أن (إسماعيل) بالرغم من كل موجبات الأكدار هذه، استطاع أن يضع في سنى ملكه البهجة والسطوع اللذين وصفناهما في فصل سابق، وأن يجعل تلك السنين عبارة عن سلسلة أفراح ومواسم انتفاع عام لا انقطاع لها؟ وأن لا يتنكب على الأخص عن العمل على تنفيذ الخطة السامية التي وضعها لنفسه، على كثرة ما تستدعيه من نفقات، وبالرغم أيضا من العقبات التي أوجبتها، على غير انتظار، تبعية مصر للدولة العثمانية؟
أما وقد تكلمنا عن الكوارث الطبيعية، فلنتكلم الآن عن هذه العقبات ولو بإيجاز.
الفصل الثاني
الحملات المصرية المرسلة مساعدة لتركيا1
وأبثثت عمرا بعض ما في حوائجي
وجرعته من مر ما أتجرع (1) حملة العسير
ما ارتقى (إسماعيل) العرش إلا وناداه مناد من الأستانة أن «أرسل قوة إلى بلاد العرب لمساعدة القوات العثمانية المقاتلة هناك على إخماد الثورة المنتشرة فيها.»
وبلاد العرب منذ أن امتد ظل سلطة الدولة العثمانية عليها في أيام سليمان القانوني الفخيم حتى الحرب العالمية الأخيرة، ما فتئت تثور على حكم بني عثمان، بين حين وحين، وتكلفهم عناء شديدا في إعادتها إلى مظال السكينة والخضوع.
فأرسل (إسماعيل) ست أورط كاملة العدد والعدة إلى درجة غير معهودة ولا متوقعة من مصر في ذلك الوقت، وجعل أجور رجالها وضباطها ضعف ما كانت عليه، واعتنى بصرفها لهم في أوقاتها المعينة، وتشدد في عدم التقتير عليهم في المآكل، مع الالتفات إلى جودتها، وفي وجوب الانتباه التام إلى الوقايات الصحية.
2
فكفى مجرد ظهور تلك الجنود بهيئتها المنظمة، وعدتها الهائلة بالعسير لحمل الثائرين على الإثابة إلى الرشد، والخضوع إلى الدولة.
فأرسل السلطان عبد العزيز في شعبان سنة 1282 خطا همايونيا إلى (إسماعيل) يشكره فيه، هذا نصه كما عثرنا عليه في منتخبات الجوائب ج5 ص78:
إن الإقدام والمساعي المصروفة منكم؛ لبقاء توجهنا إليكم، واستمرار حسن ظننا القديم فيكم، إنما هو لحميتكم واستقامتكم الذاتية التي أنتم متصفون بها، ومجبولون عليها، وذلك هو المستحسن لدينا دائما. وهذه المرة قد أكد اعتمادنا عليكم ووثوقنا بكم بزيادة ما وقع منكم من الهمة والغيرة بخصوص اندفاع مسألة عشيرة العسير والهمة، من دون حرب، جعلنا جناب الحق، في سائر الأحوال، مظهرا لتوفيقاته الإلهية آمين. (2) الحملة إلى كريت
وفي سنة 1866 شبت ثورة عارمة في كريت - وكريت أيضا ما فتئت منذ أن أخضعتها جنود محمد الرابع في سنة 1660، قائمة على الدولة العثمانية، تثور المرة بعد الأخرى، لتتخلص من نيرها الأجنبي الثقيل - فلما أعيت الباب العالي الوسائل، تذكر أن جنود (محمد علي) في الحلقة الثالثة من القرن كانت قد تمكنت دون الجنود العثمانية من إخضاع ثوار تلك الجزيرة، مقابل تقليد أمير مصر زمام ولايتها، فأرسل يطلب من (إسماعيل) الاقتداء بجده العظيم ، وإنجاد الدولة بفرقة من جنوده البواسل.
وكان (إسماعيل) قد أقبل يخابر السلطان في أمر تغيير مجرى الوراثة المصرية، فعز عليه أن يرفض الإجابة، خوفا من تغيير الخواطر بالأستانة عليه، مع أن الفرمانات لم تكن لتلزمه على المساعدة، في مثل تلك الأحوال، ولا كان لمصر مصلحة في تضحية أولادها، وبذل أموالها في سبيل الدفاع عن تركيا بدون فائدة.
فجهز إذا نيفا وخمسة آلاف جندي تامي العدد تجهيزا عظيما، وعقد لواءهم لشاهين باشا - وكان من رجال الحرب المشهود لهم - وأرسلهم لإنجاد الجنود العثمانية التي كان الثوار قد ضيقوا عليها المسالك والمنافذ، لا سيما بعد أن خابت مساعي مصطفى باشا الكردلي المرسل إليهم في أول أمرهم من لدن الدولة ليجاملهم، حقنا للدماء. ومصطفى باشا هذا هو الذي عهد إليه (محمد علي) العظيم في سنة 1822 أمر إطفاء الثورة في تلك الجزيرة عينها، ثم عاد بعد إحدى عشرة سنة، وانتدبه مرة أخرى للغرض عينه، وجعل عساكر مصر كلها هناك تحت إمرته، فأعاد السكينة إلى نصابها، وبقي واليا على الجزيرة من قبل العاهل المصري لغاية سنة 1841، وهي السنة التي عادت الدولة العلية فيها إلى تولي أمر كريت بنفسها عقب الفرمانات المشهورة.
فما نزل الجنود المصريون إلى سواحل الجزيرة الثائرة إلا وجعلوا ثوارها يشعرون بشدة وطأتهم عليهم، ويدركون الفرق ما بين أولاد النيل البواسل، حينما تكون كتائبهم وجحافلهم منظمة، تامة المهمات، وبين شراذم الباشبوزق المجموعة بدون نظام من كل فج عميق، فساقوا طوائف الثائرين أمامهم، وتوغلوا في داخلية الجزيرة، حتى تمكنوا من فصل بعض فرق الأعداء عن خميسهم المهم، وأوقعوا بهذا الجيش عينه، بالقرب من أرقاذي، وضربوه ضربة تزلزلت لها أركان كريت بأسرها، وخيل معها للملأ أن الثورة قد قضي عليها.
فأرسل (إسماعيل) إلى جنوده البواسل تهانئه الخالصة محررة بقلم عبد الله بك فكري (الذي أنعم عليه فيما بعد برتبة الميرميران، وعرف باسم «عبد الله باشا فكري»، صاحب كتاب «الفوائد الفكرية») - وكان حينذاك ناظر قلمي التحريرات والعرضحالات. وإنا لا نرى بأسا من إيرادها هنا، للدلالة على ما كان لفوز المصريين من رنة طرب وإعجاب في القطر، وعلى الفرق بين إنشاء المراسلات في مصر، وإنشائها في الأستانة «إلى من باشروا وقعة أرقاذي من الضباط الجهادية، وأفراد العساكر المصرية، سلام من الله وتسليم، ورضوان كريم، يهدى لأولكم وآخركم، ويسدى لمأموركم وآمركم. لا زلتم محفوفين من الله بنصره، محفوظين بأمره، غالبين على عدوكم بقهره، متقلبين في نعمته وبره، ولا انفكت عزائمكم في كروب الحرب عزائم، وصوارمكم في قطوب الخطوب بواسم، وأعلامكم للنجح، ولتمكين علائم، وأيامكم للفتح المبين مواسم، ورياح القهر والدمار على عدوكم سمائم، ونسمات النصر والفخار في رواحكم وغدوكم نواسم وبعد فما زلت أتشوق من أخبار شجاعتكم ما يسر الخواطر، وأتشوف من آثار براعتكم ما يقر النواظر، واثقا بعزمكم وحزمكم في المضايق، مبتهجا بما أبديتموه من حسن السوابق، حتى ورد «خابور الشرقية» من طرف حضرة الباشا ناظر الجهادية بيوميات الوقائع العسكرية، مشتملة على وقعة أرقاذي وتفصيلاتها، وما كان من رسوخ أقدامكم وثباتها، وإقدامكم في جهاتها، واقتحامكم مضايق حصونها واستحكاماتها، وتسخير مستعصماتها، وتدمير أشقياء العصاة وكماتها، حتى زلزلت صياصيها، وذللت نواصيها، ودنا لكم قاصيها، ودان عاصيها. فهكذا تكون رجال الجهاد، وأبطال الجدال والجلاد، وهكذا تفتتح الحصون، ويبرز سر النصر المصون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فقد أسفر لكم بحمد الله وجه التهاني، وأثمر فيكم بعون الله غرس الأماني، وأيدتم ما ثبت للعساكر المصرية، من حسن الشهرة في الأمور العسكرية، فحصل لي من الأنس والسرور بهذه البشارة ما لا تقدر الألسن أن تصف مقداره، ولا يتسع له مجال الإشارة، وتأيد فيكم حسن أنظاري، وظهرت ثمرات أفكاري، وتحققت أنكم بعد الآن - بعون الله الكريم - لا تزلون عن هذا الطريق القويم، ولا تزالون في تأييد مالكم من المجد القديم. وقد شاع حديث نصرتكم بين الأهل والديار، وسارت الركبان بمحاسن هذه الأخبار، كما نقلته صحائف الوقائع إلى جميع الأقطار، فانشرحت صدور أهلكم وإخوانكم، وفرحت بكم جميع أهل بلدانكم، وابتسمت ثغور أوطانكم، وافتخرت بأحاديث شجعانكم، وارتاحت أرواح الشهداء من أقرانكم. والمأمول في ألطاف الله العلية، وبركات السلطنة السنية، ثم في حميتكم الملية، وغيرتكم الوطنية أن يزول حال الاختلال عن قريب، وينتهي أمر القتال والحرب ويطيع الجميع، ويسهل كل صعب منيع، وتعودوا لوطننا العزيز، ظافرين بالنصر والتعزيز، وقد قرب حصول الأمل، ونجاح العمل، ومضى الأكثر وبقي الأقل، والحرب للرجل العسكري، والبطل الجري، سوق عظيم، وموسم كريم، تشترى فيه غوالي المعالي بأعالي العوالي، وتنال فيه منازل الأكارم في ظلام السيوف الصوارم، ويدرك الفخر الصادق بمرامي المدافع والبنادق. وقد علمتم أن الشجاعة تبلغ الآمال، ولا تقصر الآجال، كما أن الجبن يورث العار، ولا يؤخر الأعمار، وإنما هي آجال محدودة، وأنفاس معدودة، ولا تقبل التغيير، ولا التقديم ولا التأخير. والشجاعة صبر ساعة، ثم ينكشف الغبار، وتسفر الأخبار، ويتناقل حديث الشجعان، ويخلد في تواريخ الزمان، فدوموا على إبداء الاجتهاد، وقوموا بأداء حقوق الجهاد، واثبتوا على الشجاعة والإقدام، وثبات القلوب والأقدام، وأنجزوا - بمعونة الله - تمام هذا المرام، وكما جودتم براعة المطلع فأحسنوا براعة الختام.»
غير أن الدهر لم يحقق هذه الأماني، ولا تم ما التهبت بتصور وقوعه المخيلات والأحلام، فإن الثوار كأن كل واحد منهم أنتيؤس القديم
3
ما كادت تطرحهم الشجاعة المصرية أرضا إلا ونهضوا مستمدين من روح وطنيتهم قوة جديدة وبأسا أجد، وعادوا إلى القتال والجلاد عودا أشد مما كان.
وبما أنهم إنما كانوا يقاتلون ابتغاء الحرية الثمينة، ورغبة في تخليص بلادهم من نير أجنبي لم يكن ثقيلا فحسب، بل كان ظالما، ومدمرا مخربا، وأما المصريون فإنما كانوا يقاتلون للفخر والشرف ليس إلا، وبما أنه لا بد لمن قاتل في سبيل الحرية والوطن أن ينتصر في نهاية أمره على المقاتل لمحض الفخار أو لتوطيد دعائم الظلم، فإن الكريتيين ما لبثوا أن اغتصبوا الفوز من أيدي جنودنا، وقهروهم، ودحروهم، وما فتئوا يزحزحونهم عن المعقل تلو المعقل، والموقع تلو الموقع حتى أجلوهم إلى الساحل، وهددوهم بطرحهم بحرا.
ولم يكن (إسماعيل)، في صميم قلبه، راضيا عن موت بنيه المصريين في تلك الجزيرة، إكراما لعيون الأتراك، لا سيما وأنه كان يكره - وهو الساعي إلى الاستقلال عن تركيا، والعامل على تحقيق ذلك المسعى، بما في وسعه من الجهود - أن يكون آلة للبطش بقوم يسعون سعيه، ويعملون عمله. ولما كان من جهة أخرى قد قضى لبانته من الأستانة، ونال فرمان تغيير مجاري الوراثة، وفرمان منحه لقب خديو السلطاني، فإنه أصدر أوامره إلى شاهين باشا بالعود بالحملة المصرية إلى ديارها، ولم يبال بمطالب عالي باشا، الراغب في بقاء أولئك الجنود في الجزيرة، ريثما يرسل إليهم مددا عثمانيا يمكنهم ويتمكن معهم من إعادة الكرة على الثوار، وإخماد أنفاسهم. ولا عني بالعداء الذي أثاره رفضه تلك المطالب في صدر مبديها.
على أن ثورة كريت دامت بضع سنوات، وشعر (إسماعيل) فيما بعد، لا سيما عقب انخذال فرنسا في حرب السبعين أمام ألمانيا، بوجوب العود إلى مجاملة تركية فأرجع جزءا من تلك الحملة إلى كريت إرضاء لعالي باشا عينه، ليحمله على تجنب معاكسة مشروع الإصلاح القضائي، وعلى التساهل في منحه الامتيازات الملكية الجديدة التي أقبل يطلبها.
وقد قرأت في كتاب الإنجليز والفرنساويين بمصر للمسيو إشيل بيوڨيس، طبعة باريس سنة 1910، أن محمود سامي البارودي باشا - وكان (إسماعيل) قد زوجه من إحدى غادات قصوره الألطف جمالا - خنق في سنة 1872 زوجته ورجلا من أرباب الموسيقى، لأن هذا الآلاتي كان مغرما بالزوجة، فاستولت حمى الغيرة على البارودي فخنق الزوجة، وخنق محبها معها، فأثار بذلك غضب (إسماعيل) عليه وأراد نفي المجرم إلى السودان، أي إلى القطر الذي لم يكن أحد يعود منه، ولكن أصدقاء البارودي توسطوا له، فاكتفى (إسماعيل) بإرساله إلى كريت، حيث كانت الكتائب المصرية تقاتل الثوار، وأوصى بأن لا يعفى من المأموريات الخطرة، ولكن محمودا - بالرغم من ذلك - عاد سليما من تلك الحملة، ثم تمكن من استعادة رضى مولاه، والتزوج بإحدى غانيات البيت اليكني الرفيع العماد، فهل كانت كريت في فكر (إسماعيل) منذ لم يعد في الإمكان التخلي عن مساعدة السلطان عليها، قد أصبحت «فازوغلي» ثانية؟ (3) الحملة إلى البلقان
ما فتئت شعوب البلقان منذ أن ظهرت روسيا على تركيا، بعد بطرس الأكبر، متحركة، ثائرة على الحكم العثماني:
أولا:
لاختلاف الدين.
ثانيا:
لاختلاف العقلية بينها وبين حاكميها.
ثالثا:
رغبة منها في الاستقلال، وما فتئت روسيا تساعد كل حركة وثورة فيها، تارة في السر وبدسائس خفية، وطورا جهارا وبحرب عوان.
فلما كانت سنة 1875، دفعت بالصرب والجبل الأسود إلى مقاتلة دولة بني عثمان لأسباب لا محل لذكرها هنا، وكانت الدولة العثمانية قد رأت من انصياع مصر لمساعدتها في العسير وكريت مسوغا لمطالبتها بأولادها، ليقوموا في ميادين القتال مقام بعض أولاد تركيا أنفسهم، ويضحوا بأموالهم وأعمارهم في سبيل خدمتها، فبعثت إلى (إسماعيل) تطلب منه المساعدة والإنجاد.
ولكن (إسماعيل) كان منشغلا في تجهيز الحملة إلى الحبشة للأخذ بثأر أرندروپ ورجاله، وغسل عار الكسرة التي أصيب بها، فاتخذ من ذلك مسوغا ومبررا للاعتذار عن إجابة طلب الباب العالي - ولم يكن يميل في صميمه إلى إجابته، لا سيما وأنه لم يعد له لبانة لديه، وكان قد سحب جنوده من كريت عقب أن هدأت الثورة فيها، على أن أعداءه والراغبين في تعكير ماء الصداقة بينه وبين تركيا أخذوا يذيعون أنه إنما يدير حملته على الحبشة، ليتذرع بها إلى التنصل من تلبية طلب السلطان.
ولكن روسيا ما فتئت أن خاضت بنفسها غمار الحرب مع تركيا، بعد إخلاد الصرب والجبل الأسود إلى المسالمة والسكينة، وتدفقت جنودها إلى الحدود، وتعدتها في سنة 1877، وكانت ثورتان تركيتان متتابعتان قد ثلتا عرش (عبد العزيز)، فعرش (مراد الخامس) ابن أخيه، وخليفته، وأجلستا مكانهما (عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد).
فبعث هذا من فوره إلى (إسماعيل) يطلب منه إرسال القوة المصرية التي تقتضيها نصوص الفرمانات إلى محاربة العدو الوراثي بجانب الجنود العثمانية، ولكن تلك الأيام كانت بدء الأعاصير المالية على القطر، فاعتذر الخديو عن تلبية الطلب بعجزه عن القيام بمصاريف تعبئة الحملة، وإقامتها بميادين القتال، ودخولها الفعلي في المعمعان، فأبى الباب العالي قبول عذره، وتشدد في طلبه.
فعرض (إسماعيل) إرسال الجنود، على أن تتولى الدولة العثمانية أمر الإنفاق عليهم في التعبئة والسفر والإقامة، فرفض الباب العالي ذلك أيضا، وأمر الخديو أمرا صريحا بتعبئة فيلق مؤلف من اثني عشر ألف جندي، تامي المعدات وآلات الحرب، وإرساله حالا على نفقة الخزينة المصرية إلى ميدان القتال. وهدده إن لم يصدع بالأمر بدون أقل تأخير بإرسال مدرعات عثمانية تحت قيادة هوبرت باشا إلى المياه المصرية، لإجباره على الطاعة.
4
فاضطر (إسماعيل) إلى استدعاء مجلس النواب، واستئذانه بربط ضريبة جديدة على كل فدان، قدرها عشرة قروش صحيحة، تدعى «ضريبة الحرب»، وتنفق على تعبئة الحملة وتسفيرها، وإقامتها في مواطن الطعان. ولما وافق المجلس على ذلك، أعدت القوة المطلوبة، ووضعت تحت قيادة الأمير حسن باشا، وأرسلت إلى ڨارنا على السفن الخديوية، يحرسها أسيطيل عثماني، بعد أن دفعت مرتبات سنة برمتها كانت متأخرة للمهندسين الغربيين المتولين زمام تلك السفن، لحملهم على الإقلاع عن اعتصاب لجأوا إليه لنيل دفعها، وهددوا به بتعطيل سير الحملة إلى مقرها.
5
ولسنا نرى لوصف تلك الحملة خيرا من إيراد ما كتبه عنها مراسلا جريدتي «الچورنال دي ديباه»، و«الرپبليك فرنسيز» (جريدة المرافعات، وجريدة الجمهورية الفرنساوية) المرافقان لجيوش تركيا في تلك الحرب.
قال المراسل الأول، مراسل «الچورنال دي ديباه»: «إن العساكر المصرية تامة الملبس والهندام والتجهيز، طرابيشهم حمراء، وسترهم زرقاء كلون السماء، وبنطلوناتهم كذلك، إلا أنها ملفوفة من الأسفل داخل «تزالك» بيضاء، وكلهم مسلحون ببنادق رمنجتن، ولا شك في أن ضباطهم أرقى في معلوماتهم من الضباط الأتراك، وأما جنودهم فلا سبيل إلى قياسهم بجنود الترك، فالطابع الفلاحي بأنفه الأقنى عند قمته والمفطوس عند قاعدته سائد على مجموعهم، ومعظمهم ذوو قامات مرتفعة، ومع ذلك فهم لطاف المعشر، ضاحكو السن، وسيماء الأطفال على وجوههم ومشيتهم. وهم في الواقع أحداث في مقتبل اليفاعة، لم تنبت بعد شواربهم ولحاهم، ولا ينتظر من ضآلة صدورهم أن يكونوا أبطال هيجاء يستطيعون احتمال مصاعب الحروب.»
وقال مراسل «الرپبليك فرنسيز»: «وكان قد وصل إلى ڨارنا منذ بضعة شهور على مراكب حربية فاخرة بضعة آلاف عسكري صغار، خفيفي الأرواح، وجوههم كلون الشوكولاتة، ولباسهم أزرق سماوي، وكانوا من لطف البزة، وحلاوة الشمائل، وظرف الهندام بحيث إن المرء كان يشتهي أن لا يقع مطر لئلا يذيبهم كسكر. وكان يستلفت الأنظار فيهم أن بنادقهم كانت صغيرة وظريفة، ومدافعهم صغيرة وظريفة، والمناديل التي يتفون بها صغيرة وظريفة، وأنهم كانوا تحت إمرة أمير بديع الظرف، يحيط به أركان حرب كلهم ظرفاء، حتى إنه كان يخيل للناظر إليهم أنهم خارجون من علب لعب، مصنوعة في الغابة السوداء، فيتصور بسهولة أن مثل تلك الجنود الحلوة الشمائل لم تكن معدة لتشاطر العثمانيين مشقات الحروب، ولا لخوض غمارها، لأن مظهرها لم يكن يصح أن يجعلها لها، إلا إذا صح أن تكون سيدات قيفات، كيسات، مجعولة لحراثة الحقول.»
6
ولكن الجند المصري - بخلاف ما كان يتوقعه ذانك المراسلان - خاض غمرات الحروب، وشاطر العثمانيين سعيرها ولهيبها، لا سيما في وقعة (پوپ كوي).
فقد كان قصد القيادة العثمانية من قذفها بجناح الجيش التركي الأيسر إلى مهاجمة الروس في تلك الوقعة؛ جعل رجوع هؤلاء من الطريق الماضية من (پوپ كوي) إلى (بييلا) عن سبيل (أوپاكا) و(كرپتسي أورنچيك) و(سنان كوي)، متعذرا، بل محالا، ومنعهم بذلك من اللحوق بالفيلق الروسي الثاني.
ولما كان الأمير حسن حائزا «محظوظية» السلطان الكبرى، علاوة على كونه ابن أمير مصر، ومن ضباط الجيش الألماني، فإن محمد علي باشا قائد عموم القوات العثمانية لم يتردد لحظة في تسليمه قيادة ذلك الجناح، على أنه كان يأمل أن يتخلى الأمير الشاب، الغير زائد عمره على ثلاثة وعشرين عاما عن الإمرة الفعلية للقائد المحنك الجنرال صالح باشا.
وكان غرض صالح باشا هذا دحر الروس من (پوپ كوي)، بينما تقوم فرقة الجنرال ثابت باشا، المعسكرة على الأعالي، (بين بكيرين يني كوي)، (وقره حسن كوي)، بتهديد خط الرجعة عليهم من (بييلا)، وقذفهم على طريق (ترنوڨا).
ففي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم السادس من سبتمبر هاجم صالح باشا (پوپ كوي) بعنف، وسلط بطارياته على القرية، فتناولت مقذوفاتها صفوف البيادة الروسية، وفتكت بها فتكا ذريعا، وزحفت البيادة التركية في الوقت عينه تحت حمى المدفعية بنظام حسن إلى (پوپ كوي) من اليمين ومن الشمال، فاضطر العدو أن يتقهقر إلى وراء القرية، وأخذ ينسحب من (پوپ كوي)، كما انسحب من (قره حسن)، ولولا أن الأمير حسن أوقف القتال في ذلك الوقت لأسباب لا نعرفها لحل بالروس مصاب جلل.
وفي اليوم التالي 7 سبتمبر شرع الروس ينسحبون من (پوپ كوي) وضواحيها ويتقهقرون إلى (بييلا)، وإذ كان لدى صالح باشا كل ما يلزم لينقض على مؤخرتهم، ويصيبهم بأذى بليغ، أقبل يجهز الهجوم، فأمر الأرط بالاستعداد للزحف، والمدفعية بالاستعداد للضرب، ولكن الأمير حسن ما فتئ مترددا، يأبى مفارقة مواقع سارنا سوفلار، لاعتباره إياها في منتهى الجودة، وأسفر تردده في نهاية الأمر عن منعه كل إجراء وهجوم، فتمكن الروس من الانسحاب بسلام وطمأنينة إلى (بييلا)، بأسلحتهم ومهماتهم، ولكن الجند التركي طفق يتململ، وأخذت السخيمة تغلي في صدره، كلما حملته بداهته الفطرية على أن يتساءل لماذا يمنعه قواده من الانقضاض على العدو المنهزم.
7
على أن التاريخ لا يدري - لغاية هذا اليوم - ما هي الأسباب التي حملت الأمير حسن على سلوك المنهج الذي سلكه، لا سيما أن الجنود المصرية، وهو على رأسها، أبلت فيما بعد بلاء حسنا في سلستريا وغيرها، وما فتئت تقاتل ببسالة إلى أن وضعت الحرب أوزارها، فعادت إلى أوطانها.
8
وقد كلفت هذه الحملات المصرية الثلاث المرسلة إلى الخارج، بناء على دعوة الباب العالي، نيفا وثلاثة ملايين من الجنيهات على الخزينة المصرية، في وقت كانت البلاد في أشد الاحتياج إلى تلك النقود.
الجزء الرابع
السحاب في السماء
الفصل الأول
السحاب في السماء
إذا تم أمر بدا نقصه
توقع زوالا إذا قيل: تم!
إجمال
1
إن تنفيذ الخطة التي رسمها (إسماعيل) لنفسه، يوم ارتقى عرش جده وأبيه، بالكيفية التي شرحناها في الجزء السابق، استلزم مصاريف جمة للتمكن من إزالة جميع العقبات - أيا كان نوعها وسببها - من الطريق المطروقة منه.
فمسألة ترعة السويس وأشغالها كلفت الخزينة المصرية والشعب المصري أولا وآخرا، نيفا وسبعة عشر مليونا من الجنيهات، بما في ذلك نفقات الاحتفال بالفتح.
والترع المحفورة كلفت ثلاثة عشر مليونا تقريبا.
والسكك الحديدية الممدودة، بما فيها سكة حديد السودان، كلفت ما يقرب من ثلاثة عشر مليونا ونصف.
وميناء الإسكندرية كلفت ما يقرب من ثلاثة ملايين.
وأحواض السويس كلفت ما يزيد على مليون ونصف.
والتلغرافات والفنارات معا كلفت فوق المليون.
والشركة الزراعية المنشأة لترويج الزراعة المصرية، وما ماثلها كلفت مليونين.
وجلب المياه إلى الإسكندرية وتوزيعها عليها كلف نحو نصف مليون.
والمباني والتحسينات والإنشاءات الأخرى، من أحياء ومسارح وغيرها بمصر والإسكندرية، وتنوير البلدين والسويس بالغاز - كل ذلك كلف ثلاثة ملايين.
والكباري المنشأة كلفت مليونين وأكثر.
ووابورات السكر والورق وخلافها، وتأسيس العزيزية كلف نيفا وستة ملايين.
والسفن الخديوية ومراكب بخارية أخرى كلفت مليونا ونصفا تقريبا.
ومشترى البوستة والمكتبة الفاضلية كلف نحو مائة ألف جنيه.
وطاعونا المواشي والخيل، والغلاءات المتتابعة، حملت الخزينة المصرية خسارة قدرها أربعة ملايين تقريبا.
وديون القرى استغرقت نيفا ومليونا.
وصرف على تحسين الجيش، ومشترى مدافع وبنادق له مليونان.
وأنفق على حملتي الحبشة وحملات السودان مليونان وأكثر.
وأنفق على الحملات المرسلة إلى الخارج لمساعدة تركيا ما يقرب من ثلاثة ملايين.
وأنفق على المدارس ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف.
وبلغ ما خسرته الخزينة بسبب قطع الحواجز لإنقاذ أطيان الفلاحين من الغرق مليونا.
وزادت الخسارة الناجمة عن شركة البواخر النيلية على مائة ألف جنيه.
ودفع للحصول على فرمان تغيير مجاري الوراثة، حسب تقدير المؤرخ الألماني، فون ها استفان، ثلاثة ملايين.
وقدر بعضهم ما دفع لرجال الأستانة والسلطان، وما صرف في ولائم وهدايا لهم للحصول على باقي الفرمانات وامتيازات الاستقلال الداخلي التام المذكورة في سياق حديثنا السابق، ما يقرب من سبعة وثلاثين مليونا، فإذا استعظمنا المبلغ، وأنقصناه، فلن يكون ما صرف في هذا السبيل أقل من ثلاثين مليونا.
فمجموع ذلك مائة وثلاثة عشر مليونا وسبعمائة ألف جنيه. •••
وربما أفاد هنا أن نضع أمام أعين قرائنا، إزاء هذا المبلغ الجسيم، المقارنة الآتية بين حالة القطر العمومية حينما ارتقى (إسماعيل) عرشه، وبينما حينما تخلى عنه:
سنة 1863
سنة 1879
فدن
فدن
عدد الأطيان المزروعة في القطر
4052000
5425000
جنيه
جنيه
قيمة الواردات
1991000
5410000
قيمة الصادرات
4540000
13810000
قيمة الإيرادات
4937000
8562000
عدد
عدد
المدارس
185
4817
أميال السكك الحديدية
275
1185
أميال الأسلاك التلغرافية
630
5820
أميال الترع
44000
52000
الكباري
10
408
المنارات
1
18
السكان
4832000
5518000
وذلك علاوة على ما لم يكن له وجود بالمرة، فأنشئ مما ورد ذكره آنفا. •••
وإذا أضفنا إلى المنصرف مبلغ 11585000 جنيه الذي دفع جزية إلى حكومة الأستانة من الخزينة المصرية في سني (إسماعيل) الست عشرة، كان جميع المنصرف من (إسماعيل) على الشئون المصرية البحتة، وفي مصالح مصر المحضة، مبلغا يزيد على مائة وخمسة وعشرين مليونا من الجنيهات.
وبما أن عموم إيرادات القطر المصري في تلك السنوات الست عشرة إنما بلغت مائة وستة عشر مليونا، باعتبار سبعة ملايين ومائتين وخمسين ألف جنيه سنويا على المتوسط، وهو متوسط مبالغ فيه، فإذا استنزلنا منها عموم المنصرف على الإدارة المصرية وفي شئون الحكم في تلك المدة عينها - وهو أربعة وستون مليونا وستمائة ألف جنيه، باعتبار ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف جنيه سنويا، لا أربعة ملايين، كما قرر السير كيف الآتي ذكره فيما بعد - فإن الصافي الباقي من تلك الإيرادات لا يكون إلا مبلغ اثنين وخمسين مليونا من الجنيهات، وهو قيمة ما دفع للأستانة فقط - أي أن هذا الباقي يقل ثلاثة وسبعين مليونا عما صرفه (إسماعيل)!
ولكنه كان لا بد من صرف ذلك المبلغ، بل وأكثر منه أيضا - لو أمكن الحصول عليه لتحقيق الخطة التي رسمها الأمير المصري لنفسه، لا سيما وأن جوف الأستانة لم يكن ليشبع.
فاضطر - والحالة هذه - إلى الاستدانة والاقتراض.
ولما كانت مصر من أغنى بلاد الأرض، وكان المشهور عن الأمراء الشرقيين، عموما، عدم التدقيق في المحاسبة، وعن (إسماعيل) على الأخص، سعة سماحة الكف، وعظم كرم النفس، فإن الماليين الغربيين، لا سيما اليهود، أظهروا من الاستعداد لإجابة جميع طلباته أغرب ما يتصوره الإنسان، بل بالغوا في بادئ أمرهم، في إغرائه على الاستدانة منهم إلى حد من المرغبات والمحببات يكاد لا يتخيله التصور، فتلا الاقتراض منهم الاقتراض، و(إسماعيل) في تلهبه الفائق لتحقيق أمنياته السامية لا يفكر في أن يعمل للأعباء المالية، ولكيفية تراكمها على ساعديه حسابا، ولا يرى من نفسه ميلا مطلقا إلى تقدير عواقبها، بفعل تربيته ومنبته ومركزه. فاستمر يجري في سيره السريع، وعيناه غير شاخصتين إلا إلى المرمى الفخيم الذي كان سيره يدنيه منه، ولا يهمه من أمره إلا أن يرى الذهب - الذي هو في حاجة إليه للوصول إلى ذلك المرمى - طوع بنانه دوما.
على أنه ليس أدل على معرفة مقدار المنافع والفوائد التي أصابها من جراء ذلك وسطاء الإقراض، من أن نذكر ما حكاه فرديناند دي لسبس عن نفسه حينما أراد فتح الاكتتاب بشركة ترعة السويس، قال: «كنت محتارا في أمري. فقال لي بعض الأصدقاء اذهب إلى روتشلد وهو يريحك، فعملت بنصحهم، وذهبت إلى ذلك المالي، فقال لي أجل، إذا شئت فتحت سلك الاكتتابات في مكتبي. فسألته وماذا تطلب مني؟ قال: يا سلام! أرى أنك لست رجل شغل، ماذا أطلب منك؟ المعروف المتفق عليه، أي خمسة في المائة. قلت خمسة في المائة على ثمانية ملايين، هذا ينتج أربعمائة ألف جنيه. كلا، كلا يا سيدي، إني أفضل أن أؤجر محلا بستين جنيها، وأباشر شغلي بنفسي.»
2
وليت الوسطاء بين (إسماعيل) ومقرضيه اقتصروا على الخمسة في المائة، بل ليتهم اقتصروا على ضعفها!
وكان الدهر قد وضع بجانبه، منذ طفوليته، إنسانا نما وشب وترعرع معه، فكان أدرى الناس بأميال روحه العظيمة، وتجردها من الاهتمام بالماديات إلا لتحقيق النفسانيات، فرأى أن يثري - وأيما إثراء - من موارد الثروة التي يستطيع أن يضع عينها تحت تصرف مولاه - ولو تعسر عليه السمن إلا من بؤس مواطنيه - فأقبل يتلمس تلك الثروة من كل باب، وشرع يملأ خزائنه بها، بينما هو يدفق المال، المتسنى له استخلاصه بكل تفنن من الجيوب إلى أيدي مولاه.
فأدى هذا وذاك إلى تراكم سحاب في سماء (إسماعيل)، ما فتئت الأيام تزيده تلبدا، كلما زادت في فؤاد الخديو حرارة الرغبة في تحقيق مساعيه.
وهذا هو ما سنشرحه مفصلا في الصفحات الآتية.
الفصل الثاني
سفر في تاريخ مصر المالي1
مات (سعيد) وعلى القطر دين سائر، ودين مقترض، يزيد مجموعهما على أحد عشر مليونا من الجنيهات ، وعليه فوق ذلك قيد الامتياز الفاحش الممنوح لشركة ترعة السويس.
2
فما لبثت أن أوجبت زيارة السلطان عبد العزيز للبلاد المصرية، والكوارث الطبيعية التي تلتها، وحملة العسير، فإقدام (إسماعيل) على بث روح الحياة في أعمال القطر قاطبة، وعلى إزالة ما في امتياز شركة السويس من جائر نفقات ومصروفات جعلت الخزينة المصرية تشكو العوز والضيق، بالرغم من الخيرات الكثيرة المتدفقة إلى البلاد من وراء ارتفاع أسعار القطن، وزيادة صادراته.
فكلف (إسماعيل) نوبار باشا بالسعي إلى عقد قرض جديد في الأسواق الأوروبية أثناء وجوده في باريس، للعمل على الفوز بالمطالب المصرية من شركة القنال.
فأقبل نوبار، في شهر يونية سنة 1864، على مخابرة المحال المالية في شأن ذلك القرض، واستمر في أخذ ورد معها مدة ثلاثة أشهر، حتى تمكن من إبرام عقد الاتفاق في 24 سبتمبر من السنة عينها، فتعهد بموجبه المتعاقدون بأن يدفعوا إلى الحكومة المصرية خمسة ملايين جنيه إنجليزي على أربع دفعات متساوية، تستحق في نوفمبر سنة 1864، ويناير وفبراير وأبريل سنة 1865، وأن تسدد لهم الحكومة المصرية ذلك المبلغ بفوائده، على خمسة عشر قسطا سنويا، قدر كل قسط منها ستمائة وعشرون ألفا ومائتان وأربعة وتسعون جنيها، وأن تكون إيرادات مديريات الدقهلية والشرقية والبحيرة ضمانة لذلك، وتحول رأسا إلى الدائنين.
والذي استلفت الأنظار في تحرير هذا العقد، بادرة ذكرت فيه، أشارت من طرف خفي إلى رغبة البلوغ، إلى الاستقلال، المتقدة في قلب (إسماعيل)، فبينما اشترط في المادة الرابعة منه وجوب حصول المقترض على رضى السلطان، كما كان ذلك مشترطا في عقد القرض الذي أبرمه (سعيد باشا) في سنة 1862، فقد اتفق من جهة أخرى على أن يكون المرجع والحكم فيما قد يحدث من منازعات أو خلافات بسببه إلى (إسماعيل)، بدلا من أن يكون للصدر الأعظم، كنص قرض سنة 1862.
ثم تلا هذا القرض، القرض الذي عقده (إسماعيل) لنجدة المزارعين المصريين في الأزمة التي أصيبوا بها على أثر نزول أسعار القطن نزولا فاحشا عقب وضع الحرب الأمريكية الأهلية أوزارها، وبلغ نيفا وخمسة وثلاثين مليونا من الفرنكات، وقد سبق لنا بيانه في غير هذا المكان.
غير أن ما أنفق في سنة 1865 على مقاومة الكوليرا، والثلاثة الملايين التي دفعت في سنة 1866 للحصول على فرمان تغيير مجاري الوراثة، والعشرة الملايين من الفرنكات التي استرد بها تفتيش الوادي من شركة ترعة السويس، وما أنفق أخيرا في تجهيز الحملة إلى كريت، وتسفيرها وإقامتها من جهة، وما اعتاده (إسماعيل) من الإنفاق عن سعة، والإكثار من دواعي الترف، ومظاهر العز والعظمة حول عرشه، وتوسيعه قصوره وحدائقه، وإنشاؤه منظرة الجيزة بالقرب من الأهرام، واقتناؤه في دار السعادة عينها سراي الأميركون البديعة، وإسرافه على إعدادها وتجهيزها، إعدادا وتجهيزا فائقين من جهة أخرى - كل ذلك جعل الخزينة المصرية، وخزينة الأمير الخصوصية في حاجة إلى نقود، بالرغم من زيادة الإيرادات، ومن سلفة الخمسة الملايين الأخيرة.
وكان (إسماعيل) يتوقع ذلك الاحتياج قبل حصوله.
لذلك رأى، وهو في فيشي، أن يتدبر للطوارئ قبل حدوثها، شأن المتبصر في العواقب، فاستدعى إليه نوبار باشا وكلفه بالسعي إلى عقد قرضين جديدين يكونان شخصيين، وتكون ضمانتهما السكك الحديدية - وكانت ملكا خاصا للأمير - وأملاك (إسماعيل) الشخصية الأخرى، أي دائرته السنية.
فجد نوبار حتى تمكن في 17 أكتوبر سنة 1865 من عقد القرض الأول مع محل «أپنهايم نيڨيه» قيمته ثلاثة ملايين من الجنيهات الإنجليزية، وضمانة سداده السكك الحديدية.
وكانت تعليمات (إسماعيل) تقضي بأن يكون معدل الفوائد ثمانية أو تسعة في المائة سنويا، ولكنهم وجدوا، عند فحص حساب التقسيط، أن معدلها يبلغ أربعة عشر في المائة تقريبا.
فاستاء (إسماعيل)، وامتعض من نوبار، وضاعت ثقته في كفاءة هذا الوزير للأمور المالية.
ولكن الفريقين المتعاقدين بعد أخذ ورد عنيفين، وبعد أن تشبث كل منهما برأيه: هذا أن العقد باطل وملغى، وذاك أنه صحيح وواجب التنفيذ، اتفقا في نهاية الأمر على إلغائه وإبداله بعقد آخر، عرف بعقد 5 يناير سنة 1866، أقرض (إسماعيل) بمقتضاه ملايين الجنيهات الثلاثة السابق الاتفاق عليها، بسندات السكك الحديدية، تضمنها المالية المصرية، وبمعدل ستة في المائة سنويا، على أن يسدد ذلك جميعه على ستة أقساط سنوية متساوية، ابتداء من أول يناير سنة 1869.
فأصدرت تلك السندات، وابتاعها محل «أوپنهايم وشركائه» بمبلغ مليونين وستمائة وأربعين ألف جنيه إنجليزي، على أن يدفع نصف المبلغ نقدا، ويقدم بالنصف الآخر أدوات سكك حديدية، يكون له عليها عمولة معدلها خمسة في المائة.
أما القرض الثاني - قرض الدائرة السنية - فبعد تزاحم بنك الأنجلو، ومحل أوپنهايم وشركائه على عقده، فاتفاقهما على عقده معا، فانسحاب محل أوپنهايم في آخر لحظة، بل في دقيقة التوقيع عينها، بناء على إشارة برقية وردت من باريس إلى النائب عنه في العباسية بمصر، حيث كان الاجتماع معقودا في كشك أنشأه الأمير حديثا، وبعد قبول الأنجلو القيام به وحده، على أن يكون ثلاثة ملايين وثلاثمائة وسبعة وثمانين ألفا وثلاثمائة جنيه أوراقا مالية، بفائدة سبعة في المائة، ولا يقرض نقدا في الواقع سوى ثلاثة ملايين فقط، وتكون مدة التقسيط خمسة عشر عاما، وضمانة السداد تحويل إيرادات أملاك (إسماعيل) الخاصة إلى الدائنين، وتوقيع رهنية على ثلاثمائة وخمسة وستين ألف فدان، ألحق كشف ببيانها بعقد القرض عينه، وبعد طرحه في السوق لتغطيته، والفشل في ذلك، لعدم تغطية سوى سبعة ملايين من الفرنكات من الخمسة والسبعين مليونا المطلوبة، ورجوع الأنجلو على الدائرة السنية لإجبارها على استرداد السندات غير المكتتب بها - بعد ذلك جميعه، قر الرأي في نهاية الأمر بين حافظ باشا ناظر الدائرة السنية عن الأمير، ومالي يقال له المسيو تشرنسكي، على أن هذا المالي مقابل قيام (إسماعيل) بإيداع ما قيمته مليون وخمسمائة ألف جنيه إنجليزي من تلك السندات في البنك العقاري في باريس، يضع تحت تصرف الدائرة السنية اثنين وعشرين مليونا وخمسمائة ألف فرنك، منها اثنا عشر مليونا وخمسمائة ألف فرنك في نوفمبر، وعشرة ملايين في ديسمبر سنة 1866، مقابل عمولة قدرها واحد ونصف في المائة، تستقطع عند صرف كل من القسطين، وفي نظير فوائد قدرها عشرة في المائة سنويا، على أن يسدد رأس المال والفوائد في 31 ديسمبر سنة 1867، وإلا بيعت ضمانات السداد.
ولكنه ما أتت سنة 1868 إلا وكان الحصول على فرمان 8 يونية من السنة السابقة المانح (إسماعيل) لقب «خديو»، وإقامة قسم المعرض المصري في معرض باريس العام، وزيارة (إسماعيل) للعاصمتين الفرنساوية والإنجليزية، وما أحاط تلك الزيارة به من مظاهر الترف والبذخ ليجعل مركز مصر سنيا، ودرجتها رفيعة في الأنظار، وما أنفقه بعد ذلك في الأستانة، لإظهار ولائه للسلطان، ولاستصدار فرمان سبتمبر سنة 1867، الموضح ما غمض في فرمان 8 يونية السابق، من الامتيازات الممنوحة، قد أدى إلى ضيق في المالية، ارتفع معه معدل الخصم إلى 16 في المائة، وبات من المحتم النظر في إفراجه.
فقر الرأي على اقتراض قرض جديد، ووافق (إسماعيل) على ذلك.
وما ذاع سر الرغبة فيه إلا وبرز محل أوپنهايم وشركائه على مسرح المعاملات، وتقدم ليكون واسطة في استصداره.
غير أن الفصل البارد الذي ارتكبه أثناء المخابرات في قرض السنة السابقة، كان لا يزال ينغل قلب (إسماعيل) عليه، فما وسع ذلك المحل إلا مراقبة تطورات المخابرات الجديدة عن كثب، لاغتنام أول سانحة تجيز تداخله، وخلا الجو لتشرنسكي - وكان نجاحه في إتمام قرض سنة 1866 قد جعله مقربا إلى قلب الخديو الأول - فكلفه راغب باشا، كبير الوزراء ووزير المالية في تلك السنة، بالسعي إلى إتمامه.
وكان راغب باشا هذا من الأسرى اليونان المسيحيين الذين أتى بهم (إبراهيم) الهمام أرقاء إلى مصر، فلما اعتنقوا الدين الإسلامي أعتقوا وأحسنت تربيتهم، (وهو والد إدريس راغب بك أستاذ الماسونية المصرية الأكبر)،
3
وكان في سنة 1868 شيخا جليل القدر، ضيق الفكر، ليس عنده من الحذاقة المالية إلا ما يتفتق له ذهنه من الحيل في سبيل تأجيل دفع المستحقات من أجل إلى أجل، ودفعها بعد ذلك نقطة نقطة. فلم يكن إذا بالمالي الذي يميز الغث من السمين في الارتباكات المالية، ولا بالرجل الذي يصح الاعتماد عليه في الشدائد.
وكانت الأقدار قد ساقت إليه، لسوء حظه، رجلا ألزاسيا أتى مصر قبل بضع سنوات، فتعين رئيسا لقلم قضايا وزارة الأشغال العمومية في عهد إسنادها إلى نوبار باشا، لشدة الاحتياج فيها إلى رجل خبير بالتشريع والقوانين، يمكن الوقوف بواسطة خبرته في سبيل مطامع الأجانب الذين يتعاقدون مع الحكومة، وغرضهم الحقيقي ليس إتمام عمل، ولكن التذرع بأية وسيلة لجعل الحكومة مسئولة عن عدم إتمامه، وإلزامها ثمت بتعويضات يثرون منها بسهولة.
وكان ذلك الإلزاسي على تمام درايته بالقوانين، تام الاستقامة، نزيه النفس، ذا ذاتية خاصة به، تميز ذكاءه عن كل ذكاء آخر، حسن المعاشرة، عذب المحادثة، محبا للكلاب، مغرما بالصيد والقنص، ذا دراية لا بأس بها بالطب البيطري، لا يحنف عن التنجيم أحيانا - وتصح معه صناعته - لطيف التنكيت والمزاح، فصيح اللهجة، حائزا - بالاختصار - كل ما كان من شأنه جعله محبوبا عند الخديو ومقربا إليه. وكان على قلة بضاعته في الأمور المالية، قد انتقل من وزارة الأشغال العمومية إلى وزارة المالية، فعهد الوزير إليه أمر الاهتمام بإتمام القرض الجديد، ووضع شروطه مع المسيو تشرنسكي.
ولكن ذلك الإلزاسي رأى أنه يستطيع تقديم خدمة إلى الخديو، أجل من الخدمة التي كلف بها، وأخذ على نفسه إتمام مخابرات خاصة ينشرح لنتيجتها صدر (إسماعيل) انشراحا كبيرا.
فشرعت الألسنة تتداول ذكره، وبدأت التخمينات تتضارب فيما عسى أن يكون العامل المالي الجديد العتيد ظهوره، فبعضهم يذهب إلى أن المخابرات دائرة مع «المصرف الشرقي»، وآخرون إلى أنها دائرة مع رجل يقال له (لاشيڨارديير) بالنيابة عن بيت «كارتريه» الشهير، وغيرهم يذهب مذهبا آخر، والكل على اختلاف مراكزهم من الوزير إلى آخر سمسار في البورصة يتطلع إلى إنهاء تلك المخابرات، ونجاحها بسرعة كلية.
وذلك لأن الضيق المالي كانت قد استحكمت حلقاته، وباتت النقود قليلة في السراي الخديوية عينها، وأمسى الحريم المصون نفسه في حاجة إليها - و(إسماعيل) مع ذلك مكب بكل ما أوتي من نشاط على إشباع رغبة التشييد والتعمير التي عادت نفسه ممتلئة بها إثر زيارته لباريس ولندره، مشدد في طلب الأموال من خزينة المالية، لتصليح الأزبكية، وتكييفها تكييفا جديدا، وإنشاء مضمار سباق للخيل، وإتمام حي الإسماعيلية، وفتح شوارع العاصمة الجديدة، وابتناء قصور في العباسية، والقبة، وعابدين، والجيزة، وتجاه جزيرة الروضة، وفي مصطفى باشا، وتزيينها بالرياش الفاخر، وهلم جرا - فبذل المتخابرون جهدهم حتى وصلوا إلى اتفاق أقروه، وللحال ذاعت في الأسواق والأوساط المالية أنباء عقد القرض المرغوب فيه، بين الوزير راغب باشا عن الخديو، وبين (لاشيڨارديير) عن محل كارتريه وشركائه (3 فبراير سنة 1868).
فنزلت أسعار الخصم من 16 في المائة إلى 12 في المائة، وبات تحسينها المطرد منتظرا من الجميع، لما أشيع عن اشتمال ذلك القرض على مزايا قل توقع نظيرها أو ما يضاهيها في عالم الاقتراض.
فتناقلت الألسنة أن المبلغ المقدم سيكون 645000000 من الفرنكات، لتوحيد عموم الديون المصرية (بما فيها دين السكة الحديدية، وما خلا أذنات القرى)، وأنه سيقسط على 41 سنة، باعتبار القسط السنوي 875 في المائة من الدين الاسمي، أي أن المبلغ الذي يجب على الحكومة المصرية دفعه كل ستة أشهر لا يزيد أبدا على 27343750 فرنكا، وأنه يدفع في أول يناير، وأول يولية من كل سنة، وأن العربون الذي يقدم فورا سيكون عشرين مليونا من الفرنكات. وأما ضمانات السداد، فعموم الإيرادات التي ما زالت حرة، والتي ستصبح حرة في المستقبل بعد سداد الدين الذي هي ضمانته، وأنه اشترط أن تنشئ الحكومة سجلا عاما للديون المصرية، وتضع له نظاما خاصا به، وتتعهد بأن لا تقترض في المستقبل إلا على قدر الزيادة في ميزانيتها السنوية.
غير أن المزايا النادرة ذاتها، المتفق عليها لمصلحة المقترض في ذلك العقد كان من شأن المبالغة الظاهرة فيها إلقاء الريب والشك حول إمكان توقيعه حقيقة؛ لذلك أخذ الخبيرون في الأمور المالية يتسارون بأنه لا بد من وجود مخدوع بين الطرفين المتخابرين، وأنه يصعب أن يكون ذلك المخدوع المحل المالي.
وما لبثت الأيام أن أظهرت أن همسهم كان على حقيقة، فإنه لما كلف الخديو الموظف الإلزاسي بدرس أوراق التوكيل التي قدمها (لاشيڨارديير) في أول المخابرات إلى وزارة المالية، والتثبت من حقيقتها، لمعرفة ما إذا كان محل كارتريه وشركائه قد خول وكيله المذكور حق التوقيع على العقد بالنيابة عنه أم لا، وأقبل ذلك الموظف على البحث عنها في ملف أوراق المفاوضات، وجد - وكل كيانه ينتفض وجلا - أن تلك الأوراق قد أخفيت، وأنه لم يبق لها من أثر، فأدرك في الحال أنه قد هزئ به، ونصب عليه وعلى موكله معا، وكاد يفقد رشده.
وشاع نبأ ذلك في الدوائر المالية، فأثار فيها عاطفة سخرية وقلق معا. ولما اطلع (إسماعيل) على الأمر استشاط غضبا، وصب جام سخطه على رأس وزير ماليته التعس راغب باشا، وعلى رأس ذلك الألزاسي المتداخل فيما لم يكن من اختصاصاته، وعزلهما من خدمته.
فمرض كلاهما مرضا كاد يودي بحياتيهما. واضطر الألزاسي بعد ما نهض من سرير أسقامه إلى مغادرة الديار.
فلما خلت وزارة المالية من شاغليها، رأى الخديو أن يقلد منصبها رجلا قريبا من قلبه، كان سبق له امتحانه في وظائف أخرى ذات مسئولية خطيرة، فوجده راجحا، وآنس منه ذكاء نادرا، وتفننا غريبا، وإخلاصا متناهيا في خدمته، فاستدعاه إليه، وعينه وزيرا لماليته.
وكان اسم ذلك الرجل إسماعيل صديق، ويعرف «بالمفتش» لسابق تقلده وظيفة التفتيش في الصعيد على أعمال دائرة الخديو الخاصة أولا، فعلى أعمال الحكومة المصرية.
وكان ابن والدين من فلاحي الوجه القبلي، عقليته عقلية فلاحينا المصريين، وأخلاقه أخلاقهم.
ولما كان أخا الخديو في الرضاعة، اختص (إسماعيل) بخدمته لذاته، منذ أن كان لا يزال أميرا، وما فتئ يقدمه في أعمال دائرته، ويرفع من درجته فيها بقدر ما كان يبدو له من الدراية والكفاءة إلى أن أبلغه أسماها، ثم نقله إلى خدمة حكومته، وما زال يرقيه فيها - وإسماعيل صديق يعمل على ما فيه مصلحة مولاه ورضاه قبل كل شيء، وفوق كل شيء - إلى أن بات أكبر المقربين من قلبه، وآمن المؤتمنين عنده.
وكان إسماعيل صديق هذا رجلا ماهرا في الواقع، ثاقب الرأي، أصيله، متفتق الذهن، يدري، كما لا يدري أحد غيره،كيف تستخرج النقود من مدافنها، وكيف يتوصل إلى تحقيق الرغائب ونيل الأغراض، لا يوقفه في سبيل إحراز رضا مولاه هاجس، ولا يهمه أن يرتكب دنية، بل ولا إثما، إذا كانت تلك الدنية وذلك الإثم يعززان مركزه، ويظهرانه في مظهر الرجل المخلص. وكان - علاوة على ذلك - هماما، نشيطا، يحب الشغل، ويلج أبوابه برغبة أكيدة، كما أنه كان كبير المطامع، شبقا نساء وأموالا ولذائذ.
فما استلم دفة وزارة المالية، إلا وظهر حالا، الفرق بينه وبين سلفه، وحل تشهيل الأعمال محل المطل فيها، والبت بسرعة في الأمور محل التخبط والتردد، ودفعت الأذنات المالية في أوقات استحقاقاتها بدون إبطاء، لإدراك الوزير الجديد ما في عمل ذلك من المصلحة لمركز الحكومة.
وبما أن إسماعيل صديق لم يكن، في بادئ أمره، خبيرا بالأمور المالية - وإن صحت تسميته ماليا ولادة - فإنه اتخذ أخصاء من ذوي الدراية فيها، وتلقى عليهم دروسا عملية جعلته في مدة يسيرة كفؤا لمقاومة أحذق عمال السلفيات ومتداوليها، ومناضلتهم، فلم يعد يوقفه وسواس، مهما كان نوعه، عن السوق مباشرة إلى ما يقصد من الأغراض، وبرع في ضروب المخاتلة براعة حملت بعضهم على إلباسه بحق قول القائل «إنما أعطيت الكلمة للإنسان لكي يخفي فكره.»
وظهر ذلك جليا للماليين الغربيين الذين استمرأوا حلاوة التوسط بين الخديو والأسواق المالية الأوروبية.
فما خلا الجو من لاشيڨارديير ومحل كارتريه إلا وتقدم المسيو تشرنسكي لإنهاء مسألة القرض الذي فشل، فدارت المخابرات بينه وبين الوزير الجديد. وفي الليلة ما بين 19 و20 أبريل انعقد في سراي الجيزة اجتماع حضره الخديو نفسه، وشريف باشا كبير وزرائه، وإسماعيل باشا المفتش، وحافظ باشا ناظر الدائرة السنية من جهة، والمسيو تشرنسكي، والمسيو باستري من جهة أخرى. وبعد تباحث جدي دام طويلا، انتهى بهم الأمر حوالي الساعة الثالثة صباحا إلى اتفاق تام، كانت نتيجته أن لسان البرق كلف بحمل بشائر انعقاد السلفة إلى محافظ الإسكندرية ومديري الأقاليم، وإلى الوسطاء المجدين في باريس للاستقراض أو الخصم.
وبناء على إشارة الخديو وقع المسيو تشرنسكي على العقد، فوضعه وزير المالية في جيبه، ووعد بإعادته إليه في الصباح، مختوما منه، لتقدم ساعات الليل، واحتياج الكل إلى راحة، وانفصل المتعاقدون وصدورهم منشرحة.
فلما كان الصباح اكتشف الوزير عيبا في شكل العقد، وحمل مولاه على نقض ما أبرم.
فكان ذلك أول تأثيرات المفتش السيئة في الشؤون العمومية، وهي تأثيرات توالت فيما بعد حتى أدت في نهاية الأمر إلى انحراف القلوب عن الخديو، بالرغم من استمرار نياته حسنة، وإلى خراب البلاد، بالرغم من كثرة الأسباب الموجبة عمارها.
فما علم محل أوپنهايم بفشل مسعى المسيو تشرنسكي إلا وتقدم خاطبا ود المالية المصرية، وعرض إقراض ثلاثة ملايين من الجنيهات، نصفها يدفع فورا، والنصف الآخر عند الاختيار.
ولكن الشروط التي عرضوها كان فيها من التقييد لحرية الخديو وسلطته ما حمله على رفضها، فتحول عن ذلك المحل مؤقتا، ورأى أن يشرك معه في الأمر مجلس النواب المنعقد إذ ذاك.
فبناء على طلب إسماعيل باشا صديق، وعلى أمر الخديو، اقترح رئيس ذلك المجلس العدول عن الاقتراض الخارجي إلى الاقتراض الأهلي، وحمل المجلس على قبول اقتراحه.
فقرر أن يكون القرض ثلاثة ملايين من الجنيهات الإنجليزية، وأن تسري عليه فوائد للمكتتبين فيه، بواقع عشرة في المائة سنويا، وأن يسدد ذلك القرض في بحر ثماني سنوات، بسحوب يانصيبية يبدأ بها بعد مضي ثلاث سنين على الإصدار.
ولكن الوزير أهمل أن يقدم ضمانة للسداد، فلم يقبل على الاكتتاب إلا نزر يسير، فرأى أن يشرك غير الأهالي مع الأهالي فيه، وأن يجعل القرض داخليا بدلا منه أهليا فقط، ولكنه أهمل أيضا تقديم الضمانات، فكان نصيب القرض الداخلي نصيب القرض الأهلي.
على أن وزير المالية لم ينتظر انجلاء نتيجته، بل أقدم تحت طي الخفاء على خصم أذنات مالية، بما بلغ مقداره مليونين من الجنيهات، ثلاثة أرباعها عند محل أوپنهايم، وبعض مصارف مصر والإسكندرية.
وفي الوقت عينه دبر مشتري مياه الإسكندرية بأذنات مالية أيضا، ودفع بها كذلك الباقي - وقدره ثلاثون مليون فرنك - من أصل المبلغ المحكوم به لشركة ترعة السويس.
فكانت نتيجة ذلك جميعه زيادة ما يقرب من مائة مليون فرنك على الدين السائر، وملء الخزينة مؤقتا بمبالغ تمكنت بها الحكومة من سد الطلبات الملحة الوقتية، وتمكن الخديو من الذهاب إلى رحلته الصيفية التي أشار الأطباء عليه بها للعلاج من الداء الذي ألم بحنجرته، وجيوبه ملأى ذهبا، يصرف منه على تحقيق رغائبه.
على أن الجريدة الرسمية لم تعلن خبر سفره إلا بعد ثلاثة أيام، في عددها الذي نشرت فيه ملخص المباحثات التي دارت في مجلس النواب على الحال المالية، وميزانية الحكومة عن العام القبطي سنة 1585، أي من سبتمبر سنة 1868 إلى سبتمبر سنة 1869.
ولما كان يتضح من تلك الميزانية أن هناك زيادة للحكومة في الإيرادات على النفقات تقدر بأكثر من ثلث مجموع تلك الإيرادات، فإن مجلس النواب أقدم على المناقشة، والتماس الإيضاحات عن ضيق المالية المزعوم، واضطرارها إلى الاقتراض.
فكلف ناظر المالية وناظر الداخلية بتقديم تلك الإيضاحات إلى لجنة يعينها المجلس خاصة لهذا الغرض، وقدماها في الواقع.
فرفعت اللجنة بها تقريرا إلى المجلس، اتضح منه أن مصدر الضيق إنما هو الدين السائر، البالغ قدره عشرة ملايين من الجنيهات الإنجليزية تقريبا، ومصدر الإحراج اضطرار الحكومة إلى سداده في الحال.
فاتفق المجلس مع وزير المالية على إبدال القرض الداخلي الذي فشل بضريبة سدس، تضاف من باب الاستثناء إلى مجموع الأموال المربوطة، وتحصل مدة أربع سنوات متواليات ابتداء من سنة 1584 القبطية.
ولما كانت قيمة هذا السدس، الإجمالية، لا تزيد على مليوني جنيه إنجليزي، اقترح الوزير إصدار قرض قدره ستة ملايين من الجنيهات الإنجليزية، يخصص فقط لسداد الدين السائر، بحيث لا يعود لذلك الدين من أثر في الوجود.
فصدق المجلس على ذلك، وشرع الوزير، حالا، يخابر محل أوپنهايم في تولي أمر إصداره، على أن يكون سداده على خمسة عشر قسطا سنويا، وتكون ضمانته إيرادات الجمارك، ورسوم الهواويس، والمتحصلات من المصائد، ومكوس الملح والمملحات إلخ - ومجموع مبالغها كلها مليون جنيه إنجليزي سنويا - وتعهدت الحكومة بأن تدفع للمتعاقدين كل ستة أشهر قسطا قدره 848595 جنيها إنجليزيا، فوائد واستهلاكا وجوائز يانصيب، وحظرت على نفسها عقد أي قرض جديد قبل مرور خمس سنوات.
على أن الوزير لم يقف عند هذا الحد، ولكنه في 4 يونية أمضى مع محل أوپنهايم ملحقا تعديليا للاتفاق الأول، ثم أمضى في 8 يونية ملحقا غيره رفع بمقتضاه مبلغ القرض إلى سبعة ملايين من الجنيهات الإنجليزية، ومد أجل السداد، فجعل واحدا وعشرين عاما، وزيد مقدار القسط السنوي فجعل 870042 جنيها إنجليزيا، وأضيف إلى الضمانات السابقة عوائد الأملاك والمواشي والسرج.
وأخيرا قر القرار النهائي في 7 يولية على أن يكون مبلغ القرض ثمانية ملايين من الجنيهات الإنجليزية، ومبلغ القسط السنوي 953297 جنيها مصريا، ومدة التقسيط الاستهلاكي ثلاثين سنة، وأبدلت ضمانة عوائد الأملاك بضمانة رسوم القبانة والملاحة النيلية. واتفق على أنه إذا أخذ محل أوپنهايم وشركائه على عهدته دفع مبلغ الثمانية الملايين، فإنه يكون حرا في ترتيب إصدار الأوراق المالية الجديدة إزاء الجمهور.
فكأن الوزير أراد من رفع مبلغ القرض من ستة ملايين إلى ثمانية ملايين أن يضع تحت تصرف الخديو المطلق مبلغ الفرق - أي مليونين من الجنيهات - لينفقه في دار السعادة، على تقديم مشروعاته في سبيل تحقيقها، وعلى إزالة العقبات التي قد تصادفها في طريقها.
وبما أن العملية كانت، في الحقيقة، في منتهى النفع للمكتتبين - لأن المائة فيها لم تكن في الواقع مائة، بل واحدا وستين وربعا فقط - نجح تصدير القروض نجاحا بينا في 16 و17 و18 يولية سنة 1868، وبلغ عدد المكتتب به أحد عشر مليونا وثمانمائة وتسعين ألف جنيه إنجليزي.
ولكنه بعد تصفية كل حساب لم يدخل منه في خزينة الحكومة سوى سبعة ملايين ومائة وخمسة وتسعين ألفا وثلاثمائة وأربعة وثمانين جنيها إنجليزيا، وذلك رفع معدل الفوائد من سبعة في المائة إلى
في المائة، وزاد على سابقة الديون المصرية ثمانية ملايين أخرى.
ولو أن الوزير اكتفى بما فعل لكان الشر يسيرا على جسامته، ولكنه عاد إلى إصدار أذونات مالية جديدة، حتى قبل الفراغ من تسليم سندات القرض الجديد.
وكان الخديو في تلك الأثناء مقيما في الأستانة العلية، يعالج نجاح مشروعه القضائي، ويجتهد في توسيع دائرة استقلال البلاد الداخلي.
على أن مساعيه في هذين السبيلين كلفته أموالا جسيمة، ابتلعتها العاصمة العثمانية فبلغ القلق في الأوساط المالية أشده، وباتت القلوب تشتهي بحرقة أن يقصر مدة إقامته في تلك المدينة الشرهة.
وكأنى به قد شعر باشتياق رعاياه إلى عودته، فاقتلع نفسه من وسط أسباب الغواية العديدة الحافة به، ورجع إلى القطر المصري في اليوم الثاني والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1868.
فاحتفلت الإسكندرية والعاصمة احتفالهما المعتاد بعودته، وأطلق في كل منهما مائة مدفع ومدفع، وأهدته والدته الجليلة ثلاث حوريات شركسيات، أرادت أن ينافس جمالهن السماوي جمال صبية يونانية اشتراها (إسماعيل) عينها ببيكوس بثمن خرافي، وكان من شأن حسنها الفائق، وتأثيره العميق في قلبه إثارة ثورة غيرة بين نسائه الأخرى، طول مدة السفر البحري من الأستانة إلى الإسكندرية، واضطر الخديو لاجتناب تكرار مثلها في سراي رأس التين أن يرسل تلك اليونانية رأسا إلى القاهرة.
وكانت أسعار السوق مستمرة في تحسينها الذي أعقب عقد القرض الجديد.
ولكن البوليس لكي ينال محظوظية عند الخديو، ويظهر لسموه تيقظه وسهره على حياته، أخذ على عاتقه إثارة القلق، فأقدم في شهر أكتوبر من السنة عينها على اكتشاف مكيدة، زعم أن حليم باشا دبرها لاغتيال ابن أخيه، فنصب شراكه، وبث زبانيته. وفي الثاني والعشرين من الشهر المذكور أعلن للملأ نجاح مسعاه، وتمكنه من القبض على المتآمرين على حياة مليك البلاد.
فاضطر (إسماعيل) إلى إبعاد عمه عن القطر، واتخذ في ذلك احتياطات، صبغتها النفاثات في العقد السياسية صبغة غير حقيقية، أدت إلى انسدال قتام على سوق الأوراق المالية المصرية.
فبالرغم من الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة عودة الأمير إلى القطر، ودامت أياما، وكلفت البلاد نيفا وستة آلاف جنيه في كل ساعة، وبالرغم من الاحتفالات البهية والمراقص التي تلتها بسبب حضور اللورد ناپيير أوڨ مجدلا، قاهر النجاشي تيودوروس، ليقلد سمو الخديو وسام نجم الهند الأكبر، وتصادف وجود والي الهند اللورد مايو في ذلك الوقت بمصر، وبالرغم من نجاح القرض، انتهى عام سنة 1868 والجو المالي مكفهر بمصر، لا سيما عقب نشوء الخلاف بين اليونان والدولة العلية بسبب الثورة الكريتية المستمرة.
ذلك الخلاف ما فتئ يتطور ويشتد، حتى بلغ منتهاه في أوائل سنة 1869، إذ باتت الحرب بين الدولتين قاب قوسين أو أدنى، وأخذت الجالية اليونانية الغنية والقوية بمصر تشعر باضطراب وارتجاج في حياتها المدنية، لدى تصورها اضطرار مصر إلى ولوج باب تلك الحرب، فيما لو شبت، وتأدية ذلك إلى نزاع عنيف بين وطنيتها الشديدة الاستعار ، ومصالحها المادية - من تجارية واستغلالية كثيرة - المتشعبة في القطر المصري .
فاغتنمت ألسنة السوء اكفهرار الجو المالي المؤقت لتذيع في الملأ على لسان بعض جرائد أوروبية أنباء إقدام الحكومة على عقد قرض جديد، عقب مصاريف الصيف الجسيمة في الأستانة العلية.
فرأى (إسماعيل) أن يهدئ روع بلاده المضطرب بدون سبب، فافتتح سنة 1869 بسلسلة أعياد واحتفالات باهرة، بينما كان جميع مستخدمي الحكومة الذين لهم معرفة باللغة الفرنساوية يشتغلون في نقل مؤلفات «أفنباخ» - مثل «العين المثقلة»، و«هيلانة الجميلة»، و«ثلاثاء المرفع»، وغيرها - إلى العربية ليتمتع برؤية تشخصيها ساكنات دور الحريم، ومن لم يكونوا يفقهون سوى العربية من اللغات.
وتوجت تلك الأعياد كلها بالمرقص العظيم الذي أقيم؛ احتفالا بعود يوم الجلوس المأنوس في سراي الجزيرة وبستانها، وكلف الكوبري المؤقت الذي أنشئ على النيل لخدمة العبور في تلك الليلة فقط ثمانية آلاف جنيه، فما بالك بالتكاليف الأخرى؟!
ثم أمر باجتماع مجلس النواب، وافتتحه في 28 يناير سنة 1869 بخطبة جميلة، شرح فيها أولا حالة الحكومة المالية، فمر بجميع الديون، التي عليها، وقال: إنها بعد أن كانت 22 مليونا من الجنيهات عند موت (محمد سعيد باشا) أصبحت في تلك السنة 17 مليونا فقط، بما فيها مبلغ القرض الأخير.
ثم توسع في تعداد الأعمال العمومية المفيدة التي تمت على يدي حكومته منذ ارتقائه العرش، ليبرر الأقراض المعقودة، فذكر السكك الحديدية المنشأة حديثا، وأحواض تصليح السفن، والأرصفة، والجسور والترع، والمسنوات (هواويس)، والمدارس على أنواعها، إلخ.
وأفاض أخيرا في بيان الإصلاحات العديدة المدخلة على تنظيم القوى البرية والبحرية وتسليحها بالأسلحة الحديثة.
وختم خطبته الجليلة بشكر العناية الإلهية التي ألهمته في شئون إدارته الداخلية تنفيذ أجزاء خطة السير الخمسة التي وضعها نصب عينيه عند ارتقائه سدة الأحكام تنفيذا تاما في جميع دقائقها، وهي: (1)
إلغاء السخرة. (2)
توسيع نطاق التجارة والزراعة. (3)
نشر التعليم العام. (4)
تعيين مرتب خاص لنفقاته الشخصية. (5)
الإصلاح القضائي، الذي أكد للمجلس أن جميع الدول الكبرى قد صدقت على مبادئه.
ولم يكن في جميع ما ورد في تلك الخطبة من شيء مخالف للواقع، إلا ما جاد به منجم إسماعيل صديق باشا، فإن الدين المخلف من (سعيد) لم يكن 22 مليونا من الجنيهات، ولا ما يقرب من هذا المبلغ الجسيم بالكلية، بل كان مائتين وتسعة وسبعين مليونا من الفرنكات فقط، أي ما يقرب من الأحد عشر مليونا ونصف من الجنيهات، ومبلغ الدين المصري في تلك السنة لم يصبح سبعة عشرة مليونا كما ورد في الخطبة ولكن ثلاثين مليونا من الجنيهات الإنجليزية.
على أن تأثير الخطبة على السوق المصرية كان حسنا للغاية، فعادت الثقة عن تزعزعها إلى ثباتها، وخلت أفكار (إسماعيل) من كل شاغل مؤقت إلا شاغل الاحتفال. (أولا) بمقدم البرنس أوڨ ويلز، والأميرة زوجته. و(ثانيا) بفتح ترعة السويس في أواخر ذلك العام.
ولكن ذينك الاحتفالين أعقبا ضيقا ماليا شديدا بسبب ما أنفق عليهما من أموال طائلة، نعم إن قرض سنة 1868 كان يساوي في لندن بفضل الضمانات الخصوصية التي أسند إليها 77، أي وحدتين فوق سعر إصداره، ولكن أذونات أي إفادات المالية آلت إلى نزول مستمر، وخصم المستحق منها بعد مرور شهر إلى بعد مرور أربعة وعشرين شهرا كان بمعدل
و14 في المائة.
ومع ذلك فإن إقبال الأسواق الأوروبية على مشتراها كان كبيرا بسبب ما حملت بهجة أعياد ترعة السويس من ثقة إلى القلوب.
فرأى الوزير إسماعيل صديق أن يغتنمها فرصة للحصول على جانب من النقود التي كان في احتياج إليها لدفع جانب من المستحقات التي أوجبتها احتفالات فتح الترعة.
فقدم إلى سوق باريس إفادات مالية بمبلغ مليونين وأربعمائة ألف جنيه إنجليزي بخصم معدله 12٪، واستحقاقات متسلسلة من 12 شهرا إلى 20 شهرا.
ولكن تسرعه في التقديم أيقظ مخاوف المشترين، فلم يكتفوا بطلب 14٪، بل حتموا أن يكون الدفع في باريس، وأن تتعهد الحكومة بعدم إصدار إفادات جديدة لمدة حددوها. وبما أن الوزير لم يكن ليرضى مطلقا أن يتقيد بمثل هذا القيد، أهمل مخابراته، ورجع عن غرضه.
غير أن المطالبة بسداد الديون التي أوجبتها الاحتفالات العظمى المنقضية ازدادت اشتدادا عليه، فاضطر، لكيلا يحرج مركزه، إلى ربط ضريبة جديدة مقدارها خمسة عشر قرشا صاغا على كل فدان يزرع، ما عدا أطيان الدوائر الخديوية - فإنها لم تكن تدفع ضرائب مطلقا - فاجتمع لديه من ذلك خمسمائة ألف جنيه إنجليزي - أي أقل من نصف المبلغ المطلوب - فأصدر للحصول على الباقي إفادات مالية جديدة، خصمها 22٪، بيد أن ذلك لم يجد نفعا، فالتجأ إلى وسيلة حال ضيقه دون إدراك فهمه عدم مشروعيتها.
وذلك أنه كان في بحر صيف سنة 1869، باع، نقدا، نيفا وخمسمائة ألف أردب بذرة قطن، على أن يسلمها بعد خمسة أو ستة أشهر، أي بعد بيع المحصول الذي كان لا يزال قائما على ساقه في الأرض.
فتربص المشترون ريثما تنقضي أشهر المهلة، ولكن ما أكبر ما كان اندهاشهم حينما تحققوا استمرار شون الحكومة خالية خاوية، بالرغم من بيع أقطانها، وحلول مواعيد التسليم، وذلك لإقدام الوزير على بيع كل ما وصل إليه من بذور القطن أولا فأولا، ونقدا نقدا، بدلا من تخزينه لتغطية تعهداته.
على أن بيع الشيء عينه مرتين، كان من شأنه وضع ذلك الوزير الخرب الذمة تحت رحمة مدائنيه. ولا شك في أنهم لو أرادوا مقاضاته لوجدوا إليها سبيلا واسعا، وتعضيدا حقا من صاحب الأمر الأسمى، ولكنهم لحسن حظ إسماعيل صديق المؤقت، وسوء حظ الحكومة المصرية كانوا أبعد الناس عن الإقدام على قتل الدجاجة ذات البيض الذهبي. وعليه، فإنهم اكتفوا بأن باعوا إلى الحكومة بسعر 78 قرشا صحيحا ما كانوا قد اشتروه منها بسعر 71 قرشا، ورضوا بأن تدفع لهم القيمة إفادات مالية، تسري عليها فوائد بواقع 12٪ سنويا، أي أنهم ربحوا في ذلك فائدة تعدل بثمانية عشر في المائة سنويا.
غير أن هذا جميعه لم يكن إلا تحايلا على التخلص من ضيق مؤقت ولم يكن ليرضي وزير المالية، لذلك أخذ يفكر في كيفية تمكنه من جمع مبالغ وافية، تعد بملايين الجنيهات. ورأى، بعد طول التدبر، أن خير وسيلة لنيل المبتغى إنما هي إجبار الأرض المصرية على تقديم قرض قدره خمسة عشر مليون جنيه، يوزع على مساحتها المزروعة، ما عدا أطيان الدوائر الخديوية (السنية)، باعتبار خمسة جنيهات عن كل فدان. ولما استقر هذا الرأي في تصميمه، طفق ينتظر، بفروغ صبر التئام مجلس النواب السنوي ليحمله على تقريره.
فالتأم ذلك المجلس كالعادة في أول فبراير سنة 1870، وكان الكل شيقا للوقوف على ما عساه يقال ويتم في جلساته، لأن الكل كانوا يتوقعون أن توضح خطبة الخديو حالة القطر الداخلية والخارجية، إيضاحا تاما، ويؤملون أن يجدوا فيها على الأقل تأكيدا صريحا بتسوية الخلاف الذي نجم مع الأستانة عن حفلات ترعة السويس، وبيانا لما تراه الحكومة في أمر مبلغ الضرائب، وتسوية الدين السائر.
ولكن الخطبة الخديوية لم تذكر من ذلك شيئا، واكتفت بشكر العناية الإلهية على ما أولت من نعم، وطلب معونة الله فيما ينوي من مشروعات خيرية، ثم أحالت النواب الراغبين في الوقوف على أعمال الإدارة على الوزارات المختصة، ووقفت عند ذلك الحد.
فكان وقعها في الأوساط المالية الأجنبية سيئا، لأن تلك الأوساط علقت على عدم تكلمها عن الحالة المالية ألف تعليق وتخرص.
فرأى المفتش أن يزيل التطير الذي أوجدته تلك التعاليق والتخرصات في القوم، فأذاع قرب وصول صر من الأستانة قدره أربعمائة ألف جنيه إنجليزي، من أصل ثمن المدرعات والبنادق ذات الإبر المسلمة إلى الباب العالي.
ولكن الإشاعة لم تجد تصديقا، وطار في البلد يقول «ما هذا؟ ذهب السلطان يسير إلى القاهرة؟ إن من يصدق هذا، يصدق أيضا أن ماء النيل يجري من مصبيه إلى منابعه.»
على أن الوزير أراد في الوقت عينه أن يضمن لنفسه مبلغا يكون وصوله إلى خزينته آكد من وصول تلك الأربعمائة ألف جنيه.
لذلك بذل ما في وسعه لجعل مجلس النواب يعتمد القرض الإجباري الذي ارتآه، ويطلب إجراءه مقابل اثني عشر إذنا سنويا، يقوم تقديم كل واحد منها مقام دفع الضريبة السنوية.
ولكن بالرغم من تصديق المجلس على طلبه، لم يمكن الوزير تنفيذ ذلك القرض الاغتصابي، لعدم استطاعة الأهالي تقديمه، وبعد تحصيل بضعة آلاف جنيه فقط، اضطر إلى العدول عنه.
غير أن الخزينة كانت فارغة، والطلبات ملحة، ودفع قطعية قرض سنة 1864 مستحقا في أول أبريل التالي، والاضطرار إلى النقود هائلا، فما العمل؟
فتمارس الوزير - أولا - في بيع عدة إفادات مالية تعهد بسداد قيمتها بعد ثلاثة أشهر، بفوائد قدرها 14٪، علاوة على نصف في المائة على سبيل العمولة.
