Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
أضف إلى هذا كله وجود ذلك الصراع السياسي المستعر بين إنجلترا وفرنسا لإحراز النفوذ الأعلى في مصر، وكان هذا الصراع من عوامل الفوضى السياسية، وقد يمكن من المهارة استغلاله والاستفادة منه لتأسيس حكومة موطدة قوية، ثم هناك أخيرا الباب العالي نفسه، وقد دلت التجارب على أنه يرضخ دائما للأمر الواقع بسبب عجزه وضعفه، ولو أنه لا يمكن الوثوق به أو بوعوده، وقد يمكن توقي شره بمداورته ومداراته.
وقد عرف محمد علي - خصوصا في السنوات الثلاث التي سبقت المناداة بولايته في مصر - كيف يتغلب شيئا فشيئا على هذه الصعوبات، ويزيل تلك العقبات من طريقه واحدة بعد الأخرى؛ فهو قد اتبع مع الباشوات - أو الولاة - طريقا واحدا من ثلاث: إما التخلص ممن ظهر بأسهم وتمرسهم في المكائد، كخسرو باشا وعلي باشا الجزائرلي فاشترك في تأليب الأرنئود على الأول، وكان خسرو يعتمد على الإنكشارية وتأليب البكوات على الثاني، وكان هؤلاء يريدون استمرار سلطانهم في القاهرة، وإما إضعافهم بالابتعاد عن شئون الحكم والتخلي عن مؤازرتهم كما فعل مع طاهر باشا في أثناء قائمقاميته، وإما جعلهم يعتمدون عليه شخصيا، حتى إذا استكمل العدة سعى لتدبير طردهم من الولاية كما فعل مع أحمد خورشيد باشا.
وفطن محمد علي لقوة الأرنئود كعامل هام من عوامل هذه الانقلابات، فحرص أولا على أن لا يزيد من كانوا منهم تحت قيادته المباشرة على العدد الذي يستطيع أن يدفع له مرتباته، وقد استمر الحال على ذلك إلى أن قتل زعيمهم الآخر طاهر باشا، وعندئذ صارت شكاوى الأرنئود من عدم دفع مرتباتهم مسألة تتحمل الحكومة أو «الباشا» وحدها مسئوليتها، ويطالب محمد علي نفسه هذه الحكومة بدفع مرتبات الجند، بل وصار يتخذ من مسألة المرتبات المتأخرة ذريعة لتحريك الأرنئود ضد الحكومة، ليس فقط حكومة الباشوات، بل وحكومة البكوات المماليك، ثم إنه إلى جانب ذلك عرف كيف يوثق صلاته مع سائر رؤساء الأرنئود من إخوة وأقرباء طاهر باشا خصوصا بعد موته، فظل أكثر هؤلاء الرؤساء إلى جانبه في أشد الأوقات حروجة؛ أي في أثناء أزمة المناداة بولايته على مصر.
وأما البكوات المماليك فقد استعان بهم في التخلص من خسرو نهائيا، ثم من علي الجزائرلي. كما عرف كيف يستغل ما بينهم من خلافات لكسر شوكتهم وزيادة شقة هوة الخلافات اتساعا بينهم، فشجع البرديسي على مطاردة الألفي، حتى إذا اطمأن إلى ضعف البكوات في القاهرة طردهم جنده منها، وقد عرف محمد علي كيف يستغل غضب المشايخ والعلماء على حكومة البكوات بسبب المظالم التي أوقعها البرديسي وإبراهيم بالقاهريين ومشايخهم وأعيانهم؛ لتأليب العامة عليهم، وكان تحريكه لهذه القوة الشعبية من العوامل ذات الأثر المباشر في وصوله إلى الولاية أخيرا وعزل أحمد خورشيد، وتزويد الباب العالي بالمبرر الذي يمكنه من المحافظة على هيبته عند تثبيته «محمد علي» في الولاية نزولا على حكم الأمر الواقع.