ولكن هذا لم يجد، بل زاد الطين بلة، لأن مهلة الثلاثة الأشهر، فقط، جعلت الناس يتساءلون: «هل هذا يكون، من الآن فصاعدا، أقصى حد لثقة الماليين وأصحاب المصارف بالحكومة المصرية؟»
وزاد اضطراب السوق، وقلق الدائنين، وبات الوقت حرجا جدا للوزير
ولكن الرجل كان جسورا، مقداما، فرأى أن يدع جانبا كرامة المنصب السامي الذي هو فيه، ويتدنى إلى انتهاج أكثر الوسائل تلبسا بالمخاطرة، من المضاربة عينها.
غير أن المال ذاته اللازم للمضاربة المنوية كان يعوزه، فسعى حتى تحصل عليه بعمل عملاء موثوق برصانتهم وحذقهم، باع بواسطتهم كميات عظيمة من الإفادات المالية المتسلسلة الاستحقاق، من اثني عشر شهرا إلى ثلاثين شهرا، على أن يكون دفع ثمنها نقدا مقابل خصم ٪، ويكون تسليمها بعد ثلاثين يوما.
ولما بات المال المجموع هكذا في قبضة يده، كلف بعض المصارف بمشتري كل ما يعرض من إفادات للبيع داخل ستة أشهر، معينا بنفسه الإفادات التي يعرف أنها أخف من غيرها ثقلا، وأكثر، بالتالي قابلية للتحسين.
فكانت النتيجة مدهشة وتهافت الناس على بيع ما كان لديهم من تلك الإفادات فسقط معدل الخصم من 14٪ إلى 9٪. ولما شحت الإفادات ذات الاستحقاق القريب، اضطر أصحاب رءوس الأموال إلى مشتري الإفادات البعيدة الاستحقاق، لتجد لنفسها استثمارا، فتمكن الوزير بذلك من تسليم المشترين منه ما شاءوا من كمية الإفادات المباعة إليهم، واستمرت العمليات راجحة ناجحة، حتى نفر الناس من الطلب هبوط الأسعار المتجاوز كل حد.
ولكن اللعبة كانت قد تمت، والدين السائر الذي كان بالأمس موجبا قلقا لا يطاق، أجلت المطالبة به إلى ثمانية عشر شهرا، على أقل متوسط.
فلو أمكن تثبيت الأمور على هذا المجرى، وتقييد المستقبل بحيث لا يعود يثقل على الحاضر، كان ذلك منتهى الحذق والمأمول.
لذلك أخذت المخابرات بين المالية المصرية، والشركة المصرية العمومية التي أنشأها الخديو في باريس تروح وتجيء والآمال بالحصول على نقود منها تحيا تارة، وتموت أخرى ، حتى تغلب اليأس على الأمل، وبات لا يرجى من تلك الشركة خير.
فتحولت الأنظار عنها إلى محل أوپنهايم وشركائه، وكادت المخابرات معه تفضي إلى النتيجة المرغوبة، لولا أن شخصا يقال له هكتور بك، كان وكيلا بمصر لمحل بيشوفشهم، وجولدشمدت وشركائهما، وتمكن من نفس (إسماعيل) بحسن أساليبه، حال دون توقيع العقد، وحول الطلب إلى محل مخدميه.
ولما كان فرمان نوفمبر سنة 1869 يحظر في بعض منطوقه عقد أقراض جديدة على خديو مصر، اتفق الطرفان المتعاقدان على أن يكون القرض الجديد باسم الخديو الشخصي، وأن ترهن أملاك الدائرة السنية ضمانة لسداده.
وبناء على هذا الاتفاق، قدم محل بيشوفشهم وجولد شمدت للخديو مبلغا اسميا قدره سبعة ملايين ومائة واثنين وأربعين ألفا وثمانمائة وستون جنيها إنجليزيا، ونال مقابل ذلك امتيازا لتأسيس مصرف (بنك) يدعى «البنك الفرنساوي المصري»، كان الخديو نفسه أكبر مساهميه، واكتتب بربع أسهمه، أي بما بلغت قيمته ستة ملايين ومائتين وخمسين ألف فرنك، وقام مؤسسوه ببعض شئون تصدير القرض الجديد.
على أنه بالرغم من تصديره بواقع - ويقول بعضهم بواقع 70 فقط - وبالرغم من أنه بعد استبعاد المتعات والعمولات نزل صافي التصدير إلى 67، فإنه لم يغط سوى ثلثيه فقط، ولم يكتتب أحد في الثلث الباقي، فأوجبت الحال خفض أسعاره فيما بعد، وكانت نتيجته الصافية أنه بالرغم من كونه قرضا بفوائد قدرها 7٪، وواجبا تسديده بكمال قيمة تصديره الاسمي، إلا أنه لم ينتج للمقترض سوى خمسة ملايين من الجنيهات فقط، ورتب عبئا على إيرادات الدائرة السنية السنوية قدرها ستمائة وثمانية وستون ألفا وتسعمائة وستون جنيها إنجليزيا، أي ما يقرب من 13,38٪ من أصل رأس المال المدفوع.
على أن المرجع في عدم نجاحه بالرغم من الاحتياطات التي اتخذت لذلك كتكليف «الكمپتواردسكمپت»، أي «بنك الخصم» بمهمة إصدار معظمه، وإقدام توكيل هذا البنك بالإسكندرية على طلب زمرة قواصة من الحكومة لإقامتهم عند الحواجز التي أنشأها أمام محله، لحفظ النظام بين جمهور المكتتبين إشعارا بتوقعه ازدحام أقدامهم هناك، وكمجيء وزير المالية نفسه على رأس فئة من أصدقاء الحكومة، ليكتتب، فيكون مثله قدوة للغير، ويحيي خور تلك الحواجز ولو لحظة، بالرغم من أن الغرض الذي أذيع أن القرض معقود لأجله كان من أجل الأغراض، ألا وهو إنشاء معامل للسكر، وسكك حديدية زراعية لاستغلال المائة والخمسين ألف فدان المقدمة رهنا على سداد المال المرغوب في اقتراضه - أن المرجع في عدم نجاحه ربما كان إلى قيام بعض الصحف للتنديد به، وادعاء عدم مشروعيته، ومطالبتها الباب العالي، والمتعاقدين في قرض سنة 1868 إلى التداخل لمنعه، وإلى تداخل الباب العالي في الواقع، وإصداره أمره إلى القنصل العام العثماني في لندن بالاحتجاج عليه ومعاكسته.
وبينما الكل بمصر، من الأمير إلى أصحاب المصارف، وأصحاب رءوس الأموال، وجميع المشتغلين في الأمور المالية، مرتاحو الفكر، مطمئنو البال، يقضون أيامهم في أتم هناء، وبينما خصم إفادات المالية في أوائل شهر يولية لا يتجاوز ثمانية ونصفا في المائة، متى كان الاستحقاق قريبا، ولا يتجاوز عشرة في المائة في الاستحقاقات البعيدة، المتراوحة بين 24 شهرا و30 شهرا، وسعر قرض سنة 1868 الذي كان الإقبال عليه أكثر منه على غيره، يتراوح بين 83 و84، إذا بأنباء الحرب بين پروسيا وفرنسا دوت في الآفاق، وألقت الفزع في الأسواق المالية كلها.
ففي بضعة أيام سقط سعر القرض المرغوب فيه إلى 64 أي بنقص عشرين بنطا، وارتفع معدل خصم الإفادات المالية القريبة الاستحقاق إلى 30 و35 في المائة، ومعدل خصم الإفادات المستحقة بعد سنة فقط إلى 20 و22 في المائة، ومعدل خصم الإفادات المستحقة بعد 18 شهرا لغاية 30 شهرا إلى 16 و20 في المائة، فعم الضيق، واشتدت الأزمة.
فرأى إسماعيل صديق باشا أن خير ما يداوي به الحال الحرجة، ويحيي به الآمال، ويبقي الوثوق بالمالية المصرية محفوظا، هو إذاعة أنباء تفريج عتيد يوسع حلقات الضيق المؤقت.
فشرع يشيع تارة أن الحكومة عازمة على بيع سككها الحديدية إلى شركة إنجليزية يمثلها المستر فولر المهندس بمبلغ قدره عشرين مليونا من الجنيهات، وطورا أن المالية على وشك إجراء عملية بعيدة الأطراف تستبدل بمقتضاها الإفادات القريبة الاستحقاق بالإفادات التي لا تستحق إلا سنة 1873، فتصيب من وراء ذلك البدل ربحا قدره اثني عشر مليون جنيه، وإشاعات أخرى من هذا القبيل كان لها حقيقة وقع حسن، وأدت إلى ارتفاع سعر قرض سنة 1868 إلى 74.
هكذا تمكن من حفظ كفة التوازن، بينما وقائع الحرب تتوالى بسرعة صاعقية، تجعل عقد الصلح بين الدولتين المتحاربتين قريبا، لتمكن إحداهما من الأخرى تمكنا لم يرو التاريخ مثله.
ولكي يشعر الخديو العالم المالي كله بأن مركز مصر المالي أقوى من أن يتأثر تأثرا سيئا بالتماوجات البورصية التي أحدثتها، وما فتئت تحدثها تلك الحرب الشعواء، عقد قبل نهاية عام 1870، مع محل جرينفلد وشركائه الهندسي بلندن، العقد الذي كلف بمقتضاه ذلك المحل ببناء ميناء الإسكندرية.
وبينما الأشغال في إنشائها سائرة، عقد الصلح بين ألمانيا وفرنسا، وبات من المنتظر صعود أسعار الأوراق المالية.
ولكن التحسين لم يكن على نسبة المتوقع، ولم يطرأ في الحقيقة إلا على قرض سنة 1868، وأما الإفادات فبقي معدل الخصم فيها طوال فصل الصيف، متراوحا حول 14 في المائة، وهذا لم يكن ليدل على أن مركز مصر المالي في الأسواق الأوروبية مركز ثقة متينة.
فالحال باتت إذا حرجة، لا سيما أنه حتى خريف سنة 1871 كان جانب عظيم من قرض بيشوفشهيم لا يزال مكشوفا، بين أن جانبا عظيما من الإفادات المالية وأذونات الدائرة السنية كان يقترب من مواعيد استحقاقه، وأن عدم الدفع لدى الاستحقاق كان من شأنه القضاء على الثقة في كلتيهما، إلا إذا جددت تلك الإفادات والأذونات.
على أن تجديدها لم يكن بالشيء السهل، ولا إجراؤه ممكنا إلا بخسائر باهظة، وأما الدفع من الإيرادات العادية فكان متعذرا بالكلية، حتى لو لم يكن الوزير قد تصرف مقدما في ضرائب ذلك العام.
ولكن مهارة إسماعيل صديق المالية وتفننه لم يكونا لينكسرا أو يخورا أمام مثل هذه العقبات البسيطة، فجمع شتات فكره لحظة، ورأى أن الوقت آن لتحقيق فكرة استخلاص نقود كثيرة من الأرض المصرية، وهي الفكرة التي جالت في خاطره في أوائل العام الماضي، وحمل مجلس النواب على اعتمادها ومطالبة تنفيذها .
ولكن حيث إنها لم تنجح في شكل سلفة إجبارية، وجب وضعها في شكل جديد يضمن لها النجاح .
فأخذ إذا يعمل فكرته ويجهدها، حتى جعلها تجود بمشروع لم يسبقه أحد إليه، لا في العالم الغربي مهد التفنن المالي، ولا في العالم الشرقي مهد التفنن في المظالم.
ذلك المشروع هو «قانون المقابلة».
وما أدراك ما «المقابلة»؟ «المقابلة» دفع الضرائب المربوطة على الأرض المصرية عن ست سنوات مقدما، مقابل إعفاء هذه الأرض، فيما بعد، من نصف تلك الضرائب إلى الأبد.
فلما اختمر المشروع في فكره، جمع المجلس الخاص، وأقنعه بوجوب إجراء ذلك القانون، بعد تفهيم المصريين ما هو الغرض المقصود منه، وتحبيبه إليهم.
فاتفق رأي المجلس الخاص على رفع تقرير إلى الخديو يميط اللثام عن دواعي وضع ذلك القانون، وعلى نشر نبذة باللغة العربية، وتوزيعها في كل جهات القطر، لتوضيح المقصود من تلك «المقابلة».
أما التقرير فهاك أهم ما جاء فيه:
إن المجلس الخاص يرى أن حالة مصر المالية لا توجب القلق مطلقا، ولكنها تستلزم عناية سموكم من جهة مراعاة رخاء البلاد في المستقبل. ومن المعلوم أن الأسباب التي أدت بالخزينة العامة إلى شبه الضيق المالي هي:
أولا:
العجز المخلف عن سعيد باشا.
ثانيا:
الاشتراك في إنشاء القنال، والمصاريف الباهظة التي جر إليها ذلك الاشتراك.
ثالثا:
الأموال الجزيلة المصروفة في سبيل مقاومة طاعون المواشي، وملافاة مضاره.
رابعا:
الأشغال التي أجريت لترقية شئون الزراعة والتجارة.
خامسا:
وأخيرا الأزمة القطنية المسببة عن انتهاء الحرب الأمريكية.
فالبلاد لغاية الآن - بفضل الرخاء المنتشر فيها وفلاحها - تمكنت من القيام بمقتضيات العبء الثقيل الملقى على عاتق الخزينة، ولكن الفطنة تشير مع ذلك بالبحث عن دواء ناجع للمستقبل.
غير أن الوصول إلى اكتشاف الدواء يستلزم معرفة الداء، فأين هو الداء؟
الداء في سعر الفوائد المرتفع التي تدفعها حكومة سموكم، والتي تبلغ وحدها أكثر من نصف الإيرادات العمومية، فهل لا يستطيع الأهالي تحويل دفع هذه الفوائد إليهم بإقدامهم على مشتري رأس مال الدين؟ فإنه على قول وزير المالية يوازي ستة أضعاف مجموع الضرائب العقارية التي تتقاضاها حكومتكم سنويا من الأرض.
فليدفع الأهالي إذا ضرائب مضاعفة مدة ست سنوات ، والدين كله يسدد، وفي مقابل ذلك تعفيهم الحكومة إلى الأبد من دفع المبالغ المقدمة منهم لسداده على هذه الطريقة، أي أنها تعفيهم أبدا من نصف الضرائب المربوطة على أرضهم، وتجري ذكر هذا الإعفاء على حجج ملكيتهم.
وعلاوة على ذلك فإنه سيصدر قانون يضمن لهم
أولا:
أن الضرائب المنقصة على هذا النمط لن تعلى في المستقبل مطلقا، مهما كانت الظروف.
ثانيا:
أنه حتى تحت تأثير قوة قاهرة، كشرق أو غرق أو أشغال منفعة عامة، لن يجوز مطالبتهم، ولو بسلفة مؤقتة، إلا بعد التصديق على ذلك من مجلس النظار، ومجلس النواب.
وأما النبذة العربية التي وزعت في كل قرى مصر ومدنها، فإن أهم ما جاء فيها تفهيم الأهالي أن هذا المجهود العظيم المطلوب منهم إنما هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الوطن من مخالب المرابين الغربيين، الذين أدى تقاضيهم ربا فاحشا من الحكومة المصرية إلى ضيقها المالي المؤقت، واضطرارها إلى ربط الضرائب والمغارم الثقيلة حول أعناق الأهالي.
فصدق الخديو على تقرير مجلسه الخاص، واعتمده، وبعد أخذ رأي مجلس النواب، أمر بوضع قانون «المقابلة» وتنفيذه. وطفق إسماعيل صديق، نفسه، يطوف الوجه البحري كله مقنعا الأهالي بجودته وفائدته، محرضا إياهم وحاثا على نفاذه بكل ما في وسعهم، بينما كان شاهين باشا، وزير الحربية، يطوف الوجه القبلي للغرض عينه.
أما قانون «المقابلة» فخمس وأربعون مادة، لا بأس من ذكر بعضها لأهميتها.
فالمادة التاسعة والعشرون تقضي بأنه لا يسوغ لوزير المالية، بعد الحصول على جميع المبالغ المطلوبة إصدار إفادات مالية جديدة، ولا عقد أي قرض مطلقا.
والمادة الثالثة والثلاثون تقضي بإنشاء مجلس إدارة مالية يناط به وضع ميزانية عامة سنوية، مبنية على الميزانيات الخصوصية المرفوعة إليه من كل إدارة من إدارات الحكومة ومصالحها، تعرض على مجلس النواب، ولا تصبح تنفيذية إلا بعد تصديق سمو الخديو عليها.
والمادة السابعة والثلاثون تقضي بتعيين لجنة يناط بها تحصيل الدفع واستلام الأذونات والوصولات المقدمة إشعارا بالدفع.
والمادة الأربعون وما يليها من المواد تنص على أن المبالغ المحصلة تودع في خزينة خاصة تحت حفظ صيارف خصيصين، وتخصص فقط لاستهلاك الدين لا سيما الإفادات المالية التي يجب أن تكون أول ما يستهلك.
هذه اللجنة تحرر كل خمسة عشر يوما كشفا بالإفادات المالية، وأوراق الإقراض الداخلة خزنتها في هذه المدة، ويقوم وزير الداخلية بإحراق تلك الإفادات والأوراق المالية بحضور أعضاء المجلس الخاص، ثم يحاط العموم علما بمجموع المبالغ المتلفة هكذا.
والمادة الخامسة والأربعون تقضي بأنه إذا أعوزت النقود الخزانة الخاصة، فلم تتمكن من مواجهة سداد إفادات مستحقة، فلوزير المالية أن يفتح اعتمادا قصير المدى يسدد حالما ترد النقود إلى تلك الخزينة، حيث إنه لا يجوز له، عملا بنص المادة التاسعة والعشرين، إصدار إفادات مالية جديدة.
هكذا كان كل شيء مرتبا، مقننا، منظما، على ما ورد في الأمر العالي الذي صدر به ذلك القانون «لتحسين حال الحكومة المالية، وزيادة الرخاء والفلاح العامين، وضمانة للسير بالبلاد في معارج التقدم والرقي.»
وكان صدور الأمر العالي إلى وزير الداخلية بتنفيذ قانون «المقابلة» في أواسط شهر أغسطس سنة 1871، فما أتى آخر ديسمبر من السنة عينها إلا وقدر أن ما ورد بموجبه إلى الخزينة الخاصة بلغ خمسة ملايين من الجنيهات الإنجليزية.
هذا كان بدءا يبشر بخير نجاح، ولولا أنه علم أن معظم موردي ذلك المبلغ الضخم إنما هم كبار المزارعين والباشوات - لتحرر لهم وتسلم إليهم بسرعة حجج أملاكهم الجديدة، وهؤلاء إرضاء للخديو مولاهم - لأمكن بناء التفاؤل بنجاح المشروع نجاحا تاما على أسس متينة لا تتزعزع، ولكن الصعوبة كانت كلها في تحصيل الضرائب المضاعفة من صغار الملاك والمزارعين، وفي مقدرة هؤلاء على دفعها.
مهما يكن من الأمر فإن ذلك المبلغ كان كافيا لمشتري نصف الدين السائر تقريبا، وسداد استحقاقاته لغاية أبريل سنة 1872.
فعم الفرح دوائر الحكومة والقصور الخديوية والوزيرية، وأمكن القيام بالحفلات، والأعياد الشتائية المعتادة في سنة 1871، بأبهة وبهجة وبذخ فاقت مظاهره مظاهر كل ما رؤي من نوعها في السنوات الماضية، وافتخرت الأوپرا الخديوية والمسارح الأخرى، والهپودروم بحور وغادات، كأنها النجوم المتلألئة، شعت شعاعا غير معهود أخذ بمجامع الأبصار والقلوب والجيوب، فجرى الذهب من المالية وعابدين، كأن نهر الپكتول - نهر ليديا الذهبي الذي أثرى منه قارون ملكها - هو الجاري بالقرب منهما - لا نهر النيل - ولو أن النيل في يد حكم حكيم خير من ألف پكتول.
فنجم عن ذلك أن وزير المالية بالرغم من أنه تعهد تعهدا صريحا نشرته «الوقائع الرسمية» الصادرة في 13 أكتوبر من ذلك العام بأن لا يصدر إفادات مالية جديدة، تذرع بحرفية نص المادة التاسعة والعشرين من قانون «المقابلة» القاضية بأن إصدار الإفادات المالية يحظر عليه بعد الحصول على جميع المبالغ المطلوبة، لكي يبرر أولا في بحر شهر أكتوبر، ذلك عينه، إصدارين بلغ مجموعهما مليونين ونصفا من الجنيهات، بحجة أنه لم يرد بعد إلى الخزينة إلا قليل من الأموال المطلوبة، ثم في يناير ومارس ويونية من سنة 1872 إصدارات أخرى بلغ مقدار واحد منها فقط خمسة ملايين من الجنيهات، بحجة أنه لم ترد بعد إلى الخزينة جميع الأموال المطلوبة.
فاستدان بذلك ما بين 30 سبتمبر سنة 1871 وأول يولية سنة 1872، أي في ظرف تسعة أشهر فقط اثني عشر مليونا من الجنيهات الإنجليزية!
وليت الاستدانة كانت بإفادات مالية من نوع سابقاتها، فقد كان الشريكون أهون، لأن المشترط في الإفادات المالية السابقة كانت أن تدفع قيمتها بمصر أو الإسكندرية، فمتى حل الاستحقاق، وتعذر وجود نقود في الحال، كان الصراف يعطي نمرا ترتيبية للمطالبين المزدحمين على بابه، فيتمكن بفضل تباطئه المفتعل في الصرف، من كسب ثلاثة أيام أو أربعة أو خمسة، وتارة ستة، وربما لجأ الوزير إذا وجد نفسه مخنوقا بالمرة إلى طلب تجديد، قلما كان المطلوب منه التجديد يرفضه.
وأما الإفادات الجديدة، فقد اضطر تداخل رءوس الأموال الأوروبية في ماجريات الأمور المصرية إلى تغيير شكلها، والتزم الوزير، بعد أن أبدى مقاومة لم تجده نفعا، بقبول تحتيم دائنيه الجديدين، وتحويل تعهداته من إفادات إلى محض حوالات قابلة الدفع في لندن وباريس، بالرغم مما في ذلك من خسارة للخزينة، ومضايقة للحكومة، التي عدمت كل طريقة تحايل، وأصبحت مضطرة إلى الدفع في يوم حلول استحقاقه، وإلا صودرت قضائيا ، وهو ما أصبح من شأنه أن يسبب خسائر جمة للافتداء من ضيق مؤقت، علاوة على استدعائه عمولات ومصاريف باهظة.
وليت الخزينة وجدت في تخفيض خصم هذه الحوالات ملطفا ومخففا لبهاظة جميع الأعباء الناجمة عنها، ولكن الأمر كان بالعكس، وبلغ معدل الخصم فيها 14 في المائة سنويا!
فما أضر وجود رجل مثل إسماعيل صديق على دفة خزينة حكومة! وما أسوأه على سمعة مولاه الواثق به - وإن التمس للمولى عذر مما في قول الشاعر «وعين الرضا عن كل عيب كليلة» من حقيقة ناصعة!
وماذا كان الإصدار الذي قلنا إنه بلغ وحده خمسة ملايين من الجنيهات؟
كان عملية اشترك فيها محل أوپنهايم والبنك السلطاني العثماني، والبنكان الفرنساوي المصري (فرانكو إچپسيين)، والإنجليزي المصري (إنجلو إجپشن)، موضوعها إبدال إفادات قصيرة المدى بإفادات استحقاقاتها متسلسلة من سبتمبر سنة 1873 إلى مارس سنة 1876، وبلغت قيمتها بما فيها الفوائد بواقع 13 في المائة، والعمولة بواقع واحد في المائة ستة ملايين وخمسين ألفا من الجنيهات الإنجليزية.
ولكن ما الذي حدا بمحل أوپنهايم وشركائه المعروف بالرصانة والطمع معا إلى تحمل مبلغ جسيم كهذا، بدون تحتيم ضمانات ترتاح إليها المسئولية؟
الأمل!
فقد كان المتوقع بمجرد الوقوف على حركة مصروفات الحكومة المصرية، أن هذه الحكومة لن تبلغ شهر يولية سنة 1873 بكل جهد جهيد، إلا وترى نفسها مضطرة إلى توحيد دينها السائر مرة أخرى.
فكان يهم جدا، والحالة هذه محل أوپنهايم أن يضمن لنفسه عملية ذلك التوحيد، بأن يقيم نفسه مقدما في مركز يمكنه من وضع السكين على العنق في الوقت المناسب.
لذلك قبل تحمل مسئولية الملايين الخمسة من الجنيهات التي أنتجتها تلك العملية.
على أنه لم يكن في الحقيقة يخاطر مخاطرة كبيرة حتى فيما لو خابت، لأن باب إدخال قيمة الإفادات، التي قد يكون لا يزال حاملا لها، ساعة عقد القرض المستقبل، في هذا القرض عينه كان مفتوحا أمامه، علاوة على أنه كان في وسعه فيما لو لم توافقه شروط ذلك القرض العتيد، إما بيع تلك الإفادات، وإما المطالبة بقيمتها لدى استحقاقها.
ولم يكن يقع في خلد أحد حينذاك أن الثقة قد تعوز يوما ما الحكومة المصرية، وأن الأرض قد تنخسف بقواعدها بسبب ثقل الديون المتراكمة عليها، بل إن منظور ما كانوا يدعونه، منذ ذلك الحين، «بالقرض العظيم» كان يحمل جميع حملة الأسهم والإفادات بدون فرق على الثقة والاطمئنان، وكان الكل يتهافت على اقتناء كل تصدير، بحيث إن الدائرة السنية ذاتها بعد أن بقيت متنحية برهة، نزلت إلى المعمعان، ووضعت إمضاءها على أذونات بلغت ما ينوف على أربعة ملايين من الجنيهات، فيما بين نوفمبر سنة 1871 وديسمبر سنة 1872، وبحيث إن معدل الخصم هبط من 14 في المائة إلى
في المائة.
فنجم عن ذلك جميعه أن النقود أفعمت الخزائن والجيوب، وأن الخديو تمكن في الأسبوع الثالث من شهر يونية سنة 1872 من السفر إلى الأستانة، سفرته السنوية، وعينه قريرة وقلبه محط آمال يثق بتحقيقها.
وكانت أنباء عمليته المالية مع محل أوپنهايم قد سبقته إلى تلك العاصمة الجشعة، فلعلمها بمجيئه إليها مملوء الجعبة، استعدت لاستقباله استقبالا حافلا، وما وطئت قدماه أرضها إلا وأظهر له السلطان من الحفاوة فوق كل منتظر، ورحب به محمود باشا الصدر الأعظم ترحيبا بالغا.
ولما كان (إسماعيل) قد صمم على إجراء عمليته المالية العظمى التي كان الملأ يدعونها مقدما «القرض الكبير»، والتي حببها إليه وزير ماليته ووضعها في شكل العملية الوحيدة التي يمكن إنقاذ البلاد بها، أقبل من فوره يبذل الوسائل الذهبية التي تقضي في دار السعادة كل الأوطار، لينال الفرمان الذي يمنحه الحق في عقد ذلك القرض، ليس فقط، بل وينيله توسيع حدود الاستقلال وأبهة مظاهر الملك الحقيقي فنجم عن ذلك ما قد يأبى التاريخ تصديقه، لولا أن أكبر الثقات المعاصرين شهدوا بوقوعه، وهو ما سبق لنا بيانه في حينه.
على أنه حينما عاد إلى عاصمة بلاده، بعد فوزه بجميع مطالبه، وجد أنه لم يكن يمر شهر، بل أسبوع، بل نكاد نقول يوم على وزارة ماليته بدون إقدامها على عمل جديد. وبلغت قيمة ما جادت به قريحة إسماعيل صديق، في شهر نوفمبر وحده، بين عمليات مالية كبيرة، وصغيرة نيفا ومليونين ونصفا من الجنيهات، بمعدل خصم سنوي من 13 إلى
في المائة.
على أن الذي استلفت إليه الأنظار، في تلك العمليات لم يكن جسامتها على بهاظتها، ولكن ظهور أوراق مالية جديدة فيها كانت غريبة الغرائب، وأبعد ما ينتظر من الوقائع.
وما أدراك ما كانت تلك الأوراق المالية الجديدة؟
كانت حوالات على لندره بمبلغ 600000، يستحق دفعها بعد مضي سنة، بضمانة وإمضاء رئيس لجنة «المقابلة»، أي أن الوزير حول عملا وضع لاستهلاك عموم الديون المصرية إلى معمل إصدار ديون جديدة!
فأوجب الأمر في بادئه ترددا في السوق، ولكن ذلك التردد لم يمكث إلا لحظة وانقضى، لأن الجد لم يكن له من أساس في الأخلاق، فاستطاع الوزير في أيام ديسمبر الخمسة عشر الأولى تصريف أوراق من تلك الأوراق الجديدة الغريبة بما بلغت قيمته مليونا ومائتي ألف جنيه.
ولما رأى الريح موافقة أقدم على عمليات أخرى لحساب وزارته، وحساب الدائرة السنية، بلغت قيمتها المجموعة لغاية آخر ديسمبر نيفا وأربعة ملايين ونصفا من الجنيهات.
فلما كثرت الأموال على هذا المنوال، أقدم الخديو على تزويج أولاده الأمراء الثلاثة محمد توفيق (ولي العهد)، وحسين وحسن وابنته الأميرة فاطمة هانم، وأقام لهم مهرجانا لم تر مصر نظيره أبدا.
وكان الأمير حسن قد عاد من أوروبا من عهد قريب، فإن أباه أرسله أولا إلى أكسفورد، حيث قضى مدة في قسم كليتها المعروف «بكرايست تشرتش» (كنيسة المسيح)، وحاز منها في يونية سنة 1872 شهادة فخارية تعرف في تلك البلاد بشهادة
D. C. K ، واشتهر في مدة إقامته هناك بالولائم الفاخرة التي كان يولمها لزملائه وأصدقائه، وببهجة الملاهي التي كان يدعوهم إليها وكثرتها، ثم سار من أكسفورد إلى برلين، ودخل هناك بصفة ملازم ثان في فرقة الهوسار الپروسيانية، ثم غادرها بعد سنة، وعاد إلى مصر مؤقتا ليتزوج، وقد أنعم عليه برتبة القائمقامية الإكرامية.
وبينما احتفالات هذه الأعراس، وباقي الملاهي الشتوية سائرة في مجراها، كان الوزير إسماعيل صديق باشا مستمرا على المخر بسفينة الخزينة المسلمة إلى عهدته في المياه المضطربة التي ذكرناها، حتى بلغ دين الدائرة السنية السائر أربعة ملايين من الجنيهات، وبلغت ديون الحكومة السائرة ستة وعشرين مليونا، باستحقاقات يتوالى معظمها من مارس سنة 1873 إلى آخر مارس سنة 1874، ومن ضمنها حوالات بإمضاء رئيس لجنة «المقابلة»، وضمانته تبلغ قيمتها ثمانية ملايين ونصفا.
وكان الوزير يعلق آماله في سداد هذا الدين الهائل، الذي كانت فوائده بواقع 14 في المائة تقريبا، تبتلع أكثر من نصف الإيرادات العقارية على القرض العظيم العتيد.
ولكن أنى كان له أن يبرر ضرورته بعد انتهاكه حرمة التعهدات التي تعهد بها قانون «المقابلة»، وتعهد بها هو نفسه في عدد «الوقائع الرسمية» الصادر في 14 أكتوبر سنة 1871؟
مهما كان جبينه من نحاس، فإنه لم يستطع حمل نفسه على عمل ذلك بشخصه، وعليه فإنه بعد أن أشار على مولاه بعقد مجلس النواب، لنيل التصديق منه على ما جرى، رجا منه أن ينيط بشريف باشا وزير الداخلية أمر عرض الحال كما هي على تلك الهيئة النيابية.
فأمر المجلس بالالتئام، وفي جلساته المتوالية في شهري مارس وأبريل من سنة 1873 قام شريف باشا بالمهمة الثقيلة التي ألقي عبؤها عليه، إرضاء لمولاه، بالرغم من امتعاض نفسه.
فتلا على المجلس تقريرا وافيا من وضع إسماعيل صديق باشا، ذكر فيه «إن الأقراض المختلفة التي أقدمت الحكومة المصرية عليها لم تكن شيئا يذكر بجانب الأعمال المفيدة العظيمة التي أجرتها في البلاد، كإقامة الكباري والجسور والخزانات، ومد خطوط السكك الحديدية والتلغرافات وغيرها، ولئن بلغ الدين السائر خمسة وعشرين مليونا ونصفا من الجنيهات، فما شيء أسهل من تبرير الدواعي التي أوجبته فإن إنشاء ترعة السويس، وثمن الأسهم المأخوذة من الحكومة في شركتها، والتعويض الذي دفع لهذه الشركة بناء على تحكيم الإمبراطور نابليون الثالث، ومشتري الترعة الحلوة من الشركة عينها وتتميمها، ومشتري تفتيش الوادي منها أيضا - كل ذلك كلف الحكومة مبلغ ستة عشر مليونا وثمانمائة ألف من الجنيهات، وتصفية الشركتين الزراعية والعزيزية كلف ثلاثة ملايين ونصفا، وما صرفته الحكومة لمعالجة أضرار طاعون المواشي بلغ كذلك، ثلاثة ملايين، وما سددته عن المزارعين بما هو معروف باسم أذونات القرى بلغ ثلاثة ملايين أيضا، وما تنازلت عنه من الضرائب للمصابين بشراقي سنة 1865 وسنة 1867 بلغ مليونا ومائتي ألف جنيه، فالمجموع خمسة وعشرون مليونا ونصف، أي مبلغ الدين السائر وهو دين يستهلكه مع فوائده ما يرد أولا فأولا إلى الخزينة من جراء تنفيذ قانون «المقابلة».
على أن هناك أمرا جديرا بالاعتبار وهو أن قيمة مجموع الصادرات زادت على قيمة مجموع الواردات، منذ ارتقاء سمو الخديو عرش أبيه وجده، بما ينوف على سبعين مليونا من الجنيهات. فإذا علم أنه لم يدفع من هذا المبلغ الجسيم الذي دخل جيوب الأهالي سوى عشرين مليونا فقط لأوروبا لاستهلاك مبالغ الإقراض، كان مبلغ النقود الباقية في البلاد، مما ورد إليها من الخارج فقط، خمسين مليونا من الجنيهات. ومما يؤسف له أن البلاد لا تستفيد شيئا مطلقا من هذا المبلغ الهائل، لعدم استغلاله، فيجدر - والحالة هذه - بالمجلس الموقر أن يتخذ الاحتياطات اللازمة لملافاة هذا الضرر.»
وماذا كان إسماعيل صديق يقصد يا ترى من هذه الجملة الأخيرة التي ختم تقريره بها؟ أنيل التصديق، ضمنا، على القرض العظيم العتيد؟ أم أراد منها أن ترن في آذان الحائزين المزعومين لتلك الملايين الخمسة، بمثابة إنذار يزعج أعماقهم، ويذيب عزائمهم عن مقابلة ما سيستنبطه من الطرق لاستخراج ذلك المال من مدافنه بضروب واحتيالات من عندهم، لمنعه عنه، وحمايته منه؟
مهما يكن من الأمر، فإن شريف باشا بعد فراغه من تلاوة ذلك التقرير، تلى على المجلس أيضا ميزانية السنة المالية الجديدة، التي أولها 10 سبتمبر سنة 1873 وآخرها 10 سبتمبر سنة 1874، فعين المجلس لجنة لفحصها، ففحصتها في أربعة أيام، ورفعت عنها للخديو تقريرا موجزا، لا يتجاوز خمسة سطور، فوقعها الخديو، وأرفض المجلس في الحال، بعد أن بلغ عدد جلساته ستا فقط.
على أنه إن لم يكن هناك من شيء يستغرب له في أمر اعتماد لجنة مجلس النواب الميزانية الجديدة في مدة وجيزة، كالتي ذكرناها، لأن موادها كانت تقريبا مواد السنة السابقة بعينها، ما عدا بعض تعديلات طفيفة، فإن الأمر لم يكن كذلك في عدم انتباه اللجنة والمجلس معا إلى أن عجز الإيرادات العقارية في الميزانية الجديدة عن التي سبقتها بلغ ستمائة وخمسة وعشرين ألف جنيه. وبما أنه كان ناجما عن إعفاء الأطيان، التي دفعت ضعف الضرائب المطلوبة من نصف الضرائب المربوطة عادة عليها، تنفيذا لقانون «المقابلة»، فإنه كان يعني أن المال الذي ورد إلى الخزينة، ليكون «مقابلة» لذلك الإعفاء بلغ سبعة ملايين من الجنيهات.
فكان الواجب، إذا، أن يتساءل المجلس ويستقصي عما فعله الوزير بذلك المبلغ الهائل، وفيم صرفه؟ إذ إن الدين السائر الذي كان قبل إصدار قانون «المقابلة» نيفا وأحد عشر مليون جنيه، أصبح بعد إصدار ذلك القانون وتنفيذه خمسة وعشرين مليون جنيه ونصف مليون، وأن عشرة ملايين جنيه تقريبا، من هذه الملايين الخمسة والعشرين ونصف، كانت حوالات تعهدت بدفعها لجنة «المقابلة» أي لجنة الضريبة التي إنما قررت لسداد عموم ديون القطر المصري من المال المتحصل بموجبها.
ولكن المجلس لم يسأل، ولم يستقص كأن الأمر لم يهمه مطلقا، وكأنه لم يكن هناك للدفاع عن مصالح البلاد، فكان سكوته عن تصرفات وزير المالية الغريبة إما اعترافا منه بأنه لم يكن يفقه شيئا، حتى ولا المبادئ في الأمور المالية، وإما أنه يغطي، تحت رداء مسئوليته النيابية، مسئولية ذلك الوزير الوظيفية.
على أن كلا الأمرين ثبتا لدى إسماعيل صديق باشا، فرأى أن الجو أمامه خلا خلوا تاما لإنهاء مسألة القرض العظيم المنتظر، الذي بات الوسيلة الوحيدة للخروج من المأزق البالغ منتهى الحرج، والمسبب عن اضطراره إلى دفع فوائد قدرها 14٪ على مبلغ الدين السائر، فوق دفع فوائد الديون الثابتة.
على أنه كان لديه وسيلة أخرى للخروج من ذلك المأزق، وهي إشهار إفلاس الحكومة المصرية، وربما كان هذا، في تلك الظروف، أقل ضررا على البلاد من الإقدام على ما كان قد ثبت الإقدام عليه في تصميم الوزير. ولكن إسماعيل صديق لم يكن ليجد في مثل ذلك الإشهار الفوائد الشخصية التي كان يمني نفسه بها في عقد القرض.
فلكي يبرر عمله، أوعز إلى مشايعيه أن يهولوا بعظيم الفائدة التي تعود على المالية المصرية من وراء تحويل الدين السائر إلى دين ثابت، لما يوجبه هذا التحويل من وفر واقتصاد في سعر الفوائد المتقاضاة. ولما وثق بأن كيفية نظره إلى الأمور وقرت في النفوس، أقبل يخلق وسطا يكثر فيه حب استطلاع كنه القرض العتيد، والميل إلى الاشتراك فيه.
فشرع الناس يتساءلون كم عسى يكون مبلغ هذا القرض، فبعضهم يؤكد أنه لن يقل عن 40 مليونا من الجنيهات، وآخرون يزعمون أنه قد يزيد على ذلك، بينما غيرهم يذهبون إلى أن المصلحة قد لا تقضي باستلاف أكثر من خمسة وعشرين مليونا - أي المبلغ المطلوب لتحويل الدين السائر إلى دين ثابت - ويقول فريق آخر إنه قد يكون ذلك، ولكن على شرط أن لا يزيد مبلغ الدين السائر، فإذا زاد، زاد أيضا مبلغ القرض.
وبينما هذه الأحاديث تجعل النفوس قائمة قاعدة، كانت المخابرات بشأن ذلك القرض جارية مجراها على قدم وساق مع المحلات التجارية، وكان محل أپنهايم وشركائه في مقدمتها، طبعا، إذ آن له أوان جني ما زرع.
على أن إسماعيل صديق باشا، ليتمكن من انتظار يوم الوصول إلى الغاية، وهو في سعة من المال، عاد إلى إصدار إفاداته المالية، فصرفت الدائرة السنية منها، في ظرف سنة، ما قيمته 630 ألفا بخصم معدله 13٪ وتلتها «المقابلة»، فصرفت هي أيضا، ولكن في ظرف شهر فقط حوالات بلغ قدرها مليونا وستمائة وخمسين ألفا من الجنيهات بفائدة معدلها 12٪.
وبذا تمكن الوزير في أوائل أبريل من لصق إعلان في بورصة الإسكندرية، مؤاده استعداده لخصم كل إفادة مالية، وحوالة، وأي ورقة أخرى بواقع 8٪، على شرط أن تكون من المشترط دفعها بالقطر المصري، فكان من شأن ذلك تحسين معدل أسعار الخصم بسرعة، وتخفيفها بعد أن كانت قد ارتفعت من
إلى 11٪.
وبينما الأمور جارية على هذا المنوال، وردت من مصر إلى البورصة، عينها، إشارة تلغرافية في 19 أبريل منبئة بعقد القرض، وبلوغ مبلغه 25 مليونا من النقد منها 15 مليونا مدفوعة حالا ، والباقي عند الاختيار، بفوائد قدرها 9٪، وعمولة قدرها 1٪.
فصدق ذلك النبأ تصديقا أعمى، أدى إلى إقبال هائل على عمل عمليات على قاعدة
و10٪، ولكن الثقة بدأت تتزعزع في اليوم التالي، لعدم ورود تأكيد لخبر الأمس. وما لبث الملأ أن علموا أن المخابرات - إن لم يصح القول عنها إنها خابت كلية - قد أجلت على الأقل إلى أجل غير مسمى.
ثم انقضى شهر أبريل، وفي 17 مايو انتشر في البورصة خبر مؤداه أن وكيل الخديو بالأستانة أجرى عملية مالية مبلغها ثلاثة ملايين من الجنيهات، فتطيرت الأوساط المالية، وثبت لديها أن البت في مسألة القرض الكبير أصبح بعيدا.
ولكنها لو علمت أن هذا المبلغ لم يقترض لمواجهة الاستحقاقات المقبلة البالغ قدرها من أول يونية إلى آخر ديسمبر نيفا و24 مليونا من الجنيهات، ولكن لوضعه تحت تصرف الخديو في رحلته العتيدة إلى الأستانة، لما تطيرت ذلك التطير، ولأدركت أن القرض لا بد منه.
وفي الواقع فإن الخديو لم يكن ليستطيع الذهاب إلى الأستانة في غرض والمثول بين يدي السلطان، ووفاضه خال من نقود، فخصم وزيره، إذا، جانبا من حوالات لجنة «المقابلة»، عند بعض صيارفة «غلطه»، وسلم مولاه معظم المتحصل من ذلك الخصم، ثم صرف حوالات «مقابلة» أخرى بما قيمته مليونا جنيه، وأعطاه له أيضا.
وأما القرض - فسوى الآخذين مهمة إصداره على أنفسهم، والوسطاء الذين كانوا يأملون إصابة فوائد كبيرة من وراء توسطهم في عقده، وعلى رأسهم إسماعيل صديق باشا - فإنه لم يكن في وسع أحد الرضى عنه أو تحبيذه.
وذلك لأنه - والخديو في الأستانة يسعى إلى نيل آخر فرماناته - اتفق بين وزير المالية والراغبين في تصديره على أن يكون مبلغه الاسمي اثنين وثلاثين مليونا من الجنيهات الإنجليزية، وأن يسدد هذا المبلغ كله حقيقة في ظرف ثلاثين سنة، بعد دفع فوائد سنوية عليه قدرها 7٪.
وتعهد مصدروه أي محل أوپنهايم وشركائه بأن يأخذوا على عهدتهم الشخصية تقديم نصفه الاسمي، أي 16 مليونا بسعر 75، على ما قد يساوي من الثمن في 15 أكتوبر سنة 1875، أي أنهم قبلوا دفع 12 مليونا في الواقع ، وتعهدوا بأن دفعوا مقدما من هذا المبلغ بلندن 500 ألف جنيه في أول يولية سنة 1873، و500 ألف جنيه في أول أغسطس الثاني، ومليونا في أول سبتمبر، وأن يسددوا العشرة الملايين الباقية بلندن أيضا في 15 أكتوبر، على شرط أن يكون لهم الحق في دفع تسعة ملايين منها «أوراقا مالية»، أي ««إفادات مالية» و«حوالات مقابلة» من جميع الاستحقاقات، بخصم معدله 7٪، بدلا من الدفع نقدا - فكأنهم اشترطوا - والحالة هذه - وقبلت الحكومة شرطهم أن يشتروا مبلغ الخمسة الملايين التي قدموها في العام السابق، ويتخلصوا أيضا من أوراق مالية قيمتها في نزول مستمر، بما يوازي ذلك المبلغ تقريبا - وتعهدوا بأن يصدروا في الوقت عينه لحساب الحكومة المصرية اكتتابا بالنصف الثاني، أي بالملايين الستة عشر الباقية من قيمة القرض الاسمية، فإذا ما تجاوزها الاكتتاب العام، فالزيادة تكون للحكومة المصرية مقابل عمولة للمصدرين قدرها 3٪ من أصل تلك الزيادة الاسمية، تخصم أولا، ثم يكون الباقي موضوع خيار بسعر 75 أيضا.
واتفق على أن يعطي للمصدرين - علاوة على كل امتيازاتهم - مبلغ 60 ألف جنيه للمصاريف، وربع في المائة على عمليات القطع (كوپون) والسندات المستهلكة، وأن تتعهد الحكومة المصرية بأن تمتنع عن تصدير أي قرض عام آخر لغاية 15 يولية سنة 1875، على أن يكون لها الحق في إصدار عشرة ملايين من الجنيهات، تحت أسماء مختلفة، ما بين 15 يولية سنة 1875 و15 يولية سنة 1878 بشرط أن يصرف هذا المبلغ على أعمال تكون فائدتها عامة.
وأمام فوائد ومزايا للمصدرين - كالتي ذكرناها - كان من المؤكد أن يجد محل أوپنهايم وشركائه مزاحمين عديدين. وفي الواقع، فإن محلا فرنساويا آخر تقدم إلى الحكومة المصرية بشروط أحسن من الشروط المعروضة عليها، وإلى الوزير ووسطائه برشاو أجسم من التي منوا بها، وظن لحظة، حتى في نفس الليلة السابقة ليوم عقد القرض، أن المحل الفرنساوي المذكور يحل محل أولئك اليهود، وينتزع منهم امتياز الاختصاص بتصدير القرض.
ولكن النائب عن محل أوپنهايم وشركائه أبدى في تلك الليلة من التهديدات والتهويلات ما حال دون نجاح مزاحميه، ولاعتزازه بما أكسبته من خبرة العمليات المالية السابق لمحله عقدها مع الحكومة المصرية، بلغت به القحة مبلغا حمله على أن لا يبالي بأن يقول للوزير بتعال وتشامخ «إن ما للملأ من ثقة بماليتك إنما هو تحت رحمتنا، فإن عدلت عن الاتفاق معنا هدمنا تلك الثقة، وحلنا دون أن يهب أحد إلى مساعدتكم بسنتيم واحد.»
ولما كان يعلم من هو في الحقيقة ذلك الوزير، تركه بعد أن قال له ذلك، لينام بصحبته الخوف الذي أوجده في قلبه، وانصرف، وهو متأكد به من إسماعيل صديق باشا سيدعوه في الغد ليوقع العقد.
وقد كان!
فانعقد الاتفاق على ذلك القرض المشئوم في ساعة سوداء، وبالشروط والبنود التي ذكرناها، مقابل تقرير للضمانات الآتية:
أولا:
كل إيرادات القطر المصري العامة.
ثانيا:
إيرادات سكك الحديد في الوجه البحري، وقدرها 750 ألف جنيه.
ثالثا:
إيراد الضرائب الشخصية وغير المقررة، ومبلغه مليون جنيه.
رابعا:
إيراد المكس على الملح، ومبلغه 200 ألف جنيه.
خامسا:
مليون جنيه من المقابلة.
سادسا:
كل الإيرادات المؤمنة لسداد الأقراض الأخرى، حالما تصبح حرة، أي في الواقع كل مورد من موارد الحكومة التي يصح تأمينها بلا استثناء.
ولما كان مجموع إيراد هذه الموارد السنوي مليونين وتسعمائة وخمسين ألفا من الجنيهات، وكان المبلغ الواجب استهلاكه سنويا من أصل الدين، بما فيه الفوائد، مليونين وخمسمائة وخمسة وستين ألفا وستمائة وواحد وسبعين جنيها، كان الاتساع بين الرقمين خير ضامن لسهولة السداد، ومتانة الثقة به.
على أن باطن الضمانات المقدمة كان غير ظاهرها.
فالضرائب الشخصية - مثلا - وإن ذكرت في ميزانية سنة 1871-1872، فإنما ذكرت وعليها التأشير الآتي «هذه الضرائب الشخصية قد ألغيت بعد عرض هذه الميزانية.» وفي الواقع فإنها لم تذكر في ميزانية سنة 1872-1873.
والضرائب غير المقررة لم يكن لها أثر بالمرة، حتى ولا في الميزانية المصححة المنشورة في 3 أكتوبر سنة 1873، والمكس على الملح، فإنه كان من ضمن الضمانات المختص بها قرض سنة 1868، عملا بالبند الأولى من عقده. والمليون الناتج عن «المقابلة» لم يكن الاعتماد عليه ممكنا إلا لغاية سبتمبر سنة 1877، وذلك عملا بالمادة الثانية من قانون «المقابلة» عينها، المعين لتمام إجرائها مهلة ست سنوات. وأما القرض فنهاية استهلاكه سنة 1903.
ولا شك في أن اليهود الذين أخذوا على أنفسهم تصدير القرض بالضمانات التي ذكرناها كانوا أدرى الناس بحقيقة قيمتها الصحيحة، فإذا أقبلوا - بالرغم من ذلك - على تصديره، فلأنهم كانوا متعمدين السرقة تعمدا أكيدا، ولم يكن ليهمهم ما داموا يستردون من الحكومة المصرية الملايين الخمسة التي أقرضوها إياها في العام الماضي بأرباح هائلة، ويصرفون أيضا بما يوازيه، وبسعر جيد أوراقا مالية مصرية لا يستطيعون مطلقا تصريفها في أي سوق بذلك السعر، لم يكن ليهمهم أن يحرق دم الشعب المصري، ولا أن تعرض أموال المكتتبين المزمعين في القرض إلى بعض الضياع.
أما وزير المالية، فلم يكن هو أيضا ليجهل طبعا أن الضمانة الوحيدة الأكيدة التي يصح أن يرتكن إليها أصحاب أموال «القرض الكبير» العتيدون، إنما هي إيرادات السكة الحديدية لا غير، لأن ضمانة الإيرادات عينها، المؤمنة لسداد الأقراض السابقة الأخرى، حينما تصبح حرة، كانت وهمية أكثر منها صحيحة، وذلك لأن تلك الأقراض لم تكن لتسدد إلا في سنة 1892 وسنة 1898، ما عدا قرض سنة 1862 الذي كان يتم سداده في سنة 1879.
فإقدام إسماعيل صديق باشا على عقد اتفاق ذلك القرض المشئوم لم يكن ليبرر إلا بأن هذا الوزير أصاب من عمليته فائدة شخصية جسيمة، وأنه ربما أقدم على عمليته وهو موطن نفسه منذ ذلك الحين على أن يخرج مؤقتا من الورطة التي هو فيها، فيتمكن بذلك من سرقات جديدة ما استطاع إليها سبيلا، ثم يشهر إفلاس الخزينة المصرية، حينما لا يعود يجد في السداد بابا لانتفاع تال.
وإلا فإنه كان يعلم حق العلم أنه إذا اتخذت ميزانية سنة 1872-1873 قاعدة للميزانيات التالية، فإن الزيادة التي تقررت تعليتها على الجزية السنوية المربوطة سابقا، والمبلغ الذي يصبح دفعه واجبا سنويا في استهلاك القرض الجديد، وعجز النصف في إيرادات الضرائب العقارية، بسبب تنفيذ قانون «المقابلة»، كل ذلك إذا أضيف إلى المصروفات السنوية المقررة في تلك الميزانية أوجب عجزا سنويا قدره أربعة ملايين ونيف وربع مليون من الجنيهات - وهو عجز يتعذر استمرار الحكومة على احتماله.
وكان يعلم من جهة أخرى حق العلم، أن الدين السائر - وقد قدره هو نفسه بخمسة وعشرين مليونا من الجنيهات في شهر مارس المنصرم - كان قد ازداد في بحر الثمانين يوما التالية، بما صرف من حوالات «المقابلة»، أي بما بلغت قيمته سبعة ملايين ومائة وخمسين ألف جنيه، فأصبح ذلك الدين السائر اثنين وثلاثين مليونا على الأقل - وهو مبلغ لم يكن في الاستطاعة تغطيته بما يحصل من صافي القرض حتى لو حصل هذا الصافي كله، لأنه يستحيل أن يزيد على أربعة وعشرين مليونا من الجنيهات، في أحسن الاقتراضات، فكيف ولم يكن يصح لعاقل توقع تحصيل ذلك الصافي كله، لا سيما بعد التصريح لمحل أوپنهايم وشركائه بدفع تسعة ملايين، ورقا ماليا بدلا من دفعها نقدا؟
فالمعقول إذا هو أن الوزير إنما رأى في ذلك القرض الباهظ وسيلة للخروج من ضيق مؤقت بملء خزينته الشخصية دون مبالاة بالعواقب، وذلك لاعتماده منذ تلك الساعة على أن تكون العاقبة النهائية الإفلاس.
في هذه الظروف، وبتأثير الرغبة في السرقة عند المتعاقدين، أصدر محل أوپنهايم وشركائه «القرض الكبير»، موزعا على مليون وستمائة ألف سهم، قيمة كل منها عشرون جنيها إنجليزيا، بفائدة سبعة في المائة، وفتحوا قوائم الاكتتاب فيه يومي 29 و30 يولية سنة 1873 بباريس ولندن والإسكندرية وأمستردام وبروكسل وأنڨرس وچنيفا والأستانة، و64 مدينة من المدن الفرنساوية التي كان «للشركة العمومية» توكيلات فيها، بعد أن أعلنوا عنه مدة في كل جرائد المعمور، وبعد أن نشر في 22 يولية من السنة عينها، في «الوقائع الرسمية»، نص الفرمان الأخير الصادر من السلطان، ومصدق عليه من الدول، اطمئنانا للخواطر، ولكيلا يحول دون نجاح الاكتتاب خوف على المصالح المالية من نشوء خلاف بين مصر وتركيا كخلاف سنة 1869.
ولكن إما بسبب الاضطراب المالي الناشئ عن الخوف الفجائي الذي أسقط الأسعار إسقاطا فاحشا في أميركا قبل ذلك بأشهر، وإما بسبب أن سعر التصدير كان في البدء عاليا أكثر مما يصح ( )، فإن هذا القرض، الذي اشرأبت إليه الأعناق وانتظرته المضاربة أكثر من سنتين ، خاب خيبة تامة، بالرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت لإنجاحه.
فلم يغط منه إلا القليل من الزائد على ما كان يلزم لتغطية مسئولية مصدريه ، أوپنهايم وشركائه، ولم يصل منه نقدا إلى الخزينة المصرية في نهاية الأمر، وبعد تقلبات أسعار لا داعي لذكرها هنا سوى صاف يقرب من أحد عشر مليونا من الجنيهات، في نظير دين أركب على عنق تلك الخزينة قدره اثنان وثلاثون مليون جنيه، وسعر فائدته 8 في المائة سنويا.
وهو ما لم يرو ولم يسمع عن مثيله في تواريخ قروض العالم كافة، بل ولا في تواريخ الربا والمرابين قاطبة، بل لم يذكر في تواريخ العالم كلها أن شعبا وحكومته سرقا سرقة وقحة كهذه السرقة!
4
وعليه، فإن هذه السنة، سنة 1873، التي حصل (إسماعيل) فيها على فرمان 8 يونية، فأصبح بمقتضاه، فيما عدا الجزية السنوية المفروضة عليه ملكا حقا مستقلا تمام الاستقلال ببلاده، وحقق بالتالي كل أماني أيامه الماضية هذه السنة، التي كان يجب - والحالة هذه - أن تكون بدء ارتقاء سعده، وتاريخ بلوغه أوج مجده، وفاتحة سيره إلى عز أقعس، بلا قيد يعرقل أعماله، ولا عقبة تسد السبيل في وجهه، هذه السنة عينها أمست، بفضل القرض المشئوم الذي عقده وزيره إسماعيل صديق باشا، بواسطة أوپنهايم وشركائه الماليين اليهود، بدء اشتداد الصعوبات المالية حول مشاريعه ومصروفاته، وتاريخ بلوغه إلى مأزق ملكه الحرج، وفاتحة تنازعه على البقاء تنازعا دخل فيه غشمشما مستبسلا، ولكنه أدى به في نهاية أمره، وبفضل قيام الدول الأوروبية معضدة للمرابين، وحملة الأسهم، وازدرائها بالحقوق المكتسبة من الفرمانات المصدق عليها منها هي نفسها إلى السقوط والمنفى عقب حوادث لم يكن التاريخ ليصدقها، لولا أنه مضطر إلى اعتمادها لكونها واقعية.
فالمؤرخ غير المتحيز، الكاتب تحت تأثير ما توحيه إليه الحقائق، لا يسعه إلا أن يأسف أسفا شديدا على ما كان من غض نظر (إسماعيل) عن تصرفات وزير ماليته، لشدة وثوقه به، واعتقاده أنه إنما يعمل لخدمته وخدمة مجده، بينما الرجل لم يكن يعمل إلا لمصلحته الشخصية، لأنه لولا ذلك لتمكن هذا الخديو الهمام، البعيد النظر، والكبير المطامع، من إنشاء دولة مصرية مجيدة، لها القدح المعلى والكلمة العليا فيما يتعلق بشئون المدنية الحديثة، ومقتضياتها، في القارة الإفريقية بأسرها. •••
إزاء الخيبة التي صادفها تصدير ذلك القرض، فإنه لم يكن في الاستطاعة عمل شيء ما سوى استهلاك الإفادات المالية، وحوالات المقابلة، والأوراق المصرية الأخرى التي من هذا القبيل، ذات الاستحقاقات القريبة جدا.
وأما الإفادات المالية وحوالات المقابلة والأوراق المصرية التي لم تدفع احتسابا من ثمن أسهم ذلك القرض المشئوم، فتركت وبختها، وأجل النظر فيها إلى يوم استحقاقها ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فإما أنها تدفع يومئذ، إذا تيسر المال لدفعها، وإما أنها تجدد بفوائد أخرى محرقة.
أي أن الحكومة المصرية بعد استدانتها ذلك الدين الجديد الفظيع لم تستفد منه سوى تأجيل استحقاقات همومها بضعة أشهر فقط، ولم تر بدا من العود إلى دحرجة صخرة «سيزيف»
5
الهائلة، المكتوب عليها «الديون المصرية»، المقضي عليها بدحرجتها إلى ما شاء الله.
فكانت أولى نتائج ذلك أن معدل الصرف صعد بالإسكندرية صعودا مزعجا، ولولا تحالف بعض المصارف لملافاة الضرر لانقلب إلى كارثة مخيفة.
وبلغ من قلة ثقة الماليين أنهم بدأوا ينفرون من تجديد أذونات الدين السائر، حتى في مقابل فوائد قدرها 25٪.
فأراد الوزير أن يسترجع تلك الثقة، ولكنه لم ير لذلك وسيلة خيرا من الكذب، فأصدر في 3 أكتوبر نشرة تصحيحية لميزانية سنة 1874 و1875، أظهر فيها أن الإيرادات تزيد مليونا على المصروفات، ثم نشر في «الوقائع المصرية» كشفا بالدين السائر، يتضح منه أن المتبقي قبضه من أصل القرض، يكفي لسداد كل هذا الدين، ما عدا 86 ألف جنيه منه، وهو مبلغ لا يؤبه به.
غير أنه رأى حالا أن الكذب لم يعد يجدي نفعا، وأنه لا بد له من إيجاد وسائل أخرى، فأقبل يتخابر في بيع السكر، ففي بيع بذرة القطن، ففي الاتفاق على إعلان الاختيار، ففي الحصول على مليونين من الجنيهات لمواجهة استحقاقات ديسمبر، وبالاختصار في كل ما من شأنه حمل النقود على التداول، وإعادة الثقة إلى الحكومة.
ولكن الخيبة كانت ملازمة لمساعيه، فلم يلبث الملأ أن علم أن بيع السكر لم ينجح إتمامه في ساعة توقيعه عينها دون أن يعلم ما السبب.
ولئن نجح بيع بذرة القطن، فإنه كان نجاحا شرا من خيبة، لأن الوزير التزم بموجب عقد الاتفاق أن يبيع مليونا و200 ألف إردب بسعر 55 قرشا، يدفع ثلث ثمنها في 25 نوفمبر، والثلث الثاني في 5 ديسمبر، والثلث الثالث في 15 ديسمبر، على أن يعود إلى مشتراها بسعر
في 15 يناير و15 فبراير و15 مارس التالية بأذونات على الدائرة تستحق بعد ثلاثة أشهر بفوائد 12٪، أي أن عمليته هذه كلفته دفع فوائد قدرها 33٪، ونجم عنها أن خصم أذونات الدائرة السنية صعد حالا إلى 30٪.
فكانت النتيجة النهائية لكل ذلك أن إسماعيل صديق باشا لكي يتمكن من دفع استحقاقات النصف الثاني من شهر ديسمبر اضطر إلى تحرير حوالات، يدفع أصلها مع فوائده (بواقع 20٪) بعد شهرين وثلاثة أشهر، مقابل سندات تدفع قيمتها بلندن بعد خمسة عشر يوما، بخسارة قدرها ٪ قيمة فرق صرافة، وعمولة قدرها 1٪.
وهذا كان منتهى استسلام حكومة إلى الاختناق في براثن الربا فانتهت سنة 1873، وتلك المخالب قد تعمق انغراسها في عنق مصر تعمقا مزعجا.
وبينما هذه الحالة السيئة تتمخض بصعوبات جديدة للمستقبل، شجر في أوائل سنة 1874 بين شركة ترعة السويس والدول البحرية، بخصوص الرسوم المطلوبة على محمول السفن، نزاع كاد يفضي إلى تحميل الخزينة المصرية عبء نفقات لم تكن في الحسبان.
فإن الشركة - اتباعا لحرفية الامتياز الممنوح لها - كانت لغاية صيف سنة 1872 قد تقاضت عشرة فرنكات على كل شخص، وعشرة فرنكات على كل طن، من السفن التي اجتازت ترعتها، على أنها تقاضت ذلك الرسم فيما يختص بوزن الحمولة، على قاعدة المتبع لدى كل دولة في تقرير حمولة سفنها.
فما لبث أن اتضح لها أن المبالغ المتحصلة على هذه القاعدة لا تكفي لتوزيع أرباح، فأعلنت العموم بأنها ابتداء من أول يولية سنة 1872 ستحصل الرسم المفروض على محمول السفن، على قاعدة محمولها الحقيقي، لا على قاعدة محمولها المسجل.
فأبت شركة «المساجري البحرية» الإذعان إلى ذلك الطلب، فقاضتها شركة ترعة السويس أمام المحاكم الفرنساوية، وفازت عليها.
فطلب التجار وأصحاب المراكب البريطانيون إلى وزارة الخارجية البريطانية التداخل في الأمر، فأدى ذلك إلى مخابرات سياسية، فإلى تعيين مندوبية دولية مؤلفة من مندوبي اثنتي عشرة دولة بحرية، اجتمعت في الأستانة في أكتوبر سنة 1873، لدرس المسألة.
فبعد تداول آراء وأفكار ونتائج مدة ثلاثة أشهر، أصدرت المندوبية تقريرا أنكرت فيه على الشركة مطلوبها، ولكنها اعتبارا للضحايا التي تكبدها المساهمون، أشارت بزيادة أربعة فرنكات على الرسم المقرر على كل طن مسجل على غير الطريقة الإنجليزية، وزيادة ثلاثة فرنكات على الرسم المقرر على صافي كل طن مسجل طبقا لتلك الطريقة.
وصدق الباب العالي على هذه القاعدة، بصفته صاحب الشأن السياسي على القنال، وكلفت الشركة بتنفيذ قرار المندوبية ابتداء من 28 أبريل سنة 1874.
فاحتج المسيو دي لسبس على ذلك، وهدد بغلق القنال، فأنذره الخديو، بناء على أمر ورد إليه من الأستانة، بأنه إذا نفذ تهديده فالحكومة المصرية تأمر جنودها باحتلال الترعة، وتدبير شئونها بنفسها.
فامتثل دي لسبس إذ ذاك، وحصلت الرسوم لغاية فبراير سنة 1876 على القاعدة التي قررتها المندوبية إلا فيما يختص بسفن جميع الدول الحربية وجنودهم، فإنها استمرت تدفع الرسم الأول.
وكأننا بالخديو لغاية هذا الحين لم يكن واقفا على حال ماليته الحقيقية، ويظنها بناء على تفهيمات وزيرها متينة القواعد، مفعمة الخزائن.
ودليلنا على ذلك انشغاله بتوسيع نطاق الأعمال التجارية في بلاده، وفي توسيع دائرة فتوحاته.
أما توسيع نطاق الأعمال التجارية فقد رأينا - في غير هذا المكان - أن سموه ما فتئ يواليه منذ ارتقائه عرشه. ولا غرابة، فإن ميوله التجارية لم تكن سرا لأحد، وإقدامه على الاتجار بمحصولات أملاكه، حتى بعد ارتقائه سدة الإمارة، بلغ حدا حمل من كان يزاحمهم في الميدان، على الطعن عليه بمرارة في عدة جرائد، كأن الاتجار محظور على أمير. وبلغ من هيامه في ذلك، أنه قال يوما في باريس عند اطلاعه على حركة العمل في بورصتها (إذا صحت الرواية): «لو لم أكن خديو مصر، لتمنيت أن أكون سمسارا هنا.»
ففي أوائل ربيع هذا العام 1874بعث يطلب من وزراة الخارجية الإنجليزية أن ترسل إليه موظفين من ذوي الدراية والخبرة لتنظيم وزارة التجارة التي عزم على إيجادها، ولوضع خطة لعدة إصلاحات وإنشاءات يرى البلاد في أشد الاحتياج إليها، من ذلك تحرير إحصائيات كاملة لحركة التجارة المصرية، وإجراء تعداد شامل لسكان القطر المصري، وإنشاء غرف تجارية، ومراقبة سيرها وأعمالها، ووضع قوانين للسماسرة والصيارفة والباعة المتجولين، وتشجيع العمل الاستغلالي والفنون الاستغلالية، وتوسيع نطاقها بإيجاد مدارس للصنائع والفنون، وتقرير الموازين والمكاييل وتنظيمها، وتجهيز ما يلزم من معاهدات تجارية، وتعريفات للجمارك والمكوس، ومراقبة جميع الأحواض والمخازن الجمركية المصرية، ووضع نظام للمصايد في النيل والبحيرات، ومراقبة أعمال ترعة السويس، ودرس ما لدى البلاد الأخرى من تشريعات تجارية.
وطلب أن يكون المندوبان مستعدين، إذا لزمت الحال للسفر إلى الخارج في مهمات تجارية، فلبت وزارة الخارجية طلبه، وأرسلت موظفين من كبار موظفي وزارة التجارة البريطانية، اسماهما نيل واكتن، أخذا على عاتقهما القيام بالمهمات العديدة التي عهدت إلى كفاءتهما.
وأما توسيع دائرة فتوحاته، فقد تكلمنا عنها بتفصيل في غير هذا المكان.
وبينما هو منهمك في ذلك جميعه كان إسماعيل صديق، السيزيف الجديد يكد، من جهته، كدا عنيفا في دحرجة صخرة ماليته.
ولكن الأنباء التي وردت من دار السعادة، في تلك الأثناء، زادت في مشقة مهمته، فإن الحوالات التركية المستحقة الدفع في 13 يناير سنة 1874 بلندرة لم تدفع، واحتج عليها. ومع أن المالية المصرية كانت منفصلة تمام الانفصال عن المالية التركية، وليس هناك تضامن بين الاثنتين، فإن الملأ لم يسعه لدى ذلك التوقف، إلا تقرير مقارنة وارتباط بينهما، وتوقع حذو المصرية حذو التركية.
فنجم عن ذلك رعب فجائي في الأسواق المصرية كاد يكون قاتلا.
ولما كانت الأملاك الخديوية قد أصبحت بمجهودات إسماعيل صديق باشا مشتبكة تمام الاشتباك بصعوبات الخزينة المصرية، ومهددة بما يهدد هذه، رأى الوزير أن يعزز مركزه لدى مولاه بإبداء نصيحة مفيدة له، فأشار عليه بأن لا يبقى على اسمه من ممتلكاته سوى معامله السكرية المرهونة ضمانة لسداد قرض سنة 1870، وما يقرب من مائة ألف فدان، وأن ينقل باقي أملاكه بكيفية شرعية إلى أسماء الأميرات والأمراء من أسرته الخاصة.
فاستحسن (إسماعيل) الرأي بعد أن وثق من الخطر الذي بات يهدد ثروته، وأنشأ دائرة جديدة دعاها «دائرة الأمراء»، وكلف قاضي القضاة، ومفتي الديار، ورجال الشرع، ومستخدمي المحاكم بالاشتغال في نقل تكليف أملاكه الباقية إلى أسماء الأميرات زوجاته، والأمراء أولاده، فقضى رجال الشرع في ذلك العمل نيفا وشهرين، وأبرزوا الحجج الجديدة متصفة بجميع الأوصاف الشرعية المطلوبة، وموقعا عليها بالأختام التي من شأنها حمايتها من كل طعن.
وأقبل (إسماعيل) يفكر في الوقت عينه في أمر تأسيس شركة فنية استغلالية، يكون غرضها حفر ترعة تسير من مصر الوسطى، فتنحدر نحو الشمال، محاذية السلسلة العربية، فتجتاز القاهرة بين تجاويف جبل المقطم الوسطى، فتمكن من ري الجزء الشرقي من قمة الدلتا، ومن إنشاء جملة شلالات مياه متعاقبة ذات قوة هائلة، يستطاع استخدامها لتحريك آلات مصانع كبرى.
ولكن الماليين أبوا - بالأسف - أن يمدوه بالأموال اللازمة لإنجاز ذلك المشروع البديع. ولا ندري لماذا لا يقدم على تنفيذه الآن، فتولد من تلك الندافات قوة كهربائية عنيفة تغني مصر في استنارتها بالنور الكهربائي، وفي تشغيل معاملها، عن الفحم الحجري والكيروسين.
وكانت نتيجة الاضطراب الهائل الذي أحدثه في السوق المصرية توقف تركيا عن الدفع، ونتيجة ازدياد الصعوبات والشدائد حول المالية المصرية أن إسماعيل صديق باشا شرع يفكر للخروج من مأزقه الحرج في الإقدام على بيع أطيان الأوقاف الخيرية كلها التي في القطر المصري، وعرض المشروع على الخديو، وحببه إليه.
ولكن (إسماعيل) أبى اعتماده، وزجر وزيره عنه، فحول الوزير وجهه شطر عمليات بيع، وتمكن (أولا) من تصريف حوالات بمبلغ مليون من الجنيهات يستحق دفعها بعد ستة أشهر، بفوائد قدرها 21 في الماية. و(ثانيا) من بيع مليون إردب قمح، بسعر جنيه إنجليزي الإردب، وخمسائة ألف إردب فول بسعر 82 قرشا صاغا الإردب، تسليم سبتمبر وأكتوبر، على أن يكون دفع ثلثي ثمنها في مارس، والثلث الباقي في أبريل.
ولكن الأحوال - بالرغم من ذلك جميعه - استمرت سائرة من سيئ إلى أسوأ، فبلغ خصم حوالات المقابلة في أواخر شهر مارس من 23 إلى 26٪، وبلغ سعر الفوائد المطلوبة على كل عملية من عمليات التحويل أو العكس بالبورصة، 48٪ وما فتئ سعر القرض يتدهور حتى نزل إلى 61٪.
فبلغت الأنفس التراقي، وأخذ كل المشتغلين في الأمور المالية ينتظرون بأنفس جزعة حلول ساعة الخراب العام.
ولكن إسماعيل صديق باشا، وقد أصبح مركزه أحرج من مراكز الجميع، وفق، لكثرة ما أتعب فكره، وفتقه إلى تدبير جاء للكل بمثابة الفرج الذي لم يعد أحد ينتظره، ومكنه من الاستحمام بالذهب استحمامه الأخير.
فقد كان يوجد ضمن مصالح الحكومة مصلحة بقيت بعد ذلك دهرا، كانت تعرف باسم «مصلحة الرزنامة»، وأحسن تعريف لها أنها كانت عبارة عن صندوق أمانات، له حق التصرف في رءوس الأموال المودعة فيه تصرفا أبديا على شرط قيامه بدفع معاشات متفق عليها للمستحقين.
فجمع وزير المالية المجلس الخاص، كما كان جمعه لمسألة المقابلة، وبعد أن عرض فكرة مشروعه عليه، وحمله على استحسانها، استكتبه تقريرا للخديو جاء فيه «أن عددا كبيرا من الأهالي يحتفظون بأموال جسيمة لا يستثمرونها لعدم معرفتهم كيفية استثمارها، ولأن القرآن الشريف يحظر الإقراض بفوائد، فوزير المالية بعد كثرة التفكير والتأمل وفق إلى إيجاد وسيلة لاستثمار تلك الأموال بما يعود على البلاد بأكبر رخاء، وعلى المشروعات التجارية بأكبر سعة، وعلى الفنون والصنائع الاستغلالية بأعظم فائدة، تلك الوسيلة هي أن تصدر الرزنامة سندات إيراد مؤبد بما لا تتجاوز قيمته خمسة ملايين من الجنيهات الإنجليزية.
ولا يرى المجلس أن يتعدى هذا المبلغ، لا لأن المال غير موجود في البلاد، ولكن لأن مشاغل الحكومة كثيرة، ومهما بلغت رغبتها في العمل على الخير العام، فلا قبل لها على تحمل أعباء قد تنوء بها.
وبناء على ذلك، فإن المجلس الخاص يقترح إصدار سندات رسمية بالقيمة المذكورة، تكون المائة فيها مائة، ويكون ثمن بعضها جنيهين ونصفا، وثمن البعض الآخر خمسة جنيهات، وتسري عليها فوائد بواقع 9٪ سنويا تدفع شهريا للمكتتبين في عموم المراكز، وأن تبقى سجلات الاكتتاب مفتوحة مدة خمسة أشهر، وتدفع قيمة السندات حين الاكتتاب بها.»
فاعتمد الخديو ذلك التقرير، وأمر بتنفيذه في الحال، وهو معتقد أنه ينفع رعاياه وحكومته معا.
فما مضت أيام قلائل على فتح سجلات الاكتتاب إلا ووردت الأنباء من داخلية البلاد بأن الدفع فاق مليونين وخمسمائة ألف جنيه، وأن اكتتاب أهالي مدينة طنطا وحدها بلغ نصف مليون جنيه، ومع استمرار الضغط والتأثير على عقول الريفيين والمدنيين، وعلى بطون أرجلهم، ما فتئ قدر المبالغ الموردة يرتفع، حتى بلغ ثلاثة ملايين وأربعمائة وعشرين ألفا من الجنيهات.
فلم يكن بد والحالة هذه من أن تتأثر أسعار السوق بهذه النتيجة الباهرة، ففي طرفة عين تحسن معدل خصم حوالات «المقابلة»، وأذونات الدائرة 5٪ وصعدت أسهم القرض الأخير 3٪.
وبفضل تلك العملية أصبح في الإمكان التطلع بهدوء سريرة وارتياح قلب إلى دخول الصيف. ومما زاد الطمأنينة رسوخا هو أن الخديو صمم على عدم مغادرة القطر في تلك السنة للذهاب إلى أوروبا أو الأستانة، وعزم على تمضية فصل الصيف على ساحل البحر الأبيض في مصيفه بالرمل، وأن هذا العزم حدا بجميع ذوات القطر إلى الاقتداء به، لأنه مع بقاء سموه على ضفاف النيل لم يكن يحسن بكل من كان ذا وجاهة السفر إلى الخارج فإن (إسماعيل) كان يعرف سراة عاصمتيه واحدا واحدا، ولم يكن ليرى بعين مرتاحة مغادرة أحدهم القطر، مع بقائه هو فيه، فاقتصدت بذلك مبالغ جسيمة كانت تصرف سنويا في المصايف الأجنبية، وعاد اقتصادها على المداولات النقدية بخير عميم.
ووقرت في النفوس مقدرة المالية المصرية على الخروج من المآزق الحرجة، وشرع الوزير يؤيد هذا الاعتقاد في قلوب المرتابين، بإماطة اللثام عما لا يزال لدى الحكومة من الوسائل والموارد، كحصص التأسيس في شركة القنال، وأسهمها - وكلها لا تزال خالية من كل رهن - والخيرات العميمة الموجودة في البلاد، والتي في استطاعة إدارة جيدة إخراجها منها، وشرع يردد الكلمة المروي صدورها عن أحد أكابر الماليين في وليمة في باريس، وهي «ما دام النيل يجري، فمصر لن تنفك تسدد ديونها».
فوقرت الثقة شيئا فشيئا في النفوس ، وامتلأت أوروبا ذاتها بها، فأقبلت تتعامل من جديد مع وزير المالية بمشتري إفاداته وحوالاته، وأقدمت نقابة قوية على رفع شأن القرض الأخير، فصعدت أسعاره حتى بلغت في 26 سبتمبر ٪، وصعدت أسعار الدين السائر أيضا.
ولما كان هذا الأمر غريبا، بدأت السوق تعتقد أن عاملا جديدا دخل في المضمار، وأنه لا بد من أن يكون وراء «الأنجلو اچپشن بانك» - الذي طفق يحتكر الأعمال المالية، وكان لمديريه بمصر مركز سام في السراي - قوة مالية من الدرجة الأولى تسند إجراءاته، لا سيما منذ أقدم ذلك البنك على تسليف الوزير ثلاثة ملايين جنيه، مقابل سندات تدفع قيمتها بفوائدها، بواقع 14٪ بعد مضي سنة.
ولم يكن اعتقاد السوق في غير محله، فإن تلك القوة إنما كانت مشخصة في بنك فرنسا العقاري، وكان من شأن إقباله على مساعدة المالية المصرية تثبيت قلوب الخائفين، وتبديد مخاوف الوجلين.
فأخذت الأوامر بمشتري حوالات المالية، وأذوناتها ترد إلى الإسكندرية من لندن، وعلى الأخص من باريس، وأخذت كل سفينة ترد من الأستانة وسوريا أو من أوروبا تأتي إلى القطر بكمية لا يستهان بها من النقود، حتى نزل معدل الفوائد إلى 9٪.
فما وسع الوزير إزاء ذلك جميعه إلا إبداء استغرابه واستعجابه اللذيذين، وبعد ما كان يتصيد المشترين والنقود، أصبح المشترون يهرولون إليه، والمال يتدفق نحوه. وأذاعت الجرائد اليومية إذ ذاك أنه رأى نفسه مضطرا ذات مرة إلى رفض اقتراح إبدال عدة أذونات تستحق بعد ثلاث سنوات بفائدة قدرها 12٪، بعدة ملايين من الجنيهات.
وأصبحت مصر مرمى أنظار المطامع المتقدة في الدوائر المالية في الأستانة وباريس، وبلغ من تلك الدوائر أنها أرسلت مندوبين من قبلها إلى الخديو لتخابره في عقد قروض جديدة، ولكن الخديو أبى الدخول في عملية مالية من ذلك النوع لاعتقاده أن البلاد غير محتاجة إليها، والوزير عينه أصم أذنيه لوقع كل اقتراح، مدعيا أنه لا يستطيع البت في أي طلب من الطلبات المقدمة إليه، حتى يتضح له مبلغ ما حصل من اكتتابات الروزنامة، فبقيت عدة مئات من آلاف الجنيهات في أيدي أصحابها الممولين بدون استثمار.
غير أنها لم تبق طويلا، وما لبث الوزير أن عاد إلى عبثه بالمالية المصرية.
ففي أوائل فبراير سنة 1875 اتفق على عملية قدر قيمتها مليونان ونصف من الجنيهات على أذونات تستحق الدفع بعد ثلاثة أشهر بفوائد 12٪ في السنة، ثم بعد أيام قليلة ذاع في الملأ نبأ اتفاقه على عملية أخرى قيمتها خمسة ملايين جنيه بفائدة قدرها 12٪، تدفع ما بين أول أبريل وأول أغسطس بدل حوالات تستحق ما بين أول فبراير سنة 1876 وأول يناير سنة 1877، ويجب دفع قيمتها في لندن، وتلا هذه العملية عملية أخرى قيمتها ثلاثة ملايين، صدرت حوالات دائرة سنية بضمانة المالية.
فما تمت هاتان العمليتان إلا وارتج الرأي العام بأوروبا، لا سيما بلندن، ارتجاجا أليما، ولكن موقف سوق باريس وعطفها على الأوراق المالية المصرية أزال ذلك الارتجاج، فعادت الحال إلى ما كانت عليه من ثقة ثابتة، ونقود غزيرة، وعاد الاطمئنان إلى القلوب.
غير أن نشوء الخلاف بين الباب العالي والجبل الأسود، وقضية فلپار التي أزعجت الأسواق برهة، ونزول الأوراق المالية التركية المستمر، ومشكلة الهرسك - هذه جميعها ما لبثت أن عكرت صفاء الجو، وزادته تعكيرا الحالة المالية في تركيا، بالرغم من المجهودات التي بذلتها بعض الجرائد، لتبرهن على عدم وجود تضامن ولا ارتباط بين ماليتي مصر وتركيا، ولا وجه للمقارنة بينهما.
وبينما تشتد قلة النقود بالإسكندرية، أخذت أنباء أوروبا تزداد سوادا، فالأزمة ازدادت حرجا في الهرسك، والضيق المالي وارتفاع الخصم بلغا أشدهما في فرنكفورت وبرلين، وطلبات النقود توالت بكثرة غير معتادة في أسواق لندن، والعلائق السياسية توترت بين لندن وپيكين.
فقلقت الأفكار، وسقطت القلوب.
وإذا بإشارة برقية وردت في مساء 7 أكتوبر إلى البورصة، تنبئ بأن الباب العالي، ابتداء من أول يناير سنة 1876، سيدفع فوائد ديونه النصف نقدا، والنصف الثاني سندات تحمل فوائد قدرها 5٪.
فأبى الناس في الأول تصديق ذلك النبأ، لاستبعادهم اهتمام رجال الأستانة بما توجبه تعهداتهم ثلاثة أشهر مقدما، ولكن الخبر ما فتئ أن أكد، وأعلن رسميا.
فضجت السوق دهشة، فغضبا، فرعبا، وانهارت الأسعار انهيارا مزعجا.
فأسرع الوزير إلى إدعامها، فأمر أن تدفع استحقاقات أول نوفمبر التالي مقدما، وأن تخصم استحقاقات 9 نوفمبر بسعر 4٪، ووضع تحت تصرف بنكين سماهما للعموم مبالغ جسيمة، لتسهيل التصفية التي كان الكل يخاف عواقبها، وشهل في الوقت عينه تحصيل الضرائب، وبعث أولا فأولا، كل ما حصل منها إلى محافظة الإسكندرية.
غير أن أنباء الغد كانت نكبة على الأوراق المالية الشرقية، فالورق التركي المعروف بخمسة في المائة هبط إلى ، واتبع الورق المصري حركة الهبوط، فوقفت حركة الأعمال، وجمد دولابها وبات الجميع يتوقعون في التصفية المقبلة الخراب التام.
وإذا بجرائد لندن هبت تقبح المخاوف، وتثلج القلوب بنشر مقالات متتابعة لرجلين من كبار الخبيرين بالأحوال الشرقية: المستر فولر، والسير صموئيل بيكر.
أما المستر فولر فمهندس الحكومة المصرية الاستشاري، وكان الخديو قد كلفه ضمن أعمال أخرى هامة مد خط حديدي بين البحر الأحمر والنيل الأعلى، فما كان ليسع أحدا إلا تصديق أقواله في كل ما يختص بالفن والأشغال التي تمت بمصر، كتوسيع مرفأي الإسكندرية والسويس، وزيادة سكك الحديد، وحفر عدة ترع للري، وتبليط شوارع الإسكندرية، وتصليح شوارع مصر، وإنشاء الكثير منها والأحياء العديدة، والتنوير بالغاز، وتحسين نظام الطرق العمومية في عدة مدن داخلية، وإنشاء معامل السكر في الصعيد، إلخ إلخ.
فالمستر فولر أكد في مقالاته أن كل الأموال التي حصلت الحكومة المصرية عليها بطريقة الاقتراض، صرفتها فيما عاد بالمنفعة الكبرى على البلاد، وعلى إنماء خيراتها وتكثيرها.
وأما السير صموئيل بيكر - ونحن نعلم من هو، وما كان لمؤلفاته عن رحلاته وأعماله من دوي كبير في عالم الجغرافيا والتحرير - فقد قال بصراحة في مقالاته: إن السبب في الأزمة المتعبة السوق المصرية إنما هو جهل ثلاثة أرباع حملة الأسهم ماهية العلائق بين مصر وتركيا جهلا تاما، وأكد أنه ليس بين طريقتي البلدين الإدارية والمالية شبه مطلقا. وختم أقواله بإطراء الخديو ثناء مستحقا، فمجد روحه الاجتماعية اللطيفة، وتنور ذهنه الفائق، وهمته الشماء، ونشاطه الذي لا يعرف الكلل ولا الملل، وسعة معلوماته، ورقي أفكاره، وسيرها في مجاري العقليات الحرة السامية، ورغبته الأكيدة في وضع القطر المصري في مصاف دول أوروبا الأكثر تمدينا، واهتمامه في حفظ سمعته نقية، لا تشوب طهارتها شائبة، إلخ إلخ.
وانضم إلى هذين الكاتبين كاتب ثالث يقال له المستر شو، تطوع هو أيضا من تلقاء نفسه بإزالة الريب، والشكوك المحيطة بحال السوق المصرية.
فوقعت كتاباتهم موقع الاستحسان عند «الستوك إكستشنچ» (بورصة) بلندن، وساعدت حركة التحسين التي بدأت بشائرها في 25 أكتوبر، واستمرت آخذة مجراها حتى مرت تصفية القرض الأخير بسهولة، خلافا لما كان يخشى.
وإثباتا لحقيقة أقوال أولئك الكتاب، وتأكيداتهم بأن المالية المصرية قوية لا تتزعزع، أصدر محل «درڨيني وشركائه» - وكان بنكا من بنوك الإسكندرية الأكثر أهمية - تقريرا جاء فيه «إن مبلغ عموم أقراض الحكومة والدائرة معا يبلغ لغاية أول يناير سنة 1877 ستين مليونا وخمسمائة وواحد وثلاثين ألفا وثلاثمائة وستين جنيها، توجب دفعا سنويا للفوائد والاستهلاكات، قدره ستة ملايين ومائة وثلاثة وثمانون ألفا ومائة وأربعة وثلاثون جنيها، وأن مبلغ الدين السائر بات ينحصر في العمليتين الأخيرتين اللتين تمتا بواسطة «الأنجلو اچبشين» أي في ستة عشر مليونا، توجب دفعا سنويا للاستهلاك والفوائد، قدره مليونان ونصف من الجنيهات، أي أن جميع ما يوجبه الدين المصري بأكمله من الدفع للاستهلاك والفوائد مبلغ 6683134 جنيها.
وبما أن مجموع إيرادات القطر يبلغ نيفا وعشرة ملايين جنيه، فإذا خصم المبلغ المذكور أعلاه منه بقي لدى الحكومة مبلغ 3400000 جنيه لمصاريف الإدارة، وهو مبلغ كاف تمام الكفاية.»
هذا التقرير المبني على أرقام صحيحة قوبل من الرأي العام مقابلة جميلة، وكان له الشأن الممدوح في إعادة الثقة بالحكومة المصرية إلى حملة أسهمها.
ولكن أنباء السوء ما فتئت تتوالى وتتعاقب فلا لندن ولا باريس كانتا خاليتين من المشاكل السياسية والمالية، وأخبار الأستانة كانت تزداد خطورة يوما فيوما، وآخر ما ورد منها مقابلة بين السلطان والجنرال إجناتييف الروسي، علقت الجرائد والمحادثات العمومية عليها تعليقات ذات شأن، والإشارات البرقية أخذت تتمخض بأهوال عما قد يقع على الحدود الفاصلة بين النمسا وتركيا، وأتت خطبة ألقاها المستر دزرائيلي، كبير وزراء الإنجليز، واشتملت على خوف وهلع من جراء ما قد تجر إليه نكبة تركيا المالية من مصائب، ضغثا على إبالة، وذلك بينما الأيام تدني استحقاق أول ديسمبر، أي استحقاق دفع عدة ملايين من الجنيهات إدناء سريعا ، والشعور عام بأنه ليس لدى المالية ما يمكنها من دفعها، بل وحديث البعض أن الوزير - وقد أعيته الحيل - ضجر ومل، واعتراه يأس لا يقاوم فبات ينتظر وقوع الحوادث بما تشاء أن تجري، دون أن يكون لديه رغبة أو نية في درء عواقبها، أو تحويل مجاريها، قائلا لمن أراد تنبيهه إلى أي عمل «المكتوب مكتوب».
فهل من الغرابة إذا بات الموقف في منتهى الحرج؟ وإذا تناقلت الألسن أن أحد أصدقاء إسماعيل صديق باشا ذهب ليزوره، لكي يقف منه على حقيقة أحوال المالية، فرجع من عنده، والهول كاد يجعل شعر رأسه أبيض؟ فإن الوزير حينما رأى نفسه مشددا عليه في عقر داره، اعترف لزائره بأن الخزينة لم يعد فيها من النقود إلا ما يكفي لسداد احتياجات بضعة أيام فقط، وأما بعد، فيفعل الله ما يشاء.
فذهب الزائر من عند إسماعيل صديق باشا إلى قصر الخديو، ووجه إليه باحترام بعض أسئلة من التي كان قد وجهها إلى وزير المالية، فأبدى (إسماعيل) جهله الحالة المالية بالتمام لتركه إياها تحت تصرف وزيره الأمين، وقال: إنه لا يشك مطلقا في أن الخزينة ستقوم بدفع ما عليها حينما يطلب منها دفعه، لأن صديقا لم يقل له أبدا ما يشتم منه أنها في ضيق. فنقل محادثه إليه، في الحال، آخر ما أجاب به إسماعيل صديق على أسئلته، وأكد له أن الخزينة تصبح خالية خاوية بعد خمسة عشر يوما. فأجاب (إسماعيل) «أجل، إن يكن الأمر كما تقول، فإنا سنفعل كما فعل السلطان.»
وليته فعل حينما آن الوقت، أو ليت فعل ذلك كان في الاستطاعة، فإن المرابين الذين استغلوا مجهوداته المبذولة في سبيل تقدم بلاده الأدبي والمادي، وجعلها شقة من أوروبا، ليخربوه ويخربوا بلاده، إنما كانوا لاقوا في خسارة جانب من أرباحهم الجائرة، لا من رءوس أموالهم المقروضة، جزءا من الجزاء الذي كانوا يستحقونه، والذي كان يجب قانونا أن ينالهم، لأنهم إنما تقاضوا على زعمهم ربا فاحشا، بسبب وجود خطر على نقودهم المسلفة، فما كان أجدر بهم إذا أن يتحملوا عواقب تلك المخاطرة.
ولكن محادث (إسماعيل) أخذ يبرهن له أن موقف تركيا إزاء أوروبا فريد في بابه، وأن المقتضيات السياسية الموجبة مراعاة المالية العثمانية بنوع خاص، لا وجود لها بالنسبة لمصر، وأن الأفضل - والحالة هذه - دفع الدين ولو باحتمال تضحيات جمة أولى من خلق أسباب لمداخلات أجنبية في شئون الحكومة، قد تغير الأيام والحوادث شكلها، وتصبغها بغير صبغتها الأصلية، وأنه يرى أن الأنسب إزاء الصعوبات الكائنة، أن يتقدم الخديو بنفسه إلى طلب مراقبة أوروبية على ماليته، لإثبات استقامة حكومته التامة ومحاسن نياتها، وصدق مجهوداتها في خير الشعب، وشدة اجتهادها الاجتهاد كله للقيام بتعهداتها المالية، قبل أن تقدم أوروبا على إيجاب تلك المراقبة عليه، لأنه إن يفعل ذلك، فقد يجد في المستقبل درءا لكل شبهة بل لأردأ الطوارئ، فيما لو أبى النحس إلا وقوع ما ليس في الحسبان!
فراقت النصيحة في عين (إسماعيل)، ولم يمض أسبوع على إبدائها إلا وشاع الخبر في لندن في 10 نوفمبر سنة 1875 أن خديو مصر بعث يطلب من الحكومة البريطانية إرسال بعض كبار موظفي ماليتها لمراقبة الأقلام المالية المصرية.
وفي الوقت عينه أصدر الخديو أمره إلى وزير ماليته ببذل ما يمكن لضمان سداد استحقاق أول ديسمبر، والدفع المطلوبة على الدين السائر لمدة أربع سنوات، على قدر ما يستطيع.
فأقبل الوزير بواسطة الأنجلو إچپشن، وتحت رعاية البنك العقاري الفرنساوي الخفية، يتخابر في أمر إصدار سندات مالية قيمتها ستة عشر مليونا من الجنيهات لمدة أربع سنوات، تسري عليها فوائد بواقع 15٪، وتكون أسهم شركة السويس التي بيد الحكومة المصرية ضمانة لسدادها، على أن تحول تلك السندات فيما بعد إلى قرض حالما يفرغ من سداد قرض سنة 1864.
ولكن المخابرات طالت، والوقت أزف، والوزير لم يكن يستطيع الانتظار، فرغب في أن يستفيد حالا من ال 176000 سهم التي بيده، وشرع يتخابر سرا في بيعها بواسطة بنك فرنساوي بالإسكندرية.
فعلم قنصل إنجلترا بالمخابرات المعقودة، وأبلغ سمو الخديو؛ بناء على تعليمات وردت إليه من دولته، أن الحكومة البريطانية وطنت عزمها على المزايدة على كل ثمن يدفع في الحاضر أو في المستقبل من أي كان لمشتري تلك الأسهم.
فأدى ذلك إلى تزاحم بين عمال النفوذ الفرنساوي، وعمال النفوذ الإنجليزي بمصر وأوروبا، وأخذت المخابرات هنا وهناك لتكيف تارة بشكل تأمين تلك الأسهم على سلفة، وطورا بشكل بيعها، والقنصل الفرنساوي بمصر يجد ويجتهد ليضمن لماليي أمته، أو لحكومته، إما هذا الأمر وإما ذاك. والأنجلو إچپشن يسعى في تخييب مجهوداته، لرغبته في أن يكون هو المفضل، والقنصل الإنجليزي يجاهد جهادا عنيفا لتحويل أنظار الحكومة المصرية نحو عاصمة بلاده، حتى أدى السعي في النهاية إلى تخلي الحكومة الفرنساوية والدوق دي كازوزير خارجيتها، بالرغم من صداقته الشخصية للخديو عن رغبة الشراء، وإلى تشبث المستر دزرائيلي كبير وزراء إنجلترا به تشبثا كليا.
ولما كان البرلمان مفضوضا مسرحا، وكان غير متيسر لذلك السياسي الحصول على تصديق منه لمشتري تلك الأسهم، توجه دزرائيلي من وقته إلى بيت روثتشايلد الإنجليزي، وعرض رغبته عليه، وسأله عما كان يريد أن يقرضه المبلغ المطلوب، ريثما ينعقد البرلمان على أن تكون ضمانته الوحيدة لغاية ذلك الحين، كلمة شرف وزير بريطانيا العظمى الأول، فكان جواب روثتشايلد أنه قام وأخرج من خزنته المبلغ المطلوب، ووضعه من وقته تحت تصرف قاصده.
فأبرقت أسرة دزرائيلي طربا، وأبرق في الحال إلى قنصل إنجلترا بمصر «أن أخبر الخديو أن الحكومة الإنجليزية تقبل شراء أسهمه في ترعة السويس بمبلغ أربعة ملايين من الجنيهات» - وهي تساوي الآن مائتي مليون تقريبا.
فرفع القنصل الخبر إلى (إسماعيل)، ولما كان في المبلغ المعروض ربح للحكومة المصرية قدره 450000 جنيه، وكانت كوبونات - قطعيات - تلك الأسهم لغاية سنة 1894، قد فصلت عنها، فيما دفع لدي لسبس، فلم يكن ثمت خسارة أي إيراد وقتي للحكومة المصرية، قبل (إسماعيل) البيع، وصدق عليه.
فلما انتشرت أنباؤه وذاعت، كان لها وقع شديد في كل جهات المعمور، ماليا وسياسيا .
أما سياسيا، فلأن الكل رأوا في إقدام إنجلترا على مشتري تلك الأسهم عملا خطيرا، قد تنجم عنه نتائج تؤدي إلى انقلابات ليست في الحسبان، إن لم تكن قاضية قضاء مبرما على مستقبل تركيا ومصر معا، فعلى علاقات مصر بتركيا على الأقل. وعليه فإن الدوائر الرسمية في ڨيينا وبرلين وبتروجراد وباريس علقت على المشتري تعليقات اشعرت بالاضطراب العميق الذي اعتراها.
وأما ماليا، فلأن دفع استحقاقات أول ديسمبر أصبح ممكنا، بل مضمونا، وباتت شجون القلق، والمخاوف المنتابة الصدور بمخالب حادة، مقضيا عليها، وأضحى من المؤكد بعد ذلك أن مساعدة إنجلترا المالية لمصر لن تقف عند ذاك الحد.
وفي الواقع فإن حكومتها أجابت طلب (إسماعيل)، واختارت المستر إسطفان كيڨ، ليشغل مركز مستشار مالي له.
والمستر إسطفان كيڨ كان من الأهمية الشخصية بحيث لم يكن يمكن أن تقف مهمته عند حد التقاط الاستعلامات اللازمة لتحرير تقرير شامل عن الحال فقط، بل كان لا بد من أنها تتجاوزه إلى الإشراف على أعمال الحكومة المالية، وتسييرها في طريق قويم.
وظهرت نتائج ما كان لنبأ شراء الأسهم من وقع في الثمل الذي لعب برهة بعقول المضاربين، لا سيما المطلعين منهم على لهجة الجرائد الإنجليزية، فإنه خيل إليهم لحظة أن الأوراق المصرية أصبحت تساوي الأوراق الإنجليزية عينها، وإلا فإنها أصبحت تساوي على الأقل مساواة تامة الأوراق الهندية في قيمتها ومتانتها، كما أن تلك النتائج ظهرت أيضا في حركة الصعود التي ذهبت بأسعار قرض سنة 1873 من 54 إلى 72 في ظرف خمسة عشر يوما.
ومما زاد في ثقة السوق أن أموال الضرائب أخذت ترد بغزارة إلى محافظة الإسكندرية، لحض عمال الحكومة المزارعين على دفعها حضا فعالا.
فأصبح مركز وزارة المالية قويا ثابتا، وعاد الطلب يبحث عن إفاداتها، ويقتني أطولها استحقاقا، كأنه يخشى أن لا يعود يجد منها.
وفي وسط هذا الثمل العام، أي في 16 ديسمبر سنة 1875 وصل إلى الإسكندرية المستر كيڨ، ومعه الكولونيل ستوكز، وزمرة منتخبة من موظفي وزارتي المالية والخارجية الإنجليزيتين، وسافر جمعهم إلى العاصمة في الحال.
فاستقبلوا فيها استقبالا شائقا، وأنزلوا على الرحب والسعة في ضيافة ولي النعم.
فلما وقف الجمهور على ماهية وظائف الأعضاء المؤلف منهم هذا الوفد، والملتفين حول رئيسهم، المستر كيڨ، أخذ يتأكد من أن المهمة التي أتوا من أجلها ليست مالية فحسب، بل مالية وسياسية معا، وأقبل حملة الأسهم يمنون أنفسهم بأعذب الأماني، ولكنهم ما عتموا أن رأوا أن الحقائق غير الآمال، حينما دنت تصفية أول يناير سنة 1876 فإن النقود أخذت تتوارى وتقل، وارتفع الخصم من 3 إلى 4٪، ونزل القرض ثلاثة بنوط، وبدأت السوق تشعر بأن مؤثرات مختلفة تتضارب حول العرش المصري، بين أن دي لسبس، حالما علم بيع أسهم الحكومة المصرية في ترعة السويس، هرول إلى مصر في أمل شراء حصص التأسيس المعطاة لهذه الحكومة عينها، وعددها خمس عشرة في المائة من مجموع الحصص كلها.
ولكن الحكومة طلبت لتبيعها مبلغ أربعين مليونا من الفرنكات، وحيث لم يسع دي لسبس دفعه، فإن البيع لم يتم، وبقيت الحصص بين يدي مصر، وعلى ذلك انتهت سنة 1875.
على أنه بالرغم من المصاعب المالية والسياسية المشتدة حول عرش (إسماعيل) اشتدادا بلغ حدا أحرمه استمراء كل لذة، بل حال دون دخوله دور حريمه نيفا وستة أشهر، على ما أكد هو نفسه للمستر إدون دي ليون قنصل أمريكا العام، وبالرغم من دوي المدافع المصرية في جنوب القطر، وجنوبه الشرقي دويا أزعج هذا القطر عينه، وأوجب زيادة في اشتداد المصاعب المالية والسياسية، فإن هذه السنة التي تم فيها (لإسماعيل) تأسيس المحاكم المختلطة الإصلاحية، أي تقرير سلطته التشريعية المدنية على عموم النازلين في بلاده تقريرا نهائيا، كانت العام الذي بلغ هو فيه سؤدده الحقيقي، وحق له، لولا تلك المصاعب المالية الواخزة وخزا أليما، أن يستوي بهناء على عرشه، ويقول «لقد أصبح المستقبل لي حقا.»
الجزء الخامس
الهاوية تحت الأقدام
الفصل الأول
نحو التوقف عن الدفع1
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
ولكن الأيام الغشومة أبت إلا أن يكون بلوغ (إسماعيل) أوج عزه وذروة مجده سرابا فقط وأبت - انظر إلى تهكم الأقدار وعبثها بالموضوعات البشرية - أبت إلا أن يكون الإصلاح القضائي ذاته، الذي اعتبره هو نفسه، والذي كان في الحقيقة تاج مساعيه كلها، الآلة الهادمة لذلك العز، والعجلة المدهورة لذلك المجد، من الذروة إلى الحضيض! فما أكبرها عبرة! وما أشد وقعها على النفوس!
ولو لم يكن هناك دليل على أن (إسماعيل) كان يفضل المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، وعلى أنه كان يعتبر قيام مجد ملكه الحقيقي على ما يعمله من مصلحة لبلاده، لا على ما يحتاط به من ملاذ، ولا على ما يحتفظ به لنفسه من استبداد بالسلطة والنفوذ سوى سعيه إلى إصلاح شئون العدالة في القطر، ورغبته في توحيد المحاكم، ومنحه لها حق القضاء حتى بينه وبين العموم من رعاياه، ورعايا الدول الأجنبية، فيما قد ينجم بينه وبينهم من منازعات لكفى.
ولا غرابة إذا أجمع كل المؤرخين والمعاصرين على اعتبار تأسيس تلك المحاكم أكبر إصلاح أجراه (إسماعيل) في مدة ملكه، وخير ما دل به على حقيقة نياته الصالحة نحو أمته وبلاده.
بيد أنه، بينما كان هذا الإصلاح الخطير يتأصل في الديار، ويبدأ بنشر ظله الوارف عليها، كان المستر كيڨ والموظفون الذين معه يوالون العمل الذي أتوا من أجله، ويغربلون حسابات وزارة المالية والدوائر الخديوية، للوقوف بقدر الاستطاعة على ديونها وإيراداتها، والخديو يصدر الأوامر تباعا، ويتخذ الاحتياطات كلها ليوجد لهم جميع التسهيلات التي بها يتمكنون من الوقوف على حقائق الأمور.
فكانت نتيجة مجهوداتهم، تقريرا مفصلا وضعه المستر كيڨ بعد وصوله بشهرين، ورفعه إلى الوزارة البريطانية، دون أن ينشره بمصر، أو يعلن أهم محتوياته على الأقل، مع أن الرأي العام المهتم بالشئون المصرية كان ينتظره، ويترقب إعلانه بفروغ صبر، تهدئة للخواطر واطمئنانا للقلوب، إذا أظهر أن الحالة موجبة ذلك، أو إنذارا لاتخاذ الوسائل الواقية الممكنة، إذا أظهر أن الهاوية أصبحت مفتوحة تحت الأقدام.
وإنما كانت مشغولية الرأي العام، وقلق أفكاره ناجمين عن أنه منذ حضور المستر كيڨ هذا انقسمت المعية الخديوية الرسمية وغير الرسمية إلى دائرتين متعاكستين، لكل منهما زعيم أو مدره، وماليون، ومؤثرات صغيرة وكبيرة، لا بل وعيون مبثوثة حول الأمير، ونظام احتياطات يرمي إلى تملك أذنه وقلبه، دون الدوائر الأخرى.
هاتان الدائرتان كانتا دائرتي الحزب الفرنساوي والحزب الإنجليزي، والنتيجة الوحيدة الواضحة لمجهوداتهما كانت تعذر الوصول إلى إتمام أي مشروع، بسبب العراقيل التي أخذ يقيمها كل حزب في طريق خصمه، وعدم تمكنهما من الاتفاق على العمل معا، لأنه بينما كانت مرامي الحزب الفرنساوي مالية اقتصادية فقط، كانت مرامي الحزب الإنجليزي سياسية قبل كل شيء.
فانقضى شهر يناير سنة 1876، والحالة هذه بدون التوفق إلى اتخاذ أية وسيلة لدرء الطوارئ المخيفة، المتوقع قدومها مع استحقاقات الدفع الموشك حلولها، وزاد المخاوف هلعا استمرار إقامة المستر كيڨ في القطر، واستمرار مباحثه، ودروسه دون ظهور أية نتيجة لها بعد، وانتشار أبعد الأخبار غرابة في الأوساط المالية المحلية عن المجهودات المبذولة من كلا الحزبين البادي ذكرهما، لحمل الخديو على قبول هذا الاقتراح أو ذاك العرض المقدمين تارة من هذا الحزب، وطورا من ذاك.
أما المشروع الذي كان ينسب السعي في تحقيقه إلى الحزب الفرنساوي، والذي كان في الواقع مرمى مساعي هذا الحزب، وعلى رأسه الأنجلو إچپشن بنك، فكان توحيد الدين السائر.
وأما ما كان ينسب السعي نحو تحقيقه إلى الحزب الإنجليزي، وما كانت الأوساط المالية الغربية وغيرها بمصر تعتقد في نجاحها لرغبتها فيه، فكان أن تأخذ الحكومة الإنجليزية على عاتقها جميع الديون المصرية، المضمونة منها وغير المضمونة، وتتولى هي سدادها، على شرط التنازل لها عن السكك الحديدية وميناءي الإسكندرية والسويس، وأشياء غيرها من هذا القبيل، ومن هذه الأهمية.
وبينما هذه الإشاعات تذاع وتتضارب، إذا بنبأ طار في 17 فبراير أن الأنجلو عقد مع إسماعيل صديق باشا عقدا ماليا قدم له بموجبه، ومن أصل المطلوب لتثبيت الدين السائر، مبلغ ثلاثة ملايين جنيه منها مليونان نقدا، والمليون الباقي عند الاختيار.
فدل ذلك على تفوق الحزب الفرنساوي على خصمه.
ولم تمض على ذلك أيام إلا وطار نبأ آخر بسفر مسيو پاستري، مالي هذا الحزب إلى باريس، وفي جيبه مشروع مصدق عليه من الخديو لكي يعرضه هناك على النقابة التي كان هو مندوبها بمصر، أي على فريق الماليين الذي كان البنك العقاري الفرنساوي زعيمهم وروحهم.
وبما أن العالم المالي المصري لم يكن مرتاحا إلا إلى نجاح المشروع المنسوب إلى الحزب الإنجليزي ولا كان يهمه إلا قليلا نجاح الحزب الفرنساوي، فإنه قابل النبأين ببرود وظنون ثائرة، ولم يتبع إلا بفتور المخابرات التي باشرها المسيو پاستري بعد وصوله إلى باريس مع نقابته.
أما المشروع الذي ذهب ليعرضه عليها فكان عبارة عن إنشاء بنك أهلي، رأس ماله من أربعة إلى خمسة ملايين جنيه، يناط به جمع كل إيرادات القطر المصري في خزائنه، فيستعبد ما يلزم منها لخدمة الدين، ويسلم الباقي إلى الحكومة، أو يبقيه تحت تصرفها، ويناط به أيضا أمر سداد الدين السائر، بواسطة إصدار أذونات لثلاثين سنة، تكون ضمانة سدادها إيرادات سكك حديد الصعيد، والدخوليات، وميناء الإسكندرية، وما يخص حصص التأسيس في شركة ترعة السويس الباقية في حيازة الحكومة.
ولكي يضمن أن يكون عمل ذلك البنك نظاميا مرتبا، وتقام الثقة به على أسس متينة، فإن الدول الثلاث ذات المصالح الكبرى في القطر، وأعني بهن فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، تعين ثلاثة مندوبين غربيين يختارهم الخديو، فيراقبون الأعمال، ويسهرون على أن لا تحول الإيرادات الخاصة بخدمة الدين عن الغرض الذي جعلت لأجله.
وبينما المسيو پاستري يتبع مجرى مخابراته في باريس، كان المستر كيڨ قد فرغ من العمل الذي انتدب لأجله، وبعد أن رفع التقرير الذي قلنا عنه، أقلع إلى برندزي، وقد تلاشت عند مؤخر السفينة التي أقلته جميع الأحلام والأماني التي أثارها مقدمه في القلوب والعقول، وتغذت هذه القلوب والعقول بها طوال مدة إقامته.
فازداد القلق والاضطراب، وكثر الأرق في الأوساط المالية، كلما أدنى تصرم أيام فبراير شهر مارس ذا الاستحقاقات المخيفة، وتناول المعية الخديوية ذاتها.
فأخذ الوزير إسماعيل صديق باشا، وقد كثر حوله ضرب الأخماس للأسداس يتفنن، ويجتهد، ويبذل وسعه، ويستنبط الحيلة بعد الحيلة لإخراج النقود من كل خزنة يظن أو يبلغه أنها نائمة فيها ، ومن أيدي الماليين الزائدة الفطنة فيهم على الطمع، حتى اهتدى في نهاية أمره إلى طريقة إصدار أذونات على بياض وهي أذونات من نوع خاص تستخرج من سجلات ذات قطع متسلسل خاص، وذات حساب خاص بوزارة المالية، وشرع - مثلا - مقابل مائة ألف جنيه تدفع إليه نقدا، على أن يسددها بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر بفوائد 20٪ أو أكثر سنويا، يعطي أذونات بقيمة مائتي ألف جنيه وثلاثمائة ألف جنيه وأربعمائة ألف جنيه ضمانة للسداد.
ولما كانت الفوائد الجسيمة الموعود بها، على هذه الطريقة، من شأنها إثارة مطامع الجشعين، أقبل كثيرون على هذا الفخ الجديد، وسقطوا فيه، ولات حين مندم!
فتمكن الوزير بهذه الوسائل من دفع استحقاق أول مارس في حينه، ولم تكن على الدفع شية سوى أنه لم يكن كله ذهبا، واضطر حاملو الأسهم إلى استلام من 10 إلى 12٪، من الواجب لهم، ريالات مجرية فضية عليها صورة الإمبراطورة ماريا تريزا.
وتمكن كذلك من دفع استحقاقات 10 مارس و20 مارس بواسطة تجديدات قبلت بعض المصارف أن تجريها له مقابل إعطائه لها ضمانة للسداد أذونات على بياض، قيمة كل منها ضعفا قيمة السند المجدد، بل ثلاثة أضعافه أحيانا.
وتمادى الوزير في أمر إصدار تلك الأذونات على بياض، والتعامل بها إلى حد رأى نوبار باشا معه أن إسماعيل صديق باشا عامل على حفر فوهة بركان، في الحقيقة، تحت قواعد الحكومة المصرية، فسافر إلى أوروبا في 21 مارس بدون إخطار أو إشعار أحد.
ولما كان الملأ الأجنبي ينظر إليه، ويعتبره بطل المقاومة البادية حول العرش ضد الإجراءات المصبوغة بصبغة اليأس وقلة الذمة، التي كان يجريها زميله إسماعيل صديق باشا، وكان يعتقد فيه، وحده، الكفاءة والحكمة اللازمتين للخروج من تلك الأزمة الحادة، بدون إلقاء الشرف المصري في مهاو سحيقة - وليس من داع هنا للبحث في ما إذا كانت نظرية الملأ الأجنبي، وآراؤه فيه صائبة أم مخطئة - فإن سفره الفجائي أبلغ الاضطراب والقلق أقصاهما، وعده الناس إنذارا بأن السقطة باتت قريبة لا مفر منها، لا سيما أن الأنباء عن تأسيس البنك الأهلي، الذي كان المسيو پاستري يتخابر في أمره، انقطعت بالمرة.
ولكن الحكومة المصرية رأت أن ترفع ثقة النفوس قليلا، وتقوي آمال القلوب، فأشاعت أنها اتفقت مع الحزب الفرنساوي على استبدال ذلك البنك الأهلي بصندوق استهلاك تدفع الخزينة إليه سنويا المبالغ اللازمة لدفع فوائد الدين المصري واستهلاكه. والمقصود بالدين المصري أقراض سنة 1862 وسنة 1864 وسنة 1866 وسنة 1867 وسنة 1868 وسنة 1873، والدين السائر، والقسط السنوي المطلوب للحكومة البريطانية بصفة فوائد على ال 176000 سهم من أسهم القنال التي اشترتها، والجزية الواجب دفعها سنويا إلى الأستانة.
ولزيادة الضمانة يحظر على ذلك الصندوق الدخول في أية عملية تجارية أو استغلالية، وتسلم إدارته إلى ثلاثة مندوبين أوروبيين إلخ. (كما أشيع عن نظام البنك الأهلي المزعوم)، ويوضع تحت ضمانة المحاكم المختلطة المنشأة حديثا، ويصدر في أول يناير من كل سنة بيانا لمجرياته، طبقا لجداول يضعها وزير المالية بالاتفاق مع المندوبين، وهلم جرا.
ودارت المخابرات فعلا بين الماليين الفرنساويين والحكومة المصرية على إنشاء ذلك الصندوق.
ولما رأى الدوك ديكاز وزير الخارجية الفرنساوية أن مدارك أعضاء وفد التخابر الفرنساويين المالية، وثبات أخلاقهم، ليست مما يوجب الثقة والطمأنينة، أوفد حالا إلى مصر المسيو أوتريه، أحد عماله الأكثر ذكاء وحذاقة، لكي يعضدهم بنصائحه، وما له من الهيبة في النفوس، وينورهم بما له من الخبرة الشخصية في الأمور المصرية - وهي خبرة اكتسبها بمقتضى السنين الطوال التي أقامها بالإسكندرية، بصفته قنصلا عاما للحكومة الفرنساوية.
فقابل الملأ الغربي، بمصر، مجيئه بارتياح تام، لوثوقه من أنه لسابقة احتكاكه بكثرة بالحكومة المصرية، ولسابق وقوع حادث بينه وبينها أثناء توظفه، لم يكن من شأن عبرته أن تنسى، ليس بالرجل الذي يستطيع إسماعيل صديق باشا الضحك على ذقنه والتلاعب به.
ذلك الارتياح تطور حتى صار ثقة تامة، لأن المسيو أوتريه ما أقام بالقرب من الخديو برهة إلا ووثق من صدق شعوره وحسن نياته، ومن أنه لن يستطيع على مجرد فكرة الإفلاس صبرا، وأنه سيبذل إذا وسعه للقيام بتعهداته إلى النهاية.
وبلغت به الثقة التي أخذ يجتهد في إدخالها إلى القلوب أنه أنبأ يوما بأن قرض سنة 1873 لا بد من أن يصعد عن قريب إلى 80، ولا غرابة في ذلك، فإن سياسة الحكومة الفرنساوية بمصر كانت مبنية على عمل ما في الإمكان لمساعدة مصر على الخروج بشرف من الأزمة الحادة المنشبه مخالبها في صدر خزينتها، لأنه كان يهمها جدا أن لا تصاب بضرر المصالح المالية الجسيمة التي كانت للفرنساويين في القطر، لا سيما للبنك العقاري الفرنساوي الذي كان تحت مراقبتها.
ولكن بينما كانت خطة الحكومة الفرنساوية ترمي إلى إحياء الثقة في القلوب، وإلى إيجاد أدوية فعالة تخفف وطأة الداء، إن لم تشفه تمام الشفاء، كانت مظاهر خطة الحكومة الإنجليزية تحمل على الاعتقاد بأنها إنما تريد بالخديو سوءا، وإنما تقصد جره إلى التهلكة، لكي يتسنى لها فيما بعد، وفي الوقت المناسب أن تمد إليه يدا منقذة لن يعود يستطيع سوى التمسك بها، فيصبح هو ومصر تحت رحمتها.
ومما كان يدل على أن هذه هي خطتها، على ما فيه من حوامل على الاشمئزاز والكره، هو أنه كلما وفق الراغبون في مداواة الأدواء المصرية إلى استنباط طريقة أو تدبير من شأنهما تخفيف الوطأة عن الصدور، كان ممثلو تلك الحكومة يهبون حالا إلى معاكستهما باقتراح مشروع عكسهما تجود به قرائح الخواجات إيليوت وجرينفلد، أو يبني على نصائح المستر كيڨ، أو المستر ريفرس ولسن، بعده، أو أيضا على نصائح الكرنيل ستنتن، القنصل البريطاني العام نفسه، فيؤدي الاقتراح إلى تأجيل الطريقة أو التدبير.
ومع أن الحكومة البريطانية كانت أول الطالبين بوضع الإدارة المصرية تحت مراقبة مالية أوروبية، فإنها حينما طلب إليها أن تعين مندوبا من قبلها للاشتراك مع المندوبين الفرنساوي والإيطالي، والقيام بشئون تلك المراقبة، ترددت، ثم اختلقت العائق بعد العائق، وأخيرا تقهقرت ورفضت. وبلغ من إغراق الماليين البريطانيين في الوقت عينه، في الإقدام على الحط من سعر الأوراق المالية المصرية في بورصة لندن أنه لم يعد في الاستطاعة نسبته إلى مجرد المضاربة، وأن أحاديث الناس أخذت تنسبه إلى إيعاز سري صادر من الحكومة الإنجليزية عينها إلى أولئك الماليين.
ومما زاد الطين بلة، وألبس أعمال هذه الحكومة ثوبا ضيقا من الريب والشكوك، هو أن المستر دزرائيلي، رئيس الوزارة البريطانية، اليهودي الأصل، المرفوع إليه تقرير المستر كيڨ، بدلا من الإسراع إلى نشره، تهدئة للخواطر، وإجابة للرغائب البادية من كل حدب وصوب، رأى أن يعلن في خطبة ألقاها في 23 مارس من هذه السنة على مجلس العموم «أن الخديو سأله - بناء على أن حالة المالية المصرية سيئة، وأن البيانات التي قدمها للمستر كيڨ إنما كانت من نوع ما يسر إلى الصديق، لا من نوع ما تستحب إذاعته - أن لا ينشر التقرير الذي وضعه المستر كيڨ.»
فكان لقوله هذا أسوأ وقع في النفوس، وأوجب فرقعة وغضب وغيظ في الأوساط المالية أدت إلى هبوط سعر قرض سنة 1873 من 63 إلى 51!
نعم إن المستر نورثكوت، وزير المالية البريطانية، حاول في جلستي 27 و29 مارس تخفيف وطأة ذلك الوقع السيئ المسبب عن كلام رئيسه، ولكنه لم يفلح إلا قليلا، لأن الضربة كانت قد أصابت مقتلا. لذلك لما أعلن في 31 منه وصول إشارة تلغرافية من الخديو إلى وزارة الخارجية تظهر رغبة المليك المصري في أن ينشر تقرير المستر كيڨ، لم يكن لإعلانه هذا أقل تأثير، ولم يبق التحسين الناشئ عنه في أسعار الأوراق المصرية سوى بضعة أيام،
2
مع أن التقرير كان في مجموعه موجبا للارتياح والاطمئنان.
نعم إنه اعترف، صراحة، بأن مبالغ جسيمة صرفت في وجوه عديمة الفائدة، أو في أعمال مفيدة نفذت على غير المرام أو بسرعة ضارة - على أن مصر تشترك فيما هو خاص بهذا النوع من الأعمال مع كل البلاد الحديثة، كالولايات المتحدة وكندا - وأن مبالغ أخرى جسيمة فقدت في حملات عسكرية لا طائل تحتها، أو التهمها أفاقون ماليون وسياسيون، أو موظفون تمكن بعضهم بعد خدمة بضع سنوات من الانسحاب بثروة طائلة، بالرغم من أن مرتباتهم لم تزد على أربعين جنيها شهريا.
نعم إنه أعلن بأن كل ما يمكن أن يكون ضمانة لسداد الديون قد أصبح مرهونا، وإن لم يعد في وسع الحكومة افتداء الدين السائر، ولكنه أكد في الوقت عينه أن مصر - بالرغم من ذلك جميعه - إذا ساعدتها قوة خارجية كافية على الاقتصاد في مصروفاتها، وأعادت إليها ثقة الغير بها، تستطيع سداد جميع ما عليها من الديون، والخروج من الأزمة التي هي فيها بشرف وسلامة معا.
على أنه يجب لذلك:
أولا:
أن توحد ديون الحكومة والدائرة السنية معا، ومقدارها 76746812 جنيها.
ثانيا:
أن تستبعد من هذا القدر أقراض سنة 1864 وسنة 1865 وسنة 1867 القصيرة المدى، وتسدد من متحصلات «المقابلة».
ثالثا:
أن الباقي مضافا إليه مبلغ مليوني جنيه قيمة هذا الاتفاق الجديد، ومليون جنيه، قيمة تكاليف حرب الحبشة، يجمد ويجعل دينا واحدا بفائدة 7٪ سنويا، ويسدد في سنة 1926.
وكان المسيو پتريه قد عاد في، الأثناء، إلى مصر بخفي حنين، وأخذ يجري المخابرات، ولكن في وجهة أخرى.
غير أنه ما لبث، برهة، إلا واضطر إلى إيقافها بغتة، وذلك لأن الساعة باتت خطيرة وحبلى بحوادث جلي، فإن أثمار مماطلات إسماعيل صديق باشا بلغت النضوج، وأصبح الزمان لا يستطيع سوى قطفها.
هذا الوزير بفضل مركزه، وقربه من قلب أخيه في الرضاعة السامي، كان قد تمكن لغاية ذلك الحين من التملص من كل ارتباط مقيد بضوابط محددة، ووجد طريقة لتأخير توقيعه أو رفضه، كلما كانت تدق الساعة الموجبة ذلك التوقيع، وغرضه استغلال سهولة تصديق عمال البنك العقاري الفرنساوي في وعوده المزوقة، ليثبت عندهم الاعتقاد بأنه لن يتفق مع غيرهم مطلقا على إنشاء البنك الأهلي أو صندوق الاستهلاك، أو مشروع تجميد الدين السائر، ويتذرع بهذه الوسيلة إلى وضع معظم هذا الدين السائر على عاتقي ذلك البنك، بأمل جعله دائنه الوحيد دون غيره.
ولكن أولئك العمال أدركوا في نهاية الأمر أن تلك الوعود إنما هي في الحقيقة شراك ينصبها ذلك الوزير لهم، فأخطروه بصراحة أنهم يرفضون تقديم أية سلفة جديدة قد يطلبها منهم إن لم يعلن أولا اعتماده اقتراحاته الأخرى اعتمادا نهائيا، ويوقعها.
تلك كانت الحال في 28 مارس، أي خمسة أيام بعد أن اضطربت الأسواق المالية لخطبة المستر دزرائيلي اضطرابها الهائل، وثلاثة أيام قبل استحقاق أول أبريل.
فالساعة كانت إذا خطيرة كما قلنا لأنه ما من أحد إلا وكان يعلم أن الوزير لمرور فصل تحصيل الضرائب، وضياع الثقة في القطر وفي أوروبا على السواء، لم يستطع جمع النقود اللازمة لتغطية المطلوب في ذلك الاستحقاق، فإلى أين يكون - والحالة هذه - المصير؟
على أن إسماعيل صديق باشا لما وجد الأبواب كلها موصدة، لم ير بدا من اطلاع مولاه على الضائقة التي باتت ماليته فيها، فأدرك الخديو أن تداخله في الأمر أصبح محتما، وأن النجاة لن تأتي إلا من عمل يعمله هو.
ففي الحال، لكي يحفظ سمعة بلده وشرفه، أقدم على مخابرة الحكومتين الفرنساوية والإنجليزية، وطلب إليهما بتوسل، على ما في التوسل من مضاضة على نفسه الأبية، أن تذكرا وثاقات الصداقة القديمة التي تربطهما به، وتمدا يد المساعدة إلى حكومته وإليه، لكيلا يحيق به عار الاحتجاج على السندات الممضاة بإمضائه.
أما الحكومة الإنجليزية، فأجابت برفض مر، في مبناه ومعناه، ولا غرابة فإن نيات المستر دزرائيلي اليهودي الأصل، السيئة بمصر وخديوها، لم تعد سرا لأحد.
وأما الحكومة الفرنساوية، فهاجتها رسالة (إسماعيل) المسلمة إليها في صباح 31 مارس، فطرح المسيو ديكاز مضمونها على بساط مداولة مجلس الوزراء الملتئم لهذا الغرض. ولما كانت مصالح البنك العقاري الفرنساوي، ومصالح تابعه البنك الزراعي مرتبطة ارتباطا كليا بالمصالح المصرية، فإنه كان من البديهي أن لا تتخلى الحكومة الفرنساوية عن مساعدة المالية المصرية، لئلا يصاب بمصيبتها ثاني محل مالي بفرنسا كلها، وتنجم عن تلك الإصابة عواقب في منتهى الخطورة لمركز فرنسا المالي.
فاقتنع الوزراء الفرنساويون بما أبداه لهم زميلاهم الدوق دي كاز والمسيو ليون ساي من البيانات الموجبة للتداخل، وبعد أن اتفقوا مع المسيو جمبتا، زعيم أكبر الأحزاب البرلمانية، لكي يتقوا كل سؤال في هذا الشأن يعن لأحد النواب طرحه عليهم، فيحرجهم ويزيد في حرج مركزهم، أرسلوا في مساء ذلك اليوم عينه إلى لندن المبالغ اللازمة لدفع استحقاق الغد.
وبينما تلك المداولة الوزارية تدور في باريس، كان قلق النفوس بالإسكندرية، لا سيما في البنوك ذات الشأن الكبير في استحقاق أول أبريل، قد بلغ أشده، وأخذت الهواجس تعذب القلوب عذابا أليما، لأن افتقار الحكومة الكلي إلى نقود كان معروفا لدى الجميع، وبالتالي تعذر الدفع عليها بما لديها من الوسائل، فإن لم يأت الفرج من الخارج، أفلا تقع الصاعقة؟
فلا غرابة والحالة هذه في أن الكرى هجر جفون رجال البنوك كلهم في الليلة ما بين 31 مارس وأول أبريل سنة 1876، وأن عيونهم اكتحلت بسواد الاضطراب الناشب في أفئدتهم، فأخذوا يساورون شجونهم باجتماعات هنا وهناك، يتداولون فيها فيما يجب عمله، ويترقبون بفارغ الصبر ورود الأنباء من الخارج، ويقيمون حول تواكيل التلغراف من يكفلونهم بأن يأتوهم بالإشارات البرقية ساعة ورودها، عسى أن يكون ضمنها الإشارة المنقذة، ويجتازون ساعات الليل وهم حاملون عبء يزداد شعورهم بثقله، كلما تقدمت تلك الساعات نحو النهار، واشتد الأمل بقرب الفرج.
فلما كان الفجر - وقد أخذ اليأس يخنق الحناجر، وبغلت مخالب الاضطراب صميم الأفئدة - وردت الإشارة الطيبة المنتظرة، وما هي إلا لحظة وطيرت في جميع أرجاء المدينة، فأوجبت ارتياحا عظيما، وشكرانا لرجال البنك العقاري الفرنساوي يشوبه شيء من التهكم.
على أن الطمأنينة التامة ما زالت مبتعدة عن القلوب، لعلم الناس أن الأزمة إنما انفرجت مؤقتا، وأن استحقاقات 10 أبريل و20 أبريل وأول مايو، وهلم جرا تقفو أثر استحقاق أول أبريل، وأنه ما دام الدين السائر متحركا في الفضاء المصري، كنجم ذي ذنب لا ضوابط له، وما دام وزير المالية حرا في تصرفاته، لا قيد عليه، فلا بد من بقاء الحال مضطربة، والخوف من المستقبل حيا.
على أن المسيو باستريه كان قد عاد إلى مخابراته، وطارت الأنباء بأنه أوشك أن ينجح فيها.
ولكن وزير المالية ولفيف المحيطين بالخديو اجتمعوا في الأثناء اجتماعا سريا، وشرعوا يتباحثون في اللازم عمله: «أيصبرون على سقوط موارد الثروة المصرية العمومية، الواحد تلو الآخر، وعلى الاستمرار على مص ثديي تلك الثروة، بالرغم من جفافهما، للتمكن من سداد الفوائد الهائلة الجائرة، المطالب بها جمهور المرابين، أصحاب الديون المصرية، الذين لو حوسبوا حسابا دقيقا لظهر أنهم استردوا فوائد ما أقرضوا أصلا، وزادوا عليه كثيرا؟ أيصبرون على ذهاب ثروة الخديو وثروة أسرته الكريمة برهن بعد رهن، وتحويل إيراد تلو تحويل إيراد إلى أيدي أولئك المرابين أنفسهم، الذين إنما غشوا في الأول، إذ أطمعوا في الاقتراض منهم، وتفرعنوا في الآخر، إذ علموا أنه لم يعد هناك باب لتحقيق المكاسب الفظيعة التي حققوها في بادئ عملهم؟ وما الفائدة من ذلك الصبر، إذا كان لا بد في النهاية من التوقف عن الدفع؟ فلم لا يكون التوقف منذ الآن - ولا يزال بعض الشيء في الأيدي - بدلا من التوقف بعد غد، إذ تكون بصرة قد خربت، ولات حين مندم؟»
وعلى ذلك أقروا التوقف عن الدفع، منذ 15 أبريل، ولكن كيف يبلغ التوقف إلى من يهمهم الأمر؟ وكيف يكون شكله؟
فاتفقوا بعد بحث خفيف على أن التوقف يتخذ في الأول شكل مد أجل فقط، أي أن دفع استحقاقات أبريل ومايو يؤجل إلى بعد ثلاثة أشهر، وقر الرأي على أن يخطر العموم بذلك، بموجب إعلان تصدره محافظة الإسكندرية.
فعلق هذا الإعلان فعلا يوم 8 أبريل صباحا في بورصة الإسكندرية، ومع أن الجميع كانوا يتوقعون مضمونه، إلا أن وقعه في النفوس كان شديدا، على أن بورصتي الإسكندرية ولندن بقيتا متماسكتين إما لأن الإعلان دوخهما، فلم تفقها معناه في الأول، وإما لأنهما رأتا اضطرارهما إلى التجلد واجبا للتبصر.
ولكن التردد لم يستمر طويلا، وما لبثت الأسعار أن انهارت انهيارا مخيفا فمن 11 أبريل إلى 15 منه هبط قرض سنة 1873 إلى 42.
الفصل الثاني
انقلاب ظهر المجن1
وقد يرجى لجرح السيف برء
ولا برء لما جرح اللسان
على أن الطريقة الاستخفافية التي قرر بموجبها التوقف عن الدفع في الاجتماع السري الذي قلنا عنه، بعيد تقديم الحكومة الفرنساوية المساعدة التي جادت بها، بناء على طلب الخديو بأيام قلائل، والكيفية الموشكة أن تكون استهزائية، التي أبلغ بموجبها ذلك التوقف إلى علم العموم، أثارتا تميزا عنيفا في صدور الجالية الأوروبية بالإسكندرية، زاده أيضا، زيادة هائلة، موقف عمال الحكومة وموظفيها، فإنهم إما لكونهم اعتادوا الغطرسة والخيلاء، والنظر إلى الناس من عل، فلم يعودوا يستطيعون أن يصبغوا معاملاتهم معهم بغير تلك الصبغة الكريهة، وإما لأنهم لم يدركوا حقيقة الحال الجديدة، ولم يفقهوا أن مركز حكومة غنية قوية في القلوب، غير مركز حكومة ضعيفة مفلسة، استمروا ملتحفين مظهرهم العادي من عدم الاهتمام المتغطرس بانهيار الثروات الشخصية، وتخرب بيوت أصحابها ، ومن عدم التقلقل في إقدامهم على الاتجار والبيع والشراء، والاستفادة من الثقة العمومية، وقوة الاقتراض والأقراض الناجمة عنها، وتجاوز الحدود في جميع ذلك التجاوز المعتاد، كأن الماضي لا يزال حاضرا، وكأنهم لا يشعرون مطلقا أنهم إنما يتكلمون باسم إدارة، دخلت في دور الإفلاس.
فبدأ هياج الأفكار والأرواح على ألف نوع، واقترن بعدة مظاهر تجووز فيها حد الاحترام الواجب لشخص مليك البلاد. من ذلك أن ناظر دائرته الخاصة عرض في سوق مينا البصل بيع أقطان يسلمها مقابل دفع نقدي، فماجت السوق وهاجت، وانهال عليه الملأ بتهاليل الازدراء والشتم والإهانة المتنوعة، ولولا قليل لضربوه وأخرجوه من الحلقة.
وانعقدت في المدينة عدة اجتماعات، تليت فيها خطب في منتهى الطعن والشدة، وذهب الخطيب في إحداها إلى وجوب خلع الخديو، وعلقت إعلانات كبيرة في الأحياء الآهلة بالسكان، وفي معظم جهات البلد، حرض الرأي العام فيها على المطالبة بقلب نظام الحكم رأسا على عقب، واستلام تداخل أجنبي زمام الأمور في القطر.
2
إلى ذلك الحد البارد وصلت قحة زمرة من المرابين وجمهور من الدائنين، الذين طالما كانوا يتوقعون مكسبا من الخديو، لم يروا للثناء عليه حدا، فكالوا له المديح جزافا، وأنواعا مختلفة في جرائد بلادهم ومنتدياتها، وأقوال الخطباء فيها، ورفعوه إلى ما فوق السبع السماك واندلثوا الآن عليه، حالما شعروا بانقطاع مورد المكاسب والانتفاع.
فليتعظ بذلك كبراء الأرض، وليعلموا أن بخور الثناء الذي يحرقه حولهم القوم المستغلون مركزهم وثروتهم قد يتلاشى بسرعة، وقد لا يبقى له من أثر سوى الجمر الذي أحرق به، والذي قد يستعمله القوم أنفسهم ليحرقوا به سمعة من كان معبودهم بالأمس، والقليل الباقي من مصالحه، حالما ينتهي استغلالهم الطويل إياه بحمل الدهر على قلب ظهر المجن له.
على أن المظاهرة التي أساءت إلى قلب الخديو، وجرحته جرحا أبلغ من كل كلم سواه فتحته في قلبه أية مظاهرة أخرى، إنما هي المظاهرة التي حدثت في بورصة الإسكندرية عينها. فإن إدارة هذه البورصة بتأثير الإعجاب الماضي الحاف من كل جهة بشخص (إسماعيل) كانت منذ عهد قريب قد أقامت صورته في صدر قاعة جلساتها بحفلة حافلة، دوى صداها في جميع أنحاء القطر مدة.
ففي ثورة النفوس التي نحن بصددها اقترح بعضهم نزع تلك الصورة من هناك، وطردها من المحل كله، كغير جديرة وغير مستحقة أن تكون فيه، ولم يمكن إلا بكل تعب واحتياط حمايتها من المعاملة المهينة المهددة بها سخط أولئك المرابين والدائنين الجشعين.
3
ولم تكن قد مضت سنة، بعد، على إحراق أولئك الأقوام بخور ثنائهم المغرض أمامها، فما أقرب الصخرة الثرپيئية من الكاپيتول في ماجريات الحياة الاجتماعية البشرية.
وبينما كانت هذه المظاهرات السمجة تتعب آذان الهواء، بضجتها وجلبتها، وضوضائها الوقحة، وتثير انفعال الغضب والسخط في قلوب الأهالي المخلصين الولاء لخديوهم، بل تجمع حوله، بتأثير الرابطة الوطنية، والرابطة الدينية، ذات النافرين عنه، لسوء ما أصابهم من حكومته، اجتمع في البنك السلطاني العثماني كبار حملة الديون، الذين وقع عليهم أعظم الضر في أمر توقف وزير المالية المصرية عن دفع المستحق لهم، وطفقوا يتداولون فيما يجب عمله.
فقر رأيهم عن أن يبعثوا وفدا إلى الخديو، ليستفهموا من سموه عما وصلت إليه المخابرات الدائرة بغرض الوصول إلى إعادة مجاري الدفع، وليطلبوا فيما لو خابت تلك المخابرات، إشراكهم مع حكومته في البحث عن الطرق التي قد توجب الحال إجراءها في المستقبل، محافظة على مصالح الجميع.
ولكن الخديو في تأثره الشديد مما كان قد حدث بالإسكندرية، وإظهارا لعدم رضاه، أبى مقابلة رجال ذلك الوفد، بالرغم من أنه لم يكن يرفض أبدا مقابلة أحد، وبالرغم من أن أولئك الرجال كانوا يمثلون في الحقيقة مصالح تقدر بملايين الجنيهات، وأحالهم على وزير ماليته.
فقابلهم إسماعيل صديق باشا بمنتهى اللطف والبشاشة، وأجاب على أسئلتهم، مؤكدا أن الحكومة تنوي القيام بكل تعهداتها، بدون الالتجاء إلى تحويل قهري، وأن المخابرات التي أوقفت عند حلول استحقاق أبريل، استؤنفت من جديد مع زمرة الماليين القدماء عينهم، ومع ماليين آخرين، وأنه سيوقع عن قريب اتفاق يمكن من دفع المطلوبات كلها إلى حملة الأسهم. فإذا خابت - لا سمح الله - تلك المخابرات ، فإنه يكون لحملة الأسهم الحق في انتداب من يشاءون لحضور المباحثات في الإجراءات الواجب اتخاذها.
فارتاح رجال الوفد إلى أقوال الوزير، وعادوا إليه من غدهم ليحرر لهم كتابا بها، فأبى، ثم لم تمض أيام قليلة إلا وأشيع عزله من منصبه، ولكن الإشاعة كانت في غير محلها.
على أن المسيو پستريه - بالرغم من كل ما حدث - كان لا يزال مجدا في مخابراته، لا سيما أنه بعد انسحاب الحزب الإنجليزي المعرقل لجميع المشروعات المعروضة من الحزب الفرنساوي، أصبح سيد الميدان دون غيره، وعزا بعضهم انسحاب الحزب الإنجليزي إلى كونه أدرك أن الحالة باتت ميئوسا منها.
فأدت نتيجة مخابراته إلى ولادة مشروع عرضه البنك العقاري الفرنساوي على الخديو، والتمس موافقته عليه. فأجل الخديو إجابته 48 ساعة، لم تضيع الهيئة الرسمية الفرنساوية منها دقيقة، بل شغلتها كلها بالتأثير على (إسماعيل)، تأثيرا قويا، لتحمله على قبوله.
فاعتمده (إسماعيل) في نهاية الأمر، وأصدر مرسومين، نشرتهما «الوقائع الرسمية» في عدد 7 مايو سنة 1876، عين أولهما شروط الاتفاق وضماناته، وبين الثاني طريقة إجرائه.
أما مضمون المرسوم الأول، فهو أن عموم ديون الحكومة والدائرة السنية توحد وتجعل دينا واحدا عاما ذا فوائد سعرها 7٪، ويسدد في 65 عاما بسحوب في كل ستة أشهر، وسندات هذا الدين تعطى هكذا:
أولا:
بقدر القيمة الحقيقية، فيما يختص بأقراض سنة 62 وسنة 68 وسنة 70 وسنة 73.
ثانيا:
باعتبار 100 جنيه لكل 95 جنيه فيما يختص بأقراض سنة 64 وسنة 65 وسنة 67.
ثالثا:
باعتبار 100 جنيه لكل 80 جنيها من الدين السائر، وأن مجموع الدين العام الموحد هكذا يكون 91000000 جنيه اسميا، تمتع أول يولية سنة 1876، ويحتاج لسنوية قدرها 6443600 جنيه، منها 684411 جنيها لحساب الدائرة، و5759189 جنيها لحساب الحكومة.
وإن إيرادات مديريات الغربية، والمنوفية، والبحيرة، وأسيوط، ودخوليات مصر والإسكندرية ، وجمارك الإسكندرية، والسويس، ورشيد، ودمياط، وبورسعيد، والعريش، والسكك الحديدية، ومصلحة التبغ (الدخان)، ومصلحة الملح، ومصائد المطرية، والمسنوات (الهواويس)، ورسوم الملاحة في النيل، وكوبري قصر النيل، وقدرها كلها 5790845 جنيها تخصص لخدمة ذلك الدين الموحد العام.
وأن دفع ما يجب على الدائرة السنية دفعه، وقدره 684411 جنيها يكون مع تحصيل المطلوب لها أولا فأولا ، وأن ضم هذا المبلغ إلى المبلغ السابق يكون مبلغا إجماليا قدره 6475256 جنيها لخدمة لن تتقاضى سوى 6443600 جنيه.
وذكر ذلك المرسوم أن عدة محال مالية أخذت على نفسها القيام بنفاذ المشروع، وأن الخديو يعين مندوبين خصوصيين لمراقبة نفاذه، وأنه سينشأ لخدمة الدين الموحد صندوق خاص يفصل المرسوم الثاني نظاماته وقوانينه.
وأما مضمون المرسوم الثاني هذا، فهو إن إدارة الصندوق الخاص تناط بمندوبين أجانب يعينهم الخديو، بناء على تقديمهم من دولهم، ويكونون موظفين مصريين.
وأن الأموال التي خصصت بسداد الدين الموحد تورد إلى هذا الصندوق الخاص، كما يورد إليه القسط السنوي المطلوب من الدائرة السنية، ومبلغ الفوائد المطلوبة للحكومة الإنجليزية عن أسهم السويس، فإذا لم يكف الموجود لدفع ستة أشهر ما، فإن وزير المالية يتدبر في سد العجز قبل حلول الميعاد بخمسة عشر يوما.
وإن كل نزاع ينجم بين مديري هذا الصندوق ووزير المالية يرفع أمر النظر فيه، وفصله إلى المحاكم الجديدة (المحاكم المختلطة).
وإن المندوبين يعينون لمدة خمس سنوات، ويجوز إعادة انتخابهم، وأنهم يقيمون بمصر، وأنه يحظر على هذا الصندوق الدخول في أي عمل بنكي أو تجاري أو صناعي فني، كائنا ما كان، وأنه لا يسوغ للحكومة بدون موافقة المندوبين إدخال أي تعديل في الضرائب المخصصة لخدمة الدين الموحد، أو في المعاهدات التجارية المنظمة لرسوم الجمارك، من شأنه أن يقلل من مقدار الإيرادات.
وأن الحكومة تتعهد هي والدائرة معا، بأن لا تصدر أذونات جديدة، ولا تعقد قروضا جديدة إلا بموافقة المندوبين المذكورين، ولكنها - لكيلا تعرقل أعمال الإدارة اليومية - يمكنها أن تفتح لنفسها حسابا جاريا، عند أحد البنوك لغاية 50 مليونا من الفرنكات على شرط سداده من أصل الإيرادات في نهاية كل سنة.
ثم أصدر (إسماعيل) مرسوما ثالثا، في 14 مايو عينه، عدل بموجبه تشكيل إدارة وزارة المالية، بأن أدخل عليها مجلسا أعلى للخزينة، منقسما إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مختص بمراقبة خزائن الحكومة المركزية وحساباتها.
والقسم الثاني: مختص بمراقبة الإيرادات والمصروفات، والنظر في أمر الموظفين والمستخدمين، الثابت عليهم أنهم أجروا دفعا، لا شيء يبرره.
والقسم الثالث: مختص بتحقيق الحسابات وتصفيتها، والتصديق عليها، أو انتقادها إذا كان هناك محل للانتقاد.
ذلك المجلس الأعلى يبدي رأيه في كل الميزانيات النظرية التي يضعها وزير المالية قبل نهاية كل سنة بثلاثة شهور.
ويكون من عشرة أعضاء: خمسة منهم أجانب، وخمسة وطنيون، ومن رئيس يعينه الخديو.
ويكون قسمه الأول من ثلاثة أعضاء أجانب كلهم، وقسمه الثاني من خمسة أعضاء، منهم أجنبيان، وقسمه الثالث من ثلاثة أعضاء، كلهم وطنيون.
وتعيين أعضاء هذا المجلس، وعزلهم، وإيقافهم، أو إحالتهم على المعاش - جميع ذلك يكون حقا من حقوق الخديو، بعد أخذ رأي مجلسه الخاص، على أن المجلس الأعلى يكون مطلق التصرف في أمر وضع النظامات اللازمة لخدمته الداخلية، وتنظيم أقلامه، وتوزيع الأعمال على موظفيه ومستخدميه.
وبما أنه لم يرشح أحد، سوى الفرنساويين إلى هذا التدبير الجديد، فإن سعر قرض سنة 1873 - وكان قد ارتفع إلى 47، على أثر انتشار خبر نجاح المخابرات التي كان المسيو پستريه مكبا عليها - هبط في 20 مايو إلى 40 بميل إلى زيادة في الهبوط، لا سيما بعد اطلاع الجمهور على نصوص المرسوم الأخير الفرنساوية - وكانت من وضع المسيو شالويا رئيس مجلس المالية المصرية الأعلى، والعضو في مشيخة مملكة إيطاليا - وهي نصوص ظن الملأ أن المقصود منها المزاح والهزار في أمر حيوي، لغرابة تعابيرها.
4
ولكن التدبير المتفق عليه سير به بالرغم من ذلك، وعين كل من المسيو دي بلينبير والهرفون كريمر، والمسيو باراڨلي مندوبين في صندوق الدين، بناء على اقتراح الحكومات الفرنساوية والنمساوية والإيطالية.
وأما الحكومة البريطانية، فإنها اتباعا لخطتها السابق إعلانها من عدم رغبتها في التداخل في أمور مصر الداخلية، أبت تعيين مندوب من قبلها، مع أن سندات معظم الدين المضمون كانت في أيد بريطانية، وعليه فإن رجال المال بلندن أعلنوا عدم رضاهم عن المشروع الفرنساوي، وعدم ارتياحهم إليه بالمرة. وعبرت لجنة البورصة فيها عن ذلك الشعور العام، بإعلانها نيتها على رفض أسعار الدين المصري الموحد بالكيفية التي ذكرناها في جدول الأعمال البورصية.
فبذل الماليون الفرنساويون وسعهم لمقاومة تلك النية، والتغلب على هذه العراقيل، ولكنهم لم ينجحوا، واضطروا إلى التنازل عن مشروعهم، ومخابرة الماليين البريطانيين في أمر وضع مشروع آخر، يكون أقرب إلى الإنصاف، وأجمع للآراء، وأضمن للمصالح المتضاربة.
فبات مشروعهم، إذا، في خبر كان، وشعور الناس بأن ثلاثة مراسيم خديوية باتت حبرا على ورق، وأن إدارة وأقلاما أسست بشكل رسمي، واشتغلت بشكل رسمي، عادت إلى العدم بتأثير المعارضة الإنجليزية، ذهب بجانب عظيم من المهابة التي كان للمليك في القلوب.
وكان المستران فرولنج وجوشن، بصفتهما مصدري ثلاثة من الأقراض المضمونة، قد قدما إلى وزارة الخارجية البريطانية احتجاجا شديدا، حينما بلغت لندن أنباء الاتفاق على توحيد الدين المصري.
وكذلك فعل مجلس إدارة حاملي الأسهم الأجنبية، وأكد اللورد دربي وزير الخارجية لكل منهما أنه أصدر تعليمات إلى قنصل بريطانيا العظمى العام بمصر، لكي يشد أزر كل مجهود يبديانه بما يستطيع من الوسائل غير الرسمية.
5
فلما سقط المشروع الفرنساوي عقدت بلندن في أوائل شهر يولية جمعية عمومية لحاملي الأسهم، وكلف فيها المستر ج.ي. جوشن، العضو في البرلمان البريطاني، لما له من الخبرة في الأمور المصرية، ولأهمية مركزه الشخصي بالذهاب إلى مصر صحبة فرنساوي، يقال له المسيو چوبير، بصفتهما وكيلي أصحاب الشأن البريطانيين والفرنساويين، ليتفاوضا مع الخديو، ويجتهدا في الاتفاق سويا على تدبير يكون أصلح من التدبير المقدم من جانب رجال البنك العقاري الفرنساوي.
وكان المستر جوشن قد أبدى لبعض أصدقائه رغبته في قبول تلك المهمة.
فلكي يمهد اللورد دربي الطريق أمام المندوب البريطاني اجتهد في تفهيم الخديو بواسطة الكرنل ستانتن، القنصل البريطاني العام، بأن «المستر جوشن كان عضوا في الوزارة السابقة، ولا يزال رجلا ذا مركز سام، وشهرة بعيدة في بلاده.» وأكد الكرنل ستانتن للخديو أن الرجل «سيقيم الميزان باستقامة بين سموه وبين الذين هو آت نائبا ومحاميا عنهم، وإنه إذا ظهر أن الاتفاق أمر يتعذر الوصول إليه مع مندوب غير متحيز كالمستر جوشن، فإنه يصبح من المحال الاستمرار على حال مجلبة الخراب للبلاد ودائنيها.»
6
وبمناسبة هذا التهديد والتخويف المبينين، يجدر بنا إيراد قول للمستر ماك كون، المؤرخ الإنجليزي في هذا الشأن. قال: «وإنه لمن الغريب جدا أن تكون الحال المصرية المالية الحالة الخارجية الوحيدة التي أوجبت تدخل وزارة خارجية بريطانيا العظمى. فإنه في نفس هذه السنة التي شدت فيها أزر إرسالية المستر جوشن والمسيو چوبير، الشد كله، الذي كان يمكن لها إبداؤه بكيفية ملائمة، كان يوجد لا أقل من سبع عشرة دولة مفلسة في جدول نقابة حاملي الأسهم الخارجية الأسود. وبلغت الديون المطلوبة منها 400 مليون جنيه، ومع ذلك فلم يرو مطلقا أن الحكومة البريطانية أبدت على إحداهن احتجاجا، ولو برسالة قنصلية في مصلحة المقرضين، ولكن الشيلوكات
7
الذين جزروا مصر لم يكونوا دائنين من نوع بقية الدائنين، فإنهم كانوا في باريس ولندن على السواء، أصحاب قوة وبأس في البرلمان والصحافة، وعليه فإن كل وسائل الدوائر الرسمية في البلدين استخدمت لتمكنهم من الحصول على أكثر من الست عشرة أوقية المطلوبة لهم من لحم الفلاحين المصريين البائسين.»
8
على أن الملأ المالي المصري لم يجد من نفسه صبرا يمكنه من انتظار تطور الحوادث، ومجيء الأيام بالأدوية الموافقة لمداواة المرض المالي الناشب مخالبه في خزينة الحكومة، بل حالما سمع أن الخديو أبى مقابلة وفد الجمعية التي انعقدت في البنك السلطاني العثماني، وأن الوزير إسماعيل صديق باشا أبى أن يثبت كتابة وعوده الشفهية لذلك الوفد، وحالما ظهرت في الوجود المراسيم الخديوية الثلاثة البادي ذكرها، لم يسكت حتى يرى ماذا تكون نتيجتها، وكيف يقابلها الرأي العام المالي بأوروبا، بل أقبل، من ساعته، وأرسل إلى الحكومة والخديو على أيدي محضري المحاكم المختلطة الجديدة احتجاجات رسمية على السندات المستحقة عليهما، التي لم تدفع قيمها.
وأعقب الاحتجاجات بطلب حجوزات يوقعها على ممتلكاتهما، وقفى ذلك كله بقضايا تجارية، رفعها عليهما، باستناده على المادة العاشرة من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة.
فأصدرت هذه المحاكم أحكاما ألزمت بها الحكومة، والدوائر الخديوية بدفع المستحق عليها، وجعلت أحكامها مشمولة بالنفاذ المؤقت، حيث نصت القوانين الجديدة بوجوبه.
فأكبرت الحكومة، وأكبر الخديو ما عداه - لعدم سابقة حدوثه، ولاستبعادهما توقعه، ووقوعه مطلقا - وقاحة وقحة في الدائنين والمحاكم معا، وأصدرت الحكومة أوامرها إلى عمال التنفيذ بالامتناع عن تنفيذ تلك الأحكام امتناعا كليا.
فقام، على أثر ذلك، نزاع عنيف بين هيأة القضاء المختلط والحكومة، وأعلن معظم القضاة الأجانب عزمهم على ترك مناصبهم، ومغادرة الديار المصرية إذا لم تقم السلطة التنفيذية بتنفيذ الأحكام القانونية التي يصدرونها. وتطرف أحدهم - وكان هولنديا يدعى المسيو هاكمن، من قضاة محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة - وأعلن إقفال المحكمة وتوقفها عن القضاء بين الناس، حتى تخنع الحكومة إلى أحكام المحاكم، وتقوم بتنفيذها، وهي صاغرة، وحتى تعطي الضمانات الكافلة على عدم عودها في المستقبل إلى عرقلة أعمال القضاء، ووضع العقبات في سبيل سيره.
وتداخل قناصل الدول العموميون بمصر في النزاع تداخلا سياسيا، وتحيزوا للمحاكم على الحكومة، وأنذروا هذه بالويل والثبور، إذا استمرت متمادية في عنادها وإصرارها عليه.
9
فلما رأى الخديو أن موقفه بات خطيرا، وتيقن أنه بإدخاله في القوانين الجديدة نص المادة العاشرة المذكورة - سواء أكان ذلك لأن نوبار باشا خدعه وحول نظره عن نتائجه، أم لأنه أراده من تلقاء نفسه - بات لا يستطيع إلا الامتثال لما أصبح قانونا مصدقا عليه من الدول، أو لأنه غلب صوابه على هواه، كما كان المنتظر من رجل حنكته الأيام مثله، فإنه رفع التحظير الذي كان وضعه على أيدي رجال التنفيذ الإداريين، وأذن لهم بالامتثال لمنطوقات الأحكام الصادرة والتي ستصدر، أيا كان نصها، ومهما كان موضوعها.
ولكنه لاعتباره ما وقع من بعض القضاة الأجانب، لا سيما من المسيو هاكمن مهينا لشخصه، وحاطا من كرامته، اشترط، نظير رفعه العقبات من سبيل أحكام القضاء ضده وضد حكومته، أن تقدم له الترضية اللازمة.
فاجتمعت جمعية محكمة الاستئناف المختلطة العمومية، وقررت أن يقدم المسيو هاكمن استعفاءه من خدمة الحكومة المصرية.
ففعل، وبذلك عادت المياه إلى مجاريها، أي أن دائني الحكومة والدوائر الخديوية أصبحوا يجدون من أحكام القضاء المختلط قوة قانونية يتمكنون بموجبها من الحصول على حقوقهم، فاستخدموها، واستعملوها لدرجة توقيع حجز على منقولات سراي الرمل الخديوية، والإنذار ببيعها.
الفصل الثالث
نكبة إسماعيل صديق باشا1
فإن تصبك من الأيام جائحة
لم نبك منك على دنيا ولا دين
ابن الزبير
وبينما هذه الاضطرابات الغريبة آخذة مجراها، المندهشة له أرض الفراعنة، لعدم وقوع مثله على سطحها، منذ أن رسخ في أذهان ساكنيها وقلوبهم أن «ولي النعم» لا يقاوم، وأنه يملك ذات الأعمار والأعراض، لا الأموال والأطيان فقط، وبينما الحكومة تتوقع اشتداد الضيق حول عنقها في المستقبل، بسبب التدخل الدولي بينها وبين دائنيها، وتلوم نفسها لوما شديدا على أنها هي التي فتحت الباب لذلك التدخل بإقدامها على استدعاء التفتيش الأوروبي على إيراداتها وحساباتها، الاستدعاء الذي أدى إلى مأمورية المستر كيڨ، كان المستر جوشن وزميله المسيو چوبير يشدان رحالهما إلى القطر المصري، ويتزودان تعليمات من نادبيهما، حتى إذا كان منتصف أكتوبر، وصلا إلى مصر، ونزلا ضيفين رسميين على الخديو، ونقول «رسميين»، لأن كلا منهما كان معضدا من وزارة خارجية دولته.
فوضع الخديو تحت تصرفهما كل التسهيلات اللازمة لكي يتمكنا من الوصول إلى الغرض الذي أتيا من أجله، وأمر عموم موظفي حكومته بأن لا يضنوا عليهما بمعلوم أو بيان يرغبان فيه، فامتثلوا على مضض منهم.
وكان أكره الموظفين المصريين لمأمورية المندوبين الإنجليزي والفرنساوي، وأعظمهم تغيظا منها، وأقلهم موافقة وصبرا عليها وزير المالية إسماعيل صديق باشا، والقارئ يفهم لماذا.
وكان المستر جوشن لسابقة اختلاطه بالأمور المالية المصرية، يعلم ذلك حق العلم، فصمم على أن يبادئه العداء، ويقاطعه مقاطعة تستلزم إبعاده حتما عن منصبه السامي.
فزار حال وصوله عموم أعضاء الوزارة المصرية، ما عدا «المفتش»، مع أنه الوزير الذي كان نوع الأشغال التي أتى من أجلها يجبره على الاختلاط به أكثر منه بباقي زملائه.
ولم يدع بعد ذلك مناسبة، مهما كانت بعيدة، تمر بدون أن يعلن ويذيع أن إقالة إسماعيل صديق لازمة لنجاح مشروعه ومهمته، ولإنقاذ الخديو من الورطة التي أصبح فيها، حتى بات مجهوده في هذه الوجهة حديث عموم الدوائر في القاهرة، وحتى رسخ في أذهان أكثر المقربين من الذات الخديوية، لا بل في أذهان أولادها أنفسهم، الأمراء محمد توفيق ، وحسين، وحسن، أن بقاء إسماعيل صديق في منصب الوزارة ضار بمصالح الخديو والبلاد المصرية معا، وحتى أصبح الجميع يتمنون ويرومون إبعاده عنها.
ولا غرابة، فإن الرجل كان قد بلغ من العز، والنفوذ، والمكانة، من قلب مولاه، والسطوة على عموم المصالح والإدارات ما لم يرو له نظير أو مثيل في التاريخ المصري بأسره.
فإسماعيل باشا المفتش - وكان يقال له «الخديو الصغير» - كان في الحقيقة الصدر الأعظم المصري، وكان وحده، دون زملائه كلهم، يعمل باستقلال تام في الرأي والتنفيذ، وبدون مشاورة مليكه، الواثق به كل الوثوق. ومع أن إدارة الأقاليم كانت من شئون وزير الداخلية، وأن وزير الداخلية كان في مدة كبيرة من عهده ولي العهد نفسه، الأمير محمد توفيق باشا، فإن إسماعيل صديق كان المعين في الحقيقة لكل مدير ووكيل مديرية، ومحافظ ووكيل محافظة، ومعظم المأمورين ونظار الأقسام في القطر كله، فكان الكل محاسيبه يفعمون جيوبه بالمال الذي يعصرونه من جسم الفلاح، ليستبقوا لأنفسهم رضاه عنهم.