وشهد محمد علي أثر الصراع السياسي بين إنجلترا وفرنسا، في اعتماد طوائف المماليك على هاتين الدولتين للتوسط لدى الباب العالي من أجل حسم الخلافات القائمة بين البكوات وبين السلطان العثماني، وإعطاء البكوات الحكم في مصر. وكان نجاح الألفي في سفارته في لندن مبعث خوف شديد له وخشي أن يستطيع الألفي بفضل ما اتضح من مؤازرة الإنجليز له أن يستولي على الحكومة، وعده محمد علي أخطر منافس له، ولا سبيل لدفع هذا الخطر سوى اتحاد البرديسي معه في مطاردته، ثم شهد كيف أثمرت مساعي الديبلوماسية الإنجليزية في القسطنطينية، فكانت تلك الحلول التي عرضها الباب العالي على البكوات ورفضها هؤلاء. زد على ذلك محاولة خسرو باشا الاستعانة بالإنجليز لاسترداد باشويته في مصر، فكان لذلك إذن أن وجد محمد علي لزاما عليه إذا أراد النجاح أن يكسب مناصرة إحدى هاتين الدولتين: إنجلترا أو فرنسا لتأييده. ولما كان ظاهرا بسبب السياسة الإيجابية التي اتبعتها إنجلترا دائما في صالح البكوات المماليك؛ أنه من المتعذر عليه استمالة هؤلاء إلى جانبه أو التفاهم معه.
وقد تقدم كيف أن قنصلهم «مسيت» في مصر كان يطلب إبعاده، فقد بذل قصارى جهده للتودد إلى القنصل الفرنسي «ماثيو لسبس» ثم إلى «دروفتي» من بعده، وقد تكللت مساعيه بالنجاح مع دروفتي بعد المناداة بولايته في مايو 1805 عندما وجد دروفتي نفسه أنه قد بات من واجبه تعضيد محمد علي وقد صار «باشا» مصر - لتأييد المصالح الفرنسية، ولتعطيل مشاريع الإنجليز، ثم بعد ذلك لإحباط حملتهم المعروفة في عام 1807.
وأما من جهة الباب العالي، فقد استعان محمد علي في تحقيق مآربه بالهدايا التي صار يبعث بها إلى رجال الديوان العثماني منذ أن بدأ مسعاه جديا لدى الباب العالي في أثناء حكومة خورشيد لنوال باشوية مصر، قبل انقلاب «مايو 1805» بمدة طويلة، حتى إذا حدث الانقلاب صار يعزز مسعاه في القسطنطينية من أجل تثبيته في الولاية بالاستناد على ثقة المشايخ والعلماء والشعب به، ورغبتهم في أن يكون واليا عليهم، وقد انتفع محمد علي بهذه المؤازرة الشعبية في الأزمات التي واجهها في علاقاته مع الباب العالي كذلك في أثناء عام 1806. (1) قائمقامية طاهر باشا
كان طرد خسرو من باشوية القاهرة أول انقلاب من نوعه حدث منذ أن استرجع الباب العالي مصر، وثورة صريحة ضد الممثل الشرعي لسلطانه في البلاد، ووقف طاهر باشا متزعم هذا الانقلاب موقف الثائر على الباب العالي؛ ولذلك صار لزاما عليه أن يفسر لأولي الأمر في القسطنطينية الأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب، وأن يستصدر من الباب العالي فرمانا بتقليده الولاية، وأن يضفي على حكمه المظهر الشرعي أو القانوني حتى يأتيه فرمان الولاية، فطلب من المشايخ والقاضي وعلماء الشريعة والقانون تلبيسه قائمقام، وفي 6 مايو «اجتمع المشايخ عند القاضي وركبوا صحبته وذهبوا عند طاهر باشا وعملوا ديوانا وأحضر القاضي فروة سمور ألبسها لطاهر باشا ليكون قائمقام حتى تحضر له الولاية أو يأتي وال.»
وذكر «روشتي» في رسالته إلى البارون «شتورمر
Stürmer » في 6 مايو 1803 ما دار في هذا الاجتماع، فقال: «إن طاهر باشا قد طلب من القاضي كتابة إعلام كوثيقة شرعية تسرد ما وقع من حوادث أفضت إلى طرد خسرو باشا، وكانت صورة هذا الإعلام معدة في عبارات تنعي على خسرو باشا إسرافه في بناء سرايه وتحصينه، بينما ترك الجنود الألبانيين دون أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، وصار يماطلهم وأحالهم على الدفتردار: ثم أراد أن يفتك بالأرنئود في مذبحة كبيرة لم ينقذهم منها لحسن الحظ سوى تذمر الشعب الذي أثقلته المظالم والإتاوات، والذي بمجرد أن أدراك ما يتعرض له من الأخطار فزع إلى حمل السلاح ولم تهدأ ثورته إلا بفضل نصح طاهر باشا بالتزام الهدوء والسكينة، وقد اضطر طاهر باشا والأرنئود إلى المحافظة على الهدوء والسكينة للاستيلاء على القلعة.»
Shafi da ba'a sani ba