وبلغ من إغراق الرجل في الاستئثار بالسلطة دون أصحابها الشرعيين، أن كل محاسيبه هؤلاء صاروا إلى الاعتقاد بأن الخديو نفسه لا يستطيع أن يمسهم بضر ما دام إسماعيل صديق باشا يظللهم بحمايته القديرة.
من ذلك ما يروى عن أحد رؤساء ميناء رشيد فإنه لما كان مدينا بتعيينه للمفتش أبى الامتثال لأمر خديو قاض بعزله من وظيفته لسوء سلوكه، ورفض التخلي عن منصبه، حتى وافاه ماك كيلوپ باشا عينه، مدير مصلحة الموانئ والفنارات بنفر من حرس البحرية، وأمر مختوم بخاتم الخديو، وطرده من مركزه طردا بالقوة.
2
على أن هذا وقع عن طريق الشواذ، وإلا فإن الخديو كان يريد عادة ما كان أخوه في الرضاعة، إسماعيل صديق باشا، يريده، لا سيما في الأمور المالية.
ولما كان هذا الوزير أقرب إلى الرعايا، وأكثر بهم اختلاطا واحتكاكا، ودون المليك لهم تقليبا، كان الخوف منه في الصدور يفوق الخوف المنبعث عن شخص الخديو إليها.
فكان من المحتم، إذا، لجميع ذلك أن يكون إسماعيل صديق باشا موضع حسد الكثيرين وغيرتهم، وموضوع كراهة الجميع.
ولما كان من المؤكد، المعروف لدى كل إنسان، أن المرجع في أن القروض التي عقدت في عهده كانت كلها خرابا في خراب للخزينة المصرية، إنما هو للرشاوى الجمة القدر التي كان مصدرو تلك القروض يفرغونها في جيوب وزير المالية، وأن السبب الأكبر في تراكم الدين على مصر إنما هو رغبة هذا الوزير في إقامة سراب ذهب أمام عيني مولاه - كما فعل قبله المسيو دي كانون وزير لويس السادس عشر الفرنساوي، لإحراز رضا الملكة ماري أنطوانيت، وأمراء بطانتها وأميراتها - لكي يتمكن هو نفسه مع وجود ذلك السراب ساطعا أبدا أمام نظر (إسماعيل) من إشباع طمعه الأشعبي في الأموال، وإكثار ملاذ الحياة حوله، وتمتعه بها، كان من البديهي أن تثور عليه، وتغلي مراجل السخيمة العامة.
ولما كانت الثروة التي جمعها - بالطرق غير المشروعة، والفظيعة، والمثيرة لتلك السخيمة - فاقت في مقدارها واختلاف مظاهرها ما كان منها لدى أمير مصري، وبلغ من وقاحة كيفية الإنفاق منها، عن سعة متناهية، أن ملابس نساء المفتش وحليهن، والرغد المحيط بهن، وكثرة حشمهن وخدمهن، وفخامة دورهن ومواكبهن، وكل ما كان يحيط بحياتهن من مظاهر الأبهة والجلال، أصبح مما تحسدهن عليه حسدا حقيقيا ذات أميرات البيت الخديوي، وتغرن منهن عليه غيرة صحيحة - فإن ثمن إحدى مراوح زوجة ذلك الوزير المحبوبة بلغ 375 ألف فرنك، وثمن شمسية من شماسيها بلغ ستمائة ألف من الفرنكات
3 - وكان من البديهي كذلك أن يحقد أمراء البيت المالك وأميراته على إسماعيل صديق باشا، ويبغضونه، ويرغبون في إزالته، ويعملون عليها، إن لم يكن لسبب آخر، فلعدم صبرهم على أن تبسم الدنيا كل ذلك الابتسام لمن كان مثله ابن فلاح وصعلوك الأصل ، طالما مد أجداده، بل أبوه ذاته، تحت الكرباج، وازرقت أرجلهم، ودفقت دما من تعاقب السياط عليها.
فلما رأى تحالف هذه الأحقاد والأحساد النفور المستحكم بين المستر جوشن والمفتش، تأكد من أنها فرصة في منتهى المناسبة لدك قوائم نفوذ الوزير المكروه، وتقويض أركانه كرسيه، فالتف المتحالفون على غير قصد حول المستر جوشن، وأقبل جمعهم يذكي في قلبه العزم على مناوأة المفتش عداوة فعالة، ويوطد رغبته في العمل على عزله.
ولم يكن المفتش من جهة يخفي كراهته للمندوب البريطاني واحتقاره له، لاعتباره إياه رجلا من الوقاحة بمكان، حيث إنه يتجاسر على تقريع اختلال موازين المالية المصرية، مع أنه هو عينه أحد كبار المرابين الذين كانوا السبب الأكبر في ذلك الاختلال، كما أنه لم يكن يخفى أن مقترحات ذلك الرجل والمشروعات التي كانت تجود بها قريحته لم يكن من الحكمة، ولا من السياسة الحسنة الموافقة عليها أو قبولها، لأن المقصود منها لم يكن حمله هو على الاستقالة، والتخلي عن دفة المالية المصرية، بل وضع مصر تحت مراقبة الدائنين، وأنها لو أخرجت إلى حيز النفاذ لقضت على السلطة الخديوية، وعلى استقلال البلد قضاء مبرما.
فاشتد إذا النزاع بين الاثنين، وأخذ كل منهما يحاول التغلب على خصمه في استمالة الخديو إلى مراميه، واجتذابه إلى نظرياته.
ولما كانت منزلة المفتش من نفس الخديو أمرا مشهورا عند الخاص والعام، فإن الملأ اعتقد اعتقادا أكيدا، لغاية الأسبوع الأول من نوفمبر أن الفوز في النزاع القائم سيكون للمفتش حتما، لا سيما بعد أن رفض الخديو مرارا التخلي عنه، بالرغم من أن الأصدقاء الأشد إخلاصا له، والرأي العام المهدد، وأقرب الناس إلى سموه، بل أولاده أنفسهم طلبوا منه إبعاده.
ولكن جوشن لم يكن الرجل الذي يجهل كيف تكون طرق التغلب على خصمه.
ولما كان لا بد من تقديم ضمانات تطمئن لها ريب الدائنين وهواجسهم، اقترح أولا تعديل الحال المالية التي أوجبها دكريتو توحيد الدين المصري وتجميده، بعض التعديل، يجعل اليد العليا للعنصر الغربي في مراقبة المالية المصرية، ثم عمل بحيث إن الألسنة في أوائل الأسبوع الثاني من نوفمبر أخذت تشيع بمصر، ولا سيما في الدوائر القنصلية أن هياجا طفق يبدو في المديريات ضد المشروع كله، بل ضد ذات الخديو، وشرعت تلك الألسنة تبدي كلاما يؤخذ منه أن مصدر ذلك الهياج إسماعيل صديق.
وكانت الإشاعتان قد ذاعتا كثيرا في القاهرة، لما قصد المستر ماكون الكاتب الإنجليزي سراي صديق باشا في ظهر يوم الثلاثاء 7 نوفمبر لتناول طعام الغداء عنده، فدار الحديث بينهما على النزاع القائم بينه وبين المستر جوشن.
ولما كان المفتش لا يتكلم غير العربية، فإن التفاهم بين محدثه وبينه كان بواسطة دهان بك، محاميه الخاص.
4
فلم يبخل إسماعيل على جوشن بشيء من الاحتقار الذي ما فتئ يتظاهر به نحوه، ولكنه لم يتفوه بكلمة واحدة ضد الخديو مولاه.
فلما كان المساء قابله الكاتب عينه مرة أخرى في عابدين على الشرفة الشمالية، المطلة على الميدان الواسع الداخلي، وسمعه هو وستة آخرون يمازح الخديو المزاح المعتاد الخالص من كل تكلف - شأنهما في ذلك من سنوات عديدة.
ولكن الخديو بعد انصراف مدعويه اختلى بالمفتش، ودارت بينهما محادثة طويلة، لم يقف أحد على موضوعها، غير أن المظنون هو أن (إسماعيل) طلب من وزيره أن يوقفه بالتدقيق على جميع تصرفاته في الوزارة، وعلى دقائق الأعمال التي أدت بالمالية المصرية إلى الضيق الحالي، مع أنه هو الوزير الذي لم يفتأ يشع أمام عينيه الذهب أبدا، ويضع دائما تحت تصرفه أي مبلغ عن له طلبه، مهما بلغت قيمته.
فاضطر المفتش إلى إظهار الحقائق كلها، وتوضيحها جليا، وإيقاف مولاه على كل أسرار إدارته.
ولما كان (إسماعيل) سريع العزم، قريب البت في الأمور، أشار على وزيره، حيث إن الأحوال هي كما قال، والأمور كما وصف، باللين والموافقة، والإقلاع عن مقاومة المندوبين الدوليين ومعاكستهما، والتنحي مؤقتا، ريثما تمر العاصفة.
فأبى المفتش محتجا بأن اللين والموافقة ليسا من مصلحة مولاه، وأنه لو كانت المسألة شخصية وتنحصر في استقالته هو من منصبه الوزاري، فإنه لن يتأخر لحظة عن تضحية مركزه، بل حياته ذاتها ، في سبيل إرضاء سيده، ولكن المسألة ليست شخصية، وإنما يرمي بها إلى الإضرار بالسلطة الخديوية وتقييدها.
فلما كان صباح اليوم التالي، أمر (إسماعيل) مجلسه الخاص، ومنه المفتش، بالاجتماع للمداولة في الأمر.
وبما أن عموم أعضائه كانوا يكرهون المفتش، ويتمنون زوال نعمته، فإن الآراء بدت كلها موافقة على مقترحات المستر جوشن والمسيو چوبير، ومخالفة لرأي وزير المالية.
فلم يحول ذلك الإجماع المفتش عن رأيه، بل زاده تمسكا به ودفاعا عنه، وتفننا في إبداء الأدلة على أن ضياع سلطة الخديو واستقلال البلاد ناجم، حتما، عن نفاذ تلك المقترحات، لا سيما ما كان منها متعلقا بالتعديلات المشير جوشن بإدخالها على الإدارة المصرية، ألا وهي تعيين مراقبين عموميين إفرنجيين أحدهما لمراقبة الإيراد، والثاني لمراقبة المصروف، ووضع السكك الحديدية، وميناء الإسكندرية تحت إدارة مجلس مؤلف من إنجليزيين وفرنساوي ومصريين، وأثبتت بحجج دامغة وبراهين قاطعة أن هذه التعديلات مرتبطة ارتباطا كليا بالاقتراحات المالية الخاصة بتوحيد الديون المصرية، وأنها لا ترمي مطلقا إلى مجرد استقالته، وأنه بما أن قبولها لا يمكن إلا مع تنازل الخديو عن سلطته، وتسليمه إدارة حياة البلاد، أي موارد ثروتها إلى قبضة الأجانب، فالأوفق رفض مشروع المستر جوشن والمسيو چوبير برمته، والتنكب عن هذين الرجلين مطلقا في التبريرات المقتضى اتخاذها. وتطرق من ذلك إلى الطعن على مشروعية مهمة ذينك المندوبين، وتسويغ تداخل المقرضين الأجانب في شئون الإدارة الداخلية المصرية، وتطاولهم على المقام الخديوي المقدس، بحجة أن الحكومة المصرية مدينتهم. وختم كلامه بأنه يرى أن إشهار مصر وإفلاسها - مهما تكن العواقب، مع تمسك الخديو بحقوقه وسلطته - أقل ضررا من تسليمها بمقترحات مندوبي الدائنين، وبالتعديلات التي يطالبان بإدخالها.
ولا شك في أن كلامه كان على جانب عظيم من الصواب، ولم يكن من عيب فيه سوى أنه صادر من إسماعيل صديق باشا، الرجل الذي كان أكبر جان في أمر صيرورة مصر إلى ذلك الموقف الحرج، موقف الدولة التي ترى نفسها لضعفها مضطرة، إما إلى التسليم بأن يعبث باستقلالها، وببعض حقوقها الملكية، وإما إلى تعريض نفسها للضياع كلية.
على أننا لا ندري هل كان رفض مقترحات جوشن وچوبير يؤدي إلى إقبال الدول الغربية على حماية مصالح مدائني مصر من رعاياهم بقوة السيوف والمدافع أم لا، لا سيما وقد رأينا من الحكومة الإنجليزية إعراضا ثابتا عن رغبة التداخل رسميا بين أولئك الدائنين والحكومة المصرية.
ولكنا نظن أن الرفض قد كان يؤدي إلى تحرك الدوائر الرسمية الأوروبية للإقدام على عمل سياسي ضد الحكومة المصرية، تخرج عواقبه عن حد التقدير. وهو ما خافه رجال المجلس الأعلى المجتمعين للمداولة في الأمر، علاوة على كراهتهم للمفتش، ورغبتهم في التخلص منه بأية وسيلة كانت.
لذلك صمم جميعهم على وجوب قبول مقترحات المندوبين الإنجليزي والفرنساوي، واعتبار قبولها أخف الضررين المهددة مصر بهما.
ولكي يتغلبوا على وزير المالية، تظاهروا بأنهم يعتقدون أن مقاومته مبنية على كراهته الشخصية للمستر جوشن، لعلمه بأنه إنما يرمي إلى عزله.
وكان أشد أعضاء المجلس تظاهرا بهذا الاعتقاد الأمراء الثلاثة محمد توفيق، وحسين، وحسن.
فنظر المفتش إليهم نظرة المستهزئ بحداثة سنهم، العالم ما لا يعلمون، وقال: «إنكم لا تزالون أولادا، فلا تستطيعون إدراك كنه الأمور، ولذا فإنكم تأخذونها بظواهرها.»
فاستشاط الأمير حسين غضبا لهذا الكلام - وكان عصبيا، سريع الانفعال - فهجم على المفتش، وصفعه على وجهه صفعة شديدة لوت سلك نظارته الذهبية، وقال: «أولادا؟! وهل بلغت بك القحة إلى حد مخاطبتنا بمثل هذا الكلام؟»
فأصلح المفتش سلك النظارة بهدوء، وأجاب: «إني إنما أتكلم للمصلحة العامة، ولو كانت المسألة شخصية كما تقولون، وتنحصر في هل أبقى وزيرا أم لا، أكان قناصل الدول كلهم يتداخلون لتعضيد طلبات المندوبين؟ إنهم لأحرص على كرامة دولهم من أن يعرضوا بها في أمر داخلي محض، فالمسألة ليست مسألة عزل وزير، بل إلغاء وزارة المالية، بصفتها وزارة مصرية محضة.»
5
فارفض المجلس، والأمير محمد توفيق يقول: «ما أوقح هذا الرجل! ما أوقح هذا الرجل!»
وكان (إسماعيل) ينتظر على أحر من الجمر نتيجة مداولة مجلسه الخاص، فلما رفعت إليه أقرها واعتمدها، وأعلن بذلك المفتش لوقته.
فبعث إسماعيل صديق باستقالته إليه، ضمن خطاب أوضح فيه الأسباب التي حملته على تقديمها.
فأبى الخديو قبولها، وأجل مطالعة كتابه ريثما يعرفه إرادته في المساء.
فلما كان المساء، انتشر في المدينة الخبر أن الاستقالة قبلت، وأن الأمير حسين باشا، وزير الحربية، عين وزيرا للمالية، وأن الأمير حسن باشا، خلفه على الحربية.
ثم أشيع أن المفتش استدعي إلى السراي بعابدين، وأنه في محادثة طويلة مع سمو الخديو.
والذي علم فيما بعد عن هذه المحادثة هو أن (إسماعيل) استقبل وزيره القديم ببشاشة، ولطف فوق المعتاد، وأنه أمر أن يتركا وحدهما، وأن لا يدخل عليهما أحد، فلما نفذت أوامره، أقبل على أخيه في الرضاعة، وقال: «اجلس بجانبي هنا، قريبا مني، وانظر إلي، وكلمني قلبا لقلب: ما أنت عامل الآن؟»
وكان المفتش لا يزال تحت تأثير انهيار سلطته الوزارية الفجائي، فمر سؤال (إسماعيل) على أذنيه، وظهر كأنه لم يدخل إليهما، فكرره الخديو مرة أخرى، وقال: «أسألك يا إسماعيل صديق، ما أنت عامل الآن؟»
وكأن المفتش أفاق من منام، فهذب سلك نظارته الذي لوته في الصباح صفعة الأمير حسين، وقال وفي صوته شيء من التهكم: «ما أنا عامل يا مولاي؟ لست محتاجا إلى الاستفسار، فإني كما يقضي علي واجب العبد الخاضع لإرادة سيده، سأسلم زمان وزارتي إلى خلفي البرنس حسين نجلكم، متمنيا له كل توفيق.»
قال (إسماعيل): «أراك زعلانا مني، يا صدقي، فأنت غلطان، فإن الذي عملته هو الشيء الوحيد الذي كان يمكنني عمله في هذه الظروف، ريثما تنفرج حلقات الضيق.»
قال صديق: «ليسمح لي مولاي أن أخالفه في فكره، وأن أرى رأيا غير رأي سموه.»
قال (إسماعيل): «يدهشني ذلك منك، أو لم تفهم ما هو قصدي من تأليفي الوزارة الجديدة العائلية المحضة؟» - «كلا، وإذا سمح لي مولاي أن أكلمه بالصراحة.» - «تكلم، تكلم، أنا أطلب منك ذلك، لا بصفتك وزيرا، بل بصفتك صديقا لي.» - «أنا إذا أرى أن سموك أخطأ في أنه حملني على الاستقالة، ثم أخطأ في تعيين أحد الأنجال مكاني. أما الخطأ في حملي على الاستقالة فلأنه لم يرو التاريخ حتى هذا اليوم - على قلة علمي به - أن مليكا ضحى وزيره لينقذ نفسه، وأما الخطأ في تعيين أحد الأنجال مكاني؛ فلأن قلة مسئولية الأمير الشاب لن تخفى عن أحد، ولأنه لن يقوم شيء بينه وبين سموك يحول سخط الناس عنك، كما كان قائما بين سموك وبيني.» - «هذا كلام صحيح يا صديق، وأنت تعلم أني لم أفترق عنك بطيب خاطر، وإني رفضت تضحيتك حينما طلبها مني قنصلا إنجلترا وفرنسا العامان، ورفضتها بالرغم من إلحاح جوشن وچوبير علي بها، ولم أضطر إليها إلا بعد أن تخلى عنك المجلس الخصوصي.» - «ليس المجلس الخصوصي فقط، ولكن أولاد سموكم، لست ناقما عليهم؛ لأنهم يجهلون ما ندريه سموكم وأنا، وإذا دروا؛ فإنهم لا يستطيعون أن يفهموا أن هناك تضامنا لا يمكن هدمه أو تقسيمه. قد قلت لسموك يا مولاي، وأعيد الآن، أنه لو كان هلاكي وحده يكفي لإنقاذكم، فلا أدري إذا كان يكون لدي أقل رغبة في أن أحمي منك القليل الباقي من عمري، ولكن الحال ليست كذلك. وأعتقد أن الخلاص لن يأتي للبلاد ولنا إلا ببقائنا متحدين، فكما أني لا أستطيع أن أنجو بدون سموكم، فإن مولاي لا يستطيع أن يخرج من المأزق بدوني.»
هنا سكت المفتش، كأنه يريد أن يزن مقدار التأثير الذي كان لكلامه على مجرى أفكار مولاه، ولكن الخديو لم يبد أقل تغير، ولم يسمح لعرق فيه أن ينبض، وقال للمفتش مظهرا إصغاء تاما: «كمل حديثك.»
فقال المفتش: «إني أقبل يا مولاي أن أتحمل ثقل المسئولية كلها وحدي، وأن أقول في كل مكان إني خالفت أوامرك، بدلا من تنفيذها حرفيا - وهذا كان الواقع في معظم الأحيان - فهل يصدقني أحد؟ اقبل أن أسلمك خاتمي لتوقع به على كل الأوراق التي تريدها، إثباتا لأن الذنب في الخلل الحاضر إنما هو كله ذنبي، فهل يصدق أحد؟ والكل يعلم أن الخديو الدولة دون غيره، وأنا كلنا آلات صماء بين يديه؟ ثم إني مشير عثماني - ومولاي يعلم أني كمشير عثماني، لا أحاكم إلا في الأستانة، وهبني تنازلت عن حقي هذا، فالباب العالي لن يتنازل عنه، فيرى سموكم منذ الآن ماذا تكون نتيجة محاكمتي هناك، ومقدار ما ينجم عنها من فضيحة، لا سيما في الظروف الحاضرة، والدولة التي خلفت هناك دولة عبد العزيز، شيقة إلى تسويء سمعة سلفتها.»
وإنما ذكر المفتش أنه مشير عثماني لكي يقضي على عزم الخديو في مهده ، فيما لو كان ذلك العزم قد بدأ يتوجه نحو إساءته. وأشار إلى ما قد تنتجه أية محاكمة أو تحقيقات احتمالية من مخوفات، إرهابا لمولاه، ورغبة منه في حمله على الرجوع إلى آرائه.
وأدرك (إسماعيل) غرضي وزيره معا، وعلم أن الرجل يلعب معه لعبا دقيقا، فقال: «صحيح أنت مشير عثماني»، وضحك دقيقة، ثم قال: «قد كنت نسيت ذلك، هذا لقب فيه من الأمان ما في أي مؤمن آخر. ولا يسعني إلا الموافقة منذ الآن على كل ما ترى وجوب إجرائه، فيما لو قضت الحال، على أننا لم نبلغ بعد إلى هذا الحد، ولله الحمد وتراني مقتنعا بأن فيما قلته جانبا عظيما من الحق، وليس فيه ما يجرحني مطلقا، وإنما الصعوبة كل الصعوبة في خروجنا من المأزق بكيفية ترضينا معا، فابحث يا صديقي، اجهد نفسك، فتق ذهنك، حك قريحتك. وإذا وفقت إلى إيجاد طريقة غير التي اتبعتها أنا، وكانت جيدة، فثق بأني لا أطلب إلا استعمالها، وإني أعتبرها خدمة جليلة منك، أضيفها إلى خدماتك الخطيرة السابقة.»
فتنهد المفتش الصعداء، ورفع نظارته، لكي يمسح بطرف منديله دمعة بدأت تتلألأ في جنب عينه، ثم أخذ يد (إسماعيل)، وقبلها، وقال: «قد استعدت الآن - ولله الحمد - سيدي وملاذي.»
وتذكر حينذاك الإشاعتين اللتين كانتا تتداولهما الألسن في العاصمة، وخطر له في الحال أن يستخدم السلاح الذي أراد خصومه أن يحاربوه به، ليطعنهم به في نحرهم طعنة قاتلة.
فقال (لإسماعيل): «إن الوسيلة يا مولاي جاهزة لدي، ولست أشك في أنها ناجحة.»
فهش الخديو وبش، لأنه كان يود حقيقة الإفلات من أيدي مندوبي دائنيه، بكيفية لا تمس شرفه ولا سلطته، وسأله «ما هي؟»
فأجاب المفتش : «بما أن مطالبتنا المرابين الذين مصوا دماءنا بتخفيض مبلغ المطلوب لهم إلى معدل المبالغ الحقيقية التي أقرضونا إياها، وتخفيض سعر الفوائد التي يتقاضونها منا إلى السعر القانوني المعقول لمطالبة لا فائدة منها، وبما أن التجاءنا إلى الأستانة لتساعدنا على نيل مطالبنا لن يجدي نفعا (لأن السلطان في مأزق أحرج من المأزق الذي نحن فيه )، فإنه لم يعد يبقى لنا لفض مشاكلنا كلها إلا الرجوع إلى القرآن الكريم، والاستعانة على تنفيذ نصوصه بالرأي المصري العام.»
فقال الخديو: «وكيف ذلك؟»
قال المفتش: «مولاي يعلم أن القرآن ينهى عن الربا، وينذر المتعاملين به بعقاب شديد، فما علينا - والحالة هذه - إلا تفهيم الأمة المصرية أن معظم الأموال التي تدفعها إلى خزينة الميري، لكي تقيم الحكومة بواسطتها قواعد إدارتها، وتجري الأشغال العمومية التي تقتضيها المصلحة العامة، وتوطد دعائم الأمن العام في البلاد، يذهب إلى أيدي الفرنجة بصفته ربا الأموال التي قدموها إلينا من تلقاء أنفسهم، وأن ذلك هو السبب في أن الحكومة مضطرة إلى إرهاق الأمة بالضرائب العديدة الثقيلة التي تحصلها منها.»
فأبرقت أسرة (إسماعيل)، وقال: «أجل، ولكن كيف تفهم الأمة ذلك؟»
فقال المفتش: «نكلف علماءنا وقضاتنا ومفتينا بهذا العمل، وأنا أضمن أنهم لن يخيبوا لنا غرضا، وأنهم يخدموننا خير خدمة، ومتى هبت الأمة بأسرها للمطالبة بالتمسك بنواهي القرآن الكريم، فإنا سنتخذ مطالبتها سلاحا نرهب به أوروبا الرسمية، ونقضي به على جشع دائنينا. وإني - إذا سمح مولاي - آخذ على نفسي تحريض رجال الدين الإسلامي على مباشرة هذا العمل منذ اليوم.»
فأذن له الخديو بذلك، وشكره على فكرته، ثم صرفه، وهو يتمنى له النجاح ويريه المستقبل عائدا إلى الابتسام له - وإنما كان ذلك تظاهرا منه فقط، لأنه صمم منذ ذلك الحين على إنزال العقاب به.
ولكنه كان قد بلغه أن المفتش، منذ أن اشتد توتر العداوات حوله، شرع في العمل على التجنس بجنسية أجنبية، اقتداء بنوبار باشا المتجنس بالجنسية البروسيانية، منذ زمن، وشريف باشا المتجنس بالجنسية الفرنساوية، فلما حول المفتش انتباهه إلى كونه مشيرا عثمانيا، خطر في باله أن يحقق صحة ما بلغه من عدمها.
فأرسل واستدعى أحد أخصاء إسماعيل صديق باشا - وكان هو نفسه المبلغ - وسأله عما إذا كانت مساعي المفتش التجنسية قد تمت، فأجاب الرجل أنها لم تتم بعد، ولكنها سائرة على قدم وساق في القنصلية الفرنساوية، وأنها أوشكت تنتهي.
فبعث (إسماعيل) إلى هذه القنصلية وغيرها يستفهم عن حقيقة الأمر، فأجابته كلها أنها لا تعلم من ذلك شيئا، ولا حادثها إسماعيل صديق في ذلك مطلقا.
ولما كان اليوم الثاني، وشاع في المدينة خبر اختلاء الخديو بوزير ماليته مدة طويلة من الزمان، وأن الوزير خرج عقب تلك المقابلة من عابدين، وعلامات الابتهاج والاعتزاز بالفوز بادية على وجهه، وبلغت تلك الإشاعة آذان المستر جوشن، اعتقد أن المفتش تمكن من استمالة المليك إلى آرائه، والعود إلى الجلوس في صدر «محظوظيته» ثانيا.
فرأى أنه لا سبيل إلى التغلب على ذلك الداهية إلا بجره أمام المحاكم الجديدة بصفة لص، ومقاضاته مقاضاة جدية.
فبعث إليه من أنبأه أن المندوبين الدوليين تحققا بعد التنقيب في حسابات المالية ومصروفاتها من وجود عجز فيما هو مخصص لهما يبلغ مقداره أربعين مليونا من الفرنكات لم يجدا له مبررا، وأنهما بناء على ذلك سيعلنانه عن قريب بطريق وكالتهما عن حملة الأسهم، للحضور أمام محكمة مصر المختلطة، لكي يحقق معه هناك تحقيقا دقيقا عن سبب ذلك العجز وكيفيته.
فلما بلغ هذا النبأ إلى إسماعيل صديق باشا، أظهر له من الارتياح والابتهاج ما أدهش نفس مبلغه، وتحول ذلك الاندهاش إلى أخذ بعيد الوقع، حينما قال المفتش له: «اذهب وقل لجوشن إنه لن يستطيع عمل عمل يبسطني ويسرني بقدر هذا، وسترى المحكمة عند تحقيقها، ما هو سبب ذلك العجز وما هي حقيقته.»
ولما خرج المبلغ من عنده، أسرع إسماعيل صديق، وأبلغ النبأ إلى الخديو، لأنه كان لا يزال موجسا منه خيفة، ويرى الاحتياط واجبا.
فأدرك (إسماعيل) الغرض الذي رمى صديق إليه، واضطرب، لأنه تيقن أن الرجل غير مبق على صداقته ووده، وأنه إنما يهدده تلميحا، بكل وسيلة يراها صالحة، بأنه غير خاش بأسه من جهة، لتدرعه برتبة المشيرية العثمانية التي هو حائز لها، وأنه من جهة أخرى لن يحجم ساعة اللزوم عن نسبة كل خلل المالية المصرية إلى أوامره السامية وطلباته.
وكان عنده في خزينته أربعة عشر مليونا من الفرنكات، فأخذها من وقته، وأرسلها باسم المفتش إلى المندوبين الدوليين، ورجا منهما أن يرجئا إعلان صديق حتى يقابله هو نفسه مرة أخرى - ولم يخف (إسماعيل) الفضيحة مرة في حياته، خوفه منها في ذلك اليوم.
وبينما هو في حجرته يحرق الأرم عقب إرساله تلك الملايين الأربعة عشر إلى المستر جوشن، وينتظر الرد، أنبأه أحد رجال التشريفات أن بالباب وفدا مؤلفا من شيخ الإسلام، وقاضي القضاة، ومفتي الديار، ونخبة من كبار العلماء يريد مقابلته.
فتنهد (إسماعيل) الصعداء، وقال: «ألا هل تمكن صديق من إتمام وعده بكل هذه السرعة؟» وأمر بإدخالهم.
فأدخلوا، فقابلهم بإكرام زائد واحتفى بهم، وسألهم عما أوجب حضورهم في تلك الساعة، فقال مدرههم: إن الذي جاء بهم إنما هو مقابلة وقعت بينهم وبين وزير المالية إسماعيل صديق.
فابتسم الخديو، وقال: «إن إسماعيل صديق رجل في منتهى الذكاء، وتوقد الذهن، وصدق التقوى، ولكنه في الآن نفسه، كبير الجسارة، وشديد على الأجانب جدا.»
وإنما أراد من قوله هذا أن يحمل كلامه على محملين: أحدهما في مصلحة المفتش، فيكون دليلا على رضاه عنه، وثانيهما في عكس مصلحته، فيدل على غضبه عليه، وذلك لكي يتمكن رجال الوفد من التمسك بالمحمل الموافق للغرض الذي أتوا من أجله.
غير أن أولئك العلماء لم يدركوا مرامي كلامه، لعدم تعودهم محادثة رجال السياسة في الأرض. وبينما كان ميل (إسماعيل) يذهب إلى أن يدركوا أنه يكون مسرورا من انقيادهم إلى إيعاز المفتش، تمسكت أفكارهم بالشطر الأخير من قول المليك، وقال مدرههم: «نعم يا أفندينا، إنه لرجل خطر للغاية، فقد أتانا بالأمس زاعما أن أفندينا والبلاد في ضيق شديد بسبب الإفرنج، وتقاضيهم من حكومة سموكم ربا فاحشا، وأن هذا هو السبب في كثرة المظالم والمغارم الموضوعة على رقاب العباد - وحاش لله أن تكون مظالم ومغارم في عهد سموكم - وأنه يجدر بنا، والحالة هذه إهاجة الرأي العام المصري على الدائنين من الإفرنج، وحمل الأهالي على إيفاد الوفود إلى سموكم ليسألوكم، بإلحاح، الامتناع عن دفع الربا إلى أولئك الدائنين، وإجبارهم على أن لا يأخذوا من الخزينة المصرية سوى النقود التي أقرضوها حقيقة، والتي قد استردوها لغاية الآن وزيادة.»
فظن (إسماعيل) لأول وهلة أن المفتش نجح في مهمته، وأخذ السرور ينتشر على محياه، فدنا من أريكة واستلقى عليها، ثم أدنى العلماء منه، وسألهم مبتسما «وأنتم، ماذا أجبتم؟»
قال مدرههم: «أجبنا يا أفندينا، كما يجب أن يجيب العبيد المخلصون الولاء لسموكم وسدتكم السنية. قلنا له «إننا نعلم حق العلم أن الإفرنج أصدقاء سموكم المخلصون، وأن مركزهم في البلاد لا تقوم له قائمة يوم يروق لسموكم طردهم منها، وأن الأموال أموال سموكم، وأننا جميعنا بمالنا ونسائنا وأولادنا عبيد لسموكم، والعبد وما ملكت يداه لمولاه، وأدركنا أن الرجل بعد أن تخلت نعمة سموكم عنه أصبح من الخائنين، وأنه يرغب في تحريك فتنة في البلاد، وقد قال الله - سبحانه وتعالى -
والفتنة أشد من القتل .»
فتيقن الخديو أن بين ما أدركه القوم وبين ما كان يريد هو أن يدركوه، بعد ما بين السماء والأرض. ولما كان قدريا كمعظم الرجال العظماء المقامين من مدبر الأكوان لغرض خاص يريده، اعتقد أن ما وقع كان لا بد من وقوعه، وأن ما كتب للمفتش أصبح لا بد من نفاذه، لأنه لعب آخر ورقة في لعبه وخسرها.
فأطفأ نور الابتسام المشع من عينيه وثغره، وكسا وجهه جدا واهتماما، وقال: «أجل، أجل! إن ما أدركتم قد يكون الواقع، ولكن الكلام حجة واهية، ويفيد حكومتي أن يكون بين يديها دليل كتابي على مسعى المفتش، فليتفضل أحدكم وليكتب ما قاله لي لسانكم، وليتفضل الباقون بتوقيعه.»
فأسرع رجال الوفد وامتثلوا لأمر الخديو، وحرروا الكتابة المطلوبة منهم، ثم قدموها إلى (إسماعيل) فأخذها منهم وصرفهم.
ولكنه عاد ووقع في خلده بعد أن خرجوا من الباب أن يستدعيهم ثانية ، ويقول لهم «إن المفتش صادق فيما كلمهم عنه، وإنه هو- الخديو - يوافق عليه.»
غير أن الأمير محمد توفيق، ولي عهده، دخل عليه إذ ذاك وقال بانفعال: «أرأيت يا مولاي مساعي إسماعيل صديق، وكيف أنه حاول إيقاظ فتنة في البلد ضد الفرنج؟ ولولا أني تداخلت في الأمر، وأفهمت العلماء ما هي أغراضه الخفية، لصدقوا زعمه بأنه لسان سموكم ورسولكم إليهم.»
فهز (إسماعيل) كتفيه، وأوقف نظره برهة، وكله تهكم وسخرية، على ولي عهده، ولو كان للحركات لسان لفهم ذلك الهز وتلك النظرة ولي عهد العرش المصري مقدار الخطأ الذي ارتكبه أمام عيني أبيه؛ بتداخله بين المفتش والعلماء.
على أن تيقن (إسماعيل) أن الأمير محمد توفيق الذي كان يعتبره أقل أولاده ذكاء ونباهة، هو، هو السبب في أن إسماعيل صديق الداهية - الذي قلما كان له مثيل بين رجال الذكاء والتفنن بمصر - خسر آخر ورقة وضعتها الأقدار بين يديه، قوى فيه الاعتقاد بأن المفتش لا مفر له من نفاذ المقدور فيه.
فأمر ولي عهده باستدعاء أخويه الأميرين حسينا وحسنا والعود معهم.
فلما حضروا، أطلعهم على الورقة التي كتبها العلماء، وأوقفهم على رغبته في إلقاء القبض على إسماعيل باشا، ومحاكمته أمام المجلس الخصوصي.
وكان الأمراء - كما قلنا - يكرهون الرجل كراهة كلية، لجميع الأسباب التي ذكرناها، وعلى الأخص لأنهم كانوا يعتبرونه العدو الأكبر لحسن سمعة المليك والدهم، والسبب الأعظم في الإحن المتوالية عليه.
فأشار الأمير حسين على والده باتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك، لكيلا يثير القبض على المفتش فتنة في البلد، لكثرة محاسيب الرجل في المصالح وبين الأهالي، ولأنه بلغه أن بعض أولئك المحاسيب جهزوا مركبا لنقله إلى الأستانة لدى أول تهديد.
وقال الأمير محمد توفيق: «يجدر بسموكم - والحالة هذه - إصدار أمركم إلى مصطفى فهمي باشا محافظ العاصمة، بإعداد ألفي عسكري، وإرسالهم ليحيطوا بسراي المفتش بالإسماعيلية.»
فقال الأمير حسين، بتهكم: «ألفي عسكري؟! لم لا تقول الجيش كله؟»
فقال حسن: «يكفي للغرض ضابط وبضعة عساكر.»
ولكن (إسماعيل) لم يوافق على آرائهم، وقال: «إني لا أحتاج إلى جنود مطلقا ، وسأقوم بالأمر بنفسي، على أني أريد منكم:
أولا:
أن تأمروا محافظ العاصمة بتجهيز مركب بخارية غدا في النيل عند مرسى سراي الجزيرة.
ثانيا:
أن تخطروا أعضاء المجلس الخاص بالاجتماع غدا الساعة الحادية عشرة صباحا، وتكلفوا العلماء الذين حرروا هذه الكتابة بالحضور لأداء شهادتهم أمامه.»
فانحنى الأمراء وخرجوا، ولكن ولي العهد تردد لحظة على الباب ، كأنه أوتي فكرا مباغتا أراد إبداءه. فلحظ (إسماعيل) ذلك، وسأله إذا كان يريد أن يقول شيئا.
فأجاب ولي العهد: «نعم يا مولاي، فقد غاب عن فكر سموكم أن غدا الجمعة، وأن العلماء ما بين الساعة الحادية عشر والساعة الواحدة يكونون مشغولين في أمر الصلاة الجامعة، ولا يستطيعون الحضور لتأدية الشهادة.»
فضم (إسماعيل) شفتيه لحظة، ثم نظر لابنه النظرة عينها التي أوقفها عليه، حينما علم أنه هو الذي كان السبب في خيبة مسعى وزير المالية، وقال له: «أجل، دعهم إذا في شئون صلاتهم، لا سيما أنه لا فائدة من حضورهم، مع وجود توقيعاتهم على هذه الكتابة»، فانحنى ولي العهد وانصرف.
وفي الغد أرسل الخديو إلى إسماعيل صديق باشا واستدعاه لمقابلته في سراي عابدين، الساعة التاسعة.
وكان المفتش قد قضى الليل كله مضطربا، منفعلا، يعتقد، تارة، أنه ناجح في مسعاه، ساحق أعداءه فتسكره أفكار الفوز، ويعتقد، تارة أخرى، أن نجمه أفل، وسعده ولى، وأنه قد يصعق، بغتة، من حيث لا يدري فيسقط في يده، وتخور قواه. وكثيرا ما أوفد في السر إلى سراي عابدين مستخبرا عما يفعله الخديو، خائفا عودة المجلس المخصوص إلى الانعقاد.
فلما أتته الدعوة الخديوية، بلغت العواطف التي كانت تساوره أشدها فابتهج أولا كأنه إنما يدعى إلى النصر، ثم انقبض وارتعد، كأنه يدعى إلى الهلاك، ثم تذكر أن اليوم يوم جمعة، وأنه، إذا صحت تذكارات صباه، ليوم فضيل، فهدأت أعصابه وسار إلى عابدين، وهو إلى العشم بالخير أقرب منه إلى الاضطراب بالعواصف.
فقابله (إسماعيل) خير مقابلة، وأجلسه برهة إلى جانبه، ثم قال له: «إني فكرت الليل كله في مركزنا، فانتهيت إلى الموافقة تماما على آرائك ، فعساك نجحت في المهمة التي انتدبت نفسك إليها.»
فأجابه المفتش، وقد زالت عن قلبه مخاوفه كلها «الآن، وقد تأكدت أن قلب مولاي عاد إلي، فإني لن أدع ممكنا إلا وأقدم عليه لأبعد عن مولاي أي مزعج»، وأخذ يد (إسماعيل) وقبلها مرارا بحرارة.
فترك الخديو يده له مدة، ثم سحبها، ومر بها على جبينه وقال : «لكني أشعر بوجع في رأسي على أثر هذا السهاد، فهل تريد أن نخرج لنتنزه معا كالمعتاد؟» فطار قلب المفتش فرحا وهو يجيب بالقبول، ومر أمام عينيه مر البرق الوقع الذي يكون في قلوب الناس حينما يرونه من جديد على يسار الخديو في عربة (إسماعيل) الخصوصية، يجتاز معه شوارع العاصمة كالسابق، وهما يتهامسان. ورأى الغيظ والحنق اللذين يخنقان قلب المستر جوشن حينما ينظرهما معا، أو يبلغه نبأ ذلك، فاعترته هزة عزة ونصر سرت في جميع عروقه، وأبرقت في عينيه السوداوين، فلمحها (إسماعيل)، وابتسم لها ابتساما خفيا.
فلما صارا إلى داخل العربة المكشوفة، قال (إسماعيل): «لا ندري إلى أين نذهب، هل تريد أن نطرح ريشة في مهب الرياح، فتذهب بنا إلى حيث تشاء الأقدار؟»
فقال المفتش: «لنطرحها، لنطرحها يا مولاي، فإن الأقدار لا تريد بنا إلا خيرا إن شاء الله.»
ففكر الخديو لحظة، ثم قال للحوذي: «سر بنا إلى الجزيرة» والتفت إلى المفتش وقال: «قد يزيل نسيم النيل العليل الوجع الذي أشعر به في رأسي، وأغتنم، بالمرة فرصة وجودي في سراي الجزيرة لألاحظ إتمام بعض الأشغال الجارية فيها، ثم إننا نمر في الوقت عينه على سرايك بالإسماعيلية، فقد نرى ابنك، فأسأله عن فايق هانم أميرتي الصغيرة، وأوصيه بها خيرا، فأنت تعلم أنها عزيزة علينا جدا، أميرتنا الصغيرة.»
فاحتار صديق كيف يشكر (إسماعيل) على كل ذلك اللطف والتعطف، وزاد سروره لدى فكره أن آل منزله سيرونه مع الخديو متنزها، فيعلمون أن «محظوظية» مولاه عادت إليه، وأنه رجع إلى ما كان عليه من العز والسؤدد.
وأما فايق هانم الأميرة الصغيرة، التي ذكرها (إسماعيل) فإنها كانت غادة في منتهى الجمال، ربتها والدة (إسماعيل) نفسها كأنها ابنتها مع زينب هانم بنت الخديو، وزوجتها ابن المفتش، إنماء لولاء هذا الوزير، واستزادة لنشاطه، وتفننه في خدمة ابنها.
فلما مرت العربة بهما أمام سراي المفتش، وجدا ابن صديق على الباب، يستعد هو أيضا للخروج، فأدناه (إسماعيل) منه، وعطف عليه كأب، ثم استأنفا السير، ولم تمض بضع دقائق إلا ومرت بهما المركبة على كوبري قصر النيل البديع، وانطلقت نحو السراي الخديوية التي كانت بالجزيرة، ووقفت أمام أهم أبوابها، فنزل (إسماعيل) أولا، فرآه ضابط الحرس القائم هناك، فصرخ بجنده أن يقدموا التحية العسكرية، فقدموها، فأومأ إليه الخديو بالاقتراب، فدنا الضباط منه، فأمره أن يلقي القبض حالا على المفتش، وكان هذا نازلا من العربة.
فلما سمع إسماعيل صديق الأمر ضحك أولا، لاعتقاده أنه مزاح، ولكن الخديو دخل السراي بدون أن يوجه إليه أية كلمة، ولكن الجند بسطوا أيديهم عليه وأمسكوه من عنقه، وجروه بعنف من رحبة السراي الفسيحة إلى مدخلها الواسع، فمن حجرة إلى حجرة حتى قاعة صغيرة في مؤخرة البناء، أقفلوها عليه، وأقاموا عند مدخلها حارسا، كأنهم ينفذون أوامر أعطيت لهم مقدما، بالرغم من ندائه لمولاه وتكراره قول «مولاي مولاي إنهم يقبضون علي، وأنا ضيفك.»
فأدرك أنه سقط في شراك، وأن ساعة هلاكه دقت.
أما (إسماعيل)، فإنه عاد إلى عابدين، واستدعى إليه أولاده، وسألهم عما إذا كان المجلس الخصوصي قد التأم. فأجاب حسين «إن الساعة الحادية عشرة لم تأت بعد، وإن الأعضاء أخطروا جميعا، واستدعوا للحضور.»
فنظر (إسماعيل) إلى ساعته وقال: «حقا، حقا، إن الأمر قد انتهى بأسرع مما كنت أتوقع.»
وبعد أن أخبر أولاده بما تم، أمر ابنه حسنا بالتوجه إلى سراي الجزيرة لمراقبة السجين.
ولم تمض نصف ساعة إلا وانتشرت في عموم أنحاء العاصمة الأنباء بأن المفتش أمسك متلبسا بجريمة التآمر على سمو الخديو تآمرا خطيرا، وأنه ألقي القبض عليه، ووضع تحت المحاكمة.
وبلغت تلك الإشاعة آذان الكاتب الإنجليزي، المستر ماك كون، السابق ذكره، فأدهشته دهشة عميقة لما شاهده قبل يومين فقط، من حسن العلاقات الودادية بين الخديو ووزيره.
فأسرع إلى عابدين ليتأكد من حقيقتها، وتشرف بمقابلة (إسماعيل)، فأنبأه الخديو أن المفتش أرسل إليه بالأمس صباحا كتابا لم يفضه إلا في المساء، وأنه لما فضه وجده عبارة عن استقالة من منصبه، يقدمها له، ولكنها محررة بألفاظ لم يجسر وزير قبله، أبدا، على إبداء مثلها لملكه. وقال: «إني لا أشك في أنه كان سكرانا حينما حررها، ولا أستغرب ذلك منه، لأنه لا ينفك يتجرع خمرا طول النهار.»
فقال الكاتب: «أتعشم يا مولاي، عشما كبيرا، أن هذا لن يؤدي إلى موته، لأنه إذا مات في هذه الظروف، فإن موته لن يؤول في أوروبا إلا تأويلا واحدا، وسموكم أدرى به مني.»
فأجاب (إسماعيل) بانفعال: «وماذا يهمني أن يحيى أو يموت؟ الذي أعلمه هو أنه سيستمر غالبا على الإغراق في السكر، حتى يوافيه الحمام، ولست بمانع عنه أية خمر يطلبها.»
فلما سمع الكاتب هذا الكلام أدرك أن حياة إسماعيل صديق باتت لا تساوي مراهنة على قرش، على فرض أن حبلها لا يزال غير منصرم.
6
وكانت الأسلاك البرقية قد شغلت منذ الصباح، فلم ينقض يوم تلك الجمعة الفضيلة إلا ووردت إشارات تلغرافية من نيف واثنتي عشرة مديرية، تحمل إقرارات مختلفة تؤيد التهمة على الوزير الذي هوى.
فلما اجتمع المجلس الخصوصي، عرضت عليه الكتابة التي وقعها وفد العلماء، والبرقيات المرسلة من المديريات، فأظهر المجلس بالإجماع - ما عدا صوتا واحدا صوت أقل الوزراء ثروة - أنه مقتنع بإدانة المفتش، وثبوت تهمة الخيانة والمؤامرة عليه، وقضى غيابيا بنفيه إلى دنقلا، وسجنه فيها مؤبدا.
وفي صباح اليوم التالي نشرت الجريدة الرسمية المصرية البيان الآتي، لتحيط عموم الأهالي والدوائر الأجنبية علما بمضمونه بكيفية رسمية:
إن إسماعيل صديق باشا، وزير المالية السابق، سعى إلى تدبير مؤامرة ضد سمو الخديو، بإثارة عواطف الأهالي الدينية ضد المشروع الذي اقترحه حضرتا المستر جوشن والمسيو چوبير، فاتهم الخديو ببيع مصر إلى المسيحيين، وأقام نفسه مقام المدافع عن بيضة الدين ومصلحة البلد، فأبلغ مفتشو الأقاليم العموميون ورجال البوليس سر هذه المساعي، وأيدتها عدة عبارات وردت في كتاب أرسله صديق باشا عينه إلى سمو الخديو، يرفع به استقالته إلى سموه، فلدى تلقي الخديو أنباء خطيرة كهذه، طرح الأمر على مجلسه الخصوصي ليرى رأيه فيه، فحكم المجلس على إسماعيل صديق باشا بالنفي إلى دنقلا، وسجنه هناك، سجنا سحيقا.
ولما كان الغد، أرسل الخديو بما وقع من المفتش وما قرره المجلس الخصوصي نبأ بريديا إلى الأستانة، فبلغها بعد أسبوع، فأبرقت في الحال تأمر بإرسال الوزير المتهم إليها، ليحاكم فيها، حيث إنه حائز لرتبة المشيرية العثمانية الرفيعة.
فتمهل (إسماعيل) في الإجابة أسبوعين وأكثر، ريثما أتاه النبأ الرسمي من دنقلا، يفيد بأن إسماعيل صديق باشا مات هناك من كثرة انهماكه في السكر، فأبلغه إلى الأستانة، فاضطرت إلى قبوله كما هو، وأهملت كل مخابرة تالية في شأنه، على حسب عادتها.
ولما كان الاقتداء بالأستانة في غير وسع التاريخ، وكان الوقوف على الحقائق أمرا من واجباته، لكي يروي عبرها لقرائه، فإنه منذ أن رأى المفتش يجر إلى الحجرة الصغيرة في مؤخرة بناء سراي الجزيرة، أخذ يصيخ بسمعه لما يقال، ولو همسا، وينقب على ما يدون، ولو سرا، حتى تمكن من معرفة نهاية المأساة التي ذهبت بحياة إسماعيل صديق بعد انهيار بنيان عزه، ووقف على تفاصيلها المختلفة، المتحدة في الجوهر، بالرغم من اختلافها في العرض.
فمما قصه إسحق بك، أحد موظفي الدائرة السنية بالمنيا في سنة 1889 - وكان، حينما سقط المفتش في الهاوية، ضابطا بمصر معروفا بقوته العنترية - هو ما يأتي، والعهدة في صدق روايته عليه:
بعد إلقاء القبض على المفتش بساعة، استدعيت إلى الحجرة التي كان ذلك الوزير محبوسا فيها، فوجدت هناك الأمير حسن باشا واقفا عند الباب، والمفتش مجردا من ملابسه في أحد أركانها، فأومأ الأمير إلي بيده، فدنوت منه، وسلمت السلام العسكري، فهمس في أذني أمرا قاضيا باستعدادي لنقل المفتش، في الليل، إلى الباخرة التي أعدت للسفر به إلى دنقلا، إلا إذا مات قبل ذلك، فأدركت من قوله «إلا إذا مات» أن موته مرغوب فيه، لا سيما أنه بعد أن قال ذلك سلم المفتش إلي عهدتي، وتوجه إلى مكان آخر، فسرت حينئذ إلى المفتش، وألقيته على ظهره، وكممت فمه بيدي اليسرى لكيلا يسمع له صراخ، وأقبلت أسحق خصيتيه بيدي اليمنى، فقاومني مقاومة عنيفة، بالرغم من أنه كان نحيف البنية. ولما اشتد عليه الألم، وأخذت روحه تتقعقع في صدره، بلغت مقاومته أشدها، وخيل إلي أنه أوتي قوة تضارع قوتي، فتمكن من القبض على إبهام يدي اليسرى بين أسنانه، والعض عليه عضة قطعته لوقته، ولكن تلك كانت حركته الأخيرة، فإنى بالرغم من شدة الوجع الذي شعرت به في يدي، شددت عليه شدة أخمدت معها أنفاسه، فسقط تحتي جامدا، ودقت رأسه بالأرض، ولما جن الليل لفت جثته في قماش، وضمت إليها مثقلات جمة، ونقلت إلى ظهر الباخرة الراسية عند قدمي السراي، فسارت بها نحو الجنوب، حتى إذا جاوزت جزيرة الروضة طرحت تلك الجثة في النيل، فوارتها الأثقال في أعماقه.
وكان إسحق بك، إثباتا لصحة كلامه، يرى يدا مقطوعة إبهامها، ويبرز أوراقا تؤيد ترتيب معاش له بعد ذلك، ما فتئ يتناوله لغاية أوائل صيف سنة 1879، إذ ارتقى (محمد توفيق) عرش أبيه، وقطعه عنه. فتحرر بذلك لسانه من عقاله على زعمه، وأصبح يستطيع رواية قصة قتله المفتش العظيم الذي كان مجرد اسمه يرعب القلوب.
7
هذا ما رواه إسحق بك، وربما كانت روايته صحيحة فيما يختص بما عمله هو نفسه، ارتكانا على ما أساء فهمه من كلام الأمير حسن، ولكنا نستبعد صدق روايته فيما يتعلق بالمعاش الذي عين له، اللهم إلا إذا كان جزاء لعمل غير إقدامه على قتل المفتش، فإن الملوك قد يكافئون أحيانا أجراما ترتكب إرضاء لهم، ولكنهم إنما يكافئونها بمبلغ يعطونه مرتكبيها، أو بمنصب يرفعونهم إليه، ولم نقرأ أبدا في التاريخ أنهم منحوا من أجرم ليرضيهم مكافأة مستمرة، ما تفتأ قائمة تنم عليهم، وتثير حولهم وتنشر رائحة الجناية المرتكبة. هذا إذا صح التسليم بأن الخديو رضي عن الجرم الذي ارتكبه إسحق بك من تلقاء نفسه، أو اعتبره خدمة أداها ذلك الضابط له، وهو ما لا يستطيع أحد التسليم به بسهولة وخفة، أو بدون أن يدعم تسليمه به بمستندات تاريخية قوية.
وقد اطلعنا لأحد كبار الجالية الغربية بمصر في تلك الأيام على رواية للواقعة كلها، لا نرى بأسا من إيرادها هنا، من باب الفكاهة، لما في أسلوبها من أخذ للنفوس، قال: «حالما وصل الخديو وإسماعيل صديق باشا في العربة إلى باب سراي الجزيرة، نزل الأول مسرعا، ونزل المفتش بعده، فدخل (إسماعيل) بالسرعة عينها إلى السراي، واجتاز الرحبة، ودخل غرفة أمامه، وأسدل على بابها الستار.
فأراد المفتش اتباعه، ولكن 24 شاويشا تحت قيادة إسحق بك الياور وقفوا دونه وسدوا عليه الطريق، وتقدم إسحق بك منه، وقال له بخشونة: إنه أسيرهم.
فصاح المفتش: «مولاي، مولاي، يقبضون علي، وأنا ضيفك يا أفندينا.»
فلم يجب نداءه أحد، فقال المفتش: «أكان إذا شراكا؟» ولم يبد مقاومة مطلقا، بل سقط في يده، واستكان إلى تصرف الشاويشية فيه.
فقادوه إلى طرف الحجرة التي هو فيها، وأقاموا حوله يحرسونه.
فسأل ضابطهم، والخوف قد انتشر في عينيه: «ما أنتم فاعلون بي؟ ما هي الأوامر؟» فأجابه الضابط: «الأوامر هي أن نقيم عليك حراسا في هذه الحجرة، وأن نعطيك كل ما تحتاج إليه.»
قال إسماعيل: «أشكرك، فأعطني إذا ورقا وحبرا.» - «هذا لا، وأنت تفهم أنه خارج عما قد تحتاج إليه، وماذا تريد أن تفعل بالورق والحبر؟» - «أريد أن أكتب كلمتين توصلهما إلى أفندينا.» - «أفندينا لم يعد هنا، اسمع، ها وقع مركبته يبتعد.»
فأصاخ المفتش سمعه، فتحقق أن المركبة التي أتت به مع مولاه راجعة بالخديو وحده. فعض على أنامله حتى أدماها.
فقال له الضابط: «ألا تريد شيئا آخر؟» فأجاب «كلا.»
وإذا بأغوين دخلا بصينية عليها أكل وشرب، فحول الضابط انتباه المفتش إليها، فيما لو كان جائعا، أو كان يختلج في صدره ظمأ.
ولكن المفتش قال له: «كلا يا إسحق بك، كلا، فأنا أعرف طعام الخديو، وأعرف أنه جيد للغاية فإذا أكل منه امرؤ لا يعود قادرا على أكل غيره، ولست أراني قد بلغت ذلك الحد.»
وكان الخديو قد عاد، في الأثناء، إلى عابدين، وبعد أن سأل عن ولديه حسين وحسن وعن انعقاد المجلس المخصوص، اطلع على سجل أسماء الزائرين، وقال: «إني أقابل اليوم كل من شاء مقابلتي، فلنبدأ بالقناصل، لأني أريد أن أطلعهم بنفسي على الأمر.
فأذن للقناصل، فدخلوا عليه، فروى لهم حكاية المؤامرة التي سعى المفتش إلى عقد عروتها، وقال: «وقد أمرت بإلقاء القبض عليه، ومحاكمته أمام المجلس الخصوصي.»
فلم يجب القناصل شيئا، لأنهم لم يدروا ماذا يجيبون، وإذا كان كلام الخديو يؤذن بتمثيل رواية مضحكة، أم ينذر بقرب وقوع مأساة دامية.
وفي الساعة الحادية عشرة انعقد المجلس الخصوصي في جلسة وجيزة ساكتة، فعرضت عليه التهمة، وأطلع ولي العهد الأعضاء واحدا فواحدا على الورقة الموقعة من وفد العلماء، فأصدر المجلس حكمه في الحال وبإجماع الأصوات، ما عدا صوت أقل الوزراء المصريين ثروة، بنفي المفتش إلى دنقلا، وسجنه فيها تحت الاحتياط الشديد.
وكان الخديو قد سبق وأنبأ الأستانة بالأمر، وطلب التصريح للمجلس الخصوصي بمحاكمة المتهم، فلما ورد الرد كان المفتش قد صار إلى حيث لم تعد محاكمة أية محكمة أرضية تمسه، بعد نزع مخيف، وآلام موت أدبية ومادية ترتعد لها الفرائص.
فإنه حينما دقت ساعة الظهر، بدأ يشعر أنه قد يضطر إلى تناول طعام، فذهب نحو المائدة التي كانت الصينية عليها، وأخذ زجاجة من الشامبانيا الموضوعة تحت تصرفه، وشرع ينظر إليها ويزنها، كأنه يريد أن يشف الزجاج عن سرها.
فقال أحد الچاويشية لزميله همسا: «ها قد أتى.»
فأجابه الآخر: «أجل، فقد جاء بغيره، خيرا منه، إلى موقفه هذا.»
فسمع المفتش الهمس والإجابة. فاضطرب، وقال ملتفتا إلى الچاويش الثاني: «من أنت؟» فقال الچاويش: «لا تؤاخذني يا سعادة الباشا، فقد افتكرت بأحمد بك الخازندار، ولست تنكر أنه كان خيرا منك، ومع ذلك فسعادتك قد قتلته.»
فارتعدت فرائض المفتش وقال بلهفة: «أنا لم أقتله، هذا كذب، هو الذي قتل نفسه، هو الذي جلب المصيبة لشخصه، بسبب علائقه بحريم أفندينا.
فهز العسكري رأسه هزة غير المصدق، وقال: «أنا أعرف الحكاية كلها، فالخازندار قص علي كل شيء، في هذه القاعة عينها. وا أسفاه أحمد بك، الرجل الطيب القدير، كان قد أنقذ حياتي، وكان فضله علي عميما، ومع ذلك، فأنا المسكين التعس الحظ لم أقدر أعمل شيئا له في ساعة ضيقة وخطرة، وا ويلاه.»
فصمت المفتش ولم يجب، وأحس بأن ذكر الخازندار في موقفه ، والظروف المحيطة به نذير وبال لا محالة، لأنه يذكره، رغم أنفه، بعمل شرير من أعمال حياته، فزاد ارتعاد فرائصه، ومرت أمام مخيلته الحادثة كما وقعت:
فأحمد بك الخازندار كان رجلا من الأخصاء، حائزا لثقة الخديو ومقربا إليه، ولما كان المفتش يأبى أن يقترب غيره من قلب مولاه، ويشاركه في التعطفات الودية الخديوية، فإن الحسد اتقد في قلبه، وجعله يود، لو استطاع، هدم مركز مزاحمه، بأية وسيلة تكون، فنجم بينه وبين الخازندار نزاع عنيف لم تخف آثاره على أحد.
فحدث، ذات يوم، أن الخازندار بدر منه ما أوجب قيام قرائن حملت (إسماعيل) على الظن بأنه حاد عن جادة الحرص والاحترام في علائقه بالحريم المصون، فحادث بذلك المفتش، فاغتنمها المفتش فرصة موافقة للتخلص من الخازندار، فأوغر صدر (إسماعيل) عليه، ولما تأكد أن الغضب المثار عن الظنون السيئة والكبرياء المجروحة بلغ أشده، وأن ضغط مؤثراته الشديد تغلب على عواطف (إسماعيل) الطيبة في قلبه، أشار على مولاه بإطفاء النيران المتقدة فيه بأن يستعمل الوسائل التي تستعملها الأستانة في مثل هذه الأحوال، ألا وهي السكوت، وزكيبة، وتغطيس قهري تحت أجنحة الظلام في مياه النهر، ففعل، واختفى خبر أحمد بك الخازندار فجأة، دون أن يدري أحد إلى أين كان مصيره.
ولما مرت هذه الحادثة أمام عيني المفتش، وضع يده على جبينه وفكر هل تكون هذه آخرته أيضا؟ وهل يكون نصيب أحمد بك الخازندار نصيبه، هو المشير، هو الكبير بين كبراء الدولة العثمانية؟»
وبينما هو يفكر في ذلك تفكيرا عميقا مضطربا، أقبلت يده على غير تنبه منه، تقلب خاتمه المعلق بسلسلة ذهبية مطوقة عنقه، ومتدلية على صدره، فبصر إسحق بك بذلك الخاتم، وشرع يقترب من المفتش رويدا رويدا.
فلمح المفتش حركته، فأفاق إلى نفسه وأخفى خاتمه في صدره، وقال: «أجل يا إسحق بك، أنا فاهم، أنت تريد أخذ خاتمي، أنت مأمور بأخذ خاتمي مني، حالما يوافيني كوب من هذا الكنياك بسكتة فجائية، لا يزال هذا بعيدا يا صديقي، لا يزال هذا بعيدا.»
ولما كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، أتى إلى المفتش مصطفى فهمي باشا، محافظ العاصمة في ذلك العهد - وهو الذي آلت إليه، فيما بعد، رياسة الوزارة مرتين، وأقام عليها المرة الثانية في عهد (عباس الثاني)، ولورد كرومر، ثلاث عشرة سنة - وأبلغ إسماعيل صديق منطوق حكم المجلس الخصوصي.
فاحتج المفتش احتجاجا عنيفا، (أولا) على صدور الحكم غيابيا، مع أنه كان من الممكن دعوته للدفاع عن نفسه. و(ثانيا) على تعرض المجلس للنظر في قضية ليست من اختصاصاته، لكون المتهم مشيرا عثمانيا، والمحكمة الوحيدة المختصة بالنظر في أمره محكمة الدولة المتبوعة العليا، وأنذر مصطفى باشا بإبلاغ احتجاجه إلى الخديو رسميا، وإلا كان خائنا نحو الباب العالي.
ومع أن مصطفى باشا كان متأثرا جدا، ومتكدرا غاية الكدر من أن وظيفته تحتم عليه عمل ما يعمل، إلا أنه لم يستطع إجابة طلب المفتش، وقال له: «ما الفائدة من ذلك يا باشا؟ أنت تعلم جيدا أن الپاديشاه بعيد، وأن الخديو قريب، فأنى ليد جلالته أن تحميك من يد سموه؟»
فقال المفتش: «لا بأس، جرب يا صديقي، جرب، فإني لست أدافع عن حياتي فقط، بل عن حياتك أيضا، وعن حياة ذات الذين حكموا علي اليوم بدون سماعي، فما قد وقع لي قد يقع لكم، من ذا الذي يوقف الخديو في الطريق الذي أقدم على السير فيه إذا تركتموه ينتهك، في شخصي، حرمة الضمانات الممنوحة لمركزنا، ويدوس على قداسة الحق الذي لنا بأن لا نحاكم إلا أمام الأستانة؟ فإن يكن اليوم دوري، فقد يكون غدا دوركم. لا تقل (كلا) بهزة رأسك هذه، فأنت غلطان. نعم، أنا أقرأ في عينيك الخاطر المتجول في فكرك. أنت تقول (نحن نكون أكبر منك فطنة وحرصا، نحن لن نفعل ما فعلت، لن نتآمر على سلطة الخديو) ألا يا باشا، هل أنت معتقد صحة هذه المؤامرة؟ أنا؟ أنا أتآمر عليه؟ أنا أخامر عليه؟ كلام فارغ! مخابراتي مع العلماء ورجال الدين كانت بإذنه وتصريحه، والله والله وثروتي وأملاكي، بالرغم من كل الظواهر، لم أقتنها بسرقة أموال الحكومة، وإنما اكتسبتها بمضاربات خصوصية، أنا أقسم لك على ذلك يا مصطفى، إذا كان يوجد اختلاس في الأموال العمومية - كما يقولون - فلست أنا اللص، والخديو يعرف ذلك.»
وكان صوته بتأثير الانفعالات الشديدة المتسلطة عليه، قد علا أكثر مما كان يوافق مصطفى باشا الحريص. فقال له: «هس يا صديق، لا تتكلم هكذا، لا سيما بمثل هذا الصوت العالي، فربما كانت معرفة الخديو نصيب ما تقوله من الصحة هي السبب في أنك صرت إلى الحال التي أنت فيها. تشجع،كل شيء لم يفقد بعد. ليس السفر إلى دنقلا موتا، فقد رأينا من أتى من أبعد من ذلك، وعوضت عليه خسارته المؤقتة أضعاف أضعافها.»
فشخص المفتش إلى مصطفى باشا، كأنه يوبخه على محاولة الضحك عليه مثلما لو كان ولدا صغيرا، وعلى تعليله إياه بأماني ليس لها في نفسه أثر، فلم يستطع مصطفى باشا احتمال اللوم المنبعث عن تلك النظرة، وحول رأسه عن المفتش.
ولما كانت الساعة الخامسة، وصلت الباخرة التي أعدت للسفر بإسماعيل صديق إلى دنقلا، وأخطر أحد الچاويشية المحافظ بذلك.
وما هي إلا لحظة حتى دخل إسحق بك، هو وأجناده - وكانوا قد خرجوا لدى قدوم مصطفى فهمي باشا - وقال للمفتش: «هيا بنا يا باشا»، وأومأ إلى الچاويشية الأربعة والعشرين، فأحاطوا بصديق وقادوه إلى ظهر الباخرة صاغرا، وأنزلوه حالا إلى حجرته، وأوصدوا نوافذها، وتبعه مصطفى فهمي باشا إلى الباخرة بحكم وظيفته.
وبعد أن أقام المفتش في حجرته لحظة، دنا منه چاويش الخازندار، وقال له همسا: «إني متأكد يا سعادة الباشا، إنها هي هي بذاتها.»
فقال المفتش: «ما هي؟»
قال الچاويش: «الباخرة التي حملت الخازندار إلى حيث تعلم، ليس هناك شك، فقد وضع في هذه الحجرة عينها التي أنت فيها، وجلس حيث أنت جالس الآن، بالضبط، فكأني أراه حينما ضاقت به أخلاقه، فعزم على الشرب على صحة أفندينا.»
وكان المفتش، حالما وضع رجله على ظهر الباخرة، أدرك أن أجله حم، وأنه لم يعد في سعته اجتناب كأسه المقدورة، فلم يعد مهتما إلا بالخلاص حالا من الآلام المعنوية التي كانت تعذب روحه.
فلما سمع كلام ذلك الجندي، أبدى حركة من انتهى به التفكير إلى توطين العزم على حل نهائي، وقال: «أجل، لنفعلن إذا مثله، ولننتهين، فقد مللت النزاع، ولم يعد لي طاقة على احتمال ما أنا محتمل، سأعمل مثلما عمل أحمد بك، يا چاويش، وأشرب أنا أيضا على صحة أفندينا.»
ثم دعا إسحق بك وقال له: «قدم لي ما تريد.»
فأمر إسحق بك فأتى بالصينية، وعليها الطعام والمشروب، فملأ المفتش كوبا شمپانيا - وكان المشروب المفضل لديه - وتجرعه دفعة واحدة.
فلما مرت ساعة بدأ يشعر بالألم، وأحس كأن نارا أخذت ترعى أحشاءه، ولكنه كان خبيرا بالمفعول ودرجته. فقال لمصطفى باشا ضاحكا: «يا عزيزي مصطفى باشا، ماذا قلت لي، منذ لحظة، عن الرجوع من دنقلا؟ أراني لن أرجع منها إلا يوم الحشر.»
فأراد مصطفى باشا أن يقاوم فكرته، ولكن المفتش قال له: «صه، صه، يا مصطفى أنت تعلم، كما أعلم أنا، أن إحدى قدمي قد دخلت القبر، أريد أقول «اللجة» منذ أن تجرعت هذا الكوب، غير أن هؤلاء البهائم قد غلطوا في الكمية التي أمروا بوضعها في الزجاجة، وما جاء منها في الكوب التي تجرعتها منذ ساعة قد يبقيني حيا حتى غدا، وهذا ما لا أريده، فسأشرب، إذا، كوبا ثانيا على صحة الذين سيتبعوني قريبا في هذا السفر الميمون على صحتك يا مصطفى.»
وشرب كأسا أخرى.
ولكن بنيته كانت قوية ومتينة، على ضآلة جسمه، فزادت الكوب الثانية آلامه، ولكنها لم تصعقه، كما كان ينتظر، ودقت الساعة السابعة وهو لا يزال على قيد الحياة.
ولكنه كان قد شرع يتمرغ على أرض الحجرة، ويشهق شهيقا متقطعا، وأما ملك الموت فكان لا يزال واقفا بعيدا، ينظر إليه بتهكم، ولا يدنو منه إلا خطوة خطوة.
وكان مصطفى فهمي باشا، وإسحق بك واقفين في الحجرة يشاهدان ذلك المنظر المفجع، أما الأول فإن اصفرار الموت كان قد علا وجهه كما علا وجه المفتش، وتصبب العرق من جبينه وجسمه كله، ولم يسعه، وشهيق المفتش يتزايد حتى بلغ درجة من الشدة مزعجة للغاية، سوى أن يصم أذنيه، لكيلا يسمعه.
وأما إسحق بك فكان متضجرا لا يخفي قلة صبره على طول ذلك النزع المخيف.
فلما دقت الساعة الثامنة أسرع ملك الموت نحو الرجل المحتضر، فظهر كأن كل شيء قد انتهى، لأن كل حركة خمدت في المفتش، وتخشب جسمه.
فاقترب إسحق بك منه، لظنه أنه مات، وشرع ينزع السلسلة التي فيها خاتمه.
وكأن المفتش كان ينتظر هذه الحركة لكي لا يفارق هذا العالم إلى الأبد، فأدار رأسه بتشنج فظيع، وفتح فمه وعض، بكيفية افتراسية، يد الجسور الذي أقدم على سلبه قبل أن يبيت جثة هامدة.
فصرخ إسحق بك صرخة عظيمة من شدة الوجع الهائل، وإذا بأسنان المفتش المائتة قد قطعت إبهامه قطعا باتا.
فجن الرجل، وأمر الچاويشية فطوقوا عنق المفتش بحبل، وشدوه، فخنقوه، ثم وضعوا جثته - وهي سخنة بعد - في الزكيبة المملوءة حديدا، المعدة لذلك الغرض، وبعد أن اجتازت السفينة بهم سراي الوالدة جهة القصر العالي، وتجاوزت جزيرة الروضة طرحوها في النيل.
فلما توارت في اللجة، نظر چاويش الخازندار حوله، ثم هتف بتعجب حاد «بالضبط، في المحل عينه الذي طرحت فيه جثة أحمد بك، الله أكبر.»
ثم رست السفينة، جهة مصر العتيقة، بعيد قصر الشمع، ونزل منها مصطفى فهمي باشا، وإسحق بك والأربعة والعشرون چاويشا، وعادوا كلهم إلى مصر فإن مهمتهم كانت قد انتهت.
أما الباخرة فاستمرت في سيرها بنوتيتها إلى دنقلا، كأن الأسير فيها، وأخذت بين حين وحين ترسل برقية تنشرها الجريدة الرسمية بلا خجل، فحواها هو هو دائما: «أن المشير إسماعيل صديق باشا مكب على البكاء والسكر معا، بلا انقطاع.»
وربما استمر ذلك أشهرا وأشهرا ، ولكن الباب العالي طلب بعد ثلاثة أسابيع إرسال المفتش إليه ليحاكمه، دون غيره.
ففي الغد نشرت الجريدة الرسمية المذكورة خبر موته، وأن ذلك الموت وقع بدنقلا في 4 ديسمبر سنة 1876.»
وما يدل على أن هذه الرواية، التي سردناها، إنما هي بنت المخيلة أكثر منها بنت الحقيقة، وأن مخيلة صاحبها إنما جادت بها لإشباع رغبته في النيل من (إسماعيل) برمح حاد من وراء ستار، هو ما أخذ الرأي العام يتقول به من أقاويل، ويرويه من حكايات في أمر زوال نعمة المفتش ومصيره. وأهم ما ليك من تلك الحكايات هو أن المفتش إنما مات في الحقيقة يوم 10 نوفمبر، وأنه مات مقتولا في الليل على ظهر الباخرة التي أعدت لنقله إلى دنقلا، وأن الذي خنقه خصيان أرسلا إليه من سراي الجزيرة، وأنهما طرحا جثته في النهر بعد فراغهما من مأموريتهما الموتية، وأن الباخرة التي اجتازت النيل صعدا إلى دنقلا بنوافذ موصدة ومسمرة، كأنها نعش محمول على سطح المياه، والتي قال نوتيتها للذين قابلوهم - ومن ضمنهم جوردون - أنها تحمل المفتش إلى منفاه، لم تكن في الحقيقة تحمل الوزير لا حيا ولا ميتا.
8
على أن المثل القائل: «ليس من دخان بلا نار» ينطبق هنا انطباقا كليا.
نعم، إن الحكومة كذبت الإشاعات والأقاويل تكذيبا رسميا صريحا نشرته في «الوقائع المصرية»، وقالت: «إن الحقيقة هي أن المفتش وصل إلى دنقلا حيا، ولكنه مات هناك من شدة إفراطه في السكر.» وأذاعت - إثباتا لذلك - صورة شهادة طبية بموته حررها بدنقلا عينها طبيب إيطالي، وأطلعت قناصل الدول عليها.
نعم، إنه أشيع في كل مكان وكل ناد أن إحدى نساء المفتش في اليوم ذاته الذي هوى فيه نجمه، تمكنت من المثول بين يدي الخديو، وتوسلت إليه بدموع سخينة أن يبقي على حياة زوجها، فوعدها أفندينا، وعد شرف، بأن المفتش سيحاكم محاكمة عادلة أمام المجلس الخصوصي، وأنه مهما يكن الحكم الذي سيقضي به ذلك المجلس، فإن زوجها لن يعاقب بالإعدام مطلقا، وأنه أرسل في، الوقت عينه، رسولا إلى ابن الرجل ليحمله على الاطمئنان ، ومداومة الثقة به.
9
ولكن علاوة على أنا نستبعد صحة هذه الإشاعات، فإنا نعلم، من جهة أخرى، علما يقينا، أن (إسماعيل) كان يقول، فيما بعد، للمخلصين من محادثيه الغربيين، لا سيما لموبرلي بل: «إن موت المفتش كان أصبح أمرا لازما لا بد منه.»
10
فنستنتج من ذلك أن قصد المجلس الخصوصي من حكم النفي، والسجن الدقيق الذي أصدره ضده إنما كان في الحقيقة الإعدام.
ومتى تقرر هذا - وهو ما لا شك فيه لدينا - فإنه يصبح سيان عندنا أين وكيف نفذ ذلك الحكم.
ونرانا أميل إلى الاعتقاد بأن مصلحة الدولة - كما فهمها القابضون على زمام الأمور - قضت بنفاذه في أقرب وقت، ولو أنها قضت، من جهة أخرى، بتدبير «فرسة» الباخرة التي تظاهرت بنقل صديق إلى دنقلا، وقابلها جوردون بالقرب من كورسكو، ولما علم من تحمل، وإلى أين، ولماذا، وتذكر أنه حينما أقلع إلى السودان كان إسماعيل صديق باشا الوزير القدير، صاحب التحكم المطلق في الشئون المصرية، أغرق في التفكير في أن مجد هذا العالم باطل، وأنه سريع الزوال.
والذي يزيل كل شك من اعتقادنا في أن قصد المجلس الخصوصي من حكمه إنما كان الإعدام هو أولا ما نعلمه من أن المفتش إن لم يتآمر على الخديو في مسألة الدين المطلوب للأجانب، فقد خامر حقيقة على قتله. نأخذ ذلك مما رواه الأمير محمد توفيق نفسه للمستر بتلر، أستاذ ولديه الأميرين عباس ومحمد علي، قال: «ما فتئ والدي يسيء الظن بي، ويسيء معاملتي إلى درجة أن أحد وزرائه - ولم يكن أرفعهم شأنا - تطاول علي ذات يوم إلى حد امتهاني، وتهديدي بأن والدي قد يبعث بي إلى السودان إن لم يجد مني زيادة إقبال على مساعدته في مشروعاته الرامية إلى توسيع نطاق المدينة الغربية في القطر، فأجبته: «إن الخديو أبي وولي نعمتي، فإن شاء فله أن يبعث بي حيثما يريد، ولو إلى أقاصي السودان، بل له أن يأمر بطرحي في النيل، وما أنا إلا بممتثل لأوامره بكل خضوع.» غير أن بعض أهل البلاط كانوا يعتقدون أن تلك المعاملة قد أقرحت قلبي، وجعلتني أتمنى في صميمي أن تسرع الأيام نحوي بالعرش، فعرض علي وزير آخر من وزراء أبي - ولعله كان أقربهم إلى قلبه - بكتابات مرتين أن يعمل على تغريقه في ميناء الإسكندرية لدى عودته إليها من الأستانة، فيما لو وافقت على ذلك، فأبيت باشمئزاز. وقد أطلعت والدي، فيما بعد، على تلك الكتابات، فعانقني طويلا، والدموع ملء عينيه، وقال لي: «لقد كنت مغشوشا فيك يا بني، وأعتقد أنك تخامر علي فاصفح عما مضى.»
11
فأي وزير من وزراء (إسماعيل) - غير المفتش - كان يستطيع أن يعرض على الأمير محمد توفيق ارتكاب مثل تلك الخيانة؟ في خلد أي منهم - إلا خلد المفتش - كان يمكن أن يقع فكر الإقدام على ذلك النكر بتلك الجسارة؟ فأخلاق شريف ونوبار أعلا من أن تسمح بتطرق الريب إليهما، علاوة على أن أولهما كان أبعد الناس عن كل ما ينافي الصراحة والإخلاص، وأن ثانيهما كان لا ينفك متغيبا عن القطر في مهماته الخارجية. وأما رياض فلم تأت الأيام به إلى هذا المستوى إلا في سنوات (إسماعيل) الأخيرة، فيبعد عن الظن أنه يجسر، وهو يطمع في التقدم، على مراودة (توفيق) على عمل من شأنه خسف الأرض به خسفا، فيما لو أبى (توفيق) - كما كان المنتظر من شاب تقي مثله - موافقته عليه، بعكس المفتش فإنه - إن أفشى (توفيق) سره - كان له من قربه إلى قلب (إسماعيل) قربا شديدا، ومن مركزه السني في دولته ألف مكذب لمزاعم ولي العهد.
ولئن لم يعلن (إسماعيل) مخامرة المفتش على حياته، وينشر كتب ذلك الوزير إلى ولي العهد، فلأنه لم يكن يوافقه مطلقا - والأفكار حوله مضطربة، وجمال الدين الأفغاني ينشر تعاليمه النارية بين طلبة الأزهر، والبابية تقيم البطاح والجبال وتقعدها، والثورة في الأستانة قد ذهبت بعرش عبد العزيز وحياته، وبعرش مراد خليفته وحريته - لم يكن يوافقه مطلقا أن يقف الملأ المصري على تلك المخامرة، وأن تنفتح الأذهان إلى أن أقرب الناس إلى الخديو، وأحب وزرائه لديه تآمر هو نفسه على قتله.
والأمر الثاني الذي يحملنا على الاعتقاد الثابت بأن قصد المجلس الخصوصي من حكمه بالنفي والسجن على المفتش إنما كان بإعدامه - بالرغم من أن الحكومة ألقت القبض على كل من كان في إمكانه، من خدم إسماعيل صديق وحشمه، أن يروي روايات ويذيع إشاعات عنه، وبلغ عدد المقبوض عليهم مائة شخص تقريبا، وأنها نفتهم نفيا إداريا إلى مصوع عيانا وجهارا، (ولا نعلم أوصلوا إليها أم لم يصلوا، لأن أخبارهم انقطعت، منذ أن بارحوا القاهرة، وألسنتهم عقلت إلى الأبد)
12 - هو أنه تلا تنفيذ الحكم عليه تعيين مندوبية لتقوم عقارات المفتش، ومجوهراته، ومنقولاته، وأسهمه، وأوراقه المالية، وجواريه، لبيعها بالمزاد.
أما العقارات فكانت نيفا وثلاثين ألف فدان من أخصب الأطيان العشورية، وثلاثة قصور فخمة في القاهرة، عدا قصر بديع على ضفاف المحمودية، وكلها مؤثثة ومفروشة بأفخر الأثاث والرياش.
وأما المجوهرات فكانت قيمتها تزيد على ستمائة وخمسين ألف جنيه إنجليزي.
وأما الأسهم والأوراق المالية فكان ثمنها يربو على نصف مليون من الجنيهات. وأما الجواري فكن يزدن على سبعمائة ما بين حورية شركسية بيضاء، ذات ثمن يفوق كل تقدير، وخمرية مسكرة، وسمراء غانجة، وحبشية شعرية، ذات أعين بقرية، وبرنزية موشومة، ذات نهود سفرجلية، وسودانية فحماء، متقدة الدم الهائج.
ولكن المندوبية قدرت تلك الثروة كلها تقديرا إجماليا، بولغ في الميل به إلى جهة البخس، بمبلغ يقرب من ثلاثة ملايين من الجنيهات، مقابل دين يقرب من مائتي ألف جنيه.
أما الجواري فاختير أجملهن خلقا، وأخفهن دما، وأمهرهن صناعة، وأدخلن ضمن الحريم الخديوي، أو أهدين إلى كبار ضباط الجيش، وكبار رجال الدولة، إما لكي تقع نطقة من دم صديق على كل منهم، وإما - وهو الأقرب إلى المعقول - لكيلا يفوت البغاث شيء من فضلات النسر، والباقيات بيعت إلى من شاء مشتراهن من الأفراد والنخاسين.
ثم أقيم مزاد في سراي المفتش بالإسماعيلية؛ لبيع الرياش والمجوهرات، فكأنما أعيدت في القاهرة عينها أيام الأسبوع الذي تلا موت العاضد لدين الله الفاطمي إذ فرق صلاح الدين الأيوبي بين كبار رجال جنديته ودولته الجديدة متاع الخلافة الفاطمية، وجواري الخليفة المتوفى.
والفارق الوحيد بين الأسبوعين هو أن البائع هناك كان الوزير الفائز، والمبيعة أمتعته ونساؤه العاهل المذلول - وهو ما خولفت فيه النظامات الاجتماعية العادية، ومجاري الأمور السياسية اليومية - وأما هنا، فإن البائع كان المليك القاهر، والمبيعة أمتعته ونساؤه الوزير المقهور - وهو الجاري، عادة، بين بني الإنسان.
وكان المستر إدون دي ليون قنصل الولايات المتحدة العام، الحديث التعيين، لدى حكومة سمو الخديو، قد وصل إلى العاصمة بعيد نكبة المفتش، فأراد أن يغتنم فرصة البيع السائر، ويزور سرايات ذلك الوزير المشهور، عقب إعلان بيع منقولاته وممتلكاته، سدادا للديون المطلوبة لدائنيه، وذلك لكي يتأكد بعينيه صدق ما كان يروى عن ثروة المفتش الفائقة حد التصور وإسرافه.
وهاك ترجمة ما دبجه يراعه الفصيح في هذا الموضوع: «إن وولسي، صاحب قصر همپتن كورت، الذي اعتبره الملك (هال) السمين أكبر مما يصح لأحد رعاياه امتلاكه
13
يكاد يكون شيئا لا يذكر إذا ما قورن بهذا اللص، الذي سرق ما لم يسرقه ملوك، والذي - مع أنه نبت من عشة وحل حقيرة على ضفاف النيل - بلغ في أقل من عشر سنوات ما امتلك بمقتضاه قصورا ومجوهرات ونساء وجوار أكثر مما كان يستطيع سليمان في كل مجده أن يفتخر بامتلاكه من هذا جميعه.
فسراياته الثلاث في حي الإسماعيلية عبارة عن مجموعات مبان، منفصل بعضها عن بعض، يحيط بها كلها سور شاهق، وتغطي البساتين والحدائق التابعة لها مساحة من الأرض قد لا تقل عن مساحة الأرض التي عليها الأهرام الثلاثة، وهي كلها مبنية ومنقوشة على الطراز الفرنسي الحديث، بدون مبالاة بما قد تبلغ التكاليف. وإذا أراد الإنسان أن يتفرج عليها كلها، وهو مستمر على المشي بدون انقطاع، فلا يكفيه صباح برمته.
ولا شك في أن الأبسطة والستائر والرياش والنقوش كلفت مبالغ تتعب التصور، لأن الذي يظهر للمتفرج هو أن صاحبها أطلق اليد للمنجدين في الصرف كما يشاءون، ويقال إن ألوف الحجر في تلك السرايات تحوي كلها رياشا فاخرا سنيا، ومن طراز واحد فخم، وإن الذهب واللألأة يسطعان على ذلك جميعه، فيبهران الأعين.
كل ستائر الشبابيك من القطيفة الفاخرة جدا، وتختلف ألوانها بكيفية محسوسة من الشوكولاطة إلى الأصفر والسنجابي، والكراسي والأرائك في كل حجرة مكسوة بالقطيفة ذاتها ومن لونها على الطريقة الفرنساوية.
على أن عدد الأرائك كان قليلا، ولم يكن يوجد منها إلا في بعض الحجر المعدة لاستقبال أصدقاء الوزير من أولاد البلد.
أما الميزة الجلية فهي أن لون كل حجرة كان يتظلل بلون الحجرة التالية من الأسود إلى الفاتح، وبالجمع ما بين عموم ألوان قوس قزح. وكان التفنن في ذلك عجيبا، حتى إن ألوان ذات السدول على الأبواب، والستائر الثقيلة على الشبابيك كانت مندمجة في بعضها بالكيفية عينها.
ففي هذا الوسط الفخم كان يتربع ذلك الفلاح العديم التربية، الذي لم يكن يفقه شيئا سوى السرقة والنهب، وتحيط به أزواجه ونساؤه.
أما الأزواج، فما بين شرعيات وسراري، فكن ستا وثلاثين، وكان لكل واحدة منهن ست جواري بيض، وجم غفير من الجواري السود مخصصات لخدمتها، بحيث كان عدد الساكنات داخل تلك القصور الثلاثة، المجموعات هناك، لترتاح إلى التمتع بهن كبرياء ذلك الفلاح الحقير، وشهواته الحيوانية، يوازي عدد سكان قرية صغيرة.
وما أكثر القصص التي أخذت الألسنة ترويها بعد سقوطه عن قسوته، وفساد أخلاقه، وتباريح شهواته - وهي قصص لم يكن ليهمس بها قبل نكبته إلا الجسورون - وكان الكل متفقا على أنه استحق، عن جدارة، المصاب المخيف الذي حل به، بما جنت يداه من آثام وجرائم، ولو أنه لم يصدق أحد أنه نكب بسبب المؤامرة التي أذاعتها الدوائر الرسمية، ورأى الكل أنه إنما نكب لضرورة دولية قاسية كضيق القبر.
فلما دخلنا السراي الأولى كان البيع بالمزاد سائرا، بنشاط وهمة، في وسط بابل من الاختباط والاختلاط، في قاعة الاستقبال العظمى المكتظة بأناس من جميع الأجناس والألوان. وفي وسط هذا الجمهور المتنوع الأشكال كان يتجول نفر من الأرقاء، من بيض وسود، بصواني ملأى مجوهرات، وعلب كبيرة تشتمل على حلي نسائية من كل صنف ووصف، من الأحزمة الذهبية المرصعة بالماس، البالغ ثمن الواحد منها سبعة آلاف جنيه، إلى المصوغات الرخيصة الأكثر تداولا بين يدي الاستعمال، وكانوا يقدمونها، ويبيحون التفرج عليها للجمهور، فيتداولونها من يد إلى يد بدون أقل اعتناء، بينما كان حاملوها ينادون بأعلى أصواتهم الأثمان المعطاة للأشياء السابق عرضها، فإذا شاء أحد المزايدة، فإن كاتبا كان يقيد في الحال اسمه وعطاءه، وعند الفراغ من المزاد، في آخر النهار، كان يقيد جميع المزادات، ثم تسلم الأشياء إلى من رسا مزادها عليه، إذا وافق الثمن المعطى من الشخص المنوط به أمر التصفية.
وقد قيل لي إن المبيعات كانت تأتي بأثمان غالية إما لأن الشرقيين يميلون إلى وضع نقودهم في مثل هذه المجوهرات، وإما لأنهم كانوا يخصمون 50٪ من الثمن لدائني المفتش، ولأن معظم هؤلاء الدائنين كانوا ممن يرون أن نصف رغيف خير من لا رغيف مطلقا.
ولا شك في أن المبدأ الشرقي القديم الذي يحيط الحريم بحجاب من القداسة لا يجوز تجاوزه، قد انتهك في هذه الظروف، لأنه من البديهي أن تلك المجوهرات كانت جزءا من المسلوب من زوجات هذا السرداناپال
14
المصري ونسائه. فليت شعري ما الذي حل بصاحباتها البيضاء والسمراء؟ المظنون أنهن مزجن في هيئات أخرى من نوع التي كن فيها، ولكن هل كان ذلك بطريق البيع أم بطريق الهبة؟ ليس من يعلم، وليس من يهمه علم ذلك.
فيا لخفة وزن التقدير البشري.
ولئن بلغ من ذوق المفتش في اختيار الحوريات ما بلغ منه في انتخاب المجوهرات فإنه كان إذا حائزا لجوقة ملائك في خدمته، مؤلفة من جميع الأجناس.
ومع أنه لم يكن في شخصه سوى ابن فلاح من الطبقة الحقيرة، وقذر البزة على ما كان يصفه عارفوه، فإن التباين بينه وبين المظاهر المحيطة به كان لا مشاحة آخذا بالألباب.
ثم مررنا من القاعة التي كانت تباع المجوهرات فيها إلى مخادع أخرى، أو بالحري إلى سلسلة مخادع (بلوكات)، فرأينا خوانات مغطاة بالآنية الذهبية والفضية، من شغل الشرق ومن شغل الغرب، فإن ذلك الفلاح الرغد عيشه لم يعد يوافقه أن يخدم إلا بالأواني المصنوعة من هذين المعدنين الثمينين وذات الأباريق والطسوت المستعملة لغسيل يديه وأيدي ضيوفه كانت من الفضة الخالصة. ولا نبالغ إذا قلنا إن قيمة عدة آلاف من الجنيهات كانت مطروحة على خوانات إحدى تلك الحجر فقط.
وكانت السراي الأولى ملأى أرائك، ولست أشك في أنها كانت معدة لنساء المفتش أو ضيوفه لأن مظهر الرجل في النهار - على قول معارفه - كان مظهر رجل نام في الليل على أريكة بملابسه.
أما البساتين الممتدة أمام السرايات الثلاث فواسعة وجميلة للغاية، ولا مشاحة في أن ثمن كل هذه العقارات رفيع جدا، ولكنهم ماذا عساهم يصنعون بهذه المباني الضخمة المكتظة بالرياش والستور، والتي لا قيمة لها بدونها؟
يقول بعضهم إنهم قد يحولونها إلى مصالح عمومية، ولكنهم لو حولوها إلى مستشفيات لكان ذلك أحسن، على ما أظن، لأنها في منتهى الموافقة لهذا الغرض، لولا أن نقوشها وزينتها زائدة عما يلزم.
أما الآن، فهذه المباني هي الأثر الوحيد الباقي للرجل الذي حكم مصر ثماني سنوات بعصى من حديد، ثم مات في النهاية موت كلب مسعور.
ورأينا ابن المفتش جالسا بهدوء في إحدى الغرف كأنه يلاحظ سير المزاد، ويقدم القهوة لأصدقائه، كأنه لا يزال سيد البيت، لا إحدى ضحايا الكارثة التي ذهبت بأبيه، وأصابت كل ما كان مرتبطا به إما من جهة الدم، أو من جهة المصلحة مع أنه لم يصب في ثروته فقط، وفي جميع أمنياته في المستقبل، بل انتزعت زوجه منه أيضا، لأنه أجبر على طلاقها حالا بعد سقوط أبيه. وبالرغم من ذلك فإنه كان جالسا هناك، والابتهاج وعدم الاهتمام منتشران في الظاهر على وجهه، كأن دعجاء أسرته، إنما هي فصل تمثيل ساكت من التمثيلات المعتاد إقامتها في بلاد الغرب في عيد ميلاد المسيح، وكأنه هو أحد المتفرجين على ذلك التمثيل، لا اللاعبين فيه. ولست أشك في أن الأوروبيين قد يستطيعون وعظ الغير على التلبس بفلسفة عملية كهذه، ولكنهم لا يستطيعون التلبس بها، هم أنفسهم.»
15
ومع أنه لا سبيل إلى الشك في أن المفتش إنما استحق استحقاقا تاما الجزاء الذي حل به، إلا أنه قد وجد من المؤرخين من آخذ (إسماعيل) على أخذه ذلك الوزير أخذ عزيز مقتدر، وعد إنقاذه القطر المصري من قبضته الفظيعة، حالما اتضحت له حقيقة تصرفاته ونياته، جرما ارتكبه هذا الخديو.
وقد وجد من الغربيين القاطنين مصر، في ذلك العهد، من أول عمل الخديو تأويلا، مفاده أن (إسماعيل) حينما رأى جوشن وچوبير معضدين من وزارتي خارجيتهما، وأنه لا طاقة له على مقاومتهما، ظن أنه بتضحيته (صديقا) لهما، يرضيهما ويحوز ثقتهما، فأقدم على تضحيته، لا سيما أنه بإعدامه إياه إنما أعدم عاملا كانت مجموعة معارفه تجعله خطرا للغاية، وبات نفوذه عليه ثقيلا على نفسه.
على أن هذا لم يكن رأي السير ڨيڨين، القنصل البريطاني العام في تلك الأيام بمصر، فإنه أبلغ النبأ إلى الوزارة البريطانية هكذا:
حدثت البارحة بمصر حادثة فاجعة من الحوادث الخاصة بالحياة والتاريخ الشرقيين، فقد وافاني وزير الخارجية بنبأ مؤداه: أن وزير المالية قد ألقي القبض عليه وسجن بتهمة إثارة فتنة في الرأي العام، وتدبير مؤامرة ضد الخديو، وتصويره أمام الملأ في صورة الرجل المسئول وحده دون غيره عن المصائب والبلايا المحيقة بمصر، والسارق ثروة البلاد بالاتفاق مع الأوروبيين.
على أنه قد لا يعرف أبدا إلى أي حد أساء الوزير المعزول استعمال الثقة الموضوعة فيه، وكم خان فيما اؤتمن عليه من الأمور الهامة، وما مقدار ما تألمت به مصر من قلة ذمته، وسوء إدارته وتصرفه.
وبما أنه كان أكبر حجر عثرة في سبيل كل إصلاح مالي أو إداري فلا مشاحة في أن سقوطه، كيفما وقع، لا يمكن أن يعتبر إلا مصلحة عامة كبرى، وخيرا عميما.
الجزء السادس
التنازع على البقاء
الفصل الأول
تعقد حلقات الضيق1
عياش إنك للئيم وإنني
مذ صرت موضع مطلبي للئيم
حبيب
ومن المؤكد أن سقوط المفتش كان بدء عصر جديد لمصر، ولكنه كان في الوقت نفسه فاتحة ويلات على الخديو، ومدخلا إلى صعوبات قوية، جعلت أيام خديويته التالية تنازعا عنيفا على البقاء.
فما كاد النيل يجمع مياهه على جثة الوزير الملقاة فيه إلا وصدر مرسوم خديوي في 18 نوفمبر سنة 1876 أشعر الملأ بفوز جوشن وچوبير، وانصياع (إسماعيل) إلى آرائهما، وإلى رغائب وزارتي الخارجيتين الإنجليزية والفرنساوية، المعضدتين طلبات أصحاب الديون.
ذلك المرسوم نص على ما يأتي:
إن الأقراض المعقودة سنة 1864 وسنة 1865 وسنة 1867 لما لم يكن مركز الخديو المالي مضطربا اضطرابه الخطير التالي، والبالغ قدرها 4293000 جنيه، تستبعد من الدين الموحد الذي أدخلها فيه مرسوم 7 مايو الماضي، وتجعل موضوع اتفاق خاص بها.
وتستبعد كذلك من الدين الموحد أقراض الدائرة السنية، وديونها البالغ قدرها 8 ملايين و815 ألف جنيه - وكان مرسوم 7 مايو أدخلها فيه أيضا - وتجعل بالمثل موضوع اتفاق جديد خاص بها. وما بقي من الدين المصري يقسم إلى قسمين: الدين الممتاز، وقدره 17 مليونا من الجنيهات، تتقاضى عليه فوائد سعرها 5٪ سنويا، والدين الموحد، وقدره 59 مليونا، تتقاضى عليه فوائد سعرها الإجمالي 7٪ سنويا.
وكان الخديو، وكل الواقفين على حقيقة ثروة البلاد يودون جعل الفوائد كلها بسعر 5٪، ودافعوا لينالوا ذلك دفاعا قويا، ولكن الدوائر الرسمية بإنجلترا وفرنسا، بواسطة القنصلين البريطاني والفرنساوي بالعاصمة المصرية أبت إلا أن تجعل سعر الفوائد على الدين الموحد 7٪ سنويا، إرضاء لأطماع حملة الأسهم، فضحت بذلك الفلاح المصري، ولم تفد الديون فائدة حقيقية، لأنها خالفت المثل العامي القائل «خشكار دائم، ولا علامة مقطوعة.»
وقضى ذلك المرسوم أيضا:
أولا:
بتعيين مراقبين عامين للمالية المصرية، أحدهما بريطاني، والآخر فرنساوي، الأول لمراقبة عامة الإيرادات، وملاحظة دفعها إلى الجهات المعينة لها، والثاني لمراقبة عامة المصروفات، ومنع إنفاق أي شيء منها من أية جهة، أو مصلحة تكون بدون توقيعه. هذان المراقبان يكونان مع وزير المالية لجنة مالية عليا تراقب جميع الاتفاقات التي توجب إنفاقا يزيد على واحد من اثني عشر جزءا من الميزانية السنوية، أو يستلزم صرفا في أكثر من سنة واحدة.
ثانيا:
بتعيين مندوبية للدين العام، مؤلفة من أجانب تعرض حكوماتهم أسماءهم على الحكومة المصرية، وتنحصر مهمتهم في استلام إيرادات الجهات المرهونة ضمانة لسداد أقساط الدين السنوية من يدي مراقب الإيرادات العام، وتسليمها لبنكي إنجلترا وفرنسا، واتخاذ الاحتياطات والإجراءات اللازمة لاستهلاك ذلك الدين.
ثالثا :
بتعيين مندوبية أخرى لإدارة مصلحتي السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، مؤلفة من مصريين وفرنساوي وإنجليزيين، تحت رياسة أحد العضوين الإنجليزيين، وتنحصر مهمتهما - علاوة على الأشغال الإدارية - في تسليم إيراد هاتين المصلحتين إلى مندوبي الدين العام.
فعملا بهذه النصوص عينت فرنسا البارون دي مالاريه مراقبا عاما فرنساويا، والمسيو دي پلينيير مندوبا فرنساويا لصندوق الدين، وأبقت النمسا وإيطاليا مندوبيهما السابق تعيينهما، وهما الهرفون كريمر، والسنيور بارڨلي، وأما الحكومة الإنجليزية فأبت تعيين المراقب العام، والمندوب البريطاني لصندوق الدين بنفسها، فطلب الخديو من المستر جوشن إرشاده إلى من يصلح تعيينه، فأرشده إلى المستر دي رومين للمراقبة، والميچر بيرنج للمندوبية، فعينهما، وعين الجنرال مريوت الإنجليزي مديرا للسكك الحديدية وميناء الإسكندرية، فكان هو المندوبية كلها، لأنه لم يعين معه أحد خلافه.
فلما تمت هذه التعيينات، أخطرت الحكومة البريطانية الخديو بأنها لا تقبل أية مسئولية تنجم عنها، ولا تعترض على أي تعيين منها.
فاستلم الموظفون الأوروبيون المعينون هكذا مهام الوظائف التي عهد بها إليهم، ولكي يتمكن المستر رومين، المراقب البريطاني، من ضبط أعماله، اصطحب معه المستر چرلد فتزجرلد، أحد موظفي حكومة الهند، لترأس إدارة الحسابات المصرية، لأنها كانت في حالة من الفوضى يصعب تصورها، ويستحيل معها إتمام أي إصلاح مالي أو إداري.
يتضح مما تقدم أن فوز المستر جوشن والمسيو چوبير تكيف بشكلين مختلفين أحدهما مالي بحت، والآخر إداري بحت.
فالمالي البحت، لم يكن يختلف كثيرا عن المشروع الفرنساوي الذي قامت له الدوائر المالية بلندرا وقعدت، وليس لتقديره حق قدره خير من وضع جدول هنا نفصل فيه المبالغ التي استلمتها الحكومة المصرية حقيقة من دائنيها، إزاء المبالغ التي وضع مشروع جوشن وچوبير قيدها الثقيل على عواهن البلاد، بالرغم مما كان قد سدد منها إلى ذلك اليوم.
ومجرد الاطلاع عليه يكفي ليقنع من كانت عينه مجردة من القذى أن الرجلين لم يضعا نصب عينهما، في مشروعهما، سوى ضمانة كل الأرباح الجائرة للمرابين الغربيين الذين انتدبوهما دون مبالاة بأبسط مبادئ الإنصاف، ودون التفات إلى أن الفلاح المصري، المقدم دمه لإرواء عطش أولئك المرابين، لم ينتفع إلا بالجزء اليسير من تلك الأموال التي اقترضها حكامه، وها هو ذلك الجدول:
تاريخ القرض
المعقود باسمه القرض
الاسمي
المدفوع حقيقة
جنيه
جنيه
سنة 1862
فروهلنج وجوشن
3293000
2640000
سنة 1864
فروهلنج وجوشن
5704000
4864000
سنة 1865
الأنجلواچپشن بنك
3387000
2750000
سنة 1866
فروهلنج وجوشن
3000000
2640000
سنة 1867
البنك السلطاني العثماني
2080000
1700000
سنة 1868
أوپنهايم وشركائه
11890000
7193000
سنة 1870
بيشو ڨشهيم
7143000
5000000
سنة 1873
أوپنهايم وشركائه
32000000
17000000
الجملة
68497000
43787000
ويتضح من البيانات المقدمة من وزارة المالية المصرية إلى المستر كيڨ والتي تحقق هذا المندوب من صحتها، بمراجعتها على المستندات المرفقة بها، أن الحكومة المصرية كانت، لغاية سنة 1875، قد دفعت على هذا المبلغ فوائد، فقط، قدرها مبلغ 29570994 جنيها.
ومع ذلك فمشروع جوشن وچوبير أضاف إلى تلك الديون الاسمية الدين السائر برمته، ودين الدائرة السنية السائر أيضا، وربط بذلك على عواتق فلاحي مصر، سداد مبلغ إجمالي قدره خمسة وثمانون مليونا من الجنيهات.
وأما شكل هذا المشروع الإداري فإنه وضع بجانب الحكومة المصرية زمرة رجال غربيين، قلدوا سلطة واسعة، لم يسبق لغربيين غيرهم تقلد مثلها بمصر، وكانوا على أخلاق وكفاءة لم يعهدها أحد في الغربيين الآخرين الذين بليت البلاد بهم، لغاية ذلك الحين، وجلبوا على أوروبا بسوء تصرفاتهم وفساد سيرتهم سخط المصريين العام واحتقارهم.
ولو استطاعت الحكومة المصرية تقدير كفاءاتهم ونياتهم حق قدرها، وأقدمت على العمل معهم، يدا بيد بذكاء وإخلاص، فلا شك في أن كثيرا من الشر التالي كان قد منع، وأن تدرج البلاد في معارج الرقي والحضارة كان اتخذ شكلا طبيعيا هينا، وتم بكيفية مرضية.
ولكن سوابق الغربيين الفاسدي الأخلاق والعديمي الكفاءة، الذين تقلدوا وظائف الحكومة المصرية قبلهم، حالت بما أوجبته من احتقار وضياع ثقة دون تقدير أولي الأمر الفرصة الجديدة التي جادت بها الأيام عليهم، فتركوها تمر، ولم يغتنموها.
فنجم عن ذلك أن أولئك الموظفين أنفسهم، لما تبين لهم أن الحكومة المحلية إنما تحتملهم على غير صبر مجرد احتمال، وأنها لولا خشية الارتباكات الخارجية لأطرحتهم جانبا، وأنها تعتبر قيامهم بواجبات وظائفهم، قياما حسنا، افتياتا على حقوقها، لا تستطيع عليه صبرا، وأنها بالتالي تعمل في الخفاء على معاكستهم، وتخييب الإجراءات التي يتخذونها، لم يروا بدا من مقاومتها، والانصراف بوجوههم عنها إلى مجرد مراعاة مصالح دائنيها.
فأدى ذلك إلى شد حبل الأمور من جهة ومن أخرى، واضطرابه، واختلاله اختلالا عميما، فإلى أزمات توالت وتعاقبت بشدة متناهية، فإلى نزاع عنيف بين الدول الأوروبية المدافعة عن حقوق المرابين، وسمو الخديو المدافع عن حقوقه الموورثة، فإلى تغلب تلك الدول عليه ، لا بقوة الحجة التي تدرعت بها فقط، بل بقوة هيبتها ونفوذها.
ومن جهة أخرى، فإن الظروف، غير العادية، التي أدت إلى تعيين أولئك الموظفين، كان من شأنها أن تخلق، حتما، بينهم وبين الحكومة سوء التفاهم والمنافسة، حتى لو رغب كل من الطرفين رغبة صادقة في حسن التفاهم والمحاسنة، كما أنه كان من شأنها، حتما أن تحول عن أولئك الموظفين قلوب المصريين، وتملأها سخطا عليهم.
وذلك لأن القصد من تعيين أولئك الموظفين لم يكن مجرد مصلحة الحكومة بتنظيم إدارتها وماليتها، ولا مجرد مصلحة الرعية بوضع أزمة أمورها بين يدي حكومة منظمة ساهرة على مصالحها، بل قصد من تعيينهم مجرد مصلحة الدائنين المرابين الأجانب.
فكانت الحكومة مضطرة بطبيعة الحال إلى اعتبار الخلل خير نظام لها، لأنه يمكنها من أن تحول إلى جيبها النقود التي كان أولئك المرابون يشتهون إنشاب مخالبهم في صررها.
وكان الموظفون الغربيون مضطرين بطبيعة الحال أيضا إلى إرهاق الفلاح المصري لكي يتمكنوا من جمع المبالغ اللازمة لسداد استحقاقات الفوائد المطلوبة لأولئك المرابين.
فكان لا بد إذا للفلاحين من أن يعتبروهم خلفاء المفتش، ويحولوا كراهتهم لذلك الوزير إليهم، مزكاة بأن هؤلاء الخلفاء ليسوا أجانب فقط، بل وغير مسلمين.
وظهر كل هذا جليا مذ شرع في تنفيذ ما قضت به نصوص المرسوم الصادر في 18 نوفمبر، البادي ذكره.
فالحكومة، من جهة، رأت أن معظم إيرادات البلاد قد تحول إلى صندوق الدين لسداد المرابين، ودفع فوائد أسهم شركة السويس للحكومة البريطانية، ودفع الجزية السنوية للحكومة العثمانية، وأنه لم يعد بين يديها للصرف على إدارة البلاد سوى ما لا يزيد عن مليون جنيه، إلا قليلا، من مجموع قدره نيف وتسعة ملايين ونصف من الجنيهات، وإنها أصبحت لا تستطيع - والحالة هذه - القيام بالشئون العمومية، إلا إذا احتالت على ذلك احتيالا.
ولم تكن تستطيع الاحتيال إلا بكيفيتين: (الأولى) بعدم دفع مرتبات موظفيها ومستخدميها، و(الثانية) بالعمل على تحويل ما يمكنها تحويله من الإيرادات العامة إلى صندوقها الخاص. ولما لم يكن لها بد من ركوب أي مركب خشن تضعه الظروف تحت تصرفها، أقدمت عليها بدون مبالاة، بالرغم من الأخطار المخيفة المحدقة بها.
فعاد بؤس أيام (سعيد) الأخيرة من جهة إلى التخييم على مصالح الحكومة، وأخذت الشهور تلي الشهور وكل من في الخدمة الأميرية لا يتعاطى مرتبا، فيتضور ضيقا وجوعا، أو ينصب على عيشته نصبا، ويكدس على رأسه الديون تكديسا.
ووقع الموظفون والمستخدمون، من جهة أخرى، بين نارين، إن هم أدوا واجباتهم بأمانة وصداقة، فدفعوا إلى إدارة صندوق الدين إيرادات مصالحهم، عملا بنصوص المرسوم الخديوي، والتعليمات، والأوامر الرسمية، أثاروا غضب الحكومة عليهم، وألقوا بأنفسهم في محظور، إن لم يكن إلى تهلكة.
وأقرب مثال على حقيقة ذلك ما رواه اللورد كرومر عن معرفة شخصية في كتابه «مصر الحديثة»، ومفاده أنه بعد تعيين مندوبية صندوق الدين بقليل، لوحظ أن مديرا جديدا عين لإدارة جمرك السويس مكان المدير القديم، وأن إيرادات هذا الجمرك، الواجب توريدها إلى الصندوق، لكي تدخل فيما يدفع سدادا للدين، نقصت عقب تعيينه، وقلت دفعة واحدة بدون سبب معقول. وبالرغم من أن وصولات التوريد، لكي تكون صحيحة، كان يجب أن يمضيها أحد المندوبين، فأثار العجز الغريب الظنون في قلوب أعضاء المندوبية، وبعثوا يستفهمون من الحكومة عن السبب الذي أوجب تغيير المدير، فأجيبوا أجوبة لا طائل تحتها، فألحوا، وطلبوا بشدة، إحضار المدير السابق أمامهم حيا كان أو ميتا، فأدى ذلك إلى مكاتبات مرة اللهجة تبودلت بينهم وبين الحكومة، كانت نتيجتها أن المدير القديم بعد مرور عدة شهور، حضر إلى مكتب مندوبي الدين، وأخبر إجابة على أسئلة وجهت إليه، أنه لما كان مديرا تلقى أمرا من الحكومة مؤداه: دفع إيرادات جمرك السويس رأسا إلى الخزينة الخديوية، بدلا من دفعها إلى صندوق الدين، فأجاب أنه إذا فعل ذلك بعد صدور المرسوم الخديوي المؤرخ 18 نوفمبر سنة 1876 يكون مخالفا للأوامر الخديوية السامية، ومتجاوزا حدود وظيفته. فما كان من الحكومة إلا أنها ألقت القبض عليه، وأرسلته مكبلا بالحديد إلى أحد الأصقاع السودانية القصية، وأنه لولا تداخل المندوبين في أمره، وإلحاحهم الشديد لما عاد من منفاه السحيق العمر كله.
2
وإن لم يؤد أولئك الموظفون واجباتهم بأمانة وصداقة، ولم يدفعوا إلى صندوق الدين ما حتم عليهم دفعه إليه، عرضوا أنفسهم إلى التأنيب والتثريب، فإلى العزل والطرد على أيدي المندوبين الغربيين المؤتمنين على إيرادات ذلك الصندوق.
والموظفون الغربيون من جهة أخرى، رأوا أن الحكومة لن تنفك محاولة الاستيلاء على ما أقره المرسوم الخديوي للدائنين، ولن تنفك ناجحة في محاولاتها، ما دامت موارد الإيراد غير معروفة بالتمام، وما دامت مواضع الإنفاق غير محددة تحديدا بينا، وأنه يصلح - والحالة هذه - أن تدخل تعديلات جديدة على النظام الذي أقره مرسوم 18 نوفمبر سنة 1876، بناء على إرشادات المستر جوشن، والمسيو چوبير.
غير أنهم، بدلا من جعل مصلحة الحكومة، ورفع الضيم عن الفلاح الغرض الذي يرمى إليه من إقرار تلك التعديلات، بدلا من أن يحاولوا بما في وسعيهم أن يحملوا المرابين القساة، الغلاظ الأكباد، الناهشين لحم مصر نهشا، على القبول بتخفيض أسعار الفوائد التي يتقاضونها - فكان يكون مسعاهم مبرورا، وعملهم إحسانا - بدلا من اجتهادهم في تفهيم أصحاب الديون أن مصلحتهم الحقيقية تقضي عليهم بأن لا يقتلوا البقرة الحلوب، بالإغراق في حلبها، على جفاف درها تدريجيا، وأن لا يميتوا الدجاجة ذات البيض الذهبي، بقهرها بأشد الوسائل على بيض أكثر مما تستطيع بيضه اضطروا بحكم وظيفتهم، وبالنسبة للظروف التي قضت بتعيينهم، إلى الأخذ بأقاويل الدائنين الفرنساويين المؤكدين أن الخديو لن يجهده دفع ما عليه من ديون، إذا شاء دفعها حقيقة، وأن الضيق المصري المزعوم إنما هو حجة كاذبة، وأن الأدلة المتخذة من متربة البلاد لأدلة مصطنعة، والغرض منها إثارة عواطف الإنسانية والشفقة، حيث لا يلزم إظهارها، وتوجيهها إلى من هو غير جدير بها، وأن الخديو مدخر كنوزا يمكنه السحب منها لو افتكر أن السحب يجديه نفعا، كما أنهم اضطروا أيضا إلى الأخذ بما كتبه اللورد ڨيڨين القنصل البريطاني العام إلى حكومته في 8 ديسمبر سنة 1876، ومؤداه «إنه لمن المتعذر بيان كيف، وأين صرفت المبالغ الجسيمة التي وصلت إلى يد الحكومة المصرية في العام الماضي، فإن الأربعة الملايين من الجنيهات ثمن أسهم ترعة السويس، والخمسة الملايين كذلك قيمة المسلف من الفرنساويين، وعموم إيراد العام - كل ذلك قد اختفى، بالرغم من تأجيل دفع قطعية (كوبون) الدين الموحد، وعدم صرف مرتبات مستخدمي الحكومة، وبقاء جملة ديون ثقيلة بدون سداد.»
واضطروا - على الأخص - إلى الأخذ بعرض الحال المرسل من الجالية الفرنساوية بالإسكندرية إلى المسيو وادنجتن، وزير خارجية فرنسا، الوارد فيه ما يأتي: «ما هو مآل النقود التي دخلت القطر بتدفق منذ عدة سنوات؟ فإن الإحصائيات الجمركية تدل على أن جانبا عظيما منها لم يخرج من البلاد، فكيف يصح - والحالة هذه - الكلام على متربة البلد، وعلى تعذر دفع ديونه عليه؟ لتوضح لنا الحكومة إلى مآل كل هذا الذهب؟ ولكنها لن تفعل. فمن البين إذا أنه لا عذر لها في عدم قيامها بالتعهدات التي أخذتها على نفسها علنا أمام وجه أوروبا بأسرها، وأن مسئولية الخراب الذي تكومه على الأرض المصرية، والمتألم منه - على الأخص - مجموع الجالية الأوروبية، تقع بكل ثقلها عليها وحدها.»
3
فترك أولئك الموظفون الغربيون كل باب كان في وسعهم ولوجه لإنماء إيرادات البلاد، بدون إحراج إحساس الخديو وكبريائه، وبدون جلب ويلات جديدة على الفلاح، وأقبلوا يفكرون في إجراء تحقيق عام في حال البلد المالية، للتمكن من وضع قيود جديدة، أشد من الأولى، على أيدي الحكومة المصرية.
والفلاحون المصريون من جهة ثالثة، مع أنه لم يكن بين عقلائهم من ينكر أن وضع تلك القيود يكون مفيدا جدا، لو كانت المقاصد من وضعها مراعاة المصالح العامة، وتخفيف ويلاتهم الباهظة، وبؤسهم الفاحش، اضطروا إلى الاعتقاد بأن الغرض الوحيد من وضعها إنما هو مراعاة فوائد الدائنين دون سواهم، وذلك لأن المندوبين أهملوا، بتاتا، المطالبة بإبطال تجاوزات عديدة، كان الاستمرار عليها مفيدا للفرنج وضارا بالبلاد، ولم يقوموا لمنع أي إجراء ينفذ بقوة المعاهدات، وانصياعا للفرمانات، بالرغم من عدم صوابية إجرائه، في تلك الظروف الحرجة، ولم يهتموا مطلقا لتظلمات الأهالي والموظفين، مع إقبالهم، من جهة أخرى، على فحص مطالبات الغربيين أيا كانت باعتناء تام، وتعضيد معظمها قبل الحكومة، بالرغم من البؤس الذي باتت فيه، وتشديدهم في تحصيل الأموال لسداد أقساط الديون.
فمن التجاوزات مثلا التي كان يصح في عرف المصريين اهتمام الموظفين الغربيين بإبطالها، اهتماما قويا مستمرا، رفض الجاليات الغربية دفع أية ضريبة من الضرائب المربوطة على البلاد، حتى الضرائب العقارية ذاتها، وإقدامهن على التهريب بالإسكندرية، وعلى طول الساحل المجاور.
ومع أن كلا التجاوزين كانا فضاحين للكيفية التي كان الأجانب يسيئون بموجبها التمسك بحرفية امتيازاتهم، ويتوسعون في استعمال حقوق مزعومة، استنتجوها بموجب التعنت من تلك الحرفية عينها، ومع أن الضجة، في الدوائر الرسمية المصرية، ضد كلا التجاوزين، كانت قد بلغت عنان السماء، وأن كليهما كانا يسببان للمالية المصرية خسارة سنوية لا تقل عن نصف مليون من الجنيهات، فإن الأجانب، من جهة، ما فتئوا يأبون دفع أي شيء للمالية المصرية سوى العوائد الجمركية المربوطة على الواردات الأجنبية، وقناصلهم، من جهة أخرى، ما فتئوا يحولون دون إقدام الحكومة المصرية على تفتيش السفن والمراكب الأجنبية الراسية خارج الثغر الإسكندري أو الداخلة فيه، وما فتئوا يمكنون رعايا دولهم من تنزيل البضائع المهربة إلى البر سرا، وتخزينها في أي بيت من بيوت تلك الرعايا، ثم ينذرون الحكومة المصرية بالويل والثبور إذا تجاسرت على مسها، هناك، فيفعم القطر كله بتلك البضائع المهربة، ويبيعها مهربوها بين لمس الحكومة المحلية ونظرها، وهي عاجزة لا تستطيع أن تبدي حراكا، ومع ذلك فالمندوبون الغربيون لا يبالون بوضع حد لهذين التجاوزين الضارين، بل لا يفتكرون فيهما مطلقا، ولا يرون أن هناك إصلاحا، غير قهر الخديو على أمره، وتنظيم دفع فوائد الديون إلى المرابين.
ولما اضطر (إسماعيل) - بعد أن بلغت روحه الترقوة من تمادي الغربيين في وضع أيديهم بقوة على القذى الذي في عينه، بالرغم من أنه سيد البلاد المطلق، على حسب معقول قطره، وتربيته وأيامه، مع إغفالهم أمر القذى الذي في أعينهم، بالرغم من أنهم دخلاء، ليس لهم من الحقوق عليه وعلى بلاده أكثر مما للدائن على المدين، وليس لهم سوى طلب إفلاسه، في حال تأخره عن دفع ما عليه، وبعد أن أحرجه من جهة أخرى، الضيق والعسر الماليان اللذان أصبح فيهما - إلى الاحتجاج بشدة على ذينك التجاوزين، ومطالبة الدول الغربية بوضع حد لهما، والإلحاح على قناصلهن بمصر بمساعدة حكومته على اجتثاث جذورهما، ولما عضد السير ڨيڨين، قنصل إنجلترا الجنرال، مطالب سموه، وكتب عن ذلك إلى اللورد دربي، وزير الخارجية البريطانية، فماذا كان رد هذا الوزير؟ إنه - أولا - لم يرد عليه إلا بعد سبعة شهور، على أن جوابه لم يظهر اهتمامه بإبطال التجاوزين بقدر ما أظهر اهتمامه «بتنظيم المالية المصرية» - وهي عبارة تلطيفية لقولهم «مصالح الدائنين» - فقد ورد في رده ما نصه «إن حكومة جلالة الملكة لا يسعها أن «تهمل بالمرة» مطالبة الخديو، لا سيما في ظروف المالية المصرية المضطربة الحالية، ويحسن بالخديو أن يتأكد من رغبتها في مساعدته على إبطال كل تجاوز تقدم عليه الجالية الغربية، على شرط أن يبدو من سموه ما يدل دلالة واضحة على رغبته الأكيدة في إصلاح إدارته». فهل بعد هذه مراوغة؟
والذي زاد في ثقل وقع هذا الرد على نفوس المفكرين من المصريين، في ذلك العهد، هو أن وزارة الخارجية البريطانية، إزاء إظهارها عدم الاهتمام، بالمرة، بمصائب الفلاح المصري وبؤسه، كانت تبدي غيرة إنسانية في منتهى الحماسة على مطلب منع الاسترقاق، وما زالت تؤثر على الخديو، حتى حملته على توقيع معاهدة 4 أغسطس سنة 1877.
فحق للمصريين، لا سيما بعد اطلاعهم على البند الخامس من تلك المعاهدة، والتأثر به التأثر الذي لم يكن عنه بد أن يهتفوا بملء أصواتهم «ألا حقا قد أصبح الأرقاء أحرارا، وأصبح الأحرار أرقاء.»
ومن الإجراءات - مثلا - التي لم تكن تنفذ إلا عملا بالمعاهدات، وانصياعا لمنطوق الفرمانات، بالرغم من عدم صوابيتها في تلك الظروف، والتي كان يصح قيام «المصلحين الماليين» للمطالبة بعدم تنفيذها، رحمة بالمالية المصرية، وتخفيفا لأعباء الفلاح المصري، اضطرار مصر إلى إرسال حملة عسكرية على نفقتها لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع الروس - وهي التي سبق لنا الكلام عنها.
فكان يجدر بالموظفين الغربيين، وهم أدرى الناس بفقر الخزينة المصرية وعجزها أن يعارضوا ولو من وراء ستار السياسة الدولية في إرسال تلك الحملة، ويعضدوا الخديو في رفضه، ويحولوا في الواقع دون إرسالها، ولو فعلوا لمنعوا ربط الضريبة الجديدة، ولاقتصدوا للحكومة المصرية مبلغا وافرا.
هذا ما كان يراه الفلاح المصري المفكر، ولا سبيل إلى لومه، والتماس العذر لأولئك الموظفين من باب أنهم خافوا وتحاشوا التداخل في أمر له مساس بالعواطف الدينية المصرية، الناجمة عن ارتباط المصريين مع تركيا بوثاقات دين واحد، فإنه كان لهم من معارضة الخديو نفسه خير مبرر لمعارضتهم، فيما لو أبدوها، وخير حجاب يستترون وراءه من انتقادات المتهوسين في الشعور الديني، وعلاوة على ذلك فإن الرأي العام المصري في ذلك الوقت كان - لأمية معظم المصريين، من جهة، ولاشتداد البؤس على أغلبيتهم، من جهة أخرى - لفظا لا معنى له، وليس من السهل إثارته، ولا من الممكن جمعه على استحسان أمر أو استقباحه، لا سيما متى كان الخديو لا يريد إثارته ولا جمعه.
ثم إننا في الحرب التي نشبت بين تركيا واليونان في سنة 1897، قد رأينا اللورد كرومر، بالرغم من أن البلاد كانت في رخاء، والخزينة المصرية في نظام تام ومتانة كلية، وبالرغم من أن انتشار التعليم في البلاد، ونمو قوة الصحافة فيها نموا هائلا، بالنسبة للحرية التي منحت لها، كانا قد أوجدا في القطر المصري رأيا عاما يسهل جمعه وتسهل إثارته، رفض بتاتا بصفته المؤتمن على الأموال المصرية، وعلى راحة الفلاح المصري الانصياع إلى ملزمات الفرمانات، وإرسال قوة عسكرية لمساعدة تركيا، مع أن خديو البلاد، وقادة الرأي العام كانوا ضده، وكانوا يستطيعون إيقاظ فتنة عليه.
ومع أنهم لم تعوزهم الإرادة في ذلك، وأن النفخ على نار العواطف الدينية زاد في تلك الأيام عند الجاعلين النفخ عليها الوسيلة الوحيدة لتعيشهم، وأن قوائم الاكتتاب بالأموال لمساعدة الدولة العثمانية دارت في القطر كله تحمل في طياتها موقظات متنوعة للفتنة النائمة، ووقودا لها، لم يقم في البلاد اضطراب، ولا اختل فيها أمن، لشعور العقلاء بأن تركيا ليست في حاجة ماسة إلى مساعدة مصر العسكرية، وأن مصر في غنى عنها، فكان ذلك حجة ناصعة، ودليلا ساطعا على أن المصريين على العموم يدركون ما هي مصالحهم الحقة، وأنهم على حبهم للانتقاد، وللانتقاد المتحمس المر عينه، يعرفون، كيف يغلبون العقل، عند اللزوم على انفعالات القلب، ويرجحون كفة فوائدهم على كفة عواطفهم.
فما كان أحراهم بهذا في تلك الأيام العصيبة، إذ كانت الكلوم التي فتحتها في قلوبهم الحرب مع الحبشة لا تزال دامية، وكانت بطونهم لا تعرف الشبع، ولا تعرف جيوبهم سوى الخوى، وكان المرابون يستصفون المتبقي من دمائهم، وكانت الخزينة المصرية لا تدري من أين تصرف على الإدارة العامة؟ •••
ومن تظلمات الأهالي، والمستخدمين الوطنيين - مثلا - التي كان يصح لأولئك الموظفين الغربيين الاهتمام بها، مسألة اضطرار الحكومة المصرية إلى الامتناع عن صرف مرتبات مستخدميها، سواء في ذلك الملكيين والجهاديين.
فإنه بينما كان يصرف لكبار الموظفين الأجانب مرتباتهم على التمام، لغاية آخر قرش، بالرغم من أنها كانت سمينة وجسيمة جدا، وبينما الجمهور من المستخدمين الوطنيين يسرح بدون أجر، ليدخل محله أنفار من الغربيين تربطهم بكبار النواب عن مصالح الدائنين روابط قرابة ومحسوبية، فتعين لهم المرتبات الضخمة، ويتقاضونها بأكملها - كان الموظف المصري محروما من قبض ماهيته منذ عدة أشهر، وكان هو وعائلته قد صاروا إلى منتهى البؤس.
فلا غرابة إذا تساءل الأهالي وقالوا: «هل من العدل والإنصاف إرهاق الأمة التي إنما هؤلاء الموظفون والمستخدمون المصريون أولادها، واغتصاب آخر قرش معها، وآخر قرش قد يكون لديها في السنوات التالية، منها، بدون أن ينال أولادها هؤلاء من أموالها شيئا، مع أن اليسير المرتب لهم إنما هو حق عرقهم؟ هل من العدل والإنصاف أن يضحوا لمجرد التمكن من دفع الفوائد الباهظة للدائنين الأجانب، مع أن الفوائد التي تقاضاها هؤلاء الدائنون لغاية هذا اليوم أصبحت توازي قيمة ما أقرضوه كله؟»
وهاك ما كتبه السير ڨيڨين في هذا الموضوع «إن الخزينة خالية خاوية، والجيش والمستخدمين محرومون من مرتباتهم منذ عدة شهور، وحال هؤلاء قد صارت إلى أشد البؤس والفقر، والشعب المصري يتذمر من أن يدفع لأصحاب الديون كل ما لهم، بينما المستخدمون وعليهم المدار في تسيير سفينة الحكومة، لا يتقاضون شيئا.»
الفصل الثاني
الكتابة على الحائط1
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
طرفة
على أن الذي جعل على الأخص الفلاحين المصريين يسيئون الظن في الموظفين الغربيين، ويكرهونهم كراهة لا حد لها، ويزدادون تمسكا بالخديو وولاء له، هو ما قلناه عن اضطرار أولئك الموظفين إلى إرهاقهم إرهاقا فاحشا، ومضاعفة الضرائب الشخصية عليهم، لتحصيل الأموال اللازمة لسداد قطعيات (كوبونات) الديون.
فإنه ما مضى على تنفيذ مرسوم 18 نوفمبر سنة 1876 شهران حتى استحقت القطعية الأولى، وقدرها 2301000 جنيه إنجليزي، فدفعت، ولكن كتابة السير ڨيڨين عن كيفية تمكن المندوبين الغربيين من دفعها أدل برهان على ما استعمله هؤلاء من وسائل غليظة، فقد قال القنصل المذكور في تقريره المرسل منه إلى خارجية دولته ما نصه: «إن الضرائب تجمع في بعض المراكز قبل أوانها بستة أشهر وبشدة متناهية، لأجل التمكن من دفع القطعية الأولى.»
على أنه لم يمض على دفع هذه القطعية ستة أشهر إلا واستحقت القطعية الثانية، قطعية شهر يولية، وقدرها 2074975 جنيها إنجليزيا، فدفعت أيضا، ولكن السير ڨيڨين عينه كتب إلى وزير الخارجية البريطانية في 12 يولية ما نصه «إن النقود المطلوبة دفعت كلها بالأمس، ولكني أخشى أن الوصول إلى هذه النتيجة إنما أمكن بتحميل الفلاحة المصرية خسائر وضحايا لا طاقة لها بها، فقد أجبر الفلاحون على بيع محصولاتهم قبل نضوجها وجنيها، وجمعت منهم الضرائب تسعة شهور، وفي بعض المراكز اثني عشر شهرا مقدما، لست أشك أن هذا جميعه خطأ في خطأ، لا سيما في قطر أرهقته، بل سحقته الضرائب، وأخاف في الأثناء أن تكون الإدارة الأوروبية سائرة، على غير شعور منها، إلى القضاء على الفلاحين الذين هم عماد هذه البلاد وقاعدتها القضاء المبرم، وأرى أن الإنجليز بشدهم أزر مثل هذه المظالم يحملون أنفسهم مسئولية خطيرة.»
وفي سبتمبر التالي ذكر الخديو السير ڨيڨين عينه، أثناء محادثة دارت بينهما «أن القطعيتين اللتين، دفعتا عملا بمشروع المستر جوشن، إنما دفعتا بتحصيل الضرائب مقدما، وأن دفع قطعية شهر يناير التالي ستلتهم طبعا كسابقتيها، معظم ضرائب سنة 1878»، فلم يستطع السير ڨيڨين إلا الموافقة على ذلك، وكتب إلى اللورد دربي «أنهم يحصلون الآن الضرائب مقدما هنا، وأن القطعيات إنما تدفع بكل نوع من الصعوبة، والاحتيال، والضحايا. ويبلغني من عدة مصادر أن الفلاحين يرهقون ويسحقون ضرائب ومكوسا.»
فما كان من وزارة الخارجية حينما نقل إليها القنصل العام المحادثة التي دارت بين الخديو وبينه، إلا أنها كتبت له «أن يفهم الخديو أن تغيير أي شيء في التعهدات التي اتفق عليها منذ مدة يسيرة مع المستر جوشن، والمسيو چوبير، أو تعديل أي جزء منها، قد ينشئ أخطارا مخيفة جدا.»
ومع أنه لو اقتصر الأمر على دفع قطعيات الديون المسجلة لكان كافيا لتخريب القطر، تخريبا تاما، إلا أنه كانت هناك ديون أخرى، غير مسجلة، لم تر الدول الأجنبية بدا من مضايقة الحكومة المصرية بخصوصها، والإلحاح عليها بدفعها، بالرغم من أن دفعها يستنفد جانبا عظيما من المليون الحقير من الجنيهات الباقي لهذه الحكومة من إيرادات البلد العامة، بعد دفع كل أقساط الديون المسجلة السنوية.
تلك الديون كانت مطلوبة لمتعاقدين، وخلافهم عن بضائع وردوها للحكومة المصرية، فمع أن أصحاب المحال الأجنبية المتجرة بمصر أصدروا أوامرهم إلى وكلائهم بالامتناع عن تقديم أي شيء للحكومة إلا في مقابل دفع ثمنه، نقدا، لدى استلامه، فإن السير ڨيڨين أنذر الحكومة المصرية في أغسطس سنة 1877 بأن الدائنين سيضطرون، حتما، إلى مقاضاتها أمام المحاكم المختلطة، عملا بما لهم من حق، لا نزاع فيه، وأنها ستجد نفسها بالتالي أمام عدد غفير من أحكام صادرة ضدها، فلا يعود لها مناص من الإذعان والدفع فورا، دفعا تاما، وإلا استلفتت، حتما، انتباه الدول التي كان لها يد في إنشاء المحاكم المختلطة، وأثارت تهديداتها لها.
وكأن هذا الإنذار كان محرضا لأصحاب الديون التي نحن بصددها، فإنهم هبوا كلهم مرة واحدة، وصبوا على رأس الحكومة المصرية وابلا حقيقيا من إعلانات دعاو، وطلبات حضور، واستصدروا في الواقع ضدها أحكاما مختلفة وعديدة من المحاكم المختلطة، ولكن الحكومة امتنعت عن تنفيذها، لأنها لم تكن تستطيع تنفيذها إلا بمضاعفة الضيق على نفسها، وعلى رعاياها.
فأدى ذلك فعلا إلى تداخل الدول التي أنشئت تلك المحاكم بالاتفاق معها، ونهضت الحكومة الألمانية - على الأخص - وقالت على رءوس الأشهاد: إنها تعتبر عمل الخديو بإقدامه على رفض دفع ما تحكم به البلاد عملا لا يصح السكوت عليه ويجب منعه، وأقبل السفير الألماني في لندرا وقال للورد دربي: «إن البرنس بزمرك يرغب في أن تتحد الدول كلها لتعمل معا في الموضوع، إن لم يكن لشيء فلاجتناب إمكان إقدام إحداهن على العمل بمفردها»، ذلك كان الطامة الكبرى.
فإذا أضفنا إلى كل هذه الشدائد أن فيضان النيل في سنة 1877 كان شحيحا، وأنه نجم عن ذلك مجاعة فتكت بفلاحي مصر، لا سيما فلاحي الوجه القبلي فتكا ذريعا، وأن تحصيل الضرائب مقدما استمر - بالرغم من ذلك، ومن أن البلاد باتت لا تملك نفسا - آخذا مجراه القهري المهلك، وتحققنا أنه كان من شأن ظروف الوقت المعقدة إنماء سوء التفاهم بين العنصر الغربي والخديو والأهالي إنماء مطردا، أدركنا بسهولة أن حرج المركز للجميع كان لا بد صائرا إلى نتيجة في منتهى الخطورة، وأنه كان لا بد من الانتهاء إلى أن إحدى القوتين تسحق الأخرى.
غير أن البلوغ إلى هذا الحد لم يكن ظاهرا بجلاء في أفق السياسة، وكانت الحكومات الغربية ثابتة الاعتقاد بنجوع الدواء، الذي جادت به قريحتا جوشن وچوبير، ولكنها بعد ما تحققت أن مواسم المحصولات المصرية لا تتفق مع تاريخي استحقاق قطعيتي الديون السنويتين، وافقت على تغييرهما وإبدالهما بتاريخين يكونان أكثر ملاءمة لمصالح الفلاحين البؤساء.
فصدر - بناء على ذلك - مرسوم سام في 15 ديسمبر سنة 1877 جعل موعدي استحقاقي القطعيتين المذكورتين أول مايو وأول نوفمبر من كل عام، بدلا منهما في 15 يناير و15 يولية، وعين يوم 31 ديسمبر لدفع الفرق الناجم عن الإبدال.
بيد أن تمادي الأيام، وتفاقم الشرور الناجمة حتما عن استعمال الدواء الجوشني الجوبيري، وازدياد الصعوبات تعقيدا حول المندوبين الأوروبيين، وكل من كان له احتكاك بالأزمة المصرية، سواء أكان رسميا أم عرفيا - كل ذلك أدى في النهاية إلى تغيير فكر الدول في نجوع الدواء المذكور، وإلى البحث عن تعديله، وإلا فإبداله بدواء غيره.
ولما كان مندوبا صندوق الدين الإنجليزي والفرنساوي أول من اقتنع بضرورة إدخال تعديلات على المشروع الجوشني، وارتأيا، قبل الإقدام عليها، لزوم إجراء تحقيق عام عن موارد إيرادات الحكومة، وأوجه مصروفاتها، لكي يكون التعديل الذي يتفق عليه، فيما بعد، مبنيا على حقائق، لا على أوهام، فإنهما ما فتئا يلحان على الدوائر الرسمية الأجنبية في القطر حتى حملوها على الانضمام إليهما في رأيهما، ومطالبة (إسماعيل) بإصدار مرسوم يعين أعضاء «مندوبية التحقيق» المطلوب إنشاؤها.
غير أنه كان يلزم - أولا - الحصول على رضا الدائنين أنفسهم، بصفتهم أصحاب شأن في الموضوع، لأن نتيجة التحقيق قد تؤدي إلى مطالبتهم بتخفيض سعر الفوائد التي يتقاضونها.
فلما فوتح في الأمر عقلاؤهم، قبلوا، على شرط أن يصطبغ التحقيق بصبغة عدم التحيز، ويتناول الدائرة المالية بجميع جزئياتها، بحيث لا يترك شيئا غير ممحص وراءه في شكل دين مطلوب، أو ما شابهه، يكون فيما بعد قاعدة للمطالبة بتعديل جديد، فإذا اتضح حينئذ وجوب تنازلهم عن جانب من مصالحهم، فإنهم يقبلون تضحية ذلك الجانب عن طيب خاطر.
فخاطب السير ڨيڨين الخديو بعد وثوقه منهم، واقترح عليه تعيين مندوبية تحقيق جديدة، بناء على طلب الدائنين، يطلق لها الحرية التامة لإجراء بحث تفتيشي تام يتناول المصروفات والإيرادات، ويخول لها حق إيجاد وسائل جديدة للبلوغ إلى مراقبة في الأقاليم على كيفية جبي الضرائب ودفعها، أقوى من الحالية، ونوه له في الوقت عينه، ولكن بطريق غير رسمية، أنه في حال عدم نجاح تلك المندوبية في اكتشاف موارد إيرادات غير المعروفة، فقد يطالب سموه بالتنازل عن كل الباقي له من أملاكه الشخصية للمراقبة الدولية.
ولما كان هذا الاقتراح ثقيل الوقع على نفس أي إنسان - فما بالك بثقل وقعه على نفس (إسماعيل) الأبية - فإن الخديو رفضه بتاتا، وأبى الإصغاء إليه، وطالب القنصل بحمل الدائنين على تخفيض سعر الفوائد التي يتقاضونها إذا شاءوا أن تستمر البلاد قادرة على دفعها، بدون تداخلهم في طرق إنفاق الحكومة النقود الباقية لها، لأن ذلك ليس من شئونهم.
ولكن مندوبي صندوق الدين هبوا لنجدة القنصل، وأرسلوا في 9 يناير سنة 1878 كتابا إلى وزير المالية أفاضوه كلاما عن خطورة الحال، وأشاروا بإجراء تحقيق.
فأجاب الخديو بعد طول التردد، أنه يرفض كل تحقيق عام في الحال المالية، ولكنه لا يعارض في تعيين مندوبية تكون مهمتها الوحيدة التأكد من حقيقة مبلغ الإيرادات المصرية. وطلب من مندوبي صندوق الدين أن يكونوا هم أنفسهم أعضاء في تلك المندوبية، فأبوا، وكتبوا كتابا آخر إلى الحكومة المصرية قالوا فيه إنهم يعتبرون كل تحقيق جزئي أضر من لا تحقيق على الإطلاق، وأنهم لا يوافقون إلا على تحقيق تام.
فلم يبال الخديو برأيهم هذا، وأصدر مرسوما عاليا في 27 يناير سنة 1878 عين بمقتضاه مندوبية لتحقيق الإيرادات فقط.
وما انتشر ذلك المرسوم إلا وتهيج له الرأي العام الأوروبي بالقطر المصري، تهيجا ذكر بمثيله منذ سنتين، حينما أعلن التوقف عن الدفع.
فعقد بالإسكندرية اجتماع تهور فيه المتطرفون من المعضدين لطلبات الدائنين الأجانب تهورا شديدا، وبالغوا في لوم أي إجراء تحقيقي يراد عمله، لأنه في غير محله، ولأن الحكومة المصرية تستطيع القيام بجميع تعهداتها، وأقدموا في غليان مراجل سخيمتهم، على تحرير طلب إلى معتمدي الدول بمصر، شتموا فيه الحكومة المصرية شتما في منتهى الوقاحة والقباحة، وأرسلوه لهم، فأبى السير ڨيڨين الالتفات إليه، ورماه بامتهان
2 - ولكنه في الوقت عينه كتب إلى وزارة الخارجية البريطانية يلتمس منها تصريحا لاستعمال تأثير رسمي على الخديو.
على أن ذلك جميعه لم ينجح في حمل (إسماعيل) على التخلي عن فكر إجراء تحقيق جزئي، ولكنه لعلمه أن الصعوبة الحائلة دون تنفيذ فكره إنما هي وجود الرجل الكفء لتلك المهمة، أخذ يقلب طرفه في عموم إدارات ومصالح بلاده عساه يجد في إحداها الشخص المطلوب.
وكان الكرنيل جردن (غوردون) قد عاد من السودان إلى مصر، في تلك الأثناء، فوقع نظر الخديو عليه، ووقع، حالا، في خلده أن «هذا هو الرجل» فإن أخلاقه الرفيعة، ونفوذ سمعته إلى صميم تقدير الأوساط البريطانية بأسرها، وعطفه المعروف لدى الجميع على شقاء الشعب المصري وآلامه - كل ذلك يجعله الآلة المفيد استعمالها فائدة فائقة، فاقترح (إسماعيل) على السير ڨيڨين تعيينه.
ولكن القنصل ألفت انتباهه إلى أن الكرنيل جردن، بالرغم من جميع صفاته وكفاءاته السامية عديم الخبرة في الأمور المالية فلم يزد (إسماعيل) إلا تشبثا بفكره، فاستدعى الكرنيل جردن، وطلب إليه القيام بالتحقيق المالي المطلوب.
فمال جردن في البدء إلى قبول المهمة.
ثم خاطب (إسماعيل) فردينند دي لسبس في أمر انضمامه إلى ذلك الإسكتلندي النزيه للقيام معه بالتحقيق. فأجاب دي لسبس بالقبول - ولم يكن في استطاعة الخديو أو أي أحد غيره في العالم اختيار رجلين خيرا من هذين للقيام بأي عمل يستدعي القيام به خلقا شريفا، وفكرا ساميا.
ولكن المؤثرات من وراء الستار ما زالت تعمل في قلب جردن، وما زال هو نفسه يزن بدون تحيز كفاءته المالية للعمل، واستعداده لاكتساب كفاءة مستقبلة له، حتى أدى به الأمر إلى إبداء رغبته للخديو بالتكرم عليه باعفائه من تلك المأمورية، وإلى مغادرته القطر المصري مؤقتا.
في الأثناء ورد إلى السير ڨيڨين التصريح الذي طلبه من الوزارة البريطانية، فقام ذلك القنصل من ساعته، وطلب مقابلة الخديو، وأبلغه «أن حكومة جلالة الملك امتنعت لغاية ذلك الحين عن مضايقة سموه، ولكنها الآن ترى نفسها مضطرة إلى تعضيد طلبات حقة، لأن للصبر وسعة الصدر حدودا، ولذا فإنها ترى من الضروري جدا أن تفحص المندوبية مصروفات الحكومة.»
3
فقال له الخديو: «إذا كان لا بد من ذلك، فلتكن المندوبية التي تعين مؤلفة من أربعة أوروبيين غير أعضاء صندوق الدين، لأن هؤلاء، بصفتهم ممثلي أصحاب الديون، أميل إلى مراعاة هؤلاء الدائنين في تحقيقاتهم، منهم إلى مراعاة حال الحكومة.»
فأبى السير ڨيڨين عليه ذلك، ولمح بأنه إذا لم يجب طلبه فقد ينضم إلى زملاؤه، وكلاء بقية الدول، فيقدم الجميع لسموه الطلب عينه باسم الدول مجتمعة حتى إذا أصر على رفضه، عد مقاوما لهن جميعا، لا لواحدة منهن على انفراد.
فأصر الخديو على الرفض، إلا إذا شكلت المندوبية حسب رغبته .
وإذا بإلحاح ورد عليه من جهة لم يكن يتوقع وروده منها، فأدهشته وقاحته للغاية، وذلك أن المستشارين الأوروبيين بمحكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية، تحت تأثير مؤثرات أجنبية، وبالرغم من خروج الأمر عن دائرة اختصاصهم بالمرة، أرسلوا إليه احتجاجا قويا على تأخير تنفيذ الأحكام الصادرة من المحاكم ضد الحكومة المصرية لمصلحة الأجانب.
وكأن هذه الوقاحة لم تكف، فإن إحدى المحاكم الابتدائية المختلطة أصدرت قرارا ضد الأمير حسين، وزير المالية، أمرته بمقتضاه، بالحضور أمامها بدفاتر حسابات الحكومة، وهو بعينه، ما كان النزاع قائما عليه بين الخديو والقنصل البريطاني.
وبينما (إسماعيل) يجتهد في تهدئة العاصفة التي أثارتها في نفسه هذه التعديات الوقحة على حقوقه الملكية، جاءه قناصل ألمانيا والنمسا وإيطاليا، معضدين طلب القنصل الإنجليزي، ثم انضم إليهم القنصل الفرنساوي أيضا، بعد تردد كبير، سببه علم الحكومة الفرنساوية أن نتيجة التحقيق المراد إجراؤه مؤدية حتما إلى تخفيض سعر الفوائد التي يتقاضاها الدائنون الفرنساويون.
فاضطر (إسماعيل)، وقد اشتدت حوله المضايقة من كل جانب إلى قبول مطالب الدول، ووقع في 30 مارس سنة 1878 مرسوما ساميا، نشر في 4 أبريل التالي، عين بمقتضاه مندوبية تحت رياسة المسيو دي لسبس لفحص الحالة المالية المصرية، فحصا دقيقا تاما، وفوض لها السلطة المطلقة لإجراء كل تحقيق تراه موصلا إلى الغرض الذي أنشئت من أجله.
فتشكلت هذه المندوبية تحت رياسة الفرنساوي الكبير من مندوبي صندوق الدين الأربعة، ومن مصطفى رياض باشا، والسير ريڨرس ولسن، بصفتهما وكيلي الرئيس، ومن المسيو ليرون ديرول - وكان فرنساويا ماهرا - بصفته كاتب السر.
وكان الفرنساويون قد عارضوا في تعيين أي عضو مصري بالمندوبية، زعما منهم أن لا مصري يستطيع إظهار استقلال في الرأي في شيء لا يستحسنه الخديو، ولكن الواقع أظهر أن مخاوفهم كانت في غير محلها، لأن مصطفى رياض باشا أبدى من الشجاعة الأدبية ما اكتسب به ثقة زملائه واحترامهم، وأبدى من الخبرة في الشئون المصرية ما جعل عضويته بالمندوبية ثمينة للغاية.
غير أن المسيو دي لسبس لم يمكث على رياسة المندوبية سوى بضعة أيام، لرغبته عن أشغال من نوع أشغالها، وميله إلى المكث في قصره بالإسماعيلية على ضفاف بحيرة التمساح، حيث كان كل شيء يذكره بأيام الاحتفالات البهيجة، فتخلى عن تلك الرياسة إلى السير ريڨرس ويلسن - وكان من كبار موظفي المالية الإنجليزية، وصرحت له الحكومة البريطانية بإجازة لكي يؤدي الخدمة المطلوبة منه بمصر - وقال بعض مترجمي حياة الفرنساوي الكبير: إنه إنما فعل ذلك لأن نفسه أبت، وهو صديق (إسماعيل) الحميم، أن يتجول في المديريات والأقاليم ليستجوب المديرين ومأموري المراكز، ونظار الأقسام، ومشايخ البلاد، ويحملهم على شهادات تذهب بهيبة صديقه ومركزه، بين أن السير ريڨرس ولسن - ولا ندري بأي حامل - وزملاءه الغربيين أظهروا استعدادهم لعمل هذا العمل بحب، واستيعاب تام كل التمام.
بيد أنهم ما شرعوا في أداء مهمتهم إلا وصادفتهم عقبة لم تكن في الحسبان، وهي أنهم عملا بمنطوق المرسوم الخديوي المخول لهم حق استجواب كل موظفي الحكومة المصرية من أكبرهم إلى أصغرهم، استدعوا شريف باشا وزير الحقانية والخارجية، إذ ذاك، للحضور أمامهم للإجابة على بعض أسئلة يريدون توجيهها إليه.
وكان شريف باشا بعد الخديو أول ذات في البلاد، فاستكبر الدعوة، وعز على نفسه الأبية أن يقع مجرد فكرها في خلد المندوبية، فأرسل يقول إنه مستعد للإجابة كتابة على كل ما يطلب منه.
ومع أنه لم يكن يخامر أحدا ريب في طهارة ذيله، ونقاوة يديه، وخلوه من كل مسئولية في أمر الخلل المصري المالي، وكان يصح أن تراعي المندوبية كرامته، وتحترم عزة نفسه، تعنت رجالها في إلزامه بالحضور شخصيا، خشية أن يذهب غيره من الموظفين إلى الاقتداء به، فتتعطل أعمال المندوبية لدى أول خطوة تخطوها.
وعضدهم في ذلك السير ڨيڨين القنصل البريطاني، فلم يعد في استطاعة شريف باشا سوى الإذعان أو الاستقالة من كلتا وزارتيه، بالرغم من إرادة مولاه، الذي عد تعنت رجال المندوبية في طلبهم، وتعضيد الحكومة الإنجليزية لهم فيه شبه إهانة شخصية له.
بيد أنه ما لبث قليلا حتى استصغر هذه الإهانة بجانب إهانة أخرى نيلت بها كرامته، وكان في وسع المندوبية منعها عن شخصه، وتفصيلها: أن أحد محضري المحاكم المختلطة، تنفيذا لحكم صادر منها، وبناء على طلب أحد الدائنين الغربيين المحكوم له بدين طالب به، ذهب إلى سراي الجزيرة، وأراد إلقاء حجز على المنقولات والرياش التي فيها، فأبدى ناظر السراي معارضة بينة على أن تلك المنقولات والرياش بيعت إلى بعض أمراء الأسرة الخديوية، ولم تعد ملك الخديو، ولكن المحكمة المختلطة رفضت المعارضة، وقضت باستمرار السير في التنفيذ، فعاد المحضر إلى الحجز، ولولا أن حراس السراي قاوموه بالقوة لتمكن من أداء مأموريته.
إن التاريخ المقدس يروي أن بلطشسر آخر ملوك بابل، بينما كان الفرس تحت قيادة كيخسرو (كورش) ملكهم يحاصرون عاصمته حصارا شديدا، أغرق ذات ليلة - في وليمة فاخرة أقامها بمناسبة عيد ميلاده، واستهزاء بمجهودات أعدائه - في السكر والعربدة والمجون، وأنه - تماديا في غيه - أمر بإحضار الآنية المقدسة التي نهبها أبوه نابوكودور السور (بختنصر) الكبير من هيكل أورشليم، حين استولى عليها، ودمر مملكتها، وقاد اليهود وملكهم وأمراءهم أسرى إلى بابل - وكانت آنية محرم لمسها إلا للحبر الأعظم على شرط أن يكون متطهرا، وأن يكون قائما بخدمة قدس الأقداس - وأمر كبير سقاته بملئها، وإدارتها على المدعوين، فشرب جميعهم وقهقهوا طربا.
وإذا بيد هائلة ظهرت بغتة على أحد حيطان قاعة الوليمة، وكتبت عليه بالفحم الأسود، وبخط كبير هذه الكلمات الثلاث «ماني، تيسل، فارس».
وكانت عينا بلطشسر شاخصتين إذ ذاك إلى الحائط، فنظرتا اليد والكتابة.
فهب الملك مذعورا صائحا، ووقعت الكأس من يده، ودب الرعب إلى قلوب جميع المتكئين، فاستدعى الملك في الحال جميع علماء مملكته، وخبيريها، وطلب إليهم قراءة تلك الكتابة المخيفة، وتفسير معناها. فلم يستطيعوا، فذكر بعضهم له أن في قصره يهوديا يقال له دانيال - وهو (النبي دانيال) - كان والده يعده من كبار العارفين، وأنه قد يدري ما لم يقدر على معرفته علماء الكلدانيين.
فاستدعاه الملك، فحضر وقرأ الكلمات، ثم قال لبلطشسر: إن معناها أيها الملك هو «أنك وزنت، فوجدت ناقصا، فأخذ ملكك منك، وقسم بين الفرس والماديين.»
ويقول الكتاب المقدس «وفي تلك الليلة تمكن الفرس من الدخول إلى بابل بحيلة ، وهي أنهم حولوا مجرى نهر الفرات - وكان يجتاز العاصمة - وساروا إلى قلبها من مجراه، فأخذوا حاميتها على غرة - وكانت احتفالا بالعيد قد ترنحت سكرا - وأعملوا فيها سيوفهم، ثم هاجموا قصر بلطشسر، وقتلوه فيه مع جميع أعوانه ومدعويه وأهله.»
4
أفلم يحق للمستر ماك كون أن يختم روايته لتلك الإهانة الشخصية التي ألحقتها المحاكم المختلطة (بإسماعيل)، مؤسسها، بقوله: «ألا من المؤكد أن الكتابة كانت قد باتت مخطوطة على الحائط، حينما أصبح في الإمكان اقتراف مثل هذا العيب ضد «أفندينا» العظيم الذي كانت كلمته، قبل أقل من ثلاث سنوات قصيرة، القانون الأعلى من الإسكندرية إلى الخرطوم؟» ألا أف لتقلبات الدهر وصروف الأيام.
5
الفصل الثالث
بين يدي المندوبية1
كنت من كربتي أفر إليهم
وهم كربتي فأين الفرار؟
وبينما الشعب المصري يكاد لا يصدق نظره وسمعه، ويبدي انذهالا ليس بعده انذهال من أن يتجاسر الفرنج على الخديو إلى ذلك الحد، ولا يخسف الخديو بهم الأرض، أو يقلبهم كلهم في البحر، كانت مندوبية التحقيق توالي جلساتها ومباحثها في طرق إدارة القطر العامة، لا سيما في نظامه المالي.
فاتضح لها أن ما كان يشاع عن التجاوزات التي ارتكبها المفتش في مدة إدارته إنما هو دون الحقيقة، وأن الشرور التي أنمي في أرض مصر غراسها الممتص تنفس البلاد لا تزال باثة سمومها، بالرغم من كل المجهودات التالية التي بذلت للقضاء عليها.
من ذلك أن جملة قوانين ولوائح سنها الخديو في مصلحة الأهالي بقيت مجرد حبر على ورق لعدم اهتمام أحد من الموظفين بنفاذها، لا بل بمعرفة وجودها، وأن جملة ضرائب جديدة ربطت، وجملة ضرائب قديمة ضوعفت بدون صدور تصريح رسمي بها، وبدون أن يفكر الأهالي المجيبة منهم في الاحتجاج عليها، لاعتيادهم هذا النوع من المظالم على أيدي حكامهم الأصاغر والأكابر منذ أجيال وقرون، وأن ضرائب وضعها الخديو على أرباب الحرف والصنائع والمهن، بقصد تخفيف الوطأة عن الفلاح وعن الأرض، قلبت إلى ضرائب على الرءوس، وأجبر على دفعها الفلاحون أنفسهم، فوق ما يدفعونه من خراج أطيانهم أو عشورها، بل أجبر على دفعها نفس من لا حرفة ولا صنعة ولا مهنة لهم. ولما سئل أحد كبار الموظفين المصريين عما إذا كان لا يستصعب جباية مثل هذه الضريبة الحرفية، ممن لا حرفة لهم، أجاب باندهاش: «وهل الذنب ذنبنا إذا امتنع أحد الأفراد عن الاحتراف بحرفة مع تمتعه بحرية الاحتراف بأية حرفة يشاء؟ فإذا فضل البطالة، فما هذا بموجب لعدم مطالبته بالضريبة، وإلا ظلم أصحاب الحرف أنفسهم»، وأن السخرة التي أعلن الخديو عزمه على إبطالها منذ أن ارتقى العرش، لم يفكر في الامتناع عنها أحد من حكام البلاد وكبار سراتها ووجوهها، وأن المديرين والمأمورين ونظار الأقسام، بل مشايخ البلاد أنفسهم، لم ينفكوا ينكبون بالفلاحين المساكين عن زراعة أطيانهم القليلة إلى الشغل قهرا، وعلى مصاريفهم في أطيان أولئك الحكام والكبراء، وأن المديرين والمكلفين بأمر الخدمة العسكرية بدلا من العمل بنصوص اللوائح المسنونة لذلك، كانوا يجرون التجنيد بكيفيات وحشية، لا سيما في الصعيد، والجهات الأخرى القصية البعيدة عن عين ولي الأمر، وأنهم كثيرا ما كانوا يأخذون من المطلوبين للخدمة العسكرية نقود البدلية، معلى عليها ما أمكنهم الحصول عليه، ثم يجندونهم، بالرغم من ذلك بدون أن يردوا إليهم البدلية المدفوعة على الأقل، وأن المنوط بهم أمر توزيع مياه الري كثيرا ما كانوا يضحون مصالح الصعاليك من الفلاحين تضحية تامة إما إرضاء لأغراض الأقوياء، وإما مراعاة لمصالحهم.
ووجدت المندوبية أن الإسراف في نقود الخزينة بلغ أرقاما تخيف التصور، فمن ذلك أن رئيس ديوان المدفعية كان إذا سمع بمدفع جديد مخترع يبعث ويأمر بإرسال دستتين أو ثلاثا منه على سبيل التجربة، بدلا من طلب مدفع واحد، وحجته في ذلك أنه لا يصح أن تكون مصر متأخرة عن باقي الأمم في الأمور العسكرية، وأن مبالغ سنوية جسيمة كانت تدفع من المالية المصرية إلى جملة جرائد أوروبية لكي تحرق البخور في أعمدتها جزافا للحكومة المصرية، وتزين للناس الاشتراك في اقتراضاتها، وأنه دفع 150 ألف جنيه إنجليزي عن إحدى الأميرات إلى خياطة فرنساوية، وأن مبالغ تفوق الحصر دفعت إلى دوائر الأستانة في أوجه غير مشروعة، وأنه صرف على الأعمال المفيدة ذاتها أضعاف أضعاف ما كان يجب أن يكون ثمنها الحقيقي، وأن مبالغ كبيرة جدا وضعت على عاتق الخزينة بدون أن تكون ثمنا لشيء ما أخذته الحكومة في مقابلها، وأن أموالا طائلة - أرقامها تحير - دفعت في عمليات تدوير بيوع الغلال، وهي العمليات التي كان يلجأ المفتش إليها سنويا. وكيفيتها أنه كان يبيع إلى بعض التجار، نقدا، غلالا يعدهم بتسليمها إليهم في موسم جمعها، فلما يأتي هذا الموسم يسلمهم جانبا منها (وهو ما كان يحصله من الفلاحين بصفة ضرائب غلالية، بدلا منها نقدية)، ويشتري منهم الباقي، ولكن بثمن يزيد 25٪ على ثمن مشتراهم تلك الغلال منه، غير أنه بدلا من دفع ثمنها هذا، الزائد عليه الربع نقدا، كان يدفعه لهم إفادات ذات فوائد من 18 إلى 20٪ سنويا، فكانت مجموعة الفوائد والأرباح التي تنتهي الحكومة المصرية إلى دفعها بهذه الكيفية مجموعة تخيف في الحقيقة.
ووجدت المندوبية أن يد المالية المصرية مدت إلى أموال الأوقاف وبيت المال ذاتها، وسحبت منهما النقود، كما يسحب المصرف المياه من الأطيان، غير مبالية بأنها أموال جهات الخير والأرامل واليتامى.
وانتهى بها الطواف على جميع ينابيع المطلوبات المالية التي للأفراد على الحكومة المصرية إلى الإقرار بأن مبلغ الدين السائر الجديد المتكون منها ومن عجز الميزانية سنة 1878 وسنة 1879 التالية يبلغ 10 ملايين من الجنيهات تقريبا.
2
وعلى وجود هذا الدين الهائل، كان من الواجب التدبر في دفع استحقاق أول مايو سنة 1878 وقدره مليونان من الجنيهات، قيمة فوائد الدين الموحد، بين أنه لم يكن موجود بين مندوبي صندوق الدين لغاية 31 مارس سوى نصف مليون فقط.
فارتأوا عدم الدفع، والتعرض للإفلاس خيرا من إجبار الفلاحين مرة ثالثة على دفع الضرائب مقدما.
ولكن الحكومة الفرنساوية لم تشاطرهم رأيهم، وانضمت إليها الحكومة البريطانية لرغبتها في التعضد بفرنسا في مؤتمر برلين المزمع انعقاده قريبا، فاضطر المندوبون إلى الإذعان، وكلفت الحكومة بإرسال اثنين من الباشوات المعروفين بشدتهم، وثقل أيديهم إلى الأرياف والأقاليم لتحصيل المال المطلوب، فسار في رفقتهما جم غفير من مسلفي النقود، لمشتري محصولات الفلاحين مقدما، في مقابل إقراضهم النقود المطلوبة منهم للميري، فنجم عن ذلك أن الفلاحين البائسين اضطروا إلى بيع إردب الغلة بسعر خمسين قرشا صاغا، مع أنه بالنسبة لقلة الفيضان، وقلة المحصول، كان يجب أن يكون الثمن على الأقل مائة وعشرين قرشا صاغا - وهو ما بيع به بعد مضي شهر فقط، ولكن في مصلحة مقرضي النقود، ولنكاية المزارع «الغلبان» - فتمكن مندوبو صندوق الدين بذلك من دفع الاستحقاق المطلوب، على أن وصول النقود إلى أيديهم في آخر لحظة فقط، وكون جانب عظيم من العملة المدفوعة لهم إنما وصلهم قطعا مربوطة معا على شكل قلائد وحلي من الأنواع التي تزين فلاحاتنا المصريات بها أجيادهن، دلا دلالة مؤلمة على مقدار الضغط والشدة اللذين استعملا في تحصيل الضرائب وجبايتها.
3
فحدا ذلك بمندوبية التحقيق إلى الإسراع في فحص الحال المالية العامة، وإبداء الأدوية التي يرونها مفيدة لعلاجها، ولكن العمل كان شاقا، وكان لا بد للوصول إلى إتمامه من استغراق زمن مديد.
فرأى المندوبون في الأول أن يدلوا إجماليا محض دلالة إلى الإصلاحات العامة الواجب إدخالها ريثما يتم عملهم، فيفصلون تلك الإصلاحات تفصيلا فأشاروا بوجوب عدم ربط ضرائب إلا بموجب قانون يعلن إعلانا رسميا، ووجوب جبي الضرائب المربوطة تحت مراقبة وزير المالية الفعلية، لا الاسمية فقط، ووجوب إصلاح إدارة الحسابات، واستعمال طريقة الميزانيات السنوية، ووجوب ترتيب احتياطي للصرف منه على ما تقضي به الطوارئ، كلما زاد النيل أو نقص عن المعتاد، ووجوب الامتناع عن جباية الضرائب مقدما، ووجوب إنشاء نظام قضائي يحمي الشعب من كل تعديات أصحاب السلطة، ووجوب إبطال عدة مكوس وضرائب ثانوية نكائية، وضرورة روك البلاد روكا جديدا، ووجوب إصلاح طرق جباية مكوس الملح والتبغ، ووجوب وضع نظامات حسنة لتوزيع المياه والمناوبات، وإجراء الأشغال العمومية، وضرورة إبطال السخرة إلا فيما يختص بالأعمال المنفذة للمصلحة العامة التي لا يختلف عليها اثنان، ووجوب تعيين مدد للخدمة العسكرية، وتحديدها مع اتخاذ طرق ملائمة للتجنيد.
على أنه لم يكن في دائرة المستطاع تنفيذ هذه الإرشادات إلا مع الزمن، بالاستعانة على إخراجها إلى حيز العمل بموظفين من ذوي الكفاءة والذكاء، وبإدخال تغيير تام على عقلية الشعب حتى يقلع عن اعتقادين لا يمكن لأية إدارة أن لا تختل بدونهما، ألا وهما أن ذوي الشأن لا يناقشون فيما يفعلون، لأنهم أصحاب السلطة، وكل سلطة من الله، وأن موظفي الحكومة ومستخدميها ليسوا مكلفين بأداء الواجب الذي تقضي عليهم وظائفهم به إلا إذا استميلت رغبتهم إلى أدائه بواسطة نقود أو هدايا.
ثم إنه لم يكن في دائرة المستطاع تنفيذ تلك الإرشادات، مع الإبقاء على نظام الحكومة الفردية المطلقة، لأنه اتضح من التحقيقات أن عين الخديو، مهما كانت حادة النظر، لا تستطيع رؤية كل شيء، وأن إرادته، مهما كانت نيرة ومتماسكة وحاضرة، لا تستطيع القيام في كل مكان مقام الإرادات المحلية، وحمل الكل على اتباع جادة الاستقامة والنزاهة، ولأن الاختبار التاريخي دل على أن أعاظم عظماء الرجال، كقيصر ونابليون، لم يتمكنوا - بالرغم من سعة مواهبهم السامية - ومن انكبابهم على العمل أكثر من ثمان عشرة ساعة في اليوم، من الحلول من الآلة الإدارية محل الروح من الجسد في جميع أجزائها على السواء، فكيف يمكن ذلك للخديو، وهو - علاوة على كونه «الدولة كلها»، والإرادة الوحيدة فيها - أكبر ملاكها العقاريين، وأكبر تجارها، وصاحب معامل السكر الوحيدة فيها، فيجب - والحالة هذه - تقرير مبدأ «المسئولية الوزارية».
وأيضا لم يكن في دائرة المستطاع تنفيذ تلك الإرشادات، ما دامت عموم إيرادات القطر تحت تصرف صاحب السلطة الفردية المطلقة، وما دام في استطاعته تحويل الأموال التي تخصص في الميزانيات العامة لأغراض ما إلى غير هذه الأغراض، ما دام يمكنه أن يستعمل نقود العموم في تحسين أملاكه الخاصة، واقتناء غيرها، وما دام في إمكانه رهن المستقبل إما لإشباع هوى وقتي، وإما لمداواة غلطات الماضي، أو لتهدئة عواصف الحاضر. فيجب - والحالة هذه - تقرير مبدأ فصل أملاك الحاكم الخاصة عن أملاك الحكومة، وتعيين مرتب سنوي له، مع مراعاة جعله ضخما، لكي يمكن صاحبه من الاحتفاظ بمظاهر الأبهة والعظمة التي اعتادها الملوك الشرقيون، والتي يجب أن يروهم رعاياهم متظللين بها.
واعتبرت المندوبية أن النتيجة الطبيعية لمبدأ فصل أملاك الحاكم عن أملاك الحكومة في حال (إسماعيل)، إنما هي تجريده من الأملاك التي آلت إليه في مدة سني حكمه، لزعمها أنه إنما اقتناها بأموال العموم، ولاعتبارها تلك الأملاك مادة جيدة للتمكن باستغلالها أو بيعها من سداد مطالب الدائنين الملحين.
وكان للخديو وعائلته الخصوصية ما يقرب من مليون فدان من الأطيان الخصبة بمصر، منها 485 ألف فدان كان سبق رهنها لدائني الدائرة، فعرض (إسماعيل)، من تلقاء نفسه التنازل للحكومة عن 289 ألف فدان من ال 431 ألف الباقية له ولعائلته، علاوة على تنازله الكلي عن أطيان دائرتيه السنية والخاصة المرهونة للدائنين.
فقدرت المندوبية إيراد الأطيان المتنازل من سموه عنها، فوجدته 167 ألف جنيه سنويا، وقدرت إيراد المائة والاثنين وأربعين ألف فدان التي أبقاها لنفسه وعائلته، فوجدته 224 ألف جنيه سنويا، فاستنتجت من ذلك أن الخديو إنما تنازل عن أقل أطيانه جودة، وأبدت عدم رضاها عن الغرض، وألحت بوجوب تنازل سموه عن كل ممتلكاته وممتلكات عائلته الخاصة في الريف وفي المدن، البالغ إيرادها السنوي 423 ألف جنيه.
فعز الإلحاح على نفس (إسماعيل)، وثقلت عليه المطالبة، فأبى الإجابة.
ولكن نوبار باشا، وكان قد عاد من إنجلترا، حوالي ذلك الوقت، ودرس الموضوع درسا تاما، وسبر غور قلوب الرجال الذين أخذوا على عاتقهم أمر تكييف البلاد وحكومتها تكييفا جديدا، وعرف نياتهم، أشار على الخديو أن يصير الضرورة فضيلة، ويذعن لطلبات المندوبية. فاقترح (إسماعيل) أحد أمرين إما تحكيم الباب العالي في المسألة، وإما أن يكون تنازله وتنازل عائلته عن ممتلكاتهم في نظير مرتب سنوي ضخم للغاية.
فأبى السير ريڨرس ولسن، رئيس المندوبية، موافقته على كليهما، وأصر على وجوب إعادة عموم الأملاك الخديوية إلى الحكومة.
فرأى (إسماعيل) أن غرض رئيس المندوبية الانتقام الشخصي منه - كأنه عدوه اللدود - أكثر منه مصلحة الدائنين أو مصلحة البلد، وأنه إنما يرمي إلى تحقيره وإفقاره، ولئن وجد في كبر صدره متسعا لقبول سلب سلطته الشخصية منه، فإنه بصفته أبا عائلة عديدة، لم يكن يمكنه التخلي عن كل ثروته الشخصية، بسهولة، وبدون أن يقوم نزاع عنيف في قلبه بين حبه لبلده وحبه لذويه.
غير أن ذويه ما علموا بما اقترح عليه عمله، إلا وهبوا يقدمون له خير دليل على تفانيهم في حب ذاته المقدسة، وعلى استعدادهم لتضحية أعز مصالحهم في سبيل تهوين مصاعبه عليه فإن الأميرة السنية والدته، والأمير محمد توفيق، أكبر أولاده وولي عهده، والأميرة بنته، أرملة طوسون باشا، تطوعوا وتقدموا إلى رئيس أسرتهم عارضين التنازل، حالا، عن كل ممتلكاتهم.
فقوى مثلهم الكريم روح (إسماعيل)، فاتبع نصيحة نوبار باشا، وأرسل إلى السير ريڨرس ولسن؛ ينبئه أنه قابل كل مقترحات المندوبية، ثم أيد ذلك في خطاب وجهه إليه في 23 أغسطس سنة 1878، قال فيه: «أما فيما يختص بالنتائج التي وصلت إليها المندوبية، فلا غرو إذا قبلتها كلها لأني إنما أردت أنا نفسي العمل الذي باشرته لخير بلادي، فلم يعد علي الآن سوى تطبيق تلك النتائج، وهو ما أنا عازم على عمله عزما أكيدا، ثق بذلك ثقة تامة، فبلدي لم يعد من إفريقيا، وأصبح من أوروبا، فمن الطبيعي إذا أن نترك مركب الشطط القديم لنقر نظاما جديدا ملائما لحالنا، وأظن أنكم سترون في مستقبل قريب تغييرات جمة هامة، تتمم بسهولة أكبر مما ينتظر، فما المسألة في ذاتها سوى مسألة احترام للقانون والمشروعية، والواجب فيها عدم الاكتفاء بالكلام. أما أنا فقد وطنت إرادتي على أن لا أبحث إلا على حقيقة الأشياء. ولكي أبدأ بذلك خير بدء، وأدل على مقدار عزمي، فإني قد كلفت نوبار باشا بتشكيل وزارة بدلا من أن أعين أنا بنفسي أعضاءها، كما كنت أفعل في السابق، ربما يخال للبعض أن هذا ليس بالأمر الهام، ولكني أرى أن الاستقلال الوزاري، وما هو بالشيء القليل، ينجم حتما عن هذه الخطة الجديدة، فإنها مبدأ تغيير طريقة، وهي في عرفي خير تأكيد، في وسعي تقديمه، لصدق نياتي، وعزمي على تطبيق مقترحاتكم.»
وإثباتا لخطابه هذا، أرسل في 28 أغسطس كتابا إلى نوربار باشا، كلفه فيه بتشكيل وزارة، جاء ضمن عباراته ما يأتي: «تأييدا لمبدأ المسئولية الوزارية، إني أريد، منذ الآن، أن أقوم بشئون الحكم مع مجلس وزارتي، وبالاتفاق معهم، فكل أعضاء الوزارة يجب أن يكونوا متضامنين معا، وأن يبتوا في الأمور بأغلبية الأصوات بينهم.»
وقر الرأي على أن يكون تعيين جميع الموظفين بموجب أوامر خديوية، بناء على ما يعرضه مجلس الوزراء.
فشكل نوبار باشا أول وزارة مصرية مسئولة كالآتي:
نوبار باشا، رياسة الوزراء ووزير الخارجية والحقانية.
شريف باشا، وزارة الحربية.
رياض باشا، وزارة الداخلية.
السير ريڨرس ويلسن، وزارة المالية.
المسيو دي بلينيير، وزارة الأشغال العمومية.
فاقترن ببدعة عهد تشكيلها إلى رئيسها بدعة العهد بوزارتين إلى رجلين أجنبيين مسيحيين، وبدعة عهد الرياسة إلى رجل لم يكن مسيحيا فحسب، ولكنه لم يكن بالمصري الصميم. أما البدعة الأولى فمرت على أنظار المصريين ومسامعهم بدون أن توقف انتباههم، وبدون أن يفقهوا لها معنى. وأما البدعة الثانية والبدعة الثالثة، فقد أوقفتا انتباههم بصورة مؤلمة، بل لم ترق في أعين العقلاء منهم - أية كانت نزعاتهم - كما دلت على ذلك الحوادث التالية.
الفصل الرابع
الوزارة المسئولة1
وليل رجونا أن يدب عذاره
فما دب حتى صار بالهجر شائبا
فلما تشكلت الوزارة بالكيفية المذكورة، لم يعد هناك فائدة لوجود المراقبين الماليين، لأن الوزيرين الغربيين حلا محلهما، فمنح لكل منهما راتب سنة برمتها، بصفة تعويض - مع أن مدة خدمتهما لم تتجاوز العشرين شهرا - وصرفا.
على أن الوزارة الجديدة لم تستلم مهام الأعمال إلا حوالي آخر نوفمبر سنة 1878؛ لأن الوزيرين الأجنبيين كانا قد سافرا إلى أوروبا، بعد شهر أغسطس، لعقد قرض جديد فيها، الغرض منه سداد الدين السائر.
والذي فتح بابا لوقوع فكر هذا القرض الجديد في خلد الماليين الغربيين الذين حلوا على زمام مالية البلاد محل المفتش، هو قبول الخديو وعائلته التنازل عن أملاكهم، عملا برغائب أولئك الماليين، وعدم اهتداء هؤلاء إلى طريقة أخرى لرفع حمل ذلك الدين السائر الثقيل عن عاتق الحكومة.
فأرسل الوزيران إلى أوروبا ليتفاوضا مع محل روثتشيلد الإنجليزي على إصدار القرض المرغوب فيه، ولما علم أنهما نجحا في مأموريتهما صدر في 29 أكتوبر سنة 1878 مرسوم خديوي أذاع نبأ تنازل العائلة الإسماعيلية عن أملاكها للحكومة المصرية، وأذن بإجراء قرض قدره ثمانية ملايين ونصف من الجنيهات تكون تلك الأملاك ضمانة لسداده، وقرر إنشاء مندوبية خاصة لإدارتها، مؤلفة من مصري يعينه الخديو وإنجليزي وفرنساوي تعينهما حكومتاهما.
وبعد يومين من صدور ذلك المرسوم، أي في 31 أكتوبر وقع السير ويلسن الاتفاق على القرض، ولكن العواصف التي ما فتئت منذ سنتين تتضارب في سماء المالية المصرية وحولها كانت قد عكرت سمعتها إلى حد أنه بالرغم من الآمال التي أحياها في صدور الماليين الغربيين الانقلاب المصري الأخير، وصيرورة الأمور إلى وزارة مسئولة، وبالرغم من أن مصدر القرض بيت روثتشيلد القوي المؤسسة سمعته المالية على صخرة ثقة نفس الحكومة البريطانية به، فإنه لم يكن تصديره إلا بسعر 73 وبفوائد قدرها 7٪، فنجم عن ذلك أن مبلغ الثمانية ملايين ونصف الاسمي نقص حتى صار ستة ملايين ومائتين وستة وسبعين ألف جنيه فقط. على أن هذا المبلغ عينه لم يدفع برمته إلى الحكومة المصرية، لأنه لما جمع، وأصبح تسليمه إليها ممكنا، أبى مصدرو القرض التخلي عنه حتى تستوي أولا الديون المسجلة على الأطيان المرهونة، السابق صدور أحكام بها، فدفع منه، في الأثناء، مبلغ مليون و225 ألف جنيه، قيمة قطعية شهر نوفمبر، و500 ألف جنيه على حساب الجزية السنوية للباب العالي، و212 ألف جنيه قيمة العمولة للمصدرين، ولم يسلم، في النهاية، إلى الخزينة المصرية سوى مبلغ 4 ملايين و360 ألف جنيه، دفع منه أيضا المطلوب لسداد الديون ذات الأسبقية.
فلو أمكن لروح إسماعيل صديق المفتش، مخاطبة خلفائه الطاعنين على «عملياته المالية»، والتجاوزات القطعية التي فيها، أما كان يحق لها أن تقهقه في وجوههم، سخرية، وتقول لهم باستهزاء: «هل عمليتكم هذه خير منها؟ فها قد أثقلتم أجود أطيان مصر بدين قدره
ملايين من الجنيهات، مع أنه لم يدخل الخزينة منه أكثر من ثلثه؟ فهل هذا مقدار حذقكم ومبلغ تفننكم؟»
على أن صعوبة التخلص من الدين السائر لم تكن الوحيدة القائمة في وجه الوزارة الجديدة، فإن الصعوبات كانت شتى، ولم يكن يمكن مطلقا التغلب عليها، بالرغم من تعضيد حكومتي إنجلترا وفرنسا للوزارة النوبارية، إلا إذا عضدها الخديو أيضا تعضيدا قلبيا.
فمع أن البلاد كانت في أقصى الحاجة إلى استجماع كل قواها للتخلص من الدين المنيخ بكلكله على قلبها، فإن نقص الفيضان في ذلك العام كان قد قضى على معظم تلك القوى، وعدم سير نظام الري حسب أصول عمليته جعل نتائج هذا النقص في منتهى الوخامة، أضف إلى ذلك أن المجاعة الناجمة عن قلة مياه النيل كانت ضاربة أطنابها في البلاد، وأن قوى الفلاح كانت قد أرهقت كلها بالطرق التي استعملت معه في الربيع السابق، لتحصيل المطلوب لسداد فوائد الدين، ومع ذلك فإن استحقاقات القطعيات أخذت تثقل في كفة ميزان الأيام منذ أوائل قيام تلك الوزارة، بل قبل استلامها زمام الأمور استلاما رسميا، ففي 15 أكتوبر سنة 1878 استحق قسط الفوائد وقدره 443000 جنيه على الدين الممتاز، وفي أول نوفمبر التالي استحق قسط الفوائد وقدره مليونا جنيه على الدين الموحد، ولم يكن بين يدي مندوبي صندوق الدين لدفع هذه المبالغ سوى 442 ألف جنيه في آخر شهر أغسطس.
واتضح من المقارنة التي عملت في آخر هذا الشهر أن إيرادات الأشهر الثمانية الأولى من سنة 1878 نقصت مليونا و143 ألفا عن مثيلاتها في سنة 1877.
وما تمكنت الحكومة من سداد قسط الفوائد المستحقة على الدين الموحد، بتخصيصها لسداده جانبا من القرض الروتشيلدي - كما قلنا سابقا - إلا وحل محله في الميزان هم دفع المطلوبات المستحقة في الربيع التالي، وكان هما ثقيلا جدا؛ لأنه بالرغم من أن أكثر المبالغ الإيرادية الأميرية تجبى في شهري نوفمبر وديسمبر من كل عام، وأن القسط المستحق في أول مايو سنة 1879 كان مليوني جنيه، وقسط 15 أبريل 443 ألف جنيه، فإنه لم يكن بين يدي مندوبي صندوق الدين في آخر هذه السنة سوى 302000 جنيه لدفع قسط مايو، و117 ألف جنيه لدفع استحقاق أبريل فالحاضر إذا كان غما، والمستقبل هما.
ومع ذلك، فبدلا من أن الوزارة تبذل جهدها لتخفف على نفس الخديو وطأة سحب السلطة والثروة منه، بدلا من أنها تعمل ما في وسعها لكي تحوز رضاه، وتنال تعضيده، فإنها سلكت سلوكا جعل الدوائر المصرية وغيرها في القاهرة والإسكندرية تصفها بتهكم قائلة: «الظاهر أن هذه الوزارة المسئولة غير مسئولة للخديو، ومسئولة أمام نفسها فقط.»
2
فنوبار باشا رئيسها، اعتمادا على كفاءته المعروفة، وارتكانا على أن مبدأ مسئولية الوزارة يقضي بإبعاد الخديو كلية عن مداولات مجلس الوزراء، وبحجة أن حضور (إسماعيل) هذه المداولات يكتم حرية الآراء، ويعرقل سير المباحث، من جهة، وأنه، من جهة أخرى يبقى في نفوس الأمة الاعتقاد بأن الخديو لا يزال الكل في الكل - وهو اعتقاد ضار في عرفه - أظهر منذ يوم تعيينه عزمه على اعتبار (إسماعيل) صفرا على الشمال، وعلى إقامة قواعد الحكم بدونه، بل وعلى عكس رغائبه وآرائه، لاعتقاده أن هذه الرغائب والآراء لا تستوي مع مصالح البلاد. وتمادى في هذا العزم، وفي طعنه أمام زميليه الغربيين على سوء الإدارة الماضية إلى حد أن أخصاءه وأقرب الناس إلى معرفة سره أخذوا يعتقدون أنه يعمل في الحقيقة على قلب مولاه ليحل محله.
ولما كانت كفاءة نوبار باشا ساطعة، لا يستطيع أن يختلف عليها اثنان، وكان الرجل قد اكتسب صداقة زميليه المذكورين واحترامهما، وأوجب اعتقادهما في تفوق معارفه المحلية على معارفهما، فإن السير ريڨرس ويلسن، والمسيو دي بلينيير لم يريا بدا من الانضمام إليه، وتوحيد عزميهما مع عزمه.
وإذ رأيا أن نوبار باشا هذا - الذي بالرغم مما كان معروفا عن حدة طباعه وشدة لهجة لسانه، كان في العهد السابق يحكم نفسه، إلى درجة عدم الخروج مطلقا، مع الخديو مولاه عن حد الاحترام الذي كان (إسماعيل) يوجبه لنفسه، من جهة كبار رجال دولته، وجوبا، لا يقل في دقته وإطلاقه عما كان قيصر عموم الروس، في ذلك العهد، يطالب به كبار رجال مملكته - يطلق لأخلاقه كل العنان مذ اعتقد أنه أصبح مستقلا تمام الاستقلال في منصبه الرئيسي، وتحت حماية الدول، ويؤكد شخصيته وذاتيته، بدون أن يبالي بجرح إحساس مولاه، ولا بأن يثقل على قلبه ثقلا فوق طاقة الاحتمال، إذ رأيا ذلك، أخذ السير ريڨرس ويلسن يعامل (إسماعيل) كما كان نائب الملكة في الهند يعامل أحد مهرجات الدرجة الثالثة، وشرع المسيو دي بلينيير يصوغ، هو أيضا، معاملته للخديو في قالب معاملة زميليه له.
3
ولم يكن (إسماعيل) بالرجل الذي يحتمل ذلك أو يصبر عليه، لا سيما من نوبار خادمه الخاضع الخانع بالأمس، ومن ريڨرس ويلسن الذي ظهر مذ عرفه بمظهر العدو الراغب في الأخذ بثأر بائت.
فأقبل على معاكسة الوزارة معاكسة خفية، والعمل على إسقاطها، وعرفت رغبته في ذلك في الدوائر الرسمية المصرية، فلم يسعها إلا العمل بما يوجبه عليها يمين الولاء لشخصه.
وأول معاكسة أقدم عليها، مزاحمة مندوبي صندوق الدين والسير ريڨرس ويلسن على أموال البلاد، فأرسل عمالا من قبله إلى الأقاليم ليجمعوا بواسطة المديرين، ومأموريهم، ونظار الأقسام كل ما يمكن جمعه من النقود، وتحويله إلى إحدى سراياته.
فلما علم ذلك للمندوبين والوزير الإنجليزي كلفوا مفتشيهم في الأرياف بالتشدد في المراقبة، وحجز كل مبلغ يجدونه مع أولئك العمال، واتفق حوالي آخر شهر سبتمبر أن أولئك المفتشين ضبطوا مبلغ سبعة آلاف جنيه جمع من الريف المحيط ببني سويف، وأرسل مع بعض خدمة الدائرة إلى سراي دولة الوالدة بالقصر العالي، ولكن عمال الخديو كانوا قد اتخذوا كل احتياط، فرفعوا دعوى استرداد أمام محكمة مصر المختلطة فكسبوها، وألزموا أولئك المفتشين بإعادة المبلغ إلى الجهة المرسل إليها.
4
فحدا ذلك بالمندوبين والسير ريڨرس ويلسن إلى التشدد في التدابير، فوفقوا إلى حجز مبلغين كبيرين: (أحدهما) مقداره 18 ألف جنيه، حصل من مديرية الجيزة، و(الثاني) قدره 50 ألف جنيه حصل من مديرية البحيرة، بواسطة مديري هذين الإقليمين، وأرسلا إلى عابدين، ولما وبخوا عمال الخديو على عملهم، أجابهم أولئك العمال بكل جسارة، وبدون مبالاة: «نحن لا نعرف في القطر سيدا غير أفندينا ولن نطيع غيره.»
5
ثم لم يمض أسبوعان إلا وعلم الغربيين أن عمالا آخرين جبوا مبلغا جسيما من مديرية الشرقية، وإنهم آتون به إلى مصر، فأرسلوا مفتشين قبضوا عليهم في محطة خارج القاهرة، ولكن أحد ضباط الحرس الخديوي تداخل في الأمر وأنقذهم، ثم خفرهم علنا إلى سراي عابدين.
6
وكانت مندوبية التحقيق قد أشارت بزيادة الضرائب على الأطيان العشورية - وهو أمر كان الخديو نفسه راغبا فيه قبل تنازله عن سلطته الشخصية - فلما أرادت الوزارة تنفيذ ذلك، أبى (إسماعيل) إلا أن يؤخذ، أولا: رأي مجلس شورى النواب، عملا بالمبادئ الدستورية عينها.
ومن البديهي أن هذه المعاكسات لم تكن تروق في عين السير ريڨرس ويلسن، أو «المفتش الإنجليزي» كما أخذ يدعوه الرأي المصري العام، فتذمر منها تذمرا مرا للقنصل البريطاني وللخارجية البريطانية، وازدادت معاملته (لإسماعيل) خروجا عن حدود اللياقة.
فبعث اللورد سلسبري - وكان قد أخلف اللورد دربي على وزارة داوننج ستريت - إلى السير ڨيڨين بمصر يكلفه بأن يبلغ الخديو «أن حكومة جلالة الملك ترى أن على سموه مسئولية خطيرة جدا فيما يتعلق بنجاح النظام الجديد أو خيبته، لا سيما فيما يختص بتحصيل الضرائب، فقد بلغ حكومة جلالة الملك إشاعات، إذا كانت على جانب من الصحة، فإنها قد تحمل رجالها على التخوف من أن بعض الدوائر العليا بمصر، بحجة تداخل الحكومات الأجنبية في الأمور هناك، تحاول إطراح كل مسئولية، وهو ما يذاع في البلد، ويعرف، فلا تحمد عقباه، فحكومة جلالة الملكة تثق ثقة تامة بمقدرة البلاد على القيام بتعهداتها، ولا تشك مطلقا في نتائج النظام الجديد، على شرط أن لا يعاكس في سيره، ولكنه إذا عوكس من قبل القابضين على السلطة، أو أظهر هؤلاء شبه رغبة في انتقاصه، فإن الصعوبات المحيطة بنوبار باشا ومستشاريه ستزيد زيادة هائلة، ومسئولية خيبتهم ستجر مسببيها إلى هاوية العواقب الوخيمة التي قد تنجم عنها.»
فلما بلغت هذه الرسالة إلى (إسماعيل) تضجر، وتململ بكيفية ظاهرة، ولكنه لم يندفع مع تيار غضبه، وقال وهو متجلل بكرامته: «إن هذا البلاغ لمن آلم وأخطر البلاغات التي أرسلت إليه من قبل حكومة جلالة الملكة، وأنه يأسف أسفا شديدا على أنها ارتأت ضرورة استعمال لهجة معه يراها هو، جائرة، ولا يرى نفسه أنه يستحقها، وأن نصائح الحكومة البريطانية أبديت لغاية تلك اللحظة في قالب العطف الظاهر عليه وعلى أسرته، ولكنه يخال له الآن أنهم متحيزون ضده تحيزا بينا، وعلاوة على ذلك، فإن المسئولية التي يرغبون في إلقائها عليه فيما يتعلق بنجاح النظام الجديد وجباية الضرائب ليست منطقية ولا عادلة، فإنه تخلى عن أملاكه الخاصة، وعن سلطته الشخصية، وقبل برغبته مركز حاكم دستوري، فأنشئت وزارة مسئولة لتقوم بشئون الحكم، فإذا كان ما يفهمه من مبادئ الحكم الدستوري في محله، فإن المسئولية ملقاة على عاتق الوزارة لا على كتفي مليك البلاد، وأما فيما يتعلق بجبي الضرائب فلا حول ولا طول له في الأمر، ولذا فلا سبيل إلى إلقاء أية مسئولية عليه من هذه الوجهة، وأما فيما يختص بربط ضرائب جديدة فإنه لا يزال يعتقد أن ذلك لا يجوز بدون مصادقة مجلس شورى النواب، ويرى وجوب جمعه لهذا الغرض، ولاستشارته في كل الاقتراحات المالية الأخرى التي أبدتها مندوبية التحقيق.»
ومع أن السير ڨيڨين كان يعلم جيدا أن معظم أعضاء مجلس شورى النواب من أصحاب الأطيان العشورية، وأنهم لن يوافقوا مطلقا على زيادة ضريبة لا تمس سواهم، وأنهم سيتخذونها سلاحا للطعن على الوزارة، وإيقاظ السخائم ضدها، لا سيما بعد أن صدر قرار منها لجمع نقود، لم يتفتق له ذهن المفتش نفسه، ألا وهو إجبار جميع الذكور البالغين الخامسة عشرة من العمر على العمل في أشغال السخرة، إلا من افتدى نفسه بمال، لم يحر جوابا، وانصرف وهو يتوقع شرا للنظام الجديد.
ولم يكن توقعه في غير محله، فإن الوزارة، من جهة، بالرغم من مضي الأيام بكثرة على تشكيلها، لم توفق إلى عمل واحد يصح أن يكون دليلا للمصريين على أنها تمثل جانب الرقي والمدنية، أو أن نياتها ترمي إلى رفع الضيم عنهم ما أمكن، وجلب الخير إليهم، ما استطاعت إليه سبيلا، فإن طرق الجور والاستبداد والظلم السابق استعمالها في تحصيل الضرائب، استمرت على ما كانت عليه، وبالرغم من مباحث مندوبية التحقيق وتدبيراتها، كان دفع مرتبات الجيش والمستخدمين لا يزال متأخرا، وكانت مطالبة دائني الحكومة من الأهالي مضروبا بها عرض الحائط، وزادت الوزارة الجديدة على ذلك أن أول عمل عملته، حينما استلمت مهام الحكم، كان طرد الموظفين من الأهالي مئات مئات، عملا بما دعاه القنصل البريطاني «اجتثاث أعشاب الخميرة القديمة، خميرة الموظفين الوطنيين العديمي الفائدة، والكثيري الارتشاء»، واستبدالهم بغيرهم من الأوربيين، معظمهم من قليلي الكفاءة، بالرغم من المرتبات الضخمة المجعولة لهم، والتي أخذوا، هم، يتقاضونها بأكملها.
7
ولم تظهر هذه الوزارة فضلا - إذا كان ثمة فضل في ذلك - إلا في وضعها ميزانية لسنة 1879 توخت فيها الصدق في الأرقام، وجاهرت بعجز يبلغ قدره مليونين من الجنيهات، ومع ذلك فإن مجاهرتها هذه أثارت انفعالات الغيظ في صدور أصحاب الديون، لاعتقادهم وتصريحهم أن هذا المبلغ المعجز في الميزانية قد حصل بالتأكيد من الممولين، فأين إذا ذهب؟ هذا ما تساءله مكاتب لإحدى جرائد لندن الكبرى، كان مقيما بالإسكندرية وأجاب «أين ذهب؟ هذا أحد أسرار خزينة الخديو الخصوصية، وما دامت مندوبية التحقيق والوزارة الجديدة لا تبلغان إلى معرفة تلك الأسرار والدخول في صميم تلك الخزينة، فتأكدوا أنه لم يغير بمصر إلا ما هو تافه.»
8
و(إسماعيل)، من جهة ثانية - وكان تغيظه من مسلك الوزارة الوقح معه قد بلغ أشده، وكيده بات لا يطاق من تتابع المظاهرات العدائية ضده، بشكل يزداد قبحا يوما عن يوم من قبل الجاليات الأجنبية في بلاده (وهي الجاليات التي كانت تتلمس منه ابتساما في سني حكمه الأولى وتحرق أمامه بخور المديح والثناء بل والعبودية، أيام كانت تتوقع إثراء من الفتات المتساقط عن مائدته الملكية) - (إسماعيل) العالم أنه، بالرغم من تنازله عن سلطته الشخصية، لا يزال مهيبا ومطاعا من رعاياه كما كان، وإنهم لا يزالون يعتبرونه «ولي النعم»، وصاحب التصرف المطلق في أموالهم وأعمارهم، العالم أيضا، أن كلمة واحدة منه تكفي لتوقد حريق أحقاد وضغائن ضد أولئك الأجانب، وضد الوزيرين الأوروبيين، اللذين يعاملانه كأنه كمية مهملة، وضد نوبار، الذي لم يكن مسيحيا مرتبطا مع مسيحيين فحسب، بل كان أرمنيا، أي من أمة ضرب العثمانيون ضدها المثل السائر على أفواههم، وهو «أرمني وزر، دولت وشر». (إسماعيل) الذي كان قد صمم تصميما صادقا على عدم الخروج من الدائرة الدستورية التي خطها لنفسه، لم يعد يستطيع البقاء على ذلك التصميم بعد كل الغلطات التي ارتكبتها الوزارة، وبعد ما توالت عليه وخزات الإبر بدون انقطاع من الوزارة، والجاليات الغربية في بلاده، وصحافتهن في القطر، وفي أوروبا بالرغم من مركزه بالنسبة لهن، ومركزهن بالنسبة له، ومن قناصل الدول، وحكوماتهن، بالرغم من تصريحاته المتتابعة، الخالصة، المنبئة بنيته الصادقة على تعضيد النظام الجديد، والعمل بأحكامه في مصلحة الدائنين والقطر معا.
على أنه، رغم إقدامه على معاكسة الوزارة، المعاكسة التي ذكرناها، لم يظهر، حتى ذلك الحين، رغبته في العود إلى استلام زمام الأمور بنفسه، وأخذ يتسلى عن مباشرة الحكم، وابتعاده عن جلسات مجلس الوزراء كل الابتعاد، بملاحظة مبانيه وعماراته في جهتي عابدين والجزيرة، وكانت جارية على قدم وساق، مستنفدة جانبا عظيما من النقود، كأن صاحبها إنما يريد أن يتحدى الرأي العام الأوروبي في بلاده، ويظهر له مقدار احتقاره لمطاعنه، وقلة مبالاته بانتقاداته على مصروفاته.
ولما وافى يوم 18 يناير سنة 1879، وهو تذكار عيد جلوسه السنوي، اتخذ من المعدات والاستعدادات للاحتفال به ما لم يكن يخطر له على بال مثيله في السنوات السابقة، وألبسه من الأبهة والبهجة لباسا جعله فريد أعياد الجلوس كلها، كأنه أحس أنه آخر عيد جلوس له في الديار المصرية، أو كأنه أراد أن تنسيه فخامته وأفراحه الهموم المشتدة على نفسه، والتي أخذ تنقش أناملها على جبهته العريضة، وتحني ظهره القدير.
فبينما العاصمتان مصر، والإسكندرية، ومعظم مدن الداخلية ظهرت متجلية بمعالم زينة ازدرت بكل ما شوهد من نوعها في الماضي، فإن الوليمة السنوية والمرقص التالي لها، المعتاد إقامتها بسراي عابدين، فاقا في عرف نفس متعوديهما، كل الولائم والمراقص التي رأتها قاعات تلك السراي المترفة بذخا ونعيما، وذلك بالرغم من أن حريقا حديثا كان قد دمر منذ بضعة أسابيع جناح الحرملك بعابدين، غير مبق إلا على القاعات الفسيحة المعدة لتلك الاحتفالات.
وفاق عدد المدعوين إلى أفراح تلك الليلة كل عدد معتاد، كأنما (إسماعيل) أراد أن يشهد على بهجة تواري شمسه ما استطاع جمعه حول مغيبها من الذوات، لكي يبقى ذكرها في نفوسهم إلى الأبد بعد رفعه من بينهم.
9
ومن يدري ماذا خامره من الأفكار، إذ كان نظره يتجول بين أولئك المدعوين المبتهجين حوله، ثم يقع على الآنية الفرنساوية الفاخرة الغالية الثمن جدا، الخارجة من معامل (سيڨر)، والآنية الذهبية الساطعة، المتلألئة بالماس والحجارة الكريمة، الموضوعة أمام أولئك المدعوين، لتقر بها أعينهم، أو إذ كان يمر على القاعات المتداخلة بعضها ببعض، المزدهية بفرشها الفاخر، وأنوارها السنية، والداوية بضجة العيد، وسرور المتكئين أو الراقصين، من يدري إذ رأى حينذاك على وجهي القنصل البريطاني، و«المفتش الإنجليزي» خيال المقارنة التي لا بد أقامها ذان الرجلان بين وليمته تلك، ووليمة بلطشسر، الملك البابلي الذي سبق لنا الكلام عنه؟
وذوات البلاد من جهة ثالثة - وكانوا بحكم مؤثرات التربية والمصلحة مجبولين على الولاء والإخلاص لخديوهم، وعلى اعتباره «ولي نعمتهم ورب إرادتهم»، كما أنهم كانوا مجبولين على النظر إلى الدخلاء من الفرنج وغيرهم شذرا، واحتقارا، حتى تعدل العشرة مجاري التأثير الأول - ما رأوا خديوهم متضجرا ومتململا، وأن تضجره وتململه مسببان له من أولئك الفرنج، ومن نوبار باشا المدين لسموه وآله بكل ثروته، ومركزه السامي، حتى التفوا حوله بعامل الولاء والغيظ، بإرادات متحدة، وقلوب متحمسة. ولما علموا بعد ذلك أن الوزارة تريد زيادة الضرائب على أطيانهم العشورية إرضاء لأصحاب الديون الأجانب، وأن سمو الخديو هو الذي يعارضها في إرادتها، وأنها ألغت الإعفاء من السخرة، الذي كان المشتغلون في أطيانهم العشورية متمتعين به، إذا افتدوا أنفسهم، أي إذا دفعوا - هم أصحاب تلك الأطيان - المال المطلوب لإعفائهم، بلغ غيظهم من الفرنج والوزارة أقصاه، وولاؤهم وإخلاصهم للخديو أعلى درجاتهما.
والأهالي، من جهة رابعة، كانوا هم أيضا، بمؤثرات، ستين قرنا، مجبولين على الشعور بأن مليك البلاد صاحب التصرف المطلق في أموالهم وأعمارهم، وأنه، ما عدا عرضهم ودينهم، محق في أخذ أي شيء يرومه منهم، كما أنهم كانوا بعاملي تأثير الأجيال العديدة الماضية، والجهل المطبق، مجبولين على كره «النصارى الملاعين» - و«النصارى» في عرفهم الفرنج، اللابسون برانيط ، حتى لو كانوا يهودا - ومستعدين لأن يكونوا وقودا لأية نيران عاطفية يروق لذي مصلحة إيقادها في صدورهم، الأهالي الناظرون إلى الذوات المتسلطين عليهم نظر التعظيم والتبجيل، والمستعدون لإرضائهم بكل ما في وسعهم، حتى بنسيان مظالهم السابقة، إتقاء لمظالمهم المستقبلة، كانوا طوع أمر أفندينا والباشوات والبيكوات، بل ومشايخ البلاد ذاتهم، ومستعدين لقول وعمل أي شيء يريدونه.
والمستخدمون، من جهة خامسة، (سواء في ذلك الباقون في الخدمة، والمرفوتون لإبدالهم بموظفين غربيين)، العارفون حق المعرفة أن مرتباتهم المتأخرة والمستحقة أولا فأولا لا تدفع لهم، لا لأن قلة إيرادات البلاد تحول دون دفعها، ولكن لأنه بالرغم من سحق مواطنيهم تحت ثقل الضرائب والمكوس، تكاد خزائن الحكومة كلها لا تكفي لإشباع مطامع الدائنين الأجانب، المستخدمون الراءون أن الحكومة الجديدة لا تكيل لموظفيها ومستخدميها الأجانب، ولا تزن لهم بالكيل الذي تكيل به والوزن الذي تزن به لهم، وأنها تدفع لهؤلاء كل مرتباتهم، بالرغم من جسامتها، وأن معظم المنصرفة لهم هذه المرتبات يكادون لا يعملون بها شيئا، المستخدمون الراءون نساءهم وأولادهم يتضورون جوعا، ولا يدرون كيف يكون المصير، كانوا كذلك مادة سهلة الالتهاب، سريعته بين يدي من كان ذا مصلحة في إلقاء شرارة عليها.
ففي الأسبوع الأول من شهر يناير سنة 1879 أتى إلى مصر وفود من وجوه الأقاليم يحملون تظلمات الأهالي من الشدة والصرامة المستعملتين من عمال الحكومة في تحصيل الضرائب، وينذرون بمصير الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، إذا استمرت الحال سائرة على ما هي عليه.
فقلق السير ڨيڨين، وأرسل ينبئ بالجاري وزارة الخارجية البريطانية في 11 يناير، بما نصه: «إن البلاد أخذت تغلي بعض الغليان، كما يدل على ذلك مجيء عدة وفود كبيرة من مشايخ الأقاليم للاحتجاج على استعمال الضغط الجاري الآن في تحصيل الضرائب، ويقولون لي إنه من المحتمل أن تقوم معارضة في مجلس شورى النواب ضد الاقتراح المزمع تقديمه من الحكومة بخصوص زيادة الضرائب على الأطيان العشورية - وهي زيادة واقعة على الأخص على طبقات الأهالي ذات اليسار - ولو كان هذا الغليان طبيعيا لما كان مظهرا غير مرضي، ولكني أراني على بينة في اعتقادي أنه مفتعل، بواسطة عمال عكروا المياه في الخفاء، وربما استخدموا لهذا الغرض من الخديو نفسه، وقد سمعت من مصدر موثوق به أن قادة الرأي في مجلس شورى النواب استدعوا سرا، وعرفوا بأن الخديو لن يكون متكدرا إذا رآهم يقاومون إجراءات إدارة أجبر على قبولها، بالرغم من أن جميعها في أيدي الأوروبيين، وهكذا فإن الوزارة الجديدة - علاوة على الصعوبات المالية الخطيرة المحيطة بها، وعلى أن مهمتها في إنشاء النظام، والترتيب من الفوضى والعدم مهمة تكفي وحدها لاستنفاد القوى البشرية - مضطرة إلى التنازع مع أعداء مكشوفي اللثام، ليس فقط، بل مع ختل داخلي في منتهى الخطورة سائر إلى غايته التي يرمي إليها، بالرغم من توالي الإنذارات المخيفة عليه فلا سبيل للحكومة إلى الفلاح في هذه الظروف إلا إذا كانت متكاتفة متضامنة، يشد بعضها أزر بعضها الآخر، وتنزل إلى الميدان، وجبهتها متحدة، وإذا سلكت سلوكا في غاية الشجاعة والعزم، متجنبة كل التحايلات والتلونات، وعضدتها الحكومتان الإنجليزية والفرنساوية تعضيدا محسوسا.»
ولكن هل كانت الوزارة متضامنة، متكاتفة في وسط الشدائد المحيطة بها؟ كلا، فإن التحاسد والتزاحم على النفوذ الناشئين من المنافسة الدولية، واللذين ما فتئا عاملين على إيجاد شقاق مستمر بين القنصل العام الفرنساوي والقنصل العام الإنجليزي، تسربا إلى الوزارة النوبارية، وقاما بين السير ريڨرس ويلسن والمسيو دي بلينيير، ومع أن مظهر نوبار وشهرة حبه لإنجلترا كان من شأنهما أن يجعلاه في صف الوزير الإنجليزي، إلا أن أخلاق ويلسن وأطباعه جعلته ينحاز دائما إلى الوزير الفرنساوي ويعضده. والحق يقال إن السبب في ذلك أيضا هو أن المسيو دي بلينيير، بالرغم من أن الغرض من تعيينه في الوزارة كان الدفاع عن مصالح الدائنين الفرنساويين، كان يميل جدا إلى مراعاة الفلاح المصري، وتخفيف وطأة الشدة عنه - وهو ما لا خلاف في أن نوبار باشا كان يريده أيضا من صميم فؤاده - بينا السير ويلسن كان في شدة كرهه للخديو، يرى وجوب استعمال الشدة المتناهية مع الفلاحين، كأنه يريد أن ينتقم في أشخاصهم من (إسماعيل)، أو كأن ولاءهم للخديو، وإخلاصهم له على كونه، في اعتقاد السير ويلسن، السبب الوحيد في ذلهم وبؤسهم، وفي الأثقال الباهظة الملقاة على عواهنهم، قذى في عينيه لا يطيق احتماله، ويرى وجوب عقاب أولئك المساكين عليه، فلم يكن يبخل عليهم بالكرباح والسوط، كلما أحب أن يجبي منهم مالا. وكان ضنينا على تنسيتهم أيام «صديق باشا، المفتش» سلفه في دست وزارته.
فمع وجود هذا النزاع بين أعضاء الوزارة، وإنجابه حتما، خلفا في الآراء والمداولات على شدة شعورهم جميعا بأن سلامتهم وسلامة النظام الجديد المتمثل في أشخاصهم - إزاء ميول المليك والذوات والأهالي والمستخدمين - إنما هي في تكاتفهم وتعاضدهم، هل كان من المنتظر أن يتسلحوا بفطنة تصونهم عن الوقوع في الخطأ، وتمنعهم عن ارتكاب الشطط في غير دائرتي الخطأ والشطط المعتادين؟
هذا ما كان يشك فيه خصومهم، وما كانوا واقفين لهم بالمرصاد من أجله.
وفي الواقع فإن الوزارة النوبارية - رغم كل المنذرات الثائرة حولها، ورغم كل العظات المقدمة لها من الظروف - شدت على عينيها عصابات الغشاوة، وتعامت إلى حد ارتكاب الغلطة الوحيدة التي كان يجب عليها أن تتحاشاها قبل غيرها، بل دون غيرها.
وذلك أنه لما اتضح لها أن دفع قطعية ربيع سنة 1879، والانفاق على شئون الإدارة، يتعذران معا، مهما بولغ في استعمال الشدة مع الفلاحين لتحصيل إيرادات العام مقدما ، قر رأيها في أوائل فبراير على الاقتصاد في مصاريف الجيش المصري، فحول السير ويلسن ألفين وخمسمائة ضابط على الاستيداع دون أن يصرف لهم شيئا من رواتبهم المتأخرة، وصيرهم هكذا مع عائلاتهم إلى أقصى حدود الفقر المدقع.
ولا أدل على ما وصلت إليه حالة أولئك الضباط مما وقع لاثنين منهما، نرويه نقلا عن كتاب الليفتننت كرنل داي الأمريكاني، المعنون «مصر الإسلامية والحبشة المسيحية» قال: «تأخر أحد الضباط المصريين عن دفع أجرة بيته لصاحبه، فلما ضاق رب البيت به ذرعا، اشتكاه لوزارة الحربية، فأنزلته الوزارة درجة، بعد تأنيبها إياه تأنيبا مؤلما على عدم دفع الأجرة، غير ناظرة إلى أن تأخر الضابط عن دفعها إنما هو نتيجة تأخر الحكومة عن صرف مرتبه له الأشهر الطوال.
فلما انتشر بين الضباط خبر ما أصاب زميلهم، احتاروا في أمرهم، ولم يدروا ما التدبر.
وما لبث أن أقبل صاحب البيت الذي كان أحدهم ساكنا فيه يطالبه بالأجرة المتأخرة عليه، فخاف الضباط أن يصيبه ما أصاب زميله، فأعمل فكره لحظة، ثم خرج من الباب، واستدعى أول حمار قابله، فأتاه بحماره، فركب الضابط الحمار، وقال للحمار: «امكث هنا حتى أعود إليك»، وأنقده أجرته مقدما، ثم امتطى الحمار، وذهب به إلى السوق، فباعه هناك، وعاد بثمنه، فأعطى صاحب بيته مبلغ الأجرة المطلوب له، وسلم باقي الثمن للحمار، وصرفه دون أن يبالي بندبه وعويله.»
10
وكان يوجد في ذلك الوقت بالعاصمة أمثال هذين الضابطين خمسمائة فقط، ولكن شريف باشا وزير الحربية، تنفيذا لقرار آخر أصدرته الوزارة بصرف جزء من المرتبات المتأخرة للضباط، استدعى إلى العاصمة الألفين الباقيين، لكي يأخذوا ما تقرر صرفه لهم، ويودعوا سلاحهم تحت تصرف الحكومة، فجمع هكذا بمصر جمهورا متقليا على جمر مؤلفا من 2500 ضابط، بين أن حامية مصر كلها لم تكن تزيد على ألفين وستمائة جندي، معظمهم من الشاعرين مع الضباط المحالين على الاستيداع، ويقال إن شاهين باشا أبلغ الخديو تذمرهم المر، وأن الخديو أجابه: «ولم هم ساكتون؟» فنجم عن ذلك جميعه ما كان يجب أن ينجم عنه حتما.
فإنه في اليوم الثامن عشر من شهر فبراير، بينما كان السير ريڨرس ويلسن، بعد انصرافه من لدن الحضرة الخديوية عقب تشرفه بمقابلتها، ذاهبا في عربته إلى سراي المالية، لم يكد يجاوز عابدين قليلا إلا ورأى، على بعد بضعة أمتار أمامه، جمهرة عاجة، فأمر حوذيه أن يسرع السوق لكي يقف على معنى الصياح البالغ أذنيه، فساق الحوذي، وسرعان ما رأى السير ويلسن رئيسه نوبار باشا في عربته، محاطا بجمهور من الضباط المحالين على الاستيداع، تتداوله أيدي جماعة منهم، كانوا قد وثبوا به في مركبته، بينما كان غيرهم قد قبض على رءوس الجياد وأوقفها، فنظر إليه، وإذا به قد قطع رباط رقبته، وطرح طربوشه أرضا، وديس في الوحل، وتوالت على وجهه الصفعات كأنما الجائدون عليه بها يقولون «خذ هذه تنفعك، وهذه تضرك.»
ولما وقعت عين نوبار على ويلسن صرخ إليه: «أن سر إلى المالية بسرعة، فالقوم إنما يطالبون بمرتباتهم المتأخرة.»
ولكن الضباط كانوا قد لمحوا السير ريڨرس ويلسن - وكرههم له كان يفوق كرههم لنوبار عدة أضعاف - فهب بعضهم وأوقف جياد عربته أيضا، ووثب ستة منهم داخل المركبة، وقبضوا على لحيته، ونتفوها، وأشبعوه ضربا ولكما، أكثر بكثير مما نال نوبار على أيدي زملائهم.
وما زالوا بالوزيرين، بهدلة وإهانة، حتى أوصلوهما إلى باب المالية، فسحبوهما هناك من عربتيهما، وأدخلوهما تحت صيب من الصفع والرفس إلى الوزارة، وساقوهما إلى غرفة السير ويلسن، حيث أفهموهما أنهم إذا لم تصرف لهم مرتباتهم، كالوا لهما مما ذاقا أضعافه، فإن المتأخر للجميع كان لا يقل عن مرتبات خمسة عشر شهرا، بينا المتأخر لبعضهم كان يزيد على العشرين شهرا.
فتذكر نوبار ما كان من سحر محادثته لإبراهيم الهمام أثناء عودته معه من الأستانة إلى الإسكندرية.
وأقبل يواعد ويراوغ أولئك الضباط السائرين، حتى بلغ أذنه وقع حوافر جياد عربة، وارتفاع أصوات تحيات، وتهاليل في الخارج، فأدرك أن الغوث قد أتى. وفي الواقع لم تمض دقيقة إلا وشوهد الخديو يترجل على باب المالية، ويسرع إلى نجدة وزيريه التعسين. ولندع الكلام هنا للسير ڨيڨين، قال: «حالما أبلغت ما كان جاريا في المالية، أسرعت إلى عابدين، وأنبأت به الخديو، فنزل سموه وأركبني في عربته، وذهبنا معا إلى وزارة المالية، فوجدنا جمعا غفيرا يحيط بها، ولكنهم فتحوا في الحال ازدحامهم أمام عربة الخديو، وحيوه وهللوا له، فدخلنا، ووجدنا في إحدى غرف الدور الأعلى نوبار باشا والسير ريڨرس ويلسن، ورياض باشا في وسط المتمردين من الضباط، على أنا لم نجد أحدا منهم مجروحا وإن كانت علامات الإهانة بادية على الاثنين الأولين. فلما تأكد الخديو من سلامتهما، التفت إلى المتمردين، وبعد أن وعدهم بإجابة طلباتهم العادلة، أمرهم بمغادرة السراي، قائلا: «إذا كنتم ضباطي، فيمينكم تلزمكم بطاعتي، فإن رفضتم كنستكم كنسا»، فأطاعوه على غير رغبة، وتذمر بعضهم، وتمتم طالبا تركهم وشأنهم في تسوية حساباتهم كما يشاءون، وسمع غيرهم يصيح «ليمت الكلاب النصارى»، فأنزلهم الخديو السلالم، وأخرجهم إلى الرحبة حيث اجتمعوا بزملائهم المحاصرين الأبواب، فأطل الخديو من نافذة، وأمرهم بالتفرق كلهم، والذهاب إلى بيوتهم، فرفضوا.
فاستدعى الجيش، فأطلق بعض الضباط مسدساتهم في الهواء، ولكن بعض العساكر جرح بالرغم من ذلك، فأعمل الجند رءوس حرابهم، وأصابوا بعض المتمردين بجراح، وجرح أيضا تشريفاتي الخديو بضربة سيف، وهو بجانب مولاه، وتعرض الخديو عينه إلى خطر كبير، على أن الأمر كله لم يدم أكثر من نصف ساعة، وبعد أن تولى الخديو إرسال الوزراء مخفورين بحرس كاف إلى منازلهم، عاد إلى سراي عابدين.»
غير أن هذه الحادثة جعلته يصمم تصميما أكيدا على استعادة زمام الحكم إلى نفسه، خشية حدوث ما لا تحمد عقباه، فبعث في عصر ذلك اليوم عينه، واستدعى قناصل الدول، وأنبأهم أنه إذا لم يعدل مركزه وتعاد إليه السلطة التي هي من حقوقه، فإنه لن يكون مسئولا عن الأمن العام في البلاد.
ففي اليوم التالي، انعقد في منزل القنصل البريطاني مجلس حضره هو والمسيو جود، والقنصل الفرنساوي العام، ونوبار باشا، والسير ريڨرس ويلسن، والمسيو دي بلينيير، والميچر بارنج مندوب صندوق الدين الإنجليزي، وتداول فيما فاه الخديو به البارحة، فقر رأيهم على أن يسألوه كيف يريد أن يعدل مركزه، ثم ساروا إلى عابدين، وصعد القنصلان إلى مقابلة (إسماعيل)، بينما الباقون أقاموا في انتظار الرد في إحدى حجر الدور الأرضي.
ولم يبطئ الرد كثيرا، فإن القنصلين عادا إليهم به بعد قليل، وإذا مفاده «أن الخديو لن يكون مسئولا عن السكينة العامة إلا إذا أعيد إليه نصيبه الشرعي من حكم البلاد، وصرح له إما بترؤس مجلس الوزراء، أو بانتخاب رئيس للوزارة يثق به ويرتاح إليه، وأنه يشترط اشتراطا لا يقبل مع رفضه اتفاقا، أن نوبار باشا الذي ثبت لديه أنه عامل على اجتثاث سلطته ونسفها، ينسحب حالا من الوزارة.»
فسأل القنصلان نوبار باشا «هل في استطاعتك - إذا ألحينا على بقائك في منصبك - أن تضمن الأمن العام؟» فأجاب «كلا، ولست أرى طريقا مفتوحا أمامي، والظروف كما هي، سوى أن أرجوكما أن تبلغا سموه استقالتي، وترجواه أن يصرح لي أن أعيش كفرد، لا صبغة رسمية لي، في القطر، آمنا ومطمئنا على نفسي.»
فبلغ القنصلان الاستقالة والرجاء إلى الخديو، فأجاب أنه يقبل الأولى، ويجود بإجابة الثانية، على شرط أن لا يتداخل نوبار باشا في السياسة، ولا يمين أو يخاتل أو يدس.
فلما اتفق على ذلك، ذهب الأمير حسن باشا، بصفته قائد عام الجيش المصري إلى السير ريڨرس ويلسن، واعتذر إليه عما لحقه من إهانة على أيدي الضباط، ثم اقترض مبلغ 400 ألف جنيه من بيت روثتشيلد، ودفعت متأخرات الجندية منه، دون أن يعاقب أحد من الثائرين، فعرفت الجندية بذلك قوتها، فلم تعد تنساها، وربما تفرخت الثورة العرابية كلها من بيضة تلك الفتنة.
الفصل الخامس
بين الكاپيتول والصخرة الترپيئية1
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
غير أن فوز (إسماعيل) لم يكن كاملا، ولو أنه تخلص من وزير كريه لديه رغم تعضيد الحكومتين البريطانية والفرنساوية له، وذلك لأن اللورد سلسبري كتب إلى القنصل البريطاني، وكلفه بأن يخطر الخديو أن الحكومتين عازمتان على العمل معا في كل ما له علاقة بالشئون المصرية، وأنهما لا تقبلان إدخال أي تعديل على مبدأ الاتفاقات السياسية والمالية التي وقعها سموه منذ عهد قريب، فإن استعفاء نوبار باشا ليس في أعينهما سوى أهمية شخصيته، ولكنه لا يعني تغييرا في النظام المقرر.
فأجاب الخديو أنه يتعهد بالمحافظة على المواثيق الصادرة منه في شهر أغسطس الماضي، وأنه يرغب من صميم فؤاده المحافظة أيضا على اتفاقاته المالية، ولكنه لا يمكنه أن يكيف منذ الآن قرارات مجلس الوزراء في هذا الموضوع.
ثم دارت المفاوضات على تشكيل الوزارة الجديدة، فألح السير ريڨرس ويلسن والمسيو دي بلينيير بوجوب إعادة نوبار باشا إليها، وكتبا إلى حكومتيهما يحرضانهما على تعضيد مطلبهما.
فانحازت الحكومة البريطانية إلى رأي السير ريڨرس ويلسن، وكتب اللورد سلسبري إلى السير ڨيڨين بأن مركز السير ريڨرس ويلسن قد يصبح في منتهى الحرج، بل قد يتعذر إبقاؤه إذا لم يعد نوبار إلى الوزارة.
فلم يوافق السير ڨيڨين على ذلك، وأبدى مخاوفه من أن يؤول التشبث بنوبار، مع وجود (إسماعيل) على العرش المصري إلى شدائد وارتباكات لا يسع الحكومة البريطانية إلا تجنبها.
أما الحكومة الفرنساوية فلم تنحز إلى رأي المسيو دي بلينيير، وذهبت إلى أنه لم يعد من الموافق التمسك بنوبار مذ أظهر الخديو عدم رضاه عنه، فوافقتها على ذلك الحكومة الإنجليزية، ولكنها رأت في الوقت عينه أن تلفت نظر (إسماعيل) إلى أنها تعتبره مسئولا عن الصعوبات الحديثة التي نجمت بمصر، وأنه في حال قيام غيرها من نوعها، فإن العواقب قد تكون وخيمة عليه.
ولما فرغ من أمر نوبار، أبدى الخديو بعض اقتراحات، فقابلها الوزيران الأوربيان بعكسها، وما زالت المفاوضات جارية بين عابدين والقنصلين، ووزارتي خارجية الدولتين الغربيتين - وإدراة البلاد متعطلة في الأثناء - حتى قر رأي اللورد سلسبري والمسيو وادنجتن أخيرا على أن الخديو لا يحضر في أي حال من الأحوال جلسات مجلس الوزراء، وأن الأمير محمد توفيق ولي العهد المقترح تعيينه من أبيه ذاته، يعين رئيسا لمجلس الوزراء، وأن الوزيرين الأجنبيين يكون لهما حق منع كل إجراء يريانه.
ولما عرضت هذه الأمور على (إسماعيل) أبدى ارتياحه إليها، وشكر للدولتين موافقتهما على رغبته في منع نوبار باشا عن دخول الوزارة وقال: «إنه سيبذل جهده لمساعدة وزرائه، إذا وجد منهم الرغبة عينها في ضم مجهوداتهم إلى مجهوداته، وأنه يشعر تمام الشعور بالمسئولية الملقاة عليه فيما يختص بنجاح الأعمال على المحور الجديد الموضوع لها.»
وفي 10 مارس صدر الأمر القاضي بتعيين الأمير محمد توفيق رئيسا للوزارة الجديدة، فلما أقدم على تشكيلها، أبدى الخديو رغبته في أن يعهد إلى رياض باشا بوزارتي الخارجية والحقانية بدل وزارة الداخلية، التي كانت معهودة إليه في الوزارة السابقة، فعارض في ذلك الوزيران، بحجة أن رياض باشا الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يمنع كل تداخل غير دستوري في إدارة الأقاليم الداخلية.
ولكن القنصلين عضدا رأي الخديو بحجة أن إجباره على تعيين وزرائه على غير رغبته لا يتفق مع المسئولية الشخصية التي طولب بها، فخالفتهما حكومتاهما، وانضمتا إلى معارضة الوزيرين الغربيين، فأبى (إسماعيل) في الأول إلا عدم إبقاء رياض باشا على رأس وزارة الداخلية، ولكنه رضي في النهاية، فعهدت إلى الرجل وزارتا الداخلية والحقانية، وتمكنت الوزارة من التشكل في 22 مارس، أي بعد استعفاء نوبار بنيف وشهر.
على أنه - قبل استلامها مهام أعمالها - وقع خلاف شديد بين السير ڨيڨين القنصل البريطاني، والسير ريڨرس ويلسن، وزير المالية المصرية، منشأه أن القنصل كان يميل إلى إشراك (إسماعيل) في الحكم، بالرغم من عدم حضوره جلسات مجلس الوزراء، لاعتقاده تعذر الحكم بدون مساعدته، ووجوب إرشاده إلى الطريق القويم، بالتي هي أحسن، بدلا من استعمال العنف لتسييره فيه، وأن السير ريڨرس ويلسن كان يرى السلامة كلها في إبعاده عن كل تداخل في شئون الإدارة، ووضعه تحت مراقبة شديدة تصيره صفرا على الشمال.
فانقسم عالم الرسميات قسمين أحدهما تحزب لمبدأ السير ڨيڨين، والآخر لمبدأ السير ويلسن، وأخذت التقارير ترسل متناقضة إلى الحكومة الإنجليزية، فوقعت في تخبط لا تحير أمرا.
ولما كان السير ريڨرس ويلسن من كبار رجالها، وكان وجوده بمصر على رأس وزارة المالية المصرية مجرد انتداب بإجازة، وأن وقوع الخلاف بهذا الشكل بينه وبين القنصل البريطاني لا ينتج سوى تمكين الراغب في الصيد في الماء العكر من نيل مرامه، استدعت الحكومة البريطانية السير ڨيڨين إلى لندرا في 15 مارس، وأرسلت عوضا عنه السير فرنك لاسل، وزودته بتعليمات مفادها «وجوب مساعدته السير ريڨرس ويلسن في معاملته للخديو، ومساعدة قلبية فعالة.»
ونحن ندري كيف كانت معاملة السير ريڨرس (لإسماعيل)، فلا غرابة إذا اتسع الخرق بينه وبين العنصر الغربي، وإذا وجد نفسه غير قادر على التشرب بمبادئ النظام الجديد، فمبدأ تصييره إلى لا شيء في سياسة البلاد استمر معمولا به، بالرغم من تخلصه من نوبار باشا، والشروط التي أجبر على قبولها كانت من الثقل والمذلة بحيث لم يكن يستطيع احتمالها، بالرغم من حسن نياته، وقوة عزمه.
وعليه فإنه لم يمض أسبوع على تشكيل الوزارة إلا وشرع النزاع بين الخديو ووزير ماليته يبدو للعيان، فالفوائد السارية على قرض سنة 1864 كانت تستحق في أول أبريل سنة 1879، وقدرها 240 ألف جنيه. ولم يكن في 28 مارس بين يدي مندوبي صندوق الدين سوى 180 ألف جنيه.
ولما كانت فوائد ذلك القرض مضمنة، من جهة، عملا بالمشروع الجوشني بضريبة «المقابلة»، وكانت مندوبية التحقيق، من جهة أخرى، عاملة في ذلك الحين على تجهيز مشروع تصفية نهائية للحال المالية، ارتأت فيه إلغاء قانون «المقابلة»، قر رأي مجلس الوزراء بالاتفاق مع أعضاء المندوبية على تأجيل دفع استحقاق أول أبريل هذا إلى أول مايو التالي، وجهز السير ريڨرس ويلسن نص المرسوم السامي الواجب لذلك الغرض، وعرضه على الخديو ليوقعه.
فأبى (إسماعيل) توقيعه قائلا: «إن هذا المرسوم إنما هو، في الحقيقة، إشهار إفلاس، مع أنه لا يرى البلاد مفلسة، ويعتقد إمكان القيام بجميع تعهدات الحكومة المالية. ولا يستطيع توقيع مرسوم كهذا في مواجهة التعهدات السياسية والمالية التي أجبرته عليها حكومتا بريطانيا العظمى وفرنسا.»
فأدى رفضه إلى إدخال بعض تعديلات لفظية على نص المرسوم، أمكن معها حمل الخديو على توقيعه.
غير أن رأي مندوبية التحقيق في وجوب إلغاء قانون «المقابلة» كان في الأثناء قد انتشر في الأوساط والمنتديات المصرية. ولما كان إلغاء ذلك القانون في غير مصلحة الطبقات الغنية وفئة الذوات، لأنهم الوحيدون الذين استفادوا، وكانوا لا يزالون يستفيدون منه، أخذت اجتماعاتهم تتوالى ومداولاتهم تطول وتحتد، ومرماها مقاومة فكرة الإلغاء بكل ما في الحول والطول.
ففي أول أبريل كتب السير فرنك لاسل إلى اللورد سلسبري ما يأتي: «يوجد الآن هنا حركة أفكار عنيفة واسعة، والظاهر أن الشيخ البكري نقيب الأشراف، وشيخ مشايخ الطرق يدعو في بيته الوجهاء والعلماء إلى اجتماعات متوالية، غرضها إثارة كره ديني ضد الوزيرين الأوروبيين، وأن الخطباء في المساجد جاهروا باعتبارهم رياض باشا صديقا للمسيحيين، وعاملا على الإضرار بالمسلمين، وهو ما قد يدعو إلى استقالته من منصبه، لأن حياته باتت معرضة للخطر، وأشار عليه رئيس البوليس مرارا بضرورة التوقي.»
وفي 4 أبريل كتب السير فرنك لاسل نفسه «يظهر أنه ليس هناك شك في حدوث الاجتماعات التي قلت عنها، وفي أن المخابرات متصلة بين الخديو، وأهم الأشخاص الذين حضروها، ولكن الغرض الذي يرمون إليه هو الحصول على تعضيد لمشروع مالي يجهزه الخديو، معارضة لمشروع السير ريڨرس ويلسن، وأيضا حمل القوم على تحرير عرائض لسموه يلتمسون بها أن ينفذ في مصر الدستور العثماني الذي أعلن هنا سنة 1877، وما فتئ، منذ ذلك الحين كتابة ميتة. وقد قيل لي: إن الأسباب التي تبدو لحمل السراة على توقيع تلك العرائض هي أنه في حال نجاح مشروع السير ريڨرس ويلسن تزداد الضرائب على الأطيان العشورية زيادة كبيرة، وتضيع المزايا التي منحها قانون «المقابلة»، وأن العلماء حملوا على الاعتقاد بأن نية الوزيرين الأوربيين إنما هي تسليم القطر للغربيين تسليما تاما، إضرارا بالدين الإسلامي، ولكني لست أشك في أن الحامل الأكبر على توقيع تلك العرائض إنما هو معرفة موقعيها أنهم بتوقيعها إنما يأتون عملا مرضيا للخديو، وقد قال لي رياض باشا: إنه طلب إلى بعض مستخدمي وزارة الداخلية توقيعها، فلم يتجاسروا على الرفض.»
فرأى الوزيران الغربيان أنه لا يمكنهما السكوت على هذه الإجراءات. وفي 6 أبريل سلما الخديو، يدا بيد، احتجاجا صريحا على السلوك الذي رأى اتباعه، والذي زعما أنه مناقض لوعوده وعهوده، فلم يعر الخديو احتجاجهما اهتماما، لأن ترتيباته كانت قد بلغت النضوج، ولأنه بات متأكدا من إصابة الضربة التي عزم على ضربها استردادا لسلطته المغتصبة منه في عقر داره.
ففي 7 أبريل أذيع في العاصمة أن الأمير محمد توفيق رئيس الوزارة قدم استقالته بانيا سببها على أن الوزيرين الغربيين منذ أن عهدت إليه الرياسة، أهملاه بالكلية، ولم يستشيراه في شيء مطلقا.
وفي يوم 8 أبريل رفعت إلى الخديو العرائض تترى من مجلس شورى النواب، وبطريرك الأقباط، وحاخام باشي اليهود، وشيخ الإسلام، ونيف وستين باشا وستين بيك، ومن ضباط الجهادية والبحرية، وكلها تطعن على النظام الجديد وطرقه، وتطلب العود إلى النظام القديم.
وفي اليوم التاسع من أبريل استدعى الخديو رجال الهيئة القنصلية بالقطر، وألقى عليهم خطابا أمام عدد كبير من وجوه البلاد المصريين المجموعين خصيصا لذلك الغرض، وقال لهم فيه: «إن الاستياء في القطر بلغ حدا أصبح معه يرى نفسه مضطرا إلى اتخاذ إجراءات قطعية، وأن مشروعا ماليا معبرا عن حقيقة رغائب البلاد قد عرض عليه موقعا من جميع طبقات الأمة، وأن الأهالي في هذا المشروع، الذي ستعطي عدة نسخ منه لممثلي الدول، يحتجون بشدة على ما يريد السير ويلسن إعلانه من أن البلد مفلس، ويطلبون تشكيل وزارة مصرية محضة، تكون مسئولة أمام مجلس شورى النواب، وأنه يرى - إجابة لطلباتهم - أن يكلف شريف باشا بتشكيلها، على أن تكون أعمالها سائرة على مبدأ المسئولية، الذي أقره في كتابه المحرر في 28 أغسطس إلى السير ريڨرس ويلسن، ووفقا لمرسوم 18 نوفمبر سنة 1876، المهيمن على مشروع جوشن وچوبير.»
ثم تلا الخديو شريف باشا وقال: «إن الأمة تعتقد أن سلوك الوزارة كان مهينا لنوابها، وأن إعلان تفليسها يلبسها عارا لن تمحوه الأيام، وأنها مستعدة لتضحية كل ما يلزم لاجتناب ذلك العار، وأن الرغبة في إلغاء قانون «المقابلة» قد أثارت استياء عاما، وأنه أصبح يستحيل على الخديو مقاومة إرادة الأمة الظاهرة بهذه الكيفية الصريحة.»
فقابل قناصل الدول هذه الأقوال والبيانات بسكوت تام، ما عدا قنصل النمسا والمجر، فإنه سأل «هل الأشخاص الذين وقعوا المشروع مستعدون لرهن أملاكهم ضمانة لنفاذه؟»
فأجاب الخديو: «ليس في الاستطاعة تقديم ضمانة أقوى من عزم عموم القطر، من رئيس الحكومة إلى أحقر الأفراد، على تضحية كل عزيز وغال، ولا التلبس بعار الإفلاس.»
وعلى ذلك ارفض المجلس، وعقب ارفضاضه أرسل ثلاثة تحريرات إلى القناصل.
أما التحرير الأول فكان العريضة المقدمة من أعضاء مجلس شورى النواب، شكوا فيها من أن الوزارة مذ شكلت ما فتئت تعتبرهم كأنهم غير موجودين، بل وتعاملهم بامتهان، وقرروا أن إشهار الإفلاس، وإلغاء قانون «المقابلة» ضاران جدا بمصالحهم، ومخالفان لحقوقهم، وأنهم لن يسمحوا بنفاذهما مطلقا، ورجوا الخديو بالتفات إلى هذه الحال لتجنب المشاكل التي قد تنجم في المستقبل فيما لو استمرت حقوقهم وحقوق الأمة مجهولة إلى مثل ذلك الحد، لما قد يتولد عنها من أخطار مخيفة.
والتحرير الثاني كان العريضة المقدمة من الوجوه والعلماء وكبار الموظفين والضباط، وفيها أن مقدميها اطلعوا على المشروع المالي الذي جهزه السير ريڨرس ويلسن، ويعتبرونه ضارا بمصالح البلد، وأنهم بالتالي وضعوا مشروعا من عندياتهم يسألون التصريح لهم بعرضه على مجلس شورى النواب، ويرجون الخديو منح هذا المجلس السلطة المتمتعة بها مجالس النواب الأوروبية فيما يختص بالأحوال الداخلية والمالية، وأن يكون مجلس الوزراء مستقلا عن رئيس القوة التنفيذية، ومسؤولا للمجلس.
والتحرير الثالث كان المشروع الموضوع لحل المشكلة المالية.
فأرسلها القناصل إلى دولهم، وكان أعضاء مندوبية التحقيق قد حرروا بما وصلت إليه أعمالهم تقريرا، واستعدوا لإرساله بالبريد، ولكن الخديو أمر بتأجيله، مؤملا أن ينال موافقة الدول على المشروع المقدم له من وجهاء الأمة المصرية، قبل اطلاعها على تقرير رجال المندوبية.
وفي اليوم عينه بعث الخديو كتابين إلى السير ريڨرس ويلسن والمسيو دي بلينيير يخطرهما أنه، عملا برغائب الأمة الصريحة، قد كلف شريف باشا بتشكيل وزارة جديدة مؤلفة من مصريين دون غيرهم.
ولما كان قد تقرر الرجوع إلى العمل وفقا لمنطوق مرسوم 18 نوفمبر سنة 1876 حرر شريف باشا خطابين أحدهما إلى المسيو بيج دي بوجاس الذي كان قد تعين مندوبا فرنساويا في صندوق الدين بدل المسيو دي بلينيير عند ارتقاء هذا إلى منصب الوزارة، والآخر إلى السير إڨلين بارنج المندوب البريطاني في الصندوق عينه، وطلب إليهما قبول منصبي مراقبين عامين للإيراد والمصروف.
فرفضا بحجة أنهما لا يستطيعان الاشتراك في نفاذ تصميم مشروع مالي يريانه غير عملي بالمرة، وفي تغيير سياسي يعتبرانه مخالفا للتعهدات التي ارتبط بها الخديو منذ عهد قريب مع دولتيهما.
فأخطر حينذاك شريف باشا، المسيو فرنك لاسيل أنه يعتبر أن رفضهما يطلق يد الحكومة المصرية، ويخليها من كل مسئولية فيما يختص بإعادة المراقبة فورا، على أنه أرسل في الوقت عينه يسأل الحكومتين الفرنساوية والإنجليزية تعيين مراقبين غيرهما.
وتلا ذلك تقديم السير چرلد فتزجيرلد، وبلوم باشا سكرتير الإدارة المالية، والسير اوكلند كلڨين رئيس عموم المساحة، استقالاتهم من خدمة الحكومة المصرية.
أما الوزيران الأوروبيان فأبيا الإذعان لرفتهما حتى يطلعا على ما تقرره حكومتاهما في الأمر.
وفي الأثناء كان الخديو - عملا بما قاله للقناصل العامة في خطاب 9 أبريل - أصدرا أمرا ساميا عين شريف باشا بمقتضاه رئيسا للوزارة المصرية، وكلفه بتعيين أعضائها، على شرط أن يكونوا كلهم مصريين، وبين له فيه الخطة الواجب عليه اتباعها، إرضاء للرأي العام المصري، وموافقة لمصالح البلد الحيوية، وقال له فيما يختص بالإصلاحات النيابية: إنه ينيط بوزارته تحضير القوانين واللوائح الانتخابية على مثال القوانين واللوائح المعمول بها في أوروبا، مع مراعاة عوائد الأهالي، واحتياجاتهم بحيث تؤدي إلى تكوين مجلس نيابي جامع للشروط التي تستلزمها الحال الداخلية، وتقضي بها رغائب الأمة.
فقام شريف باشا من وقته بالمهمة التي عهدت إليه، واختص بالرياسة، ووزارة الخارجية، وعرض على سمو الخديو أسماء الوزراء الذين انتخبهم ليشكل وزارته منهم، وهم: راغب باشا للمالية، زكي باشا للأشغال، ذو الفقار باشا للحقانية، شاهين باشا للحربية والبحرية، ثابت باشا للمعارف، وعمر لطفي باشا للتفتيش العام مع حق حضور اجتماعات الوزراء.
فوافق الخديو على تعيينهم، لعلمه أنهم جميعا - لا سيما چاهين وعمر لطفي - من المخلصين الولاء لشخصه، الذي لا يخافون في خدمته الخدمة كلها لوم لائم، لاعتقادهم أن إرادته هي القانون ، ولا قانون سواها، عملا بما له من الحقوق الموروثة. •••
وكانت مندوبية التحقيق في جميع المدة التي سبقت هذه الحوادث مكبة على إتمام مأموريتها، وهاك ما كانت قد بلغت إليه أعمالها:
أولا:
إن الحكومة المصرية في حال إفلاس منذ 6 أبريل سنة 1876، أي منذ أن توقفت عن دفع إفادات ماليتها المستحقة، ولئن دفعت بعد ذلك مبالغ جسيمة على حساب الفوائد، وسددت ما يقرب من خمسة ملايين جنيه من أصل الدين، فإن عجز ماليتها في سنتي 1877 و1878 قارب خمسة ملايين جنيه أيضا، ومقدار دينها السائر ازداد نيفا ومليوني جنيه، فدفع الفوائد في هذه الظروف إنما كان قطعا في اللحم الحي، والواجب يقضي إذا باتخاذ طرق غير الطرق الوهمية التي لجئ إليها حتى ذلك الحين، وتقليل الصرف إلى درجة حفظه في حدود الإيراد الدقيقة، أما الدائنون فما عليهم سوى الرضوخ للضرورة.
ثانيا:
إنه في عدم استطاعة الحكومة القيام بتعهداتها لكل هؤلاء الدائنين، فغاية ما في وسعها أن تساوي بينهم كلهم في الظلم.
ثالثا:
إنه لأجل الوصول إلى هذا، يجب أن لا يعدل عن ثلاثة مبادئ: «الأول» أن لا يطالب الدائنون بتضحية أي شيء إلا إذا ضحى المدينون - أولا - كل ما يمكن مطالبتهم بتضحيته، مما لا يخرج عن المسلم بإمكان المطالبة به عقلا. وبما أن المدينين هم المصريين - وإن سلم بأنه لم يكن لهم دخل في الديون التي ركبتها حكومتهم على أكتافهم - فالمصريون أول من يجب مطالبتهم بالتضحيات اللازمة، على شرط أن لا تكون هذه التضحيات فوق طاقتهم. و«المبدأ الثاني» أن يعامل الدائنون بموجب الإجراءات القانونية المسنونة في القانون المختلط لدائني أي تفليسة، أي أن من كان مطلوبه أسبق ومدعما بإثباتات قانونية، حق له أن يسدد قبل غيره، ومن كل مطلوبه غير مسجل، عومل بمبدأ الفرنك قرشا، و«المبدأ الثالث» أن يسن قانون يجبر كل الدائنين على قبول التسوية العامة، ويلزم المحاكم المختلطة بالأخذ به، لئلا تخيب أقلية ناقمة نفاذ المشروع كله.
رابعا:
إن الخديو على قاعدة المبدأ الأول، وإن كان قد تنازل عن جانب عظيم من ممتلكاته، لا يحسن به مطالبة دائنيه بتضحيات جديدة، إلا إذا ضحى هو أيضا شيئا من منافعه، وقبل أن يكون مرتبه السنوي 300 ألف جنيه بدلا من 600 ألف جنيه.
خامسا:
إنه في معاملة الممولين المصريين على قاعدة المبدأ عينه، يجب اعتبار ثلاثة أمور: «الأول» كيف يجب أن تكون زيادة الضرائب على الأطيان العشورية، «الثاني» كيف يجب أن يعتبر قرض الروزنامة، «الثالث» كيف يجب أن يعامل قانون «المقابلة».
فاتفقت المندوبية فيما يختص بالأمر الأول على ضرورة روك الأطيان المصرية كلها، وإزالة التمييز بين العشورية والخراجية منها عند ربط الضرائب الجديدة عليها، ولكنها قررت مبدئيا أن يزاد على الضرائب المربوطة على العشورية منها مبلغ قدره 150 ألف جنيه يوزع عليها إفراديا، وذلك إلى أن يفرغ من عملية الروك.
ولما كانت كل الأطيان العشورية ملكا للكبراء وذوي اليسار، وكانت الضرائب عليها خفيفة حتى ذلك الحين، فما كان ثمت سبيل إلى اعتبار تلك الزيادة غير إنصافية، ومعقولة.
واتفقت فيما يختص بالأمر الثاني على مجاراة الحكومة المصرية في اعتبار المال المأخوذ من الروزنامة ضريبة لا قرضا، واستبعاد ما جمع منه من مجموع الديون المصرية في مقابل تخفيف بعض الأثقال على الممولين المصريين.
وإنما استنتجت المندوبية أن هذا كان اعتبار الحكومة لذلك المال من موافقة مجلس شورى النواب في سنة 1877 على إبطال دفع الفوائد عليه، ومن قرارها القاضي بوجوب تحصيل الملايين الخمسة الباقية منه بعد الفراغ من تحصيل أموال المقابلة.
ولكن ما حدا على الأخص بالمندوبية إلى اعتبار ذلك المال ضريبة لا قرضا إنما هو أنه لم يكن في الاستطاعة اعتبار أحد دائنا للحكومة إلا إذا كان المطلوب له مؤيدا بدليل - لئلا ينبت المطالبون من كل جهة - وأنه لم يكن في أيدي معظم دافعي مال الروزنامة أي كتاب أو وصل يؤيدون به صحة مزاعم دفعهم.
واتفقت المندوبية - فيما يختص بقانون «المقابلة» - على الامتناع عن المطالبة بما لم يدفع منها لغاية ذلك الحين، وعلى إلغاء الامتيازات التي منحت بموجب ذلك القانون، مقابل دفع تعويض، لم تبين مقداره للمزارعين الذين دفعوا «المقابلة» - وقد جعل قانون التصفية المسنون في سنة 1880 ذلك التعويض 150 ألف جنيه سنويا لمدة خمسين سنة.
وبنت اتفاقها هذا على أن جانبا عظيما من «المقابلة» لم يدفع نقدا، بل «رقعا»، أي أن وزارة المالية كانت تسلم لمحاسيبها رقعة تعترف لهم فيها بدين وهمي على الحكومة، فيدفع أولئك المحاسيب تلك الرقع للجباة بدلا من المال المطلوب «للمقابلة».
وإن جانبا آخر من المقابلة لم يدفع إلا وهما، بالرغم من دفعه نقدا، وذلك لاحتساب وزارة المالية لمحاسيب آخرين، مال الضريبة من مال «المقابلة»، وإبقاء مال الضريبة تحت المطالبة.
ولكي تعوض المندوبية من مسوا بضر من اعتبار قرض الروزنامة ضريبة، ومن إلغاء قانون «المقابلة» تعويضا وقتيا، ارتأت «أولا» إسقاط كل متأخرات الضرائب - وكانت لغاية أول يناير سنة 1876، 30 ألف جنيه، «ثانيا» إعفاء جميع المزارعين من الضريبة المهنية أو الحرفية - ومجموعها السنوي منهم فقط كان يبلغ 80 ألف جنيه، «ثالثا» إلغاء الضريبة التي على الرءوس - ومجموعها السنوي مائتا ألف وخمسة آلاف جنيه، «رابعا» إلغاء عوائد الدخوليات - ومجموعها 21 ألف جنيه سنويا، «خامسا» إلغاء عوائد الطرق في الأرياف - ومجموعها 8 آلاف جنيه سنويا، «سادسا» إلغاء عوائد الأسواق - ومجموعها 10 آلاف جنيه سنويا، «سابعا» إلغاء رسوم الوزن في الأرياف - ومجموعها 17 ألف جنيه سنويا، «ثامنا» إلغاء عوائد ختم الحصر والأنسجة - ومجموعها 23 ألف جنيه سنويا، «تاسعا» إلغاء رسوم بيع المواشي - وقدرها ألف وخمسمائة جنيه سنويا، «عاشرا» إلغاء رسوم ومكوس أخرى ترفع قيمة المسقوط كله إلى 400 ألف جنيه سنويا.
سادسا:
إنه في معاملة الدائنين المسجلة ديونهم على قاعدة المبدأ الثاني يجب أن لا يغير مركز أحد منهم، وأن تحترم الضمانات التي في يد كل منهم، وأن يخفض سعر الفوائد المدفوعة من 6,7٪ إلى 5٪ للجميع.
وأما الدائنون غير المسجلة ديونهم، فبما أن هذه الديون تبلغ 8210000 جنيه، وأنه يوجد مبلغ 6301000 جنيه تحت تصرف صندوق الدين، فيمكن تصفية حسابهم دفعة واحدة، بدفع 52٪ لكل منهم من أصل دينه، مقابل تنازله عن الباقي.
فوضعت المندوبية تقريرا مفصلا أفاضت فيه الشرح عن الأعمال التي انتهت إليها، ووقعته في 8 أبريل سنة 1879، ثم باتت تنتظر من وراء العمل بإرشاداتها تغيير الأحوال، وبدء تطورها نحو مآل صالح.
ولكن الخديو أسقط وزارته في اليوم التالي، فغير، بذلك، الموقف والمركز، فلم ير أعضاء المندوبية بدا من تقديم استقالاتهم، هم أيضا، فقبلت وأصبحت أيامهم في خبر كان.
وفي 22 أبريل عينه نشر - مقاومة لمشروعهم ومشروع السير ريڨرس ويلسن - المشروع الذي وضعه الخديو، بمساعدة رجاله لحل المشكلة المالية. وقد سبق لنا القول عنه إنه أنكر أن مصر مفلسة، وأنها لا تستطيع القيام بتعهداتها، فنزيد الآن أنه قدر مجموع إيرادات القطر في سنة 1879 بمبلغ 9873000 جنيه - وهو ما اعتبره رجال مندوبية التحقيق زائدا مبلغ 800000 عن الحقيقة - وأنه طالب بتخفيض الفوائد إلى 5٪ مع تعشيم الدائنين بإمكان الرجوع فيما بعد إلى 6٪، وأنه لم يشتمل على أي ذكر لمرتب سنوي للخديو وأسرته، وأن العنصر الغربي بعد اطلاعه عليه، حكم بأن مرماه إنما هو عود السلطة المطلقة إلى الخديو، وبقاء طبقات سراة الأمة وذواتها متمتعة بامتيازاتها.
ويقول اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: «إن نتيجة التغيير في النظام الذي أقدم عليه الخديو ما لبثت أن ظهرت للعيان فإن السير فرنك لاسيل كتب في 19 أبريل إلى الوزارة البريطانية ما نصه (إن شاهين باشا، وزير الحربية ذهب إلى البحيرة، وربما كان ذلك لأجل جمع نقود، لأن مركزه السابق إذ كان مفتش الوجه البحري العام، قد أكسبه شهرة بأنه «أقسى وأنجح جماع للضرائب عرف بمصر»، وهي شهرة لا يحسده أحد عليها).»
وكتب نائب القنصل البريطاني في الزقازيق إلى رئيسه بمصر ما يأتي: (تسألني كيف يسير النظام الجديد؟ أسوأ مما كان قديما، فإن ثلاثة أرباع الضرائب، ونصف «المقابلة» يحصل بطرق الظلم والعسف العادية. وبما أنه ليس لدى الفلاح محصول قطن أو غلال يبيعه ليدفع، فإنك تراه مضطرا للالتجاء إلى المرابين، والاقتراض منهم بواقع 5,4٪ شهريا، إذا أراد التخلص من الكرباج. أما الذوات، فبما أنهم لا يدفعون إلا المال، ويدفعونه على راحتهم، فإنهم يرون الأيام سعيدة، والحياة جنة ورد، وقد أتانا منذ عهد قريب عمر لطفي باشا، مفتش الوجه البحري العام، وأصدر أوامر مشددة لجمع النقود بكل الطرق الممكنة).»
2
على أن مندوبي صندوق الدين لم يستقيلوا من وظائفهم، وأخذوا يتداولون فيما يجب عليهم عمله، إزاء انهيار البناء الذي أقامه الاتفاق الدولي بمصر من كل جانب حولهم، فقر رأيهم على رفع قضية على الحكومة المصرية الجديدة أمام المحاكم المختلطة، وحقا رفعوها. •••
ولكن هل كان (إسماعيل) مخطئا فيما أقدم عليه إزاء شعبه وإزاء أوروبا، وإزاء نفسه؟ لا بد للحكم في ذلك من الرجوع إلى طبيعة مركزه، وإلى أحكام الاتفاقات الدولية التي آل ذلك المركز إليه بموجبها.
فبطبيعة مركزه كان محقا في اعتقاده أنه سيد القطر المطلق، ورب كل ثروة فيه، بصفته رب كل حياة نامية على سطحه. كان محقا في اعتقاده أن لا قانون سوى إرادته، ولا شرع، فيما عدا الأمور الدينية، سوى شرعه، فهو خليفة الفراعنة والبطالسة، خليفة الولاة العرب، خليفة الطولونيين والأخشيديين، خليفة الفاطميين والأيوبيين، خليفة السلاطين المماليك، والأمراء المماليك، وخليفة الولاة أسلافه من بيته العلوي وكل من سبقوه كانوا متمتعين بالسلطة المطلقة، كانوا أسياد القطر برمته، وملاكه، لا يعيش سكانه إلا باستمدادهم نفسا من نفسهم، ونفخة من روحهم، وكانوا أرباب الأموال والأعمار، بل والأعراض ذاتها، بل كان بعضهم يدعي السيادة عينها في نفس المعتقد والدين ومع ذلك، فإن المصريين في كل عصور حياتهم، وبالرغم من كل تطوراتها وتقلباتها وثوراتها لم يفكروا يوما ما في أن الحق الذي يدعيه عواهلهم لأنفسهم من السيادة المطلقة عليهم، والتصرف بلا قيد بالكلية - إلا القيد الذي يتقيدون به من تلقاء أنفسهم - في أموالهم وأعمارهم وأعراضهم، قد يكون مبنيا على غير أساس، بل قد لا يكون له وجود بالمرة، إذا هم رفضوا التسليم به، بل لم يفكروا في جواز عدم صحة ذلك الحق، بل سلموا به تسليما تاما، واستكانوا إليه وأقروه، بل عدوه جزءا كبيرا من فضلهم وكمالهم، بل دافعوا عنه دفاع المستميت ضد كل من حاول أن يحررهم من قيده، أو يغير فكرهم فيه، وحاش لله ألف مرة أن يكون قصدنا من قولنا هذا الطعن على مواطنينا، أو الحط من كرامتهم، أو تسفيه أحلامهم، فإن أمما سواهم، وليست من أقل الأمم رقيا ومدنية في العصور الغابرة، وفي العصر الحالي، أقرت ذلك الحق عينه، واستسلمت بكلياتها وجزئياتها إلى حكامها وملوكها. وها نحن نرى أن الشعب الألماني في أيامنا هذه - على ما بلغ من التقدم في ميداني العلوم والحضارة المادية والعقلية - يقر ذلك الحق لإمبراطوره بتعديل خفيف، ويستسلم إلى إرادته استسلاما أعمى،
3
فكيف نستطيع أن نؤاخذ الشعب المصري، الذي كان عائشا في أيام (إسماعيل) على عقليته وشعوره، على إنكاره ذاته ومصالحه، وعلى استكانته إلى رغائب مولاه وولي نعمته؟
على أن المثل السائر يقول «المال المتروك يعلم الناس السرقة». ويروى في القصص أن رجلا ادعى النبوة في أيام الرشيد أو المأمون، فاتبعه خلق كبير، وآمنوا به، وصدقوا بمعجزاته، فنمى خبره إلى الخليفة، فأمر بإحضاره، فجاءه بثلاثة آلاف من أتباعه، وأوقفهم خارج القصر، وعلمهم عملا يعملونه، إذا أمرهم به، فأجابوا بالسمع والطاعة ثم مثل بين يدي أمير المؤمنين وحده، فسأله الخليفة باسما، (وأظنه المأمون، لأني لا أعلم سماحته في أحد غيره من بني العباس) «أأنت نبي؟» قال: «نعم»، قال: «وما معجزاتك؟» قال: «لي معجزات كثيرة، وإذا شئت أتيت بواحدة منها أمامك لساعتي»، قال: «هات»، قال: «هلم إلى هذه الشرفة وانظر، أترى هؤلاء الرجال الواقفين في الميدان تحت هذا القصر؟» قال: «وما لهم؟» قال: «إني أصيرهم قططا بكلمة، ثم أصيرهم بكلمة أخرى كلابا»، قال: «دونك.» فأطل الرجل على قومه، وقال بصوت عال: «أيها الناس، كونوا قططا.» فأقبلوا يموءون ويتحركون كقطط، ثم قال لهم: «كونوا الآن كلابا.» فأقبلوا ينبحون ويثبون ويشبون ككلاب، فأغرق الخليفة في الضحك حتى استلقى على ظهره فوق أريكته وهو يقول «قاتلك وقاتلهم الله.» فقال الرجل: «يا مولاي، أيدهشك أن من يستسلم إليه أناس كهؤلاء يدعي النبوة؟ وهو لو ادعى الربوبية لما كان ادعاؤه غريبا.» (فإسماعيل) كان محقا، إذا، في اعتقاده أنه الكل في الكل بمصر، وأن الشعب المصري إنما خلق ليخدم ذاته السامية في رغائبها وآمالها وأميالها وملاذها، أضف إلى مركزه الطبيعي أن تربيته والوسط الذي نما فيه، والبيئة المحيطة به منذ نعومة أظفاره إلى أن ارتقى عرش جده وأبيه، كل هذا كان من شأنه أن يوطد فيه ذلك الاعتقاد توطيدا ثابتا لن يتزعزع، بل لن يتحرك، فمثله فيه جميعه مثل لويس الخامس عشر الفرنساوي، الذي كان مربيه يجعله يطل من شرفات قصر التويلري في باريس على الشعب المزدحم في شوارع العاصمة، ويقول له «أترى يا مولاي، هؤلاء الناس كلهم؟ إنهم مخلوقون جميعا ليكونوا عبيدا لك، فكلهم ملكك وشيئك.» (فإسماعيل) إزاء شعبه لم يكن مخطئا في إقدامه على استرداد السلطة المطلقة لنفسه، وهو في التزاحم القائم بينه وبين الدائنين الغربيين ودولهم المعضدة لهم، على أموال فلاحي مصر ومموليها، لم يكن في الحقيقة مقاتلا إلا على ما كان يعتقد أنه له بحق.
وأما إزاء الدول الغربية، فإنه بموجب معاهدات سنة 1841 وبموجب الفرمانات الصادرة لجده وله، ما بين سنة 1841 وسنة 1873، والمصدق عليها من تلك الدول، كان محقا في اعتقاده، أن كل تداخل تتداخله تلك الدول في شئون إدارته الداخلية، لا سيما متى كان القصد منه مجرد مزاحمته على أموال رعاياه، أي على أمواله لمحض افتيات منها، لا يبرره سوى حجة القوي أمام الضعيف.
والذي وطد في نفسه هذا الاعتقاد توطيدا هو أنه لولا ضعف مركزه، لما تجاسرت تلك الدول على الإقدام على مزاحمته ومضايقته، وتكبيل يديه، وتقييد سلطته، فبينما هي لا تبدي حراكا في مسألة مدائني تركيا، مثلا - وديونها ضعفا ديون مصر - ولا تمانع في إشهار الباب العالي إفلاسه، وبينما يضيع على المقرضين البريطانيين فقط - فما بالك بغيرهم؟ - ما يقرب من 400 مليون جنيه، بدون أن تقوم حكومتهم معضدة لمطالبهم قبل الدول المديونة، فإن هذه الدول الغربية لمعرفتها جانب الضعف فيه، لا تفتر مهددة، مقطبة، تتداخل بالرغم من نصوص الفرمانات التي صدقت عليها هي نفسها في شئون داخليته، قاذفة على رأسه مفتشيها ومراقبيها، ومحاولة اغتصاب حقوقه لتلبس رداءها وزيرين غربيين.
فكم من مرة ومرة باغت نفسه وهو يعض على شفتيه، أسفا على عدم وجود جيش قوي لديه، ومدفعية ضخمة، وبحرية مهيبة، مثلما كان عند جده (محمد علي)، وكم من مرة ومرة صر على أسنانه تغيظا من أن مركزه من الوجهة الدينية غير موطد الأركان كمركز الخليفة، وأنه قد يكفي اتفاق بين تلك الدول المعادية، والمراجع العثمانية - وما أسهل حدوثه إما من طريق الترهيب، وإما من طريق الإرشاء - ليقلبه عن عرشه، ويقذف به إلى المنفى.
فإزاء الفرمانات والمعاهدات الدولية الموجبة بصراحة عدم تداخل الدول الغربية في شئون مصر الداخلية إلا في الأمور المتفق عليها بالمعاهدات الخاصة المعقودة بينها وبين الباب العالي، إزاء نص الفرمانات، لا سيما فرمان سنة 1873، والمعاهدات الدولية القاضية للخديو بحق الاستقلال التام في أمور القطر الداخلية، استقلالا لا يقل عن المتمتع به سلطان تركيا عينه أو قيصر الروس، هل كان يستطيع (إسماعيل) صبرا على عمل الحكومتين الإنجليزية والفرنساوية، اللذين قهرتاه بموجبه على قبول الأشخاص المعينين منهما، وتسليمهم كل سلطة له على عموم أفرع الإدارة الداخلية؟ أو كيف لا نعترف أنه إنما استعمل حقه في الضرب على يد تجاوزها هذا، وإعادة الأمور إلى مجراها الشرعي؟
فإنه لم يكن ليعنيه أن تكون تركيا قد تعدت في الفرمانات الممنوحة منها إليه وإلى جده، الحقوق التي للشعوب قبل ملوكهم، وأن تكون أوروبا قد أخطأت في اعتماد تلك الحقوق، وإطلاق يد حاكم مصر إطلاقا تاما في أمور رعاياه المصريين، بدون استشارة هؤلاء - أولا - والوقوف منهم على رغبتهم في أن يعاملوا معاملة المواشي أم لا، فإنه كان مليكا وجد واقعا، ويعلم أن الواقع الناشئ إلى الوجود برضا متعاقدين، لا يصح تغييره ولا تعديله إلا برغبة ورضا المتعاقدين جميعهم، ولا يصح لأحدهم التفرد في ذلك، إلا إذا أهمل جانب الحق، واعتمد قوة السلاح فكان حقيقيا إذا بالمحافظة على ذلك الواقع، ومقاومة كل من شاء التفرد في تعديله أو تغييره.
وأما إزاء نفسه، فلا شك أن (إسماعيل) أخطأ خطأ كبيرا فإنه أقدم على عمل خطير لم تكن لديه القوة على الثبات في تيار عواقبه ، فيما لو تحرك ذلك التيار، واستعمل للبلوغ إلى مراميه قوى، كان هو أحرى الناس بالتنكب عنها، عملا بحكمة المثل الفرنساوي القائل «لا توقظ قطا نائما.»
فإنه بصرفه الوزيرين الغربيين عن دفة الأحكام، وإجباره جمهور الموظفين الغربيين، الذين أقامتهم اتفاقاته مع فرنسا وإنجلترا حفاظا لمصالح الدائنين على الاستقالة، وبضربه بتقرير مندوبية التحقيق عرض الحائط، وإطراحه وإهماله مجموع الإصلاحات المالية والإدارية المتكون منها ما سموه بالنظام الجديد، لم يكن يجهل أنه يميل عن صداقة حكومتي إنجلترا وفرنسا، ويقف أمامهما موقف الخصم المعاند المتحدي.
ولا شك في أن أول فكر وقع في خلده بعد فراغه من الضربة السياسية التي ضربها، إنما هو فكرة المقاومة إلى النهاية، مهما كانت العواقب، فإنه حمل في الحال عموم كبار ضباط الجيش على حلف يمين، مؤداها الإخلاص والولاء في خدمته، ومقاومة جميع أعداء البلاد وأعدائه، وأعداء عائلته، كما أنه حمل مائة وخمسين ذاتا من وجوه البلاد وكبار العلماء على إبداء فرح الأمة بصراحة من جراء صرف الأوروبيين عن الإدارة.
ومع ذلك، فإنه لم يكن في استطاعته مقاومة تينك الحكومتين، وأصبح مصيره حتما فيما لو أصرتا على عدم الرضا عما تم، إلى أحد أمرين: إما الرجوع بخزي وعار إلى الخنوع لإرادتيهما، وإما الفشل في مقاومتهما فشلا يتلوه قهر عزيز على نفسه.
وبتمكينه روح التمرد من النشوء في الجندية، وجعلها تحس بقوتها على نيل أغراضها، عند توحد كلمتها، وبتحريكه في قلوب الأمة وعقولها أفكارا دستورية، وآمال حكم نيابي - ولو أن تحركها في البدء كان كتحرك أشباح في وسط ليل بهيم - بإباحته المناقشات العديدة في التغييرات السياسية الأساسية لرجال لم يكونوا حائزين للصفات اللازمة لذلك، وبجعله بالتالي أقصى ما يداوى به نظام البلاد غذاء البلاد اليومي - وهو الحاكم المطلق، القائمة سلطته الفردية على طاعة الجند له، بل على خنوعهم لإرادته، والقائم تصرفه في إرادات الأهالي وأموالهم وحريتهم على اعتقادهم المتين بأن إرادته هي وحدها الدستور، ورغبته هي وحدها القانون، وأمره هو المقرر في كتاب الأقدار، فلا مفر من نفاذه - بعمله ذلك جميعه، إنما أقدم في الواقع على دك قواعد سلطته - حتى فيما لو فاز على دولتي الغرب في نزاعه معهما - وعلى وضع ألغام تحت مركزه - كما آل إليه من أسلافه - كان لا بد لها من نسف ذلك المركز عاجلا أم آجلا، إن لم يكن في أيامه، ففي أيام خلفه، فإن النار إذا أوقدت التهمت، والسيل إذا كسرت حواجزه جرف. ثم صعبت في كلتا الحالتين الوقاية.
وما وقع في القريب العاجل (لإسماعيل) عينه، ثم ما وقع بعد ذلك بقليل لابنه وخلفه الخديو (محمد توفيق) خير دليل على أن (إسماعيل) فيما أقدم عليه أخطأ إزاء نفسه خطأ كبيرا.
الجزء السابع
الغروب
الفصل الأول
حيرة وارتباك1
كأن الظلام حين أرخى سدوله
يبيت على ليل بليل موصل
امرؤ القيس
فما تشكلت الوزارة الشريفية، وأقبلت تدير مهام الأمور، إلا وعاود قناصل الدول الكرة، وأقبلوا يلحون بوجوب إعادة السير ريڨرس ويلسن والمسيو دي بلينيير إلى منضبيهما، إرضاء لدولتيهما، وتهدئة لخواطر الدائنين.
فرد (إسماعيل) عليهم بأنه إزاء هياج الرأي العام لم يكن في الإمكان إجابة طلبهم، وأنه يقبل أية مراقبة، مهما كانت دقيقة، ولكنه لم يعد يستطيع قبول عضوية أجانب في الوزارة المصرية.
وقال لهم شريف باشا، تأكيدا لكلام مولاه: «إن الوزارة مصممة على منع سموه من قبول ذلك حتى فيما لو كان سموه ميالا إلى قبوله، ولئن فعل وخالف رأيهم، فإنهم مصممون على الاستقالة، وتركه وشأنه؛ لأن مبادئهم لا تمكنهم من التسليم بإعادة نظام بات مسخوطا عليه من الأمة بأسرها.»
2
فلما تحققت الدول أن الانقلاب الذي تم بمصر أصبح أمرا صمم على عدم الرجوع فيه، وقعت في حيرة كبرى، لأنه على أهمية مصاعب الموقف وخطورتها، لم يكن من السهل الإقدام على أي عمل لحل المشكل بدون تسيير المصالح الدولية المختلفة إلى التصادم معا تصادما مخيفا.
فسلطان تركيا أصبح يخشى أن يؤول عمل الخديو إلى إنشاء أخطار حول ما له من حقوق السيادة على مصر، وأخذ يفكر فيما يجب فعله؛ أيسبق الدول إلى العمل، فيقبل (إسماعيل) من تلقاء نفسه، ويغتنم الفرصة لتحقيق ما طالما جال في خاطر أسلافه الفخام، ورجال السياسة العثمانية، مذ اكتسب سيف (محمد علي) العظيم شبه استقلال للقطر المصري، فيرسل عدة أورط عثمانية إلى وادي النيل بصحبة وال يعينه مكان الخديو المقال، ويعيد مصر ولاية عثمانية بسيطة كما كانت قبل أن يؤول زمامها إلى ذلك المكدوني الجسور؟
ولكن، ألا يعد هذا العمل، الآن، والدول الغربية قائمة قاعدة لما بدا من (إسماعيل)، عملا يتم خوفا منها، ويقع بسبب مداخلتها وتأثيرها؟ وإذا عد كذلك - وهو الواقع - ألن يؤخذ هذا العمل عينه قاعدة لبناء مبدأ تنتفش منه الأخطار كما ينتفش الشوك من جسم القنفذ، مبدأ وجوب إقالة كل حاكم لا تستحسن تلك الدول حكمه؟ وهل من مصلحة تركيا أن يقام بناء مثل هذا المبدأ، وأن يعرض بمركزها برضاها إلى مؤثرات الرأي العام الأوروبي؟ أليس الأوفق، من هذه الوجهة تحبيذ عمل الخديو ، وشد أزره فيما تحدى به الدول الغربية، وفي تصميمه على رفض إشراك أي أجنبي في حكم بلاده؟
ولكن من جهة أخرى ماذا يكون مركز تركيا في العالم، وإلام تؤول حقوق سيادتها على مصر، لو أقدمت الدولتان الغربيتان على إقالة (إسماعيل) من تلقاء نفسيهما، وبدون استشارة الباب العالي، أو بمجرد استشارته استشارة صورية فقط؟
فالأوفق - والظروف هذه - الانتظار والتربص، ريثما يظهر بصيص نور للسير بهداه، مع التيقظ التام لماجريات الأمور.
ولم يكن موقف بريطانيا العظمى محفوفا بصعوبات أسهل حلا من الصعوبات القائمة في وجه سلطان تركيا، فالمصالح السياسية والمالية البريطانية بمصر كانت من الأهمية والخطورة بحيث لا تستطيع الحكومة الوقوف معها إزاء المشاكل المصرية موقف المتفرج، القليل الاهتمام، فكان لا بد لها من التداخل فيها، على أن هذا التداخل كان من شأنه أن يجرها إلى عواقب كانت إذا تبصرت فيها، وقفت مترددة؛ أتنساق إليها أم تحجم عنها؟
فمصر بموقعها الجغرافي، وبصفتها مفتاح الهند، ما فتئت موضوع اهتمام بريطانيا العظمى، وداعية إلى تيقظها التيقظ كله، خشية أن تقوم على ضفاف النيل دولة قوية تحول بينها وبين مستعمراتها الهندية، أو تهددها فيها، فلما أنشأ الملازم واجهرن في عهد الباشا العظيم، الطريق البريدي بين أوروبا والهند، المعروف باسم «الأوڨر لندروت»، زاد اهتمام بريطانيا العظمى بمصر وشئونها أضعاف أضعاف ما كان، حتى خيل لبعضهم أنه أصبح لا بد لتلك الدولة البحرية الضخمة من الاستيلاء عليها، وإلا فإدخالها ضمن دائرة نفوذها.
وعبر كاتب إنجليزي يقال له كنجليك في سنة 1849 عما أخذ حينذاك يجول في الخواطر بقوله في كتاب دعاه «إيوتن» «إن الإنجليزي المشرئب برقبته اشرئبابا بعيدا ليقبض على هذه المحبوبة، سوف يغرس قدمه بثبات على ضفاف النيل، ويتربع في مقاعد المؤمنين» غير أن الحكومة البريطانية في ذلك العهد لم تكن تفكر مطلقا في الاستيلاء على مصر، وإن همها جدا أن لا يستولي عليها أحد غيرها. ولا أدل على ذلك مما يرويه المسيو إميل الليڨييه، رئيس الوزارة الفرنساوية التي أشهرت الحرب على ألمانيا سنة 1870، في كتابه المسمى «الإمبراطورية المتسامحة »، فإنه يقول - وقوله ثقة - «إن الإمبراطور ناپوليون الثالث فاتح في سنة 1857 الحكومة البريطانية في أمر اقتسام إفريقيا الشمالية، واقترح عليها اختصاص فرنسا بمراكش، ومملكة سردينيا (وأصبحت فيما بعد مملكة إيطاليا) بتونس، وإنجلترا بمصر.»
فلما عرض الأمر على اللورد بالمرستون، كبير وزراء الإنجليز في ذلك الحين، أجاب «قد يمكن أن إنجلترا وفرنسا وسردينيا تحكم أجزاء عديدة من العالم خيرا مما يحكمها الآن حكامها، ولكني لست أرى أن هذا داع إلى إقامة حكم هذه الدول على تلك الجهات، فنحن - من خصوصنا - لا نريد مصر، والذي نبتغيه من مصر هو أن تستمر مرتبطة بالسلطنة التركية، لأن هذا ضمانة ضد وقوعها تحت سلطة أية دولة أوروبية. نحن نريد أن نتجر مع مصر، ونريد أن نجتاز مصر في أسفارنا، ولكنا لا نريد أن نثقل أكتافنا بأعباء الحكم عليها، فيلزمنا أن نحسن حال هاتيك الأقطار بمؤثرات تجارتنا العامة، ولكن علينا أن نمتنع الامتناع كله عن صليبية فتح قد تحق علينا معها كلمة باقي الأمم المتمدنة».
3
وكتب إلى صديقه اللورد كولي، يقول، «نحن لا نريد مصر أو نبغيها لأنفسنا أكثر مما يبغي رجل عاقل ذو ملك في شمال إنجلترا، وصاحب مقام في جنوبها، أن يمتلك عموم الفنادق والمنازل القائمة في طريقه إلى ملكه في الشمال، وغاية ما يتمناه هو أن تكون تلك الفنادق والمنازل معتنى بها، ومحفوظة في حال جيدة، وأن لا يعوقه عائق عن الدخول إليها، وأن يجد فيها حينما يردها شواء خروف، وخيل بريد.»
4
وكانت حجته الكبرى في مقاومته عمل إنشاء ترعة السويس هي أن تلك الترعة لو تمت - وهو أمر غير محتمل - لاضطرت إنجلترا إلى احتلال مصر وامتلاكها، وهو أمر لا تريده.
5
ولكن بعد أن تم فتح تلك الترعة، وعلى الأخص بعد أن اشترت الحكومة البريطانية أسهم الحكومة المصرية فيها، أخذت رغبة إنجلترا في امتلاك القطر المصري تنمو شيئا فشيئا في صدور رجال سياستها، لا سيما المحافظين منهم، وأخذت تتشكل وتتجسم رويدا رويدا، حتى باتت راكزة ثابتة في نفس اللورد بيكنسفلد رئيس وزارة المحافظين في أيام (إسماعيل) الأخيرة. ولا أدل على ذلك من تلون هذا الوزير اليهودي الأصل في معاملته الحكومة المصرية، وفي احتياله على خلق الصعوبات المالية لها، ومن مكاتبات اللورد سلسبري لقنصلي إنجلترا بمصر، البادية عليها صبغة التهديد المستمر (لإسماعيل)، مع وقوف السياسة البريطانية تمام الوقوف على طبع هذا الخديو، وقلة صبره على ما يمس كرامته، وينتقص مكانته.
على أن استيلاء إنجلترا على مصر لم يكن بالشيء الهين:
أولا:
لأن المعاهدات الدولية كانت عقبة كؤودا في السبيل.
ثانيا:
لأن الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا، لم تكن لتستطيع عليه صبرا.
ثالثا:
لأن كثيرين من عقلاء الإنجليز أنفسهم كانوا لا يريدونه مطلقا، ويعتبرونه مصيبة على دولتهم.
رابعا:
لأنه في وزارة المحافظين ذاتها، كان يوجد من لا يستحسنه مطلقا، ويبذل وسعه في مقاومة نفاذه.
ومع ذلك فمصير الأمور كان - حتى لأقصر الناس تبصرا وبصرا - متوجها وجهة إجبار بريطانيا على المجيء إلى مصر، إن لم يكن للاستيلاء عليها وضمها إلى أملاكها، فلتسيير إدارتها وفقا للمصالح الإنجليزية، ولمنع دولة أوروبية غيرها من احتلالها.
أما فرنسا، فالذي كان يهمها فوق كل شيء هو أن لا يغرس الإنجليزي قدميه على ضفاف النيل لا بثبات، ولا بكيفية وقتية مقلقة، ولكنها لم تكن في الوقت نفسه تنظر بعين الارتياح إلى احتلال قوة تركية هذا الوادي الخصيب، وكانت تعتبر أن مثل هذا الاحتلال داء أفظع بكثير من الداء المتألمة مصر به، لا دواء له. وبما أنها كانت متيقنة من جهة أخرى، من أن اتحادها مع إنجلترا، لاحتلال القطر معا، إنما يكون مصدرا في المستقبل لمشاكل وصعوبات لا نهاية لها بين الدولتين قد يؤدي بهما إلى الاشتباك في حرب معا، لا سيما بعد أن قال البرنس بزمرك «إن مصر ستكون للدولتين الغربيتين ما كانه الشلزڨيج هلستين الدانمركي لبروسيا والنمسا». فإن سياستها كانت تقضي عليها، وكانت في الواقع موجهة إلى إبقاء الحال بمصر على ما هي عليه، بدون أقل تعديل.
ولكنها من جهة ثالثة كانت مضطرة إلى حماية مصالح رعاياها المالية هناك، والأوساط المالية في باريس كانت لا تنفك تحرضها على صيانة تلك الحقوق. على أن حمايتها وصيانتها، بما سوى المداخلة الفعلية في الشئون المصرية الداخلية، كانت تظهر لها متعذرة إلا إذا انقاد الخديو إلى رغائبها، وسلم زمام بلاده إلى رقابتها - وهو ما لم يكن يمكن انتظاره من (إسماعيل) مطلقا - فما العمل؟
وإيطاليا على حداثتها، وعلى ما لديها من مسائل داخلية تجعل اهتمامها بها وعنايتها في حلها أفيد لها بكثير من الطموح إلى التوسع في النفوذ الخارجي، إيطاليا، لعلمها أن للمظهر في العالم أهمية كبرى، وأن مركز الدول من بعضها على قدر كبر المطالب، والتشدد في التمسك بحقوق، ولو مزعومة فقط، وغير مسلم بها، كانت ترى أنه لا بد من إشراكها مع الدولتين الغربيتين في إدارة شئون البلاد المالية، لا سيما وأن جاليتها في القطر أكثر عددا، ومجموع أفرادها المقربين من سمو أمير البلاد أشد نفوذا عليه من جاليتي الدولتين الغربيتين، ومن مجموع أفرادهما المالكين أذن الخديو، أو المقربين إلى قلبه.
أما روسيا، فمع أن مصالحها في القطر كانت عدما، إلا أنه كان يجدر بها في نظرها شد أزر تركيا، وتعضيد إجراءاتها، وذلك لسببين:
الأول: لأن الحكومة الروسية كانت تعتبر نفسها الوريثة للدولة التركية - فكل ما ينتقص دولة بني عثمان يقلل من تركتها المنتظرة.
والثاني: لتوقعها مكسبا أدبيا من وراء وقوفها بجانب تركيا، معضدة مؤزرة، عملا بقول أحد ساستها، وهو «قد سلخنا جلد هؤلاء الأتراك المساكين في الشمال، إلى حد يحسن بنا معه التظاهر بحمايتهم ولو قليلا في الجنوب.»
وألمانيا والنمسا، وإن لم تتداخلا لغاية ذلك اليوم إلا قليلا في الشئون المصرية، إلا أنهما لم تكنا لتنظرا بعين الارتياح إلى استقلال إنجلترا وفرنسا بعمل متفق عليه بينهما وحدهما بمصر.
وعلاوة على ذلك، فإن عددا لا يستهان به من الألمان والنمساويين الدائنين للحكومة المصرية دينا غير مسجل كانوا قد استصدروا ضدها أحكاما لمصالحهم من المحاكم المختلطة، فهل كان يسع دولتاهم عدم المطالبة بتنفيذ تلك الأحكام؟ كلا، وقد رأينا البرنس بزمرك يحتج احتجاجا عنيفا على عدم تنفيذها ، واحتجاج من كان في مركزه لا يصح أن يكون مجرد حبر على ورق كاحتجاجات الضعفاء من الدول والناس.
الفصل الثاني
البروق تشق السحاب1
والنجم في كبد السماء كأنه
أعمى تحير ما لديه قائد
العباس بن الأحنف
ولكن على حيرة هذه الدول كان لا بد من عمل يقدم عليه، وبما أن فرنسا وإنجلترا كانتا أكثرهن مصالح بمصر، كان لا مندوحة لهما عن التعرض، قبل غيرهما، إلى اتخاذ مسئولية الإقدام على ذلك العمل.
فما تفاوضتا معا في الموضوع، إلا واتضح لهما أن إقدام (إسماعيل) على صرف وزيريه الغربيين لم يكن خارجا عن دائرة حقوقه، ولا خرقا لحرمة أي تعهد من تعهداته السابقة - وإن عد في عرفهما عملا غير حكيم، وملحقا مصالحهما المصرية بأخطار جمة - وأنه يحسن بهما - والحالة هذه - استعمال طرق الإقناع معه، قبل كل شيء، ومحاولة تفهيمه أن مصلحته مرتبطة بمصالحهما، وأنه بتنكبه عن جادة إرشاداتهما، إنما يسلك مسلكا قد يكون وبيلا عليه، فاتفقتا على خطة سير تتبعانها، وكلف اللورد سلسبري بإرسال المكاتبة الآتية إلى السير فرنك لاسيل، وكلف المسيو وادنجتن المسيو جودو بالانضمام إلى زميله في تبليغ مضمونها إلى الخديو.
أما المكاتبة فهي: «يعلم الخديو أن الاعتبارات التي تلزم حكومة جلالة الملك بالاهتمام بشئون مصر قادتها إلى عدم اتباع خطة خلاف خطة إنماء مصادر ثروة البلاد وضمانة حسن حكمها. وهي - لغاية الآن - قد اعتبرت أن استقلال الخديو وبقاء أسرته على العرش من اللزوميات للوصول إلى ذينك الغرضين. وهذه كانت أيضا إحساسات الحكومة الفرنساوية، ولذا فإن الحكومتين تميلان إلى اعتبار القرار الذي تسرع سموه بتنفيذه قرارا غير نهائي، سواء أكان فيما يختص بمستقبل سير الإصلاح أم بالموقف الذي عزم على وقوفه إزاءهما. ونحن نفضل انتظار أعماله المستقبلة، لكي نعبر عن سيره الأخير تعبيرا يكون في مصلحته، ولكنه إذا استمر على جهل الواجبات المترتبة عليه من قبل أعماله وتصريحاته وتأكيداته الماضية، واستمر مصرا على رفض مساعدة الوزراء الأوروبيين الذين قد تضعهم الحكومتان تحت تصرفه، فإنا سنضطر إلى استنتاج أن إهمال التعهدات الذي امتاز به عمله الأخير كان نتيجة خطة مصمم عليها، وأن سموه يرفض صداقتهما بتمام رغبته، وهو على بينة كلية من عمله. وفي هذه الحال، فإنه لا يعود يمكن للحكومتين سوى أن تحفظا لنفسيهما حرية التقدير والعمل المطلقة في الدفاع عن مصالحهما بمصر، وحرية التدبر فيما تريانه خير الوسائل لضمانة حسن حكم البلاد ونجاحها.»
هذه المكاتبة بلغت بحذافيرها إلى (إسماعيل) في 25 أبريل، غير أن الحكومتين قبل ذلك بأسبوع، كانتا قد خاطبتا الباب العالي في أمر خلعه، وأجابهما السلطان أنه مستعد لإبداله بحليم باشا، إذا شاءتا، وأنى شاءتا.
وكان (إسماعيل) قد زاد عدد الجيش وقوته زيادة محسوسة، لمقابلة الطوارئ، ولكنه لحظ بعد بضعة أيام أنه لا يستطيع الوثوق من إخلاص جنده وأمانته، واطلع على ذلك أيضا السير فرنك لاسيل، فكتب في 26 أبريل إلى الخارجية البريطانية رسالة وصف فيها بتطويل البؤس والاستياء الناجمين للبلاد عن تصرفات الوزارة الجديدة الجائرة، وقال: «ويؤكد لي أن هذا الاستياء عينه من الحال الحاضرة منتشر انتشارا كبيرا في الجيش ذاته، وأنه ولد شعور عداء للخديو، ليس فقط بين أفراد العسكرية المنتسبين إلى طبقات الأمة المرهقة، بل بين الضباط أنفسهم، ويؤكد لي أن هؤلاء، وإن كرهوا كل الكراهة أي تداخل أوروبي، يعتبرون الخديو مسئولا عن المصائب التي أصابت البلاد.»
فبينما الدولتان لوقوفهما على حقيقة القوة التي يمكن (لإسماعيل) أن يقاومهما بها، لا تباليان بمخاطبته بلهجة العزيز القدير، وجد هو نفسه مضطرا للسبب عينه إلى مداهنتهما ومراوغتهما، مع إصراره على معاكستهما. فأجاب على بلاغهما بالتنصل من كل نية سيئة نحوهما، وفكر ضار بمصالحهما، وباستعداده لإرضائهما في كل ما تريدان، ما سوى إرجاع الوزيرين الغربيين إلى منصبيهما، لأن ذلك بات فوق طاقته، ولن تسمح الأمة به مطلقا.
ولما لم تكن الدولتان تريدان منه غير ذلك، بات من المؤكد لهما أنهما لن تنالا منه وطرا، ورسخ في عزمهما العمل على إقالته من منصبه، لاعتبارهما استحالة وجود حل للمشكلة المصرية ما دام زمام الأمور بيده.
على أن عمال (إسماعيل) في الأستانة وقفوا حالا على اللغم الذي أخذت الدولتان تدنسانه تحت مركزه هناك، وسرعان ما أحاطوه به علما.
فبعث (إسماعيل) في أواسط أبريل طلعت باشا إلى الأستانة، مزودا بالذهب اللازم لمعاكسة ذلك اللغم، وحمله - على ما يقال - مبلغا جسيما للسلطان نفسه، ومبالغ أخرى كبيرة، وإن كانت دون الأول، للصدر الأعظم وموظفي المابين والديوان. فقبل السلطان ووزراؤه الرشوة والهدايا المرسلة إليهم، ولكنهم إما لأنه كان يعوز طلعت باشا كثيرا من سياسة نوبار، وإما لأنه كان ينتظر من (حليم) ما يربو على المقدم من (إسماعيل)، وإما أيضا لأنهم أحسوا بأفول نجم (إسماعيل)، لم يرتبطوا مع مندوبه بوعد صريح. وبالرغم من بقائه بين جدرانهم أكثر من شهر، يبذل ويعد، عاد إلى مصر يحمل، فوق خفي حنين، الأمل بأن الخطر قد يبدد.
ولكنه لم يكد يستقر بمصر إلا وتفجر الصيب، وانحدرت الصاعقة، لا من لندن ولا من باريس، ولا من الأستانة، بل من برلين! فإن الكونت دي منستر سفير ألمانيا لدى الحكومة البريطانية قابل يوم 11 مايو اللورد سلسبري، وأخبره بأن حكومته أصدرت تعليمات إلى قنصلها الچنرال بمصر، مفادها إخطار الخديو «بأن الحكومة الإمبراطورية تعتبر المرسوم الصادر، في 22 أبريل الماضي، الذي نظمت الحكومة المصرية بمقتضاه على هواها شئون الدين، فألغت به حقوقا قائمة ومعترفا بها، مخالفة صريحة رأسية للتعهدات الدولية المعقودة عند الاتفاق على إنشاء الإصلاح القضائي، وتعتبره بالتالي خاليا من كل ملزم قانوني فيما يتعلق باختصاص المحاكم المختلطة، وحقوق رعايا الإمبراطورية، وتعد الخديو مسئولا عن كل نتائج أعماله غير الشرعية.»
فبلغ القنصل الألماني هذا الإخطار إلى الخديو في 18 مايو، وما كان من باقي الدول الأوروبية الكبرى إلا أنها اقتدت بعمل ألمانيا، فقدم القنصل النمساوي الاحتجاج عينه إلى (إسماعيل) في اليوم التالي، وقدمه له السير فرنك لاسل في 8 يونية، والمسيو تريكو (وكان نائبا عن المسيو جودو القنصل الفرنساوي) في 12 منه، والقنصل الروسي في 14 منه، والقنصل الإيطالي في 15 منه.
فالنهاية كانت إذا قد دنت، ولم يعد منها مفر، وأشارت الدولتان في اليوم التالي على (إسماعيل) عرفيا بالاستقالة من كرسيه، فأبى.
فلما كان اليوم التاسع عشر من شهر يونية طلب قنصلا فرنسا وإنجتلرا - بناء على التعليمات الواردة لهما من دولتيهما - مقابلة الخديو، وبلغاه ما يأتي «إن الحكومتين الفرنساوية والإنجليزية متفقتان على الإشارة على سموك رسميا بالاستقالة، ومغادرة القطر المصري، فإذا اتبع سموك هذه النصيحة فإن الحكومتين ستعملان معا على منحك مرتبا سنويا موافقا كافيا، وعلى حفظ نظام الوراثة الذي بمقتضاه سيخلف الأمير محمد توفيق سموك على العرش المصري، ولكنهما لا تخفيان سموك أنك إذا رفضت التنازل، وأجبرتهما على مخاطبة السلطان رأسا، فإنك لن تستطيع الاعتماد على تعيين راتب سنوي لك، ولا على حفظ حق الوراثة للأمير محمد توفيق.»
وأرسل اللورد سلسبري في الوقت عينه رسالة إلى السفير فرنك لاسل أوضح فيها الأسباب التي حملت الحكومة البريطانية على اتخاذ هذه الخطة، فقال: «إنه لا يمكن الرجوع بالنظر إلى الحوادث التي انتهت بصرف الوزيرين الأوروبيين بدون البلوغ إلى الاعتقاد بأن الخديو لم يقبل أبدا بإخلاص تحديد سلطته، التحديد الذي اقترحته المندوبية، وأنه كان مصمما تصميما أكيدا على استعادة كل حقوق تاجه، حالما تتحقق الأغراض الوقتية التي رمى إليها بالقبول الظاهري الذي أبداه.
إن الحكومتين منحتا سموه وقتا كافيا ليقيل كل عثرة سابقة، وليعود فيما لو أراد إلى محجة الإصلاح المبينة من المندوبية الدولية، فرفض الانتفاع بذلك، واستخدم المهلة الممنوحة له لتجديد الاغتصابات والقسوة، التي كانت خزينته تملأ بموجبها في الماضي، فلم يعد أمام الحكومتين - والحالة هذه - طبقا للإنذار، الذي بلغتاه إلى سموه في 25 أبريل، سوى اعتبار الخطة اللازمة للدفاع عن مصالحهما في مصر، ولضمانة حسن الحكم للبلد.
فمن الواضح أن الأدوية لشفاء سوء الحكم المقترحة لغاية الآن قد جربت ولم تنجع، ولم يعد من شأن أي محاولة مستقبلة من جهة الدول، لمساعدة الخديو على اجتناب عواقب إدارته الرديئة، سوى إشراك هذه الدول في المسئولية الناجمة عن تلك الإدارة، فإن الحوادث دلت دلالة كافية على قدرته على تخييب كل مشاريع الإصلاح، وتصميمه على استعمال هذه القدرة.
فلو كانت مصر قطرا لم تشترك الدول في تاريخه الماضي، أو كان في استطاعتها أن لا تهتم لنصيبه في المستقبل، فإن خير خطة لهن كانت تكون التنازل في هذا الموقف عن كل اهتمام بالعلاقات الكائنة بين الحاكم المصري ورعاياه.
ولكن هذا غير ممكن، على الأقل لإنجلترا، فإن موقع مصر الجغرافي، وكون عمل الحكومة الإنجليزية في الماضي يجعلها مسئولة عن الأحوال الحاضرة التي مصر بموجبها دولة، يحولان دون تركها وشأنها.
فنحن ملزمون - واجبا ومصلحة - ببذل ما في وسعنا لوضع حد لسوء الحكم، قبلما يؤول إلى الخراب المادي والفوضى العديمة الدواء، التي دل مثل دولة شرقية أخرى إنها المصير المؤدي إليه حتما كل حكم سيئ.
فالشر فيما يختص بمصر، لم يبلغ حدا لا يمكن إيقافه إلا بإجراء تغييرات صغيرة المدى وسريعة الوقع، فإن العقبة الوحيدة القائمة دون الإصلاح توجد - على ما يظهر - في أخلاق حاكمها، فضيقه المالي يكاد يؤدي حتما إلى ظلم، وسوء نيته، وعدم إخلاصه في وعوده؛ يخيبان كل مجهودات صديقتيه لمداواة الشر، فلم يعد هناك شك - على ما يخال لنا - في أن تغيير السياسة الداخلية في القطر المصري ليس في الاستطاعة إلا بتغيير الحاكم.
فقد يكون من واجبات الدولتين الغربيتين طرح هذه الاعتبارات أمام نظر السلطان الذي يدين الخديو لسلطته للفرمان الصادر إليه منه، ولكنهما قبل خطو خطوة هذه خطورتها قد ينجم عنها نكبة هائلة، ليس فقط للخديو، بل ولأسرته، تريان من العدل، أولا: إبلاغ الخديو النتيجة التي وصلتا إليها، لتمكينه من الانسحاب بشروط شريفة وموافقة، من مركز أصبح خلفه وماضيه يجعلانه غير كفء له.»
فلم يكن بلاغ القنصلين مباغتة (لإسماعيل)، لأن عميله في الأستانة كان قد أنبأه بأن سفارتي الدولتين تهيئا المسألة مع الباب العالي، وأن الدولة التركية بعد قبول الهدايا المرسلة مع طلعت باشا لم تتأخر لحظة عن تضحية مولاه المصري تحت أقدام أعدائه.
ولكنه - اكتسابا للوقت - التمس مهلة يومين ليفكر في الأمور مع مستشاريه قبل الإجابة في موضوع خطير كهذا.
فلما مر اليومان أتاه القنصلان مستفهمين مرة أخرى، فأجاب أنه عرض الأمر كله على السلطان، وأصبح ينتظر جوابا منه.
وكان المسيو تريكو من أشد أعداء (إسماعيل) وطأة عليه، وعمل ما لا يعمل لتبليغ الدولتين إلى قرارهما بعزله، وقال لأحد أصحابه: أنه لا يهدأ له سر ولا ضمير إلا متى رأى ذلك العاهل مقالا من عرشه.
فلما سمع جواب (إسماعيل)، ضج وعج، وقال بتهكم: «ومنذ متى وفقت بين سيرك ورغائب السلطان؟ فقد تصرفت أكثر من عشرين مرة ضد رغائبه.»
ولم يكن (إسماعيل) يجهل عداء المسيو تريكو له، فالتفت إليه مقاطعا، وقال: «ألا إني أتحداك يا هذا، أذكر مرة واحدة إذا استطعت.»
فصعق تريكو، ولم يحر جوابا، فهب السير فرنك لاسل، وكان رجلا طيب السريرة، ومتأثرا شديد التأثر للنكبة التي حلت بذلك الرجل النابغة، وقال له بلطف: «يحسن بسموك يا مولاي أن تظهر استقلالا عن الأستانة، حيث إن الباب العالي قد يخدعك في نهاية الأمر.»
وكان (إسماعيل) يقدر شعور السير لاسل حق قدره، فالتفت إليه بلطف، وقال: «حيث إنك يا سيدي العزيز تنصحني بأن يكون أول استعمالي للاستقلال، الاستقالة من الخديوية، فإني لا أرى ما فائدتي من استعمال هذا الاستقلال.»
2
ولم يكن قول الخديو لهما أنه طرح المسألة أمام السلطان مجرد مراوغة، فإنه عرضها في الحقيقة على الأستانة في أمل الحصول على تعضيد منها، وحمل من تكلم هناك في مصلحته، وبذر في قلب السلطان الخوف من أن تفتات الدولتان الغربيتان على حقوقه، وكان الأمل بدأ يبزغ، في الواقع، وأخذ السلطان يتردد في هل يجيب طلب الدولتين أم لا.
ولكن الدول الأوروبية أظهرت اتحادا وإجماعا في الرأي، فانضمت ألمانيا والروسيا والنمسا وإيطاليا عينها في آخر الأمر - وكان ملكها ڨكتور عمانوئيل الثاني، صديق (إسماعيل) الحميم، ومدينه بمبالغ هائلة قد مات، لسوء الحظ، منذ سنة - إلى الدولتين الغربيتين في مطالبة الخديو بالاستقالة، وأقبل سفراؤها في الأستانة على استعمال لهجة الشدة لمنع السلطان من تعضيد الخديو.
فلما تيقن (عبد الحميد) أن الأمر حتما نافذ، فضل أن يصدر العزل عنه بدلا من أن يكون نتيجة عمل تقدم عليه تانك الدولتان.
ففي ليلة 24 يونية، وصل للمسيو تريكو خبر من الأستانة، مؤداه أن الباب العالي قرر عزل الخديو وتعيين (حليم باشا) مكانه، فمع أن الساعة كانت تجاوزت نصف الليل، هب المسيو تريكو، والسير فرنك لاسل، والبارون سورما، القنصل الألماني العام، وتوجهوا إلى سراي عابدين، وطلبوا مقابلة الخديو في الحال.
فلما عرف في دار الحريم أن الأوروبيين يطلبون مقابلة الخديو في تلك الساعة من الليل، وقع الصوت وقامت القيامة، وعجت الدار بمن فيها عجا لا يوصف، وخافت سمو الوالدة أن يكون هناك مكيدة ضد حياة ابنها، فرجته بعدم الخروج، ولكنها لما علمت أن الأوروبيين إنما هم قناصل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وأن شريف باشا صحبتهم، أدركت أنه لم يكن ثمت من خطر، ورضيت أن يقابل (إسماعيل) زائريه.
3
وكان سموه منفعلا جدا، وظهر للسير لاسل كأنه لا يدري ما النبأ، فلما ألح عليه القناصل بوجوب الاستقالة، أظهر تكدرا من أنهم أقلقوه في ذلك الوقت غير المناسب، وأصر على الرفض.
ولما كان اليوم التالي يوم 25 يونية، رأى الخديو أن يقابل القوة بالقوة، إن لم ينجح بالتمسك بحقوقه تمسكا أدبيا، فأمر، فأعد مشروع مرسوم يرفع عدد الجيش المصري إلى مائة وخمسين ألف رجل، وتنوقش، في حضرته، في أمر تغريق الأراضي المحيطة بالإسكندرية؛ لمنع الأعداء من التقدم إلى داخلية البلاد، ثم أرسل، فاستدعى إليه كبار ضباطه، واستوثق من إخلاصهم وولائهم، ولكنه وجد منهم فتورا، وقرأ التردد على وجوه معظمهم، وعزم التخلي عنه على وجوه البعض، وأكد له أحد المخلصين إليه أنه لا ينتظر أن يقوم الجند المصري بنصرته، إذا كان العزل بإرادة سلطانية.
فأدرك أن اللعبة ضاعت، وأن الأمر قد قضي، وأقبل يستعد للرحيل.
الفصل الثالث
قضي الأمر1
عددتك ممن حوته القبور
وإن كنت ألقاك في الناس حيا
فاختار من نساء حريمه أقربهن إلى قلبه، وجمع من الكل حليهن ومصاغهن - وكان ثمنها شيئا كثيرا - واستدعى عدة من صائغي الأقباط، وأقامهم بعابدين يشتغلون ليلا ونهارا في نزع الحجارة والفصوص الكريمة ليسهل نقلها والتصرف فيها، وجرد السراي من كل رياشها الثمينة التي كانت ملكه الشخصي ، لا ملك الحكومة، ومن آنيتها الذهب الخالص والمرصعة - وقدر ثمنها بثمانمائة ألف جنيه - ومن كل طنافسها القديمة، وأثاثها الفاخر، ولوحاتها ونجفاتها الفضية، ولم يبق لخلفه من الأربعة والعشرين طاقم سفرة الفخمة الموجودة فيها سوى طاقمين، وكانا أقلها قيمة - وأرسل جميع ذلك، ما عدا نسائه، إلى الإسكندرية في صناديق مقفلة، ذهب بها حالا إلى ظهر يخته «المحروسة» تحت حفظ حفظة مؤتمنين.
2
وقال لسان النميمة - الذي لم يترك عملا من أعمال حياته إلا ونفث عليه سمومه - في إحدى جرائد الإسكندرية، أنه بذل مجهودا أخيرا لجمع أموال من الأقاليم، وأنه وضع يده على كل النقود التي كانت موجودة في خزينة المالية، وقدرها ما بين 200 و300 ألف جنيه، وغنمها لنفسه، وفات ذلك الأفاك أن (إسماعيل) كان أدرى الناس بأنه لو فعل ذلك لعرض نفسه إلى حجز الدول والحكومة المصرية ذلك المبلغ من مرتبه السنوي، فلا يكون قد جنى إذا من عمله سوى العار اللاصق به والسخط العام.
وفي تلك الأثناء كانت الدوائر الرسمية الأوروبية في الأستانة قد نجحت في ضغطها على الأستانة، وأجبرت السلطان على تنفيذ عزمها، وتعيين الأمير محمد توفيق، لا الأمير عبد الحليم باشا، خديو على مصر. ففي صباح اليوم السادس والعشرين من شهر يونية أبرق السير لايرد سفير إنجلترا بالأستانة إلى وزارة الخارجية البريطانية، منبئا بصدور الإرادة السلطانية القاضية بعزل (إسماعيل)، وتعيين (توفيق) مكانه.
وفي ضحى اليوم عينه، جيء ببرقية محررة باللغة التركية ومعنونة هكذا «إلى إسماعيل باشا، خديو مصر سابقا» إلى حجرة زكي باشا السر تشريفاتي خديوي، بالدور الأرضي من سراي عابدين، حيث تصادف وجود خيري باشا المهمندار وحافظ الأختام السنية، وعدة من كبار الموظفين، فأسقط كلهم في أيديهم، وعلا الاصفرار والاضطراب جباههم جميعا.
ولما كان أي إنسان في الشرق يأنف من أن يكون أول حامل لنبأ مكدر، فإن زكي باشا رفض الذهاب بالبرقية إلى سمو الخديو في الدور الأول، وأصر على أنه في مثل هذا الأمر الخطير لا يليق أن يقوم بتلك المأمورية سوى المهمندار، ولكن خيري باشا أبى، وقال بإلحاح: إنه من الظاهر أن هذا شأن أحد الوزراء، لا شأنه. وبينما الموظفان يتنازعان في ذلك، قدم شريف باشا، فسلمت البرقية إليه، فتردد هو أيضا، ولكنه كان وزير مصر الأكبر، وواجبه يقضي عليه بالتبليغ، ولم يكن بالرجل الذي يحجم أمام صوت الواجب، مهما كان العمل شاقا على نفسه، فحمل الإشارة البرقية، وذهب بها إلى (إسماعيل). ففضها، وإذا بها من الصدارة العظمى بالأستانة وفحواها «إن الصعوبات التي نجمت أخيرا، في أحوال مصر الداخلية والخارجية، بلغت مركزا عسيرا، وقد ينتج عن استمرارها كما هي خطر لمصر وللدولة العثمانية. ومن أهم واجبات الحكومة السلطانية إيجاد الوسائل لتقرير الطمأنينة والأمن والرفاهية بين الأهالي، وإنما صدرت الفرمانات لهذه الغاية عينها. فبما أنه قد ثبت أن بقاءكم في منصب الخديوية لن ينجم عنه سوى مضاعفة الصعوبات الحالية، وزيادتها خطورة، فجلالة مولانا السلطان بناء على تداول مجلس وزرائه، قرر تعيين صاحب السعادة محمد توفيق باشا في منصب الخديوية، وأصدر إرادته الهمايونية بذلك، وقد أبلغ هذا القرار السامي إلى سعادته بإشارة برقية على حدة، وعليه فإني أدعوى إلى التخلي عن شئون الحكم طبقا لأوامر جلالة السلطان.»
فقرأ (إسماعيل) ذلك المنطوق الذي قضى بموته سياسيا، بثبات وهدوء جديرين بالإعجاب، كأنما هو يقرأ أقل تلغرافات روتر أو هافاس أهمية، ثم التفت بسكون إلى شريف باشا وقال «أدع سمو توفيق باشا حالا.»
فخرج شريف باشا من حضرته ليقوم بنفسه بالبشرى كما قام بنبأ العزل، على أن أسلاك التلغرافات كانت قد أعقبت بأسرع ما أمكنها البرقية المرسلة إلى (إسماعيل) ببرقية أخرى أرسلها الباب العالي عينه إلى (توفيق)، فسلمت إليه في قصره بالإسماعيلية، ففضها، وإذا بها من الصدر الأعظم أيضا، وفحواها: «إن جلالة مولانا السلطان قد أصدر إرادته الهمايونية بتعيينك خديو مصر، وسوف يرسل لك الفرمان الشاهاني بالكيفية الرسمية المعتادة، وقد كلف (إسماعيل باشا) بتلغراف آخر بالانسحاب من شئون الحكومة، فيلزمك بناء على ذلك، حالما تصل هذه البرقية إليك، أن تستدعي جميع العلماء، والموظفين، ووجهاء البلاد وأعيانها، ومستخدمي الحكومة، وتبلغهم مضمون الإرادة الشاهانية الخاصة بتعيينك، وتباشر شئون الحكم حالا، فإن هذا التعيين السامي العادل مكافأة لكفاءتك، وسيكون ارتقاءك السدة الخديوية بدء عهد نظام ورقي يسود على القطر الملقاة زمام شئونه إلى حكمتك.»
والبرقيتان كانتا مؤرختين 6 رجب سنة 1296 و26 يونية سنة 1879.
فوجد شريف باشا الأمير محمد توفيق وهو على وشك الركوب في مركبته، فتخلى شريف باشا عن العربة التي أتى فيها، وركب صحبة الخديو الجديد، وعاد معه إلى عابدين.
ففي الطريق سلمه (توفيق)، بسكوت، البرقية الواردة إليه، فقرأها شريف وقال: إن المناداة به خديويا على مصر، المنصوص عليها في تلك الإشارة التلغرافية، يجب أن تتم بعد ظهر ذلك اليوم عينه في قلعة الجبل.
ولما وصلا عابدين، بقي شريف في الدور الأرضي، وصعد (توفيق) إلى حيث كان أبوه في انتظاره. وحالما دخل الغرفة التي كان (إسماعيل) جالسا فيها بصحبة أفكاره وشجونه مذ تركه شريف، ووقعت عين والده عليه، نهض (إسماعيل) وتقدم للقياه، وأخذ يده ولثمها قائلا: «إني أسلم على أفندينا»، ثم قبله على وجنتيه، وتمنى له أن يكون أوفر حظا وأكبر سعادة من أبيه، وبعد ذلك انحنى أمامه، ودخل دائرة حريمه، تاركا لابنه، المتأثر تأثرا عميقا، منصبه وقاعة عرشه.
3
ولما كانت المناداة السريعة بالخديو الجديد شيئا مرغوبا فيه، اتقاء لكل طارئ، استدعى جمهور من أوصت إشارة الصدر الأعظم البرقية باستدعائهم إلى القلعة، وقرئت عليهم الإرادة السلطانية، فدوت المدافع كالرعد معلنة لمصر، والقطر كله أن (محمدا توفيقا) أصبح دون غيره، خديو مصر.
فاستقبل الخديو الجديد بعد ذلك وفود المهنئين، من قناصل وكبار موظفين وأعيان، ووجوه وعلماء ورءوس أديان، في القاعة عينها التي كان أبوه قابلهم فيها، منذ نيف وست عشرة سنة، ووعد جموعهم بأنه سيبذل جهده ليجعل البلاد سعيدة.
فلما كان المساء أخطر (إسماعيل) ابنه بأنه يرغب في مغادرة القطر يوم 30 يونية (فأنبأ السير لاسل بذلك وزارة الخارجية البريطانية)، ولكنه لم يعين وجهة السفر.
فقد كان يرغب في أن يقيم في الأستانة، وإلا ففي أزمير، لكي يكون في بلاد ملائمة لطريقة معيشته الشرقية، واستأذن السلطان في ذلك .
ولكن (عبد الحميد) - ولم تكن قدماه قد ثبتت بعد على عرش أجداده - خاف جيرته، وأبى أن يقدم له الضيافة في بلاده، وربما خاف أيضا وخزات ضميره، لأنه بعد خلع (إسماعيل) أخذ يفكر في إلغاء جميع الامتيازات التي كانت منحت له، كأنما النقود التي اشتريت بها لم يكن لها حساب، وكأنه يصح بقاؤها في خزينة الدولة العلية مع استرداد هذه البضاعة التي باعتها في نظيرها.
فعلم ملك إيطاليا رفض (عبد الحميد)، فأسرع ووضع تحت تصرف صديق المرحوم أبيه قصرا من قصوره في ضواحي نابولي.
فقبل (إسماعيل) ضيافة الملك أمبرتو، وفي اليوم الثلاثين من شهر يونية - بعد أن سفر أثقاله في قطار سابق، وودع حريمه الباقي الوداع الأخير، ويقال إن حزن السيدات اللواتي تخلى عنهن بلغ مبلغا يفوق التصور، وأنهن في غضبهن على عدم اصطحاب سيدهن لهن كسرن عدة أوان ثمينة، ومراءات بما بلغ قيمته 8 آلاف جنيه - قام من سراي عابدين في ساعات بعد الظهر الأولى إلى المحطة، صحبته المختارات من نسائه وجواريه، وولديه حسين وحسن - أما إبراهيم فكان في إنجلترا ، وأما فؤاد - ملكنا المحبوب - فكان لا يزال صبيا لا يتجاوز الحادية عشرة - وحاشيته قليلة، وكان قد أظهر رغبته في أن لا يتخذ سفره شكلا رسميا، فلم يكن إذا على المحطة في انتظاره أحد من الدوائر الرسمية الأجنبية، ولكن جمهورا كثيفا من الأهالي كان قد ازدحم حولها ليستجلي وجه أميره المسافر مرة أخيرة، ووقفت في الخارج أيضا عربات تقل سيدات الحريم المتخلى عنهن، وكانت داوية بولولتهن وندبهن.
فلما بلغ (إسماعيل) المحطة، ودنت ساعة السفر، عانق ابنه (توفيقا) عناقا أخيرا، وقال له، وهو مجهش للبكاء: «كنت أود يا أعز البنين، لو استطعت أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك ارتباكا، على أني واثق بحزمك وعزمك، فتوص بإخوتك وسائر الآل برا، واتبع رأي ذوي شوراك، وكن يا بني أسعد حالا من أبيك.»
ثم التفت إلى جمهور الحاضرين، وقال: «إني، وأنا تارك مصر، أعهد بالخديو ابني إلى ولائكم وإخلاصكم»، فتقدم (محمد توفيق) حينذاك ، وقبل يد والده، واستودعه، واستودع إخوته المسافرين معه، الله.
فكان المنظر مؤثرا للغاية، ولم يستطع إلا القليل من الحضور منع بكائهم.
ثم قام القطار، وإذا بمجموعة زغاريد ماجت في الآفاق مودعة له بتهكم، فاستوقفت البحث والاستفهام، فعلم بأنها صادرة عن نساء المفتش إسماعيل صديق، وأنهن أردن بها الشماتة بالخديو المخلوع، والانتقام منه.
ولكن المسالمين حملوها على أنها إنما كانت ابتهاجا بتبوء الخديو الجديد عرش أجداده نهائيا.
وليت شعري، من يدريني ماذا كانت الأفكار المتجولة في رأس (إسماعيل)، بينما كان القطار يقطع المسافة بين العاصمتين المصريتين، وتتوارى عن أعين المسافرين مئذنتا جامع القلعة المناطحتان السحاب، وقباب مصر التاريخية، وجبال الأهرام الراسخة، وبينما كانت تنفرد أمامها سهول الدلتا الخصبية. هل اصطحبت تلك الأفكار بأمل؟ أم لم يجسر الأمل عينه على الوقوف إزاء اعتقاد (إسماعيل) أن تلك إنما هي آخر مرة يرى أرض مصر المحبوبة، ويجول بناظريه في آفاقها؟
ولما بلغ القطار محطة الإسكندرية، ركب (إسماعيل) ومن معه عربات مقفولة، وساروا إلى الترسانة، ومنها في زوارق إلى ظهر «المحروسة»، وكانت في انتظارهم ، وكان ظهرها مكتظا بذوي المقامات الرفيعة، وكبار الجاليات الغربية، الآتين لتوديع الخديو الأول، وداعا أخيرا، اعترافا منهم بما كان (لإسماعيل) من المنزلة في القلوب، بالرغم من كل المطاعن التي وجهها إليه أعداؤه.
فقابلهم (إسماعيل) جميعا بلطفه المعهود، وأظهروا هم له من الاحترام والتبجيل ما ذهب مباشرة إلى فؤاده، وأهاج العواطف فيه، ولكنه تجلد. وبالرغم من ظهور آثار الانفعالات النفسانية على وجهه، قاوم عواطفه، فقال لكل من مودعيه كلمة لطيفة، وعبارة شكر جميلة، مصحوبتين بابتسامة صافية، وصافح بصداقة كل من كان قريبا منه.
غير أن موجة العواطف ما زالت تدفع بنفسها في قلبه حتى خاف تفجرها علنا، فاستأذن الحاضرين ودخل مخدعا فسيحا، ليخفي مساورتها له، ففارقه المودعون، ولم تمض بعد ذلك نصف ساعة، إلا ورفعت «المحروسة» مراسيها، وأقبلت تمخر مبتعدة عن الشاطئ.
فأطلقت طابية نابوليون (كوم الناضوره)، والسفينة الإنجليزية «ريوپرت» الراسية في الميناء مدافعهما تحية للمسافر، وإجلالا له فكان ذلك آخر إكرام قدم له في مصر.
وما زالت «المحروسة» تبتعد بين أزرقي البحر والسماء المنكسر عليهما ذهب الغروب المقترب حتى توارت عن الأنظار، ومع تواريها غابت الشمس.
هكذا انتهى حكم (إسماعيل) على مصر.
فهل قصد أن يتحد غروبه مع مغيب الشمس، أم هي الأقدار الغريبة التي دبرت ذلك؟ •••
والآن، وقد فرغنا من سرد ترجمة هذا الرجل الفريد إلى أن غادر القطر المصري مغادرة لم يعد بعدها إليه إلا محمولا على أكف ملائكة الموت، ربما حسن بنا أن نلقي نظرة على حياته التالية، لتكون كلماتنا عنها ختاما لهذا الجزء من مؤلفنا. فنقول لما وصلت به «المحروسة» إلى نابولي، بقي مقيما على ظهرها خمسة عشر يوما، كأنه وهو يعتبرها جزءا من مصر، وقطعة منها، يعز عليه أن يفارقها، ويود أن يطيل إقامته عليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ولهذا الغرض عينه وقع في خلده أن يعدها جزءا من أملاكه الشخصية، ومتاعه الخصوصي، ويبقيها في حوزته، ليشم فيها أبدا رائحة الوطن البعيد، فبعث يطلبها من الحكومة الخديوية، فأبتها عليه، وأنذرته إن لم يعدها أوقعت حجزا على مرتبه السنوي، فاضطر (إسماعيل) إلى التخلي عنها، وقلبه يتفطر مرارة.
فنزل إلى البر، وأقام في نزل بضعة أيام، ريثما يجهز له قصر الفاڨوريتا بپورتيتشي بضواحي نابولي، الذي وضعه الملك أمبرتو تحت تصرفه، ثم انتقل إليه بأزواجه وأولاده ونسائه وحاشيته.
ومع أن البلد من أجمل بقاع الأرض، والسماء الصافية تشبه سماء مصر اللازوردية، والخليج الزمردي المحيطة به الربى من أبدع المناظر البحرية، والجيرة ربوع زاهرة ومناظر شائقة، ويتبرج عليها كلها جبل الڨيزوڨ المعقود على قمته تاج نار أبدي، ومع أن السكون، لا سيما في كل مساء، يخيم بجلال على الطبيعة المحيطة بأسرها، فإن (إسماعيل)، في حنينه إلى الوطن المحبوب، لم يستمرئ شيئا من حلاوة الإقامة، وما فتئ متنقلا بين روما وباريس ولندن وڨيينا، عاملا على نيل أمنية الرجوع إلى العرش المصري الذي خلت منه رجله، لا سيما بعد أن أخذت الصعوبات تشتد حول شباب (توفيق) ابنه، واتضح له أن البلاد في حاجة إلى يد قوية تقود زمامها، وإلا ذهبت ضحية الدسائس وفريسة المطامع.
على أنه - بالرغم من بعض تعضيد وجده في روما وباريس - في بعض الدوائر التي كانت لا تزال تذكر حلاوة الأيام التي رأت نوبار ساعيا لنيل أرب لمولاه، لم يجد تشجيعا من الدوائر الرسمية إما لأن النجم إذا أفل مرة بات من المتعذر رجوعه إلى سمت مجده الأول، وإما لأن أعداءه كانوا كثيرين وأقوياء، ولا يزال نفوذهم متفوقا عند أصحاب الأمر في تلك العواصم.
وكانت أشد الدول صمما إنجلترا، ولو أن (إسماعيل) ألفى من بعض أعضاء برلمانها، وبعض رجال صحافتها ترحيبا، وتعضيدا، وشد أزر.
فلما سقط عرابي، واستولى الجيش البريطاني على قلعة صلاح الدين، أقبلت الدوائر الرسمية تتفاوض فيما يجب عمله، أيوضع القطر تحت حماية إنجلترا، ويبقى (توفيق) على عرشه في ظل سيوف البريطانيين - وهذا ما لم يكن ليرضي أوروبا، ولا الأحرار من الإنجليز، ولو أن إرسال الجيش البريطاني إلى مصر، عقب ضرب الأسطول البريطاني الإسكندرية، كان من عمل الأحرار لا المحافظين - أم يعاد إسماعيل إلى عرشه تحت رقابة أوروبا الشديدة عليه.
فلولا أن الدائنين قاموا يبدون سخطهم على هذا الحل الأخير، ويمانعون فيه، وينذرون بالويل والثبور إذا أخذ به لكانت أوروبا، في الغالب، وافقت عليه، وأعادت (إسماعيل) إلى وطنه وعرشه، لا سيما أنه أبدى وعودا صادقة، وعاهد عهودا أكيدة بأنه يسير كما تريد الدول أن تسيره، ويقبل بأي شرط يعن لها أن تشترطه عليه.
4
وبالرغم من أنه قضى بعد ذلك سنين عديدة، وهو يجتهد اجتهادا عنيفا في تحويل تيار السخط عنه، أو تحويل تعضيد الحكومات عن مدائنيه، فإنه لم يفلح، وما نال سوى نفور ابنه الخديو (توفيق) منه، وتنكبه عن مساعدته أكثر من ذي قبل.
على أن كبار القوم في البلاد الأوروبية ما انفكوا مقبلين عليه، موالين له الصداقة القديمة طوال ما رأوا بصيص أمل في تحقيق مسعاه. فلما تأكدوا أن لا أمل، وأن خيبة مساعيه باتت لا دواء لها، أداروا له ظهورهم، ونسوا أنه هو الذي كان، إذا ما نزلوا عليه ضيوفا بمصر، وضع أرض مصر ونيلها وسماءها تحت خدمتهم، ولم يشذ في معاملة جمهور كبراء الغرب له إلا القليلون.
فلما زار لندن آخر مرة أناخ رحله في نزل وضيع بأرلنجتن ستريت - يا لتقلب الحدثان! ويا لغدر الأيام! وكذلك وقع له لما ذهب إلى باريس وڨيينا، اللتين كانتا ترتجان طربا في الماضي، حينما تطأ قدماه أرضهما.
ألا ما أصدق ما قاله بيكن، الفيلسوف الإنجليزي، حيث هتف «من يقدر أن يرى أياما أسوأ من الأيام التي يراها امرؤ يتبع، وهو حي، جنازة شهرته ومجده؟»
فنفض (إسماعيل) غبار قدميه في وجه تلك العواصم الجحودة، وعاد إلى قصر الفاڨوريتا، وليس له مقصد سوى تحسين معاشه مع الحكومة المصرية، والذهاب بعد ذلك للاستراحة من عناء هذا العالم على ضفاف البسفور، إذا ما صرح له السلطان بذلك.
فكلف وهو في لندن المرة الأخيرة المستر مريوت المحامي العمومي، بمقاضاة الحكومة المصرية، ومطالبتها ببعض أملاك له، أو ما يوازي قيمتها.
فأتى مريوت إلى مصر، ولما لم يجد من الخديو (محمد توفيق) معاكسة ما، نجح بسهولة في مهمته، ونال ما أصبح (إسماعيل) معه مستقلا عن الأمير ابنه وحكومته المصرية الاستقلال كله.
فكافأ محاميه، كما كان معتادا أن يكافئ من يخدمه بإخلاص، أي مكأفاة ملك، وأعطاه 35 ألف جنيه أتعابا له.
ثم أقبل يلتمس من السلطان التصريح له بالذهاب إلى قصره بأميركون، والإقامة فيه، فرأى (عبد الحميد) أن يجيب طلبه، لا ليوليه فضلا، ولكن ليضعه تحت يده.
ولم ينتبه (إسماعيل) إلى عواقب الخطوة التي صمم عليها.
فما صرح السلطان له بالإقامة على ضفاف البسفور حتى أسرع إلى سرايه بأميركون سنة 1888 قبالة سراي عمه عبد الحليم، وظن أنه نال أكبر أمنيات قلبه.
ولكنه نسي، أو ربما لم يكن يعلم أن (عبد الحميد) مولى تسوده الظنون، وتملك الريب في الناس زمام أمره، لأنه - والحق يقال - ما كان اختلط به، ولا زار الأستانة منذ أن أغمضت عينا (عبد العزيز).
فما حلت ركابه بقصره الفخيم، إلا وأحاط به الجواسيس، ولم يعودوا يفارقون حركاته وسكناته، وإنا ، وأيم الحق، لا ندري لماذا، ولا ماذا كان السلطان يخافه من ضيفه الوحيد.
فشعر (إسماعيل) أنه إنما ورد في الحقيقة حبسا مذهبا، ولولا أن الحياة في ديار الإسلام كانت تحلو له، ولو بضيق أكثر من الحياة في بلاد الغرب، ولو بحرية مطلقة، لما تعزى على تركه نابولي وجمالها ودلالها، وإبدالها بالبسفور، حيث الليل مملوء جرائم، والنهار مملوء دسائس.
ولكنه أتى عليه يوم احتاج لعلاج صحته أن يذهب إلى الاستحمام بمياه إمس، فطلب من السلطان أن يأذن له بذلك، فذكره (عبد الحميد) بأنه يوجد في الأناضول على مسيرة بضع ساعات من الأستانة، بلد يقال له: «بروصا» شهير بمياهه المعدنية، وأنه هو (إسماعيل) عينه، سبق له الذهاب إليه، أيام أن كان خديو مصر، والاستحمام في مياهه، وأنه فضلها في ذلك العهد على حمامات أوروبا بأسرها. فما وسع (إسماعيل) إلا العدول عن الذهاب إلى إمس.
على أن كل المضايقة التي أحاطه بها (عبد الحميد) لم تمنعه من رغبة الخير لتركيا، فما فتئ في جانب مصلحتها عاملا على ما فيه خيرها، مظهرا ميله إليها، وعطفه عليها، إلى آخر لحظة من حياته، كأنه بعد أن ضاعت منه مصر، وعز عليه الرجوع إليها، اتخذ أرض العثمانيين وطنا ثانيا له، وتمثل بقول الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام
على أن حياته السياسية كانت قد انتهت، وبات لا يعيش إلا مع ذكر الماضي وذكراه.
وقد قابله في قصره هناك حفيده (عباس الثاني)، في زيارته الأولى للأستانة، فسر (إسماعيل) به كثيرا، ويقال: إنه التمس منه الاستئذان له بالعود إلى مصر، لأن حنينه إليها بات لا يحتمل.
ولكن (عباس الثاني) لم يفعل، إما لعدم رغبة منه مبنية على تخوف من جده، وإما لسهو مبني على عدم محبة له.
فاستمر (إسماعيل) في منفاه حتى أوائل مارس سنة 1895، إذ وافاه المنون بالأستانة في اليوم الثاني منه، وله من العمر خمس وستون سنة.
فنقل رفاته إلى مصر، واحتفل بدفنه في مسجد الرفاعي احتفالا مهيبا، سار فيه الخديو حفيده ، والأمراء أولاده، وعموم كبار دولته.
وهناك، هو راقد تحت أجنحة رحمة الله، بجانب الأميرة تفيدة هانم كبيرة أولاده، زوجة منصور باشا يكن، والأميرات زوجاته، في تربة فخيمة، يظلها من علي، قبر (محمد علي)، جده العظيم، المشرف عليه من علياء القلعة، كأنه يقول له: «ألا نم نوما هنيئا مرتاحا بعد كل العناء الذي ذقته في أيامك الأخيرة. نم، يا بني في أرض مصر التي إنما هي مدينة لك أكثر مما هي مدينة لي بأنها أصبحت في مقدمة أقطار الإسلام تمدنا وحضارة.»
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني
فالآن عدت وعادت مصر لي دارا
أبو الفتح كشاجم
الفصل الرابع
فصل أخير1
وصف (إسماعيل)
أما وقد سبق لنا وصف (إسماعيل)، حينما ارتقى عرش أبيه، فلننظر ماذا فعلت به الأيام، ولنر كيف كان حينما تخلى عن ذلك العرش.
أمست قامته التي كانت دون الربعة، تظهر أقصر مما كانت بسبب السمن الذي تراكم عليها، فجعل مشية صاحبها كأنها متدحرجة، واعرض صدره وثقل، واتخذت كتفاه وسعا هرقوليا، ولكن عبء الهموم أحناهما قليلا، وما فتئت لحيته المقصوصة قصا قصيرا تستدير حول وجهه المستدير، ولكن الفضة وخطت فيها الذهب، والذهب عينه جعل يميل إلى البرونز فيها وفي الشارب أيضا، والفم ما فتئ ثابتا والشهوة عليه مقيمة، وتقاطيع الوجه ما فتئت منتظمة، بالرغم من الأسارير التي خطتها يد السنين بقلم الشجون، ولكن اللون اقتم، والسكون كسا مجموع تلك التقاطيع بدل الحركة السابقة، أما عيناه فما فتئتا على عادتهما القديمة من نصف غلق تارة، ومن فتح إحداهما وإغماض الأخرى طورا، وما انفكت العين المفتوحة تسطع سطوعا لا يطاق، حينما يريد صاحبها استجلاء غوامض الصدور، وتضيء كبرق وامض.
على أن عموم وجهه بات كصفحة مخطوطة بالمداد الحساس لا يظهر، فلا يقرأ شيء عليها، إلا إذا أبرزت الانفعالات الكتابة. مثل نابوليون الثالث تماما، لتشابه الرجلين في الصفات القوية والضعيفة المتحاربة معا فيهما، ولو أن حزم (إسماعيل) وسرعة عزمه لم يكن لهما أثر عند نابوليون الثالث، رجل التردد المستمر.
وأما الصوت، فأمسى ضخما مملوءا ، يرن في السمع كأنه وقع الآلة المعروفة بالباريتون، ويخرج إلى المحادثين معاني مكسوة بتعابير جميلة، حتى متى كانت المعاني بسيطة وعادية، وما فتئ الابتسام الساحر المتجلي على الشفتين بين حين وحين يزيد في لطف تلك التعبيرات.
غير أن من نظر بتمعن حقيقي إلى وجه المتكلم، وتأمل الخطوط المخطوطة على جبينه العريض وفمه القوي، الدالة على أهواء شديدة، يضغط عليها بشدة متناهية، حالما يتيقظ المتكلم إلى دبيب هموم الحكم في وسط الأفكار الخفيفة، المعبر عنها بخفة كذلك، كان لا يسعه إلا أن يحكم بأن الرجل غير سعيد.
ولكنه لم يكن يسعه أيضا إلا الإعجاب بلطف الأخلاق ورقة الشمائل التي كان متحليا بها دوما، بالرغم من قلة هنائه الداخلي، والتي شهد بها كل من خدمه أو خالطه، وظهرت جليا في قلة الأحكام القاسية الصادرة في عهده.
فعلاوة على أنه لم يكن ليسمح أبدا لفمه أن يخرج قولا بذيئا، أو كلمة سافلة، أو لفظا قبيحا، فإنه كان ظريف المعشر، ميالا إلى المزاح، مكثارا منه في بعض الأحايين، على أن مزاحه كان في منتهى الخفة واللطف، لا يثقل على النفوس مطلقا.
من ذلك أن بعض قناصل الدول ألح عليه، أياما متتابعة، بأن يتفضل ويجود على أحد رجال تبعيته بمهمة يستطيع الرجل أن يستخرج منها مكسبا - وكان المتداول على الألسنة أن امرأة ذلك الرجل جميلة، وأنها لا ترفض أن تكون شفيعته لدى أصحاب الأمر - فأجاب الخديو القنصل إلى طلبه، وعهد إلى الرجل بتوريد ألفي زوج ثيران لجيشه، قائلا للقنصل «لست أشك في أن صاحبك ذو خبرة في الحيوانات ذات القرون.»
ومن ذلك أنه كان قد وقع نفور بينه وبين أحد قناصل الدول، واختصما، وكانت امرأة ذلك القنصل مغرمة بالمكاروني، نهمة في أكله، مقبلة عليه في الموائد بكيفية توجب الاشمئزاز، فتداخل بين الخديو والقنصل صديق، وما زال بهما حتى أصلح بينهما، فبعث (إسماعيل) لزوجة ذلك القنصل سوارا بديعا، ثمينا للغاية، للدلالة على رجوع المياه بينه وبين زوجها إلى مجاريها، فاستغرب الصديق عمله، وسأله «لم هذه الهدية الثمينة؟» فأجاب (إسماعيل) «ماذا تريد؟ فإنه كان لا بد منها، وإلا فوليمة أولمها لهما، ويكون المكاروني من ضمن أصنافها، لئلا يقال إننا لم نراع ذوق مدام القنصلة، على أني يا عزيزي أفضل الحرب على رؤية تلك المرأة، وهي تأكل المكاروني.»
2
ومن ذلك أنه كان يكره المقابلات الرسمية في الأعياد، لأن المحادثة فيها لم تكن تدور إلا على الطقس واختلافه بين مصر والإسكندرية، وكانت نفسه قد مجتها كثيرا، فاتفق في السنة الأخيرة من ملكه، وأيام أن كانت اضطراباته الداخلية في أشدها، أن قنصلا أتاه زائرا، وبعد التحية المعتادة شرع يتكلم في مسألة الطقس، وكان سياق الحديث العادي في هذا الموضوع أن الإسكندرية رطبة، وأما مصر فجافة، فقاطع الخديو عليه كلامه، وقال له: «إني أدري تماما، يا جناب القنصل، ماذا تريد أن تقول لي، فأرجوك أن تقيد في مذكرتك أني من الآن فصاعدا أعتبر مصر رطبة، والإسكندرية جافة»، فوقف القنصل منذهلا، ولما خرج من حضرته، قال لزملائه: «أظن أن سموه أضاع ذاكرته.»
3
على أن ذاكرة (إسماعيل) كانت حديدية، لا يمسح من لوحها شيء رسم عليه مرة. ولا أدل على ذلك من أن بعضهم في سنة 1875، حادثه يوما في شئون ترعة السويس، وذكر أمورا تتعلق بالمخابرات القنالية، خالفه (إسماعيل) فيها، ولكي يثبت له أن قوله حق، ومزاعم محادثه في غير محلها، ذكر له عشرين سطرا من مستند غير مهم كان قد قرأه منذ سنوات عديدة، فنقل الرجل الأسطر، ولما عاد إلى منزله راجعها، فإذا بها كما قالها (إسماعيل) حرفا بحرف.
4
ومن لطيف معاشرته أنه كان يحمل محادثه سريعا على التمتع براحته كلها، وعلى إزالة كل تهيب من نفسه، وكان يبذل جهده لكيلا يحس مخاطبه أنه ثقل عليه في الكلام، أو أنه لم يفهمه غرضه.
فمن ذلك أنه دعى ذات يوم شابا إنجليزيا من عائلة رفيعة، ولم يكن يحسن التكلم بالفرنساوية، إلى تناول طعام الغداء عنده، فأجهد الخديو نفسه إجهادا كبيرا ليتتبع حديثه، ويفقه معانيه - لأن الشاب كان يتكلم الفرنساوية بالإنجليزية - وأخذ يساعده على التعبير عن أفكاره، فدار الحديث على رجل معروف لدى الخديو، فأراد الشاب أن يقول: «إن الرجل اعتاد كذا وكذا، وهذا يعبر عنه بالإنجليزية بقولهم: “He has contracted the habit” ، فقال: “Il a contracté l’habit”
أي «ضيق ثوبه»، فقطب الخديو جبينه، وأجهد فهمه ليدرك معنى تلك الجملة، فلم يستطع. فقال: «نعم، إنه كان يلبس دائما ثوبا ضيقا»، وغير موضوع حديثه، وذلك لكيلا يحرج مركز ضيفه.
5
وكان في محادثته يسحر بلطفه كل من وجد معه، وإذا شاء صير أكبر أعدائه أصدقاء له ما داموا في حضرته. ولم يكن يجد صعوبة ما في حملك على التنازل عن آرائك والانحياز إلى آرائه، ما دمت تكلمه، ولو أنك بمجرد الخروج من حضرته تعود إلى صوابك، وترى أنه مخطئ وأنك على حق.
فيروى، من ذلك، أن أحد القناصل كان إذا قابله أظهر اتفاقه معه على كل شيء، فإذا ما خلا إلى نفسه وكتب إلى دولته كتب ضده، وكان إذا ما عاتبه (إسماعيل) على ذلك اعترف بخطأه، ووعده أن يصححه في رسالته التالية، ولكنه في رسالته التالية كان بدلا من التصحيح، يبالغ في الطعن، فحمل عمله هذا (إسماعيل) على القول لأحد أصدقائه «إني، رأيم الحق، لمندهش من تصرف حضرة القنصل، ولكني لست أرى له دواء، فإني لا أستطيع أن أجلس معه، وهو يكتب رسائله.» قال ذلك وتبسم، وكسر على عينه.
وكان يتدارك حالا أي خطأ يصدر منه في المحادثة، ويحوله إلى مصلحته. فمن ذلك أنه قدم ذات يوم إلى أحد كبار الكتاب هدية نقدية نفيسة ليحمله على الكتابة في فائدته، ولكنه ما كاد يفوه بالمقصود من تلك الهدية إلا وأدرك أن الرجل ليس ممن يشترون بالمال، فابتسم، وختم العرض بقوله: «وإني إنما أقول هذا لك لكي أستمرئ - ولو مرة واحدة في حياتي - لذة الرفض.»
6
ومن مميزاته أنه كان يدرك حالا أخلاق الناس، ويعامل كل واحد المعاملة التي هي أحسن وقعا لديه، من ذلك أنه لما أراد إنشاء معامل سكر في مزارعه في الصعيد، خاطب في الأمر بيوتا إنجليزية، وبيوتا فرنساوية، فأتاه وفد بريطاني ووفد فرنساوي، فقابل كلا منهما على انفراد. أما الفرنساوي، فاستمر الكلام معه أياما، وانشرح رجاله من سعة اطلاع (إسماعيل)، وإحاطته بكل دقائق الأمور، وأدهشهم منه اعتناؤه ببحث ذات دقائق اقتراحاتهم، اعتناء تاما. وأما الوفد الإنجليزي، وكان من منتشستر، فإنه تمم الشغل معه ببضع ساعات. فقال رجاله: «هذا رجل أقطع للشغل يوجد على غير شاطئ «الإرول».»، فلما بلغ قولهم إلى (إسماعيل) قال مفسرا: «إن بعض الناس يركب حصانا، وبعضهم حمارا، وآخر جملا، ولكل منهم حركات خاصة به، على أن أحسن راكب من يركب كل هذه ركوبا جيدا.»
7
وكان كثير الشغل، صبورا عليه، مهما كان شاقا، ويجد فيه لذة عظيمة، ولو أنه أثر في النهاية على صحته.
ولم يكن يميل للأبهة والعظمة إلا حينما كانت شئون الملك تستدعيهما، فكان يخرج عادة إلى النزهة لابسا إسطمبولية بسيطة وطربوشا أحمر، وليس أمامه سوى خمسة خيالة بلباس لونه لون الشوكولاطة.
وكان معظم حديثه بالفرنساوية، لأن معظم جلسائه كانوا أوروبيين. ولأنه لسوء حظه وحظ بلاده ما فتئ يميل إليهم، ويضع ثقته فيهم ، بالرغم من أن الجديرين بها منهم كانوا أقل من أصابع اليد، وأن معظمهم تسببوا له بأضرار بليغة، كما سبق لنا القول.
ولو حسن جلساؤه، وأنعمت عليه الأقدار بوسط غير الوسط الذي شب فيه، وأمناء خير من الذين ائتمنهم، لصار في رجولته مصير خير الرجال، كما أنه أصبح من أعاظمهم، لأنه كان أرضا جيدة، لا تحتاج إلا إلى فلاحة حكيمة، وبذر طيب. ولكنه تعلم في مبادئه - كما قلنا في غير هذا المكان - إن القانون إرادته، ولا يحدها إلا عقله، فأصبح لا يميز تماما أين ينتهي الخير، وأين يبدأ الشر، فالرأي الذي يوافقه يقبله، والرجل الذي يفيده يشغله، فإذا أحس بأنه أصبح خطرا عليه داسه كما تداس عقرب. وإذا صادق إنسانا أخلص له الصداقة بقدر ما يخلصها ملك، ولكنه إذا اضطرته مصلحته إلى التخلي عن ذلك الصديق، تخلى عنه وهو آسف، كما يتخلى المرء عن كلب عزيز لديه أصبح مضايقا له في حياته.
وكان ذا مقدرة واسعة، جعلته يغير وجه القطر تغييرا كليا، وما مرت أعوام حكمه الستة عشر على وادي النيل، إلا وقد قطع هذا الوادي شوطا في مضمار المدنية والرقي لم يقطع مثيله في أربعة قرون سابقة. وتطورت مصر على عهده في حياتها المادية والأدبية تطورا أصبح معه لا يعرفها من كان قد أتاها زائرا في أيام سعيد. وقد بينا ذلك بيانا كافيا في محله.
فلا غرابة - والحالة هذه - أن تكون منزلة ملكه في تاريخنا بالقرن التاسع عشر منزلة الشمس في سمت السماء، وأن يبقى ذكره خالدا في القلوب. ولا عجب إذا استمرت كنيته عند المصريين، أبا السباع، بالرغم من كل المطاعن التي وجهت إليه، وبالرغم من الشدائد الحقيقية التي قاسوها في عهده، فالشدائد تزول كلما مرت عليها الأيام، وأما أشجار الخير، فإذا غرست بذورها مرة، فإن مرور الأيام إنما يزيدها خصوبة وقوة وانتشارا، فتصبح بعد حين، وإذا بظلها الوارف قد انسدل على نفس ذكرى تلك الشدائد، وأخفاها.
فالخير - مهما قيل بالعكس - أقوى من الشر، والحياة - ولئن كثرت الوفيات وتعددت ، واشتدت أسباب الهلاك - أقوى من الموت، ألا ترى أنها تغذي كيانها من الفساد ذاته الذي يوجده الموت، وتخرج من الظلمات النور.
ملحق
مقتطفات من المراسلات العديدة التي دارت بين الخديو (إسماعيل) ونوبار باشا في أمر إنشاء المحاكم المختلطة. ***
كنت، أسوة بمعظم الملأ من المؤرخين، أعتقد أن معظم الفضل في إنشاء المحاكم المختلطة يجب أن ينسب إلى الوزير الكبير نوبار باشا، وإلى حسن مساعيه.
ولكن صاحب الجلالة الملك (فؤاد الأول) - حفظه الله - تفضل وأكد لي أن نوبار باشا لم يعمل في ذلك إلا بإشارة (إسماعيل) وإرشاده، وأنه حتى في دقائق عمله لم يتنكب قيد شعرة عن السبيل الذي كانت ترسمه له تعليمات الخديو الفخيم.
ولكي أكون على بينة من أن هذا التأكيد قائم على أساس الاطلاع أكثر منه على رغبة جلالته في تعظيم ذكر أبيه - وهي رغبة ممدوحة تنم ببر جلالته بذكر والده - تفضل مولاي الملك وكلفني بمطالعة المكاتبات التي دارت بين (إسماعيل) ونوبار في شأن إنشاء المحاكم المختلطة - وهي مكاتبات لا تزال محفوظة في دفترخانة السراي الملكية - وقال لي: «إنك لن تجد من كتب (إسماعيل) إلى نوبار إلا صورا للبعض منها، لأن تلك الكتب حفظها نوبار لديه، ولكنك تجد جميع المكاتبات المرسلة من نوبار إلى والدي، فيمكنك أن تفهم منها ما كان في الحقيقة عمل (إسماعيل)، وما كان عمل نوبار، فإذا اقتنعت بصحة ما أقول، أمكنك أن تضيف إلى كتابك ملحقا تثبت فيه ما يصل إليه اقتناعك.»
فصدعت بأمر جلالته - وأنا مبتهج ابتهاج النفس بميدان يفتح أمامها لتصل منه إلى حقيقة تبتغيها - وأقبلت أقرأ تلك المكاتبات، وأدرسها درسا دقيقا، بالرغم من كثرة عددها - فإنها تتناول مدة ما بين سنة 1868 وسنة 1873 وتكون أربعة ربط ضخمة مجلدة - وبالرغم من قلة وقت الفراغ لدي لاشتغالي - فوق قيامي بمهام وظيفتي - بترجمة الكتاب إلى اللغة الفرنسية، وتقرير مصادره صفحة صفحة، عملا أيضا بإشارة مولاي صاحب الجلالة، الذي تفضل وقال لي: إنه بدون ذلك لا يكتسب المؤلف قيمة علمية.
وأخذت أنقل من تلك المكاتبات كل ما أراه شاهدا على صحة تأكيد مولاي، حتى إذا فرغت منها، قدمتها للقراء بصفتها المحلق المطلوب، وأنا واثق من أنهم، بعد اطلاعهم عليها، سيشاركونني في اقتناعي بأن معظم الفضل في إنشاء المحاكم المختلطة يجب في الحقيقة أن ينسب إلى (إسماعيل)، وأن الخديو الفخيم لجدير بأن توضع صورته فوق صورة نوبار في القاعة الكبرى لمداولات محكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية، وأن يوضع تمثاله في مدخل كل من هذه الدور التي أنشأها للعدالة في بلاده. •••
كتب نوبار بتاريخ 8 يناير سنة 1868 إلى إيرام بك، سكرتير (إسماعيل) الخاص: «إني أحتفظ تماما بجميع حقوق سمو الخديو، فلسموه متسع من الوقت دائما، لكي يشرفني بما يرى من الأوامر فيما بعد، وقد كان من أهم أركان ما بنيت عليه دحضي لما لا يحسن الموافقة عليه في تقرير المندوبية ما ورد في كتاب سموه، وأعني به (إني لا أستطيع إدخال القاضي الأوروبي في محاكم البلاد، إذا كان في غير استطاعتي أن أقدم لشعبي إبطال التجاوزات التي يتألم منها، بمجرد إدخال ذلك القاضي الأوروبي)، وأيضا (إني لا أستطيع إخضاع شعبي لمحكمة مشكلة من أوروبيين، طالما يرفض الأوروبيون الخضوع لهذه المحكمة).» «إن جميع هذه المناقشات التي أقوم بها والتي سأتعرض لها في المستقبل هنا، الغرض منها تحديد مسائل المبادئ، بحيث إن عمل المندوبية المطلوب انعقادها في الإسكندرية ينحصر في البرنامج الذي يرغب فيه سموه أي في التقنين، والإجراءات القضائية (المرافعات) ... إني أطلب أوامر سموه تلغرافيا في شأن تشكيل المحكمة، هل يوافق سموه على التشكيل الذي اقترحته المندوبية، أم يلزمني أن أعمل على تعديله؟ أرجو سموه أن يبت في الأمر ويبلغني أوامره.»
فكتب (إسماعيل) إلى نوبار بتاريخ 9 يناير سنة 1868، عقب اطلاعه على التقرير الذي وضعته مندوبية باريس الأولى، لما عرض عليها مشروع إنشاء المحاكم المختلطة: «يمكننا بدون ضرر علينا أن نقبل تشكيل المحكمة بالكيفية التي تقترحها المندوبية، وأراني أطالع بكل انتباه التقرير الذي أرسل إلي بالبريد الإنجليزي، وسأكتب لك؛ لأبدي لك رأيي في أهم النقط الدائر عليها البحث.»
وكتب نوبار بتاريخ 28 يناير سنة 1868: «سيرى سموه أني لم أحنف عن المذكرة المؤرخة 3 ديسمبر سنة 1867 التي حازت تصديقه. وقد أجلت تبليغ الحكومة الإنجليزية بناء على برقية سموه التي قال لي فيها: إنه مع موافقته على تشكيل المحكمة حسب اقتراح المندوبية سيبلغني رأيه فيما يتعلق بباقي المشروع.»
وكتب (إسماعيل) إلى نوبار بتاريخ 29 يناير سنة 1868 «إني لما فضلت أن أبدي لك رأيي بعد اطلاعي على إجابتك على تقرير المندوبية، قد اضطررت أن أأجل ردي إلى بريد 29 الجاري، فالإيضاحات التي أبديتها في إجابتك صحيحة، ولو أنها لا تخلو من شيء من الشدة، فإذا أضفت إليها بعض الاعتبارات التي أنبأتني بأن شارل دي لسبس عامل على تجهيزها، فإن إجابتك ستكون تامة. وبما أنك تقول لي في كتابك إن قرار المندوبية سيبعث إلى الدول الأجنبية، فهل تجد من مانع في أن آمر بإعطاء نسخ منه إلى القناصل العامة قبل أن تصلهم عن طريق آخر؟ لا سيما وأنهم طلبوا مني ذلك.»
وكتب نوبار في تاريخ 3 فبراير سنة 1868 ضمن كتاب ما يأتي: «أرجو سموه أن يبلغني تعليماته، واعتراضاته، وأوامره بالتلغراف.»
وفي 5 فبراير سنة 1868 أرسل الخديو التلغراف الآتي إلى نوبار باشا: «زارني الكولونيل ستانتن اليوم، فأسرني بأن الحكومة الپروسية قبلت أن توفد عنها نائبا في المندوبية الدولية حيثما ترغب مصر في انعقادها. وعليه فإن لدينا الآن قبولين، قبول إنجلترا وقبول پروسيا، وستكون النمسا معنا كذلك، لأنا نعلم أنها لم تكن تنتظر سوى قرار پروسيا لتسير معها يدا بيد. وأما الروسيا فقد أكد لي المسيو دي لكس (قنصلها) رسميا أن حكومته عينته مندوبا لها في حال اجتماع المندوبية في القطر المصري. ومن جهتي، حيث إني أرى أن من مصلحتنا انعقاد المندوبية في بلدنا، فقد أصبحنا جميعا متفقين على هذا الأمر الهام.»
وكتب إيرام بك إلى نوبار باشا بتاريخ 6 يناير سنة 1868: «إن سمو الخديو، قبل قيامه إلى مصر العليا، كلفني بأن أرسل لسعادتكم المذكرة المرفقة طيه المحررة بقلم المسيو شرينر عن ترتيب محاكمنا، وقد أخبر سموه المسيو شرينر بأن هذه المذكرة سترسل إليكم قائلا بأنكم أقرب إلى تقدير ما فيها، فأرجوكم بعد الاطلاع على آراء المسيو شرينر وأفكاره أن تكتبوا عنها ما ترونه لسموه. وصلني اليوم كتابكم المؤرخ 28 يناير، وبما أننا اليوم في 6 فبراير، والخديو يقوم غدا صباحا إلى المنيا، فلست أظن أن سموه يتمكن من إيجاد الوقت الكافي للرد عليكم، فأخبركم بذلك لكي تكونوا على بينة من سبب تأخير أوامر سموه في شأن المسائل المختلفة التي تعرضونها عليه.»
وفي 8 فبراير سنة 1868 نقل نوبار في كتابه إلى إيرام بك ما قاله للمسيو أوتريه وهو «إن سمو الخديو لدى أول مطالبة تقدمها له القنصلية الفرنساوية، كان مصمما على أن يجيب أنه اقترح إنشاء محاكم للبت في أمثال هذه المطالبات، وأن فرنسا لم تقبل، فبما أنه، من وجهة العدالة، ليس بتابع لأحد، فلا يستطيع - والحالة هذه - أن يعير أي مطالبة تقدم له شيئا من الاعتبار، فإذا لم يرق هذا في نظر المطالب، فما عليه إلا أن يرفع أمره إلى مجلس الأحكام». وزاد على ذلك ما يأتي: «قلت للمسيو أوتريه: انظر يا مولاي إلى المركز الذي تضعوننا فيه، والذي نصبح حتما فيه نحن وفرنسا، فإن سمو الخديو مصمم على رأيه، والبلاد كلها تعضده فيه.» «أرجوك يا سيدي البك، أن تبلغني أوامر سموه تلغرافيا، فإذا لم أنجح في مساعي، فأي سير يلزمني اتباعه؟ ما هي أوامر سموه؟»
وعاد في كتاب مؤرخ 10 فبراير سنة 1868، وكتب أيضا «إني أطلب بإلحاح أوامر سموه، فيما يلزمني عمله في حال عدم إذعان المسيو دي موستييه إلى طلباتي.»
وكان نوبار قد أعلم (إسماعيل) في كتاب تال أن الحكومة الفرنساوية قد تقبل المشروع إذا نالت بعض امتيازات نوهت بها، فأرسل (إسماعيل) برقية إلى وزيره جاء فيها ما يأتي: «لا يلزم أن يتخذ قبول فرنسا بالمشروع شكل المساومة، بل يلزم أن يتخذ القبول شكل اعتراف فرنسا بحق لنا لا يقبل أن يختلف عليه اثنان. وأما أن فرنسا تقبل بطلباتنا لهذا السبب أو ذاك، فهذا أمر لا يهمني، لأن المهم في الأمر أن ندرك غرضنا، وأما الباقي فلست أعلق عليه أهمية ما، على شرط أن يبقى مكتوما بيننا وسريا، وهذا التكتم، ولو أنه في مصلحتنا إلا أنه مرغوب فيه لمصلحة فرنسا أيضا فإن المسألة مسألة شرف لها، ويهم شرفها أن لا ترى أنها ساومت على التسليم بحق عدل ومساواة. ومن المفهوم أنه يلزمك أن تعمل بحيث يكون الاتفاق مع دي لسبس بشأن نفاذ بيوع الأطيان محررا بمنتهى الفطنة فتحفظ فيه جميع حقوق حكومتي حتى لا تنجم لنا في المستقبل مصاعب وإشكالات جديدة، فأوصيك بهذا الموضوع، فإنه في منتهى الأهمية.»
وكتب نوبار باشا إلى إيرام بك بتاريخ 8 فبراير سنة 1868 «إني سأسلم إلى اللورد ليونز (سفير بريطانيا العظمى في باريس) مذكرة تبين مطالب سمو الخديو نقطة نقطة، بكل تفصيل ... وقد استلمت في الوقت ذاته خطاب سموه الخاص بالسلوك الذي علي أن أسلكه فيما إذا لم أستطع نيل اختصاص المحكمة الإلزامي.»
وكتب في 3 مارس سنة 1868: «إذا تشبث اللورد ستانلي (وزير الخارجية البريطانية) بمعنى خطابه الأول، وأبى أن يفصح عن رأيه قبل التئام مندوبية التحقيق بالإسكندرية، فما الذي يلزم عمله؟ ما هي أوامر سموه وقراراته؟ ... وعلى فرض أن اللورد ستانلي يتشبث بعدم البت في الأمر قبل التئام المندوبية التي أبدى رغبته في أنها تلتئم بالإسكندرية، فهل يلزم لحمل موستييه على الرضا بالتئام هذه المندوبية في مصر، هل يلزم قبول ما يشير به تقرير مندوبية باريس؟ إني أرجوك يا سيدي البك أن تبلغني أوامر سمو الخديو في هذا الشأن ... إني أرجو سموه التفضل بتبليغي أوامره في شأن الطوارئ الاحتمالية التي تشرفت وعرضت بيانها عليه.»
وكتب في 8 مارس سنة 1868 إلى ايرام بك «تشرفت بكتابك المؤرخ 27 فبراير الذي تبلغني به أوامر سمو الخديو فيما يتعلق بالسير الذي يتعين علي اتباعه فيما لو أبى المسيو دي موستييه جعل المحكمة إلزامية فإن سمو الخديو يرى أنه يلزمنا أن نطلب تفويض البت في ذلك للمندوبية في الإسكندرية.»
وكتب (إسماعيل) إلى نوبار بتاريخ 16 مارس سنة 1868: «اطلعت على بريدك الرقيم 3 مارس، فيلزم العمل بحيث تقبل الحكومة الفرنساوية التئام المندوبية في مصر بذات الشروط التي أقرتها الروسيا وإنجلترا، لأنه إذا لم تخول المندوبية حرية مطلقة في العمل، وإذا حتمت الحكومة الفرنساوية بقاءه داخل الدائرة التي رسمها تقرير مندوبية باريس بعمل الحكومة الفرنساوية عينها، فإنا لن ندرك غرضا، وما ينالنا سوى العناء. ولكنه يخيل إلي أن إنجلترا وروسيا قابلتان اجتماع المندوبية بالإسكندرية بدون ما أن يكون لها برنامج وضع سابقا، ولست أرى أن لفرنسا حقا في تحتيم شروط كهذه. وقد جرت محادثة بيني وبين المسيو شراينر (قنصل الاتحاد الألماني الشمالي بالإسكندرية)، فقال لي: ما حملني على الفهم بأن المذكرة التي وضعها في تشكيل المحاكم وترتيبها لم تكن بنت أفكاره وآرائه الشخصية فقط، بل إن حكومته تشاركه فيها؟»
وكتب إليه في 29 مارس سنة 1868: «عزيزي نوبار: إني أرى بمزيد الأسف، يا عزيزي نوبار، أنه لم يعد لك، إزاء عزم المسيو دي موستييه النهائي، سوى انتظار رد اللورد ستانلي لتتخذ عزما نهائيا، على أنه إذا طال الأمد على ورود هذا الرد، فلا يحسن بك أن تطيل مدة إقامتك في باريس. وعليه فإني آذن لك منذ الآن بالعمل بما تراه موافقا للمناسبات والظروف، ولكن أليس من مصلحة حكومتنا أن نجهز، حالا، العناصر اللازمة لتكوين محكمتنا؟ لا سيما وإنا مقتنعون تقريبا أن معظم الدول الغربية لا تكتفي بعدم المعارضة في ذلك فحسب، بل تكون مسرورة بإحالة النظر في قضايا رعاياها إلى محاكمنا؟ وعليه فإنا نرحب بالذين يرغبون في الخضوع لقضاء محاكمنا. وإنا إذا وجد من القناصل من لا يرغب في التسليم بهذا الترتيب القضائي الجديد، فإنا سنخول له الحق في الرجوع إلى محاكم الأستانة كما هو المتبع حتى اليوم، وليس في ذلك من خروج عن دائرة حقوقنا ... إني أعطيك هذه التفصيلات بسرعة لتكون على بينة منها، فإذا وجدت أن آرائي تتفق مع مصلحة حكومتي فأقدم على تعيين الأشخاص اللازمين لتشكيل محاكمنا تشكيلا لائقا بها، ويمكنك أن تختار القضاة في پروسيا والبلجيك وسويسرا، وفي البلاد الأوروبية الأخرى، ولكن إذا وجدت أن مشروعي لا يمكن لأي سبب من الأسباب تحقيقه، فأفدني في الحال، وبين لي ما هي الموانع.»
وكتب نوبار بتاريخ 18 مارس سنة 1868 إلى إيرام بك: «استلمت الآن البرقية المؤرخة 16 مارس التي تفضل سمو الخديو بإرسالها إلي، على أني لم أنتظر ورودها لأقوم بالمساعي التي يأمرني الخديو بها في تلك البرقية. وبناء على الأوامر التي سبق لك إبلاغها إلي منذ زمن قريب، والتي رسمت لي الخطة الواجب اتباعها، ذهبت إلى المسيو دي موستييه.»
وكتب (إسماعيل) إلى نوبار في 10 أبريل سنة 1868 «وصلني بريدك الرقيم 27 مارس، وقرأت بإمعان كتابك المرسل إلى اللورد ستانلي، فالمرجو أن يرد عليك الوزير الإنجليزي بسرعة ردا مرضيا. على أنه لو فرضنا وكان رد اللورد ستانلي في غير مصلحتنا، فيلزمك - بالرغم من ذلك - البقاء في باريس لتطلب من الحكومة الإنجليزية التئام المندوبية الدولية بالإسكندرية ... نحن لا نخسر شيئا في إلحاحنا بوجوب التئام المندوبية، لأنه من المؤكد أن المندوبية ستقرر نظاما قضائيا ما، وهذا النظام لا يمكن إلا أن يكون أفضل من قضائنا الحالي. ففي حال إقدام اللورد ستانلي على تغيير قراره الأول، وفيما لو أبى أن يرسل المندوب الإنجليزي إلا بالشروط ذاتها التي تحتمها فرنسا، فإنه يتعين قبول ذلك بدون اعتراض. أما شروط فرنسا فنحن نعرفها، وستحتم على مندوبها بأن لا يخرج البتة من الدائرة التي رسمها تقرير مندوبية باريس، على أننا بنزولنا - ولو مرغمين - على هذا القرار النهائي الذي قد يجمع عليه موستييه وستانلي، فإنا قد نرى في ذلك فائدة لنا، لأن المندوبية الدولية باجتماعها في الإسكندرية قد تقرر حتما نظاما قضائيا على قواعد متينة، ولا يمكن لقطرنا إلا أن يستفيد من ذلك فائدة كبيرة ... على أني مع إبدائي لك رأيي في هذا الموضوع الهام، ومع إعطائي لك تعليماتي، أرغب أن أقف منك على ما إذا كانت وجهة نظرك في الموضوع مخالفة لرأيي فيه، فإذا كانت كذلك، فأرسل إلي ملحوظاتك تلغرافيا.»
وكتب نوبار في 17 أبريل سنة 1868 إلى إيرام بك: «إنك تدرك جيدا يا سيدي البيك، إنه إذا ما استتبت محاكمنا واشتغلت مدة أربع أو خمس سنوات ، فإنها تصبح دائمة ... وقد قال لي الجنرال فليري: إن الإمبراطور معتقد الآن أني لا أعمل شيئا سوى تنفيذ أوامر مولاي، وتحقيق أفكاره. وأضاف إلى ذلك قوله: إنه - هو - لا يستطيع أن ينتظر مني أن أشير أبدا على مولاي بقبول شرط أراه في عرفي أنكر ما يستنكر من الأمور، وأعني به الشرط الذي ترغب فرنسا بمقتضاه أن المصري في مصر يكون كل شيء سوى مصري ... وقد قال لي فلوري: (وأيم الحق، إني أرى أنك لا تعمل شيئا بخفة رأي، وأن هناك في سياسة الخديو وأفكاره خطة سير مخطوطة بحزم وتدبر تام) ... إن الخديو لم يفتأ منذ خمس سنوات يقاتل قتالا شديدا لتسوية التركة السياسية المنكوبة التي أخلفها له سلفاه، ولكنه قاتل ويقاتل بدون قاعدة يستطيع الركون إليها، فهو كبهلوان تحته أرض غير ثابتة، ومضطر في الوقت عينه إلى المهاجمة والدفاع عن نفسه، أما الباب العالي فليس في مركز كهذا. نعم إنه ضعيف، ولكن القاعدة التي يرتكن عليها ثابتة ، لأن تركيا حكومة معترف بها، نحن ننضم إلى تركيا للمطالبة بحقوقنا التي هي حقوق الباب العالي أيضا، وسنخاطب السفارات، وهي قد تعترف بحقوقنا وقد تنكرها علينا، على أنهم سواء أختاروا الاعتراف أو الإنكار، فإنهم مضطرون إلى إجابة الباب العالي إجابة رسمية. فإذا كانت إجابتهم إيجابية فقد كسبنا قضيتنا، واسترد الخديو حقوقه، وإذا كانت الإجابة سلبية فإنا نقبل إذ ذاك النتائج التي أقرتها المندوبية الباريسية، ولكنه يتقرر حينئذاك أن مصر غير مقيدة بالمعاهدات المبرمة مع الباب العالي، وسيقرر ذلك بصفة الأمر الراهن رسميا. وعليه، فإن الخديو باستناده من جهة على قناة السويس، ومن الأخرى على ماليته التي سيفرغ عن قريب من تنظيمها، سيغتنم هذا التقرير الرسمي وسيعمل لدى سنوح أول فرصة موافقة على قطع المسافات البعيدة. وإني أعرف سموه معرفة كافية لأكون متأكدا من أنه موطن عزمه على السير إلى أقصى ما يمكن من المخاطرات قبل أن يرضى بفقدان حق، ما فتئ يسعى إلى اكتسابه منذ زمن مديد ... وإني أرجوك أن تقبل عني يدي سيدنا الجليل لأجل الفكرة البديعة التي جادت بها قريحته ...»
وكتب في 28 أبريل سنة 1868 من باريس إلى إيرام بك: «لم يعد يهمنا آلانجليز هم المعارضون أم الفرنساويون؟ مذ تكرم سمو الخديو وبت في المسألة نهائيا بالفكرة السعيدة التي جادت بها قريحته.»
وكتب (إسماعيل) إلى نوبار بتاريخ 7 مايو سنة 1869 من الجيزة، في شأن عدم الموافقة على أن تكون مباحث اللجنة الدولية بالإسكندرية على قاعدة تقرير المندوبية الباريسية «تفضل بدون أن تطلب مقابلة خصيصة لهذا الغرض، وقدم هذه الملحوظات إلى المسيو دي لاڨاليت (وزير خارجية فرنسا الذي أخلف المسيو دي موستييه) من جهتي، وقل له إني أثناء رحلتي لن أتأخر عن المطالبة بإلحاح أن تخول المندوبية الدولية حق البت في الأمور، وحق بحث المسألة بحثا جديدا، بدون أن تقبل أي عمل سابق إلا بصفة مستند يحسن درسه فقط، هذا كان أبدا رأي الحكومة البريطانية، وقد كرره لي مرارا الكولونيل ستانتن، وهذا هو أيضا رأينا الذي اجتهدنا في تغليبه على ما سواه .»
وكتب نوبار إلى إيرام بتاريخ 10 مايو سنة 1869 من باريس: «إن هذا الفكر الذي أبداه الوزير، وهذا التعبير الذي بدا منه موافقان تمام الموافقة لما قاله سموه في كتابه الرقيم 21 أغسطس سنة 1868، أي أنه يتعين على المندوبية الدولية أن ترى ما هو صالح وناجم عن روح المعاهدات فتقرره ... على أني أؤكد أن سموه بكتابه المؤرخ 21 أغسطس المرسل من الأستانة، قد أبلغ وحده المفاوضة إلى النجاح.»
وأرسل (إسماعيل) إلى نوبار بتاريخ 12 يولية سنة 1869 البرقية الآتية: «إننا في مسألة المحاكم المختلطة، لم ندخل للآن - كما تعلم جيدا - في مفاوضات مع أمريكا، على أنه يحسن أن نتلافى هذا. فاكتب لي عما إذا كنت توافق أن نتفاهم مباشرة في هذا الشأن مع سفير أمريكا في باريس، لتعبر له عن رغبتنا في أن نرى الولايات المتحدة مشتركة في أشغال المندوبية الدولية التي ستلتئم في الإسكندرية.»
وكتب نوبار إلى إيرام بتاريخ 28 يولية سنة 1869 «إني رددت على مسامع لاتوردوڨرني - وقد كان أخلف المسيو دي لاڨالت على الخارجية الفرنساوية بعد دخول نابوليون الثالث في الطور السياسي الذي عرف باسم «الإمبراطورة الحرة» - الكلمات بنصها التي قالها لي الخديو، وأعني (أرجو أن تبعث فرنسا إلى المندوبية ليمثلها فيها رجلا تكون لديه غيرة على حسن سمعة فرنسا وعلى شرفها).»
ثم مرت السنوات التي توقفت المفاوضات الحثيثة فيها بسبب الحرب السبعينية، وما تلاها من تقلبات دولية، وأتى عام 1872 الذي أعيدت فيه تلك المفاوضات وأرسل الخديو (إسماعيل) نوبار باشا إلى الأستانة للقيام بشئونها.
فكتب نوبار باشا إلى إيرام بك بتاريخ 14 أغسطس سنة 1872 أنه قال لأحد السفراء في الأستانة: «أما أنا فإني أصرح بأني مقيد بأوامر صاحب السمو الخديو.»
وكتب إلى دي لسبس بتاريخ 24 أغسطس سنة 1872: «تأكد يا عزيزي دي لسبس، أني في المسألة الجزائية لا أعمل سوى اتباع أوامر الخديو، أما أنا فإني، مبدئيا، قد كنت أرضى بما خولت المحاكم من الاختصاص بالنظر في الجنح المرتكبة ضد القضاة، وضد الضباط القضائيين، وهم قائمون بشئون وظائفهم، ولكني اضطررت إلى التنازل عن رأيي أمام إرادة الخديو، وهي إرادة أراني مضطرا إلى القول إنها قائمة على قاعدة متينة من التعقل التام.»
وكتب في 2 سبتمبر سنة 1872 من الأستانة إلى إيرام بك: «إني أرجو سمو الخديو أن يتفضل ويبلغني أوامره وتعليماته بالدقة في هذا الموضوع الخطير.» (موضوع اختصاص المحاكم الجديدة بالنظر في المواد الجزائية بعد مضي 18 شهرا على تأسيسها).
وكتب في 3 سبتمبر سنة 1872: «أرجو أن الفكرة التي حولها سموه إلى اقتراح ستذلل جميع الصعاب، فإني أعتقد أنها توفق بين جميع المطالب، وترضي جميع المصالح.»
وكتب في 4 سبتمبر سنة 1872 إلى إيرام بك: «إن سمو الخديو قد عمل بحكمة عمل سياسي حقيقي بأن حول إلى اقتراح ما لم يكن في فكري سوى إيعاز إلى دي لسبس، فجميع الفضل سيكون له، وجميع الفائدة ستكون لحكومته، وأرجو أننا بموجب هذا الاقتراح سنكسب قضية الإصلاح، وسنزيد اعتبارا في نظر الحكومات، واعتبار الحكومات لنا قاعدة كل مستقبل سياسي ... ففي اليوم الذي أفقد فيه الأمل في النجاح، سأفيد بذلك سموه لكي يرى رأيه، ويشرفني بأوامره ... وبما أني اعتدت أن أعلم سموه بكل ما يحدث تلغرافيا، فإني أرسل لك صور جميع البرقيات التي بعثت بها، لكي يتمكن سموه بالاطلاع عليها من معرفة جميع دقائق الحال التي نحن فيها.»
وكتب (إسماعيل) إلى نوبار باشا بتاريخ 17 سبتمبر سنة 1872 «إني أوصيك بأن لا تبدي رأيك لأحد في الحل الذي عرفك به دي لسبس، وأن لا ترد على دي لسبس قبل أن تعرض علي تلغرافيا ذلك الحل مرفقا بملحوظاتك.»
وكتب نوبار إلى إيرام بك بتاريخ 13 سبتمبر سنة 1872: «إني سأرسل بالتلغراف إلى سموه كتاب دي لسبس، والتعليمات المعطاة إلى السفير الفرنساوي، وسموه يبلغني أوامره، على أني لن أبدي بتا في شيء قبل أن تبلغني هذه الأوامر.»
وكتب إليه بتاريخ 18 سبتمبر سنة 1872 «إذا خالفت اقتراحات السفير الفرنساوي اقتراحات سموه ... فإني سأخطر سموه بذلك حالا بالتلغراف ليتفضل علي بأوامره، وليعرفني ما هو عزمه، وماذا يريد أن يقرر.»
وكتب إليه بتاريخ 22 سبتمبر سنة 1872: «قد استلمت وفهمت برقيتي سمو الخديو الخاصتين بالسير الذي يلزمني اتباعه إذا رفضت الدول ... إني لا أرى هناك سوى طريقة واحدة يصح الأخذ بها، وهي أن يخاطب القوم باللسان الذي أقره مولانا، وأعني به أن يقال للقناصل إن عموم الدعاوى بلا استثناء المقامة على الحكومة سترسل إلى الأستانة بدون أن تدخل الحكومة المصرية في المناقشة في موضوعها، وأن نحتفظ بحقنا في أن تقاضي شركة السويس أمام محاكمنا، ولا نفتأ مقررين بأن أول قضية ترفع على الشركة سيصدر فيها الحكم ولو غيابيا من المحكمة المصرية، وستقوم الإدارة بتنفيذه في الحال.»
وأرسل الخديو إلى نوبار البرقية الآتية في 27 سبتمبر سنة 1872: «إني أعربت مرة أخرى للكولونيل ستانتن عن عزمي على عدم تقرير المحاكم المدنية إلا إذا سلم مبدئيا الاختصاص الجزائي، وإذا خولت تلك المحاكم اختصاصا تاما كاملا بالنظر في جميع الجنايات والجنح التي تقترف في حق القضاة والضباط القضائيين، وهم في أثناء تأديتهم وظائفهم.»
وبعث إليه في اليوم التالي بالكتاب الآتي: «وصلني الآن كتاب من دي لسبس جعلني أشعر بارتياح إلى حل قريب ممكن، ففرنسا - بحسب نص هذا الكتاب - تسلم بمبدأ الاختصاص القضائي الجزائي. وعليه، فإن أهم نقطة في الموضوع باتت مكسوبة لنا، وليس هناك سوى تعديلين لمشروعنا:
الأول:
أن فرنسا تطلب أن لا يطبق المبدأ إلا إذا نجح اختبار القضاء المدني مدة خمس سنوات، فيمكننا القبول بأن تطبيق المبدأ سيعمل في برهة من الزمن لا تزيد على خمس سنين، وبذلك نتمكن من تطبيقه حالما تظهر الضرورة لذلك، ولو قبل انقضاء الخمس السنوات. هذا لا يغير مركزنا، لأن الدول يمكنها دائما، حتى لو حدد المشروع مهلة الثمانية عشر شهرا، أن تأتي في بحر المدة وتقول إن الاختبار لم يكن كافيا، وتطالب بمد الأجل لأي سبب من الأسباب.
الثاني:
أن المحاكم المدنية يمكنها في الأثناء أن تقوم بتنفيذ أحكامها، ولها - بهذه المناسبة - أن تحكم في الجنح المرتكبة ضد القضاة، على أن تكون مرتكبة والجلسات معقودة، فنحن لا نستطيع قبول هذا القصر، لأننا لا نستطيع أن نأخذ على أنفسنا مسئولية تنفيذ الأحكام، إن لم نكن قابضين في أيدينا على حق المحاكمة في جميع الجنح والجنايات التي قد ترتكب خارج الجلسة ضد القضاة بسبب حكم يصدرونه، أو ضد الضباط القضائيين المكلفين بتنفيذ الأحكام، ومع ذلك فجميع السفراء قد سلموا لك بهذا المبدأ، وأعتقد أنه في استطاعتك اقناع السفير الفرنساوي بضرورة جعل اختصاص محاكمنا شاملا لهذا الموضوع، وحمله على قبول تحرير نص لا يترك مجالا للشك والريب في حقوقنا، وإني سأتكلم في هذا المعنى مع القناصل الإنجليزي، والفرنساوي، والإيطالي، لكي يكتبوا لحكوماتهم، وسأقنعهم فوق ذلك بأنه سيتعذر علينا بدون هذا تنفيذ الأحكام، وإقامة صروح عدالة محترمة كما هي الحال في باقي البلاد.
وبما أن هذا الموضوع هو الجزء الحيوي في أمر إنشاء المحاكم، وأن كل جدال مخالف إن هو إلا سفسطة إرادة سيئة، فإني مقتنع أن الحكومات ستستحسن عملنا، وسأرسل برقية مفصلة إلى دي لسبس أقيم فيها الأدلة على جميع النقط المطلوبة، لكي يؤثر من جهته على حكومته.»
وكتب نوبار في 29 سبتمبر سنة 1872 إلى إيرام بك ضمن كتاب طويل ما يأتي : «وقد أيدت براهيني بقراءة الكتاب المرسل من الخديو، وبتهديد أبديته بقفل محكمة التجارة ... وكان وقع هذا التهديد كبيرا جدا على السفير الإنجليزي، ولكنه لم يبرق به لحكومته، لأنه لا يعتقد أن سمو الخديو يلجأ إلى هذا الإجراء، لا لأن الوسيلة خطرة، ولكن لأن الحال التي قد تنشأ عن ذلك لا تتفق مع عظمة الأفكار التي يتغذى بها سموه في مصلحة بلاده.»
وأرسل (إسماعيل) إلى نوبار في أول أكتوبر سنة 1872 الكتابة الآتية: «إني قد أحطت متولي أعمال القنصلية الفرنساوية العامة علما بعزمي على قفل محكمة التجارة، وهو سيكتب عن ذلك لحكومته، ولكني لم أستطع إبلاغ هذا العزم عينه إلى قنصل إنجلترا العام، لأنه كان قد سافر لما أتت رسالتك، ولكني سأراه بعد ثلاثة أيام أو أربعة، فأكلمه في هذا الشأن.
قد تكلمت مع المسيو روستان عن التضييقات التي ترغب الحكومة الفرنساوية في إدخالها على أمر اختصاص محاكمنا فيما يتعلق بالجنح والجنايات المرتكبة ضد القضاة والضباط القضائيين، وصرحت له بأني لا أستطيع قبولها، ولا التسليم بها، وقد وافقني على فكري بأننا لا يمكننا أن نحتم على أنفسنا مهلة خمس سنوات بصفة مدة اختبارية، وهو يرى مثلي أن الأوفق عدم تحديد مهلة، والاكتفاء بالقول فقط بأن المحاكم الجديدة ستخول حق النظر في الأمور الجزئية في بحر مدة لا تزيد على خمس سنوات وهو ما قلته لك في إحدى رسائلي السابقة. فإن ذلك قد يمكن من تخويلها الحق المذكور حالما تظهر المضار الناجمة عن عدم تخويلها إياه ضرورة المبادرة إلى جعل اختصاصها شاملا المواد الجزائية أيضا. وحالما يجعل حسن سير محاكمنا الضمانات المعطاة منا أكيدة، والمسيو روستان سيكتب إلى حكومته في هذا المعنى على هذين الموضوعين ... وصلني التقرير الإيطالي على مجمل المسألة، وقد أمرت بترجمته، ولكن بما أنه عمل طويل، فإني لا أقدر أن أرسله لك مع هذا البريد، على أنك ستستلمه بالبريد القائم على الباخرة «مصر» المسافرة إلى الأستانة.»
وكتب نوبار في أول أكتوبر من الأستانة إلى إيرام بك: «إن المفاوضة بين يدي سمو الخديو، وهي ليست هنا، فهناك طور أول وهو طور البيان إذا أمكنني استعمال هذا التعبير، فسموه هو الذي بين المسألة للسفراء وفي الاجتماعات. وأما أنا فإني إنما قمت بتحرير وتقديم أفكار سموه كتابة ... قد كان أمامنا عمل تحضيري لدى الدول، وهذا العمل قد قام به سمو الخديو مباشرة لدى الحكومة الإيطالية بمكاتباته المرسلة إلى ملك إيطاليا، وبتأثيره على القناصل وقام به بواسطتي بتأثيره على السفراء ... ومن المؤكد أن الفضل في رضا إيطاليا بالمشروع للخديو وحده، ولعمله الحكيم ... وفي هذه الأثناء وردت برقية مولانا الأولى فقطعت جهيزة قول كل خطيب، أي أن البت الذي أبداه سموه وضع حدا ونهاية لكل نوع من أنواع التخرصات والتخمينات فيما عسى يكون السلوك في المستقبل ... وقد أطلعت السير هنري إليت (سفير بريطانيا العظمى في الأستانة) على جميع مضمون برقية سموه ... بحيث إن البرقية والكتاب لم يقعا على خبزي كزبدة فحسب، بل كمربى أيضا، وكمربى من أفخر الأنواع ... وقلت لإليت إنه ليس في استطاعتي البتة أن أعدل إرادة سموه ... وقد أطلعت على «زادي» أي برقية الخديو وكتابه، باقي السفراء، فيرى سموه من ذلك أني ألجأ في كل حين وبسعة إلى البراهين التي تفضل بوضعها تحت تصرفي، حتى لقد حفظت كتابه وبرقيته على ظهر قلبي، وأستطيع تلاوتهما كما يتلو تلميذ مجتهدا أمثولة غيبا.»
وبعث نوبار إلى إيرام من الأستانة في 16 أكتوبر سنة 1872 البرقية الآتية: «قد أطلعت حينئذ بربولاني (سفير إيطاليا لدى الباب العالي) على نص برقية سمو الخديو الرقيمة 4 الجاري التي تمهد كل صعوبة، وقلت له إني سأعرض الأمر على سموه ... وعدت من جديد، وأكدت للكونت دي ڨوجييه (السفير الفرنساوي) مضمون برقية الخديو.»
وكتب في 11 أكتوبر سنة 1872 إلى إيرام بك ضمن خطاب العبارات الآتية: «إن هناك بعض تفاصيل قليلة الأهمية يمكنني بدون ضرر أن آخذ على نفسي البت فيها، ولكنه قد تنجم مسائل لا يقدر إلا سمو الخديو على تقديرها كما يجب، وعلى الحكم فيها.»
وكتب له في 11 أكتوبر سنة 1872: «الشيء الوحيد الخطير كان أمر المحلفين . فقلت لبربولاني إني لا أستطيع الفصل فيه مطلقا، وأنه يتحتم علي البتة الرجوع إلى الخديو لأستمد أوامره، أما فيما يتعلق بالمواد الأخرى فإني مضطر أيضا إلى عرضها على سموه، على أني أعرف مقدما ما هو رأيه فيها.»
وأرسل الخديو في 14 أكتوبر سنة 1872 الرسالة الآتية إلى نوبار «إني موافق تمام الموافقة على ردك على السفير الفرنساوي، فلست أستطيع أن أتعدى الاقتراح الأخير الذي أبديته، وقد أصبت تمام الإصابة لما قلت إن طريقة التراضي الوحيدة هي الامتناع عن تعيين قضاة وضباط قضائيين من الفرنساويين، فأنت بقولك هذا للسفير قد سبقت إليه فكري. أنا أبديت الاقتراح الأخير للدلالة على رغبتي في الوصول إلى تسهيل نتيجة يقبل بها الإنصاف، ففرنسا برفضها إياه تظهر لي أن المصاعب التي تختلقها إن هي إلا وسائل خفية لمنع إنشاء المحاكم الجديدة، فلا سبيل لها إلى التشكي إذا من أن معاملتنا لها تختلف عما نعامل به باقي الدول، التي بدلا من أن تبدي لنا تعنتا في منعنا عن تقديم القطر في معارج الرقي والنجاح، تبدو لنا بالعكس راغبة في مساعدتنا في هذا الطريق، لأنها تعترف بأننا إنما نعمل في مصلحة الأوروبيين بقدر ما نعمل في مصلحة الأهلين.»
وكتب نوبار إلى إيرام في 13 أكتوبر من الأستانة: «قد وجدت كلام الخديو من الصواب والثبات والحزم والاعتدال ما جعلني أطلع السير إليت على كتاب سموه برمته، والسير إليت موافق جدا عليه، ومعجب به.»
وأرسل الخديو في 22 أكتوبر سنة 1872 إلى نوبار البرقية الآتية: «ردا على رسالتك لا أستطيع سوى تأكيد ما سبق أن قلته لك، أي إنه لا يمكنني مطلقا أن أبدي قل تسامح جديد، لأن طلباتي ضرورية ضرورة قصوى لحسن سير المحاكم وانتظامها، ولضمانة نفاذ الأحكام، إني أفضل الرجوع إلى تنفيذ المعاهدات تنفيذا دقيقا، وإلغاء محكمة التجارة ولا القبول بإنشاء المحاكم على حال لا تضمن لها الحيوية، وتجعلنا مسئولين عن نفاذ الأحكام بدون ما أن يكون لدينا وسائل تنفيذها، فكل تسامح جديد محال بالمرة. وإني أصرح لك أن تطلع على برقيتي هذه سفير الروسيا، لأنها تعبر عن عزمي الذي لن يتحول.»
وكتب نوبار إلى إيرام في 23 أكتوبر ضمن كتاب أرسله له من الأستانة العبارة الآتية: «وبالاختصار فإن سمو الخديو يقدر أن يرى أن الأوامر التي يصدرها إلي تنفذ بكل دقة.»
وكتب إليه في اليوم التالي: «وصلتني برقيات الخديو المتعددة. فتقديراته فيما يتعلق بالتفصيلات وبالمبادئ في منتهى الصواب، وإني لسعيد أني اشتغلت في معناها.»
وكتب نوبار في 29 أكتوبر سنة 1872 إلى المسيو لودلف (سفير النمسا لدى الباب العالي): «وصلتني منذ ثلاثة أيام برقية من لندن سمو الخديو ردا على بعض ملحوظات أبداها لي الجنرال أجناتييف من قبل حكومته، وأمرني سموه بأن أطلع الجنرال على تلك البرقية، فتركت له صورة منها، على أنك يا صاحب السعادة لا تستطيع أن تعتقد مقدار الشعور المؤلم الذي يشعر به سموه، إذ يرى حكومتك لا تضحي، لاعتبارات لا حق له في تقديرها، تقدم مصر التجاري ورقيها فقط، بل مصالح النمسا التجارية ذاتها التي تربطها ببلادنا، فسموه يرجوك بنوع خاص، ومن باب الصداقة، التفضل باعتبار الحال التي لا تطاق الناجمة لمصر عن عدم وجود عدالة منظمة فيها.»
وفي تاريخ 31 أكتوبر سنة 1872 أرسل الخديو إلى نوبار الرسالة الآتية: «قد أعدت البارحة مطالعة مذكرة الحكومة الألمانية، وقابلت المسيو چاسمند (قنصل ألمانيا العام في مصر)، فهذه المذكرة وكلام قنصل ألمانيا يتفقان بسهولة على ما يخيل إلي مع نصوص الاقتراح الذي بدا لي الفكر في برقيتي المرسلة لك أول من أمس أن أجعلك تقدمه إلى المؤتمر المزمع انعقاده ... فقابل السفير الألماني، وقل له إنا نعمل لرأي حكومته أكبر حساب، ولكنه يلزمه أن يفهم بسهولة بأننا لا نتقدم البتة بتسليمنا بطلباتها، لأن كل دولة إذ ذاك تتقدم إلينا الواحدة بعد الأخرى، مطالبة بتسامحات جديدة، بين أنه لو استطاع الوصول إلى اتفاق مع باقي الدول على رأي الحكومة الألمانية، فإن هذا الاقتراح سيصبح حلا نكون سعداء جدا بقبوله.»
وفي أول نوفمبر سنة 1872 أجاب نوبار على برقية أرسلها له الخديو بتاريخ 29 أكتوبر بما يأتي: «قد استلمت برقية الخديو المؤرخة 29 أكتوبر، وفهمت مضمونها، فسموه مع الحق تماما فيما يتعلق بضرورة البت هنا في مسائل المبادئ الخاصة بالجنح المرتكبة ضد القضاة والضباط القضائيين، وضد تنفيذ الأحكام.»
وأرسل (إسماعيل) في 6 نوفمبر سنة 1872 البرقية الآتية إلى نوبار: «إني أرى الاقتراح الألماني متفقا مع آرائي تمام الاتفاق، فيلزمنا إذا العمل على الاتفاق مع ألمانيا، فنفوز بذلك بموافقة إيطاليا وألمانيا، وتأكد أن النمسا ستتبع ألمانيا، وتوافق هي أيضا، ألا تعتقد أن موافقة هذه الدول لا تجلب موافقة غيرها؟ على أي الأحوال، لو فرضنا أنه لن يكون لدينا إلا هذه الدول فإنا سنتفق معها على طريقة سير خاصة، وهي تمثل في الحقيقة أكثر من نصف الجالية التابعة للقنصليات.»
وبمطالعة رسائل نوبار باشا وبرقياته إلى إيرام بك في بحر شهر نوفمبر سنة 1872 نرى أنه يطلع الخديو يوميا على سير مفاوضاته مع السفراء، وعلى ما تصل إليه هذه المفاوضات من نتائج، فما من كبيرة ولا من صغيرة إلا ويطلب فيها رأي الخديو وأوامره.
ففي 19 نوفمبر سنة 1872 كتب إلى إيرام بك ما يأتي ضمن رسالة طويلة حررها عقب مفاوضات مملة مع السفراء: «أراني مضطرا أن أصارحك يا صديقي بأني متعب، منهوك، والشعور الوحيد الذي يقويني هو شعورالغضب والانفعال من فقدان الكفاءة في الرجال، ومن سوء نية فرنسا الظاهر، ومن عباطة بعض الحكومات الأخرى، وضيق فكرها. إني - على قدر ما استطعت - كسوت البيان المرسل مني إلى سمو الخديو عن الاجتماع الذي حصل كساء يمكن الخديو من تفهم الحال، فيحكم فيما يجب أن يزودني به من أوامر وتعليمات.»
وكتب له في اليوم التالي: «ومع ذلك فإن سموه بفكره الصائب المعروف سيقدر ما أتشرف بعرضه على سموه تقديرا حقا ... إني أتجاسر على تهنئة سموه، لأن بتنا عند نهاية متاعبنا، ولسموه لما يفرغ منها أن يتمثل بقول التوراة (لقد أنقذت مصر وشعبي من دار العبودية).»
وكتب له في اليوم عينه: «إن سموه سيرى وسيحكم وسيبرق لي أوامره، فامتثل لها تمام الامتثال، وها أنا في انتظارها.»
وكتب له في 14 ديسمبر سنة 1872: «إني أكون سعيدا يا سيدي البيك العزيز في معرفة ما هي آراء سمو الخديو في جميع هذه الأمور.»
وفي اليوم التالي كتب له أيضا: «إني أرجو فقط سمو الخديو أن يبرق لي أوامره وآراءه في مسألة تشكيل هيأة المحلفين، لأسير بمقتضاها ...»
وبتاريخ 23 ديسمبر سنة 1872، ذكر ما يأتي في كتاب إلى إيرام بك: «أما فيما يتعلق بإليت فإنه موافق تمام الموافقة على كلام سمو مولانا، وإني من جهتي أقدم لسموه أخلص عبارات تهانئي على هذا الكلام الذي جمع بين أكبر صفات الحزم، وأكبر صفات الاعتدال.»
وفي اليوم عينه كتب له ما يأتي: «وفوق ذلك فإن هذا الكتاب الوارد من سموه يشمل آراء هذا مبلغها من الصواب، وأفكارا سياسية، واعتبارات هذا مبلغها من السمو أني وضعته في جيبي بصفة زاد لقريحتي. وكلما يدور الحديث على مواضيع عامة مع السفراء، أخرجه وأقرأ منه تارة شذرة وطورا أخرى، فينتهي الأمر أني أطلعهم على مضمونه بدون قصد أو تعمد خاص، ويمكنني التأكيد بأن آراء سموه الإدارية، وحكمته مقدرة التقدير الذي هي جديرة به، فتراني سعيدا لذلك ومغتبطا تمام السعادة والاغتباط، ومفاخرا بسموه، وإني أرجوك يا سيدي البك أن تعبر عن إحساساتي هذه لسمو مولانا الجليل.»
وكتب نوبار إلى إيرام بتاريخ 28 يناير سنة 1873 بخصوص الكتاب المرسل من النجاشي (يوحنا قاصة) إلى ملوك أوروبا يشكو لهم فيه من تعديات أمير مصر المسلم عليه، هو المسيحي، ما يأتي: «إن الجواب الذي أشار أجناتييف على حكومته بإرساله إلى قاصة على ذلك المنشور لمطرب بروحه الملحة، وصوابه الفائق فالحكومة الروسية إذا سألتها باقي الحكومات عن رأيها في الموضوع ستجيب «إنها تفضل أميرا مسلما يقيم للعدالة صرحا شاهقا في بلاده على أمير مسيحي يمثل بالأجسام، ويقطع الرءوس كلما بدا له هوى».»
وفي 28 يناير سنة 1873 أيضا كتب نوبار إلى إيرام: «إذا كل ما تقع جناية أو جنحة ضد قاض أو ضابط قضائي أو ضد نفاذ حكم، يقوم النائب العمومي عن الجناب الخديوي بالتحقيق، ثم يطلع القنصل على ملف الأوراق، طبقا لما أمرني به سمو الخديو وهو في الأستانة.»
وكتب نوبار باشا بتاريخ 24 فبراير سنة 1873 إلى المسيو سيمس (سفير اليونان لدى الباب العالي) وإلى جميع سفراء الدول بالأستانة تحريرا جاء فيه ما يأتي: «إن سعادتك ترى أن جميع مندوبي السفارات في الاجتماعات التي تمت وصلوا إلى نتائج واحدة، وأنا عملا بأوامر سمو الخديو أسرعت إلى قبولها.»
وفي 26 فبراير سنة 1873 كتب إلى إيرام بك: «إن الغرض الذي يرمي إليه ڨوجييه وبربولاني وغيرهما هو أن يتعهد الخديو للدول في مسألة تعيين القضاة تعهدا يؤخذ عليه حجة، فأجبتهم بأن الخديو يتعهد لبلاده وللمتقاضين، لأن ذلك حقه، ولأنه يحسن لديه أن يبدي هذا التعهد، ولكنه لن يتعهد بشيء ما مطلقا للدول.»
وكتب في اليوم عينه رسالة جاء فيها: «إني أجبت السفير الفرنساوي بأني أول كل شيء أسف أسفا لا مزيد عليه لرؤيتي الحكومة الفرنساوية يمثلها رجال الوزارة بكيفية سخيفة إلى هذا الحد، وكان هؤلاء الرجال قد أبدوا مخاوفهم من أن تنفيذ الأحكام قد يصطدم بحرمة دور الحريم، فلا يستطيع المحضر القيام بمهمته.»
وفي 28 فبراير كتب إلى إيرام ما يأتي: «إني فهمت تمام الفهم أفكار سمو الخديو، وسأقوم بنفاذها بكل دقة.»
وأرسل الخديو في 3 مارس سنة 1873 إلى نوبار برقية يقول له: «وصلتني برقيتاك، فلا تبد أي تسامح في شأن تدخل الدول في أمر اختيار القضاة - فإن هذا التدخل لو سلمنا به، ينشئ لنا حالا أسوأ من الأولى.»
وأرسل إليه في 5 مارس سنة 1873 البرقية الآتية: «وصلتني برقيتك المشتملة على ملخص كتاب سفير فرنسا، ففيما يتعلق بالموضوع الأول فإن طلب الحكومة الفرنساوية لا محل له إزاء الضمانات المقدمة منا، وفيما يختص بالموضوع الثاني، فلا تمنح شيئا غير ما أتى في الكتاب الذي حررته لتعرف مقاصدي.»
وأرسل إليه في 10 مارس سنة 1873 الرسالة الآتية: «وصلتني برقيتك المشتملة على أهم ما جاء في كتاب الجنرال إجناتييف، إني أجد هذا الكتاب مكياڨليا جدا،
1
ولكني مع ذلك أرى أننا نستطيع الاستفادة منه بأن ترد عليه بكتاب في معنى ما يأتي أدناه، وأترك أمر التوسع فيه إليك تماما. (إني أشكرك على الكتاب الذي أرسلته إلي والذي تعرفني فيه بأنك عرضت على حكومتك مجموع مشروع الإصلاح للتصديق عليه، إني سعيد بأن أرى أنك توافق على هذا المشروع الذي لا اعتراض لك عليه، ولست أشك في أنك ستحمل حكومة جلالة الإمبراطور على مشاطرتك رأيك فيه، فلرغبتي في اجتناب كل سوء تفاهم، أكون ممنونا لجنابك إذا تفضلت وأعلمتني ما إذا كنت فهمت جيدا معنى كتابك حتى أتمكن من أن أبرق لسمو الخديو موافقتك على المشروع بعد تأييد من حكومتك، وإني متأكد أن المخاوف التي نجمت عن الاقتراحات المعربة ستتلاشى حالا، وأشكرك على التمنيات التي تبديها في أن مدة الاختيار تبدي بجلاء مزايا الإصلاح وفوائده للجميع!) «هذا الكتاب يجب أن يحرر بحيث إنه يوجب ردا، لأنه سيتعذر على الجنرال أن يجيب إجابة سلبية، فمتى أجاب بالإيجاب حصلنا على موافقة ممثلي إيطاليا وألمانيا وروسيا.»
وفي 15 مارس سنة 1873 كتب نوبار باشا إلى إيرام بك: «إذا وافق سمو الخديو على ردي على كتاب ڨوجييه، فإني أرجوه أن يعرفني ذلك على لسان البرق، وإذا لم يوافق فإني أرجوه أن يمدني بأوامره.»
وعاد الخديو فأرسل في 16 مارس سنة 1873 البرقية الآتية إلى نوبار: «استلمت برقيتك الرقيمة 15 الجاري، إن شريف باشا بكتابه المرسل إلى قنصل إيطاليا يقول له إن الحكومة الإيطالية كانت منذ سنتين أبدت ارتياحها إلى الكتاب المحرر منك إلى المسيو دي مرتينو بخصوص اختيار القضاة، وإن سمو الخديو لا يفهم الإلحاحات الجديدة التي توجه إليه اليوم، ولا يقدر أن يقبل كتاب السفير الإيطالي لدى الباب العالي، لأنه كتاب لا يتفق مع كرامة سموه، واستقلال حكومته.»
وعاد في 19 مارس سنة 1873 وأرسل برقية يقول له فيها: «إني أشاطرك تماما رأيك في ضرورة عدم اجتماع السفراء إلا إذا كان لجميع ممثلي الدول السلطة اللازمة للبت في المسائل معك وللاتفاق إذا اقتضت الحال، على الاختلافات في تفاصيلها، فإذا خولوا هذه السلطة كان للاجتماع معنى، وإلا فإنه لن ينجم عنه إلا مضار ربما كان أهمها الرجوع في حلول قررتها مندوبية الوكلاء . إنا اليوم لدينا قاعدة مكتسبة لنا الحق بالارتكاز عليها في أن نطلب ردا صريحا إيجابيا أو سلبيا. بين أنه في اجتماع لا يكون الغرض منه محددا تمام التحديد قد تنجم مسائل جديدة تؤجل الحل النهائي بدلا من تقديمه، وقد يمكن أن يستخدم ذلك الاجتماع لإبطال كل عمل مندوبية الوكلاء، هذا هو رأيي، لكونك في محل المداولات أقرب مني إلى صحة الحكم في المسألة.»
وكتب نوبار إلى إيرام بك بتاريخ 22 مارس سنة 1873 ما يأتي: «إني أرجو سمو الخديو أن يبرق لي ما إذا كان يوافق أم لا على طريقة الكتابة والعمل هذه وأتوسل إليه أن يمدني بأوامره.»
وكتب في 23 مارس سنة 1873: «قد قابلت المسيو دي ڨوجييه، فكلمني عن الرد الذي يلزمني أن أرسله إليه، والذي يعلم أني أنتظر أوامر الخديو بخصوصه.»
وأرسل (إسماعيل) إلى نوبار في 8 أبريل سنة 1873 البرقية الآتية: «إنه يتعذر علي قبول جواب سفير إيطاليا كما أرسلته لي، لأنه لن يبقى لنا بعد ذلك لا الموضوع ولا الشكل، وتكون الدول قد انتهت إلى إنشاء محاكم دولية بدلا منها مصرية.»
وفي 15 أبريل سنة 1873 كتب نوبار إلى إيرام بك: «ليس لدي جديد أبديه في شأن الإصلاح القضائي، فالبرقيات التي أرفق صورها طي هذا قد أطلعت سمو الخديو يوما فيوما على ما اطلعت أنا عليه.»
وفي 18 أبريل سنة 1873 كتب له قائلا: «إن سمو الخديو سيرى أن هذا التعديل لا يعدل في الحقيقة شيئا من طبيعة نياته في شأن تشكيل محكمة الاستئناف، فأرجو تعريفي عما إذا كان سموه يوافق على هذه الطريقة في العمل.»
وفي 26 أبريل سنة 1873 كتب له بخصوص الفرمان الذي أرادت الحكومة البريطانية أن يصدره السلطان بإنشاء المحاكم المختلطة: «ولنعد إلى البرقية الإنجليزية المرسلة إلى إليت بشأن الفرمان لتقرير الإصلاح، هلا يرى سمو الخديو من الضروري إخطار الصدر الأعظم لكي يجيب إليت شفويا بأن التصريح قد سبق إعطاؤه، فلا داعي لفرمان، فإن إليت قد قال لي: إن جوابا كهذا يمكنه من رفض فكرة حكومته بشأن الفرمان رفضا باتا، فإنه إذا عرضت المسألة على الصدر الأعظم، فأجاب بأن التصريح سبق منحه، فإنا سنتجنب مضايقة وأتعابا جمة، ونجعل الباب العالي يتجنبها أيضا، وكذلك الدول الراغبة في الإصلاح رغبة حقيقية، فإذا رأى سمو الخديو أن هذا ضروري فإني أنا وإيرام بك يمكنا أن نكلم الوزير في هذا الشأن ... فإني أعتقد أنه يلزم قطع أوصال هذه الفكرة الإنجليزية في الحال قبل أن تأخذ من الاتساع والقوة ما يصبح متعذرا معه قطعها.»
وكتب في 30 أبريل سنة 1873 إلى إيرام بك: «ليهدأ سمو الخديو بالا، فإن أوامره قد اتبعت بدقة، فإذا جاء للإليت رد فإني سأطلع سموه عليه في الحال دون أن أبدي أي ملحوظة للسفير البريطاني، ومع ذلك فإني متأكد من أنه لن يأتي لإليت رد قبل مجيء سمو الخديو إلى الأستانة، وبناء على ذلك فإن سموه يمكنه أن يكون مرتاح البال.
إن كتابي إلى ڨوجييه يتكلم عن تشكيل المحاكم بالمعنى الذي طلبه سموه، وعليه فإن أوامر سموه قد نفذت بكل دقة واعتناء.»
فيؤخذ من جميع هذا أن (إسماعيل) في مسألة إنشاء المحاكم المختلطة، كان الرأس المفكر والعقل المدبر والرأي المسير، وأما نوبار فإنه لم يكن سوى الوسيط لنفاذ تدبيراته، على أن هذا لا يغمط من فضل نوبار شيئا، ولا يقلل من الإعجاب بجهوده البتة. •••
والآن وقد انتهيت من عملي، فإنه لا يسعني أن أختمه إلا بشكر الله على ما تفضل به - سبحانه - من إحاطته بفيوضات عنايته، وأرجو - وقد تحريت الحقائق فيه جهد استطاعتي - أن يحل من قارئيه محل الاستحسان والقبول، وأسأله - جل جلاله - أن يتولى عني شكر حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم، الملك (فؤاد الأول)، فقد شملني بفضله، وعمني بإحسانه، وغمرني بجميل أياديه، مد الله عمره، وأحياه حياة طيبة مباركة، ومتع الأمة المصرية بجليل تدبيره، وجميل إخلاصه، وطيب نواياه، وأقر عينه، وشرح صدره، بولي عهد ملك مصر، ثمرة فؤاده، صاحب السمو الملكي (الأمير فاروق)، أدام الله بهجته، وحفظ الله مهجته، وأنبته للوطن العزيز نباتا حسنا.
Shafi da ba'a sani ba